898.اندكس ب سليم

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

 ج1.وج2.كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية

ج1.وج2.كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية


طريق الهجرتين وباب السعادتين


خطبة الكتاب
  الحمد لله الذي نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججا وحجب العقول والأبصار أن تجد إلى تكييفه منهجا وأوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجا وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقة مخرجا وأعقب من ضيق الشدائد وضنك الأوابد لمن توكل عليه فرجا وجعل قلوب أوليائه متنقلة في منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجا فسبحان من أفاض على خلقه النعمة وكتب على نفسه الرحمة وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه أسبغ على عباده نعمه الفرادى والتوأم وسخر لهم البر والبحر والشمس والقمر والليل والنهار والعيون والأنهار والضياء والظلام وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه يدعوهم إلى جواره في دار

السلام فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا فسبحان من أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ورفع لمن ائتم به فأحل حلاله وحرم حرامه وعمل بمحكمه وآمن بمتشابهه في مراقي السعادة درجا ووضع قهره على من أعرض عنه ولم يرفع به رأسه ونبذه وراء ظهره وابتغى الهدى من غيره فجعله في دركات الجحيم متولجا فإنه الذكر الحكيم والصراط المستقيم والنبأ العظيم وحبل الله المتين المديد بينه وبين خلقه وعهده الذي من استمسك به فاز ونجا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا سمي له ولا كفوا له ولا صاحبة له ولا ولدا ولا شبيه له ولا يحصي أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه خلقه شهادة من أصبح قلبه بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته مبتهجا ولم يدع إلى شبه الجاحدين المعطلين معرجا
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه وسد إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأحد إلا من طريقه فشرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره فهدى به من الضلالة وعلم به من

الجهالة وكثر به بعد القلة وأعز به بعد الذلة وأغنى به بعد العيلة وبصر به من العمي وأرشد به من الغي وفتح برسالته أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده وعبد الله حتى أتاه اليقين فلم يدع خيرا إلا دل أمته عليه ولا شرا إلا حذر منه ونهى عن سلوك الطريق الموصلة إليه ففتح القلوب بالإيمان والقرآن وجاهد أعداء الله باليد والقلب واللسان فدعا إلى الله على بصيرة وسار في الأمة بالعدل والإحسان وخلقه العظيم أحسن سيرة إلى أن أشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها وتألفت به القلوب بعد شتاتها وسارت دعوته سير الشمس في الأفطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار واستجابت لدعوته الحق القلوب طوعا وإذعانا وامتلأت بعد خوفها وكفرها أمنا وإيمانا فجزاه الله عن أمته أفضل الجزاء وصلى عليه صلاة تملأ أقطار الأرض والسماء وسلم تسليما كثيرا
أما بعد فإن الله سبحانه غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده في قلوب من اختارهم لربوبيته واختصهم بنعمته وفضلهم على سائر خليقته فهي كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها فكذلك شجرة الإيمان أصلها ثابت في القلب وفروعها الكلم الطيب والعمل الصالح في السماء فلا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإذن ربها من طيب القول وصالح العمل ما تقر به عيون صاحب الأصل وعيون حفظته وعيون أهله وأصحابه ومن قرب منه فإن من قرت عينه بالله سبحانه قرت به كل عين وأنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث وفرح به كل حزين وأمن به كل خائف وشهد به كل

غائب وذكرت رؤيته بالله فإذا رؤي ذكر الله فاطمأن قلبه إلى الله وسكنت نفسه إلى الله وخلصت محبته لله وقصر خوفه على الله وجعل رجاءه كله لله فإن سمع سمع بالله وإن أبصر أبصر بالله وإن بطش بطش بالله وإن مشى مشى بالله فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي فإذا أحب فلله وإذا أبغض فلله وإذا أعطى فلله وإذا منع فلله قد اتخذ الله وحده معبوده ومرجوه ومخوفه وغاية قصده ومنتهى طلبه واتخذ رسوله وحده دليله وإمامه وقائده وسائقه فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائه وإفراد رسوله بمتابعته والاقتداء به والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه وله في كل وقت هجراتان
هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاء والإقبال عليه وصدق اللجا والأفتقار في كل نفس إليه
وهجرة إلى رسوله في حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة بحيث تكون موافقة لشرعه الذي هو تفصيل محاب الله ومرضاته ولا يقبل الله من أحد دينا سواه وكل عمل سواه تعيش النفس وحظها لا زاد المعاد وقال شيخ الطريقة وإمام الطائفة الجنيد بن محمد قدس الله روحه الطرق كلها

مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي فإن الله عز و جل يقول وعزتي وجلالي لو أتوني من كل طريق واستفتحوا من كل باب لما فتحت لهم حتى يدخلوا خلفك وقال بعض العارفين كل عمل بلا متابعة فهو عيش النفس
ولما كانت السعادة دائرة نفيا وإثباتا مع ما جاء به كان جديرا بمن نصح نفسه أن يجعل لحظات عمره وقفا على معرفته وإرادته مقصورة على محابه وهذا أعلى همة شمر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون فلا جرم ضمنا هذا الكتاب قواعد من سلوك الهجرة المحمدية وسميناه طريق الهجرتين وباب السعادتين وابتدأناه بباب الفقر والعبودية إذ هو باب سبب تسميته السعادة وطريقها الأقوم الذي لا سبيل إلى دخولها إلا منه وختمناه بذكر طريق الهجرتين طبقات المكلفين من الجن والإنس في الآخرة ومراتبهم في دار السعادة والشقاوة فجاء الكتاب غريبا في معناه عجيبا في مغزاه لكل قوم منه نصيب ولكل وارد منه مشرب وما كان فيه من حق وصواب فمن الله هو الله المان به فإن التوفيق بيده وما كان فيه من زلل فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء
فيا أيها القارىء له والناظر فيه هذه بضاعة صاحبها المزجاة مسوقة إليك وهذا فهمه وعقله معروض عليك لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه ولك ثمرته وعليه عائدته فإن عدم منك حمدا وشكرا فلا يعدم منك عذرا وإن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح وقد
استأثر الله بالثناء وبالحمد وولى الملامة الرجلا
والله المسؤول أن يجعله لوجهه خالصا وينفع به مؤلفه وقارئه وكاتبه في الدنيا والآخرة إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل


فصل في أن الله هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه قال الله سبحانه يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد بين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم كما أن كونه غنيا حميدا ذاتي له فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان بل هو ذاتي للفقير فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ... كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك إذا ما بالذات لا يعلل فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته فما يذكر من إمكان وحدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له ولهذا كان الصواب في مسألة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون فإن الفلاسفة قالوا علة الحاجة الإمكان والمتكلمون قالوا علة الحاجة الحدوث والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان وكلاهما دليل الحاجة والافتقار وفقر العالم إلى الله سبحانه أمر ذاتي لا يعلل فهو فقير بذاته إلى ربه الغني بذاته ثم يستدل بإمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأدلة على هذا الفقر والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غني حميد فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرا ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيا كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدا والرب إلا ربا
إذا عرف هذا فالفقر فقران فقر اضطراري وهو فقر عام لا خروج لبر ولا فاجر عنه وهذا الفقر لا يقتضي مدحا ولا ذما ولا ثوابا ولا عقابا بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقا ومصنوعا
والفقر الثاني فقر اختياري هو نتيجة علمين شريفين أحدهما معرفة العبد بربه والثاني معرفته بنفسه فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرا هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام

ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئا ولا يقدر على شيء ولا يملك شيئا ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمرا مشهودا محسوسا لكل أحد ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته وما بالذات دائم بدوامها وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى بل لم يزل عبدا فقيرا بذاته إلى بارئه وفاطره فلما أسبغ عليه نعمته وأفاض عليه رحمته وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرا وباطنا وخلع عليه ملابس إنعامه وجعل له السمع والبصر والفؤاد وعلمه وأقدره وصرفه وحركه ومكنه من استخدام بني جنسه وسخر له الخيل والإبل وسلطه على دواب الماء واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية وحفر الأنهار وغرس الأشجار وشق الأرض وتعلية البناء والتحليل على مصالحه والتحرز والتحفظ لما يؤذيه ظن المسكين أن له نصيبا من الملك وادعى لنفسه ملكا مع الله سبحانه ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج بل كأن ذلك شخصا آخر غيره كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله بصق يوما في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال قال الله تعالى يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة ومن ههنا خذل من

خذل ووفق من وفق فحجب المخذول عن حقيقته ونسي نفسه فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه فطغى وعتا فحقت عليه الشقوة قال تعالى كلا إن الأنسان ليطغى أن رءاه استغنى وقال فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهودا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين ولهذا كان من دعائه أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك
وكان يدعو يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يعلم

أن قلبه بيد الرحمن عز و جل لا يملك منه شيئا وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء كيف وهو يتلو قوله تعالى ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا فضرورته إلى ربه وفاقته إليه بحسب معرفته به وحسب قربه منه ومنزلته عنده وهذا أمر إنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاء ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة وأعظمهم عنده جاها وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه وكان يقول لهم أيها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي إنما أنا عبد وكان يقول لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله
وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته مقام الإسراء ومقام الدعوة ومقام التحدي فقال سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وقال وأنه لما قام عبدالله يدعوه وقال وإن كنتم في ريب مما

نزلنا على عبدنا وفي حديث الشفاعة إن المسيح يقول لهم اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله وبكماله مغفرة الله له فتأمل قوله تعالى في الآية أنتم الفقراء إلى الله باسم الله دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر فإنه كما تقدم نوعان فقر إلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأسرها وفقر إلى ألوهيته وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين وهذا هو الفقر النافع والذي يشير إليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إليه هو الفقر الخاص لا العام وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له وكل أخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير
قال شيخ الإسلام الأنصاري الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها ذما أو مدحا والسلامة منها

طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه الدرجة الثانية الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال ويقطع شهود الأحوال ويمحص من أدناس مطالعة المقامات والدرجة الثالثة صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطع الوحداني والاحتباس في بيداء قيد التجريد وهذا فقر الصوفية
فقوله الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة يعني أن الفقير هو الذي يجرد رؤية الملك لمالكه الحق فيرى نفسه مملوكة لله لا يرى نفسه مالكا بوجه من الوجوه ويرى أعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكا عبدا مستعملا فيما أمره به سيده فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة بموجب العبودية فليس مالكا لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أعماله بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه كرجل اشترى عبدا بخالص ماله ثم علمه بعض الصنائع فلما تعلمها قال له إعمل وأد إلي فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء فلو حصل بيد هذا العبد من الأموال والأسباب ما حصل لم ير له فيها شيئا بل يراه كالوديعة في يده وأنها أموال أستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده مستودعا متصرفا فيها لسيده لا لنفسه كما قال عبدالله ورسوله وخيرته من خلقه والله إني لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت فهو متصرف في تلك الخزائن بالأمر المحض تصرف

العبد المحض الذي وظيفته تنفيذ أوامر سيده فالله هو المالك الحق وكل ما بيد خلقه هو من أمواله وأملاكه وخزائنه أفاضها عليهم ليمتحنهم في البذل والإمساك
وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عز و جل فيبذل أحدهم الشيء رغبة في ثواب الله ورهبة من عقابه وتقربا إليه وطلبا لمرضاته أم يكون البذل والإمساك منهم صادرا عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع ! فيعطي لهواه ويمنع لهواه فيكون متصرفا تصرف المالك لا المملوك فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أو رفعة أو منزلة أو مدح أو حظ من الحظوظ أو الرهبة من فوت شيء من هذه الأشياء وإذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأى نفسه لا محالة مالكا فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسي فقره ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أنما هو مملوك ممتحن في صورة ملك متصرف كما قال تعالى ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون وحقيق بهذا الممتحن أن يوكل إلى ما ادكعته نفسه من الإحالات والملكات مع المالك الحق سبحانه فإن من ادعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وكل إليها ومن كل إلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب وأغلق عنه باب الفوز والسعادة فإن كل شيء ما سوى الله باطل ومن وكل إلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إلا على الحرمان فكل من تعلق بغير الله انقطع به أحوج ما كان إليه كما قال تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب فالأسباب التي

تقطعت بهم هي العلائق التي بغير الله ولغير الله تقطعت بهم أحوج ما كانوا إليها وذلك لأن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أسبابها وبطلت فإن الأسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه وكل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه وكل سعي لغيره باطل ومضمحل وهذا كما يشاهده الناس في الدنيا من اضمحلال السعي والعمل والكد والخدمة التي يفعلها العبد لمتول أو أمير أو صاحب منصب أو مال فإذا زال ذلك الذي عمل له عدم ذلك العمل وبطل ذلك السعي ولم يبق في يده سوى الحرمان ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة أليس عدلا مني أني أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في الدنيا فيتولى عباد الأصنام والأوثان أصنامهم وأوثانهم فتتساقط بهم في النار ويتولى عابدو الشمس والقمر والنجوم آلهتهم فإذا كورت الشمس وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت حسرة عليهم

كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ولهذا كان المشرك من أخسر الناس صفقة وأغبنهم يوم معاده فإنه يحال على مفلس كل الإفلاس بل على عدم والموحد حوالته على المليء الكريم فيا بعد ما بين الحوالتين
وقوله البراءة من رؤية الملكة ولم يقل من الملكة لأن الإنسان قد يكون فقيرا لا ملكة له في الظاهر وهو عري عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذي الملك والملكوت وقد يكون العبد قد فوض إليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه كما كان سليمان بن داود أوتي ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وكذلك الخليل وشعيب والأغنياء من الأنبياء وكذلك أعنياء الصحابة فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة في الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم فلا يرون لها ملكا حقيقيا بل يرون ما في أيديهم لله عارية ووديعة في أيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبد أو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم فوجود المال في يد الفقير لا يقدح في فقره إنما يقدح في فقره رؤيته لملكته فمن عوفي من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره وكان كالخازن لسيده الذي ينفذ أوامره في ماله فهذا لو كان بيده من المال أمثال جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف من ذلك ادعت نفسه الملكة وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق فهو أكبر همه ومبلغ علمه إن

أعطي رضي وإن منع سخط فهو عبد الدينار والدرهم يصبح مهموما ويمسي كذلك يبيت مضاجعا له تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأسف إذا فات منه شيء بل يكاد يتلف إذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر والأول مستغن بمولاه المالك الحق الذي بيده خزائن السموات والأرض وإذا أصاب المال الذي في يده نائبة رأى أن المالك الحق هو الذي أصاب مال نفسه فما للعبد وما للجزع والهلع وإنما تصرف مالك المال في ملكه الذي هو وديعة في يد مملوكه فله الحكم في ماله إن شاء أبقاه وإن شاء ذهب به وأفناه فلا يتهم مولاه في تصرفه في ملكه ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث لصعوده عنه وارتفاع همته إلى المالك الحق فهو غني به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه وهو فقير إليه دون ما سواه فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان كما قال تعالى كلا إن الإنسان ليطغى أن رءاه استغنى ولم يقل إن استغنى بل جعل الطغيان ناشئا عن رؤيته غنى نفسه ولم يذكر هذه الرؤية في سورة الليل بل قال وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وهذا والله أعلم لأنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه وذكر في سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته فإنه لو افتقر إليه لتقرب إليه بما أمره من طاعته فعل المملوك الذي لا غنى له عن مولاه طرفة عين ولا يجد بدا من امتثال أوامره ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه أعطاء ما وجب عليه من الأقوال والأعمال وأداء المال وجمع إلى ذلك تكذيبه بالحسنى وهي التي وعد بها أهل الإحسان بقوله للذين

أحسنوا الحسنى وزيادة ومن فسرها بشهادة أن لا إله إلا الله فلأنها أصل الإحسان وبها تنال الحسنى ومن فسرها بالخلف في الإنفاق فقد هضم المعنى حقه وهو أكبر من ذلك وإن كان الخلف جزءا من أجزاء الحسنى والمقصود أن الاستغناء عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لك عسرى ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه وكلاهما مناف للفقر والعبودية
قوله الدرجة الأولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها ذما أو مدحا والسلامة منها طلبا أو تركا وهذا هو الفقر الذي تكلموا في شرفه فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا والذهول عن الفقر منها والزهد فيها وعلامة فراغ اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا فهو لا يضبط يده مع وجودها شحا وضنا بها ولا يطلبها مع فقدها سؤالا وإلحافا وحرصا فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب إذ لو كان لها في القلب منزلة لكان الأمر بضد ذلك وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إليها وأيضا من أقسام الفراغ إسكات اللسان عنها ذما ومدحا لأن من اهتم بأمر وكان له في قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أمره مدحا أو ذما فإنه إن حصلت له مدحها وإن فاتته ذمها ومدحها وذمها علامة موضعها من القلب وخطرها فحيث اشتغل اللسان بذمها كان بذلك لخطرها في القلب لأن الشيء إنما يذم على قدر الاهتمام به والاعتناء شفاء الغيظ منه بالذم وكذلك تعظيم الزهد فيها إنما هو على قدر خطرها في القلب إذ لولا خطرها وقدرها لما صار للزهد فيها خطر وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه فإن من أحب شيئا أكثر من ذكره وصاحب هذه الدرجة

لا يضبطها مع وجودها ولا يطلبها مع عدمها ولا يفيض من قلبه على لسانه مدح لها يدل على محبتها ولا يفيض من القلب على اللسان ذم يدل على موقعها وخطرها فإن الشيء إذا صغر أعرض القلب عنه مدحا أو ذما وكذلك صاحب هذه الدرجة سالم عن النظر إلى تركها وهو الذي تقدم من ذكر خطر الزهد فيها لأن نظر العبد إلى كونه تاركا لها زاهدا فيها تتشرف نفسه بالترك وذلك من خطرها وقدرها ولو صغرت في القلب لصغر تركها والزهد فيها ولو اهتم القلب بمهم من المهمات المطلوبة التي هي مذاقات أهل القلوب الأرواح لذهل عن النظر إلى نفسه بالزهد والترك فصاحب هذه الدرجة معافى من هذه الأمراض كلها من مرض الضبط والطلب والذم والمدح والترك فهي بأسرها وإن كان بعضها ممدوحا في العلم مقصودا يستحق المتحقق به الثواب والمدح لكنها آثار وأشكال مشعرة بأن صاحبها لم يذق حال الخلو والتجريد الباطن فضلا عن أن يتحقق من الحقائق المتوقعة المتنافس فيها فصاحب هذه الدرجة متوسط بين درجتي الداخل بكليته في الدنيا قد ركن إليها واطمأن إليها واتخذها وطنا وجعلها له سكنا وبين من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه وتخلص من قيودها ورعونتها وآثارها وارتقى إلى ما يسر القلب ويحييه ويفرحه ويبهجه من جذبات العزة فهو في البرزخ كالحامل المقرب ينتظر ولادة الروح والقلب صباحا ومساء فإن من لم تولد روحه وقلبه ويخرج من مشيمة نفسه ويتخلص من ظلمات طبعه وهواه وإرادته فهو كالجنين في بطن أمه الذي لم ير الدنيا وما فيها فهكذا هذا الذي بعد في مشيمة النفس والظلمات الثلاث هي ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى فلا بد من الولادة مرتين كما قال المسيح للحواريين إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين ولذلك كان النبي أبا للمؤمنين كما في قراءة أبي النبي

أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ولهذا تفرع على هذه الأبوة أن جعلت أزواجه أمهاتهم فإن أرواحهم وقلوبهم ولدت به ولادة أخرى غير ولادة الأمهات فإنه أخرج أرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغي إلى نور العلم والإيمان وفضاء المعرفة والتوحيد فشاهدت حقائق أخر وأمورا لم يكن لها بها شعور قبله قال تعالى الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وقال هو الذي بعث في الأمين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وقال لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلل مبين
والمقصود أن القلوب في هذه الولادة ثلاثة قلب لم يولد ولم يأن له أنواع القلوب بل هو جنين في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال وقلب قد ولد وخرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب وأنست بقربه الأرواح وذكرت رؤيته بالله فاطمأن بالله وسكن إليه وعكف بهمته عليه وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى لا يقر بشيء غير الله ولا يسكن إلى شيء سواه ولا يطمئن بغيره يجد من كل شيء سوى الله عوضا ومحبته قوته لا يجد من الله عوضا أبدا فذكره حياة قلبه ورضاه

غاية مطلبه ومحبته قوته ومعرفته أنيسه عدوه من جذب قلبه عن الله وإن كان القريب المصافيا ووليه من رده إلى الله وجمع قلبه عليه وإن كان البعيد المناويا فهذان قلبان متباينان غاية التباين وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحا ومساء قد أصبح على فضاء التجريد وآنس من خلال الديار أشعة التوحيد تأبى غلبات الحب والشوق إلا تقربا إلى من السعادة كلها بقربه والحظ كل الحظ في طاعته وحبه وتأبى غلبات الطباع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه فهو بين الداعين تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات وبقي عليه مفاوز وفلوات والمقصود أن صاحب هذا المقام إذا تحقق به ظاهرا وباطنا وسلم عن نظر نفسه إلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده فهو فقير حقيقي ليس فيه قادح من القوادح التي تحطه عن درجة الفقر
واعلم أنه يحسن إعمال اللسان في ذم الدنيا في موضعين أحدهما موضع التزهيد فيها للراغب والثاني عندما يرجع به داعي الطبع والنفس إلى طلبها ولا يأمن من إجابة الداعي فيستحضر في نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد


فصل في تفسير الفقر ودرجاته وقوله الدرجة الثانية الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأعمال ويقطع شهود الأحوال ويمحص من أدناس مطالعة المقامات فهذه الدرجة أرفع من الأولى وأعلى والأولى كالوسيلة إليها لأن في الدرجة الأولى يتخلى بفقره عن أن يتأله غير مولاه الحق وأن يضيع أنفاسه في غير مرضاته وأن يفرق همومه في غير محابه وأن يؤثر عليه في حال من الأحوال فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية وعمارة السر بينه وبين الله وخلوص الود فيصبح ويمسي ولا هم له غير ربه قد قطع همه بربه عنه جميع الهموم وعطلت إرادته جميع الإرادات ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه كما قيل
لقد كان يسبي القلب في كل ليله ... ثمانون بل تسعون نفسا وأرجح
يهيم بهذا ثم يألف غيره ... ويسلوهم من فوره حين يصبح
وقد كان قلبي ضائعا قبل حبكم ... فكان بحب الخلق يلهو ويمرح
فلما دعا قلبي هواك أجابه ... فلست أراه عن خبائك يبرح
حرمت الأماني منك إن كنت كاذبا ... وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح
وإن كان شيء في الوجود سواكم ... يقر به القلب الجريح ويفرح
إذا لعبت أيدي الهوى بمحبكم ... فليس له عن بابكم متزحزح
فإن أدركته غربة عن دياركم ... فحبكم بين الحشا ليس يبرح
وكم مشتر في الخلق قد سام قلبه ... فلم يره إلا لحبك يصلح

هوى غيركم نار تلظى ومحبس ... وحبكم الفردوس أو هو أفسح
فيا ضيم قلب قد تعلق غيركم ... ويا رحمة مما يجول ويكدح
والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه فبقدر ما يدخل القلب من هم وإرادة وحب يخرج منه هم وإرادة وحب يقابله فهو إناء واحد والأشربة متعددة فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره وإنما يمتلىء الإناء بأعلى الأشربة إذا صادفه خاليا فأما إذا صادفه ممتلئا من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه كما قال بعضهم
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا
ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة لأن كل شراب مسكر ولا بد وما أسكر كثيره فقليله حرام وأين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر وكيف يوضع شراب التسنيم الذي هو أعلى أشربة المحبين في إناء ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سكره ولا يستفيق ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأجنحة الشوق إلى الله والدار الآخرة ولكن رضي المسكين بالدون وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأخس الثمن صفقة خاسر مغبون فسيعلم أي حظ أضاع إذا فاز المحبون وخسر المبطلون


فصل في أن حقيقة الفقر توجه العبد بجميع أحواله إلى الله وإذا كان التلوث بالأعراض قيدا يقيد القلوب عن سفرها إلى بلد حياتها ونعيمها الذي لا سكن لها غيره ولا راحة لها إلا فيه ولا سرور لها إلا في منازله ولا أمن لها إلا بين أهله فكذلك الذي باشر قلبه روح التأله وذاق طعم المحبة وآنس نار المعرفة له أعراض دقيقة حالية تقيد قلبه عن مكافحة صريح الحق وصحة الاضطرار إليه والفناء التام به البقاء الدائم بنوره الذي هو المطلوب من السير والسلوك وهو الغاية التي شمر إليها السالكون والعلم الذي أمه العابدون ودندن حوله العارفون فجميع ما يحجب عنه أن يقيد القلب نظره وهمه يكون حجابا يحجب الواصل ويوقف السالك وينكس الطالب فالزهد فيه على أصحاب الهمم العلية متعين تعين الواجب الذي لا بد منه وهو كزهد السالك إلى الحج في الظلال والمياه التي يمر بها في المنازل فالأول مقيد عن الحقائق برؤية الأعراض والثاني مقيد عن النهايات برؤية الأحوال فتقيد كل منهما عن الغاية المطلوبة وترتب على هذا القيد عدم النفوذ وذلك مؤخر مخلف
وإذا عرف العبد هذا وانكشف له علمه تعين عليه الزهد في الأحوال والفقر منها كما تعين عليه الزهد في المال والشرف وخلو قلبه منهما ولما كان موجب الدرجة الأولى من الفقر الرجوع إلى الآخرة فأوجب الاستغراق في

هم الآخرة نفض اليدين من الدنيا ضبطا أو طلبا وإسكات اللسان عنها مدحا أو ذما وكذلك كان موجب هذه الدرجة الثانية الرجوع إلى فضل الله سبحانه ومطالعة سبقه الأسباب والوسائط فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأقوال الشريفة والمقامات العلية وبفضله ورحمته وصلوا إلى رضاه ورحمته وقربه وكرامته وموالاته وكان سبحانه هو الأول في ذلك كله كما أنه الأول في كل شيء وكان هو الآخر في ذلك كما هو الآخر في كل شيء فمن عبده باسمه الأول والآخر حصلت له حقيقة هذا الفقر فإن انضاف إلى ذلك عبوديته باسمه الظاهر والباطن فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهرا وباطنا
فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف أو الالتفات إليها وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته وأنه هو المبتدىء بالإحسان من غير وسيلة من العبد إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده أي وسيلة كانت هناك وإنما هو عدم محض وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا فمنه سبحانه الإعداد ومنه الإمداد وفضله سابق على الوسائل والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أخرى فمن نزل اسمه الأول على هذا المعنى أوجب له فقرا خاصا وعبودية خاصة
وعبوديته باسمه الآخر تقتضي أيضا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها فإنها تنعدم لا محالة وتنقضي بالآخرية ويبقى الدائم الباقي بعدها فالتعلق بها تعلق بعدم وينقضي والتعلق بالآخر سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به كذا نظر العارف إليه بسبق الأولية حيث كان قبل الأسباب كلها وكذلك نظره إليه ببقاء الآخرية حيث يبقى

بعد الأسباب كلها فكان الله ولم يكن شيء غيره وكل شيء هالك إلا وجهه فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع فهو المبتدىء بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة وإليه تنتهي الأسباب والوسائل فهو أول كل شيء وآخره وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات والآخر الذي انتهت إليه عبوديتها وإرادتها ومحبتها فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ فكما كان واحدا في إيجادك فاجعله واحدا في تألهك إليه لتصح عبوديتك وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه لتصح لك عبوديته باسمه الأول والآخر وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأول وإنما الشأن في التعبد له باسمه الآخر فهذه عبودية الرسل وأتباعهم فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده وأما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبي بقوله وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء
فإذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته وأنه ليس فوقه شيء البتة وأنه قاهر فوق عباده يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه صار لقلبه أمما يقصده وربا يعبده وإلها يتوجه إليه بخلاف من لا يدري أين ربه فإنه

ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إليه قصده وصاحب هذه الحال إذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إلها يسكن إليه ويتوجه إليه وقد اعتقد أنه ليس فوق العرش شيء إلا العدم وأنه ليس فوق العالم إله يعبد ويصلى له ويسجد وأنه ليس على العرش من يصعد إليه الكلم الطيب ولا يرفع إليه العمل الصالح جال قلبه في الوجود جميعه فوقع في الاتحاد ولا بد وتعلق قلبه بالوجود المطلق الساري في المعينات فاتخذ إلهه من دون إله الحق وظن أنه قد وصل إلى عين الحقيقة وإنما تأله وتعبد لمخلوق مثله ولخيال نحته بفكره واتخذه إلها من دون الله سبحانه وإله الرسل وراء ذلك كله إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون وقال الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش مالكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون

فقد تعرف سبحانه إلى عباده بكلامه معرفة لا يجحدها إلا من أنكره سبحانه وإن زعم أنه مقربه والمقصود أن التعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود ويجعل له ربا يقصده وصمدا يصمد إليه في حوائجه وملجأ يلجأ إليه فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسمه الظاهر استقامت له عبوديته وصار له معقل وموئل يلجأ إليه ويهرب إليه ويفر كل وقت إليه وأما تعبده باسمه الباطن فأمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته ويكل اللسان عن وصفه وتصطلم الإشارة إليه وتجفو العبارة عنه فإنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه منزهة عن رجس الحلول والاتحاد وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه وذوقا صحيحا سليما من أذواق أهل الانحراف فمن رزق هذا فهم معنى اسمه الباطن وضح له التعبد به وسبحان الله كم زلت في هذا المقام أقدام وضلت فيه أفهام وتكلم فيه الزنديق بلسان الصديق واشتبه فيه إخوان النصارى بالحنفاء المخلصين لنبو الأفهام عنه وعزة تخلص الحق من الباطل فيه والتباس ما في الذهن بما في الخارج إلا على من رزقه الله بصيرة في الحق ونورا يميز به بين الهدى والضلال وفرقانا يفرق به بين الحق والباطل ورزق مع ذلك اطلاعا على أسباب الخطأ وتفرق الطرق ومثار الغلط وكان له بصيرة في الحق والباطل وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته وأن العوالم كلها في قبضته وأن السموات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد قال تعالى وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وقال والله من ورآئهم محيط ولهذا يقرن سبحانه

بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء فوقه واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه كما قال تعالى وهو العلي العظيم وقال تعالى وهو العلي الكبير وقال ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء بل ظهر على كل شيء فكان فوقه وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه وكل شيء في قبضته وليس شيء في قبضة نفسه فهذا أقرب لإحاطة العامة
وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاص من عابديه وسائليه ودادعيه وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال الله تعالى وإذا سألك عبادى عنى فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فهذا قربه من داعيه وقال تعالى إن رحمت الله قريب من المحسنين فذكر الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهي مؤنثة إيذانا بقربه تعالى من المحسنين فكأنه قال إن الله برحمته قريب من المحسنين وفي الصحيح عن النبي قال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وأقرب ما يكون الرب من

عبده في جوف الليل فهذا قرب خاص غير قرب الإحاطة وقرب البطون وفي الصحيح من حديث أبي موسى أنهم كانوا مع النبي في سفر فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال أيها الناس اربعوا على أنفسكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب الى أحدكم من عنق راحلته فهذا قربه من داعيه وذاكره يعني فأي حاجة بكم إلى رفع الأصوات وهو لقربه يسمعها وإن خفضت كما يسمعها إذا رفعت فإنه سميع قريب وهذا القرب هو من لوازم المحبة فكلما كان الحب أعظم كان القرب أكثر وقد استولت محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها ويغلب محبوبه على قلبه حتى كأنه يراه ويشاهده فإن لم يكن عنده معرفة صحيحة بالله وما يجب له وما يستحيل عليه وإلا طرق باب الحلول إن لم يلجه وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة واستيلاء المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة ما سواه وفي مثل هذه الحال يقول سبحاني أو ما في الجبة إلا الله ونحو هذا من الشطحات

التي نهايتها أن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه في تلك الحال فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفوة الوداد وأن يكون الإله أقرب إليه من كل شيء وأقرب إليه من نفسه مع كونه ظاهرا ليس فوقه شيء ومن كثف ذهنه وغلط طبعه عن فهم هذا فليضرب عنه صفحا إلى ما هو أولى به فقد قيل
إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة ومعرفة بقرب المحبوب من محبة غاية القرب وإن كان بينهما غاية المسافة ولا سيما إذا كانت المحبة من الطرفين وهي محبة بريئة من العلل والشوائب والأعراض القادحة فيها فإن المحب كثيرا ما يستولي محبوبه على قلبه وذكره ويفنى عن غيره ويرق قلبه وتتجرد نفسه فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إليه وبينهما من البعد ما بينهما وفي هذه الحال يكون في قلبه وجوده العلمي وفي لسانه وجوده اللفظي فيستولي هذا الشهود عليه ويغيب به فيظن أن في عينه وجوده الخارجي لغلبة حكم القلب والروح كما قيل
خيالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
هذا ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه وما بينهما من البعد وإن قربت الأبدان وتلاصقت الديار والمقصود أن المثال العلمي غير الحقيقة الخارجية وإن كان مطابقا لها لكن المثال العلمي محله القلب والحقيقة الخارجية محلها الخارج فمعرفة هذه الأسماء الأربعة الأول والآخر والظاهر والباطن هي أركان العلم والمعرفة فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه

واعلم أن لك أنت أولا وآخرا وظاهرا وباطنا بل كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن حتى الخطرة واللحظة والنفس وأدنى من ذلك وأكثر فأولية الله عز و جل سابقة على أولية كل ما سواه وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه فأوليته سبقه لكل شيء وآخريته بقاؤه بعد كل شيء وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيءومعنى الظهور يقتضي العلو وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه هذا لون وهذا لون فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة وهي إحاطتان زمانية ومكانية فإحاطة أوليته وآخريته بالقبل والبعد فكل سابق انتهى إلى أوليته وكل آخر انتهى إلى آخريته فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن فما من ظاهر إلا والله فوقه وما من باطن إلا والله ودونه وما من أول إلا والله قبله وما من آخر إلا والله بعده فالأول قدمه والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته والباطن قربه ودنوه فسبق كل شيء بأوليته وبقي بعد كل شيء بآخريته وعلا على كل شيء بظهوره ودنا من كل شيء ببطونه فلا توارى منه سماء سماء ولا أرض أرضا ولا يحجب عنه ظاهر باطنا بل الباطن له ظاهر والغيب عنده شهادة والبعيد منه قريب والسر عنده علانية فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد فهو الأول في آخريته والآخر في أوليته والظاهر في بطونه والباطن في ظهوره لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطنا
والتعبد بهذه الأسماء رتبتان الرتبة الأولى أن تشهد الأولية منه تعالى في كل شيء والآخرية بعد كل شيء والعلو والفوقية فوق كل شيء والقرب والدنو دون كل شيء فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب والرب جل جلاله ليس دونه شيء أقرب إلى الخلق منه
والمرتبة الثانية من التعبد أن يعامل كل اسم بمقتضاه فيعامل سبقه

تعالى بأوليته لكل شيء وسبقه بفضله وإحسانه الأسباب كلها بما يقتضيه ذلك من أفراده وعدم الالتفات إلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره فمن ذا الذي شفع لك في الأزل حيث لم تكن شيئا مذكورا حتى سماك باسم الإسلام ووسمك بسمة الإيمان وجعلك من أهل قبضة اليمين وأقطعك في ذلك الغيب عمالات المؤمنين فعصمك عن العبادة للعبيد وأعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد ثم وجه وجهة قلبك إليه سبحانه دون ما سواه فاضرع إلى الذي عصمك من السجود للصنم وقضى لك بقدم الصدق في القدم أن يتم عليك نعمة هو ابتدأها وكانت أوليتها منه بلا سبب منك واسم بهمتك عن ملاحظة الاختيار ولا تركنن إلى الرسوم والآثار ولا تقنع بالخسيس الدون وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التي لا تنال إلا بطاعة الله فإن الله سبحانه قضى أن لا ينال ما عنده إلا بطاعته ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد فمن أقبل إليه تلقاه من بعيد ومن تصرف بحوله وقوته ألان له الحديد ومن ترك لأجله أعطاه فوق المزيد ومن أراد مراده الديني أراد ما يريد ثم اسم بسرك إلى المطلب الأعلى واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإحسانه إليك كل سبب منك بل هو الذي جاد عليك بالأسباب وهيأ لك وصرف عنك موانعها وأوصلك بها إلى غايتك المحمودة فتوكل عليه وحده وعامله وحده وآثر رضاه وحده واجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التي لا تزال طائفا بها مستلما لأركانها واقفا بملتزمها فيا فوزك ويا سعادتك إن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وبحمدك ثم تعبد له باسمه

الآخر بأن تجعله وحده غايتك التي لا غاية لك سواه ولا مطلوب لك وراءه فكما انتهت إليه الأواخر وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إليه فإن إلى ربك المنتهى إليه انتهت الأسباب والغايات فليس وراءه مرمى ينتهي إليه وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه الظاهر وأما التعبد باسمه الباطن فإذا شهدت إحاطته بالعوالم وقرب العبيد منه وظهور البواطن له وبدو السرائر وأنه لا شيء بينه وبينها فعامله بمقتضى هذا الشهود وطهر له سريرتك فإنها عنده علانية وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة وزك له باطنك فإنه عنده ظاهر
فانظر كيف كانت هذه الأسماء الأربعة جماع المعرفة بالله وجماع العبودية له فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته فلا يرى لغيره شيئا إلا به وبحوله وقوته وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إليه أو يتحلى به أو يتخذه عقدة أو يراه ليوم فاقته أو يعتمد عليه في مهمة من مهماته فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأصول إلى الأسباب والفروع كما هو شأن الطبيعة والهوى وموجب الظلم والجهل والإنسان ظلوم جهول فمن جلى الله سبحانه صدأ بصيرته وكمل فطرته وأوقفه على مبادىء الأمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها أصبح كمفلس حقا من علومه وأعماله وأحواله وأذواقه يقول أستغفر الله من علمي ومن عملي أي من انتسابي إليهما وغيبتي بهما عن فضل من ذكرني بهما وابتدأني بإعطائهما من غير تقدم سبب مني يوجب ذلك فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأوسط بين الفقرين الأدنى والأعلى ثوابين أحدهما الخلاص من

رؤية الأعمال حيث كان يراها ويتمدح بها ويستكثرها فيستغرق بمطالعة الفضل غائبا عنها ذاهبا عنها فانيا عن رؤيتها الثواب الثاني أن يقطعه عن شهود الأحوال أي عن شهود نفسه فيها متكثرة بها فإن الحال محله الصدر والصدر بيت القلب والنفس فإذا نزل العطاء في الصدر للقلب ثبتت النفس لتأخذ نصيبها من العطاء فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل وتقرر إنيتها لأنها جاهلة ظالمة وهذا مقتضى الجهل والظلم
فإذا وصل إلى القلب نور صفة المنة وشهد معنى اسمه المنان وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأول ذهل القلب والنفس به وصار العبد فقيرا إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأول فصار مقطوعا عن شهود أمر أو حال ينسبه إلى نفسه بحيث يكون بشهادته لحاله مفصوما مقطوعا عن رؤية عزة مولاه وفاطره وملاحظة صفاته فصاحب شهود الأحوال منقطع عن رؤية منة خالقه وفضله ومشاهدة سبق الأولية للأسباب كلها وغائب بمشاهدة عزة نفسه عن عزة مولاه فينعكس هذا الأمر في حق هذا العبد الفقير وتشغله رؤية عزة مولاه ومنته ومشاهدة سبقه بالأولية عن حال يعتز بها العبد أو يشرف بها وكذلك الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يمحص من أدناس مطالعات المقامات فالمقام ما كان راسخا فيه والحال ما كان عارضا لا يدوم فمطالعات المقامة وتشوفه بها وكونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمله فاستحق أن ينسب إليه ويوصف به مثل أن يقال زاهد صابر خائف راج محب راض فكونه يرى نفسه مستحقا بأن تضاف المقامات إليه وبأن يوصف بها على وجه الاستحقاق لها خروج عن الفقر إلى الغنى وتعد لطور العبودية وجهل بحق الربوبية فالرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يستغرق همة العبد ويمحصه ويطهره من مثل هذه الأدناس فيصير مصفى بنور الله سبحانه عن رذائل هذه الأرجاس
قوله والدرجة الثالثة صحة الاضطرار والوقوع في يد التقطع

الوحداني والاحتباس في بيداء قيد التجريد وهذا فقر الصوفية هذه الدرجة فوق الدرجتين السابقتين عند أرباب السلوك وهي الغاية التي شمروا إليها وحاموا حولها فإن الفقر الأول فقر عن الأعراض الدنيوية والفقر الثاني فقر عن رؤية المقامات والأحوال وهذا الفقر الثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود فيبقى الوجود الحادث في قبضة الحق سبحانه كالهباء المنثور في الهواء يتقلب بتقليبه إياه ويسير في شاهد العبد كما هو في الخارج فتمحو رؤية التوحيد من العبد شواهد استبداده واستقلاله بأمر من الأمور ولو في النفس واللمحة والطرفة والهمة والخاطر والوسوسة إلا بإرادة المريد الحق سبحانه وتدبيره وتقديره ومشيئته فيبقى العبد كالكرة الملقاة بين صولجانات القضاء والقدر تقلبها كيف شاءت بصحة شهادة قيومية من له الخلق والأمر وتفرده بذلك دون ما سواه وهذا الأمر لا يدرك بمجرد العلم ولا يعرفه إلا من تحقق به أو لاح له منه بارق وربما ذهل صاحب هذا المشهد عن الشعور بوجوده لغلبة شهود وجود القيوم عليه فهناك يصح من مثل هذا العبد الاضطرار إلى الحي القيوم وشهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقرا تاما إليه من جهة كونه ربا ومن وجهة كونه إلها معبودا لا غنى له عنه كما لا وجود له بغيره فهذا هو الفقر الأعلى الذي دارت عليه رحى القوم بل هو قطب تلك الرحى وإنما يصح له هذا بمعرفتين لا بد منهما معرفة حقيقة الربوبية والإلهية ومعرفة حقيقة النفس والعبودية فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر فإن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية اتصف بهذا الفقر حالا فما أغناه حينئذ من فقير وما أعزه من ذليل وما أقواه من ضعيف وما آنسه من وحيد فهو الغني بلا مال القوي بلا سلطان العزيز بلا عشيرة المكفي بلا عتاد قد قرت عينه بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك

ولا يتم له ذلك إلا بالبراءة من فرث الجبر ودمه فإنه إن طرق باب الجبر انحل عنه نظام العبودية وخلع ربقة الإسلام من عنقه وشهد أفعاله كلها طاعات للحكم القدري الكوني وأنشد
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
وإذا قيل له اتق الله ولا تعصه يقول إن كنت عاصيا لأمره فأنا مطيع لحكمه وإرادته فهذا منسلخ من الشرائع بريء من دعوة الرسل شقيق لعدو الله إبليس بل وظيفة الفقير في هذا الموضوع وفي هذه الضرورة مشاهدة الأمر والشرع ورؤية قيامه بالأفعال وصدورها منه كسبا واختيارا وتعلق الأمر والنهي بها طلبا وتركا وترتب الذم والمدح عليها شرعا وعقلا وتعلق الثواب والعقاب بها آجلا وعاجلا فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح إلى شهود الاضطرار في حركاته وسكناته والفاقة التامة إلى مقلب القلوب ومن بيده أزمة الاختيار ومن إذا شاء وجب وجوده وإذا لم يشأ امتنع وجوده وأنه لا هادي لمن أضله ولا مضل لمن هداه وأنه هو الذي يحرك القلوب بالإرادات والجوارح بالأعمال وأنها مدبرة تحت تسخيره مذللة تحت قهره وأنها أعجز وأضعف من أن تتحرك بدون مشيئته وأن مشيئته نافذة فيها كما هي نافذة في حركات الأفلاك والمياه والأشجار وأنه حرك كلا منها بسبب اقتضى تحريكه وهو خالق السبب المقتضي وخالق السبب خالق للمسبب فخالق الإرادة الجازمة التي هي سبب الحركة والفعل الاختياري خالق لهما وحدوث الإرادة بلا خالق محدث محال وحدوثها بالعبد بلا إرادة منه محال وإن كان بإرادته فإرادته للإرادة كذلك ويستحيل بها التسلسل فلا بد من فاعل أوجد تلك الإرادة التي هي سبب الفعل فهنا

يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إلى مالك الإرادات ورب القلوب ومصرفها كيف شاء فما شاء أن يزيغه منها أزاغه وما شاء أن يقيمه منها أقامه ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب فهذا هو الفقر الصحيح المطابق للعقل والفطرة والشرع ومن خرج عنه وانحرف إلى أحد الطرفين زاغ قلبه عن الهدى وعطل ملك الملك الحق وانفراده بالتصرف والربوبية عن أوامره وشرعه وثوابه وعقابه وحكم هذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين وكل نفس أنه إن حرك بطاعة أو نعمة شكرها وقال هذا من فضل الله ومنه وجوده فله الحمد وإن حرك بمبادىء معصيته صرخ ولجأ واستغاث وقال أعوذ بك منك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك فإن تم تحريكه بالمعصية التجأ التجاء أسير قد أسره عدوه وهو يعلم أنه لا خلاص له من أسره إلا بأن يفكه سيده من الأسر ففكاكه في يد سيده ليس في يده منه شيء البتة ولا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فهو في أسر العدو ناظر إلى سيده وهو قادر قد اشتدت ضرورته إليه وصار اعتماده كله عليه قال سهل إنما يكون الالتجاء على معرفة الابتلاء يعني على قدر الابتلاء تكون المعرفة بالمبتلي ومن عرف قوله وأعوذ بك منك / ح / وقام بهذه المعرفة

شهودا وذوقا وأعطاها حقها من العبودية فهو الفقير حقا ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة فمن فهم سر هذا فهم سر الفقر المحمدي فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه وهو الذي يدفع ما منه بما منه فالخلق كله له والأمر كله له والحكم كله له وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وما شاء لم يستطع أن يصرفه إلا مشيئته وما لم يشأ لم يمكن أن يجلبه إلا مشيئته فلا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو ولا يهدي لأحسن الأعمال والأخلاق إلا هو ولا يصرف سيئها إلا هو وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحة الاضطرار وكمال الفقر والفاقة ويحول بين العبد وبين رؤية أعماله وأحواله والاستغناء بها والخروج عن ربقة العبودية إلى دعوى ما ليس له وكيف يدعي مع الله حالا أو ملكة أو مقاما من قلبه وإرادته وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكه لا يملك هو منها شيئا وإنما هي بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء فالإيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد ومتى انحل من القلب انحل نظام التوحيد فسبحان من لا يوصل إليه إلا به ولا يطاع إلا بمشيئته ولا ينال ما عنده من الكرامة إلا بطاعته ولا سبيل إلى طاعته

إلا بتوفيقه ومعونته فعاد الأمر كله إليه كما ابتدأ الأمر كله منه فهو الأول والآخر وإن إلى ربك المنتهى
ومن وصل إلى هذا الحال وقع في يد التقطع والتجريد وأشرف على مقام التوحيد الخاصي فإن التوحيد نوعان عامي وخاصي كما أن الصلاة نوعان والذكر نوعان وسائر القرب كذلك خاصية وعامية فالخاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده بحيث يوقعها على أحسن الوجوه وأكملها والعامية ما لم يكن كذلك فالمسلمون كلهم مشتركون في إتيانهم بشهادة أن لا إله إلا الله وتفاوتهم في معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطنا وظاهرا أمر لا يحصيه إلا الله عز و جل
وقد ظن كثير من الصوفية أن التوحيد الخاص أن يشهد العبد المحرك له ويغيب عن المتحرك وعن الحركة فيغيب بشهوده عن حركته ويشهد نفسه شبحا فانيا يجري على تصاريف المشيئة كمن غرق في البحر فأمواجه ترفعه طورا وتخفضه طورا فهو غائب بها عن ملاحظة حركته في نفسه بل قد اندرجت حركته ضمن حركة الموج وكأنه لا حركة له بالحقيقة وهذا وإن ظنه كثير من القوم غاية وظنه بعضهم لازما من لوازم التوحيد فالصواب أن من ورائه ما هو أجل منه وغاية هذا الفناء في توحيد الربوبية وهو أن لا يشهد ربا وخالقا ومدبرا إلا الله وهذا هو الحق ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفي في النجاة فضلا عن أن يكون شهوده والفناء فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم فالغاية التي لا غاية وراءها ولا نهاية بعدها الفناء في توحيد الإلهية وهو أن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه وبتألهه عن تأله ما سواه وبالشوق إليه وإلى لقائه عن الشوق إلى ما سواه وبالذل له والفقر إليه من جهة كونه معبوده وإلهه ومحبوبه عن الذل إلى كل ما سواه وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه فيرى أنه ليس في الوجود ما يصلح له ذلك إلا الله ثم يتصف بذلك حالا وينصبغ به قلبه صبغة ثم

يفنى بذلك عما سواه فهذا هو التوحيد الخاصي الذي شمر إليه العارفون والورد الصافي الذي حام حوله المحبون ومتى وصل إليه العبد صار في يد التقطع والتجريد واشتمل بلباس الفقر الحقيقي وفرق حب الله من قلب كل محبة وخوفه كل خوف ورجاءه كل رجاء فصار حبه وخوفه ورجاؤه وذله وإيثاره وإرادته ومعاملته كل ذلك واحد لواحد فلم ينقسم طلبه ولا مطلوبه فتعدد المطلوب وانقسامه قادح في التوحيد والإخلاص وانقسام الطلب قادح في الصدق والإرادة فلا بد من توحيد الطلب والإرادة وتوحيد المطلوب المراد فإذا غاب بمحبوبه عن حب غيره وبمذكوره عن ذكر غيره وبمألوهه عن تأله غيره صار من أهل التوحيد الخاصي وصاحبه مجرد عن ملاحظة سوى محبوبه أو إيثاره أو معاملته أو خوفه أو رجائه وصاحب توحيد الربوبية في قيد التجريد عن ملاحظة فاعل غير الله وهو مجرد عن ملاحظة وجوده وهو كما كان صاحب الدرجة الأولى مجردا عن أمواله وصاحب الثانية مجردا عن أعماله وأحواله فصاحب الفناء في توحيد الإلهية مجرد عن سوى مراضي بمحبوبه وأوامره قد فني بحبه وابتغاء مرضاته عن حب غيره وابتغاء مرضاته وهذا هو التجريد الذي سمت إليه همم السالكين فمن تجرد عن ماله وحاله وكسبه وعمله ثم تجرد عن شهود تجريده فهو المجرد عندهم حقا وهذا تجريد القوم الذي عليه يحومون وإياه يقصدون ونهايته عندهم التجريد بفناء وجوده وبقاؤه بموجوده بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل ولا غاية عندهم وراء هذا ولعمر الله إن وراءه تجريد أكمل منه ونسبته إليه كتفلة في بحر وشعرة في ظهر بعير وهو تجريد الحب والإرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ فيتوحد حبه كما توحد محبوبه ويتجرد عن مراده من محبوبه بمراد محبوبه منه بل يبقى مراد محبوبه هو من نفس مراده وهنا يعقل الاتحاد الصحيح وهو اتحاد المراد فيكون عين مراد المحبوب هو عين مراد الحب وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية ولا تتجرد المحبة عن العلل والحظوظ التي

تفسدها إلا بهذا فالفرق بين محبة حظك ومرادك من المحبوب وأنك إنما تحبه لذلك وبين محبة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته أنه أهل أن يحب وأما الاتحاد في الإرادة فمحال كما أن الاتحاد في المريد محال فالإرادتان متباينتان وأما مراد المحب والمحبوب إذا خلصت المحبة من العلل والحظوظ فواحد فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد وقد جعله صاحب منازل السائرين من قسم النهايات وحده بأنه الانخلاع عن شهود الشواهد وجعله على ثلاث درجات الدرجة الأولى تجريد الكشف عن كسب اليقين والثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم والثالثة تجريد الخلاص من شهود التجريد
فقوله في الأولى تجريد الكشف عن كسب اليقين يريد كشف الإيمان ومكافحته للقلب وهذا وإن حصل باكتساب اليقين من أدلته وبراهينه فالتجريد أن يشهد سبق الله بمنته لكل سبب ينال به اليقين أو الإيمان فيجرد كشفه لذلك عن ملاحظة سبب أو وسيلة بل يقطع الأسباب والوسائل وينتهي نظره إلى المسبب وهذه إن أريد تجريدها عن كونها أسبابا فتجريد باطل وصاحبه ضال وإن أريد تجريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتسابها إليه وصيرورتها عنوان اليقين إنما كان به وحده فهذا تجريد صحيح ولكن على صاحبه إثبات الأسباب فإن نفاها عن كونها أسبابا فسد تجريده
وقوله في الدرجة الثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم لما كانت الدرجة الأولى تجريدا عن الكسب وانتهاء إلى عين الجمع الذي هو الغيبة بتفرد الرب بالحكم عن إثبات وسيلة أو سبب اقتضت تجريدا آخر أكمل من الأول وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به فالأولى تجريد عن رؤية السبب والفعل والثانية تجريد عن العلم والإدراك وهذا يقتضي

أيضا تجريدا ثالثا أكمل من الثاني وهو تجريد التخلص من شهود التجريد وصاحب هذا التجريد الثالث في عين الجمع قد اجتمعت همته على الحق وشغل به عن ملاحظة جمعه وذكره وعلمه به قد استغرق ذلك قلبه فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به فلا التفات له إلى تجريده ولو بقي له التفات إليه لم يكمل تجريده ووراء هذا كله تجريد نسبة هذا التجريد إليه كشعرة من ظهر بعير إلى جملته وهو تجريد الحب والإرادة عن تعلقه بالسوى وتجريده عن العلل والشوائب والحظوظ التي هي مراد النفس فيتجرد الطلب والحب عن كل تعلق يخالف مراد المحبوب فهذا تجريد الحنيفية والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به


فصل في تقسيم الغنى إلى عال وسافل ولما كان الفقر إلى الله سبحانه هو عين الغنى به فأفقر الناس إلى الله أغناهم به وأذلهم له وأعزهم وأضعفهم بين يديه أقواهم وأجهلهم عند نفسه أعلمهم بالله وأمقتهم لنفسه أقربهم إلى مرضاة الله كان ذكر الغنى بالله مع الفقر إليه متلازمين متناسبين فنذكر فصلا نافعا في الغنى العالي واعلم أن الغنى على الحقيقة لا يكون إلا بالله الغني بذاته عن كل ما سواه وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع وكما أن كونه مخلوقا أمر ذاتي له فكونه فقيرا أمر ذاتي له كما تقدم بيانه وغناه أمر نسبي إضافي عارض له فإنه إنما استغنى بأمر خارج عن ذاته فهو غني به فقير إليه ولا يوصف بالغنى على الإطلاق إلا من غناه من لوازم ذاته فهو الغني بذاته عما سواه وهو الأحد الصمد الغني الحميد
والغنى قسمان غنى سافل وغنى عال فالغنى السافل الغني بالعواري المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وهذا أضعف الغنى فإنه غنى بظل زائل وعارية ترجع عن قريب إلى أربابها فإذا الفقر بأجمعه بعد ذهابها وكأن الغنى بها كان حلما فانقضى ولا همة أضعف من همة من

رضي بهذا الغنى الذي هو ظل زائل وهذا غنى أرباب الدنيا الذي فيه يتنافسون وإياه يطلبون وحوله يحومون ولا أحب إلى الشيطان وأبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده قال بعض السلف إذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أشياء مؤمن قتل مؤمنا ورجل يموت على الكفر وقلب فيه خوف الفقر وهذا الغنى محفوف بفقرين فقر قبله وفقر بعده وهو كالغفوة بينهما فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه بل إذا حصل له جعله سببا لغناه الأكبر ووسيلة إليه ويجعله خادما من خدمه لا مخدوما له وتكون نفسه أعز عليه من أن يعبدها لغير مولاه الحق أو يجعلها خادمة لغيره


فصل في الغنى العالي وأما الغنى العالي فقال شيخ الإسلام هو على ثلاث درجات الدرجة الأولى غنى القلب وهو سلامته من السبب ومسالمته للحكم وخلاصه من الخصومة والدرجة الثانية غنى النفس وهو استقامتها على المرغوب وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة والدرجة الثالثة الغنى بالحق وهو ثلاث مراتب الأولى شهود ذكره إياك والثانية دوام مطالعة أوليته والثالثة الفوز بوجوده
قلت ثبت عن النبي أنه قال ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس
ومتى استغنت النفس استغنى القلب ولكن الشيخ قسم الغنى إلى هذه الدرجات بحسب متعلقه فقال غنى القلب سلامته من السبب ومسالمته للحكم وخلاصه من الخصومة ومعلوم أن هذا شرط في الغنى لا أنه

نفس الغنى بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب لا أن غناه بها نفسها وإنما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط كما سيأتي بيانه إن شاء الله فالغني إنما يصير غنيا بحصول ما يسد فاقته ويدفع حاجته وفي القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إلا فوزه بحصول الغنى الحميد الذي إن حصل للعبد حصل له كل شيء وإن فاته فاته كل شيء فكما أنه سبحانه الغني على الحقيقة ولا غني سواه فالغني به هو الغني في الحقيقة ولا غنى بغيره ألبتة فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح والله المستعان
وإنما قدم شيخ الإسلام الكلام على غنى القلب على الكلام على غنى النفس لأن كمال صلاح النفس غناها بالاستقامة من جميع الوجوه وبلوغها إلى درجة الطمأنينة لا يكون إلا بعد صلاح القلب وصلاح النفس متقدم على إصلاحها هكذا قيل وفيه ما فيه لأن صلاح كل واحد منهما مقارن لصلاح الآخر ولكن لما كان القلب هو الملك وكان صلاحه صلاح جميع رعيته كان أولى بالتقديم
وقد قال النبي إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد إلا وهي القلب / ح /

والقلب إذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية خلع على الأمراء والرعية خلعا تناسبها فخلع على النفس خلع الطمأنينة والسكينة والرضا والإخبات فأدت الحقوق سمحة لا كظما بانشراح ورضا ومبادرة وذلك لأنها جانست القلب حينئذ ووافقته في أكثر أموره واتحد مرادهما غالبا فصارت له وزير صدق بعد أن كانت عدوا مبارزا بالعداوة فلا تسأل عما أحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أهل الجنة هذا ولم تضع الحرب أوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار لولا قدرة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح فالمرابطة على ثغري الظاهر والباطن فرض متعين مدة أنفاس الحياة
وتنقضي الحرب محمودا عواقبها ... للصابري وحظ الهارب الندم
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار وعلى الوجه خلعة المهابة والنور والبهاء وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة وعلى العين خلعة الاعتبار في النظر والغض عن المحارم وعلى الأذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعه للعبد في معاشه ومعاده وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش في الطاعات أين كانت بقوة وأيد وعلى الفرج خلعة العفة والحفظ فغدا العبد وراح يرفل في هذه الخلع ويجر لها في الناس أذيالا وأردانا فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه فإذا استغنى سرى الغنى منه إلى النفس وغنى القلب ما يناسبه من تحقيقه بالعبودية المحضة التي هي أعظم خلعة تخلع عليه فيستغني حينئذ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصةوالمحبة الناصحة الخالصة وبما يحصل له من آثار الصفات المقدسة وما تقتضيه من الأحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفة على الانفراد ومجموعها قائمة بالذات وهذا أمر تضيق عن شرحه عدة أسفار بل حظ العبد منه علما وإرادة كما يدخل إصبعه في اليم بل الأمر أعظم من ذلك والله سبحانه

أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذي هو غاية فقره استغنت النفس غنى يناسبها وذهبت عنها البرودة التي توجب ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها في الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى وصارت برودتها في شهواتها وحظوظها ورعوناتها وذهبت عنها أيضا اليبوسة المضادة للينها وسرعة انفعالها وقبولها فإنها إذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال بعيدة القبول لا تكاد تنقاد فإذا صارت يبوستها حرارة وبرودتها رطوبة وسقيت بماء الحياة الذي أنزله الله عز و جل على قلوب أنبيائه وجعلها قرارا ومعينا له ففاض منها على قلوب أتباعهم فأنبتت من كل زوج كريم فحينئذ انقادت بزمام المحبة إلى مولاها الحق مؤدية لحقوقه قائمة بأوامره راضية عنه مرضية له بكمال طمأنينتها يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فلنرجع إلى كلامه
فقوله في الدرجة الأولى وهي غنى القلب إنه سلامته من السبب أي من الفقر إلى السبب وشهوده والاعتماد عليه والركون إليه والثقة به فمن كان معتمدا على سبب غناه واثقا به لم يطلق عليه اسم الغنى لأنه فقير إلى الوسائط بل لا يسمى صاحبه غنيا إلا إذا سلم من علة السبب استغناء بالمسبب بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره فلذلك يصير صاحبه غنيا بتدبير الله سبحانه فمن كملت له السلامة من علة الأسباب ومن علة المنازعة للحكم بالاستسلام له والمسالمة أي بالانقياد لحكمه حصل الغنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته

فإذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناء بمجرد هذا الوقوف وإن لم ينضم إليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له فإن المنازعة للحكم إلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إلى ذلك الشيء المختار ومن كان فقيرا إلى شيء لم يرده الله لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله فلا يتم الغنى بتدبير الله سبحانه لعبده إلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره
ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من منازعة الرب سبحانه فإن منازعة الخلق دليل على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة ومن كان فقيرا إلى حظ من الحظوظ يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه لا يطلق عليه اسم الغني حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إلى وليه وقيومه ومتولي تدبيره فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب ومن علة منازعته لأحكام الله سبحانه ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ استحق أن يكون غنيا بتدبير مولاه مفوضا إليه لا يفتقر قلبه إلى غيره ولا يسخط شيئا من أحكامه ولا يخاصم عباده إلا في حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله ومحاكمته إلى الله كما كان النبي يقول في استفتاح صلاة الليل اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت

فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إلى أمر الله وشرعه لا إلى شيء سواه فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه وقد قالت عائشة ما انتقم رسول الله لنفسه قط
وهذا لتكميل عبوديته ومن حاكم خصمه إلى غير الله ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت وقد أمر أن يكفر به ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك في نفس الأمر والحكم نوعان حكم كوني قدري وحكم أمري ديني فهذا الذي ذكره الشيخ في منازل السائرين وشرحه عليه الشارحون إنما مراده به الحكم الكوني القدري وحينئذ فلا بد من تفصيل ما أجملوه من مسالمة الحكم والاستسلام له وترك المناعة له فإن هذا الإطلاق غير مأمور به ولا ممكن للعبد في نفسه بل الأحكام ثلاثة حكم شرعي ديني فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة بل بالانقياد المحض وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد ولا يرى إلى خلافه سبيلا البتة وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارا وتصديقا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذا وعملا فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأمر فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات بل اندرج خلاقه تحت الأمر واضمحل خوضه في معرفته بالحق فاطمأن إلى الله معرفة به ومحبة له وعلما بأمر

وإرادة لمرضاته فهذا حق الحكم الديني الحكم الثاني الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة بل ينازع بالحكم الكوني أيضا فينازع حكم الحق بالحق للحق فيدافع به وله كما قال شيخ العارفين في وقته عبدالقادر الجيلي الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا وأنا انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق والعارف من يكون منازعا للقدر لا واقفا مع القدر اه
فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه فتأمل قول عمر بن الخطاب وقد عوتب على فراه من الطاعون فقيل له أتفر من قدر الله فقال نفر من قدر الله إلى قدره

ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه فإنه إذا جاءه قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته ودفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس فقد دفع قدر الله بقدره وهكذا إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفىء قدر الله بقدر الله وما خرج في ذلك عن قدر الله وهكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه فإن غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك فيكون قد دفع القدر بالقدر ونازع الحكم بالحكم وبهذا أمر هذا حقيقةالشرع والقدر ومن لم يستبصر فيه هذه المسألة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبى فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه ولو أن عدوا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله وهو الجهاد باليد أو المال في العبودية اللهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة والمنازعة وخرج الأمر عن يده فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه وعدله في قضائه وحكمته في جريانه عليه وأن

ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وإن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم الحكيم جل جلاله وصفته الحكمة وأن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى فله عليه أكمل حمد وأتمه كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره وإن كان حظ العبد من هذا القدر الذم فحق الرب تعالى منه الحمد والمدح لأنه موجب كماله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى وهو موجب نقص العبد وجهله وظلمه وتفريطه فاقتسم الرب والعبد الحظين في هذا القدر وكان للرب سبحانه فيه الحمد والنعمة والفضل والثناء الحسن والعبد حظه الذم واللوم والإساءة واستحقاق العقوبة
استأثر الله بالمحامد والف ... ضل وولي الملامة الرجلا
ويتبين هذا المقام في أربع آيات إحداها قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله ومن أصابك من سيئة فمن نفسك
والثانية قوله أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير
والثالثة قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير

والرابعة قوله تعالى وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور
فمن نزل هذه الآيات على هذا الحكم علما ومعرفة وقام بموجبها إرادة وعزما وتوبة واستغفارا فقد أدى عبودية الله في هذا الحكم وهذا قدر زائد على مجرد التسليم والمسالمة والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله


فصل في تفسير غنى النفس قوله في غنى النفس أنه استقامتها على المرغوب وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة يريد استقامتها على الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه وتجنبها لمناهيه التي يسخطها ويبغضها وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله سبحانه وأمره وإيمانا به واحتسابا لثوابه وخشية من عقابه لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم وهربا من ذمهم وازدرائهم وطلبا للجاه والمنزلة عندهم فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله والبعد عنه وأنه أفقر شيء إلى المخلوق فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعا واختيارا ومحبة وإيمانا واحتسابا بحيث تصير لذتها وراحتها ونعيمها وسرورها في القيام بعبوديته كما كان النبي يقول يا بلال أرحنا بالصلاة وقال حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة فقرة العين فوق المحبة فجعل النساء والطيب مما يحبه وأخبر أن قرة العين التي يطمئن القلب بالوصول إليها

ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو في الصلاة التي هي صلة الله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه فكيف لا تكون قرة العين وكيف تقر عين المحب بسواها فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة وإنما تصير مطمئنة بعد تبدل صفاتها وانقلاب طبعها لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق سبحانه فجرى أثر ذلك النور في سمعه ونثره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله وأحاط بجهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه وصارت ذاته نورا وصار عمله نورا وقوله نورا ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر
وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات فكل منهما موجب للآخر وترك الأوامر أقوى لها من افتقارها إلى الشهوات فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة كما قال تعالى إن الصلواة تنهى عن الفحشاء والمنكر وقال تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا وفي القراءة الأخرى

يدفع فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه وإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما إغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى فاستقم كما أمرت وقال سبحانه إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون


فصل فيما يغني القلب ويسد الفاقة وهذه الاستقامة ترقيها إلى الدرجة الثالثة من الغنى وهو الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه وهي أعلى درجات الغنى فأول هذه الدرجة أن تشهد ذكر الله عز و جل إياك قبل ذكرك له وأنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداء قبل وجودك وطاعتك وذكرك فقدر خلقك ورزقك وعملك وإحسانه إليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئا البتة وذكرك تعالى بالإسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله قال تعالى هو سماكم المسلمين من قبل فجعلك أهلا لما لم تكن أهلا له قط وإنما هو الذي أهلك بسابق ذكره فلولا ذكره لك بكل جميل أولاكه لم يكن لك إليه سبيل ومن الذي ذكرك باليقظة حتى استيقظت وغيرك في رقدة الغفلة مع النوام ومن الذي ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها وأوقعها في قلبك وبعث دواعيك وأحيى عزماتك الصادقة عليها حتى ثبت إليه وأقبلت عليه فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها ومن الذي ذكرك سواه بمحبته حتى هاجبت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها وعمر قلبك بمحبته بعد طول الخراب وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إليك أولا حتى تقربت إليه ثم أثابك على

هذا التقرب تقربا آخر فصار التقرب منك محفوفا بتقربين منه تعالى تقرب قبله وتقرب بعده والحب منك محفوفا بحبين منه حب قبله وحب بعده والذكر منك محفوفا بذكرين ذكر قبله وذكر بعده فلولا سابق ذكره إياك لم يكن من ذلك كله شيء ولا وصل إلى قلبك ذرة مما وصل إليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والتقر إليه فهذه كلها آثار ذكره لك ثم إنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأنفاس فله عليك في كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك وتعرف بها إليك وتتحبب بها إليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء وإنما ذلك مجرد إحسانه وفضله وجوده إذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاء منك ولا لحاجة دعته إلى ذلك كيف وهو الغني الحميد فإذا وصل إليك أدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها فلتعظم عندك لذكره لك بها فإنه ما حقرك من ذكرك بإحسانه وابتدأك بمعروفه وتحبب إليك بنعمته هذا كله مع غناه عنك
فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له ووصل شاهده إلى قلبه شغله ذلك عما سواه وحصل لقلبه به غنى عال لا يشبهه شيء وهذا كما يحصل للمملوك الذي لا يزال أستاذه وسيده يذكره ولا ينساه فهو يحصل له بشعوره بذكر أستاذه له غنى زائد على إنعام سيده عليه وعطاياه السنية له فهذا هو غنى ذكر الله للعبد وقد قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم فهذا ذكر ثان بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأول

الذي ذكره به حتى جعله ذاكرا وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنى زائدا على إنعام ربه عليه وعطاياه له وقد ذكرنا في كتاب الكلم الطيب والعمل الصالح من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده وذكرنا قريبا من مائة فائدة تتعلق بالذكر كل فائدة منها لا نظير لها وهو كتاب عظيم النفع جدا والمقصود أن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغني قلبه ويسد فاقته وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم فإن الفقر من كل خير حاصل لهم وما يظنون أنه حاصل لهم من الغنى فهو من أكبر أسباب فقرهم

فصل في بيان الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عز و جل
الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عز و جل دوام شهود أوليته سبحانه وهذا الشهود عند أرباب السلوك أعلى مما قبله والغنى به أتم من الغنى المذكور لأنه من مبادي الغنى بالحقيقة لأن العبد إذا فتح الله لقلبه شهود أوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره وهو الإله الحق الكامل في أسمائه وصفاته الغني بذاته عما سواه الحميد بذاته قبل أن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده فهو معبود محمود حي قيوم له الملك وله الحمد في الأزل والأبد لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الجلال منعوتا بنعوت الكمال وكل شيء سواه فإنما كان به وهو سبحانه بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذي قيام كل شيء به ولا حاجة به في قيوميته إلى غيره بوجه من الوجوه فإذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فني في وجوده من لم يكن وبقي من لم يزل واضمحلت الممكنات في وجوده الأزلي الدائم بحيث صارت كالظلال التي يبسطها ويمدها ويقبضها فيستغني العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى به عن فاقاته وحاجاته وإنما كان هذا عندهم أفضل مما قبله لأن الشهود الذي قبله فيه شائبة مشيرة إلى وجود العبد وهذا الشهود الثاني سائر الموجودات كلها سوى الأول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه وصارت كأوليتها وهو العدم

فأفنتها أولية الحق سبحانه فبقي العبد محوا صرفا وعدما محضا وإن كانت انيته مشخصة مشارا إليها لكنها لما نسبت إلى أولية الحق عز و جل اضمحلت وفنيت وبقي الواحد الحق الذي لم يزل باقيا فاضمحل ما دون الحق تعالى في شهود العبد كما هو مضمحل في نفسه وشهد العبد حينئذ أن كل شيء ما سواه باطل وأن الحق المبين هو الله وحده ولا ريب أن الغنى بهذا الشهود أتم من الغنى الذي قبله وليس هذا مختصا بشهود أوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب سبحانه يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستواءه على عرشه كما أخبر به أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إليه مناجيا له مطرقا واقفا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والمصرف من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه فمراسمه نافذة فيها كما يشاء يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السموات ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال بل أحاط بذلك علمه علما

تفصيليا ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإراداته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها سواء عنده من أسر القول ومن جهر به لا يشغله جهر من جهر عن سمعه لصوت من أسر ولا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هي عنده كلها كصوت واحد كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها وتيقن أنها بمرأى منه سبحانه ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء وقائم على كل نفس وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن إليه وجزاء المسيء إليه وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين وهو مشهد الربوبية وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء وهو شهادة أن لا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال كما

أن ربوبية ما سواه كذلك فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد ويصلى له ويسجد ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله فهو المطاع وحده على الحقيقة والمألوه وحده وله الحكم وحده فكل عبودية لغيره باطلة وعناءو ضلال وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها وكل غنى لغيره فقر وضلال وكل عز بغيره ذل وصغار وكل تكثر بغيره قلة وفاقة فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره فهو الذي انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات ويستحيل أن يكون معه إله آخر فإن الإله على حقيقة هو الغني الصمد ولا حاجة به إلى أحد وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره ومن المحال أن يحصل في الوجود اثنان كذلك ولو كان في الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال كما يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل فإن استقلالهما ينافي استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون أجعل الألهة إلها واحدا مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما وأنه المنفرد بملك ذلك كله فأرسل الله تعالى يذكر بما في فطرتهم الإقرار به من توحيده وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاء وهو مشهد جامع للأسماء والصفات وحظ العباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل

جلاله فإن هذا الاسم هو الجامع ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلها إليه فيقال الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله ولا يقال الله من أسماء الرحمن قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه فإنما هو مشهد لصفة من صفاته فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية فقد تم له غناه بالإله الحق وصار من أغنى العباد ولسان حال مثل هذا يقول
غنيت بلا مال عن الناس كلهم ... وإن الغنى العالي عن الشيء لا به
فيا له من غنى ما أعظم خطره وأجل قدره تضاءلت دونه الممالك فما دونها وصارت بالنسبة إليه كالظل من الحامل له والطيف الموافي في المنام الذي يأتي به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم


فصل في بيان الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب سبحانه الفوز بوجوده هذا الغنى أعلى درجات الغنى لأن الغنى الأول والثاني كانا من آثار ذكر الله والتوجه ففاض على القلب من صدق التوجه أنوار الصفات المقدسة واستغنى القلب بذلك وجعل له أيضا أنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أيضا وأما هذا الغنى الثالث الذي هو الغنى بالحق فهو من آثار وجود الحقيقة وهو إنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إلى آثار وجود الذات وإنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد فهذا أوله وكماله عند طلوع شمسه فينقطع ضباب الوجود الفاني وتشرق شمس الوجود الباقي فينقطع لها كل ضباب وهذا عبارة عن نور يقذف في القلب يكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كشف له بالنور الذي قبله عن عظمة الصفات فإذا كان أثر من آثار صفات الذات أو صفات الأفعال يغني القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأرواح من أنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغني العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم فما لك من فقر ينقضي ومن غنى يدوم ومن عيش ألذ من المنى فلا تستعجز

نفسك عن البلوغ إلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب وإنما هي عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أن يبيعها بالدون وقد جاء في أثر إلهي يقول الله عز و جل ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء / ح / فمن طلب الله بصدق وجده ومن وجده أغناه وجوده عن كل شيء فأصبح حرا في غنى ومهابة على وجهه أنواره وضياؤه وإن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه ومن وصل إلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده ومن لم يصل إليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات وقد قال من أصبح والدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وشتت عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة وكان الله بكل خير إليه أسرع / ح / فهذا هو الفقر الحقيقي والغنى الحقيقي وإذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أكبر همه فكيف من كان الله سبحانه أكبر همه فهذا من باب التنبيه والأولى


فصل في ذكر كلمات عن أرباب الطريق في الفقر والغنى قال يحيى بن معاذ الفقر أن لا تستغني بشيء غير الله ورسمه عدم الأسباب كلها
قلت يريد عدمها في الاعتماد عليها والطمأنينة بها بل تصير عدما بالنسبة إلى سبق مسببها بالأولية وتفرده بالأزلية وسئل محمد بن عبدالله الفرغاني عن الافتقار إلى الله سبحانه والاستغناء به فقال إذا صح الافتقار إلى الله تعالى صح الاستغناء به وإذا صح الاستغناء به صح الافتقار إليه فلا يقال أيهما أكمل لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر قلت الاستغناء بالله هو عين الفقر إليه وهما عبارتان عن معنى واحد لأن كمال الغنى به هو كمال عبوديته وحقيقة العبودية كمال الافتقار إليه من كل وجه وهذا الافتقار هو عين الغنى به فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أحدهما على الآخر وإنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إليه فهي حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى غنى بالنسبة إلى فراغه عن الموجودات الفانية وفقرا بالنسبة إلى قصر همته وجمعها على الله سبحانه وتعالى

فهي همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره فسفرها عن الغير غنى وسفرها إلى الله يصير فقرا فإذا وصلت إليه استغنت به بكمال فقرها إليه إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول وإنما يكمل فقرها بهذا الوصول
وسئل رويم عن الفقر فقال إرسال النفس في أحكام الله تعالى قلت إن أراد الحكم الديني فصحيح وإن أراد الحكم الكوني القدري فلا يصح هذا الإطلاق بل لا بد فيه من التفضيل كما تقدم بيانه وإرسال النفس في أحكامه التي يسخطها ويبغضها وإرسالها في أحكامه التي يجب منازعتها ومدافعتها بأحكامه خروج عن العبودية
وقيل نعت الفقير ثلاثة أشياء حفظ سره وأداء فرضه وصيانة فقره قلت حفظ السر كتمانه صيانة له من الأغيار وغيرة عليه أن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمن عليه وأداء الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأغيار وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع
وقال إبراهيم بن أدهم طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال هو

الأمن بالله عز و جل وسئل أبو حفص بماذا ينبغي أن يقدم الفقير على ربه فقال ما ينبغي للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره وقال بعضهم إن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذرا أن يدخله فيفسد عليه فقره كما يخشى الغني الحريص من الفقر أن يدخله فيفسد عليه غناه
وقال بشر بن الحارث أفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر قلت ومن ههنا قال القائل
قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه ... فقتل خلعة ساق حبه جرعا
فقر وصبر هما ثوبان تحتهما ... قلب يرى ألفة الأعياد والجمعا
الدهر لي مأتم إن غبت يا أملي ... والعيد ما دمت لي مرأى ومستمعا
وسئل ابن الجلاء متى يستحق الفقير اسم الفقر فقال إذا لم يبق عليه بقية منه فقيل له كيف ذلك فقال إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له قلت معنى هذا أنه لا يبقى عليه بقية من نفسه فإذا كان لنفسه فليس لها بل قد اضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها وإذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون

نفسه له فهذا من الذين خسروا أنفسهم وقيل حقيقة الفقر أن لا يستغني الفقير في فقره بشيء إلا بمن إليه فقره وقال أبو حفص أحسن ما توسل به العبد إلى مولاه دوام الفقر إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال
وقال بعضهم ينبغي للفقير أن لا تسبق همته خطوته قلت يشير إلى تعلق همته بواجب وقته وأنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله وأيضا يشير إلى قصر أمله وأن همته غير متعلقة بوقت لا يحدث نفسه ببلوغه وأيضا يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت ولا يضعفها بتقسيمها على الأوقات
وقيل أقل ما يلزم الفقير في فقره أربعة أشياء علم يسوسه وورع يحجزه ويقين يحمله وذكر يؤنسه
وقال أبو سهل الخشاب لمنصور المغربي إنما هو فقر وذل فقال منصور بل فقر وعز فقال أبو سهل فقر وثرى فقال منصور بل فقر وعرش قلت أشار أبو سهل إلى البداية ومنصور إلى الغاية وقال الجنيد إذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه فقلت يا أبا القاسم كيف يكون فقير يوحشه العلم فقال نعم الفقير إذا كان صادقا في فقره فطرحت عليه العلم ذاب كما يذوب الرصاص في النار
وقال المظفر القرميسيني الفقير هو الذي لا يكون له إلى الله حاجة

قال أبو القاسم القشيري وهذا اللفظ فيه أدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم وإنما أشار قائله إلى سقوط المطالبات وانتفاء الاختيارات والرضى بما يجريه الحق سبحانه قلت وبعد فهو كلام مستدرك خطأ فإن حاجات هذا العبد إلى الله بعدد الأنفاس إذ حاجاته ليست كحاجات غيره من أصحاب الحظوظ والأقسام بل حاجات هؤلاء في حاجة هذا العبد كتفلة في بحر فإن حاجته إلى الله في كل طرفة عين أن يحفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه في مقامات العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأوقاتها ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها ويجتنبها فأي حاجات أكثر وأعظم من هذه فالصواب أن يقال الفقير هو الذي حاجاته إلى الله بعدد أنفاسه أو أكثر فالعبد له في كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إلى الله لا يشعر بكثير منها فأفقر الناس إلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها وإن كان لا بد من إطلاق تلك العبارة على أن منها كل بد فيقال هو الذي لا حاجة له إلى الله تخالف مرضاته وتحطه عن مقام العبودية إلى منزلة الاستغناء وأما أن يقال لا حاجة له إلى الله فشطح قبيح وأما حمل أبي القاسم لكلامه على إسقاط المطالبات وانتفاء الاختيار والرضى بمجاري الأقدار فإنما يحسن في بعض الحالات وهو في القدر الذي يجري عليه بغير اختياره ولا يكون مأمورا بدفعه ومنازعته بقدر آخر كما تقدم وأما إذا كان مأمورا بدفعه ومنازعته بقدر هو أحب إلى الله منه وهو مأمور به أمر إيجاب أو استحباب فإسقاط

المطالبات وانتفاء الاختيار فيه والسعي عين العجز والله سبحانه يلوم على العجز
وقال ابن خفيف الفقر عدم الأملاك والخروج عن أحكام الصفات قلت يريد عدم إضافة شيء إليه إضافة ملك وأن يخرج عن أحكام صفات نفسه ويبدلها بأحكام صفات مالكه وسيده مثاله أن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التي توجب له دعوى الملك والتصرف والإضافات ويبقى بأحكام صفة القدرة الأزلية التي توجب له العجز والفقر والفاقة كما في دعاء الاستخارة اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب فهذا اتصاف بأحكام الصفات العلى في العبد وخروج عن أحكام صفات النفس
وقال أبو حفص لا يصح لأحد الفقر حتى يكون العطاء أحب إليه من الأخذ وليس السخاء أن يعطي الواجد المعدم وإنما السخاء أن يعطي المعدم الواجد وقال بعضهم الفقير الذي لا يرى لنفسه حاجة إلى شيء من الأشياء سوى ربه تبارك وتعالى وسئل سهل بن عبدالله متى يستريح الفقير فقال إذا لم ير لنفسه غيرالوقت الذي هو فيه وقال أبو بكر بن

طاهر من حكم الفقير أن لا يكون له رغبة وإن كان لا بد فلا تجاوز رغبته كفايته وسئل بعضهم عن الفقير الصادق فقال الذي لا يملك ولا يملك وقال ذو النون دوام الفقر إلى الله مع التخليط أحب إلي من دوام الصفاء مع العجب والله أعلم


فصل في تحقيق نعت الفقير فجملة نعت الفقير حقا أنه المتخلي من الدنيا تطرفا والمتجافي عنها تعففا لا يستغني بها تكثرا ولا يستكثر منها تملكا وإن كان مالكا لها بهذا الشرط لم تضره بل هو فقير غناه في فقره وغني فقره في غناه ومن نعته أيضا أن يكون فقيرا من حاله وهو خروجه عن الحال تبريا وترك الالتفات إليه تسليا وترك مساكنة الأحوال والرجوع عن موافقتها فلا يستغني بها اعتمادا عليها ولا يفتقر إليها مساكنة لها ومن نعته أنه يعمل على موافقة الله في الصبر والرضى والتوكل والإنابة فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه وهو تحصيل مراده من الله فالفقير خلص بكليته لله سبحانه ليس لنفسه ولا لهواه في أحواله حظ ونصيب بل عمله بقيام شاهد الحق وفناء شاهد نفسه قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه فهو يريد الله بمراد الله فمعوله على الله وهمته لا تقف دون شيء سواه قد فني بحبه عن حب ما سواه وبأمره عن هواه وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه فهو في واد والناس في واد خاضع متواضع سليم القلب سلس القياد للحق سريع القلب إلى ذكر الله بريء من الدعاوى لا يدعي بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله زاهد في كل ما سوى الله راغب في كل ما يقرب إلى الله قريب من الناس أبعد شيء منهم يأنس بما يستوحشون منه ويستوحش مما يأنسون به منفرد في طريق طلبه لا تقيده الرسوم ولا تملكه الفوائد ولا يفرح بموجود لا يأسف على مفقود من جالسه قرت عينه به

ومن رآه ذكرته رؤيته بالله سبحانه قد حمل كله ومؤنته على الناس واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم وبذل لهم نصيحته وسبل لهم عرضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز لا يدخل فيما لا يعنيه ولا يبخل بما لا ينقصه وصفه الصدق والعفة والإيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال لا يتوقع لما يبذله للناس عوضا منهم ولا مدحة لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أحد حقا ولا يرى له على أحد فضلا مقبل على شأنه مكرم لإخوانه بخيل بزمانه حافظ للسانه مسافر في ليله ونهاره ويقظته ومنامه لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إلى مطلبه قد رفع له علم الحب فشمر إليه وناداه داعي الاشتياق فأقبل بكليته عليه أجاب منادي المحبة إذ دعاه حي على الفلاح ووصل السرى في بيداء الطلب فحمد عند الوصول سراه وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح
فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وحي على روضاتها وخيامها ... وحي على عيش بها ليس يسأم
وحي على يوم المزيد وموعد ال ... / محبين طوبى للذي هو منهم
وحي على واد بها هو أفيح ... وتربته من أذفر المسك أعظم
ومن حولها كثبان مسك مقاعد ... لمن دونهم هذا الفخار المعظم
يرون به الرحمن جل جلاله ... كرؤية بدر التم لا يتوهم
أو الشمس صحوا ليس من دون أفقها ... ضباب ولا غيم هناك يغيم
وبينا هم في عيشهم وسرورهم ... وأرزاقهم تجري عليهم وتقسم
إذا هم بنور ساطع قد بدا لهم ... فقيل ارفعوا أبصاركم فإذا هم
بربهم من فوقهم وهو قائل ... سلام عليكم طبتم وسلمتم
فيا عجبا ما عذر من هو مؤمن ... بهذا ولا يسعى له ويقدم

فبادر إذا ما دام في العمر فسحة ... وعدلك مقبول وصرفك قيم
فما فرحت بالوصل نفس مهينة ... ولا فاز قلب بالبطالة ينعم
فجد وسارع واغتنم ساعة السرى ... ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم
وسر مسرعا فالسير خلفك مسرع ... وهيهات ما منه مفر ومهزم
فهن المنايا أي واد نزلته ... عليها قدوم أو عليك ستقدم
وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك ال ... معنى رهين في يديها مسلم
وقد ساعدت بالوصل غيرك فالهوى ... لها منك والواشي بها يتنعم
فدعها وسل النفس عنها بجنة ... من الفقر في روضاتها الدر يبسم
ومن تحتها الأنهار تخفق دائما ... وطير الأماني فوقها يترنم
وقد ذللت منها القطوف فمن يرد ... جناها ينله كيف شاء وينعم
وقد فتحت أبوابها داعي الهدى ... هلموا إلى دار السعادة تغنموا
وقد طاب منها نزلهاومقيلها ... فطوبى لمن حلوا بها وتنعموا
وقد غرس الرحمن فيها غراسه ... من الناس والرحمن بالغرس أعلم
فمن كان من غرس الإله فإنه ... سعيد وإلا فالشقا متحتم
فيا مسرعين السير بالله ربكم ... قفوا بي على تلك الربوع وسلموا
وقولوا محب قاده الشوق نحوكم ... قضى نحبه فيكم تعيشوا وتسلموا
قضى الله رب العالمين قضية ... بأن الهوى يعمي القلوب ويبكم
وحبكم أصل الهدى ومداره ... عليه وفوز للمحب ومغنم
وتفنى عظام الصب بعد مماته ... وأشواق وقف عليه محرم
فيا أيها القلب الذي ملك الهوى ... أعنته حتام هذا التلوم
وحتام لا تصحو وقد قرب المدى ... ودقت كؤوس السير والناس نوم
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا ... ويبدو لك الأمر الذي كنت تكتم
ويا موقدا نارا لغيرك ضوؤها ... وحر لظاها بين جنبيك يضرم
أهذا جنى العلم الذي قد غرسته ... وهذا الذي قد كنت ترجوه تطعم
وهذا هو الحظ الذي قد رضيته ... لنفسك في الدارين لو كنت تفهم

وهذا هو الربح الذي قد كسبته ... لعمرك لا ربح ولا الأصل يسلم
بخلت بشيء لا يضرك بذله ... وجدت بشيء مثله لا يقوم
وبعت نعيما لا انقضاء له ولا ... نظير ببخس عن قليل سيعدم
فهلا عكست الأمر إن كنت حازما ... ولكن أضعت الحزم إن كنت تعلم
وتهدم ما تبني بكفك جاهدا ... فأنت مدى الأيام تبني وتهدم
وعند مراد الحق تفنى كميت ... وعند مراد النفس تسدى وتلحم
وعند خلاف الأمر تحتج بالقضا ... ظهيرا على الرحمن للجبر تزهم
تنزه تلك النفس عن سوء فعلها ... وتغتاب أقدار الإله وتظلم
وتزعم مع هذا بأنك عارف ... كذبت يقينا في الذي أنت تزعم
وما أنت إلا جاهل ثم ظالم ... وإنك بين الجاهلين مقدم
إذا كان هذا نصح عبد لنفسه ... فمن ذا الذي منه الهدى يتعلم
وفي مثل هذا كان قد قال من مضى ... وأحسن فيما قاله المتكلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ولو تبصر الدنيا وراء ستورها ... رأيت خيالا في منام سيصرم
كحلم بطيف زار في النوم وانقضى ال ... منام وراح الطيف والصب مغرم
وظل أرته الشمس عند طلوعها ... سيقلص في وقت الزوال ويفصم
ومزنة صيف طاب منها مقيلها ... فولت سريعا والحرور تضرم
فجزها ممرا لا مقرا وكن بها ... غريبا تعش فيها حميدا وتسلم
أو ابن سبيل قال في ظل دوحة ... وراح وخلى ظلها يتقسم
أخا سفر لا يستقر قراره ... إلى أن يرى أوطانه ويسلم
فيا عجبا كم مصرع عطبوا به ... بنوها ولكن عن مصارعها عموا
سقتهم بكأس الحب حتى إذا انثنوا ... سقتهم كؤوس السم والقوم قد ظموا

واعجب ما في العبد رؤية هذه ال ... عظائم منها وهو فيها متيم
وأعجب من ذا أن أحبابها الألى ... تهين وللأعدا تراعي وتكرم
وذلك برهان على أن قدرها ... جناح بعوض أو أدق وألأم
وحسبك ما قال الرسول ممثلا ... لها ولدار الخلد والحق يفهم
كما يدخل الإنسان في اليم إصبعا ... وينزعها منه فما ذاك يغنم
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... على حذر منها وأمري محكم
وهل أردن ماء الحياة وأرتوي ... على ظمأ من حوضه وهو مفعم
وهل تبدون أعلامهم بعدما سفت ... عليها السوافي تستبين وتعلم
وهل أفرشن خدي ثرى عتباتهم ... خضوعا لهم كيما يرقوا ويرحموا
وهل أرين نفسي طريحا ببابهم ... وطير أماني الحب فوقي تحوم
فواأسفي تفنى الحياة وتنقضي ... وعتبكم باق بقيتم وعشتم
فما منكم بد ولا عنكم غنى ... ومالي من صبر فأسلو عنكم
فمن شاء فليغضب سواكم فلا أذى ... إذا كنتم عن عبدكم قد رضيتم
وعقبى اصطباري في رضاكم هوى ... لكم حميد ولكنه عقاب ومغرم
وما أنا بالشاكي لما ترتضونه ... ولكنني أرضى به وأسلم
وحسبي انتسابي من بعيد إليكم ... وذلك حظ مثله يتيمم
إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم ... تهلل بشرا ضاحكا يتبسم
وها هو قد أبدى الضراعة قائلا ... لكم بلسان الحال والحال يعلم
أحببتنا عطفا علينا فإننا ... بنا ظمأ والمورد العذب أنتم
فيا ساهيا في غمرة الجهل والهوى ... صريع الأماني عن قليل ستندم
أفق قد دنا الوقت الذي ليس بعده ... سوى جنة أو حر نار تضرم
وبالسنة الغراء كن متمسكا ... هي العروة الوثقى التي ليس تفصم
تمسك بها مسك البخيل بماله ... وعض عليها بالنواجذ تسلم

وإياك مما أحدث الناس بعدها ... فمرتع هاتيك الحوادث أوخم
وهيء جوابا عندما تسمع الندا ... من الله يوم العرض ماذا أجبتم
به رسلي لما أتوكم فمن يجب ... سواهم سيخزى عند ذاك ويندم
وخذ من تقى الرحمن أسبغ جنة ... ليوم به تبدو عيانا جهنم
وينصب ذاك الجسر من فوق متنها ... فهاو ومخدوش وناج مسلم
ويأتي إله العالمين لوعده ... فيفصل ما بين العباد ويحكم
ويأخذ للمظلوم إذ ذاك حقه ... فيا ويح من قد كان للخلق يظلم
وينشر ديوان الحساب وتوضع ال ... موازين بالقسط الذي ليس يظلم
فلا مجرم يخشى هناك ظلامة ... ولا محسن من أجره الذر يهضم
وتشهد أعضاء المسيىء بما جنى ... لذاك على فيه المهيمن يختم
ويا ليت شعري كيف حالك عندما ... تطاير كتب العالمين وتقسم
أتأخذ باليمنى كتابك أم ترى ... بيسراك خلف الظهر منك يسلم
وتقرأفيه كل شيء عملته ... فيشرق منك الوجه أو هو يظلم
تقول كتابي هاؤم اقرؤوه لي ... تبشر بالجنات حقا وتعلم
وإن تكن الأخرى فإنك قائل ... ألا ليتني لم أوته فهو مغرم
فلا والذي شق القلوب وأودع ال ... محبة فيها حيث لا تتصرم
وحملها قلب المحب وإنه ... ليضعف عن حمل القميص ويألم
وذللها حتى استكانت لصولة ال ... محبة لا تلوي ولا تتلعثم
وذلل فيها أنفسا دون ذلها ... حياض المنايا فوقها هي حوم
قد فاز أقوام وحازوا مراحبا ... بتركهم الدنيا والإقبال منهم
على ربهم طول الحياة وحبهم ... على نهج ما قد سنه فهم هم
قاعدة شريفة عظيمة القدر حاجة العبد إليها أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس بل وإلى الروح التي بين جنبيه
اعلم أن كل حي سوى الله فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما

يضره والمنفعة للحي من جنس النعيم واللذة والمضرة من جنس الألم والعذاب فلا بد من أمرين
أحدهما هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع به ويتلذذ به والثاني هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه فهاهنا أربعة أشياء أمر محبوب مطلوب الوجود والثاني أمر مكروه مطلوب العدم والثالث الوسيلة إلى حصول المحبوب والرابع الوسيلة إلى دفع المكروه فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد بل ولكل حي سوى الله لا يقوم صلاحه إلا بها إذا عرف هذا فالله سبحانه هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه وهذا معنى قول العبد إياك نعبد وإياك نستعين فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه فالأول من مقتضى ألوهيته والثاني من مقتضى ربوبيته لأن الإله هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكراما والرب هو الذي يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله ومصالحه التي بها كماله ويهديه إلى اجتناب المفاسد التي بها فساده وهلاكه وفي القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين أحدهما قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين الثاني قوله تعالى عليه توكلت وإليه أنيب الثالث قوله تعالى فاعبده وتوكل عليه الرابع قوله تعالى عليك توكلنا وإليك

أنبنا الخامس قوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده السادس قوله عليه توكلت وإليه متاب السابع قوله واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ومما يقرر هذا أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة إليهم من النظر إليه ولا شيء يعطيهم في الدنيا أحب إليهم من الإيمان به ومحبتهم له ومعرفتهم به وحاجتهم إليه في عبادتهم له وتألههم له كحاجتهم إليه بل أعظم في خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم فإن ذلك هو الغاية المقصودة التي بها سعادتهم وفوزهم وبها ولأجلها يصيرون عاملين متحركين ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة ولا سرور بدون ذلك بحال فمن أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ويحشره يوم القيامة أعمى ولهذا لا يغفر الله لمن يشرك به شيئا ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولهذا كانت لا إله إلا الله أفضل الحسنات وكان توحيد الإلهية الذي كلمته لا إله إلا الله رأس الأمر فأما توحيد الربوبية الذي أقر به كل المخلوقات فلا يكفي وحده وإن كان لا بد منه وهو حجة على من أنكر توحيد الألوهية فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم وأن يكرمهم إذا قدموا عليه وهذا كما أنه غاية محبوب العبد ومطلوبه وبه سروره ولذته ونعيمه فهو أيضا محبوب الرب من عبده ومطلوبه الذي يرضى به ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته أعظم من فرح من وجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في

أرض مهلكة بعد أن فقدها وأيس منها وهذا أعظم فرح يكون وكذلك العبد لا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأنسه به وطاعته له وإقباله عليه وطمأنينته بذكره وعمارة قلبه بمعرفته والشوق إلى لقائه فليس في الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه ومن عبد غيره وأحبه وإن حصل له نوع من اللذة والمودة والسكون إليه والفرح والسرور بوجوده ففساده به ومضرته وعطبه أعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهي الذي هو عذاب في مبدئه عذاب في نهايته كما قال قائل
مآرب كانت في الشباب لأهلها ... عذابا فصارت في المشيب عذابا
لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون فإن قوام السموات والأرض والخليقة بأن تؤله الإله الحق فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلها حقا إذ الإله الحق لا شريك له ولا سمي له ولا مثل له فلو تألهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها إذ صلاحها بتأله الإله الحق كما أنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار ويستحيل أن تستند في وجودها إلى ربين متكافئين فكذلك يستحيل أن تستند في بقائها وصلاحها إلى إلهين متساويين
إذا عرفت هذا فاعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا في محبته ولا في خوفه ولا في رجائه ولا في التوكل عليه ولا في العمل له ولا في الحلف به ولا في النذر له ولا في الخضوع له ولا في التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أعظم من حاجة الجسد إلى روحه والعين إلى نورها بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو فلا تطمئن في الدنيا إلا

بذكره وهي كادحة إليه كدحا فملاقيته ولا بد لها من لقائه ولا صلاح لها إلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإكرامه لها ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في وقت ثم يعذب ولا بد في وقت آخر وكثيرا ما يكون ذلك الذي يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأظفار التي تحكه فهي تدمي الجلد وتخرقه وتزيد في ضرره وهو يؤثر ذلك لما له في حكها من اللذة وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وألم في الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب والعاقل يوازن بين الأمرين ويؤثر أرجحهما وأنفعهما والله الموفق المعين وله الحجة البالغة كما له النعمة السابغة والمقصود أن إله العبد الذي لا بد له منه في كل حالة وكل دقيقة وكل طرفة عين وهو الإله الحق الذي كل ما سواه باطل والذي أينما كان فهو معه وضرورته وحاجته إليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة بل هي فوق كل ضرورة وأعظم من كل حاجة لهذا قال إمام الحنفاء لا أحب الأفلين والله أعلم


فصل في بيان أصلين عظيمين مبني عليهما ما تقدم وهذا مبني على أصلين أحدهما أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان وكما دل عليه القرآن لا كما يقوله من يقول إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته بل لمجرد الامتحان والابتلاء كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل أو لأجل التعويض بالأجر لما في إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إلى النبوات من الفلاسفة بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجل بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم الأرواح ولذات النفوس وبها كمال النعيم فقرة عين المحب في الصلاة والحج وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة وأما الصدقة فعجب من العجب وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم ومفارقة أوطانهم وبذل نحورهم لأعدائهم

ومحبتهم للقتل وإيثارهم له على البقاء وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم ووقوع هذا من البشر بدون أمر يذوقه قلبه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع والواقع شاهد ذلك بل ما قام بقلوبهم من اللذة والسرور والنعيم أعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله في موافقة رضى معشوقه فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقه به
فيا منكرا هذا تأخر فإنه ... حرام على الخفاش أن يبصر الشمسا
فمن كان مراده وحبه الله وحياته في معرفته ومحبته في التوجه إليه وذكره وطمأنينته به وسكونه إليه وحده عرف هذا وأقر به
الأصل الثاني كمال النعيم في الدار الآخرة أيضا به سبحانه برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه لا كما يزعم من يزعم أنه لا لذة في الآخرة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبس والمنكوح بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق تعالى أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال وفي دعاء النبي الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم في صحيحيهما أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة وفتنة مضلة / ح / ولهذا قال تعالى في حق

الكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم فعذاب الحجاب من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به أعداءه ولذة النظر إلى وجه الله الكريم أعظم أنواع اللذات التي ينعم بها أولياؤه ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم من رؤيته وسماع كلامه والدنو منه وقربه
وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنة وعليهما أهل العلم والإيمان ويتكلم فيهما مشايخ الطرق العارفون وعليهما أهل السنة والجماعة وهما من فطرة الله التي فطر الناس عليها ويحتجون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة وبالذوق والوجد تارة وبالفطرة تارة وبالقياس والأمثال تارة وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق في كتابنا الكبير في المحبة الذي سميناه المورد الصافي والظل الضافي في المحبة وأقسامها وأنواعها وأحكامها وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه ومما يوضح ذلك ويزيده تقريرا أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا منع ولا عطاء بل ربه سبحانه الذي خلقه ورزقه وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه وتحبب إليه بها مع غناه عنه ومع تبغض العبد إليه بالمعاصي مع فقره إليه فإذا مسه الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإذا أصابه بنعمة فلا راد لها ولا مانع كما قال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم و ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك

لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطي ولا يمنع إلا بإذن الله فالأمر كله لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وهو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء المتفرد بالضر والنفع والعطاء والمنع والخفض والرفع ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وهذا الوجه أعظم لعموم الناس من الوجه الأول ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول لكن من تدبر طريقة القرآن تبين له أن الله سبحانه يدعو عباده بهذا إلى الوجه الأول فهذا الوجه يقتضي التوكل على الله والاستعانة به والدعاء له ومسألته دون ما سواه ويقتضي أيضا محبته وعبادته لإحسانه إلى عبده وإسباغ نعمه عليه فإذا عبده وأحبه وتوكل عليه من هذا الوجه دخل في الوجه الأول وهكذا من نزل به بلاء عظيم وفاقة شديدة أو خوف مقلق فجعل يدعو الله ويضرع إليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته له باب الإيمان والإنابة إليه وما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا لكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه فعرفه إياه بما اقدمه له من الأسباب التي أوصلته إليه والقرآن مملوء من ذكر حاجة العبيد إلى الله دون ما سواه ومن ذكر نعمائه عليهم ومن ذكر ما وعدهم به في الآخرة من صنوف النعيم واللذات وليس عند المخلوق شيء من هذا فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه ومما يوضح ذلك ويقويه أن في تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجاته ضره أو أهلكه وكذلك من النكاح واللباس وإن أحب شيئا بحيث يخالله فلا بد أن يسأمه أو يفارقه فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد فإن فقد تعذب بالفراق وتألم وإن وجد فإنه

يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أن كل من أحب شيئا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته وعذابه أعظم من نعيمه ويزيد ذلك إيضاحا أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته فإنه يخذل من تلك الجهة وهذا أيضا معلوم بالاعتبار والاستقراء أنه ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة ولا استنصر بغيره إلا خذل قال تعالى واتخذوا من دون الله الهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال واتخذوا من دون الله الهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون
وقال عن إمام الحنفاء أنه قال للمشركين إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ولما كان غاية صلاح العبد في عبادة الله وحده واستعانته وحده كان في عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته ومما يوضح الأمر في ذلك ويبينه أن الله سبحانه غني حميد كريم رحيم فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر لا لجلب منفعة إليه سبحانه ولا لدفع مضرة بل رحمة وإحسانا وجودا محضا فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أنه غني لذاته قادر لذاته حي لذاته فإحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إلا كذلك كما أن قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إلا كذلك وأما العباد فلا يتصور أن يحسنوا إلا لحظوظهم فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه ليجلبوا

له منفعة ويدفعوا عنه مضرة وذلك من تيسير الله وإذنه لهم به فهو في الحقيقة ولي هذه النعمة ومسديها ومجريها على أيديهم ومع بهذا فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء فطلبوا لقاءهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك وكذلك من أحب إنسانا لشجاعته أو رياسته أو جماله أو كرمه فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة ولولا التذاذه بها لما أحب ذلك وإن جلبوا له منفعة أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ولو بالدعاء فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله فأجناد الملوك وعبيد المماليك وأجراء المستأجر وأعوان الرئيس كلهم إنما يسعون في نيل أغراضهم به لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم إلا أن يكون قد علم وهذب من جهة أخرى فيدخل ذلك في الجهة الدينية أو يكون فيه طبع عدل وإحسان من باب المكافأة والرحمة وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه وهذا من حكمة الله التي أقام بها مصالح خلقه إذ قسم بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا


فصل في بيان منفعة الحق ومنفعة الخلق وما بينهما من التباين إذا تبين هذا ظهر أن أحدا من المخلوقين لا يقصد منفعتك بالقصد الأول بل إنما يقصد منفعته بك وقد يكون عليك في ذلك ضرر إذا لم يراع المحب العدل فإذا دعوته فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه وأما الرب سبحانه فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة فملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعته لك فإنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأول بل إنما يريد انتفاعه بك عاجلا أو آجلا فهو يريد نفسه لا يريدك ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه فتأمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأسا من المخلوقين سدا لباب عبوديتهم وفتحا لباب عبودية الله وحده فما أعظم حظ من عرف هذه المسألة ورعاها حق رعايتها ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإحسان إليهم واحتمال أذاهم بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم فكما لا تخافهم لا ترجوهم ومما يبين ذلك أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجتهم بك وإن كان ذلك ضررا عليك فإن صاحب الحاجة لا يرى إلا قضاءها فهم لا يبالون بمضرتك إذا أدركوا منك حاجتهم بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك وهذا

إذا تدبره العاقل علم أنه عداوة في صورة صداقة وأنه لا أعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة فهم يريدون أن يصيروك كالكير ينفخ بطنك ويعصر أضلاعك في نفعهم ومصالحهم بل لو أبيح لهم أكلك لجزروك كما يجزرون الشاة وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين لمصالحهم وكم اتخذوك جسرا ومعبرا لهم إلى أوطارهم وأنت لا تشعر وكم بعت آخرتك بدنياهم وأنت لا تعلم وربما علمت وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك ورحت صفر اليدين وكم فوتوا عليك من مصالح الدارين وقطعوك عنها وحالوا بينك وبينها وقطعوا طريق سفرك إلى منازلك الأولى ودارك التي دعيت إليها وقالوا نحن أحبابك وخدمك وشيعتك وأعوانك والساعون في مصالحك وكذبوا والله إنهم لأعداء في صورة أولياء وحرب في صورة مسالمين وقطاع طريق في صورة أعوان فواغوثاه ثم واغوثاه بالله الذي يغيث ولا يغاث يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون
فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم في الله وخاف الله فيهم ولم يخفهم في الله وأرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله وآثر الله ولم يؤثرهم على الله وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه وأحيى حب الله وخوفه ورجاءه فيه فهذا هو الذي يكتب عليهم وتكون معاملته لهم كلها ربحا بشرط أن يصبر على أذاهم ويتخذه مغنما لا مغرما وربحا لا خسرانا
ومما يوضح الأمر أن الخلق لا يقدر أحد منهم أن يدفع عنك مضرة

البتة إلا بإذن الله ومشيئته وقضائه وقدره فهو في الحقيقة الذي لا يأتي بالحسنات إلا هو ولا يذهب بالسيئات إلا هو وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله قال النبي لعبدالله بن عباس واعلم أن الخليقة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك وإذا كانت هذه حال الخليقة فتعليق الخوف والرجاء بهم ضار غير نافع والله أعلم


فصل في بيان أن المنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده وجماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك ولا قادر عليها ولا مريد لها كما ينبغي فغيرك أولى أن لا يكون عالما بمصلحتك ولا قادرا عليها ولا مريدا لها والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم ويقدر ولا تقدر ويعطيك من فضله لا لمعوضة ولا لمنفعة يرجوها منك ولا لتكثر بك ولا لتعزز بك ولا يخاف الفقر ولا تنقص خزائنه على سعة الإنفاق ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إليك واستغنائه بحيث إذا أخرجه أثر ذلك في غناه وهو يحب الجود والبذل والعطاء والإحسان أعظم مما تحب أنت الأخذ والانتفاع بما سألته فإذا حبسه عنك فاعلم أن هناك أمرين لا ثالث لهما أحدهما أن تكون أنت الواقف في طريق مصالحك وأنت المعوق لوصول فضله إليك وأنت حجر في طريق نفسك وهذا هو الأغلب على الخليقة فإن الله سبحانه قضى فيما قضى به أن ما عنده لا ينال إلا بطاعته وأنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته ولا استديمت بغير شكره ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته وكذلك إذا أنعم عليك ثم سلبك النعمة فإنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك وإنما أنت المسبب في سلبها عنك فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على

قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم فما أزيلت نعم الله بغير معصيته
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
فآفتك من نفسك وبلاؤك من نفسك وأنت في الحقيقة الذي بالغت في عداوتك وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك كما قيل
ما يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
ومن العجب أن هذا شأنك مع نفسك وأنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية وتتهم أقداره وتعانيها وتلومها فقد ضيعت فرصتك وفرطت في حظك وعجز رأيك عن معرفة أسباب سعادتك وإرادتها ثم قعدت تعاتب القدر بلسان الحال والقال فأنت المعني بقول القائل
وعاجز الرأي مضياع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
ولو شعرت برأيك وعلمت من أين ذهبت ومن أين أصبت لأمكنك تدارك ذلك ولكن قد فسدت الفطرة وانتكس القلب وأطفأ الهوى مصابيح العلم والإيمان منه فأعرضت عمن أصل بلائك ومصيبتك منه وأقبلت تشكو من كل إحسان دقيق أو جليل وصل إليك فمنه فإذا شكوته إلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين وقد رأى رجلا يشكو إلى آخر ما أصابه ونزل به فقال يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك
وإذا أتتك مصيبة فاصبر لها ... صبر الكريم فإنه بك أرحم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما ... تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
وإذا علم العبد حقيقة الأمر وعرف من أين أتي ومن أي الطرق أغير على سرحه ومن أي ثغرة سوق متاعه وسلب استحى من نفسه إن لم

يستح من الله أن يشكوا أحدا من خلقه أو يتظلمهم أو يرى مصيبته وآفته من غيره قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير وقال أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك
فإن أصررت على اتهام القدر وقلت فالسبب الذي أصبت منه وأتيت منه ودهيت منه قد سبق به القدر والحكم وكان في الكتاب مسطورا فلا بد منه على الرغم مني وكيف لي أن أنفك منه وقد أودع الكتاب الأول قبل بدء الخليقة والكتاب الثاني قبل خروجي إلى هذا العالم وأنا في ظلمات الأحشاء حين أمر الملك بكتب الرزق والأجل والسعادة والشقاوة فلو جريت إلى سعادتي ما جريت حتى بقي بيني وبينها شبر لغلب علي الكتاب فأدركتني الشقاوة فما حيلة من قلبه بيد غيره يقلبه كيف يشاء ويصرفه كيف أراد إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء ان يزيغه أزاغه وهو الذي يحول بين المرء وقلبه وهو الذي يثبت قلب العبد إذا شاء ويزلزله إذا شاء فالقلب مربوب مقهور تحت سلطانه لا يتحرك إلا بإذنه ومشيئته قال أعلم الخلق بربه ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه / ح / ثم قال اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك / ح / وكان أكثر يمينه لا ومقلب القلوب / ح /

وقال بعض السلف مثل القلب مثل الريشة في أرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن فما حيلة قلب هو بيد مقلبه ومصرفه وهل له مشيئة بدون مشيئته كما قال تعالى وما تشآءون إلا إن يشاء الله رب العالمين
وروي عن عبدالعزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد قال تلا رسول الله قوله عز و جل أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها وغلام جالس عند رسول الله فقال بلى والله يا رسول الله إن عليها لأقفالها ولا يفتحها إلا الذي أقفلها فلما ولي عمر بن الخطاب طلبه ليستعمله وقال لم يقل ذلك إلا من عقل
وقال طاوس أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله يقولون كل

شيء بقدر وقال أيوب السختياني أدركت الناس وما كلامهم إلا إن قضى إن قدر
وقال عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون قال كتب الله أعمال بني آدم وما هم عاملون إلى يوم القيامة قال والملائكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يوما بيوم فذلك قوله إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون
وفي الآية قول آخر إن استنساخ الملائكة هو كتابتهم لما يعمل بنو آدم بعد أن يعملوه وقد يقال وهو الأظهر إن الآية تعم الأمرين فيأمر الله ملائكته فتستنسخ من أم الكتاب أعمال بني آدم ثم يكتبونها عليهم إذا عملوها فلا تزيد على ما نسخوه من أم الكتاب ذرة ولا تنقصها
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى إنا كل

شيء خلقناه بقدر خلق الله الخلق كلهم بقدر وخلق الخير والشر فخير الخير السعادة وشر الشر الشقاوة
وفي صحيح مسلم عن أبي الأسود الدؤلي قال قال لي عمران بن حصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة قال قلت لا بل فيما قضي عليهم ومضى قال أفيكون ذلك ظلما قال ففزعت فزعا شديدا وقلت إنه ليس شيء إلا خلقه وملكه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فقال سددك الله إنما سألتك لأحرز عقلك إن رجلا من مزينة أو جهينة أتى النبي فقال يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم قال فيما قضي عليهم ومضى فقال الرجل ففيم العمل قال رسول الله من كان خلقه الله لإحدى المنزلتين فسيستعمله لها وتصديق ذلك في كتاب الله عز و جل ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها
وقال مجاهد في قوله تعالى إنى أعلم مالا تعلمون قال علم من إبليس المعصية وخلقه لها

وقال تعالى فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة قال ابن عباس إن الله سبحانه بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا ثم قال هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمن وكافر
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه قال يحول بين المؤمن الكفر ومعاصي الله ويحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله
وقال ابن عباس ومالك وجماعة من السلف في قوله تعالى ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم قالوا خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف وقال تعالى ولو شاء الله ما اقتتلوا ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ولو شاء ربك ما فعلوه وقال تعالى فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب أي نصيبهم مما كتب

لهم وقال كذلك سلكناه في قلوب المجرمين قال الحسن وغيره الشرك والتكذيب
وقال سبحانه كلا إن كتاب الفجار لفي سجين قال محمد بن كعب القرظي رقم الله سبحانه كتاب الفجار في أسفل الأرض فهم عاملون بما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب ورقم كتاب الأبرار فجعله في عليين فهم يؤتى بهم حتى يعملوا ما قد رقم عليهم في ذلك الكتاب
وقال ابن عباس تبت يدا أبي لهب وتب بما جرى من القلم في اللوح المحفوظ
وقال مجاهد في قوله وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا قال عن الحق
وفي قوله إنا جعلنا على قلوبهم أكنة قال كالجعبة فيها السهام
وقال ابن عباس في قوله تعالى وأضله الله على علم قال أضله في سابق علمه

وقال في قوله تعالى حكاية عن عدوه إبليس فبما أغويتني قال أضللتني
وقال في قوله ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم قال من قضيت له أنه صالي الجحيم
وقال عمر بن عبدالعزيز لو أراد الله أن لا يعصى لم يخلق إبليس وقد فصل لكم وبين لكم ما أنتم عليه بفاتنين إلا من قدر أن يصلى

الجحيم وقال وهيب بن خالد أنبأنا خالد قال قلت للحسن ألهذه خلق آدم يعني السماء أم للأرض فقال لا بل للأرض قال قلت أرأيت لو اعتصم من الخطيئة فلم يعملها أكان ترك في الجنة قال سبحان الله أكان لا بد من أن يعملها وقال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وقال تعالى وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار وقال واجعلنا للمتقين إماما أي أئمة يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضالين

يدعون إلى النار وقال ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وقال ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة وقال ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله
وقال زيد بن أسلم والله ما قالت القدرية كما قال الله ولا كما قال رسله ولا كما قال أهل الجنة ولا كما قال أهل النار ولا كما قال أخوهم إبليس قال الله وما تشاءون إلا أن يشاء الله وقالت الملائكة لا علم لنا إلا ما علمتنا وقال شعيب وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله
وقال أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وقال أهل النار غلبت علينا شقوتنا وقال أخوهم إبليس رب بما أغويتني وقال مجاهد في قوله وكل إنسان ألزمناه

طائره في عنقه قال مكتوب في عنقه شقي أو سعيد
وقال ابن عباس في قوله ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا يقول ومن يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئا
وذكر الطبري وغيره من حديث سويد بن سعد عن سوار بن مصعب عن أبي حمزة عن مقسم عن ابن عباس صعد النبي المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم بسط يده اليمنى فقال بسم الله الرحمن الرحيم كتاب من الله الرحمن الرحيم لأهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم فجمل أولهم على آخرهم لا ينقص منهم ولا يزاد فيهم فرغ ربكم وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حتى يقال كأنهم هم بل هم هم ما أشبههم بهم بلى هم هم فيردهم ما سبق لهم من الله من السعادة فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها قبل موته بفواق ناقة وقد يسلك بأهل الشقاء طريق السعادة حتى يقال كأنهم هم بل هم هم ما أشبههم بهم بل هم هم فيردهم ما سبق لهم من الله فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ولو قبل موته بفواق ناقة فصاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة وإن عمل عمل أهل النار وصاحب النار مختوم له بعمل أهل النار وإن عمل بعمل أهل الجنة ثم قال رسول الله الأعمال بخواتيمها

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وفي قوله ولو شاء الله لجمعهم على الهدى وفي قوله فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا وفي قوله تعالى ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله وفي قوله ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها وقوله ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا وقوله إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا وقوله ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ونحو هذا من القرآن وإن رسول الله كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول
ثم قال لنبيه لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ويقول إن

نشأ ننزل عليهم من السماء أية فظلت أعناقهم لها خاضعين ثم قال ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ويقول ليس لك من الأمر شيء
وفي صحيح مسلم عن طاوس أدركت ناس من أصحاب رسول الله يقولون كل شيء بقدر وسمعت عبدالله بن عمر يقول قال رسول الله كل شيء بقدر حتى العجز والكيس
وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله يقول كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء
وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير فاحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء الله فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان
وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن النذر لا يقدر لابن آدم شيئا لم يكن الله قدره ولكن النذر يوافق القدر

فيخرج ذلك من البخيل مالم يكن يريد أن يخرجه وفي حديث جبرائيل وسؤاله النبي عن الإيمان قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره وفي الصحيحين حديث ابن مسعود في التخليق وفيه فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها

وذكر الطبري عن الحسن بن علي الطوسي أنبأنا محمد بن يزيد الأسفاطي البصري محدث البصرة قال رأيت رسول الله في النوم فقلت يا رسول الله حديث عبدالله بن مسعود حدثني الصادق المصدوق أعني حديث القدر فقال إي والله الذي لا إله إلا هو حدثت به رحم الله عبدالله بن مسعود حيث حدث به ورحم الله زيد بن وهب حيث حدث به ورحم الله الأعمش حيث حدث به ورحم الله من حدث به قبل الأعمش ورحم الله من يحدث به بعد الأعمش
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره وقد روي حديث تقدير السعادة والشقاوة في بطن الأم من حديث عبدالله بن مسعود وأنس بن مالك وعبدالله بن عمر وعائشة أم المؤمنين وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة

وقال أبو الحسن علي بن عبيد الحافظ سمعت أبا عبدالله بن أبي خيثمة يقول سمعت عمرو بن علي الفلاس يقول انحدرت من سر من رأى إلى بغداد في حاجة لي فبينما أنا أمشي في بعض الطريق إذا بجمجمة قد نخرت فأخذتها فإذا على الجبهة مكتوب شقي والياء مكسورة إلى خلف وهؤلاء كلهم أئمة حفاظ ذكره الطبري في السنة
وفي الصحيحين حديث علي عن النبي ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أن النبي سئل أعلم أهل الجنة من أهل النار قال نعم قيل ففيم يعمل العاملون قال نعم كل ميسر لما خلق له

وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت دعي رسول الله إلى جنازة غلام من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى لهذا عصفور من عصافير الجنة لم يدرك السوء ولم يعمله قال أو غير ذلك إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم
وفي الصحيحين عن ابن عباس وأبي بن كعب عن النبي قال الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا
وفي مسند الإمام أحمد عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله يقول إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره وفي لفظ فجعلهم في ظلمة واحدة فأخذ من نوره فألقاه على تلك الظلمة فمن أصابه النور اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على علم الله

وذكر راشد بن سعد عن أبي عبدالرحمن السلمي أن أبا قتادة سمع النبي يقول خلق الله آدم وأخرج الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قيل على ما نعمل قال على مواقع القدر
وذكر أبو داود في كتاب القدر عن عبدالله بن مسعود أنه مر على رجل فقالوا هذا هذا ونالوا منه فقال عبدالله أرأيتم لو قطعتم يده كنتم تستطيعون أن تخلقوا له يدا قالوا لا قال فلو قطع رأسه أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رأسا قالوا لا قال فكما لا تستطيعون أن تغيروا خلقه لا تستطيعون أن تغيروا خلقه إن النطفة إذا وقعت في الرحم بعث الله ملكا فكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد وذكر فيه عن ابن مسعود مرفوعا إنما هما اثنتان الهدي والكلام فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وإن كل بدعة ضلالة وإن كل ما هو آت قريب وإن الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره / ح /
وقال ابن وهب أخبنري يونس عن ابن شهاب أن عبدالرحمن بن

هنيدة حدثه أن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله إذا أراد الله أن يخلق النسمة قال ملك الأرحام تعرفا يا رب أذكر أم أنثى فيقضي الله أمره ثم يكتب بين عينيه ما هو لاق حتى النكبة ينكبها
وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني أبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن رسول الله قال فذكره سواء قال الزهري وحدثني عبدالرحمن بن هنيدة عن ابن عمر مثل ذلك
وذكر أبو داود أيضا عن عائشة يرفعه إن الله حين يريد أن يخلق الخلق يبعث ملكا فيدخل على الرحم فيقول أي رب ماذا فيقول غلام أو جارية أو ما شاء الله أن يخلق في الرحم فيقول أي رب أشقي أم سعيد فيقول شقي أو سعيد فيقول أي رب ما أجله فيقول كذا وكذا قال فما من شيء إلا وهو يخلق معه في الرحم
وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي تميم الجيشاني عن أبي ذر أن المني إذا مكث في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب سبحانه في راحته فيقول يا رب عبدك ذكر أم أنثى فيقضي الله ما هو قاض أشقي أم سعيد فيكتب ما هو لاق بين عينيه قال أبو تعيم وقرأ أبو ذر من فاتحة سورة التغابن خمس آيات

قال ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال إذا مكثت النطفة في رحم المرأة أربعين يوما جاءها ملك فاختلجها ثم عرج بها إلى الرحمن عز و جل فقال اخلق يا أحسن الخالقين فيقضي الله فيها بما يشاء من أمره ثم يدفع إلى الملك فيسأل الملك عن ذلك فيقول يا رب سقط أم تم فيبين له ثم يقول يا رب واحد أو توأم فيبين له ثم يقول يا رب ذكر أم أنثى فيبين له فيقول يا رب أناقص الأجل أم تام الأجل فيبين له ذلك ثم يقول يا رب أشقي أم سعيد فيبين له ثم يقول يا رب اقطع رزقه مع خلقه فيهبط بهما جميعا فوالذي نفسي بيده ما ينال من الدنيا إلا ما قسم له فإذا أكل رزقه قبض
في صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي قال يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد فيكتبان فيقول يا رب أذكر أم أنثى فيكتبان ويكتب عمله وأثره ورزقه ثم تطوى الصحف ولا يزاد فيهاه ولا ينقص
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك ورفع الحديث قال إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله أن يقضي خلقا قال الملك أي رب ذكر أو أنثى شقي أو

سعيد فما الرزق فما الأجل فيكتب ذلك في بطن أمه
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبي إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم ينفخ فيه الروح ويبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد وفي حديث ابن مسعود أن هذا التقدير وهذه الكتابة في الطور الرابع من أطوار التخليق عند نفخ الروح فيه وفي الأحاديث التي ذكرت أيضا أنفا أن ذلك في الأربعين الأولى قبل كونه علقة ومضغة وفي رواية صحيحة إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها وفي رواية إن ذلك يكون في بضع وأربعين ليلة والله أعلم


فصل في الجمع بين الروايات المتقدمة الجمع بين هذه الروايات أن للملك ملازمة ومراعاة بحال النطفة وأنه يقول يا رب هذه نطفة هذه علقة هذه مضغة في أوقاتها فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله وهو أعلم بها وبكلام الملك فتصرفه في أوقات أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقلها علقة وهو أول أوقات علم الملك بأنه ولد لأنه ليس كل نطفة تصير ولدا وذلك بعد الأربعين الأولى في أول الطور الثاني ولهذا والله أعلم وقعت الإشارة إليه في أول سورة أنزلها على رسوله اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إذ خلقه من علقة هو أول مبدأ الإنسانية وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ثم للملك فيه تصرف آخر في وقت آخر وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأنوثيبته وهذا إنما يكون في الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيها فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره فههنا تقديران وكتابان التقدير الأول عند ابتداء تعليق التخليق في النطفة وهو إذا مضى عليها أربعون ودخلت في طور العلقة ولهذا في إحدى الروايات إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة والتقدير الثاني الكتابة إذا كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكرا أو أنثى فالتقدير الأول

تقدير لما يكون للنطفة بعد الأربعين والتقدير الثاني تقدير لما يكون للجنين بعد تصويره ثم إذا ولد قدر مع ولادته كل سنة ما يلقاه في تلك السنة وهو ما يقدر ليلة القدر من العام إلى العام فهذا التقدير أخص من التقدير الثاني الثاني أخص من الأول ونظير هذا أيضا أن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ثم قدر مقادير هذا الخلق حين خلقهم وأوجدهم ثم يقدر في كل سنة في ليلة القدر ما يكون في ذلك العام وهكذا تقدير أمر النطفة وشأنها يقع بعد تعلقها بالرحم وبعد كمال تصوير الجنين وقد تقدم ذكر تقدير شأنها قبل خلق السموات والأرض فهو تقدير بعد تقدير
ونظير هذا أيضا رفع الأعمال وعرضها على الله فإن عمل العام يرفع في شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال قال فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم / ح / ويعرض عمل الأسبوع يوم الإثنين والخميس كما ثبت ذلك عن النبي ويعرض عمل اليوم في آخره والليلة في آخرها كما في حديث أبي موسى الذي رواه البخاري عن النبي إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه

يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل فهذا الرفع والعرض اليومي أخص من العرض يوم الإثنين والخميس والعرض فيها أخص من العرض في شعبان ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف وهذا عرض آخر وهذه المسائل العظيمة القدر هي من أهم مسائل الإيمان بالقدر فصلوات الله وسلامه على كاشف الغمة وهادي الأمة محمد
فإن قيل ما تقولون في قوله إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظمها ثم قال يا رب أذكر أم أنثى فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك ثم يقول يا رب أجله فيقول ربك ما شاء ويكتب الملك وهذه بعض ألفاظ مسلم في الحديث وهذا يوافق الرواية الأخرى يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أو سعيد ويوافق الرواية الأخرى إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك وهذا يدل على أن تصويرها عقيب الأربعين الأولى قيل لا ريب أن التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم إنما يقع في الأربعين الثالثة ولا يقع عقيب الأولى هذا أمر معلوم بالضرورة فإما أن يكون المراد بالأربعين في هذه الألفاظ الأربعين الثالثة وسمى المضغة فيها نطفة اعتبارا بأول أحوالها وما كانت عليه أو يكون المراد بها الأربعين الأولى وسمى كتابة تصويره وتقديره تخليقا اعتبارا بما يؤول فيكون قوله صورها وخلق سمعها وبصرها أي قدر ذلك وكتبه وأعلم به ثم يفعله به بعد الأربعين الثالثة أو يكون المراد به أي

الأربعين الأربعين الأولى وحقيقة التصوير فيها فيتعين حمله على تصوير خفي لا يدركه إحساس البشر فإن النطفة إذا جاوزت الأربعين انتقلت علقة وحينئذ يكون أول مبدإ التخليق فيكون مع هذا المبدإ مبدأ التصوير الخفي الذي لا يناله الحس ثم إذا مضت الأربعون الثالثة صورت التصوير المحسوس المشاهد فأحد التقديرات الثلاثة يتيعن ولا بد ولا يجوز غير هذا البتة إذ العلقة لا سمع فيها ولا بصر ولا جلد ولا عظم وهذا التقدير الثالث أليق بألفاظ الحديث وأشبه وأدل على القدر والله أعلم بمراد رسوله غير أنا لا نشك أن التخليق المشاهد والتقسيم إلى الجلد والعظم واللحم إنما يكون بعد الأربعين الثالثة والمقصود أن كتابة الشقاوة والسعادة وما هو لاق عند أول تخليقه ويحتمل وجها رابعا وهو أن النطفة في الأربعين الأولى لا يتعرض إليها ولا يعتني بشأنها فإذا جاوزتها وقعت في أطوار التخليق طورا بعد طور ووقع حينئذ التقدير والكتابة فحديث ابن مسعود صريح بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث عند تمام كونها مضغة وحديث حذيفة بن أسيد وغيره من الأحاديث المذكورة إنما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين ولم يوقت فيها البعدية بل أطلقها وقد قيدها ووقتها في حديث ابن مسعود والمطلق في مثل هذا يحمل على المقيد بلا ريب فأخبر بما تكون النطفة بعد الطور الأول من تفاصيل شأنها وتخليقها وما يقدر لها وعليها وذلك يقع في أوقات متعددة وكله بعد الأربعين الأولى وبعضه متقدم على بعض كما أن كونها علقة يتقدم على كونها مضغة وكونهها مضغة متقدم على تصويرها والتصوير متقدم على نفخ الروح مع ذلك فيصح أن يقال إن النطفة بعد الأربعين تكون علقة ومضغة ويصور خلقها وتركب فيها العظام والجلد ويشق لها السمع والبصر وينفخ فيها الروح ويكتب شقاوتها وسعادتها وهذا لا يقتضي وقوع ذلك كله عقيب الأربعين الأولى من غير فصل وهذ وجه حسن جدا

والمقصود أن تقدير الشقاوة والسعادة والخلق والرزق سبق خروج العبد إلى دار الدنيا فأسكنه الجنة أو النار وهو في بطن أمه وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة الحديث
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد عن النبي قال ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كان له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه والمعصوم من عصمه الله
وفي سنن ابن ماجه عن عدي بن حاتم أنه قال أتيت النبي فقال يا عدي أسلم تسلم قلت وما الإسلام قال تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتؤمن بالأقدار كلها خيرها وشرها وحلوها ومرها
وفي صحيح البخاري من حديث عمرو بن تغلب قال أتى النبي مال فأعطى قوما ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا فقال إني أعطي الرجل

وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي أعطي أقواما لما في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من القناعة والخير الحديث
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين عن النبي كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء وخلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء
وفي الصحيح عن ابن عباس أن النبي قال لأشج عبدالقيس إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة قال يا رسول الله خلقين تخلقت بهما أم جلبت عليهما قال بل جبلت عليهما قال الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله
وقال أبو هريرة قال النبي جف القلم بما أنت لاق رواه البخاري تعليقا

وذكر البخاري أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون قال سبقت لهم السعادة
وفي سنن أبي داود وابن ماجة من حديث عبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبي بن كعب وزيد بن ثابت أن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار وقاله زيد بن ثابت عن النبي
وفي سنن أبي داود عن أبي حفصة الشامي قال قال عبادة بن الصامت يا بني إنك لم تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ومن أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله يقول

إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب قال يا رب وما أكتب قال أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة يا بني سمعت رسول الله يقول من مات على غير هذا فليس مني
وفي الصحيحين عن علي قال كنا في جنازة فيها رسول الله ببقيع الغرقد فجاء رسول الله فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض ثم رفع رأسه فقال ما منكم من أحد من نفس منفوسة إلا قد كتب مكانها في النار أو في الجنة إلا قد كتبت شقية أو سعيدة قال فقال رجل من القوم يا نبي الله أولا نتكل على كتابنا وندع العمل فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة قال اعملوا فكل ميسر أما أهل السعادة فييسرون للسعادة وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة ثم قرأ نبي الله فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وفي السنن الأربعة عن مسلم بن

يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وإذ أخذ ربك من بني إدم من ظهورهم ذريتهم فقال سمعت رسول الله قد سئل عنها فقال رسول الله خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينيه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون قال رجل يا رسول الله ففيم العمل فقال رسول الله إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار
وفي الترمذي عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل

والحزن والخبيث والطيب قال الترمذي حديث حسن صحيح
وذكر الطبري من حديث مالك بن عبادة أن رسول الله قال لابن مسعود لا يكثر همك ما يقدر يكن وما ترزق يأتك
وذكر عن طارق بن شهاب عن عمر قال قال رسول الله بعثت داعيا ومبلغا وليس إلي من الهدى شيء وخلق إبليس مزينا وليس إليه من الضلالة شيء
وقال ابن وهب أنبأنا عبد الرحمن بن سليمان عن عقيل عن عكرمة عن ابن عباس قال خرج النبي فسمع ناسا من أصحابه يذكرون القدر فقال إنكم قد أخذتم في شعبتين بعيدتي الغور فيهما هلك أهل الكتاب من قبلكم ولقد أخرج يوما كتابا فقال هذا كتاب من الله الرحمن الرحيم فيه تسمية أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم وعشائرهم فجمل على آخرهم لا ينقص منهم أحد فريق في الجنة وفريق في السعير

وفي الترمذي عن ابن عباس قال ردفت رسول الله يوما فقال يا غلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله رفعت الأقلام وجفت الصحف لو جهدت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا وفي بعض روايات الحديث في غير الترمذي فلو أن الناس اجتمعوا على أن يعطوك شيئا لم يعطه الله لم يقدروا عليه ولو أن الناس اجتمعوا على أن يمنعوك شيئا قدره الله لك ما استطاعوا فاعبد الله مع الصبر على اليقين
وقال علي بن الجعد أنبأنا عبدالواحد البصري عن عطاء بن أبي رباح قال سألت الوليد بن عبادة بن الصامت كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت قال جعل يقول يا بني اتق الله واعلم أنك لن تتق الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده وتؤمن بالقدر خيره وشره قلت يا أبت كيف لي أن أؤمن بالقدر خيره وشره قال تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك فإن مت على غير هذا دخلت النار سمعت رسول الله يقول إن أول ما خلق الله

القلم فقال له اكتب فقال ما أكتب فجرى تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد
وذكر الطبري من حديث بقية أنبأنا أبو بكر العنسي عن زيد بن أم حبيب ومحمد بن يزيد قالا حدثنا نافع عن ابن عمر قال قالت أم سلمة يا رسول الله لا تزال نفسك في كل عام وجعة من تلك الشاة المسمومة التي أكلتها قال ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب علي وآدم في طينته
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس في خطبة النبي الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله
وفي صحيحه أيضا عن زيد بن أرقم كان النبي يقول اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها
وفي صحيحه أيضا عن علي عن النبي في دعاء الاستفتاح اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سييء الأخلاق لا يصرف عني سيئها إلا أنت

وفي الترمذي والمسند من حديث عمران بن حصين أن النبي علم أباه هذا الدعاء اللهم الهمني رشدي وقني شر نفسي
وروى سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن عبدالأعلى عن عبدالله بن الحارث قال قام عمر بن الخطاب خطيبا فقال في خطبته من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وعنده الجاثليق يسمع ما يقول قال فنفض ثوبه كهيئة المنكر فقال عمر ما تقولون قالوا يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضل أحدا قال كذبت يا عدو الله بل الله خلقك وهو أضلك وهو يدخلك النار إن شاء الله أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك إن الله خلق الخلق فخلق أهل الجنة وما هم عاملون وخلق أهل النار وما هم عاملون قال هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه
وذكر الطبري عن أبي بكر الصديق قال خلق الله الخلق فكانوا في

قبضته فقال لمن في يمينه ادخلوا الجنة بسلام وقال لمن في يده الأخرى ادخلوا النار ولا أبالي فذهبت إلى يوم القيامة
وقال ابن عمر جاء رجل إلى أبي بكر فقال أرأيت الزنا بقدر الله فقال نعم قال فإن الله قدره علي ثم يعذبني قال نعم يا ابن اللخناء أما والله لو كان عندي إنسان أمرت أن يجأ أنفك
وذكر عن علي أنه ذكر عنده القدر يوما فأدخل إصبعيه السبابة والوسطى في فيه فرقم بهما باطن يده فقال أشهد إن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب
وذكر عنه أيضا أنه قال إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستقين يقينا غير ظن أن ما اصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله

وذكر البخاري عن ابن مسعود أنه قال في خطبته الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره
وقال ابن مسعود لأن أعض على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرد في يدي أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله ليته لم يكن
وقال لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويعلم أنه ميت وأنه مبعوث من بعد الموت
وقال الأعمش عن ابن مسعود إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سموات فيقول للملائكة اصرفعوه عنه فإني إن يسرته له أدخلته النار قال فيصرفه الله عنه قال فيقول من أين دهيت أو نحو هذا وما هو إلا فضل الله سبحانه

وذكر الزهري عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أن عبدالرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضا شديدا أغمي عليه وأفاق فقال أغمي علي قالوا نعم قال إنه أتاني رجلان غليظان فأخذا بيدي فقالا انطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فانطلقا بي فتلقاهما رجل فقال أين تريدان به قالا نحاكمه إلى العزيز الأمين فقال دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه
وقال ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال أشهد لسمعت ابن عباس يقول العجز والكيس بقدر
وقال مجاهد قيل لابن عباس إن ناسا يقولون في القدر قال يكذبون بالكتاب إن أحدث سعر أحدهم لا تصونه إن الله عز و جل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فخلق القلم فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه
وقال ابن عباس أيضا القدر نظام التوحيد فمن وحد الله ولم يؤمن

بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد ومن وحد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لا انفصام لها
وقال عطاء بن أبي رباح كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال يا ابن عباس أرأيت من صدني عن الهدى وأوردني دار الضلالة واردا ألا تراه قد ظلمني فقال إن كان الهدى شيئا كان لك عنده فقد فمنعكه فقد ظلمك وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلا يظلمك قم فلا تجالسني
وقال عكرمة عن ابن عباس كان الهدهد يدل سليمان على الماء فقلت له فكيف ذاك الهدهد ينصب له الفخ عليه التراب فقال أعضك الله بهن أبيك إذا جاء القضاء ذهب البصر
وقال الإمام أحمد أنبأنا إسمعيل أنبأنا أبو هرون الغنوي أنبأنا سليمان الأزدي عن أبي يحيى مولى بني عفراء قال أتيت ابن عباس ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر أو ينكرونه فقلت يا ابن عباس ما تقول في القدر فإن هؤلاء يسألونك عن القدر إن زنى وإن شرب وإن سرق فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه وقال يا يحيى لعلك من الذين ينكرون

القدر ويكذبون به والله لو أعلم أنك منهم وهذين معك لجاهدتكم إن زنى فبقدر وإن سرق فبقدر وإن شرب الخمر فبقدر
وصح عن ابن عمر أن يحيى بن يعمر قال له إن ناسا يقولون لا قدر وإن الأمر أنف فقال إذا لقيت أولئك فأخبرهم أن ابن عمر بريء منهم وأنهم براء منه
وقد تقدم قول أبي بن كعب وحذيفة وابن مسعود وزيد بن ثابت لو أنفقت مثل جبل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وإن مت على غير ذلك دخلت النار وتقدم قول عبادة بن الصامت لن تؤمن حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك
وقال قتادة عن أبي السوار عن الحسن بن علي قال قضي القضاء وجف القلم وأموت بقضاء في كتاب قد خلا

وقال عمرو بن العاص انتهى عجبي إلى ثلاث المرء يفر من القدر وهو لاقيه ويرى في عين أخيه القذاة فيعيبها ويكون في عنيه مثل الجذع فلا يعيبها ويكون في دابته الطفر فيقومها جهده ويكون في نفسه الطفر فلا يقومها
قال أبو الدرداء ذروة الإيمان أربع الصبر للحكم والرضا بالقدر والإخلاص للتوكل والإستسلام للرب
وقال الحجاج الأزدي سألنا سلمان ما الإيمان بالقدر فقال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك
وقال سلمان أيضا إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ذراري إلى يوم القيامة وكتب الآجال والأعمال والأرزاق والشقاوة والسعادة فمن عمل السعادة فعل الخير ومجالس الخير ومن عمل الشقاوة عمل الشر ومجالس الشر

وقال جابر بن عبد الله لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر كله خيره وشره وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه
وقال هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله مكتوب من أهل النار والآثار في ذلك أكثر من أن تذكر وإنما أشرنا إلى بعضها إشارة فصل
فالجواب أن ههنا مقامين مقام إيمان وهدى ونجاة ومقام ضلال وردى وهلاك زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها وأن ما شاء كان وإن لم يشأ الناس وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس وهذه الآثار كلها تحقق هذا المقام وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله
وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على ذنبه على الله وحمل العبد ذنبه على ربه وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم

الحاكمين وأغنى الأغنياء أضر على العباد من إبليس كما صرح به بعضهم واحتج عليه بما خصمه فيه من لا تدحض حجته ولا تطاف مغالبته حتى يقول قائل هؤلاء
ما حيلة العبد والأقدار جارية ... عليه في كل حال أيها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له ... إياك إياك أن تبتل بالماء
ويقول قائلهم
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى ... دخولي سبيل بينوا لي قصتي
ويقول الآخر
وضعوا اللحم للبزاة ... على ذروتي عدن
ثم لاموا البزاة إذ ... خلعوا عنهم الرسن
لو أرادوا صيانتي ... ستروا وجهك الحسن
وقال بعضهم وقد ذكر له ما يخاف من إفساده فقال لي خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غيره وصعد رجل يوما على سطح دار له فأشرف على غلام له يفجر بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما فقال الغلام إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك فقال لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلي من كل شيء أنت حر لوجه الله
ورأى آخر يفجر بامرأته فبادر ليأخذه فهرب فأقبل يضرب المرأة وهي تقول القضاء والقدر فقال يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا فقالت أو تركت السنة وأخذت بمذهب ابن عباس فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال لولاك لضللت ورأى آخر رجلا آخر يفجر بامرأته فقال ما هذا فقالت هذا قضاء الله وقدره فقال الخيرة فيما قضى الله فقبل بالخيرة فيما قضى الله وكان إذا دعي به غضب

وقيل لبعض هؤلاء أليس هو يقول ولا يرضى لعباده الكفر فقال دعنا من هذا رضيه وأحبه وأراده ومن أفسدنا غيره ولقد بالغ بعضهم في ذلك حتى قال القدر عذر لجميع العصاة وإنما مثلنا في ذلك كما قيل
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم ... وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
وبلغ بعض هؤلاء أن عليا أمر بقتلى النهروان فقال بؤسا لكم لقد ضركم من غركم فقيل من غرهم فقال الشيطان والنفس الأمارة بالسوء والأماني فقال هذا القائل كان علي قدريا وإلا فالله غرهم وفعل بهم ما فعل وأوردهم تلك الموارد
واجتمع جماعة من هؤلاء يوما فتذاكروا القدر فجرى ذكر الهدهد وقوله وزين لهم الشيطان أعمالهم فقال كان الهدهد قدريا أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان وجميع ذلك فعل الله وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أيمنعه ثم يسأله ما منعه قال نعم قضى عليه في السر ما منعه في العلانية ولعنه عليه قال له فما معنى قوله وماذا عليهم لو آمنوا بالله إذا كان هو الذي منعهم قال استهزاء بهم قال فما معنى قوله ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم قال قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه بل ابتدأهم بالكفر ثم عذبهم عليه وليس للآية معنى

وقال بعض هؤلاء وقد عوتب على ارتكابه معاصي الله فقال إن كنت عاصيا لأمره فأنا مطيع لإرادته
وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه فقال إلى متى هذا اللوم ولو خلي لسجد ولكن منع وأخذ يقيم عذره فقال بعض الحاضرين تبا لك سائر اليوم أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن
وجاء جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء فلم يجدوه فلما رجع قال كنت أصلح بين قوم فقيل له أصلحت بينهم قال أصلحت إن لم يفسد الله فقيل له بؤسا لك أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك
ومر بلص مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال مسكين مظلوم أجبره على السرقة ثم قطع يده عليها
وقيل لبعضهم أترى الله كلف عباده مالا يطيقون ثم يعذبهم عليه قال والله قد فعل ذلك ولكن لا نجسر أن نتكلم
وأراد رجل من هؤلاء السفر فودع أهله وبكى فقيل استودعهم الله واستحفظهم إياه فقال ما أخاف عليهم غيره
وقال بعض هؤلاء ذنبة أذنبها أحب إلي من عبادة الملائكة قيل لم قال لعلمي بأن الله قضاها علي وقدرها ولم يقضها إلا والخيرة لي فيها وقال بعض هؤلاء العارف لا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر

ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلدا فأول ما بدأ به من الزيارات زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور فجعل يقول كيف أنتم في قدر الله
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول عاتبت بعض شيوخ هؤلاء فقال لي المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراد فأي شيء أبغض منه قال فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من في الكون وعاداهم ولعنهم فأحببتهم أنت وواليتهم أكنت وليا للمحبوب أو عدوا له قال فكأنما ألقم حجرا
وقرأ قارىء بحضرة بعض هؤلاء قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي فقال هو والله منعه ولو قال إبليس ذلك لكان صادقا وقد أخطأ إبليس الحجة ولو كنت حاضرا لقلت له أنت منعته
وسمع بعض هؤلاء قارئا يقرأ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فقال ليس من هذا شيء بل أضلهم وأعماهم قالوا فما معنى الآية قال مخرقة بمخرق بها
فيقال الله أكبر على هؤلاء الملاحده أعداء الله حقا الذين ما قدروا الله حق قدره ولا عرفوه حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه ولا نزهوه عما لا يليق به وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه وأساؤوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم وهؤلاء خصماء الله حقا الذين جاء فيهم الحديث يقال يوم القيامة أين خصماء الله فيؤمر بهم إلى النار / ح / قال

شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته
ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرا فرقة القدرية
سواء نفوه أو سمعوا ليخاصموا ... به الله أو ماروا به للشريعة
وسمعته يقول القدرية المذمومون في السنة على لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث نفاته وهم القدرية المجوسية والمعارضون به للشريعة الذين قالوا لو شاء الله ما أشركنا وهم القدرية الشركية والمخاصمون به الرب سبحانه وهم أعداء الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية وشيخهم إبليس وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال بما أغويتني ولم يعترف بالذنب ويبؤ به كما اعترف به آدم فمن أقر بالذنب وباء به ونزه ربه فقد أشبه أباه آدم ومن أشبه أباه فما ظلم ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والشركية شر من القدرية النفاة لأن النفاة إنما نفوه تنزيها للرب وتعظيما له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب ونزهوه أن يعاقب العبد على مالا صنع للعبد فيه البتة بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه ونحو ذلك كما يحكى عن بعض الجبرية أنه حضر مجلس بعض الولاة

فأتي بطرار أحوال فقال له الوالي ما ترى فيه فقال اضربه خمسة عشر يعني سوطا فقال له بعض الحاضرين ممن ينفي الجبر بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطا خمسة عشرة لطرة ومثلها لحوله فقال الجبري كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه فقال كما ضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك فبهت الجبري وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع عدو الله ورسله لا يقر بأمر ولا نهي وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا اباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون وقال تعالى وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين وقال تعالى وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون وقال وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين فهذه أربعة مواضع في القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل

وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق
الفرقة الأولى جعلت هذه الآيات حجة صحيحة وأن للمحتج بها الحجة على الله ثم افترق هؤلاء فرقتين فرقة كذبت بالأمر والوعد والوعيد وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلما والله لا يظلم من خلقه أحدا وفرقة صدقت بالأمر والنهي والوعد والوعيد وقالت ليس ذلك بظلم والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده إذ العبد لا فعل له والملك ملكه ولا يسأل عما يقول وهم يسألون فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة التي حكاها الله عنهم استهزاء منهم ولو قالوها اعتقادا للقضاء والقدر وإسنادا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم ينكر عليهم ومضمون قول هذه الفرقة أن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء فيكون للمشركين على الله الحجة وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا
الفرقة الثانية جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذ لو صحت المشيئة العامة وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان لكانوا قد قالوا الحق وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم فحيث وصفهم بالخرص الذي هو الكذب ونفى عنهم العلم دل على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح وأنهم كاذبون فيه إذ لو كان علما لكانوا صادقين في الإخبار به ولم يقل لهم قل هل عندكم من علم وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء ويشاء مالا يكون وأنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة ولا على أفعال الحيوانات

وأنه لا يقدر أن يضل أحد ولا يهديه ولا يوفقه أكثر مما فعل به ولا يعصمه من الذنوب والكفر ولا يلهمه رشده ولا يجعل في قلبه الإيمان ولا هو الذي جعل المصلي مصليا والبر برا والفاجر فاجرا والمؤمن مؤمنا والكافر كافرا بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع والثانية تحيزت إلى الشرع وكذبت القدر
والطائفتان ضالتان وإحداهما أضل من الأخرى
والفرقة الثالثة آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي ونزلوا كل واحد منزلته فالقضاء والقدر يؤمن به ولا يحتج به والأمر النهي يتمثل ويطاع فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله والقيام بالأمر والنهي موجب شهادة أن محمدا رسول الله وقالوا من لم يقر بالقضاء والقدر ويقم بالأمر والنهي فقد كذب الشهادتين وإن نطق بهما بلسانه ثم افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين فرقة قالت إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلا على رضاه به ومحبته له إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينه وبينهم فإن الحكيم إذا كان قادرا على دفع ما يكرهه ويبغضه دفعه ومنع من وقوعه وإذا لم يمنع من وقوعه لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته وكلاهما ممتنع في حق الله فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به وقد وافق هؤلاء من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها ولكن حالفهم في أنه نهى عنها وأمر باضدادها ويعاقب عليها فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين وأن مشيئة الله تعالى العامة وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدره وهؤلاء المشركون لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه كذبهم

وأنكر عليهم وأخبر أنه لا علم لهم بذلك وأنهم خارصون مفترون فإن محبة الله للشيء ورضاه به إنما يعلم بأمره على لسان رسوله لا بمجرد خلقه فإنه خلق إبليس وجنوده وهم أعداؤه وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه فهكذا في الأفعال خلق خيرها وشرها وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه وكلاهما خلقه ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال كل صادر عن حكمته وعلمه كما هو صادر عن قدرته ومشيئته وقالت الفرقة الثانية إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر ودفع الأمر بالمشيئة فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره نهيه دفعوه بقضائه وقدره فجعلوا القضاء والقدر إبطالا لدعوة الرسل ودفعا لما جاؤوا به وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقوالهم وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهي
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم إما في جميع تركتهم وإما في كثير منها وإما في جزء منها وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنا والمصلي مصليا والمتقي متقيا وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره وأئمة الضلالة يدعون إلى النار وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها وأنه يهدي من يشاء بفضله ورحمته ويضل من يشاء بعدله وحكمته وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه وأنه حال بين الكفار وقلوبهم فإنه يحول بين المرء وقلبه فكفروا به ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه وأنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأنه لو شاء لآمن من في

الأرض كلهم جميعا إيمانا يثابون عليه ويقبل منهم يرضى به عنهم وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون
والقضاء والقدر عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى الأولى علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم
الثانية كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السموات والأرض
الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه
الرابعة خلقه له وإيجاده وتكوينه فإنه لا خالق إلا الله والله خالق كل شيء فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق ويؤمنون مع ذلك بحكمته وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه وإن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه وإن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمه به كسائر صفاته وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها بل هي أمر وراء ذلك وهي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ولأجلها خلق فسوى وقدر فهدى وأحيا وأسعد وأشقى وأضل وهدى ومنع وأعطى وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات وهو محال إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة فنفي الوسيلة وهي الفعل لازم لنفي الغاية وهي الحكمة ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته وهذا لازم

لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة بل قوله حق ولازم الحق حق كائنا ما كان
والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءهم لكمال ميراثهم لنبيهم آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب وأوامره وقاموا مع ذلك بالأمر والنهي وصدقوا بالوعد والوعيد فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب فصدقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
واعلم أن الإيمان بحقيقةالقدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق ولب العالم وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر ومنهم من يرده إلى العلم ومنهم من يرده إلى الأمر الديني ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر وكذلك الحكمة فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى وإرادته لمراده تعالى فهي عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته والقدرية النفاة لا يرضون بهذا بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقا من مخلوقاته كما قالوا في كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم

أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها وكذلك الأمر والشرع فإن من أنكر كلام الله وقال إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا قال ولا يقول ولا يحب شيئا ولا يبغض شيئا وجميع الكائنات محبوبة له وما لم يكن فهو مكروه له ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والفجور والسجود للأصنام والشمس والقمر والسجود له ولم يكلف أحدا ما يقدر عليه بل كل تكليفه تكلف مالا يطاق ولا قدرة للمكلف عليه البتة ويجوز أن يعذب رجالا إذ لم يكونوا نساء ويعذب نساء إذ لم يكونوا رجالا وسودا حيث لم يكونوا بيضا وبيضا حيث لم يكونوا سودا ويجوز أن يظهر المعجزة على أيدي الكذابين ويرسل رسولا يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل ولكن مشى الحال بعض المشي بتناقضهم وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها
والمقصود أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل وورثتهم والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر ولهذا كان المنكرون القدرة فرقتين فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وأنكرت الأخرى كمال علمه وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات القدرة والعلم وأنكرت الحكمة والرحمة ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته ولهذا يقرن تعالى بين

الإسمين من هذه الثلاثة كثيرا كقوله وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم وقال تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقال حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم وقال في حم بعد ذكر تخليق العالم ذلك تقدير العزيز العليم وذكر نظير هذا فقال فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم
فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود عن قدرته وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته فهو عليم بخلقه وأمره ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة والحكمة هي سنة الرسول وهي تتضمن العلم بالحق والعلم به والخبر عنه والأمر به فكل هذا يسمى حكمة وفي الأثر الحكمة ضالة المؤمن وفي الحديث إن من الشعر حكمة

فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدا استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره فمصدر ذلك كله عن الحكمة فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة والله أعلم


فصل في تفصيل ما أجمل فيما مر وتوضيحه وإنما يتبين هذا ببيان وجود الحكمة في كل ما خلقه الله وأمر به وبيان أنه كله خير من جهة إضافته إليه سبحانه وأنه من تلك الإضافة خير وحكمة وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد كما قال في دعاء الاستفتاح لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك فهذا النفي يقتضي امتناع إضافة الشر إليه تعالى بوجه فلا يضاف إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله فإن ذاته منزهة عن كل شر وصفاته كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب وأفعاله كلها حكمة ورحمة مصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة وهو المحمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه وتحقيق ذلك أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها كما في خطبته الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا أنفسنا ومن سيئات أعمالنا فتضمن ذلك الإستعاذة من شرور النفوس ومن سيئات الأعمال وهي عقوباتها وعلى هذا فالإضافة على معنى اللام من باب إضافة المتغايرين أو يقال المراد

السيئات من الأعمال فعلى هذا الإضافة بمعنى من وهي من باب إضافة النوع إلى جنسه ويدل على الأول قوله تعالى وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته قال شيخنا وهذا أشبه إذا أريد السيئات من الأعمال فإن أريد ما وقع منها فالإستعاذة إنما تكون من عقوباتها إذ الواقع من شر النفس وأضا فلا يقال في هذه التي لم توجد بعد سيئات أعمالنا فإنها لم تكن بعد أعمالا فضلا عن أن تكون سيئات وإضافة الأعمال إلينا تقتضي وجودها إذ ما لم يوجد بعد ليس هو من أعمالنا إلا أن يقال من سيئات الأعمال التي إذا علمناها كانت سيئات ولمن رجح التقدير الثاني أن يقول العقوبات ليست لجميع الأعمال بل للمحرمات منها والأعمال أعم وحملها على المحرمات خاصة خلاف ظاهر اللفظ بخلاف ما إذا كانت الإضافة على معنى من فتكون الأعمال على عمومها والسيئات بعضها فتكون السيئات على عمومها ويترجح أيضا أن الإستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشر كله وهو شر النفس الكامن فيها الذي لم يخرج إلى العمل وشر العمل الخارج الذي سولته النفس فالأول شر الطبيعة والصفةالتي في النفس والثاني شر العمل المتعلق بالكسب والإرادة ويلزم من المعافاة من هذين الشرين المعافاة من موجبهما وهو العقوبة فتكون الإستعاذة قد شملت جميع أنواع الشر بالمطابقة واللزوم وهذا هو اللائق بمن أوتي جوامع الكلم فإن هذا من جوامع كلمة البديعة العظيمة الشأن التي لا يعرف قدرها إلا أهل العلم والإيمان
وإذا عرف هذا وأنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها وكونها ذنوبا تأتي من نفس العبد فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهي أمور

ذاتية للرب وذات الرب سبحانه مستلزمة للحكمة والخير والجود وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه فمن أراد الله به خيرا أعطاه هذا الفضل فصدر منه الإحسان والبر والطاعة ومن أراد به شرا أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح وليس منعه لذلك ظلمامنه سبحانه فإنه فضله وليس من منع فضله ظالما لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به وأيضا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلي بينه وبين نفسه وهذا محض فعله وفضله وهو سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر به ويزكو به وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة ويشكره عليها فإن أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا بها لم يشكرها ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها ولم يشكرها أيضا ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضى به وعنه لم يشكرها أيضا ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها فلا بد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال قال رسول الله سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا

أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة فقوله أبوء لك بنعمتك علي يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته فإن المباءة هي التي يبوء إليها الشخص أي يرجع إليها رجوع استقرار والمباءة هي المستقر ومنه قوله من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار أي ليتخذ مقعده من النار مباءة يلزمه ويستقر فيه لا كالمنزل الذي ينزله ثم يرحل عنه فالعبد يبوء إلى الله بنعمته عليه ويبوء بذنبه ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه بل رجوع من لا يعرض عن ربه بل لا يزال مقبلا عليه إذا كان لا بد له منه فهو معبوده وهو مستغاثه لا صلاح له إلا بعبادته فإن لم يكن معبوده هلك وفسد ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته وفي الحديث مثل المؤمن مثل الفرس في آخيته يجول ثم يرجع إلى آخيته كذلك المؤمن يجول ثم يرجع إلى الإيمان فقوله أبوء يتضمن أني وإن جلت كما يجول الفرس إما بالذنب وإما بالتقصير في الشكر فإني راجع منيب أواب إليك رجوع من لا غنى له عنك وذكر

النعمة والذنب لأن العبد دائما يتقلب بينهما فهو بين نعمة من ربه وذنب منه هو كما في الأثر الإلهي ابن آدم خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وكم تتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح وكان في زمن الحسن البصري شاب لا يرى إلا وحده فسأله الحسن عن ذلك فقال إني أجدني بين نعمة من الله وذنب مني فأريد أن أحدث للنعمة شكرا وللذنب استغفارا فذلك الذي شغلني عن الناس أو كما قال فقال له أنت أفقه من الحسن فالخير كله من الله كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله وقال تعالى ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة وقال يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين وقال تعالى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم وهؤلاء المنعم عليهم هم المذكورون في قوله ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فالنعم كلها من نعم الله وفضله على عبده وهو سبحانه وإن كان أجود الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين فإنه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين لا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها ولا يناقض جوده ورحمته وفضله حكمته وعدله ولو رأى العقلاء واحدا منهم

قد وضع المسك في الحشوش والأخلية ووضع النجاسات والقاذورات في مواضع الطيب والنظافة لاشتد نكيرهم عليه والقدح في عقله ونسبوه إلى السفه وخلاف الحكمة وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان والإحسان موضع العقوبة لسفهوه وقدحوا في عقله كما قال القائل
ووضع الندى موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى
وكذلك لو وضع الدواء موضع الغذاء والغذاء موضع الدواء والاستفراغ حيث يكون اللائق به عدمه والإمساك حيث يليق الاستفراغ وكذلك وضع الماء موضع الطعام والطعام موضع الماء وأمثال ذلك مما يخل بالحكمة بل لو أقبل على الحيوان البهيم يريد تعليمه مالم يخلق له من العلوم والصنائع فمن بهرت حكمته العقول والألباب كيف ينبغي له أن يضع الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها ومن المعلوم أن أجل نعمه على عبده الإيمان به معرفته ومحبته وطاعته والرضا به والإنابة إليه والتوكل عليه والتزام عبوديته ومن المعلوم أيضا أن الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث منه ومنها الطيب وبين ذلك وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي والقلب الخسيس الخبيث وهو سبحانه خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار والبرد والحر والداء والدواء والعلو والسفل وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم فيها وإيداعها عندها ويزكو بذرها فيها فيكون تخصيصه لها بهذه النعمة كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذر بالبذر فليس من الحكمة أن يبذر البر في الصخور والرمال والسباخ وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحال التي هي أخبث المحال
فالله سبحانه أعلم حيث يجعل رسالاته أصلا وميراثا فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة وتعظيم المرسل

والقيام بحقه والصبر على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه ومن لا يصلح لذلك وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله والقيام بخلافتهم وحمل ما بلغوه عن ربهم قال عبدالله بن مسعود إن الله نظر في قلوب العباد فرأى قلب محمد خير قلوب أهل الأرض فاختصه برسالته ثم نظر في قلوب العباد فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته وفي أثر بني إسرائيل أن الله تعالى قال لموسى أتدري لم اخترتك لكلامي قال لا يا رب قال إني نظرت في قلوب العباد فلم أر فيها أخضع من قلبك لي أو نحو هذا
فالرب سبحانه إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده حبب إليه ذلك ووضعه فيه وكتبه في قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسر له طرقه وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك ثم تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أحسن من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذي هو أحب شيء إليه فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به فيزداد العبد به معرفة وله محبة وإليه إنابة وعليه توكلا ولا يتولى معه غيره ولا يعبد معه سواه وهذا هو الذي عرف قدر النعمة وعرف المنعم وأقر بنعمته وصرفها في مرضاته واقتضت حكمة الرب وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر في هذا القلب بذرة الإيمان والمعرفة وسقاه ماء العلم النافع والعمل الصالح وأطلع عليه من نوره شمس الهداية وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم كما في الصحيح من حديث أبي موسى عن النبي قال مثل ما بعثني الله من من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة طيبة قبلت

الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها طائفة أجادب أمسكت الماء فسقي الناس وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به فمثل القلوب بالأرض التي هي محل النبات والثمار ومثل الوحي الذي وصل إليها من بارئها وفاطرها بالماء الذي ينزله على الأرض فمن الأرض أرض طيبة قابلة للماء والنبات فلما أصابها الماء أنبتت ما انتفع به الآدميون البهائم وأقوات المكلفين وغيرهم وهذه بمنزلة القلب القابل لهدى الله ووحيه المستعد لزكائه فيه وثمرته ونمائه وهذا خير قلوب العالمين ومن الأرض ارض صلبة منخفضة غير مرتفعة ولا رابية قابلة لحفظ الماء واستقراره فيها ففيها قوة الحفظ وليس فيها قوة النبات فلما حصل فيها الماء أمسكته وحفظته فورده الناس لشربهم وشرب مواشيهم وسقوا منه زروعهم وهذا بمنزلة القلب الذي حفظ الوحي وضبطه وأداه إلى من هو أفهم له منه وأفقه منه وأعرف بمراده وهذا في الدرجة الثانية ومن الأرض أرض قيعان وهي المستوية التي لا تنبت إما لكونها سبخة أو رمالا ولا يستقر فيها الماء فإذا وقع عليها الماء ذهب ضائعا لم تمسكه لشرب الناس ولم تنبت به كلأ لأنها غير قابلة لحفظ الماء ولا لنبات الكلإ والعشب وهذا حال أكثر الخلق وهم الأشقياء الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأسا ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين بل لا بد لكل مسلم أن يزكو الوحي في قلبه فينبت من العمل الصالح والكلم الطيب ونفع نفسه وغيره بحسب قدرته فمن لم ينبت قلبه شيئا من الخير ألبتة فهذا من أشقى الأشقياء

فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاء والعصمة في كلامه وفي أمثاله
والمقصود أن الله سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه ومن يصلح لها ومن لا يصلح وأن حكمته تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله كما تأبى أن يمنعه من يصلح له وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحا وجعله أهلا وقابلا فمنه الإعداد والإمداد ومنه السبب والمسبب ومن اعترض بقوله فهلا جعل المحال كلها كذلك وجعل القلوب على قلب واحد فهو من أجهل الناس وأضلهم وأسفههم وهو بمنزلة من يقول لم خلق الأضداد وهلا جعلها كلها سببا واحدا فلم خلق الليل والنهار والفوق والتحت والحر والبرد والدواء والداء والشياطين والملائكة والروائح الطيبة والكريهة والحلو والمر والحسن والقبيح وهل يسمح خاطر من له أدنى مسكة من عقل بمثل هذا السؤال الدال على حمق سائله وفساد عقله وهل ذلك إلا موجب ربوبيته وإلهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها وهل حقيق الملك إلا بإكرام الأولياء وإهانة الأعداء وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إلا بخلق المتضادات والمختلفات وترتيب آثارها عليها وإيصال ما يليق بكل منها إليه وهل ظهور آثار أسمائه وصفاته في العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه فهل يكون رزاقا وغفارا وعفوا وحليما ورحيما ولم يوجد من يرزقه ولا من يغفر له ويعفو عنه ويحلم عنه ويرحمه وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم ويري أولياءه كمال نعمته عليهم واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه وهل في الحكمة الإلهية تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئي يكون من لوازمه فهذا الغيث الذي يحيي به الله البلاد والعباد والشجر والدواب كم يحبس من مسافر ويمنع من قصاد ويهدم من بناء ويعوق من مصلحة ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح وهل هذه المفاسد في جنب مصالحه إلا كتفلة في

بحر وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجبا لأعظم المفاسد والهلاك وهذه الشمس التي سخرها الله لمنافع عباده وإنضاج ثمارهم وأقواتهم وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير وفيها من المنافع والمصالح ما فيها كم تؤذي مسافرا وغيره بحرها وكم تجفف رطوبة وكم تعطش حيوانا وكم تحبس عن مصلحة وكم تنشف من مورد وتحرق من زرع ولكن أين يقع هذا في جنب ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية المكملة فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كثير وهو خلاف موجب الحكمة الذي تنزه الله سبحانه عنه
قلت لشيخ الإسلام فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة عن المفاسد مشتملة على المصلحة الخالصة فقال خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال ولو خلقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه ولكان عالما آخر غير هذا قال ومن الأشياء ما تكون ذاته مستلزمة لنوع من الأمور لا ينفك عنه كالحركة مثلا المستلزمة لكونها لا تبقى فإذا قيل لم لم تخلق الحركة المعينة باقية قيل لأن ذات الحركة تتضمن النقلة من مكان إلى مكان والتحول من حال إلى حال فإذا قدر ما ليس كذلك لم يكن حركة ونفس الإنسان هي في ذاتها جاهلة عاجزة فقيرة كما قال تعالى والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وإنما يأتيها العلم والقدرة والغنى من الله بفضله ورحمته فما حصل لها من كمال وخير فمن الله وما حصل لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها وهذه أمور عدمية وليس لها من نفسها وجود ولا كمال والأمور العدمية من لوازم وجودها ولو جعلت على غير ذلك لم تكن هي هذه النفس الإنسانية بل مخلوقا آخر

فحقيقة نفس الإنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة والشر الذي يحصل لها نوعان عدم ووجود فالأول كعدم العلم والإيمان والصبر وإرادة الخيرات وعدم العمل بها وهذا العدم ليس له فاعل إذ العدم المحض لا يكون له فاعل لأن تأثير الفاعل إنما هو في أمر وجودي وكذلك عدم استعدادها للخيرات والكمالات هو عدم محض ليس له فاعل فإن العدم ليس بشيء أصلا وما ليس بشيء لا يقال إنه مفعول لفاعل فلا يقال إنه من الله إنما يحتاج إلى الفاعل الأمور الوجودية ولهذا من قول المسلمين كلهم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل كائن فبمشيئته كان وما لم يكن فلعدم مشيئته والعدم يعلل بعدم السبب أو الشرط تارة وبوجود المانع أخرى وقد يقال علة العدم عدم العلة وبعض الناس يقول الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح فلا يوجد إلا بسبب ولا يعدم إلا بسبب قال والتحقيق في هذا أن العدم ليس له فاعل ولا علة فاعلة أصلا وإذا أضيف إلى عدم السبب أو عدم الشرط فمعناه الملازمة أي عدم العلة استلزم عدم المعلول وعدم الشرط استلزم عدم المشروط فإذا قيل عدم لعدم علة مستلزمة لعدمه والنفس تطلب سبب العدم فتقول لم لم يوجد كذا فيقال لعدم كذا فيضاف عدم المعلوم إلى عدم علته لا إضافة تاثير ولكن إضافة استلزام وتعريف وأما التعليل بالمانع فلا يكون إلا مع قيام السبب إذا جعل المانع مقتضيا للعدم وأما إذا أريد قياس الدلالة فوجود المانع يستلزم عدم الحكم سواء كان المقتضي موجودا أو لم يكن
والمقصود أن ما عدمته النفس من كمالها فمنها فإنها لا تقتضي إلا لعدم أي عدم استعداد نفسها وقوتها هو السبب في عدم هذا الكمال فإنه كما يكون أحاد الوجودين سببا للآخر فكذلك أحد العدمين يكون سببا لعدم الآخر والموجود الحادث يضاف إلى السبب المقتضي لإيجاده وأما المعدوم فلا

يحتاج استمراره على العدم إلى فاعل يحدث العدم بل يكفي في استمراره عدم مشيئة الفاعل المختار له فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لانتفاء مشيئته فانتفاء مشيئة كونه سبب عدمه وهذا معنى قولهم عدم علة الوجود علة العدم وبهذا الاعتبار الممكن القابل للوجود والعدم لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح فمرجح عدمه عدم مرجحه ومعنى الترجيح والسببية ههنا الاستلزام لا التأثير كما تقدم فظهر استحالة إضافة هذا الشر إلى الله عز و جل
وأما الشر الثاني وهو الشر الوجودي كالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة فهو من لوازم ذلك العدم فإنه متى عدم ذلك العلم النافع والعمل والصالح من النفس لزم أن يخلفه الشر والجهل وموجبهما ولا بد لأن النفس لا بد لها من أحد الضدين فإذا لم تشتغل بالضد النافع الصالح اشتغلت بالضد الضار الفاسد وهذا الشر الوجودي هو من خلقه تعالى إذ لا خالق سواه وهو خالق كل شيء لكن كل ما خلقه الله فلا بد أن يكون له في خلقه حكمة لأجلها خلقه لو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة التي هي أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها فإن في وجودها من الحكمة والغايات التي يحمد عليها سبحانه أضعاف ما في عدمها من ذلك ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع وليس في الحكمة تفويت هذه الحكمة العظيمة لأجل ما يحصل للنفس من الشر مع ما حصل من الخيرات التي لم تكن تحصل بدون هذا الشر ووجود الشيء لا يكون إلا مع وجود لوازمه وانتفاء أضداده فانتفاء لوازمه يكون ممتنعا لغيره وحينئذ فقد يكون هدي هذه النفوس الفاجرة وشهادتها مشروطا بلوازم لم تحصل أو بانتفاء أضداد لم تنتف
فإن قيل فهلا حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد فهذا هو السؤال الأول وقد بينا أن لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالم لا بد

منها فلو قدر عدمها لم يكن هذا العالم بل عالما لا بد منها ونشأة أخرى وخلقا آخر وبينا أن هذا السؤال بمنزلة أن يقال هلا تجرد الغيث والأنهار عما لا يحصل به من تغريق وتخريب وأذى وهلا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم وأذى وهلا تجردت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك وهلا تجردت الولادة عن مشقة الحمل والطلق وألم الوضع هلا تجرد بدن الإنسان عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغير أحواله وهلا تجردت فصول العام عما فيها من البرد الشديد القاتل والحر الشديد المؤذي فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال لم كان المخلوق فقيرا محتاجا والفقر والحاجة صفة نقص فهلاتجرد منها وخلعت عليه خلعة الغنى المطلق والكمال المطلق فهل يكون مخلوقا إذا كان غنيا غنى مطلقا ومعلوم أن لوازم الخلق لا بد منها فيه ولا بد للعلو من سفل والسفل من مركز ولوازم العلو من السعة والإضاءة والبهجة والخيرات وما هناك من الأرواح العلوية النيرة المناسبة لمحلها وما يليق بها ويناسبها من الإبتهاج والسرور والفرح والقوة والتجرد من علائق المواد العلية لا بد منها ولوازم السفل والمركز من الضيق والحصر ولوازم ذلك من الظلمة والغلظ والشر وما هنالك من الأرواح السفلية المظلمة الشريرة وأعمالها وآثارها لا بد منها فهما عالمان علوي وسفلي ومحلان وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعمالهما وطبائعهما وقد خلق كلا من المحلين معمورا بأهليه وساكنيه حكمة بالغة وقدرة قاهرة وكل من هذه الأرواح لا يليق بها غير ما خلقت له مما يناسبها ويشاكلها قال تعالى قل كل يعمل على شاكلته أي على ما يشاكله ويناسبه ويليق به كما يقول الناس كل إناء بالذي فيه ينضح فمن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية في مقام الصديق

بين الملأ الأعلى فقد أرادت ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين ولو أن ملكا من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم وغرتهم الذين تتناسب أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم في القبح والرداءة والدناءة لقدح الناس في ملكه وقالوا لا يصلح للملك فما الظن بمجاوري الملك الأعظم مالك الملوك في داره وتمتعهم برؤية وجهه وسماع كلامه ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم أفيليق بذلك الرفيق الأعلى والمحل الأسنى والدرجات العلى روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما تشارك فيه بل قد تزيد على الحيوان البهيم وقصرت همتها عليه وأقبلت بكليتها عليه لا ترى نعيما ولا لذة ولا سرورا إلا ما وافق طباعها من كل مأكل ومشرب ومنكح من أين كان وكيف اتفق فالفرق بينها وبين الحمير والكلاب والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان والأكل باليد وإلا فالقلب والطبع على شاكلة قلوب هذه الحيوانات وطباعها وربما كانت طباع الحيوانات خيرا من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير ولهذا جعلهم الله سبحانه شر الدواب فقال تعالى إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق وبين شر البرية وشر الدواب في دار واحدة يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب قال الله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون فأنكر عليهم الحكم بهذا وأخرجه مخرج الإنكار لا مخرج الإخبار لينبه العقول على أن هذا مما تحيله الفطر وتأباه العقول السليمة وقال تعالى لا يستوي أصحاب

النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال تعالى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب بل الواحد من الخلق لا تستوي أعاليه وأسافله فلا يستوي عقبه وعينه ولا رأسه ورجلاه ولا يصلح أحدهما لما صلح له الآخر فالله عز و جل قد خلق الخبيث والطيب والسهل والحزن والضار والنافع وهذه أجزاء الأرض منها ما يصلح جلاء للعين ومنها ما يصلح للأتون والنار وبهذا ونحوه يعرف كمال القدرة وكمال الحكمة فكمال القدرة بخلق الأضداد وكمال الحكمة تنزيلهامنازلها ووضع كل منها في موضعه والعالم من لا يلقي الحرب بين قدرة الله وحكمته فإن آمن بالقدرة قدح في الحكمة وعطلها وإن آمن بالحكمة قدح في القدرة ونقصها بل يربط القدرة بالحكمة ويعلم شمولها لجميع ما خلقه الله ويخلقه فكما أنه لا يكون إلا بقدرته ومشيئته فكذلك لا يكون إلا بحكمته وإذا كان لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة بهذا تفصيلا فيكفيها الإيمان بما تعلم وتشاهد منه ثم تستدل على الغائب بالشاهد وتعتبر ما علمت بما لم تعلم وقد ضرب الله الأمثال لعباده في كتابه وبين لهم ما في لوازم ما خلقه لهم وأنزله عليهم من الغيث الذي به حياتهم وأقواتهم وحياة الأرض والدواب وما خلقه لهم من المعادن التي بها صلاح أبدانهم وأقواتهم وصنائعهم من الشر والخير وبين المغمور بالإضافة إلى الخير الحاصل بذلك فقال تعالى أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية

أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال فأخبر سبحانه أن الماء بمخالطته سبسب الأرض إذا سال فلا بد من أن يحمل السيل من الغثاء والوسخ وغيره زبدا عاليا على وجه السيل فالذي لا يعرف ما تحت الزبد يقصر نظره عليه ولا يرى إلا غثاء ووسخا ونحو ذلك ولا يرى ما تحته من مادة الحياة وكذلك ما يستخرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها إذا أوقد عليها في النار ليتهيأ الانتفاع بها خرج منها خبث ليس من جوهرها ولا ينتفع به وهذا لا بد منه في هذا وهذا يجاوزه بصره وقد ذم تعالى من ضعفت بصيرته من المنافقين وعمي عما في القرآن مما به ينال كل سعادة وعلم وهدى وصلاح وخير في الدنيا والآخرة لمن لم يجاوز بصره وسمعه وعود وعيده وبروقها وصواعقها وما أعد الله لأعدائه من عذابه ونكاله وخزيه وعقابه الذي هو بالإضافة إلى ما فيه من حياة القلوب والأرواح ومن المعارف الإلهية يبين طريق العبودية التي هي غاية كمال العبد وهو مقصود لتكميل ذلك وتمامه قال تعالى مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في إذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا فهكذا حال كل من قصر نظره في بعض مخلوقات الرب سبحانه على ما لا بد منه

من شر جزئي جدا بالإضافة إلىالخير الكثير ولو لم تكن في هذه النشأة الإنسانية إلا خاصته وأولياؤه من رسله وأنبيائه وأتباعهم لكفى بها خيرا ومصلحة ومن عاداهم وإن كانوا أضعاف أضعاف أضعافهم فهم كالقش والزبالة وغثاء السيل لا يعبأ بكثرتهم ولا يقدح في الحكمة الإلهية بل وجود الواحد الكامل من هذا النوع يغتفر معه لآلاف مؤلفة من النوع الآخر فإنه إذا وجد واحد يوازن البرية ويرجح عليها كان الخير الحاصل بوجوده والحكمة والمصلحة أضعاف الشر الحاصل من وجود أضداده وأثبت وأنفع وأحب إلى الله من فواته بتفويت ذلك الشر المقابل له وهذا كالشمس فإن الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشر المقابل له بها وأين نفع الشمس وصلاح النبات والحيوان بها من نفع الرسل وصلاح الوجود بهم بل أين ذلك من نفع سيد ولد آدم وصلاح الأبدان والدين والدنيا والآخرة به
وقد ضرب للنفس الإنسانية وما فيها من الخير والشر مثلا بدولاب أو طاحون شديد الدوران أي شيء خطفه ألقاه تحته وأفسده وعنده قيمه الذي يديره وقد أحكم أمره لينتفع به ولا يضر أحدا فربما جاء الغر الذي لا يعرف فيقترب منه فيخرق ثوبه أو بدنه أو يؤذيه فإذا قيل لصاحبه لم لم تجعله ساكنا لا يؤذي من اقترب منه قال هذه صفته اللازمة التي كان بها دولابا وطاحونا ولو جعل على غير هذه الصفة لم تحصل به الحكمة المطلوبة منه وكذلك إذا أوقدنا نار الأتون التي تحرق ما وقع فيها وعندها وقاد حاذق يحشوها فإذا غفل عنها أفسدت وإذا أراد أحد أن يقرب منها نهاه وحذره فإذا استغفله من قرب منها حتى أحرقته لم يقل لصاحب النار هلا قللت حرها لئلا تفسد من يقرب منها وتحرقه فإنه يقول هذه صفتها التي لا يحصل المقصود منها إلا بها ولو جعلتها دون ذلك لم تحرقه أحجار الكلس ولم تطبخ الآجر ولم تنضج الأطعمة الغليظة ونحو ذلك فما يحصل من الدولاب والطاحون ومن النار من نفعها هو من فضل الله

ورحمته وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التي خلقت عليها والتي لا تكون نارا إلا بها فلو خرجت عن تلك الطبيعة لم تكن نارا وكذلك النفس فما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها وما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته والله خالقها وخالق كل شيء قام بها من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغير ذلك فأما الأمور العدمية فهي باقية على ما كانت عليه من العدم والإنسان جاهل ظالم بالضرورة كما قال تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا فإن الله أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا وهي ظالمة نفسها فهي الظالمة والمظلومة إذ كانت منقوصة من كمالها بعدم بعض الكمالات أو أكثرها بها وتلك الكمالات التي عدمت كان وجودها سببا لكمالات أخرى فصار عدمها مستلزما لعدم تلك الكمالات التي لا سعادة لها بدونها فإن أحد الموجودين قد يكون مشروطا بالآخر فيستحيل وجوده بدونه لأن عدم الشرط يستلزم عدم المشروط فإذا عدمت النفس هذا الكمال المستلزم لكمال آخر مثله أو أعلى منه وهي موصوفة بالنقص الذي هو الظلم والجهل ولوازمها من أصل الخلقة صارت مستلزمة للشر وقوة شرها وضعفه بحسب قوتها وضعفها في ذاتها وتأمل أول نقص دخل على أبي البشر وسرى إلى أولاده كيف كان من عدم العلم والعزم قال تعالى ولقد عهدنا إلى إدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما والنسيان سواء كان عدم العلم أو عدم الصبر كما فسر بهما ههنا فهو أمر عدمي ولهذا قال آدم لما رأى ما دخل عليه من ذلك ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فإنه إذا اعترف بنقصه خص نفسه بما حصل لها من عدم العلم والصبر بالنسيان الذي أوجب فوات حظه من

الجنة ثم قال وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فإنه سبحانه إن لم يغفر السيئات الوجودية فيمنع أثرها وعقابها ويق العبد من ذلك وإلا ضرته آثارها ولا بد كآثار الطعام المسموم إن لم يتداركه المداوي بشرب الترياق ونحوه وإلا ضره ولا بد وإن لم يرحمه سبحانه بإيجاد ما يصلح به النفس وتصير عالمة بالحق عاملة به وإلا خسر والمفغرة تمنع الشر والرحمة توجب الخير والرب سبحانه إن لم يغفر للإنسان فيقيه السيئات ويرحمه فيؤتيه الحسنات وإلا هلك ولا بد إذ عاد كما كان ظالما لنفسه ظلوما بنفسه فإن نفسه ليس عندها خير يحصل لها منها وهي متحركة بالذات فإن لم تتحرك للخير تحركت الى الشر فضرت صاحبها وكونها متحركة بالذات من لوازم كونها نفسا لأن ما ليس حساسا متحركا بالإرادة فليس نفسا ففي الصحيح عن النبي أصدق الأسماء حارث وهمام فالحارث الكاسب العامل والهمام الكثير الهم والهم مبدأ الإرادة فالنفس لا تكون إلا مريدة عاملة فإن لم توفق للإرادة

الصالحة وإلا وقعت في الإرادة الفاسدة والعمل الضار وقد قال تعالى إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين فأخبر سبحانه أن الإنسان خلق على هذه الصفة وإن من كان على غيرها فلأجل ما زكاه الله به من فضله وإحسانه وقال تعالى وخلق الإنسان ضعيفا قال طاوس ومقاتل وغيرهما لا يصبر عن النساء وقال الحسن هو خلقه من ماء مهين وقال الزجاج ضعف عزمه عن قهر الهوى والصواب أن ضعفه يعم هذا كله وضعفه أعظم من هذا وأكثر فإنه ضعيف البنية ضعيف القوة ضعيف الإرادة ضعيف العلم ضعيف الصبر والآفات إليه مع هذاالضعف أسرع من السيل في صيب الحدور فبالإضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه وخلقه على هذه الصفة هو من الأمور التي يحمد عليها الرب سبحانه ويثنى عليه بها وهو موجب حكمته وعزته فكل ما يحدث من هذه الخلقة ويلزم عنها فهو بالنسبة إلى الخالق سبحانه خير وعدل وحكمة إذ مصدر هذه الخلقة عن صفات كماله من غناه وعلمه وعزته وحكمته ورحمته وبالنسبة إلى العبد تنقسم إلى خير وشر وحسن وقبيح كما تكون بالنسبةإليه طاعة ومعصية وبرا وفجورا بل أخص من ذلك مثل كونها صلاة وصياما وحجا وزنا وسرقة وأكلا وشربا إذ ذاك موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه وموجب أمر الله ونهيه ولله سبحانه الحكمة البالغة والنعمة السابغة والحمد المطلق على جميع ما خلقه وأمر به وعلى مالم يخلقه مما لو شاءه لخلقه وعلى توفيقه الموجب لطاعته وعلى خذلانه الموقع في معصيته وهو سبحانه سبقت رحمته غضبه وكتب على نفسه

الرحمة وأحسن كل شيء خلقه وأتقن كل ما صنع وما يحصل للنفوس البشرية من الضرر والأذى فله في ذلك سبحانه أعظم حكمة مطلوبة وتلك الحكمة إنما تحصل على الوجه الواقع المقدر بما خلق لها من الأسباب التي لا تنال غاياتها إلا بها فوجود هذه الأسباب بالنسبة إلى الخالق الحكيم سبحانه هو من الحكمة ولهذا يقرن سبحانه في كتابه بين اسمه الحكيم واسمه العليم تارة وبين اسمه العزيز تارة كقوله والله عليم حكيم والله عزيز حكيم وقوله وكان الله عزيزا حكيما وكان الله عليما حكيما وإنك لتلقى القرءان من لدن حكيم عليم فإن العزة تتضمن القوة ولله القوة جميعا يقال عز يعز بفتح العين إذا اشتد وقوي ومنه الأرض العزاز الصلبة الشديدة وعز يعز بكسر العين إذا امتنع ممن يرومه وعز يعز بضم العين إذا غلب وقهر فأعطوا أقوى الحركات وهي الضمة لأقوى المعاني وهو الغلبة والقهر للغير وأضعفها وهي الفتحة لأضعف هذه المعاني وهو كون الشيء في نفسه صلبا ولا يلزم من ذلك أن يمتنع عمن يرومه والحركة المتوسطة وهي الكسرة للمعنى المتوسط وهو القوي الممتنع عن غيره ولا يلزم منه أن يقهر غيره ويغلبه فأعطوا الأقوى للأقوى والأضعف للأضعف والمتوسط للمتوسط ولا ريب أن قهر المربوب عما يريده من أقوى أوصاف القادر فإن قهره عن إرادته وجعله غير مريد كان أقوى أنواع القهر والعز ضد الذل والذل أصله الضعف والعجز فالعز يقتضي كمال القدرة ولهذا يوصف به المؤمن ولا يكون ذما له بخلاف الكبر قال رجل للحسن البصري إنك متكبر فقال لست

بمتكبر ولكني عزيز وقال تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وقال ابن مسعود ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر وقال النبي اللهم أعز الإسلام بأحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب أو أبي جهل بن هشام وفي بعض الآثار إن الناس يطلبون العزة في أبواب الملوك ولا يجدونها إلا في طاعة الله عز و جل وفي الحديث اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك وقال بعضهم من المعصية إلى عز الطاعة فالعزة من جنس القدرة والقوة وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من

المؤمن الضعيف وفي كل خير فالقدرة إن لم يكن معها حكمةبل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظر في العاقبة ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله كان فعلها فسادا كصاحب شهوات الغي والظلم الذي يفعل بقوته ما يريده من شهوات الغي في بطنه وفرجه ومن ظلم الناس فإن هذا وإن كان له بقوة وعزة لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونة على شره وفساده وكذلك العلم كماله أن تقترن به الحكمة وإلا فالعالم الذي لا يريد ما تقتضيه الحكمة وتوجبه بل يريد ما يهواه سفيه غاو وعلمه عون على الشر والفساد هذا إذا كان عالما قادرا مريدا له إرادة من غير حكمة وإن قدر أنه لا إرادة له بحال فهذا أولا ممتنع من الحي فإن وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إرادةممتنع كوجود إرادة بدون الشعور وأما القدرة والقوة إذا قدر وجودها بدون إرادة فهي كقوة الجماد فإن القوة الطبيعية التي هي مبدأ الفعل والحركة لا إرادة لها وقد قال بعض الناس إن للجماد شعورا يليق به واحتج بقوله تعالى وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وبقوله تعالى فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض وهذه المسألة كبيرة تحتاج إلى كلام لا يليق بهذا الموضع والمقصود أن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لايحصل بهما الكمال والصلاح وإنما يحصل ذلك بالحكمة معها واسمه سبحانه الحكيم يتضمن حكمته في خلقه وأمره في إرادته الدينية والكونية وهو حكيم في كل ما خلقه وأمر به

والناس في هذا المقام أربع طوائف
الطائفة الأولى الجاحدة لقدرته وحكمته فلا يثبتون له سبحانه قدرة ولا حكمة كما يقوله من ينفي كونه تعالى فاعلا مختارا وأن صدور العالم عنه بالإيجاب الذاتي لا بالقدرة والاختيار وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها عناية إلهية وهم من أشد الناس تناقضا إذ لا يعقل حكيم لا قدرة له ولا اختيار وإنما يسمون ما في العالم من المصالح والمنافع عناية إلهية من غير أن يرجع منها إلى الرب سبحانه إرادة ولا حكمة وهؤلاء كما أنهم مكذبون لجميع الرسل فإنهم مخالفون لصريح العقل والفطرة قد نسبوا للرب سبحانه أعظم النقبص وجعلوا كل قار مريد مختار أكمل منه وإن كان من كان بل سلبهم القدرة والاختيار والفعل عن رب العالمين شر من شرك عباد الأصنام به بكثير وشر من قول النصارى أنه تعالى عن قولهم ثالث ثلاثة وأن له صاحبة وولدا فإن هؤلاء أثبتوا له قدرة وإرادة واختيارا وحكمة ووصفوه مع ذلك بما لا يليق به وأما أولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية وأثبتوا له أسماء لا حقائق لها ولا معنى
والطائفة الثانية أقرت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات وجحدت حكمته وماله في خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها فحافظت على القدر وجحدت الحكمة وهؤلاء هم النفاة للتعليل والأسباب القوى والطبائع في المخلوقات فعندهم لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء وليس في القرآن عندهم لام تعليل ولا باء تسبب وكل لام توهم التعليل فهي عندهم لام العاقبة وكل باء تشعر بالتسبب فهي عندهم باء المصاحبة وهؤلاء سلطوا نفاة القدر عليهم بما نفوه من الحكمة والتعليل والأسباب فاستطالوا عليهم بذلك فوجدوا مقالا واسعا بالشناعة فقالوا وشنعوا ولعمر والله إنهم لمحقون في أكثر ما شنعوا عليهم به إذ نفي الحكمة والتعليل والأسباب له من لوازم في غاية الشناعة والتزامها بمكابرة ظاهرة لعامة العقلاء

والطائفة الثالثة أقرت بحكمته وأثبتت الأسباب والعلل والغايات في أفعاله وأحكامه وجحدت كمال قدرته فنفت قدرته على شطر العالم وهو أشرف ما فيه من أفعال الملائكة والجن والإنس وطاعاتهم بل عندهم هذه كلها لاتدخل تحت مقدوره سبحانه ولا يوصف بالقدرة عليها ولا هي داخلة تحت مشيئته ولا ملكه وليس في مقدوره عندهم أن يجعل المؤمن مؤمنا والمصلي مصليا والموفق موفقا بل هو الذي تجعل نفسه كذلك وعندهم أن أفعال العباد من الملائكة والجن والإنس كانت بغير مشيئته واختياره فتعالى الله عن قولهم وهؤلاء سلطوا عليهم نفاة الحكمة والتعليل والأسباب فمزقوهم كل ممزق ووجدوا طريقا وسيعا إلى الشناعة عليهم وأبدوا تناقضهم فقالوا وشنعوا ورموهم بكل داهية وفي قدرة الرب سبحانه على شطر المملكة له لوازم في غاية الشناعة والقبح والفساد والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاء ونفي التزامها تناقض بين فصاروا بذلك بين التناقض وهو أحسن حالهم وبين التزام تلك العظائم التي تخرج عن الإيمان كما كان نفاة الحكمة والأسباب والغايات كذلك
فهدى الله الطائفة الرابعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فآمنوا بالكتاب كله وأقروا بالحق جميعه ووافقوا كل واحدة من الطائفلتين على ما معها من الحق وخالفوهم فيما قالوه من الباطل فآنوا بخلق الله وأمره بقدره وشرعه وأنه سبحانه المحمود على خلقه وأمره وأنه له الحكمة البالغة والنعمة السابغة وأنه على كل شيء قدير فلا يخرج عن مقدوره شيء من الموجودات أعيانها وأفعالها وصفاتها كما لا يخرج عن علمه فكل ما تعلق به علمه من العالم تعلقت به قدرته ومشيئته وآمنوا مع ذلك بأن له الحجة على خلقه وأنه لا حجة لأحد عليه بل لله الحجة البالغة وأنه لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم بل كان تعذيبهم منه عدلا منه وحكمة لا بمحض المشيئة المجردة عن السبب والحكمة كما

يقوله الجبرية ولا يجعلون القدر حجة لأنفسهم ولا لغيرهم بل يؤمنون به ولا يحتجون به ويعلمون أن الله سبحانه أنعم عليهم بالطاعات وأنها من نعمته عليهم وفلضله وإحسانه وأن المعاصي من نفوسهم الظالمة الجاهلة وأنهم هم جناتها وهم الذين اجترحوها ولا يحملونها على القضاء والقدر مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما في العالم من خير وشر وطاعة وعصيان وكفر وإيمان وأن مشيئة الله سبحانه محيطة بذلك كإحاطة علمه به وأنه لو شاء ألا يعصى لما عصي وأنه تعالى أعز وأجل من أن يعصى قسرا والعباد أقل من ذلك وأهون وأنه ما شاء الله كان وكل كائن فهو بمشيئته ومالم يشأ لم يكن وما لم يكن فلعدم مشيئته فله الخلق والأمر وله الملك والحمد وله القدرة التامة والحكمة الشاملة البالغة فهذه الطائفة هم أهل البصر التام والأولى لهم العمى المطلق والثانية والثالثة كل طائفة منهما لها عين عمياء ومع هذا فسرى العمى من العين العمياء إلى العين الصحيحة فأعماها ولا يستكثر تكرار هذه الكلمات من يعلم شدة الحاجة إليها وضرورة النفوس إليها فلو تكررت ما تكررت فالحاجة إليها في محل الضرورة والله المستعان

فصل في إثبات الحمد كله لله عز و جل
ويجمع هذين الأصلين العظيمين أصل ثالث هو عقد نظامهما وجامع شملهما وبتحقيقه وإثباته على وجهه يتم بناء هذين الأصلين وهو إثبات الحمد كله لله رب العالمين فإنه المحمود على ما خلقه وأمر به ونهى عنه فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وأعدائهم وهو المحمود على عدله في أعدائه كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده ولهذا سبح بحمده السموات السبع الأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده وكان في قول النبي عند الاعتدال من الركوع ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد فله سبحانه الحمد حمدا يملأ المخلوقات والفضاء الذي بين

السماوات والأرض ويملأ ما يقدر بعد ذلك مما يشاء الله أن يملأ بحمده وذاك يحتمل أمرين أحدهما أن يملأ ما يخلقه الله بعد السموات والأرض والمعنى أن الحمد ملء ما خلقته وملء ما تخلقه بعد ذلك الثاني أن يكون المعنى ملء ما شئت من شيء بعد يملؤه حمدك أي يقدر مملوءا بحمدك وإن لم يكن موجودا ولكن يقال المعنى الأول أقوى لأن قوله ما شئت من شيء بعديقتضي أنه شيء يشاؤه وما شاء كان والمشيئة متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له فتأمله لكنه إذا شاء كونه فله الحمد ملؤه فالمشيئة راجعة إلى المملوء بالحمد فلا بد أن يكون شيئا موجودا يملؤه حمده وأيضا فإن قوله من شيء بعد يقتضي أنه شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات كما يخلقه بعد ذلك من مخلوقاته من القيامة وما بعدها
ولو أريد تقدير خلقه لقيل وملء ما شئت من شيء مع ذلك لأن المقدر يكون مع المحقق وأيضا فإنه لم يقل ملء ما شئت أن يملأه الحمد بل قال ما شئت والعبد قد حمد حمدا أخبر به وإن ثناءه ووصفه بأنه يملأ ما خلقه الرب سبحانه وما يشاء بعد ذلك وأيضا فقوله وملء ما شئت من شيء بعد يقتضي إثبات مشيئة تتعلق بشيء بعد ذلك وعلى الوجه الثاني قد تتعلق المشيئة بملءالمقدر وقد لا تتعلق وأيضا فإذا قيل ما شئت من شيء بعد ذلك كان الحمد مالئا لما هو موجود يشاؤه الرب دائما ولا ريب أن له الحمد دائما في الأولى والآخرة وأما إذا قدر ما يملؤه الحمد وهو غير موجود فالمقدرات لا حد لها وما من شيء منها إلا يمكن تقدير شيء بعده وتقدير ما لا نهاية له كتقدير الأعداد ولو أريد هذا المعنى لم يحتج إلى تعليقه بالمشيئة بل قيل ملء ما لا يتناهى فأما ما يشاؤه الرب فلا يكون إلا موجودا مقدرا وإن كان لا آخر لنوع الحوادث أو بقاء ما يبقى منها فهذا كله مما يشاؤه بعد وأيضا فالحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له ومحاسن المحمود تعالى إما

قائمة بذاته وإما ظاهرة في مخلوقاته فأما المعدوم المحض الذي لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها فلا محامد فيه البتة فالحمد لله الذي يملأ المخلوقات ما وجد منها ويوجد هو حمد يتضمن الثناء عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة في مخلوقاته وأما مالا وجود له فلا محامد فيه ولا مذام فجعل الحمد مالئا له لا حقيقة له
وقد اختلف الناس في معنى كون حمده يملأ السموات والأرض وما بينهما فقالت طائفة على جهة التمثيل أي لو كان أجساما لملأ السموات والأرض وما بينهما قالوا فإن الحمد من قبيل المعاني والأعراض التي لا تملأ بها الأجسام ولا تملأ الأجسام إلا بالأجسام والصواب أنه لا يحتاج إلى هذا التكلف البارد فإن ملء كل شيء يكون بحسب المالىء والمملوء فإذا قيل امتلأت الإناء ماء وامتلأت الجفنة طعاما فهذا الامتلاء نوع وإذا قيل امتلأت الدار رجالا وامتلأت المدينة خيلا ورجالا فهذا نوع آخر وإذا قيل امتلأ الكتاب سطورا فهذا نوع آخر وإذا قيل امتلأت مسامع الناس حمدا أو ذما لفلان فهذا نوع آخر كما في أثر معروف أهل الجنة من امتلأت مسامعه من ثناء الناس عليه وأهل النار من امتلأت مسامعه من ذم الناس له وقال عمر بن الخطاب في عبدالله بن مسعود كنيف مليء علما ويقال فلان علمه قد ملأ الدنيا وكان يقال ملأ

ابن أبي الدنيا الدنيا علما ويقال صيت فلان قد ملأ الدنيا وضيق الآفاق وحبه قد ملأ القلوب وبغض فلان قد ملأ القلوب وامتلأ قلبه رعبا وهذا أكثر من أن تستوعب شواهده وهو حقيقة في بابه وجعل الملء والامتلاء حقيقة للأجسام خاصة تحكم باطل ودعوى لا دليل عليها البتة والأصل الحقيقة الواحدة والاشتراك المعنوي هو الغالب على اللغة والأفهام والاستعمال فالمصير إليه أولى من المجاز والاشتراك وليس هذا موضع تقرير المسألة
والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقبص وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خال عن الحكمة والمصلحة وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم موصوف بصفة الكمال مذكور بنعوت الجلال منزه عن الشبيه والمثال ومنزه عما يضاد صفات كماله فمنزه عن الموت المضاد للحياة وعن السنة والنوم والسهو والغفلة المضاد للقيومية وموصوف بالعلم منزه عن أضداده كلها من النسيان والذهول وعزوب شيء عن علمه موصوف بالقدرة التامةمنزه عن ضدها من العجز واللغوب والإعياء موصوف بالعدل المنزه عن الظلم موصوف بالحكمة منزه عن العبث موصوف بالسمع والبصر منزه عن أضدادهما من الصمم والبكم موصوف بالعلو والفوقية منزه عن أضدا ذلك موصوف بالغنى التام منزه عما يضاده بوجه من الوجوه ومستحق للحمد كله فيستحيل أن يكون غير محمود كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق ولا حي وله الحمد كله واجب لذاته فلا يكون إلا محمودا كما لا يكون إلا إلها وربا وقادرا

فإذا قيل الحمد كله لله فهذا له معنيان أحدهما أنه محمود على كل شيء وبكل ما يحمد به المحمود التام وإن كان بعض خلقه يحمد أيضا كما بحمد رسله وأنبياؤه وأتباعهم فلذلك من حمده تبارك وتعالى بل هو المحمود بالقصد الأول وبالذات وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده فهو المحمود أولا وآخرا وظاهرا وباطنا وهذا كما أنه بكل شيء عليم وقد علم غيره من علمه مالم يكن يعلمه بدون تعليمه وفي الدعاء المأثور اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله وهو سبحانه له الملك وقد آتى من الملك بعض خلقه وله الحمد وقد آتى غيره من الحمد ما شاء وكما أن ملك الخلوق داخل في ملكه فحمده أيضا داخل في حمده فما من محمود يحمد على شيء مما دق أو جل إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية أيضا وإذا قال اللهم لك الحمد فالمراد به أنت المستحق لكل حمد ليس المراد به الحمد الخارجي فقط المعنى الثاني أن يقال لك الحمد كله أي الحمد التام الكامل فهذا مختص بالله ليس لغيره فيه شركة والتحقيق أن له الحمد بالمعنيين جميعا فله عموم الحمد وكماله وهذا من خصائصه سبحانه فهو المحمود على كل حال وعلى كل شيء أكمل حمد وأعظمه كما أن له الملك التام العام فلا يملك كل شيء إلا هو وليس الملك التام الكامل إلا له وأتباع الرسل يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد فإنهم يقولون إنه خالق كل شيء وربه ومليكه لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء البتة فله الملك كله والقدرية المجوسية يخرجون من ملكه أفعال العباد ويخرجون سائر حركات الملائكة والجن والإنس عن ملكه وأتباع الرسل يجعلون ذلك كله داخلا في ملكه وقدرته ويثبتون كمال الحمد أيضا وأنه المحمود على جميع ذلك وعلى كمال الحمد أيضا وأنه المحمود على

جميع ذلك وعلى كل ما خلقه ويخلقه لما له فيه من الحكم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل وأما نفاة الحكمة والأسباب من مثبتي القدر فهم في الحقيقة لا يثبتون له حمدا كما لا يثبتون له الحكمة فإن الحمد من لوازم الحكمة والحكمة إنما تكون في حق من يفعل شيئا لشيء فيريد بما يفعله الحكمة الناشئة من فعله فأما من لا يفعل شيئا لشيء البتة فلا يتصور في حقه الحكمة وهؤلاء يقولون ليس في افعاله وأحكامه لام التعليل وما اقترن بالمفعولات من قوى وطبائع ومصالح فإنما اقترنت بها اقترانا عاديا لا أن هذا كان لأجل هذا ولا نشأ السبب لأجل المسبب بل لا سبب عندهم ولا مسبب البتة إن هو إلا محض المشيئة وصرف الإراة التي ترجح مثلا على مثل بل لا مرجح أصلا وليس عندهم في الأجسام طبائع وقوى تكون أسبابا لحركاتها ولا في العين قوة امتازت بها على الرجل يبصر بها ولا في القلب قوة يعقل بها امتاز بها عن الظهر بل خص سبحانه أحد الجسمين بالرؤية والعقل والذوق تخصيصا لمثل على مثل بلا سبب أصلا ولا حكمة فهؤلاء لم يثبتوا له كمال الحمد كما لم يثبت له أولئك كمال الملك وكلا القولين منكر عند السلف وجمهور الأمة ولهذا كان منكرو الأسباب والقوى والطبائع يقولون العقل نوع من العلوم الضرورية كما قاله القاضيان أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى بن الفراء وأتباعهما وقد نص أحمد على أنه غريزة وكذلك الحارث المحاسبي وغيرهما فأولئك لا يثبتون غريزة ولا قوة ولا طبيعة ولا سببا وأبطلوا مسميات هذه الأسماء جملة وقالوا إن ما في الشريعة من المصالح والحكم لم يشرع الرب سبحانه ما شرع من الأحكام لأجلها بل اتفق اقترانها بها أمرا اتفاقيا كما قالوا نظير ذلك في المخلوقات سواء والعلل عندهم أمارات محضة لمجرد الاقتران الاتفاقي وهم فريقان أحدهما لا يعرجون على المناسبات ولا يثبتون العلل بها البتة وإنما يعتمدون على تأثير العلة بنص أو إجماع فإن فقدوا فزعوا إلى الأقيسة الشبيهة

والفريق الثاني أصلحوا المذهب بعض الإصلاح وقربوه بعض الشيء وأزالوا تلك النفرة عنه فأثبتوا الأحكام بالعلل والعلل بالمناسبات والمصالح ولم يمكنهم الكلام في الفقه إلا بذلك ولكن جعلوا اقتران أحكام تلك العلل والمناسبات بها اقترانا عاديا غير مقصود في نفسه والعلل والمناسبات أمارات ذلك الاقتران وهؤلاء يستدلون على إثبات علم الرب بما في مخلوقاته من الأحكام والإتقان والمصالح وهذا تناقض بين منهم فإن ذلك إنما يدل إذا كان الفاعل يقصد أن يفعل الفعل على وجه مخصوص لأجل الحكمة المطلوبة منه وأما من لم يفعل لأجل ذلك الإحكام والإتقان وإنما اتفق اقترانه بمفعولاته عادة فإن ذلك الفعل لا يدل على العلم ففي أفعال الحيوانات من الإحكام والإتقان والحكم ما هو معروف لمن تأمله ولكن لما لم تكن تلك الحكم والمصالح مقصودة لها لم تدل على علمها والمقصود أن هؤلاء إذا قالوا إنه تعالى لا يفعل لحكمة امتنع عندهم أن يكون الإحكام دليلا على العلم وأيضا فعلى قولهم يمتنع أن يحمد على فعله لأمر ما حصل للعباد من نفع فهو سبحانه لم يقصد بما خلقه نفعهم ولا خلقه لنفعهم ومصالحهم بل إنما أراد مجرد وجوده لا لأجل كذا ولا لنفع أحد ولا لضره فكيف يتصور في حق من يكون فعله ذلك حمد فلا يحمد على فعل عدل ولا على ترك ظلم لأن الظلم عندهم هو الممتنع الذي لا يدخل في المقدور وذلك لا يمدح أحد على تركه وكل ما أمكن وجوده فهو عندهم عدل فالظلم مستحيل عندهم إذ هو عبارة عن الممتنع المستحيل لذاته الذي لا يدخل تحت المقدور ولا يتصور فيه ترك اختياري فلا يتيعلق به حمد وإخباره تعالى عن نفسه بقيامه بالقسط حقيقته عندهم مجرد كونه فاعلا لا أن هناك شيا هو قسط في نفسه يمكن وجود ضده وكذلك قوله وما ربك بظلام للعبيد نفي عندهم لما

هو مستحيل في نفسه لا حقيقة له كجعل الجسم في مكانين في آن واحد وجعله موجودا معدوما في آن واحد فهذا ونحوه عندهم هو الظلم الذي تنزه عنه وكذلك قوله يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا فالذي حرمه على نفسه هو المستحيل الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين وليس هناك ممكن يكون ظلما في نفسه وقد حرمه على نفسه ومعلوم أنه لا يمح الممدوح بترك ما لو أراده لم يقدر عليه وأيضا فإنه قال وجعلته محرما بينكم فالذي حرمه على نفسه هو الذي جعله محرما بين عباده وهو الظلم المقدور الذي يستحق تاركه الحمد والثناء والذي أوجب لهم هذا مناقضة القدرية المجوسية ورد أصولهم وهدم قواعدهم ولكن ردوا باطلا بباطل وقابلوا بدعة ببدعة وسلطوا عليهم خصومهم بما التزموه من الباطل فصارت الغلبة بينهم وبين خصومهم سجالا مرة يغلبون ومرة يغلبون لم يستقر لهم النصرة وإنما النصرة الثابتة لأهل السنة المحضة الذين لم يتحيزوا إلى فئة غير رسول الله ولم يلتزموا غير ما جاء به ولم يؤصلوا أصلا ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم بل أصلهم ما دل عليه كتاب الله وكلام رسوله وشهدت به الفطر والعقول


فصل في بيان أن حمده تعالى شامل لكل ما يحدثه والمقصود بيان شمول حمده سبحانه وحكمته لك ما يحدثه من إحسان ونعمة وامتحان وبلية وما يقضيه من طاعة ومعصية والله تعالى محمود على ذلك مشكور حمد المدح وحمد الشكر أما حمد المدح فالله محمود على كل ما خلق إذ هو رب العالمين والحمد لله رب العالمين وأما حمد الشكر فلأن ذلك كله نعمة في حق المؤمن إذا اقترن بواجبه من الإحسان والنعمة إذا اقترنت بالشكر صارت نعمه والامتحان والبلية إذا اقترنا بالصبر كانا نعمة والطاعة من أجل نعمه وأما المعصية فإذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإنابة والذل والخضوع فقد ترتب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضا وإن كان سببها مسخوطا مبغوضا للرب سبحانه ولكنه يحب ما يترتب عليها من التوبة والاستغفار وهو سبحانه أفرح بتوبة عبده من الرجل إذا أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه فأيس منها ومن الحياة فنام ثم استيقظ فإذا بها قد تعلق خطامها في أصل شجرة فجاء حتى أخذها فالله أفرح بتوبة العبد حين يتوب إليه من هذا براحلته فهذا الفرح العظيم الذي لايشبهه شيء أحب إليه سبحانه من عدمه وله أسباب ولوازم لا بد منها وما يحصل لتقدير عدمه من الطاعات وإن كان محبوبا له فهذا الفرمح

أحب إليه بكثير ووجوده بدون لازمه ممتنع فله من الحكمة في تقدير أسبابه وموجباته حكمة بالغبة ونعمة سابغة هذا بالإضافة إلى الرب سبحانه وأما بالإضافة إلى العبد فإنه قد يكون كمال عبوديته وخضوعه موقوفا على أسباب لا تحصل بدونها فتقدير الذنب عليه إذا اتصل به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه وإن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه والرب سبحانه محمود على الأمرين فإن اتصل بالذنب الآثار المحبوبة للرب سبحانه من التوبة والإنابة والذل والانكسار فهو عين مصلحة العبد والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية وإن لم يتصل به ذلك فهذا لا يكون إلا من خبث نفسه وشره وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الزكية الطاهرة في الملأ الأعلى ومعلوم أن هذه النفس فيها من الشر والخبث ما فيها فلا بد من خروج ذلك منها من القوة إلى الفعل ليترتب على ذلك الآثار المناسبة لها ومساكنة من تليق مساكنته ومجاورة الأرواح الخبيثة في المحل الأسفل فإن هذه النفوس إذا كانت مهيأة لذلك فمن الحكمة أن تستخرج منها الأسباب التي توصلها إلى ما هي مهيأة له ولا يليق بها سواه والرب سبحانه محمود على ذلك أيضا كما هو محمود على إنعامه وإحسانه على أهل الإحسان والإنعام القابلين له فما كل أحد قابلا لنعمته تعالى فحمده وحكمته تقتضي أن لا يودع نعمه وإحسانه وكنوزه في محل غير قابل لها ولا يبقى إلا أن يقال فما الحكمة في خلق هذه الأرواح التي هي غير قابلة لنعمته فقد تقدم من الجواب عن ذلك ما فيه كفاية وأن خلق الأضداد والمقابلات وترتيب آثارها عليها موجب ربوبيته وحكمته وعلمه وعزته وأن تقدير عدم ذلك هضم من جانب الربوبية وأيضا فإن هذه الحوادث نعمة في حق المؤمن فإنها إذا وقعت فهو مأمور أن ينكرها بقلبه ويده ولسانه أو بقلبه ولسانه قط أو بقلبه فقط ومأمور أن يجاهد أربابها بحسب الإمكان فيترتب له على الإنكار والجهاد من مصالح قلبه ونفسه وبدنه ومصالح دنياه وآخرته ما لم يكن ينال بدون ذلك

والمقصود بالقصد الأول إتمام نعمته تعالى على أوليائه ورسله وخاصته فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أوليائه غاية الحكمة وكان في تمكين أهل الكفر والفسق والعصيان من ذلك إيصال إلى الكمال الذي يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه وبذل نفوسهم وأموالهم وقواهم له فإن تمام العبوديةلا يحصل إلا بالمحبة الصادقة وإنما تكون المحبة صادقة إذا بذل فيها المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة في مرضاة محبوبة والتقرب إليه فإن بذل له روحه يحصل إلا بها أن يخلق ذواتا وأسبابا وأعمالا وأخلاقا وطبائع تقتضي معاداة من يحبه ويؤثر مرضاته لها وعند ذلك تتحقق المحبة الصادقة من غيرها فكل أحد يحب الإحسان والراحة والدعة واللذة ويحب من يوصل إليه ذلك ويحصله له ولكن الشأن في أمر وراء هذا وهو محبته سبحانه ومحبة ما يحبه مما هو أكره شيء إلى النفوس وأشق شيء عليها مما لا يلائمها فعند حصول أسباب ذلك يتبين من يحب الله لذاته ويحب ما يحب ممن يحبه لأجل مخلوقاته فقط من المأكل والمشرب والمنكح والرياسة فإن أعطي منها رضي وإن منعها سخط وعتب على ربه وربما شكاه وربما ترك عبادته فلولا خلق الأضداد وتسليط أعدائه وامتحان أوليائه لم يستخرج خاص العبودية من عبيده الذين هم عبيده ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة فيه والحب فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له ولا عبودية بذل الأرواح والأموال والأولاد والقوى في جهاد أعدائه ومضرته ولا عبودية مفارقة الناس أحوج ما يكون إليهم عند لأجله في مرضاته ولا يتحيز إليهم وهو يرى محاب نفسه وملاذها بأيديهم فيرضى مفارقتهم ومشاققتهم وإيثار موالاة الحق عليهم فلولا الأضداد والأسباب التي توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار وأيضا فلولا تسليط الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد لم تحصل له فلضيلة الصبر وجهاد النفس ومنعها من خوضها وشهواتها محبة لله

وإيثارا لمرضاته وطلبا للزلفى لديه والقرب منه وأيضا فلولا ذلك لم تكن هذه النشأة الإنسانية إنسانية بل كانت ملكية فإن الله سبحانه خلق خلقه أطوارا فخلق الملائكة عقولا لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلاف ما يراد من مادة نورية لا تقتضي شيئا من الآثار والطبائع المذمومة وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها وخلق الثقلين الجن والإنس وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة لآثارمختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها وهؤلاء هم أهل الامتحان والابتلاء وهم المعرضون للثواب والعقاب ولو شاء سبحانه لجعل خلقه على طبيعة خلق واحد ولم يفاوت بينهم لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية ولو كان الخلق كله طبيعة واحدة ونمطا واحدا لوجد الملحد مقالا وقال هذا مقتضى الطبيعة ولو كان فاعلا بالاختيار لتنوعت أفعاله ومفعولاته ولفعل الشيء وضده والشيء وخلافه وكذلك لولا شهود هذه الحوادث المشهودة لوجد الملحد أيضا مقالا وقال لو كان لهذا العالم خالقا مختارا لوجدت فيه الحوادث على حسب إرادته واختياره كما روى الحسن أو غيره قال كان أصحاب محمد يقولون جل ربنا القديم إنه لو لم يتغير هذا الخلق لقال الشاك فيه إنه لو كان لهذا العالم خالق لأحدثه بينا هو ليل إذ جاء نهار وبينا هو نهار إذ جاء ليل بينا هو صحو إذ جاء غيم وبينا عو غيم إذ جاء صحو ونحو هذا من الكلام ولهذا يستدل سبحانه في كتابه بالحوادث تارة وباختلافها تارة إذ هذا وهذا يستلزم ربوبيته وقدرته واختياره ووقوع كل الكائنات على وفق مشيئته فتنوع أفعاله ومفعولاته من أعظم الأدلة على ربوبيته وحكمته وعلمه ولهذا خلق سبحانه النوع الإنساني أربعة أقسام
أحدها لا من ذكر ولا أنثي وهو خلق أبيهم واصلهم آدم
الثاني خلقه من ذكر بلا أنثى كخلق أمهم حواء من ضلع من أضلاع

آدم من غير أن تحمل بها أنثى أو يشتمل عليها بطن
الثالث خلقه من أنثى بلا ذكر كخلق المسيح عيسى بن مريم
الرابع خلق سائر النوع لإنساني من ذكر وأنثى وكل هذا ليدل عباده على كمال قدرته ونفوذ مشيئته وكمال حكمته وأن الأمر ليس كما يظنه أعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أن ذلك أمر طبيعي لم يزل هكذا ولا يزال وأنه ليس للنوع أب ولاأم وأنه ليس إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وطبيعة تفعل ما يرى ويشاهد ولم يعلم هؤلاء الجهال الضلال أن الطبيعة قوة وصفة فقيرة إلى محلها محتاجة إلى حامل لها وأنها من أدل الدلائل على وجود أمره في طبعها وخلقها وأودعها الأجسام وجعل فيها هذه الأسرار العجيبة فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته ومملوك من مماليكه وعبيدة مسخرة لأمره تعالى منقادة لمشيئته ودلائل الصنعة وإمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأنها مخلوقة مصنوعة لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرف في ذاتها ونفسها فضلا عن إسناد الكائنات إليها
والمقصود أن تنويع المخلوقات واختلافها من لوازم الحكمة والربوبية والملك وهو أيضا من موجبات الحمد فله الحمد على ذلك كله أكمل حمد وأتمه أيضا فإن مخلوقاته هي موجبات أسمائه وصفاته فلكل اسم وصفة أثر لا بد من ظهوره فيه واقتضائه له فيمتنع تعطيل آثار أسمائه وصفاته كما يمتنع تعطيل ذاته عنها وهذه الآثار لها متعلقات ولوازم يمتنع أن لا توجد كما تقدم التنبيه عليه وأيضا فإن تنويع أسباب الحمد أمر مطلوب للرب محبوب له فكما تنوعت أسباب الحمد تنوع الحمد بتنوعها وكثر بكثرتها ومعلوم أنه سبحانه محمود على انتقامه من أهل الإجرام والإساءة كما هو محمود على إكرامه لأهل العدل والإحسان فهو محمود على هذا وعلى هذا مع ما يتبع ذلك من حمده على حلمه وعفوه ومغفرته وترك

حقوقه ومسامحة خلقه بها والعفو عن كثير من جنايات العبيد فنبههم باليسير من عقابه وانتقامه على الكثير الذي عفا عنه وأنه لو عاجلهم بعقوبته وأخذهم بحقه لقضى إليهم أجلهم ولما ترك على ظهرها من دابة ولكنه سبقت رحمته غضبه وعفوه انتقامه ومغفرته عقابه فله الحمد على عفوه وانتقامه وعلى عدله وإحسانه ولا سبيل إلى تعطيل أسباب حمده ولا بعضها فليتدبر اللبيب هذا الموضع حق التدبر وليعطه حقه يطلعه على أبواب عظيمة من أسرار القدر ويهبط به على رياض منه معشبة وحدائق مأنقة والله الموفق الهادي للصواب
وأيضا فإن الله سبحانه نوع الأدلة الدالة عليه والتي تعرف عباده به غاية التنوع وصرف الآيات وضرب الأمثال ليقيم عليهم حجته البالغة ويتم عليهم بذلك نعمته السابغة ولا يكون لأحد بعد ذلك حجة عليهم سبحانه بل الحجة كلها له والقدرة كلها له فأقام عليهم حجته ولو شاء لسوى بينهم في الهداية كما قال تعالى فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فأخبر أن له الحجة البالغة وهي التي بلغت إلى صميم القلب وخالطت العقل واتحدت به فلا يمكن للعقل دفعها ولا جحدها ثم أخبر أنه سبحانه قادر على هداية خلقه كلهم ولو شاء ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ مشيئته ولكن حكمته تأبى ذلك وعدله يأبى تعذيب أحد وأخذه بلا حجة فأقام الحجة وصرف الآيات وضرب الأمثال ونوع الأدلة ولو كان الخلق كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأمور ولا تنوعت هذه الأدلة والأمثال ولا ظهرت عزته سبحانه في انتقامه من أعدائه ونصر أوليائه عليهم ولا حججه التي أقامها على صدق أنبيائه ورسله ولا كان للناس آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في

سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين ولا كان للخلق آية باقية ما بقيت الدنيا في شأن موسى وقومه وفرعون وقومه وفلق البحر لهم ودخولهم جميعا فيه ثم إنجاء موسى وقومه ولم يغرق أحد منهم وأغرق فرعون وقومه لم ينج منهم أحد فهذا التعرف إلى عباده وهذه الآيات وهذه العزة والحكمة لا سبيل إلى تعطيلها البتة ولا توجد بدون لوازمها
وأيضا فإن حقيقة الملك إنما تتم بالعطاء والمنع والإكرام والإهانة والإثابة والعقوبة والغضب والرضا والتولية والعزل وإعزاز من يليق به العز وإذلال من يليق به الذل قال تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشاء بغير حساب وقال تعالى يسئله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويكشف غما وينصر مظلوما ويأخذ ظالما ويفك عانيا ويغني فقيرا ويجبر كسيرا ويشفي مريضا ويقيل عثرة ويستر عورة ويعز ذليلا ويذل عزيزا ويعطي سائلا ويذهب بدولة ويأتي بأخرى ويداول الأيام بين الناس ويرفع أقواما ويضع آخرين يسوق المقادير التي قدرها قيل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأخر بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه وجرى به قلمه ونفذ فيه حكمه وسبق به علمه فهو المتصرف في الممالك كلها وحده تصرف ملك قادر قاهر عادل رحيم تام الملك لا ينازعه في ملكه منازع ولا يعارضه فيه معارض فتصرفه في المملكة دائر بين العدل والإحسان والحكمة والمصلحة والرحمة فلا يخرج تصرفه عن ذلك

وفي تفسير الحافظ أبي بكر أحمد بن موسى بن مردويه من حديث الحماني حدثنا إسحاق بن سليمان عن معاوية بن يحيى عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عن أبي الدرداء أنه سئل عن قوله تعالى كل يوم هو في شأن فقال سئل عنها رسول الله فقال من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين وفيه أيضا من حديث حماد بن سلمة حدثنا الزبير أبو عبدالسلام عن أيوب بن عبدالله بن مكرز عن أبيه قال قال عبدالله بن مسعود إن ربكم عز و جل ليس عنده ليل ولا نهار نور السموات من نور وجهه أيامكم عنده اثنتا عشرة ساعة تعرض عليه أعمالكم بالأمس ثلاث ساعات من أول النهار فيطلع منها على ما يكره فيغضب فيكون أول من يعلم بغضبه حملة العرش فتسبح حملة العرش وسرادقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة وينفخ جبريل في القرن فلا يبقى خلق لله في السموات ولا في الأرض إلا سمعه إلا الثقلين ويسبحون لذلك ثلاث ساعات حتى يمتلىء الرحمن رحمة فتلك ست ساعات ثم يدعو بالأرحام فينظر فيها ثلاث ساعات يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور فتلك تسع ساعات ثم يدعو بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر فتلك اثنتا عشرة ساعة ثم قرأ عبدالله كل يوم هو في شأن ثم قال هذا شأنكم وشأن ربكم

عز و جل وذكره الطبراني في المعجم الكبير من وجه آخر وهذا من تمام تصرفه في ملكه سبحانه فلو قصر تصرفه على وجه واحد ونمط واحد لم يكن تصرفا تاما
والمقصود أن الملك والحمد في حقه متلازمان فكل ما شمله ملكه وقدرته شمل حمده فهو محمود في ملكه وله الملك والقدرة مع حمده فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته يستحيل خروجها عن حمده وحكمته ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره لينبه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية وحمد ثناء ومدح ويجمعهما التبارك فتبارك الله يشمل ذلك كله ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين فالحمد أوسع الصفات وأعم المدائح والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدا لأن جميع أسمائه تبارك وتعالى حمد وصفاته حمد وأفعاله حمد وأحكامه حمد وعدله حمد وانتقامه من أعدائه حمد وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد والخلق والأمر إنما قام بحمده ووجد بحمده وظهر بحمده وكان الغاية هي

حمده فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله فحمده روح كل شيء وقيام كل شيء بحمده وسريان حمده في الموجودات وظهور آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر من الطرق الدالة على شمول معنى الحمد وانبساطه على جميع المعلومات معرفة أسمائه وصفاته وإقرار العبد بأن للعالم إلها حيا جامعا لكل صفة كمال واسم حسن وثناء جميل وفعل كريم وأنه سبحانه له القدرة التامة والمشيئة النافذة والعلم المحيط والسمع الذي وسع الأصوات والبصر الذي أحاط بجميع المبصرات والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات والملك الأعلى الذي لا يخرج عنه ذرة من الذرات والغنى التام المطلق من جميع الجهات والحكمة البالغة المشهودة آثارها في الكائنات والعزة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات والكلمات التامات النافذات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته ولا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وليس له من يشركه في ذرة من ذرات مكله أو يخلفه في تدبير خلقه أو يحجبه عن داعيه أو مؤمليه أو سائليه أو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أو فرية أو كذب كما يكون بين الرعايا وبين الملوك ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود وفسد العالم بأسره لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا ولو كان معه آلهة أخرى كما يقوله أعداؤه المبطلون لوقع من النقص في التدبير وفساد الأمر كله ما لا يثبت معه حال ولا يصلح عليه وجود ومن أعظم نعمه علينا وما استوجب حمد عباده له أن يجعلنا عبيدا له خاصة ولم يجعلنا ربنا منقسمين بين شركاء متشاكسين ولم يجعلنا عبيدا لإله نحتته الأفكار لا يسمع أصواتنا ولا يبصر أفعالنا ولا يعلم أحوالنا ولا

يملك لعابديه ضرا ولا نفعا ولا وموتا ولا حياة ولا نشورا ولا تكلم قط ولا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى ولا ترفع إليه الأيدي ولا تعرج الملائكة والروح إليه ولا يصعد إليه الكلم الطيب ولا يرفع إليه العمل الصالح وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا محاذيا له ولا مباينا ولا هو مستو على عرشه ولا هو فوق عباده وحظ العرش منه حظ الحشوش والأخلية ولا تنزل الملائكة من عنده بل لا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يقرب منه شيء ولا يحب ولا يحب ولا يلتذ المؤمنون بالنظر إلى وجهه الكريم في دار الثواب بل ليس له وجه يرى ولا له يد يقبض بها السموات وأخرى يقبض بها الأرض ولا فعل يقوم به ولا حكمة تقوم به ولا كلم موسى تكليما ولا تجلى للجبل فجعله دكا هشيما ولا يجيء يوم القيامة لفصل القضاء ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول أسأل عن عبادي غيري ولا يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه ويجوز في حكمته تعذيب أنبيائه ورسله وملائكته وأهل طاعته أجمعين من أهل السموات والأرضين وتنعيم أعدائه من الكفار به والمحاربين له والمكذبين له ولرسله والكل بالنسبة إليه سواء ولا فرق البتة إلا أنه أخبر أنه لا يفعل ذلك فامتنع للخبر بأنه لا يفعله لا لأنه في نفسه مناف لحكمته ومع ذلك فرضاه عين غضبه وغضبه عين رضاه ومحبته كراهته وكراهته محبته إن هي إلا إرادة محضة ومشيئة صرفة يشاء بها لا لحكمة ولا لغاية ولا لأجل مصلحة ومع ذلك يعذب عباده على ما لم يعملوه ولا قدرة لهم عليه بل يعذبهم على نفس فعله الذي فعله هو ونسبه إليهم ويعذبهم إذا لم يعفلوا فعله ويلومهم عليه يجوز في حكمته أن يعذب رجالا إذا لم يكونوا نساء ونساء حيث لم يكونوا رجالا وطوالا حيث لم يكونوا قصارا وبالعكس وسودا إذا لم يكونوا بيضا وبالعكس بل تعذيبه لهم على مخالفته هو من هذا الجنس إذ لا قدرة لهم

البتة على فعل ما أمروا به ولا ترك ما نهوا عنه فله الحمد والمنة والثناء الحسن الجميل إذ لم يجعلنا عبيدا لمن هذا شأنه فنكون مضيعين ليس لنا رب نقصده ولا صمد نتوجه إليه ونعبده ولا إله نعول عليه ولا رب نرجع إليه بل قلوبنا تنادي في طرق الحيرة من دلنا وجمع علينا ربا ضائعا لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا مباين له ولا محاذ له ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء ولا كلم أحدا ولا يكلمه أحد ولا ينبغي له أن يعاقب بالقتل أو بالضرب والحبس من ذكرها أو أخبر عنه بها أو أثبتها له أو نسبها إليه أو عرفه بها بل التوحيد الصرف جحدها وتعطيله عنها ونفي قيامها به واتصافه بها وما لم تدركه عقولنا من ذلك فالواجب نفيه وجحده وتكفير من أثبته واستحلال دمه وماله أو تبديعه وتضليله وتفسيقه وكلما كان النفي أبلغ كان التوحيد أتم فليس كذا وليس كذا أبلغ في التوحيد من قولنا هو كذا وهو كذا فلله العظيم أعظم حمد وأتمه وأكمله على ما من به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العليا وأسمائه الحسنى وإقرار قلوبنا بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة رب العالمين قيوم السموات والأرضين إله الأولين والآخرين ولا يزال موصوفا بصفات الجلال منعوتا بنعوت الكمال منزها عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال فهو الحي القيوم الذي لكمال حياته وقيوميته لا تأخذه سنة ولا نوم مالك السموات والأرض الذي لكمال ملكه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه العالم بكل شيء الذي لكمال علمه يعلم ما بين أيدي الخلائق وما خلفهم فلا تسقط ورقة إلا بعلمه ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليها الملك

ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب البصير الذي لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخها وعروقها ويرى دبيبها على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السموات السبع السميع الذي قد استوى في سمعه سر القول وجهره وسع سمعه الأصوات فلا تختلف عليه أصوات الخلق ولا تشتبه عليه ولا يشغله منها سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه كثرة السائلين قالت عائشة الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله وإني ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله عز و جل قد سمع الله قول التى تجاد لك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير القدير الذي لكمال قدرته يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويجعل المؤمن مؤمنا والكافر كافرا والبر برا والفاجر فاجرا وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره وجعل فرعون وقومه أئمة يدعون إلى النار ولكمال قدرته لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء أن يعلمه إياه ولكمال قدرته خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب ولا يعجزه أحد من خلقه ولا يفوته بل هو في قبضته أين كان فإن فر منه فإنما يطوي المراحل في يديه كما قيل
وكيف يفر المرء عنك بذنبه ... إذا كان يطوي في يديك المراحلا

ولكمال غناه استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إذنه إليه ولكمال عظمته وعلوه وسع كرسيه السموات والأرض ولم تسعه أرضه ولا سماواته ولم تحط به مخلوقاته بل هو العالي على كل شيء وهو بكل شيء محيط ولا تنفد كلماته ولا تبدل ولو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادا وأشجار الأرض أقلاما فكتب بذلك المداد وبتلك الأقلام لنفد المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلماته إذ هي غير مخلوقة ويستحيل أن يفنى غير مخلوق بالمخلوق ولو كان كلامه مخلوقا كما قاله من لم يقدره حق قدرة ولا أثنى عليه بما هو أهله لكان أحق بالفناء من هذا المداد وهذه الأقلام لأنه إذا كان مخلوقا فهو نوع من أنواع مخلوقاته ولا يحتمل المخلوق إفناء هذا المداد وهذه الأقلام وهو باق غير فان وهو سبحانه يحب رسله وعباده المؤمنين ويحبونه بل لا شيء أحب إليهم منه ولا أشوق إليهم من لقائه ولا أقر لعيونهم من رؤيته ولا أحظى عندهم من قربه وأنه سبحانه له الحكمة البالغة في خلقه وأمره وله النعمة السابغة على خلقه وكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها وأنه أفرح بتوبة عبده من واجد راحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة بعد فقدها واليأس منها وأنه سبحانه لم يكلف عباده إلا وسعهم وهو دون طاقتهم فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم بخلاف وسعهم فإنه ما يسعونه ويسهل عليهم ويفضل قدرهم عنه كما هو الواقع
وأنه سبحانه لا يعاقب أحدا بغير فعله ولا يعاقبه على فعل غيره ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله ولا على فعل ما لا قدرة له على تركه وأنه حكيم كريم جواد ماجد محسن ودود صبور شكور يطاع فيشكر ويعصى فيغفر لا أحد أصبر على أذى سمعه منه ولا أحد أحب إليه المدح منه ولا أحد أحب إليه العذر منه ولا أحد أحب إليه الإحسان منه فهو محسن

يحب المحسنين شكور يحب الشاكرين جميل يحب الجمال طيب يحب كل الطيب نظيف يحب النظافة عليم يحب العلماء من عباده كريم يحب الكرماء قوي والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف بر يحب الأبرار عدل يحب أهل العدل حيي ستير يحب أهل الحياء والستر غفور عفو يحب من يعفو عن عباده ويغفر لهم صادق يحب الصادقين رفيق يحب الرفق جواد يحب الجود وأهله رحيم يحب الرحماء وتر يحب الوتر ويحب أسماءه وصفاته ويحب المتعبدين له بها ويحب من يسأله ويدعوه بها ويحب من يعرفها ويعقلها ويثني عليه بها ويحمده ويمدحه بها كما في الصحيح عن النبي لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك أثنى على نفسه ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين وفي حديث آخر صحيح لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم ولمحبته لأسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها فأمرهم بالعدل والإحسان والبر والعفو الجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت ولما كان سبحانه يحب أسماءه وصفاته كان أحب الخلق إليه من اتصف بالصفات التي يحبها وأبغضهم إليه من اتصف بالصفات التي يكرهها فإنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت لأن اتصافه بها ظلم إذ لا تليق به هذه الصفات ولا

تحسن منه لمنافاتها لصفات العبد وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية ومفارقته لمنصبه ومرتبته وتعديه طوره وحده وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة الإحسان والصبر والشكر فإنها لا تنافي العبودية بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته إذ المتصف بها من العبيد لم يتعد طوره ولم يخرج بها من دائرة العبودية والمقصود أنه سبحانه لكمال أسمائه وصفاته موصوف بكل صفة كمال منزه عن كل نقص له كل ثناء حسن ولا يصدر عنه إلا كل فعل جميل ولا يسمى إلا بأحسن الأسماء ولا يثنى عليه إلا بأكمل الثناء وهو المحمود المحبوب المعظم ذو الجلال والإكرام على كل ما قدره وخلقه وعلى ما أمر به وشرعه
ومن كان له نصيب من معرفة أسمائه الحسنى واستقراء آثارها في الخلق والأمر رأى الخلق والأمر منتظمين بها أكمل انتظام ورأى سريان آثارها فيهما وعلم بحسب معرفته ما يليق بكماله وجلاله أن يفعله وما لا يليق فاستدل بأسمائه على ما يفعله وما لا يفعله فإنه لا يفعل خلاف موجب حمده وحكمته وكذلك يعلم ما يليق به أن يأمر به ويشرعه مما لا يليق به فيعلم أنه لا يأمر بخلاف موجب حمده وحكمته فإذا رأى في بعض الأحكام جورا وظلما أو سفها وعبثا ومفسدة أو ما لا يوجب حمدا وثناء فليعلم أنه ليس من أحكامه ولا دينه وأنه بريء منه ورسوله فإنه إنما أمر بالعدل لا بالظلم وبالمصلحة لا بالمفسدة وبالحكمة لا بالعبث والسفه وإنما بعث رسوله بالحنيفية السمحة لا بالغلظة والشدة وبعثه بالرحمة لا بالقسوة فإنه أرحم الراحمين ورسوله رحمة مهداة إلى العالمين ودينه كله رحمة وهو نبي الرحمة وأمته الأمة المرحومة وذلك كله موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة فلا يخبر عنه إلا بحمده ولا يثنى عليه إلا بأحسن الثناء كما لا يسمى إلا بأحسن الأسماء
وقد نبه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن حمد نفسه في

أول الخلق وآخره وعند الأمر والشرع وحمد نفسه على ربوبيته للعالمين وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاة أحد من خلقه لحاجته إليه وحمد نفسه على علوه وكبريائه وحمد نفسه في الأولى والآخرة وأخبر عن سريان حمده في العالم العلوي والسفلي ونبه على هذا كله في كتابه وحمد نفسه عليه فتنوع حمده وأسباب حمده وجمعها تارة وفرقها أخرى ليتعرف إلى عباده ويعرفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه وليتحبب إليهم بذلك ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه قال تعالى الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين وقال تعالى الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وقال تعالى الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين وقال الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير وقال تعالى الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير وقال وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون

وقال هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين وقال فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشيا وحين تظهرون
وأخبر عن حمد خلقه له بعد فصله بينهم والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين
وأخبر عن حمد أهل الجنة له وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده كما أن أهل النار لم يدخلوها إلا بحمده فقال عن أهل الجنة الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله و دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين وقال عن أهل النار ويوم يناديهم فيقول أين شركاءي الذين كنتم تزعمون ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون وقال فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظلم وعلموا أنهم كانوا كاذبين في الدنيا مكذبين بآيات ربهم مشركين به جاحدين لإلهيته مفترين عليه وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم وأخذهم ببعض حقه عليهم وأنه غير ظالم

لهم وأنهم إنما دخلوا النار بعدله وحمده وإنما عوقبوا بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه لا كما تقول الجبرية وتفصيل هذه الحكمة مما لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به ولا إلى التعبير عنه ولكن بالجملة فكل صفة عليا واسم حسن وثناء جميل وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز و جل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها وجميع ما يوصف به ويذكر به ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح تقديس فسبحانه وبحمده لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني به عليه خلقه فله الحمد أولا وآخرا حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده
فهذا تنبيه على أحد نوعي حمده وهو حمد الصفات والأسماء والنوع الثاني حمد النعم والآلاء وهذا مشهود للخليقة برها وفاجرها مؤمنها وكافرها من جزيل مواهبه وسعة عطاياه وكريم أياديه وجميل صنائعه وحسن معاملته لعباده وسعة رحمته لهم وبره ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات المضطرين وكشف كربات المكروبين وإغاثة الملهوفين ورحمته للعالمين وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق بل ابتداء منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها وصرفها بعد وقوعها ولطفه تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال وهدايته خاصته وعباده إلى سبيل دار السلام ومدافعته عنهم أحسن الدفاع وحمايتهم عن مراتع الآثام وحبب إليهم الإيمان وزينة في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم من الراشدين وكتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم وذكرهم قبل أن يذكروه وأعطاهم قبل أن يسألوه وتحبب إليهم بنعمة مع غناه وتبغضهم إليه بالمعاصي وفقرهم إليه ومع هذا كله فاتخذ لهم دارا وأعد لهم فيها من كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين

وملأها من جميع الخيرات وأودعها من النعيم والحبرة والسرور والبهجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها ثم يسر لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها ورضي منهم باليسير في هذه المدة القصيرة جدا بالإضافة إلى بقاء دار النعيم وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشرا وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم ووعدهم أن يمحو ما جنوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات وذكرهم بآلائه وتعرف إليهم بأسمائه وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحسانا لا حاجة منه إليهم ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصاينة لهم لا بخلا منه عليهم وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه ونصحهم بأحسن النصائح ووصاهم بأكمل الوصايا وأمرهم بأشرف الخصال ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال وصرف لهم الآيات وضرب لهم الأمثال ووسع لهم طرق العلم به ومعرفته وفتح لهم أبواب الهداية وعرفهم الأسباب التي تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه ويخاطبهم بألطف الخطاب ويسميهم بأحسن أسمائهم كقوله يا أيها الذين آمنوا وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم قل لعبادي وإذا سألك عبادي عني فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف كقوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم

فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك يا أيها الذين إمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون يا أيها الذين إمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون يا أيها الذين إمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي واتبغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله

وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا فتحت هذا الخطاب إني عاديت إبليس وطردته من سمائي وباعدته من قربي إذ لم يسجد لأبيكم آدم ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دوني وهم أعداء لكم فليتأمل اللبيب مواقع هذا الخطاب وشدة لصوقه بالقلوب والتباسه الأرواح وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة وأعلم عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل وأفضل المنازل وأجل العلوم والمعارف قال تعالى إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم وقال اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت

عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا وقال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقال تعالى يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا
ويتنصل سبحانه إلى عباده من مواضع الظنة والتهمة التي نسبها إليه من لم يعرفه حق معرفته ولا قدره حق قدره من تكليف عباده ما لا يقدرون عليه ولا طاقة لهم بفعله البتة وتعذيبهم إن شكروه وآمنوا به وخلق السموات والأرض وما بينهما لا لحكمة ولا لغاية وأنه لم يخلق خلقه لحاجة منه إليهم ولا ليتكثر بهم من قلة ولا ليتعزز بهم كما قال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون فأخبر أنه لم يخلق الجن والإنس لحاجة منه إليهم ولا ليربح عليهم لكن خلقهم جودا وإحسانا ليعبدوه فيربحوا هم عليه كل الأرباح كقوله إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ولما أمرهم بالوضوء وبالغسل من الجنابة الذي يحط عنهم أوزارهم ويدخلون به عليه ويرفع به درجاتهم قال تعالى ما يريد الله

ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون وقال في الأضاحي والهدايا لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بإخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد يقول سبحانه إني غني عما تنفقون أن ينالني منه شيء حميد مستحق المحامد كلها فإنفاقكم لا يسد منه حاجة ولا يوجب له حمدا بل هو الغني بنفسه الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته وإنفاقكم إنما ننفعه لكم وعائدته عليكم ومن المتعين على من لم يباشر قلبه حلاوة هذا الخطاب وجلالته ولطف موقعه وجذبه للقلوب والأرواح ومخالطته لها أن يعالج قلبه بالتقوى وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التي حالت بينه وبين حظه من ذلك ويتعرض إلى الأسباب التي يناله بها من صدق الرغبة واللحأ إلى الله أن يحيي قلبه ويزكيه ويجعل فيه الإيمان والحكمة فالقلب الميت لا يذوق طعم الإيمان ولا يجد حلاوته ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا في الدنيا ولا في الآخرة ومن أراد مطالعة أصول النعم فليدم سرح الذكر في رياض القرآن وليتأمل ما عدد الله فيه من نعمه وتعرف بها إلى عباده من أول القرآن إلى آخره حين خلق أهل النار وابتلاهم بإبليس وحزبه وتسليط أعدائهم عليهم وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى لتعظم النعمة عليهم بمخالفتها ومحاربتها فالله على أوليائه وعباده أتم نعمة وأكملها في كل ما خلقه من محبوب ومكروه ونعمه ومحنه وفي كل ما أحدثه في الأرض من وقائعه بأعدائه وإكرامه لأوليائه

وفي كل ما قضاه وقدره وتفصيل ذلك لا تفي به أقلام الدنيا وأوراقها ولا قوى العباد وإنما هو التنبيه والإشارة ومن استقرى الأسماء الحسنى وجدها مدائح وثناء تقصر بلاغات الواصفين عن بلوغ كنهها وتعجز الأوهام عن الإحاطة بالواحد منها ومع ذلك فلله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر ولا هجست في الضمائر ولا لاحت لمتوسم ولا سنحت في فكر ففي دعاء أعرف الخلق بربه وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي / ح / وفي الصحيح عنه في حديث الشفاعة لما يسجد بين يدي ربه قال فيفتح قلبي من محامده بشيء لا أحسنه الآن / ح / وكان يقول في سجوده أعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كا أثنيت على نفسك / ح / فلا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه البتة وله أسماء وأوصاف وحمد وثناء لا يعلمه

ملك مقرب ولا نبي مرسل ونسبة ما يعلم العباد من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرة عصفور في بحر
فإن قيل فكيف تصنعون بما يشاهد من أنواع الابتلاء والامتحان والآلام للأطفال والحيوانات ومن هو خارج عن التكليف ومن لا ثواب ولا عقاب عليه وما تقولون في الأسماء الدالة على ذلك من المنتقم والقابض والخافض ونحوها قيل قد تقدم من الكلام في ذلك ما يكفي بعضه لذي الفطرة السليمة والعقل المستقيم وأما من فسدت فطرته وانتكس قلبه وضعفت بصيرة عقله فلو ضرب له من الأمثال ما ضرب فإنه لا يزيده إلا عمى وتحيرا ونحن نزيد ما تقدم إيضاحا وبيانا إذ بسط هذا المقام أولى من اختصاره فنقول قد علمت أن جميع أسماء الرب سبحانه حسنى وصفاته كمال وأفعاله حكمة ومصلحة وله كل ثناء وكل حمد ومدحة وكل خير فمنه وله وبيده والشر ليس إليه بوجه من الوجوه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولا في اسمائه وإن كان في مفعولاته فهو خير بإضافته إليه وشر بإضافته إلى من صدر عنه ووقع به فتمسك بهذا الأصل ولا تفارقه في كل دقيق وجليل وحكمه على كل ما يرد عليك وحاكم إليه واجعله آخيتك التي ترجع إليها وتعتمد عليها واعلم أن لله خصائص في خلقه ورحمة وفضلا يختص به من يشاء وذلك موجب ربوبيته وإلهيته وحمده وحكمته فإياك ثم إياك أن تصغي إلى وسوسة شياطين الإنس والجن والنفس الجاهلة الظالمة إنه هلا سوى بين عباده في تلك الخصائص وقسمها بينهم على السواء فإن هذا عين الجهل والسفه من المعترض به وقد بينا فيما تقدم أن حكمته تأبى ذلك وتمنع منه ولكن اعلم أن الأمر قسمة بين فضله وعدله فيختص برحمته من يشاء ويقصد بعذابه من يشاء وهو المحمود على هذا فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته والخبيثون مقصودون بعذابه ولكل واحد قسطه من الحكمة والابتلاء والامتحان وكل مستعمل فيما هو له مهيأ وله مخلوق وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين فإنه تعالى

خلقهم للخيرات فهم لها عاملون واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقسمته فكذلك لا تضرهم الأدواء ولا السموم بل متى وسوس لهم العدو واغتالهم بشيء من كيده أو مسهم بشيء من طيفه تذكروا فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون وإذا وقعوا في معصية صغيرة أو كبيرة عاد ذلك عليهم رحمة وانقلب في حقهم دواء وبدل حسنه بالتوبة النصوح والحسنات الماحية لأنه سبحانه عرفهم بنفسه وبفضله وبأن قلوبهم بيده وعصمتهم إليه حيث نقض عزماتهم وقد عزموا أن لا يعصوه وأراهم عزته في قضائه وبره وإحسانه في عفوه ومغفرته وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل وأشهدهم حاجتهم إليه وافتقارهم وذلهم وأنه إن لم يعف عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبدا فإنهم لما أعطوا من أنفسهم العزم أن لا يعصوه وعقدوا عليهم قلوبهم ثم عصوه بمشيئته وقدرته عرفوا بذلك عظيم اقتداره وجميل ستره إياهم وكريم حلمه عنهم وسعة مغفرته لهم برد عفوه وحنانه وعطفه ورأفته وأنه حليم ذو أناة ورحيم سبقت رحمته غضبه وأنهم متى رجعوا إليه بالتوبة وجدوه غفورا رحيما حليما كريما يغفر لهم السيئات ويقيلهم العثرات ويودهم بعد التوبة ويحبهم فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاء وتوسلوا إليه بحسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه في أن ألهمهم دعاءه ويسرهم للتوبة والإنابة وأقبلوا بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه ولم تمنعه معاصيهم وجناياتهم من عطفه عليهم وبره لهم وإحسانه إليهم فتاب عليهم قبل أن يتوبوا إليه وأعطاهم قبل أن يسألوه فلما تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه تعرف إليهم تعرفا آخر فعرفهم رحمته وحسن عائدته وسعة مغفرته وكريم عفوه وجميل صفحه وبره وامتنانه وكرمه وشرعه ومبادرته قبولهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرور وشدة النفور والإيضاع في طرق معاصيه وأشهدهم مع ذلك حمده العظيم وبره العميم وكرمه في أن خلى بينهم وبين المعصية فنالوها بنعمه ! وإعانته ثم لم يخل بينهم وبين ما توجبه من

الهلاك والفساد الذي لا يرجى معه فلاح بل تداركهم بالدواء الثاني الشافي فاستخرج منهم داء لو استمر معهم لأفضى إلى الهلاك ثم تداركهم بروح الرجاء فقذفه في قلوبهم وأخبر أنه عند ظنونهم به ولو أشهدهم عظم الجناية وقبح المعصية وغضبه ومقته على من عصاه فقط لأورثهم ذلك المرض القاتل أو الداء العضال من اليأس من روحه والقنوط من رحمته وكان ذلك عين هلاكهم ولكن رحمهم قبل البلاء وجعل تلك الآثار التي توجبها المعصية من المحن والبلاء والشدائد رحمة لهم وسببا إلى علو درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده فأشهدهم بالجناية عزة الربوبية وذل العبودية ورقاهم بآثارها إلى منازل قربة ونيل كرامته فهم على كل حال يربحون عليه يتقلبون في كرمه وإحسانه وكل قضاء يقضيه للمؤمن فهو خير به يسوقه إلى كرامته وثوابه وكذلك عطاياه الدنيوية نعم منه عليهم فإذا استرجعها أيضا وسلبهم إياها انقلبت من عطايا الآخرة ما قيل إن الله ينعم على عباده بالعطايا الفاخرة فإذا استرجعها كانت عطايا الآخرة والرب سبحانه قد تجلى لقلوب المؤمنين العارفين وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه ومضى مشيئته وعظيم سلطانه وعلو شأنه وكرمه وبره وإحسانه وسعة مغفرته ورحمته وما ألقاه في قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية ووراءه مما لم تحتمله قواهم ولا يخطر ببال ولا يدخل في خلد مما لا نسبة لما عرفوه إليه فاعلم أن الذين كان قسمهم أنواع المعاصي والفجور وفنون الكفر والشرك والتقلب في غضبه وسخطه وقلوبهم وأرواحهم شاهدة عليهم بالمعاصي والكفر مقرة بأن له الحجة عليهم وأن حقه قبلهم ولا يذكر أحد منهم النار إلا وهو شاهد بذلك مقر به معترف اعتراف طائع لا مكره مضطهد فهذه شهادتهم على أنفسهم وشهادة أوليائه عليهم والمؤمنون يشهدون فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه ولو شهدوا بها وباؤوا بها لكانت رحمته أقرب إليهم من عقوبته فيشهدون أنهم عبيده وملكه وأنه أوجدهم ليظهر بهم مجده

وينفذ فيهم حكمه ويمضي فيهم عدله ويحق عليهم كلمته ويصدق فيهم وعيده ويبين فيهم سابق علمه ويعمر بها ديارهم ومساكنهم التي هي محل عدله وحكمته وشهد أولياؤه عظيم ملكه وعز سلطانه وصدق رسله وكمال حكمته وتمام نعمته عليهم وقدر ما اختصهم به ومن أي شيء حماهم وصانهم وأي شيء صرف عنهم وأنه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجودهم يتوسلون بها إليه أن لا يجعلهم من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليمين وشهدوا له سبحانه بأن ما كان منه إليهم وفيهم مما يقتضيه إتمام كلماته الصدق والعدل قوله وتحقق مقتضى أسمائه فهو محض حقه وكل ذلك منه حسن جميل له عليه أتم حمد وأكمله وأفضله وهو حكم عدل وقضاء فصل وأنه المحمود على ذلك كله فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث بل ذلك عين الحكمة ومحض الحمد وكمال أظهره في حقه وعز أبداه وملك أعلنه ومراد له أنفذه كما فعل بالبدن وضروب الأنعام أتم بها مناسك أوليائه وقرابين عباده وإن كان ذلك بالنسبة إلى الأنعام هلاكا وإتلافا فأعداؤه الكفار المشركون به الجاحدون أولى أن تكون دماؤهم قرابين أوليائه وضحايا المجاهدين في سبيله كما قال حسان بن ثابت
يتطهرون يرونه قربانهم ... بدماء من علقوا من الكفار
وكذلك لما ضحى خالد بن عبدالله القسري بشيخ المعطلة

الفرعونية جعد بن درهم فإنه خطبهم في يوم أضحى فلما أكمل خطبته قال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا تعالى عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه فكان ضحيته وذكر ذلك البخاري في كتاب خلق الأفعال فهذا شهود أوليائه من شأن أعدائه ولكن أعداءه في غفلة عن هذا لا يشهدونه ولا يقرون به ولو شهدوه وأقروا به لأدركهم حنانه ورحمته ولكن لما حجبوا عن معرفته ومحبته وتوحيده وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا ووصفه بما يليق به وتنزيهه عما لا يليق به صاروا أسوأ حالا من الأنعام وضربوا بالحجاب وأبعدوا عنه بأقصى البعد وأخرجوا من نوره إلى الظلمات وغيبت قلوبهم في الجهل به وبكماله وجلاله وعظمته في غابات ليتم عليهم أمره وينفذ فيهم حكمه والله عليم حكيم والله أعلم


فصل في أن الله خلق دارين وخص كل دار بأهل والله سبحانه مع كونه خالق كل شيء فهو موصوف بالرضا والغضب والعطاء والمنع والخفض والرفع والرحمة والانتقام فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق دارا لطالبي رضاه العاملين بطاعته المؤثرين لأمره القامين بمحابة وهي الجنة وجعل فيها كل شيء مرضي وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ وجعل الخير بحذافيره فيها وجعلها محل كل طيب من الذوات والصفات والأقوال وخلق دارا أخرى لطالبي أسباب غضبه وسخطه المؤثرين لأإراضهم وحظوظهم على مرضاته العاملين بأنواع مخالفته القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال الواصفين له بما لا يليق به الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله وهي جهنم وأودعها كل شيء مكروه وسجنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤلم وجعل الشر بحذافيره فيها وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال فهاتان الداران هما دارا القرار وخلق دارا ثالثة هي كالميناء لهاتين الدارين ومنها يتزود المسافرون إليهما وهي دار الدنيا ثم أخرج إليها من أثمار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما وما يستدل به عليهما حتى كأنهما رأي عين ليصير للإيمان بالدارين وإن كان غيبا وجه شهادة تستأنس به النفوس وتستدل به فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور

الجميلة وسائر ملاذ النفوس ومشتهياتها ما هو نفحة من نفحات الدار التي جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال فإذا رآه المؤمنون ذكرهم بما هناك من الخير والسرور والعيش الرخي كما قيل
فإذا رآك المسلمون تيقنوا ... حور الجنان لدى النعيم الخالد
فشمروا إليه وقالوا اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمما وجدا وتشميرا لأن النعيم يذكر بالنعيم والشيء يذكر بجنسه فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال موعدك الجنة وإنما هي عشية أو ضحاها فوجود تلك المشتهيات والملذوذات في هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المرمنين إلى تلك الدار التي هي أكمل منها وزاد لهم من هذه الدار إليها فهي زاد وعبرة ودليل وأثر من آثار رحمته التي أودعها تلك الدار فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه ويثير ساكن عزماته إلى تلك فنفسه ذواقة تواقة إذا ذاقت شيئا منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم في جوار الرب الكريم وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضا من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما في دار الشقاء من ذلك مع أن ذلك من آثار النفسين الشتاء والصيف اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما فاقتضى ذانك النفسان آثارا ظهرت في هذه الدار كانت دليلا عليها وعبرة وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله في نار الدنيا نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين تذكرة تذكر بها الآخرة ومنفعة للنازلين بالقواء وهم المسافرون يقال أقوى الرجل إذا نزل بالقي والقوى وهي الأرض الخالية وخص المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين

والمقيمين تنبيها لعباده والله أعلم بمراده من كلامه على أنهم كلهم مسافرون وأنهم في هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر والمقصود أنه سبحانه أشهد في هذه الدار ما أعد لأوليائه وأعدائه في دار القرار وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطا يسوق بها عباده المؤمنين فإذا رأوها حذروا كل الحذر واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما في تلك الدار من المكروهات والعقوبات وكان وجودها في هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمة منه بهم وإحسانا إليهم وتذكرة وتنبيها ولما كانت هذه الدار ممزوجا خيرها بشرها وأذاها براحتها ونعيمها بعذابها اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلص خيرها من شرها وخصه بدار أخرى هي دار الخيرات المحضة ودار السرور المحضة فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط وخلط فيها بين الفريقين وابتلى بعضهم ببعض وجعل بعضهم لبعض فتنة حكمة بالغة بهرت العقول وعزة قاهرة فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه ويرضاه ولم تكن تقوم عبوديته التي يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه بل العبد الواحد جمع فيه بين أساب الخير والشر وسلط بعضه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التي لا تحصل إلا بذلك
فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبه بالتمييز والتخليص فميز بينهما بدارين ومحلين وجعل لكل دار ما يناسبها وأسكن فيها من يناسبها وخلق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته وأعداءه الكافرين لنقمته والمخلطين للأمرين فهؤلاء أهل الرحمة وهؤلاء أهل النقمة وهؤلاء أهل النقمة والرحمة وقسم آخر لا يستحقون ثوابا ولا عقابا ورتب على كل قسم من هذه الأقسام الخمسة

حكمه اللائق به وأظهر فيه حكمته الباهرة ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته وأنه يخلق ما يشاء ويختار من خلقه من يصلح للإختيار وأنه يضع ثوابه موضعه وعقابه موضعه ويجمع بينهما في المحل المقتضي لذلك ولا يظلم أحدا ولا يبخسه شيئا من حقه ولا يعاقبه بغير جنايته هذا مع ما في ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم واستخراج كمالاتهم الكامنة في نفسهم من القوة إلى الفعل ودفع الأسباب بعضها ببعض وكسر كل شيء بمقابلته ومصادمته بضده لتظهر عليه آثار القهر وسمات الضعف والعجز ويتيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحدا وأنه يستحيل أن يكون له شريك بل القهر والوحدة متلازمان فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار ومن سواه مربوب مقهور له ضد ومناف ومشارك فخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها وتذهب بها وخلق الماء وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره وخلق النار وسلط عليها الماء يكسرها ويطفئها وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مطرد وخلق الحر والبرد والشتاء والصيف وسلط كلا منهما على الآخر يذهبه ويقهره وخلق الليل والنهار وقهر كلا منهما بالآخر وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضاد ومغالب فاستبان للعقول والفطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد وأن من تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه وربط بعضه على بعض وإحواج بعضه إلى بعض وقهر بعضه ببعض وابتلاء بعضه ببعض وامتزج خيره بشره وجعل شره لخيره الفداء ولهذا يدفع إلى كل مؤمن يوم القيامة كافر فيقال له هذا فداؤك من النار وهكذا المؤمن في الدنيا يسلط عليه الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله وقد تكون

تلك الأسباب فداء له من شرور أكثر منها في هذا العالم أيضا فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التدبر يتبين له حكمة اللطيف الخبير
فصل وقد تقرر أن الله سبحانه كامل الصفات له الأسماء الحسنى ولا يكون عن الكامل في ذاته وصفاته إلا الفعل المحكم وهو سبحانه خلق عباده على الفطرة وكل مولود فإنما يولد على الفطرة ويعدلون بهم عنها ولو تركوهم لما اختاروا عليها غيرها ولكن أخرجوهم عن سنن الحنيفية وأفسدوا فطرهم وقلوبهم وهكذا بالأضداد والأغيار يخرج بعض المخلوقات عن سنن الإتقان والحكمة ولولا تلك الأضداد والأغيار لكانت في مرتبتها كالمولو في فطرته ولذلك أمثلته
المثال الأول أن الماء خلقه الله طاهرا مطهرا فلو ترك على حالته التي خلق عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يكن إلا طاهرا ولكن بمخالطة أضداده من الأنجاس والأقذار تغيرت أوصافه وخرج عن الخلقة التي خلق عليها فكانت تلك النجاسات والقاذورات بمعنى أبوي الطفل وكافليه الذين يهودونه وينصرونه ويمجسونه ويشركونه وكما أن الماء إذا فسد بمخالطته الأنجاس والقاذورات لم يصلح للطهارة فكذلك القلوب إذا فسدت فطرها بالأغيار لم تصلح لحظيرة القدس
المثال الثاني الشراب المعتصر من العنب فإنه طيب يصلح للدواء ولإصلاح الغذاء والمنافع التي يصلح لها فلو خلي على حاله لم يكن إلا طاهرا طيبا ولكن أفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرا فخرج بذلك عن خلقته التي خلق عليها من الطهارة والطيب فصار أخبث شيء وأنجسه فلو انقلب خلا أو زال تغير الماء كان بمنزلة رجوع الكافر إلى فطرته الأولى فإن الحكم إذا ثبت للعلة زال بزوالها والله أعلم
المثال الثالث الأغذية الطيبة النافعة إذا خالطت باطن الحيوان واستقرت خرجت عن حالتها التي خلقت عليها واكتسبت بهذه المخالطة

والمجاورة خبثا وفسادا لم يكن فيها لسلوكها في غير طرقها التي بها كمالها ولما أنزل الله الماء طاهرا نافعا فمازج الأرض وسالت به أوديتها أوجد جل جلاله بينهما بسبب هذه المخالطة والممازجة أنواع الثمار والفواكه والزروع والنخيل والزيتون وسائر الأغذية والأقوات وأوجد مع ذلك المر والشوك والحنظل وغير ذلك واللقاح واحد ولكن الأم مختلفة قال تعالى وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ثم إنه سبحانه يصرف ما أخرجه من هذا الماء يقلبه ويحيل بعضه إلى بعض وينقل بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى وهذا كما خلق كل دابة من ماء ثم خالف بين صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما يصلح لها وأمشى بعضا على بطنه وبعضا على رجلين وبعضا على أربع حكمة بالغة وقدرة باهرة وكذلك سبحانه يقلب الليل والنهار ويقلب ما يوجد فيهما ويقلب أحوال العالم كما يشاء ويسلك بذلك مسلك الحكمة البالغة التي بها يتم مراده ويظهر ملكه ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وهذا القرآن المجيد عمدته ومقصوده الإخبار عن صفات الرب سبحانه وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناء عليه والإنباء عن عظمته وعزته وحكمته وأنواع صنعه والتقدم إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله وتصديقه يفهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله وتبيين مراده من ذلك كله وكان من تمام ذلك الإخبار عن الكافرين والمكذبين وذكر ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسالات ربهم ووصف كفرهم وعنادهم وكيف كذبوا

على الله وكذبوا رسله وردوا أمره ومصالحه فكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوح شواهد الحق وقيام أدلته وتنوعها وكان موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناء عليه وأن أسماءه الحسنى وصفاته العليا هي موضع الحمد ومن تمام حمده تسبيحه وتنزيهه عما وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به وكان في تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما في بيان محاسن الشيء وكماله عند معرفة ما يضاده ويخالفه ولهذا كان تسبيحه تعالى من تمام حمده وحمده من تمام تسبيحه ولهذا كان التسبيح والتحميد قربتين وكان ما نسبه إليه أعداؤه والمعطلون لصفات كماله من علوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلم به على رسله وغير ذلك مما نزه عنه نفسه وسبح به نفسه وكان في ذلك ظهور حمده بخلقه بل وتنوع أسبابه وكثرة شواهده وسعة طرق الثناء عليه به وتقرير عظمته ومعرفته في قلوب عباده فلولا معرفة الأسباب التي يسبح وينزه ويتعالى عنها وخلق من يضيفها إليه ويصفه بها لما قامت حقيقة التسبيح ولا ظهر لقلوب أهل الإيمان عن أي شيء يسبحونه وعماذا ينزهونه فلما رأوا في خلقه من قد نسبه إليه أعداؤه والمعطلون لصفاته ونظير هذا اشتمال كلمة الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلا الله على النفي والإثبات فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات وتحقيق معنى الإلهية وتجريد التوحيد الذي يقصد بنفي الإلهية عن كل ما ادعيت فيه سوى الإله الحق تبارك وتعالى فتجريد هذا التوحيد من العقد واللسان بتصور إثبات الإلهية لغير الله كما قاله أعداؤه المشركون ونفيه وإبطاله من القلب واللسان من تمام التوحيد وكماله وتقريره وظهور أعلامه ووضوح شواهده وصدق براهينه ونظير ذلك أيضا أن تكذيب أعداء الرسل وردهم ما جاؤوهم به كان من الأسباب الموجبة ظهور براهين صدق الرسل ودفع ما احتج به أعداؤهم عليهم من الشبه الداحضة ودحض حججهم الباطلة وتقرير طرق الرسالة وإيضاح أدلتها فإن الباطل كلما ظهر

فساده وبطلانه أسفر وجه الحق واستنارت معالمه ووضحت سبله وتقرت براهينه فكسر الباطل ودحض حججه وإقامة الدليل على بطلانه من أدلةالحق وبراهينه فتأمل كيف اقتضى الحق وجود الباطل وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل وكيف كان كفر أعداء الرسل بهم وتكذيبهم لهم ودفعهم ما جاؤوا به وهو من تمام صدق الرسل وثبوت رسالات الله وقيام حججه على العباد ولنضرب مثالا يتبين به وهو ملك له عبد قد توحد في العالم بالشجاعة والبسالة والناس بين مصدق ومكذب فمن قائل هو كذلك ومن قائل هو بخلاف ما يظن به فإنه لم يقابل الشجعان ولا واجه الأقران ولو بارز الأقران وقابل الشجعان لظهر أمره وانكشف حاله فسمع به شجعان العالم وأبطالهم فقصدوه من كل صوب وأتوه من كل قطر فاراد الملك أن يظهر لرعيته ما هو عليه من الشجاعة فمكن أولئك الشجعان من منازلته ومقاومته وقال دونكم وإياه وشأنكم به فهل تسليط الملك لأولئك على عبده ومملوكه إلا لإعلاء شأنه وإظهار شجاعته في العالم وتخويف أعدائه به وقضاء الملك أوطاره به كما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته وحصول مقصوده بذلك فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادعى مقاومته وظهور عجزهم وفضيحتهم وخزيهم وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمات الملك وحوائجه فإذا عدل بهم عن مهماته وولايته وعدل بها عنهم كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرفه في ملكه وأنه لو استعملهم في تلك المهمات لتشوش أمر المملكة وحصل الخلل والفساد والله أعلم بالشاكرين والمقصود أن خلق الأسباب المضادة للحق وإظهارها في مقابلة الحق من أبين دلالاته وشواهده فكان في خلقها من الحكمة ما لو فاتت لفاتت تلك الحكمة وهي أحب إلى الله من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب والله أعلم


فصل في بيان ما للناس في دخول الشر في القضاء الإلهي من الطرق والأصول التي تفرعت عنها هذه الطرق
وللناس طرق في دخول الشر في القضاء الإلهي فنذكرها ونذكر أصولهم التي تفرعت عليها هذه الطرق قبل ذلك فنقول للناس قولان أحدهما قول أهل الإسلام وأتباع المرسلين كلهم إن الله سبحانه فعال لما يريد يفعل باختياره وقدرته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو الذي يعبر عنه متأخرو المتكلمين بكونه فاعلا بالإختيار وللفريق الثاني قول من نفى ذلك وقال صدر العلم عنه تعالى صدورا ذاتيا كصدور النور عن الشمس والحرارة عن النار والتبريد عن الماء ويسمي المتكلمون هذا الإيجاب الذاتي ومصدره موجبات الذات وهذا قول الفلاسفة المشائين وهو الذي يذكره ابن الخطيب وغيره من الفلاسفة ولا يحكي عنهم غيره وإنما هو قول المشائين وقربه متأخرهم وفاضلهم ابن سينا إلى

الإسلام بعض التقريب مع مباينته لما جاءت به الرسل ولما دل عليه صريح العقل والفطرة والفريقان متفقون على أن مصدر الكائنات بأسرها خير محض من جميع الوجوه وكمال صرف ووجود الشر في العالم مشهود والخير لا يصدر عنه إلا خير ولا جرم اختلفت طرقهم في كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي وتنوعت إلى أربعة طرق
الطريق الأول طريق نفاة التعليل والحكمة والأسباب فإنهم سدوا على أنفسهم هذا الباب وأثبتوا مشيئة محضة لا غاية لها ولا سبب ولا حكمة تفعل لأجلها ولا يتوقف فعل المختار بها على مصلحة ولا حكمة ولا غاية لها تفعل بل كل مقدور يحسن منه فعله ولا حقيقة عندهم للقبيح لولا المستحيل لذاته الذي لا يوصف بالقدرة عليه وهؤلاء نفوا مسمى الرحمة والحكمة وإن اقروا بلفظ لا حقيقة له وكان شيخهم الجهم بن صفوان يقف بأصحابه على المجذومين وهم يتقلبون في بلائهم فيقول أرحم الراحمين يفعل مثل هذا يعني أنه ليس في الحقيقة رحمة وإنما هو محض مشيئته وصرف إرادة مجردة عن الحكمة والرحمة
وهؤلاء قابلوا أصحاب الطريق الثاني وهم الذين أثبتوا له حكمة وغاية وقالوا لا يفعل شيئا إلا لحكمة وغاية مطلوبة ولكن حجروا عليه سبحانه في ذلك وشرعوا له شريعة وضعوها بعقولهم وظنوا أن ما يحسن من خلقه يحسن منه وما يقبح منهم يقبح منه فجعلوا ما أثبتوه له من الحكمة والرحمة من جنس ما هو للخلق ولهذا كانوا مشبهة الأفعال كما أن من شبهه بخلقه في صفاته فهو مشبه الصفات فاقتسموا التشبيه نصفين هؤلاء في أفعاله وإخوانهم في صفاته وقالوا إنه تعالى لو خص بعض عبيده عن بعض بإعطائه توفيقا وقدرة وإرادة ولم يعطها لآخر لكان

ظلما للذي منعه وقالوا لو شاء من عباده أفعال المعاصي لكان ينزه عنه كما في المشاهد ولو شاء منهم الكفر والفسوق والعصيان ثم عذبهم عليه لكان ظلما في المشاهد أيضا فإن السيد إذا أراد من عبده شيئا ففعل العبد ما أراد سيده فإنه إذا عذبه عده الناس ظالما له وجعلوا العدل في حقه تعالى من جنس العدل في حق عباده والظلم الذي تنزه عنه كالظلم الذي يتنزهون عنه وجعلوا ما يحسن منه من جنس ما يحسن منهم وما يقبح منه من جنس ما يقبح منهم وقالوا لو أراد الشر لكان شريرا كما في المشاهد فإن مريد الشر شرير وقالوا لو ختم على قلوب أعدائه وأسماعهم وحال بينهم وبين قلوبهم وأضلهم عن الإيمان وجعل على أبصارهم غشاوة وجعل من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ثم عذبهم لكان ظالما لهم لأن أحدنا لو فعل ذلك بعبده ثم عذبه لكان ظالما له فهؤلاء المشبهة حقا في الأفعال فعدلهم تشبيه وتوحيدهم تعطيل فجمعوا بين التشبيه والتعطيل وهؤلاء قسموا الشر الواقع في العالم إلى قسمين أحدهما شرور هي أفعال العباد وما تولد منها فهذه لا تدخل عندهم في القضاء الإلهي تنزيها للرب عن نسبتها إليه ولا تدخل عندهم تحت قدرته ولا مشيئته ولا تكوينه والثاني الشرور التي تتعلق بأفعال العباد كالسموم والأمراض وأنواع الآلام وكإبليس وجنودعه وغير ذلك من شرور المخلوقات كإيلام الأطفال وذبح الحيوان فهذا النوع هو الذي كدر على القدرية أصولهم وشوش عليهم قواعدهم وقالوا ذلك كله حسن لما فيه من اللطف والمصلحة العاجلة والآجلة قالوا أما الآلام والأمراض فمفعولة لغرض صحيح وهو ما ضمن الرب سبحانه لمن أصابه بها من العوض الوافي قالوا وذلك يجري مجرى استئجار أجير في فعل شاق فإنه يفرض الاستئجار أخرج الاستئجار عن كونه عبثا بالأجرة عن كونه ظلما فكان حسنا قالوا فإن قيل إذا كان الله قادرا على التفضل بالعوض وبأضعافه بدون توسط الألم فأي حاجة إلى توسطه وأيضا فإذا حسن الألم لأجل

العوض فهل يحسن منا أن يؤلم أحدنا غيره بغير إذنه لعوض يصل إليه فالجواب أن الله سبحانه لا يمرض ولا يؤلم إلا من يعلم من حاله أنه لو أطلعه على الأعواض التي تصل إليه لرضي بالألم ولرغب فيه لوفور الأعواض وعظمها وليس كذلك في شاهد استئجار الأجير من غير اختياره قالوا وليس كذلك إيلام أحدنا لغيره لأجل التعويض فإن من قطع يد غيره أو رجله ليعوضه عنها لم يحسن ذلك منه لأن العوض يصل إليه وهو مقطوع اليد والرجل وليس من العقلاء من يختار ملك الدنيا مع ذلك والله يوصل الأعواض في الآخرة إلى الأحياء وهم أكمل شيء خلقا وأتمه أعضاء فلذلك افترق الشاهد والغائب في هذا قالوا فإن فرضتموه في ضرب وجلد مع سلامة الأعضاء قبح لأنه عيب فإن فرض فيه مصلحة ورضي المضروب بذلك وعظمت الأعواض عنه فهو حسن في العقل لا محالة قالوا وسر الأمر أن بالعوض يخرج الألم عن كونه ظلما لأنه نفع موقوف على مضرة الألم وباعتبار كونه لطفا في الدين يخرج عن كونه عبثا قالوا وقد رأينا في المشاهد حسن الألم للنفع فإنه يحسن في المشاهد إيلام أنفسنا وإتعابها في طلب العلوم والأرباح التي لا نصل إليها إلا على جنس من التعب والمشقة قالوا وهذا الوجه هو حسن لأجله إيلام الأطفال والبهائم فإنه إيلام للنفع فإن أبدان الأطفال لا تستقيم إلا على الأسباب الجالبة للآلام وكذلك نفوسهم إنما تكمل بذلك وإيلام الحيوان لنفع الآدمي به غير قبيح قالوا وأما الألم المستحق للعقوبة فإنه حسن في المشاهد ولكنه غير متحقق في الغائب بالنسبة إلى الأطفال والبهائم لعدم تكليفها ولكن لا بد في إيلامها من مصلحة ترجع إليها وهي ما يحصل لهم من العوض في الآخرة قالوا ويجب إعادتها لاستيفاء ذلك الحق الذي لها وهو العوض على الآلام التي حصلت لها قالوا وبقاؤها بعد الإعادة موقوف ونعيم الأطفال والمجانين دائم واختلفوا في البهائم فقال بعضهم يدوم عوضهم وقال آخرون بانقطاعه فإنهم يصيرون ترابا قالوا

فإن لم يكن للبهائم عوض يجب لأجله أن تعاد لم تجب إعادتها عقلا وتحسن إعادتها وما يحسن قد يفعله الله وقد لا يفعله وهل تجوز الآلام للتعويض المجرد فيه قولان لهم مبنيان على أصل اختلفوا فيه وهو أنه هل يحسن منه سبحانه التفضل بمثل العوض ابتداء فصار بعضهم إلى امتناعه كما يمتنع التفضل بمثل الثواب ابتداء عندهم وهم مجمعون على امتناعه لئلا يسوى بين العامل وغيره وصار من ينتمي إلى التحصيل منهم إلى أن التفضل بمقدار الأعواض ممكن غير ممتنع فمن قال بامتناع التفضل بمقدار العوض جوز وقوع الآلام للتعويض المجرد ومن جوز التفضل بأمثال الأعواض لم تحسن عنده الآلام بمجرد التعويض بل قالواإنما تحسن لوجهين لا بد من اقترانهما أحدهما التزام التعويض والثاني اعتبار غير المؤلم بتلك الآلام وكونها ألطافا في زجر غاو عن غوايته إذا شاهدها في غيره وذهب عباد الضمري منهم إلى أن الآلام تحسن لمجرد الاعتبار من غير تعويض لمن أصابته ورد عليه جماهير القدرية ذلك قالوا والآلام التي يفعلها سبحانه إما أن تكون مستحقة كعقوبات الدنيا وعذاب الآخرة وإما للتعويض وإما للمصلحة الراجحة قالوا وما يفعله في الآخرة منها فكله للاستحقاق وما يفعله في الدنيا فللعوض والمصلحة وقد يفعله عقوبة وأما ما شرعه من أسباب الألم فعقوبات محضة وأما مشايخ القوم فقالوا إنما يحسن منه سبحانه الإيلام لأنه المنعم بالصحة والحياة ولأنه في حكم من أعار تلك المنفعة لمن لا يملكها فله قطعها إذا شاء ولأنه قادر على التعويض عالم بقدره وليس كذلك الواحد من الخلق قالوا فإذا استرجع عارية الصحة والحياة خلفها الألم ولا بد وأطالوا الكلام في الآلام وأسبابها وما يحسن منها وما يقبح وعلى أي وجه يقع وحصروا أنفسهم غاية الحصر فاستطالت عليهم الجبرية بالأسئلة والمضايقات وألجأوهم إلى مضايق تضايق عنها أن تولجها الإبر وأضحكوا العقلاء منهم بإبداء تناقضهم وألبزمهوهم إلزامات لا بد من التزامها أو ترك

المذهب وسأل أبو الحسن الأشعري أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة لأب وأم مات أحدهم صغيرا وبلغا الآخر فاختار لإسلام وبلغ الآخر فاختار الكفر فاجتمعوا عند رب العالمين فرفع درجة البالغ المسلم فقال أخوه الصغير يا رب ارفع درجتي حتى أبلغ منزلة أخي فقال إنك لا تستحق إن أخاك بلغ فعمل أعمالا استحق بها تلك الدرجة فقال يا رب فهلا أحييتني حتى أبلغ فأعمل عمله فقال كانت تلك لمصلحة تقتضي اخترامك قبل البلوغ لأني علمت أنك لو بلغت لاخترت الكفر فكانت المصلحة في قبضك صغيرا قال فصاح الثالث بين أطباق النار وقال يا رب لم لم تمتني صغيرا فما جواب هذا أيها الشيخ فلم يرد إليه جوابا قالوا وإذا علم سبحانه من بعض العبيد أنه لا يختار الإسلام وأنه لا يكون إلا كافرا مفسدا في الأرض فأي مصلحة لهذا العبد في إيجاده قالوا وأي مصلحة لإبليس وذريته الكفار في إيجادهم فإن قلتم عرضهم للثواب قيل لكم كيف يعرضهم لأمر قد يعلم أنهم لا يفعلونه ولا يقع منهم البتة ومن هنا مكر غلاتهم العلم القديم وكفرهم السلف على ذلك ومن أقر به منهم فإقراره به مبطل لمذهبه وأصله في وجوب مراعاة الصلاح والأصلح وهذا معنى قول السلف ناظروا القدرية بالعلم

فإن جحدوه كفروا وإن أقروا به خصموا قالوا وأما حديث العوض على الآلام فالرب سبحانه قادر على أيصال تلك المنافع بدون توسط الآلام قالوا وهذا بخلاف المستأجر فإن له منفعة وحاجة في توسط تعب الأجير واستيفاء منفعته فأما من تعالى عن الانتفاع بخلقه ولا يحتاج إلى أحد منهم البتة فلا يعقل فلي حقه ذلك قالوا وأما وقوع الآلام على وجه العقوبات فذلك إنما يحسن في الشاهد لحصول التشفي من الجناة وإطفاء نار الغيظ والغضب بالانتقام منهم وذلك لحاجة المعاقب إلى العقاب وانتفاعه به وقياس الغائب على الشاهد في ذلك ممتنع قالوا وأما الإيلام للاعتبار بأن يعتبر الغير بالألم الواقع بغيره فليكون ذلك أدعى له إلى الإذعان والانقياد فلا ريب أن الصبي إذا شاهد لمعلم يضرب غيره على لعبه وتفريطه كان ذلك مصلحة واعتبارا له ولعله أن ينتفع بضرب ذلك الغير أكثر من انتفاع المضروب أو حيث لا ينتفع المضروب ولكن إنما يحسن ذلك إذا كان المضروب مستحقا للضرب فأين استحقاق الأطفال والبهائم قالوا وكذلك تمكينه تعالى عباده أن يؤلم بعضهم بعضا ويضر بعضهم بعضا مع قدرته على منع المؤلم المضر أي مصلحة لمن مكن من ذلك وأقدر عليه وهل كانت مصلحته إلا تعجيزه وأن يحال بينه وبين القدرة على الأداء وصون العباد قالوا فهذه الشريعة التي وضعتموها لرب العباد وأوجبتم عليه ما أوجبتم وحرمتم عليه ما حرمتم وجحدتم عليه في تصرفه في ملكه بغير ما أصلتم وفرعتم بعقولكم وآرائكم تشبيها له وتمثيلا بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح مع أنها شريعة باطلة ما أنزل الله بها من سلطان فإنكم لم تطردوها بل أنتم متناقضون فيها غاية التناقض خارجون فيها عما يوجبه كل عقل صحيح وفطرة سليمة فلا للتشبيه والتمثيل طردتم ولا بالتعويض قلتم ولا على حقيقة الحكمة والحمد وقفتم بل أثبتم له نوع حمة لا تقوم به ولا ترجع إليه بل هي قائمة بالخلق فقط وقد حتم بها في تمام ملكه كما أثبت له إخوانكم من الجبرية قدرة مجردة

عن حكمة وحمد وغاية يفعل لأجلها بل جعلوا حمده وحكمته اقتران أفعاله بما اقترنت به من المصالح عادة ووقوعها مطابقة لمشيئته وعلمه فقط فقدحوا بذلك في تمام حمده
وقام حزب الله وحزب رسوله وأنصار الحقد بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك له الحمد وهو على كل شيء قدير حق القيام وراعوا هذه الكلمة حق رعايتها علما ومعرفةوبصيرة ولم يلقوا الحرب بين حمده وملكه بل أثبتوا له الملك التام الذي لا يخرج عنه شيء من الموجودات أعيانها وأفعالها والحمد التام الذي وسع كل معلوم وشمل كل مقدور وقالوا إن له في كل ما خلقه وشرعه حكمة بالغة ونعمة سابغة لأجلها خلق وأمر ويستحق أن يثنى عليه ويحمد لأجلها كما يثنى عليه ويحمد لأسمائه الحسنى ولصفاته العليا فو المحمود على ذلك كله أتم حمد وأكمله لما اشتملت عليه صفاته من الكمال وأسماؤه من الحسن وأفعاله من الحكم والغايات عليه والمقضية لحمده المطابقة لحكمته الموافقة لمحابه فإنه سبحانه كامل الذات كامل الأسماء والصفات لا يصدر عنه إلا كل فعل كريم مطابق للحكمة موجب للحمد يترتب عليه من محابه ما فعل لأجله وهذا أمر ذهب عن طائفتي أسسوها من تعطيل بعض صفات كماله كم عطل الفريقان حقيقة محبته عند الجبرية مشيئته وإرادته ومحبةالعباد له إرادتهم لما يخلقه من النعيم في دار الثواب فالمحبة عندهم إنما تعلقت بمخلوقاته لا بذاته وحقيقة محبته وكراهته عند القدرية أمره ونهيه ومحبة العباد له محبتهم لثوابه المنفصل وأصل الفريقان أنه لا تقوم بذاته حكمة ولا غاية يفعل لأجلها ثم اختلفوا فقالت الجبرية لا يفعل لغاية ولا لحكمة أصلا وتكايست القدرية بعض التكايس فقالت يفعل لغاية وحكمة لا ترجع إليه ولا تقوم به ولا يعود إليه منها وصف وأصل الفريقان أيضا أنه لا يقوم

بذاته فعل بل فعله عين مفعوله فعطلوا أفعاله القائمة به وجعلوها نفس المخلوقات المشاهدة التي لا تقوم به فلم يقم به عندهم فعل البتة كما عطل غلاة الجهمية صفاته فلم يثبتوا له صفة تقوم به وإن تناقضوا وكما عطلت السينائية أتباع ابن سينا ذاته فلم يثبتوا له ذاتا زائدة على وجود مجرد لا يقارن ماهية ولا حقيقة وأصلت الجبرية أنه تعالى لا ينزه عن فعل مقدور يكون قبيحا بالنسبة إليه بل كل مقدور ممكن فهو جائز عليه وإن علم عدم فعله فبالسمع وإلا فالعقل يقضي بجوازه عليه فلا ينزه عن ممكن مقدر إلا ما دل عليه بالمسع فيكون تنزيهه عنه لا لقبحه في نفسه بل لأن وقوعه يتضمن الخلف في خبره وخبر رسوله ووقوع الأمر على خلاف علمه ومشيئته فهذا حقيقة التنزيه عند القوم وأصلت القدرية أن ما يحسن من عباده يحسن منه وما يقبح منهم يقبح منه مع تناقضهم في ذلك غاية التناقض فاقتضت هذه الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة فروعا ولوازم كثيرة منها مخالف لصريح العقل ولسليم الفطرة كما هو مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله فجعل أرباب هذه القواعد والأصول قواعدهم وأصولهم محكمة وما جاء به الرسول متشابها ثم أصلوا أصلا في رد هذا المتشابه إلى المحكم وقالوا الواجب فيما خالف هذه القواطع العقلية بزعمهم من الظواهر الشرعية أحد أمرين إما يخرجها على ما يعلم العقلاء أن المتكلم لم يرده بكلامه من المجازات البعيدة والألغاز المعقدة ووحشي اللغات والمعاني المهجورة التي لا يعرف أحد من العرب عبر عنها بهذه العبارة ولا تحتملها لغة القوم البتة وإنما هي محامل أنشأوها هم ثم قالوا نحمل اللفظ عليها فأنشأوا محامل من تلقاء أنفسهم وحكموا على الله أو رسله بإرادتها بكلامه فأنشأوا منكرا وقالوا زورا فإذا ضاق عليهم المجال وغلبتهم النصوص وبهرتهم شواهد الحقيقة من اطرادها وعدم فهم العقلاء سواها ومجيئها على طريقة واحدة وتنوع الألفاظ الدالة على الحقيقة واحتفافها بقرائن من السياق والتأكيد وغير ذلك مما يقطع كل سامع بأن

المراد حقيقتها وما دلت عليه قالوا الواجب ردها وأن لا يشتغل بها وإن أحسنوا العبارة والظن قالوا الواجب تفويضها وأن نكل علمها إلى الله من غير أن يحصل لنا بها هدى أو علم أو معرفة بالله وأسمائه وصفاته أو ننتفع بها في باب واحد من أبواب الإيمان بالله وما يوصف به وما ينزه عنه بل نجري ألفاظها على ألسنتنا ولا نعتقد حقيقتها لمخالفتها للقواطع العقلية فسموا أصولهم الفاسدة وشبههم الباطلة التي هي كبيت العنكبوت وكما قال فيها القائل شعرا
شبه تهافت كالزجاج تخالها ... حق وكل كاسر مكسور
قواطع عقلية مع اختلافهم فيها وتناقضهم فيها ومناقضتها لصريح المعقول وصحيح المنقول فسموا كلام الله ورسوله ظواهر سمعية إزالة لحرمته من القلوب ومنعا للتعلق به والتمسك بحقيقته في باب الإيمان والمعرفة بالله وأسمائه وصفاته فعبروا عن كلامهم بأنه قواطع عقلية فيظن الجاهل بحقيقته أنه إذا خالفه فقد خالف صريح المعقول وخرج عن حد العقلاء وخالف القاطع وعبروا عن كلام الله ورسوله بأنه ظواهر فلا جناح على من صرفه عن ظاهره وكذب بحقيقته واعتقد بطلان الحقيقة بل هذا عندهم هو الواجب وقد أشهد الله عباده الذين أوتوا العلم والإيمان أن الأمر بعكس ما قالوه وأن كلامه وكلام رسوله هو الشفاء والعصمة والنور الهادي والعلم المطابق لعلومه وأنه هو المشتمل علىالقواطع العقلية السمعية والبراهين اليقينية وأن كلام هؤلاء المتهوكين الحيارى المتضمن خلاف ما أخبره به عن نفسه وأخبر به عن رسوله هو الشبهات الفاسدة والخيالات الباطلة وأنه كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب وهؤلاء هم أهل العلم حقا الذين شهد الله لهم به فقال ويرى

الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ومن سواه من الصم والبكم الذين قال الله فيهم وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وقال تعالى أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب وكان ما شهدوه من ذلك بالعقل والفطرة لا بمجرد الخبر بل جاء إخبار الرب وإخبار رسوله مطابقا لما في فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة فتضافر على إيمانهم به الشريعة المنزلة والفطرة المكملة والعقل الصريح فكانوا هم العقلاء حقا وعقولهم هي المعيار فمن خالفها فقد خالف صريح المعقول والقواطع العقلية ومن أراد معرفة هذا فليقرأ كتاب شيخنا وهو بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح فإنه كتاب لم يطرق العالم له نظير في بابه فإنه هدم فيه قواعد أهل الباطل من أسها فخرت عليهم سقوفه من فوقهم وشيد فيه قواعد أهل السنة والحديث وأحكمها ورفع أعلامها وقررها بمجامع الطرق التي تقرر بها الحق من العقل والنقل والفطرة والإعتبار فجاء كتابا لا يستغنى عنه من نصح نفسه من أهل العلم فجزاه الله عن أهل العلم والإيمان أفضل الجزاء وجزى العلم والإيمان عنه ذلك فصل
عدنا إلى تمام الكلام في كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي وبيان طرق الناس في ذلك واختلافهم في إيلام الأطفال والبهائم وقالت البكرية وهم أتباع بكر ابن أخت عبدالواحد بن زيد البصري إن البهائم والأطفال لا تألم البتة والذي حملهم على هذا موجب التعليل والحكمة

ولم يرتضوا ما قالت الجبرية من نفي ذلك ولا ما قالت المعتزلة من حديث الأعواض وما فرعوه عليه ولم يمكنهم القول بمذهب التناسخية القائلين بأن الأرواح الفاجرة الظالمة تودع في الحيوانات التي تناسبها فينالها من ألم الضرب والعذاب بحبسها ولا بمذاهب المجوس من إسناد الشر والخير إلى إلهين مستقلين كل منهما يذهب بخلقه ولا بقول من يقول إن البهائم مكلفة مأمورةمنهية مثابة معاقبة وإنه في كل أمة منها رسول ونبي منها وهذه الآلام والعقوبات الدنيوية جزاء على مخالفتها لرسولها ونبيها فلم يجدوا بدا من التزام ما ذهبوا إليه من إنكار وقوع الآلام بها ووصولها إليها وقد رد عليهم الناس بأنهم كابروا الحس وجحدوا الضرورة وأن العلم بخلاف ما ذهبوا إليه ضروري وقال من أنصف القوم لا سبيل إلى نسبة هؤلاء إلى جحد الضرورة مع كثرتهم ولكنهم ربما رأوا أن الطفل والبهيمة لا تدرك الآلام حسبما يدركها العقلاء فإن العاقل إذا أدرك تألم جوارحه وأحس به تألم قلبه وطال حزنه وكثر هم روحه وغمها واشتدت فكرته في ذلك وفي الأسباب الجالبة له والأسباب الدافعة له وهذه الآلام زائدة على مجرد ألم الطبيعة ولا ريب أن البهائم والأطفال لا تحصل لها تلك الآلام كما يحصل للعاقل المميز فإن أراد القوم هذا فهم مصيبون وإن أرادوا أنها لا شعور لها بالآلام البتة وأنها لا تحس بها فمكابرة ظاهرة فإن الواحد منا يعلم باضطرار أنه كان يتألم في طفولته بمس النار له وبالضرب وغير ذلك
وقالت طائفة كل ما يتألم به الطفل والبهيمة ليس من قبل الله ولا فعل الله فيه الألم لما ثبت من حكمته وهذا يشبه قولهم في أفعال الحيوان أنها ليست من خلق الله ولا كانت بمشيئته لكن هذا أشد فسادا من ذلك فإن هذه الآلام حوادث لا تتعلق باختيار من قامت به ولا بإرادته فلا بد لها من محدث إذ وجود حادث بلا محدث محال والله خالقها بأسبابه المفضية إليها فخالق السبب خالق للمسبب فإن أراد هؤلاء نفي فعلها عن الله

مباشرة من غير توسط بسبب أصلا فهذا قد يكون حقا وإن أرادوا أنها غير منسوبة إلى قدرته ومشيئته البتة فباطل
وذهبت طائفة إلى أن في كل نوع من أنواع الحيوانات أنبياء ورسلا وأنها مستحقة للثواب والعقاب وأن ما ينزل بها من الآلام فجزاء لها وعقوبات على معاصيها ومخالفتها واحتجوا بقوله تعالى وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم وقال تعالى وإن من أمة إلا خلا فيها نذير
وقالت طائفة من التناسخية إن الله خلق خلقه كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ثم أمرهم ونهاهم فمن عصى منهم نسخ روحه في جسد بهيمة تبتلى بالذبح والقتل كالدجاج والغنم والإبل والبقر والبراغيث والقمل فما سلط على هذه البهائم من الآلام فهو للأرواح الآدمية التي أودعت هذه الأجساد فمن كان منهم زانيا أو زانية كوفىء بأن جعل في بدن حيوان ما يمكنه الجماع كالبغال ومن كان منهم عفيفا عن الزنا مع ظلمه وغشمه كوفىء بأن جعل في بدن تيس أو عصفور أو ديك ومن كان منهم جبارا عنيدا كوفىء بأن جعل في بدن قملة أو قرادة ونحوهما إلى أن يقتص منهم ثم يردون فمن عصى منهم بعد ذلك رده كرر أيضا عليه ذلك التناسخ هكذا أبدا حتى يطيع طاعة لا معصية بعدها أبدا فينتقل إلى الجنة من وقته وقد ذهب إلى هذا المذهب من المنتسبين إلى الإسلام رجل يقال له أحمد بن حائط طرد أصول القدرية وشريعتهم التي شرعوها لله فأوجبوا بها عليه وحرموا
وذهب المجوس إلى أن هذه الآلام والشرور من الإله الشرير المظلم

فلا تضاف إلى الإله الخير العادل ولا تدخل تحت قدرته ولهذا كان أشبه أهل البدع بهم القدرية النفاة
وقالت الزنادقة والدهرية كل ذلك من تصرف الطبيعة وفعلها وليس لذلك فاعل مختار مدبر بمشيئته وقدرته ولا بد في النار من إحراق ونفع وفي الماء من إغراق ونفع وليس وراء ذلك شيء فهذه مذاهب أهل الأرض في هذا المقام
ولما انتهى أبو عيسى الوراق إلى حيث انتهت إليه أرباب المقالات فطاش عقله ولم يتسع لحكمة إيلام الحيوان وذبحه صنف كتابا سماه النوح على البهائم فأقام عليها المآتم وناح وباح بالزندقة الصراح وممن كان على هذا المذهب أعمى البصر والبصيرة كلب معرة النعمان المكنى بأبي العلاء المعري فإنه امتنع من أكل الحيوان زعم لظلمه بالإيلام والذبح وأما ابن خطيب الري فإنه سلك في ذلك طريقة مركبة من طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة المشائين وهذبها ونقحها واعترف في آخرها بأنه لا سبيل إلى الخلاص من الشبه التي أوردها على نفسه إلا بالتزام أنه تعالى موجب بالذات لا فاعل بالقصد والاختيار فأقر على نفسه بالعجز عن أجوبة تلك المطالبات إلا بإنكار قدرة الله ومشيئته وفعله الاختياري وذلك جحد

لربوبيته فزعم أنه لا يمكن تقرير حكمته إلا بجحد ربوبيته ونحن نذكر كلامه بألفاظه وقال في مباحثه المشرقية
الفصل السادس في كيفية دخول الشر في القضاء الإلهي وقبل الخوض فيه لا بد من تقديم مقدمتين
المقمة الأولى الأمور التي يقال إنها شر إما أن تكون أمورا عدمية أو أمورا وجودية فإن كانت أمورا عدمية فهي على أقسام ثلاثة لأنها إما أن تكون عدما لأمر ضرورية للشيء في وجوده مثل عدم الحياة وإما أن تكون عدما لأمور نافعة قريبة من الضرورة كالأعمى أو تكون كذلك كعدم العلم بالفلسفة والهندسة وأما الأمور الوجودية التي يقال إنها شرور فهي كالحرارة المفرقة لاتصال العضو واعلم أن الشر بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه مثل عدم الحياة وعدم البصر فإن الموت والعمى لا حقيقة لهما إلا أنهما عدم الحياة وعدم البصر وهما من حيث هما كذلك شر فإذن ليس لهما اعتبار آخر بحسبه يكونان شرين وأما عدم الفضائل المستغنى عنها مثل عدم العلم بالفلسفة فظاهر أن ذلك ليس بشر وأما الأمور الوجودية فإنها ليست شرورا بالذات بل بالعرض من حيث أنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة ويدل عليه أنا لا نجد شيئا من الأفعال التي يقال لها شر إلا وهو كما قال بالنسبة إلى الفاعل وأما شريته فبالقياس إلى شيء آخر فالظلم مثلا يصدر عن قوة ظلامة للغلبة وهي القوة الغضبية والغلبة هي كمالها وفائدة خلقتها فهذا الفعل بالقياس إليها شر لأنها إن ضعفت عنه فهو بالقبياس إليها شر وإنما كان شرا للمظلوم لفوات المال وغيره عنه والنفس الناطقة كمالها الاستيلاء على هذه القوة فعند قهر القوة الغضبية يفوت النفس ذالك الاستيلاء ولا جرم كان شرا لها وكذلك النار إذا أحرقت فإن الإحراق كمالها ولكنها شر بالنسبة إلى من زالت سلامته بسببها وكذلك القتل وهو استعمال الآلة القطاعة في قطع رقبة الإنسان فإن كون الإنسان قويا على استعمال الآلة ليس شرا له بل

خيرا وكذلك كون الآلة قطاعة هو خير لها وكذلك كون الرقبة قابلة للانقطاع كل ذلك خيرات ولكن القتل شر من حيث أنه متضمن لزوال الحياة فثبت بما ذكرناه أن الأمور الوجودية ليست شرا بالذات بل بالعرض والله أعلم
المقدمة الثانية ان الأشياء إما أن تكون مادية أو لا تكون فإن لم تكن مادية لم يكن فيها ما بالقوة فلا يكون فيها شر أصلا وإن كانت مادية كانت في معرض الشر وعروض الشر لها إما أن يكون في ابتداء تكونها أو بعد تكونها أما الأول فهو إما أن تكون المادة التي تتكون إنسانا أو فرسا يعرض لها من الأسباب ما يجعلها رديئة المزاج رديئة الشكل والخلقة فرداءه مزاج ذلك الشخص ورداءه خلقه ليس لأن الفاعل حرم بل لأن المنفعل له لم يقبل أما الثاني وهو أن يعرض الشر للشيء وطروء طارىء عليه بعد تكونه فذلك الطارىء إما شيء يمنع المكمل من الإكمال مثل تراكم السحب وإظلال الجبال الشاهقات إذ صار مانعا من تأثير الشمس في النبات وإما شيء يفسد مثل البرد الذي يصل إلى النبات فيفسد بسبب ذلك استعداده للنشوء والنمو
وإذا عرفت ذلك فنقول قد بينا أن الشر بالحقيقة إما عدم ضروريات الشيء وإما عدم نافعه فنقول إما أن يكون خيرا من كل الوجوه أو شرا من كل الوجوه أو خيرا من وجه وشرا من وجه وهذا على تقدير أقسام فإنه إما أن يكون خيره غالبا على شره أو يكون شره غالبا على خيره أو متساويا خيره وشره فهذه أقسام خمسة أما الذي يكون خيرا من كل الوجوه وهو موجود أي الذي يكون كذلك لذاته فهو الله تبارك وتعالى وأما الذي يكن خيره لغيره فهو العقول والأفلاك لأن هذه الأمور ما فاتها شيء من ضروريات ذاتها ولا من كمالاتها والذي كله شر أو الغالب فيه أو المساوي فهو غير موجود لأن كلامنا في الشيء بمعنى عدم الضروريات والمنافع لا بمعنى عدم الكمال الزائد فلا شك أن ذلك

مغلوب والخير غالب لأن الأمراض وإن كثرت إلا أن الصحة أكثر منها فالحرق والغرق والخسف وإن كانت قد تكثر إلا أن السلامة أكثر منها فأما الذي يكون خيره غالبا على شره فالأولى فيه أن يكون موجودا لوجهين الأول أنه إن لم يوجد فلا بد وأن يفوت الخير الغالب وفوت الخير الغالب شر غالب فإذا في عدمه يكون الشر أغلب من الخير وفي وجوده يكون الخير أغلب من الشر ويكون وجود هذا القسم أولى مثاله النار في وجودها منافع كثيرة وأيضا مفاسد كثيرة مثل إحراق الحيوانات ولكنا إذا قابلنا منافعها بمفاسدها كانت مصالحها أكثر بكثير من مفاسدها ولو لم توجد لفاتت تلك المصالح وكانت مفاسد عدمها أكثر من مصالحها فلا جرم وجب إيجادها وخلقها الثاني وهو الذي يكون خيره ممزوجا بالشر ليس إلا الأمور التي تحت كرة القمر فلا شك أنها معلولات العلل العالية فلو لم يوجد هذا القسم لكان يلزم من عدمها عدم عللها الموجبة لها وهي خيرات محضة فيلزم من عدمها عدم الخيرات المحضة وذلك شر محض فإذا لا بد من وجود هذا القسم فإن قيل فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور فنقول لأنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول وذلك مما قد فرغ منه وبقي في العقل قسم آخر وهو الذي يكون خيره غالبا على شره وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجودا قال وهذا الجواب لا يعجبني لأن لقائل أن يقول إن جميع هذه الخيرات والشرور إنما توجد باختيار الله وإرادته مثلا الاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجبا من النار بل الله اختار خلقه عقيب مماسة النار وإذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإرادته فكان يمكنه أن يختار خلق الإحراق عندما يكون خيرا ولا يختار خلقه عندما يكون شرا ولا خلاص عن هذه المطالبة إلا ببيان كونه سبحانه فاعلا بالذات لا

بالقصد والاختيار ويرجع الكلام في هذه المسألة إلى مسألة القدم والحدوث
قلت لما لم يكن عند الرازي إلا مذهب الفلاسفة المشائين والقائلين بوجوب رعاية الصلاح أو الأصلح أو مذهب الجبرية نفاة الأسباب والعلل والحكم وكان الحق عنده مترددا بين هذه المذاهب الثلاثة فتارة يرجح مذهب المتكلمين وتارة مذهب المشائين وتارة يلقي الحرب بين الطائفتين ويقف في النظارة وتارة يتردد بين الطائفتين وانتهى إلى هذا المضيق ورأى أنه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريق الجبرية وهي غير مرضية عنده وإن كان في كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع في مباحثه إليها وطريق المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهي متناقضة غير مطردة لم يجد بدا من تحيزه إلى أعداء الملة القائلين بأن الله لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به ومعلوم أن هذه المذاهب بأسرها باطلة ومتناقضة وإن كان بعضها أبطل من بعض وإنما ألجأه إلى التزام القول بإنكار الفاعل المختار في هذا المقام تسليمه لهم الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة التي قادت إلى التزام بعض أنواع الباطل ولو أعطى الدليل حقه وضم ما مع كل طائفة من الحق إلى حق الطائفة الأخرى وتحيز إلى ما جاءت به الرسل على علم وبصيرة وهو تقرير لما جاؤوا به بجميع طرق الحق لتخلص من تلك المطالبات مع إقراره بأن رب العالمين فعال لما يريد يفعل بمشيئته وقدرته وحكمته وأن له المشيئة النافذة والحكمة البالغة وأن تقدير تجريد النار عما خلقت عليه من الإحراق والماء عما خلق عليه والرياح والنفوس البشرية عما هيئت له وخلقت عليه مناف للحكمة المطلوبة المحبوبة للرب سبحانه وأن هذا تقرير لعالم آخر وتعطيل للأسباب التي نصبها الله سبحانه مقتضيات لمسبباتها وأن تلك

الأسباب مظهر حكمته وحمده وموضع تصرفه لخلقه وأمره فتقدير تعطيلها تعطيل للخلق والأمر وهو أشد منافاة للحكمة وإبطالا لها واقتضاء هذه الأسباب لمسبباتها كاقتضاء الغايات لأسبابها فتعطيلها منها قدح في الحكمة وتفويت لمصلحة العالم التي عليها نظامه وبها قوامه ولكن الرب سبحانه قد يخرق العادة ويعطلها عن مقتضياتها أحيانا إذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات كما عطل النار التي ألقى فيها إبراهيم وجعلها عليه بردا وسلاما عن الإحراق لما في ذلك من المصالح العظيمة وكذلك تعطيل الماء عن إغراق موسى وقومه وعما خلق عليه من الإسالة والتقاء أجزائه بعضها ببعض هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التامة التي ظهرت في الوجود وترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب فهكذا سائر أفعاله سبحانه مع أنه أشهد عباده بذلك أنه مسبب الأسباب وأن الأسباب خلقه وأنه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها وأن كونها كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها بل هو الذي جعلها كذلك وأودع فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها وأنه إن شاء أن يسلبها إياها سلبها لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباء أنه ليس في الإمكان تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها ويقولون لا تعطيل في الطبيعة وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر وتسخير مسخر يصرفها كيف يشاء بل هي المتصرفة المدبرة ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز وبالأسباب التي ربط بها خلقه وأمره وثوابه وعقابه فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها والقوى بمحالها ثم المحذور اللازم من إنكار الفاعل المختار الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور فإن القائل بذلك يجعل هذه الشرور بأسرها لازمة له لزوم الطفل لحامله والحرارة للنار ولا يمكنه دفعها ولا

تخليص الحرارة منها فهم فروا من إضافة الشر إلى خلقه ومشيئته واختياره ثم ألزموه إياه وأضافوه إليه إضافة لا يمكن إزالتها مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه وعلمه بتفاصيل أحوال عباده وفي ذلك تعطيل ربوبيته للعالمين ففروا من محذور بالتزام عدة محاذير واستجاروا من الرمضاء بالنار وهذا كما نزه الجهمية عن استوائه على عرشه وعلوه على مخلوقاته فإنه فرار من التحيز والجهة ثم جعلوه سبحانه في كل مكان مخالطا للقاذورات والأماكن المكروهات وكل مكان يأنف العاقل من مجاورته ففروا من تخصيصه بالعلو فعمموا به كل مكان ولما علمت الفرعونية بطلان هذا المذهب فروا إلى شر منه فأخلوا داخل العالم وخارجه منه البتة وقالوا ليس فوق العرش رب يعبد ولا إله يصلى له يسجد ولا ترفع إليه الأيدي ولا يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح ولا عرج بمحمد إليه بل عرج به إلى عدم صرف ولا فرق بالنسبة إليه بين العرش وبين أسفل السافلين ومن المعلوم أنه ليس موجودا في أسفل السافلين فإذا لم يكن موجودا فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجوده
فلما رأت الحلولية وإخوانهم من الإتحادية أشباه النصارى ما في ذلك من الإحالة قالوا بل هو هذا الوجود الساري في الموجودات الظاهر فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسنها فهو في الماء ماء وفي الخمر خمر وفي النار نار وهو حقيقة كل شيء وماهيته فنزهوه عن استوائه على عرشه وجعلوه وجود كل موجود خسيس أو شريف صغير أو كبير طيب أو غيره تعالى الله عما يقول أعداؤه علوا كبيرا وكذلك القائلون بقدم العالم نزهوه عن قيام الإرادات والأفعال المتجددة به ثم جعلوا جميع الحوادث لازمة له لا ينفك عنها ونزهوه عن إرادته وجعلوه لازما لذاته كالمضطر إلى

صدوره عنه وكذلك المعتزلة الجهمية نزهوه عن صفات كماله لئلا يقعوا في تشبيه ثم شبهوه بخلقه في أفعاله وحكموا عليه بحسن ما يحسن منهم وقبح ما يقبح منهم مع تشبيهه في سلب صفات كماله بالجمادات والناقصات وإن من فر من إثبات السمع والبصر والكلام والحياة له لئلا يشبهه فقد شبهه بالأحجار التي لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ومن عطله عن صفة الكلام لما يلزم من تشبيه بزعمه فقد شبهه بأصحاب الخرس والآفات الممتنع منهم الكلام ومن نزهه عن نزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ودنوه عشية عرفة من أهل الموقف ومجيئه يوم القيامة للقضاء بين عباده فرارا من تشبيهه بالأجسام فقد شبهه بالجماد الذي لا يتصرف ولا يفعل ولا يجيء ولا يأتي ولا ينزل ومن نزهه عن أن يفعل لغرض أو حكمة أو لداع إلى الفعل حذرا من تشبيهه بالفاعلين لذلك فقد شبهه بأهل السفه والعبث الذي لا يقصدون بأفعالهم غاية محمودة ولا غرضا مطلوبا محبوبا ومن نزهه عن خلق أفعال عباده وتصرفه فيهم بالهداية والإضلال وتخصيص من شاء منهم بفضله أو منعه لمن شاء حذرا من الظلم بزعمه فقد وصفه بأقبح الظلم والجور حيث يخلد في أطباق النيران من استنفد عمره كله في طاعته إذا فعل قبل الموت كبيرة واحدة فإنها تحبط جميع تلك الطاعات وتجعلها هباء منثورا ويخلد في جهنم مع الكفار مالم يتب منها إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة فهدى الله الذين امنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم
قاعدة كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين إما أن تكون طبيعته يابسة قاسية غير لينة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها وإما أن تكون لينة منقادة سلسة القياد لكنها غير ثابتة على ذلك

بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب فمتى رزق العبد انقيادا للحق وثباتا عليه فليبشر فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
قاعدة إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجل عوض وأفضله وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شاردا عنه وإقباله عليه بعد أن كان نائيا عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضا وللوقوف على أبواب غيره متعرضا وكانت البلية في هذا عين النعمة وإن ساءته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببا ما مثله سبب وقوله تعالى في ذلك هو الشفاء والعصمة وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون وإن لم يرده ذلك البلاء إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادته الشر به فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل والله ولي التوفيق
قاعدة في مشاهد الناس في المعاصي والذنوب الناس في البلوى التي تجري عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوتون بحسب شهودهم لأسبابها وغايتها أعظم تفاوت وجماع ذلك ثمانية مشاهد

أحدها شهود السبب الموصل إليها والغاية المطلوبة منها فقط وهو شهود الحيوانات إذ لا تشهد إلا طريق وطرها وبرد النفس بعد تناولها وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبين الحيوان البهيم في ذلك فرق إلا بدقيق الحيلة في الوصول إليها وربما زاد غيره من الحيوانات عليه مع تناولها ولذاتها
المشهد الثاني من يشهد مع ذلك مجرد الحكم القدري وجريانه عليه ولا يجوز شهوده ذلك وربما رأى أن الحقيقة هي توفية هذا المشهد حقه ولا يتم له ذلك إلا بالفناء عن شهود فعله هو جملة فيشهد الفاعل فيه غيره والمحرك سواه فلا ينسب إلى نفسه فعلا ولا يرى لها إساءة ويزعم أن هذا هو التحقيق والتوحيد وربما زاد على ذلك أنه يشهد نفسه مطيعا من وجه وإن كان عاصيا من وجه آخر فيقول أنا مطيع الإرادة والمشيئة وإن كنت عاصيا للأمر وإن كان ممن يرى الأمر تلبيسا وضبطا للرعاع عن الخبط والحرمان مع حكم الطبيعة الحيوانية فقد رأى نفسه مطيعا لا عاصيا كما قال قائلهم في هذا المعنى
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
وأصحاب المشهد الأول أقرب إلى السلامة من هؤلاء وخير منهم وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذي يشهده المشركون عباد الأصنام ووقفوا عنده كما قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم وقالوا لو شاء الله

ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شيء وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين أمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه فهذا مشهد من أشرك بالله ورد أمره وهو مشهد إبليس الذي انتهى إليه إذ يقول لربه رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين والله أعلم
المشهد الثالث مشهد العقل الكسبي القائم بالعبد فقط ولا يشهد إلا صدوره عنه وقيامه به ولا يشهد مع ذلك مشيئة الرب له ولا جريان حكمه القدري به ولا عزة الرب في قضائه ونفوذ أمره بل قد فني بشهود معصيته بذنبه وقبح ما اجترمه عن شهود المشيئة النافذة والقدر السابق إما لعدم اتساع قلبه لشهود الأمرين فقد امتلأ من شهود ذنبه وجرمه وفعله مع أنه مؤمن بقضاء الرب وقدره وأن العبد أقل قدرا من أن يحدث في نفسه ما لم يسبق به مشيئة بارئه وخالقه وإما لإنكاره القضاء والقدر جملة وتنزيهه للرب أن يقدر على العبد شيئا ثم يلومه عليه فأما الأول وإن كان مشهده صحيحا نافعا له موجبا له أن لا يزال لائما لنفسه مزريا عليها ناسيا للذنب والعيب إليها معترفا بأنه يستحق العقوبة والنكال وأن الله سبحانه إن عاقبه فهو العادل فيه وأنه هو الظالم لنفسه وهذا كله حق لا ريب فيه لكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غير معان عليها بل هو معها كالمقهور المخذول فإنه لم يشهد عزة الرب في قضائه ونفوذ أمره الكوني ومشيئته وأنه لو شاء لعصمه وحفظه وأنه لا معصوم إلا من عصمه ولا محفوظ إلا من حفظه وأنه هو محل لجريان أقضيته وأقداره مسوق إليها في سلسلة

إرادته وشهوته وأن تلك السلسلة طرفها بيد غيره فهو القادر على سوقه فيها إلى ما فيه صلاحه وفلاحه وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه فهو لغيبته عن هذا المشهد وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه لا يعطي التوحيد حقه ولا الاستعاذة بربه والاستغاثة به والالتجاء إليه والإفتقار والتضرع والإبتهال حقه بحيث يشهد سر قوله وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك فإنه سبحانه رب كل شيء وخالق كل شيء والمستعاذ منه واقع بخلقه ومشيئته ولو شاء لم يكن فالفرار منه إليه والإستعاذة منه به ولا ملجأ منه إلا إليه ولا مهرب منه إلا إليه لا إله إلا هو العزيز الحكيم وأما الثاني وهو منكر القضاء والقدر فمخذول محجوب عن شهود التوحيد مصدود عن شهود الحكمة الإلهية موكول إلى نفسه ممنوع عن شهود عزة الرب في قضائه وكمال مشيئته ونفوذ حكمه وعن شهود عجزه هو وفقره وأنه لا توفيق له إلا بالله وأنه إن لم يعنه الله فهو مخذول وإن لم يوفقه ويخلق له عزيمة الرشد وفعله فهو عنه ممنوع فحجابه عن الله غليظ فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى ولا طريق إلى الله أقرب من دوام الافتقار إليه
المشهد الرابع مشهد التوحيد والأمر فيشهد انفراد الرب بالخالق ونفوذ مشيئته وتعلق الموجودات بأسرها به وجريان حكمه على الخليقة وانتهاءها إلى ما سبق لها في علمه وجرى به قلمه ويشهد ذلك أمره ونهيه وثوابه وعقابه وارتباط الجزاء بالأعمال واقتضاءها له ارتباط المسببات بأسبابها التي جعلت أسبابا مقتضية لها شرعا وقدرا وحكمة فشهوده توحيد الرب وانفراده بالخلق ونفوذ مشيئته وجريان قضائه وقدره يفتح له باب الإستعاذة ودوام الإلتجاء إليه والافتقار إليه وذلك يدنيه من عتبة العبودية ويطرحه بالباب فقيرا عاجزا مسكينا لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا

حياة ولا نشورا وشهوده أمره تعالى ونهيه وثوابه وعقابه يوجب له الحمد والتشمير وبذل الوسع والقيام بالأمر والرجوع على نفسه باللوم والإعتراف بالتقصير فيكون سيره بين شهود العزة والحكمة والقدرة الكاملة والعلم السابق والمنة العظيمة وبين شهود التقصير والإساءة منه وتطلب عيوب نفسه وأعمالها فهذا هو العبد الموفق المعان الملطوف به المصنوع له الذي أقيم مقام العبودية وضمن له التوفيق وهذا هو مشهد الرسل فهو مشهد أبيهم آدم إذ يقول ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ومشهد أول الرسل نوح إذ يقول رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ومشهد إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذ يقول الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين وقال في دعائه رب اجعل هذا البلد إمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام فعلم أن الذي يحول بين العبد وبين الشرك وعبادة الأصنام هو الله لا رب غيره فسأله أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام وهذا هو مشهد موسى إذ يقول في خطابه لربه أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين أي إن ذلك

إلا امتحانك واختبارك كما يقال فتنت الذهب إذا امتحنته واختبرته وليس من الفتنة التي هي الفعل المسيء كما في قوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وكما في قوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فإن تلك فتنة المخلوق فإن موسى أعلم بالله بأن يضيف إليه هذه الفتنة وإنما هي كالفتنة في قوله وفتناك فتونا أي ابتليناك واختبرناك وصرفناك في الأحوال التي قصها الله علينا من لدن ولادته إلى وقت خطابه له وإنزاله عليه كتابه والمقصود أن موسى شهد توحيد الرب وانفراده بالخلق والحكم وفعل السفهاء ومباشرتهم الشرك فتضرع إليه بعزته وسلطانه وأضاف الذنب إلى فاعله وجانيه ومن هذا قوله رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي قال تعالى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم وهذا مشهد ذي النون إذ يقول لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فوحد ربه ونزهه عن كل عيب وأضاف الظلم إلى نفسه وهذا مشهد صاحب سيد الاستغفار إذ يقول في دعائه اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت / ح / فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها وتوحيد الإلهية المتضمن لمحتبه وعبادته

وحده لا شريك له والاعتراف بالعبودية المتضمن للإفتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه ثم قال وأنا على عهدك ووعدك فتضمن ذلك التزام شرعه وأمره ودينه وهو عهده الذي عهده إلى عباده وتصديق وعده وهو جزاؤه من ثوابه فتضمن التزام الأمر والتصديق بالموعود وهو الإيمان والاحتساب ثم لما علم أن العبد لا يوفي هذا المقام حقه الذي يصلح له تعالى علق ذلك باستطاعته وقدرته التي لا يتعداها فقال ما استطعت أي التزم ذلك بحسب استطاعتي وقدرتي ثم شهد المشهدين المذكورين وهما مشهد القدرة والقوة ومشهد التقصير من نفسه فقال أعوذ بك من شر ما صنعت فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معا ثم أضاف النعم كلها إلى وليها وأهلها والمبتدىء بها والذنب إلى نفسه وعمله فقال أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فأنت المحمود والمشكور الذي له الثناء كله والإحسان كله ومنه النعم كلها فلك الحمد كله ولك الثناء كله ولك الفضل كله وأنا المذنب المسيء المعترف بذنبه المقر بخطئه كما قال بعض العارفين العارف يسير بين مشاهدة المنة من الله ومطالعة عيب النفس والعمل فشهود المنة يوجب له المحبة لربه سبحانه وحمده والثناء عليه ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره ودوام توبته وتضرعه واستكانته لربه ثم لما قام هذا بقلب الداعي وتوسل إليه بهذه الوسائل قال فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت
ثم أصحاب هذا المشهد فيه قسمان أحدهما من يشهد تسليط عدوه عليه وفساده إياه وسلسلة الهوى وكبحه إياه بلجام الشهوة فهو أسير معه بحيث يسوقه إلى ضرب عنقه وهو مع ذلك ملتفت إلى ربه وناصره ووليه عالم بأن نجاته في يديه وناصيته بين يديه وأنه لو شاء طرده عنه وخلصه من يديه فكلما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الالتفات إلى وليه وناصره والتضرع إليه والتذلل بين يديه وكلما أراد اغترابه وبعده عن بابه تذكر عطفه

وبره وإحسانه وجوده وكرمه وغناه وقدرته ورأفته ورحمته فانجذبت دواعي قلبه هاربة إليه بتراميه على بابه منطرحة على فنائه كعبد قد شدت يداه إلى عنقه وقدم لتضرب عنقه وقد استسلم للقتل فنظر إلى سيده أمامه وتذكر عطفه ورأفته به ووجد فرجة فوثب إليه منها وثبة طرح نفسه بين يديه ومد له عنقه وقال أنا عبدك ومسكينك وهذه ناصيتي بين يديك ولا خلاص لي من هذا العدو إلا بك وإني مغلوب فانتصر فهذا مشهد عظيم المنفعة جليل الفائدة تحته من أسرار العبودية ما لا يناله الوصف
وفوقه مشهد أجل منه وأعظم وأخص تجفو عنه العبارة وإن الإشارة إليه بعض الإشارة وتقريبه إلى الفهم بضرب مثل تعبر منه إليه وذلك مثل عبد أخذه سيده بيده وقدمه ليضرب عنقه بيده فهو قد أحكم ربطه وشد عينيه وقد أيقن العبد أنه في قبضته وأنه هو قاتله لا غيره وقد علم مع ذلك بره به ولطفه ورحمته ورأفته وجوده وكرمه فهو يناشده بأوصافه ويدخل عليه به قد ذهب عن وهمه وشهوده كل نسب فانقطع تعلقه بشيء سواه فهو معرض عن عدوه الذي كان سبب غضب سيده عليه قد محا شهوده من قلبه فهو مقصور النظر إلى سيده وكونه في قبضتها ناظر إلى ما يصنعه منتظر منه ما يقتضيه عطفه وبره وكرمه ومثل الأول مثل عبد أمسكه عدوه وهو يخنقه للموت وذلك العبد يشهد دنو عدوه له ويستغيث بسيده وسيده يغيثه ويرحمه ولكن ما يحصل للثاني في مشهده ذلك من الأمور العجيبة فوق ما يحصل للأول وهو بمنزلة من قد أخذه محبوبه فهو يخنقه خنقة وهو لا يشهد إلا خنقه له فهو يقول اخنق خنقك فأنت تعلم أن قلبي يحبك وفي هذا المثل إشارة وكفاية من غلظ حجابه وكثفت طباعه لا ينفعه التصريح فضلا عن ضرب الأمثال والله المستعان وعليه التكلان ولا قوة إلا بالله فهذه ستة مشاهد
المشهد السابع مشهد الحكمة وهو أن يشهد حكمة الله في تخليته

بينه وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئة أسبابه له وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله أحدها أنه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة الثاني تعريف العبد عزة الله سبحانه في قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه الثالث تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق الرابع استجلابه من العبد استعانته به واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه والابتهال بين يديه الخامس إرادته من عبده تكميل مقام الذل والإنكسار فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وظن أنه وأنه فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذل وتيقن وتمنى أنه وأنه السادس تعريفه بحقيقة نفسه وأنها الخطاءة الجاهلة وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله من به عليه لا من نفسه السابع تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه في ستره عليه فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يصف له معهم عيش الثامن تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته التاسع تعريفه كرمه في قبول توبته ومغفرته له على ظلمه وإساءته العاشر إقامة الحجة على عبده فإن له عليه الحجة البالغة فإن عذبه فبعدله وببعض حقه عليه بل باليسير منه الحادي عشر أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يجب أن يعامله الله به فإن الجزاء من جنس العمل فيعمل في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه الثاني عشر أني يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم مع إقامة أمر الله فيهم فيقيم أمره فيهم رحمة لهم لا قسوة وفظاظة عليهم الثالث عشر أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه فتتبدل برقة ورأفة ورحمة الرابع عشر أن يعريه من رداء العجب بعمله كما قال النبي لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أشد منه

العجب أو كما قال الخامس عشر أن يعريه من لباس الإدلال الذي يصلح للملوك ويلبسه لباس الذل الذي لا يليق بالعبد سواه السادس عشر أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم السابع عشر أن يعرف مقداره مع معافاته وفضله في توفيقه وعصمته فإن من تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية الثامن عشر أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة التاسع عشر أنه إذا شهد إساءته وظلمه واستكثر القليل من نعمة الله لعلمه بأن الواصل إليه

منها كثير على مسيء مثله فاستقل الكثير من عمله لعلمه بأن الذي يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه أضعاف أضعاف ما يفعله فهو دائما مستقل لعمله كائنا ما كان ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافيا العشرون أنه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده ويعرفه من أين يدخل عليه وبماذا يحذر منه كالطبيب الذي ذاق المرض والدواء الحادي والعشرون أن مثل هذا ينتفع به المرضى لمعرفته بأمراضهم وأدوائها الثاني والعشرون أنه يرفع عنه حجاب الدعوى ويفتح له طريق الفاقة فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى ولا طريق أقرب من العبودية فإن دوام الفقر إلى الله مع التخليط خير من الصفاء مع العجب الثالث والعشرون أن تكون في القلب أمراض مزمنة لا يشعر بها فيطلب دواءها فيمن عليه اللطيف الخبير ويقضي عليه بذنب ظاهر فيجد ألم مرضه فيحتمي ويشرب الدواء النافع فتزول تلك الأمراض التي لم يكن يشعر بها ومن لم يشعر بهذه اللطيفة فغلظ حجابه كما قيل
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
الرابع والعشرون أنه يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته وفرحه وسروره إذا اقبل بقلبه إليه وجمعه عليه وأقامه في طاعته فيكون التذاذه في ذلك بعد أن صدر منه ما صدر بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال والشديد الخوف بالأمن والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه وإن لطف الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته الخامس والعشرون امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا فإنه إذا وقع الذنب سلب حلاوة الطاعة والقرب ووقع في الوحشة فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة فحنت وأنت وتضرعت واستعانت بربها ليردها إلى ما عودها من بره ولطفه وإن ركنت عنها واستمر إعراضها ولم تحن إلى تعهدها الأول ومألوفها ولم تحسن بضرورتها وفاقتها

الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله وقد جاء هذا بعينه في أثر إلهي لا أحفظه السادس والعشرون أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان أو بعضها ولو لم يخلق فيه هذه الدواعي لم يكن إنسانا بل ملكا فالذنب من موجبات البشرية كما أن النسيان من موجباتها كما قال النبي كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ولا يتم الابتلاء والاختبار إلا بذلك والله أعلم السابع والعشرون أن ينسيه رؤية طاعته ويشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه فإن الله إذا أراد بعبد خيرا سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه وشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة فإن ما تقبل من الأعمال رفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذكره وقال بعض السلف إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة ويعمل الحسنة فيدخل بها النار قالوا كيف قال يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذل لربه وزال عنه عجبه وكبره ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمن بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل النار الثامن والعشرون أن شهود ذنبه وخطيئته يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلا ولا له على أحد حقا فإنه إذا شهد عيب نفسه بفاحشة وخطأها وذنوبها لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقا من الإكرام يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها فإنها عند أخس قدرا

وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوق يجب مراعاتها أو لها عليهم فضل يستحق أن يلزموه لأجله فيرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط قد أحسن إليه وبذل له ما لا يستحقه فاستراح في نفسه واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيشه وما أنعم باله وما أقر عينه وأين هذا ممن لا يزال عاتبا على الخلق شاكيا ترك قيامهم بحقه ساخطا عليهم وهم عليه أسخط فسبحان ذي الحكمة الباهرة التي بهرت عقول العالمين التاسع والعشرون أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها فإنه في شغل بعيبه ونفسه وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس فالأول علامة السعادة والثاني علامة الشقاوة الثلاثون أنه يوجب له الإحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين فيصير هجيراه رب اغفر لي ولوالدي وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أصيب به ويحتاجون إلى مثل ما هو محتاج إليه فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم وقد قال بعض السلف إن الله لما عتب على الملائكة في قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وامتحن هاروت وماروت جعلت الملائكة بعد ذلك تستغفر لبني آدم ويدعون الله لهم الحادي والثلاثون أنه يوجب له سعة إبطائه وحلمه ومغفرته لمن أساء إليه فإنه إذا شهد لنفسه مع ربه سبحانه مسيئا خاطئا مذنبا مع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين وهذا حاله مع ربه فكيف يطمع أن يستقيم له الخلق ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته في كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ويعفو عنهم ويغضي عن الاستقصاء في طلب حقه قبلهم

قاعدة كثيرا ما يتكرر في القرآن ذكر الإنابة والأمر بها كقوله تعالى وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له وقوله حكاية عن شعيب أنه قال وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وقوله تبصرة وذكرى لكل عبد منيب وقوله إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب وقوله عن نبيه داود وخر راكعا وأناب والإنابة الرجوع إلى الله وانصراف دواعي القلب وجواذبه إليه وهي تتضمن المحبة والخشية فإن المنيب محب لمن أناب إليه خاضع له خاشع ذليل والناس في إنابتهم على درجات متفاوتة فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصي وهذه الإنابة مصدرها مطالعة الوعيد والحامل عليها العلم والخشية والحذر ومنهم المنيب إليه بالدخول في أنواع العبادات والقربات فهو ساع فيها بجهده وقد حبب إليه فعل الطاعات وأنواع القربات وهذه الإنابة مصدرها الرجاء ومطالعة الوعد والثواب ومحبة الكرامة من الله وهؤلاء أبسط نفوسا من أهل القسم الأول وأشرح صدورا وجانب الرجاء ومطالعة الرحمة والمنة أغلب عليهم وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعا ولكن خوف هؤلاء اندرج في رجائهم فأنابوا بالعبادات ورجاء الأولين اندرج تحت خوفهم فكانت إنابتهم بترك المخالفات ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاء والافتقار إليه والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة والغنى والكرم والقدرة فأنزلوا به حوائجهم وعلقوا به آمالهم فإنابتهم إليه من هذه الجهة مع قيامهم بالأمر

والنهي ولكن إنابتهم الخاصة إنما من هذه الجهة وأما الأعمال فلم يرزقوا فيها الإنابة الخاصة وأملهم المنيب عند الشدائد والضراء فقط إنابة اضطرار لا إنابة اختيار كحال الذين قال الله في حقهم وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه وقوله تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أرواحهم ملتفتة عن الله سبحانه معرضة عنه إلى مألوف طبيعي نفساني قد حال بينها وبين إنابتها بذاتها إلى معبودها وإلهها الحق فهي ملتفتة إلى غيره ولها إليه إنابة ما بحسب إيمانها به ومعرفتها له
فأعلى أنواع الإنابة إنابة الروح بجملتها إليه لشدة المحبة الخالصة المغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم وحين أنابت إليه أرواحهم لم يختلف منهم شيء عن الإنابة فإن الأعضاء كلها رعيتها وملكها تبع للروح فلما أنابت الروح بذاتها إليه إنابة محب صادق المحبة وليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حب ساكن لمحبوبه أنابت جميع القوى والجوارح فأناب القلب أيضا بالمحبة والتضرع والذل والإنكسار وأناب العقل بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه وتسليمه لها وتحكيمه إياها دون غيرها فلم يبق فيه منازعة شبهة معترضة دونها وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة وانقادت لأوامره خاضعة له وداعية فيه ومؤثرة إياها على غيره فلم يبق فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر وخرجت عن تدبيرها واختيارها تفويضا إلى مولاها ورضى بقضائه وتسليما لحكمه وقد قيل إن تدبير العبد لنفسه هو آخر الصفات المذمومة في النفس وأناب الجسد في الأعمال والقيام بها فرضها وسننها على أكمل

الوجوه وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصة فلم يبق من هذا العبد المنيب عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذي كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها وإن كانت عذبة في مباديها فإنها عذاب في عواقبها فإنابة العبد ولو ساعة من عمره هذه الإنابة الخالصة أنفع له وأعظم ثمرة من إنابة سنين كثيرة من غيره فأين إنابة هذا من إنابة من قبله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء بل هذه روحه منيبة أبدا وإن توارى عنه شهود إنابتها باشتغال فهي كامنة فيها كمون النار في الزناد وأما أصحاب الإنابات المتقدمة فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر الابتهال فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه فهو ينيب ببعضه ساعة ثم يترك ذلك مقبلا على دواعي نفسه وطبعه والله الموفق المعين لا رب غيره ولا إله سواه
قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة في الأحوال والأقوال والأعمال
وهي شيئان أحدهما حراسة الخواطر وحفظها والحذر من إهمالها والاسترسال معها فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء لأنها هي بذر الشيطان والنفس في أرض القلب فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم فيجد العبد نفسه عاجزا أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة وهو المفرط إذا لم يدفعها وهي خاطر ضعيف كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها فإن قلت فما الطريق إلى حفظ الخواطر قلت أسباب عدة أحدها العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك الثاني حياؤك منه الثالث إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته الرابع خوفك منه أن

تسقط من عينه بتلك الخواطر الخامس إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته السادس خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ويستعر شرارها فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر السابع أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر الثامن أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلا بل هي ضدها من كل وجه وما اجتمعا في قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه وأخرجه واستوطن مكانه فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة فأخرجتها واستوطنت مكانها لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه التاسع أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلا فقلب تملكه الخواطر بعيد من الفلاح معذب مشغول بما لا يفيد العاشر أن تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها وأفسدت عليه رعيته وألقته في الأسر الطويل كما أن هذا معلوم في الخواطر النفسانية فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية هي أصل الخير كله فإن أرض القلب إذا بذر فيها خواطر الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاء الثواب وسقيت مرة بعد مرة وتعاهدها صاحبها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها أثمرت له كل فعل جميل وملأت قلبه من الخيرات واستعملت جوارحه في الطاعات واستقر بها الملك في سلطانه واستقامت له رعيته ولهذا لما تحققت طائفة من السالكين ذلك عملت على حفظ الخواطر فكان ذلك هو سيرها وجل أعمالها وهذا نافع لصاحبه بشرطين أحدهما أن لا يترك به واجبا ولا سنة والثاني أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود بل لا يتم

ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية فيفرغ قلبه من تلك الخواطر ويعمره بأضدادها وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معا كان خاسرا فلا بد من التفطن لهذا ومن هنا غلط أقوام من أرباب السلوك وعملوا على إلقاء الخواطر وإزالتها جملة فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيالات فظنوها تحقيقا وفتحا رحمانيا وهم فيها غالطون وإنما هي خيالات شيطانية والميزان هو الكتاب الناطق والفطرة السليمة والعقل المؤيد بنور النبوة والله المستعان
فصل صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبت قلبه إلى الله وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته واستحدثت همة أخرى وعلوما أخر وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة وكما كان بطن أمه حجابا لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة فخروج قلبه عن نفسه بارزا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزا إلى هذه الدار وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أنه قال يا بني إسرائيل إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين ولما كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها فضلا عن أن يصدقوا بها فيقول القائل كيف يولد الرجل الكبير أو كيف يولد القلب لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة إذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد والمقصود أن صدق التأهب للقاء هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح

فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه
قاعدة شريفة الناس قسمان علية وسفلة فالعلية من عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصدا الوصول إليه وهذا هو الكريم على ربه والسفلة من لم يعرف الطريق إلى ربه ولم يتعرفها فهذا هو اللئيم الذي قال الله فيه ومن يهن الله فماله من مكرم والطريق إلى الله في الحقيقة واحد لا تعدد فيه وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلا لمن سلكه قال الله تعالى وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فوحد سبيله لأنه في نفسه واحد لا تعدد فيه وجمع السبل المخالفة لأنها كثيرة متعددة كما ثبت أن النبي خط خطا ثم قال هذا سبيل الله / ح / ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره ثم قال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه / ح / ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ومن هذا قوله تعالى الله ولي الذين امنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات فوحد النور الذي هو سبيله وجمع الظلمات التي هي سبيل الشيطان ومن فهم هذا فهم السر في إفراد النور وجمع الظلمات في قوله الحمد لله الذي خلق السموات

والأرض وجعل الظلمات والنور مع أن فيه سر ألطف من هذا يعرفه من يعرف منبع النور ومن أين فاض وعماذا حصل وأن أصله كله واحد وأما الظلمات فهي متعددة بتعدد الحجب المقتضية لها وهي كثيرة جدا لكل حجاب ظلمة خاصة ولا ترجع الظلمات إلى النور الهادي جل جلاله أصلا ولا وصفا ولا ذاتا ولا اسما ولا فعلا وإنما ترجع إلى مفعولاته فهو جاعل الظلمات ومفعولاتها متعددة متكثرة بخلاف النور فإنه يرجع إلى اسمه وصفته تعالى أن يكون كمثله شيء وهو نور السموات والأرض قال ابن مسعود ليس عند ربكم ليل ولا نهار نور السموات والأرض من نور وجهه ذكره الدارمي عنه وفي صحيح مسلم عن أبي ذر قلت يا رسول الله هل رأيت ربك قال نور أنى أراه
والمقصود أن الطريق إلى الله واحد فإنه الحق المبين والحق واحد مرجعه إلى واحد وأما الباطل والضلال فلا ينحصر بل كل ما سواه باطل وكل طريق إلى الباطل فهو باطل فالباطل متعدد وطرقه متعددة وأما ما يقع في كلام بعض العلماء أن الطريق إلى الله متعددة متنوعة جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها رحمة منه وفضلا فهو صحيح لا ينافي ما ذكرناه من وحدة الطريق وإيضاحه أن الطريق هي واحدة جامعة لكل ما يرضي الله وما يرضيه متعدد متنوع فجميع ما يرضيه

طريق واحد ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأزمان والأماكن والأشخاص والأحوال وكلها طرق مرضاته فهذه التي جعلها الله لرحمته وحكمته كثيرة متنوعة جدا لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم ولو جعلها نوعا واحدا مع اختلاف الأذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امرىء إلى ربه طريقا يقتضيها استعداده وقوته وقبوله ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد مع وحدة المعبود ودينه ومنه الحديث المشهور الأنبياء أولاد علات دينهم واحد فأولاد العلات أن يكون الأب واحدا والأمهات متعددة فشبه دين الأنبياء بالأب الواحد وشرائعهم بالأمهات المتعددة فإنها وإن تعددت فمرجعها إلى أب واحد كلها وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذي يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم قد وفر عليه زمانه مبتغيا به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفا على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت في طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته قال تعالى ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وقد حكي عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل وهو حريص طالب للقرآن أنه رؤي بعد موته وأخبر انه في تكميل مطلوبه وأنه يتعلم في البرزخ فإن العبد يموت على ما عاش عليه ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأس ماله لمآله فمتى فتر عنه أو قصر رأى أنه قد غبن وخسر ومن

الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة فمتى قصر في ورده منها أو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أو مستعد لها أظلم عليه وقته وضاق صدره ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدي كقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وأنواع الصدقات قد فتح له في هذا وسلك منه طريقا إلى ربه ومن الناس من يكون طريقه الصوم فهو متى أفطر تغير قلبه وساءت حاله ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهي الغالب على أوقاته وهي أعظم أوراده ومنهم من يكون طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه ومنهم من يكون طريقه الذي نفذ فيه الحج والاعتمار ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأوقات أن تذهب ضائعة ومنهم جامع المنفذ السالك إلى الله في كل واد الواصل إليه من كل طريق فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أين كانت ويسير معها حيث سارت قد ضرب مع كل فريق بسهم فأين كانت العبودية وجدته هناك إن كان علم وجدته مع أهله أو جهاد وجدته في صف المجاهدين أو صلاة وجدته في القانتين أو ذكر وجدته في الذاكرين أو إحسان ونفع وجدته في زمرة المحسنين أو محبة ومراقبة وإنابة إلى الله وجدته في زمرة المحبين المنيبين يدين بدين العبودية أنى استقلت ركائبها ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها لو قيل ما تريد من الأعمال لقال أريد أن أنفذ أوامر ربي حيث كانت وأين كانت جالبة ما جلبت مقتضية ما اقتضت جمعتني أو فرقتني ليس لي مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقبا له فيها عاكفا عليه بالروح والقلب والبدن والسر قد سلمت إليه المبيع منتظرا منه تسليم الثمن إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة ومعنى لنفوذ إليه أن يتصل به قلبه ويعلق به تعلق المحب التام المحبة بمحبوبه فيسلو به

عن جميع المطالب سواه فلا يبقى في قلبه إلا محبة الله وأمره وطلب التقريب إليه فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه وأخذ بقلبه إليه وتولاه في جميع أموره في معاشه ودينه وتولي تربيته أحسن وأبلغ مما يربي الوالد الشفيق ولده فإنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها فكيف تكون قيوميته بمن أحبه وتولاه وآثره على ما سواه ورضي به من دون الناس حبيبا وربا ووكيلا وناصرا ومعينا وهاديا فلو كشف الغطاء عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه محبة له وشوقا إليه ويقع شكرا له ولكن حجب القلوب عن مشاهدة ذلك إخلادها إلى عالم الشهوات والتعلق بالأسباب فصدت عن كمال نعيمها وذلك تقدير العزيز العليم وإلا فأي قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه هذا ما لا يكون أبدا
ومن ذاق شيئا من ذلك وعرف طريقا موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب في حياته عذابا لم يعذب به أحد من العالمين فحياته عجز وغم وحزن وموته كدر وحسرة ومعاده أسف وندامة قد فرط عليه أمره وشتت عليه شمله وأحضر نفسه الغموم والأحزان فلا لذه الجاهلين ولا راحة العارفين يستغيث فلا يغاث ويشتكي فلا يشكى فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت الآمه وأحزانه وحسراته فقد أبدل بأنسه وحشة وبعزه ذلا وبغناه فقرا وبجمعيته تشتيتا وأبعدوه فلم يظفر بقربهم وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها ناكبا عنها مكبا على وجهه فأبصر ثم عمي وعرف ثم أنكر وأقبل ثم أدبر ودعي فما أجاب وفتح له فولى ظهره الباب قد ترك طريق مولاه وأقبل بكليته على هواه فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشؤونه فهو مقيد القلب عن انطلاقه في فسيح التوحيد وميادين الأنس ورياض المحبة وموائد القرب قد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل سافلين وحصل في عداد

الهالكين فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده وإعراض الكون عنه إذ أعرض عن ربه حائل بينه وبين مراده فهو قبر يمشي على وجه الأرض وروحه في وحشة من جسمه وقلبه في ملال من حياته يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال والعياذ بالله فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأليم بسبب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحراقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وأرته إياها على حقيقتها لتقطع والله قلبه ولم يلتذ بطعام ولا شراب ولخرج إلى الصعدات يجأر إلى الله ويستغيث به يستعتبه في زمن الاستعتاب هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التي هي كخيال طيف أو مزنة صيف نغصت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبين أقدر ما كان عليها وتلك سنة الله في خلقه كما قال تعالى حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون وهذا هو غب إعراضه وإيثار شهوته على مرضاة ربه يعوق القدر عليه أسباب مراده فيخسر الأمرين جميعا فيكون معذبا في الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم فهم لا ينقطع وحسرة لا تنقضي وحرص لا ينفذ وذل لا ينتهي وطمع لا يقلع هذا في هذه الدار وأما في البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك قد حيل بينه وبين ما يشتهي وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه وأحضر جميع غمومه وأحزانه وأما في دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعودين المطرودين فواغوثاه ثم واغوثاه

========

ج2.كتاب طريق الهجرتين وباب السعادتين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية


بغياث المستغيثين وأرحم الراحمين فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والبخس في أعماله وأحواله وقارنه سوء الحال وفساده في دينه ومآله فإن الرب إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسفت أنوارها وظهرت عليها وحشة الإعراض وصارت مأوى للشياطين وهدفا للشرور ومصبا للبلاء فالمحروم كل المحروم من عرف طريقا إليه ثم أعرض عنها أو وجد بارقة من حبه ثم سلبها لم ينفذ إلى ربه منها خصوصا اذا مال بتلك الإرادة إلى شيء من اللذات وانصرف بجملته إلى تحصيل الأغراض والشهوات عاكفا على ذلك في ليله ونهاره وغدوه ورواحه هابطا من الأوج الأعلى إلى الحضيض الأدنى قد مضت عليه برهة من أوقاته وكان همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه على ذلك يصبح ويمسي ويظل ويضحي وكان الله في تلك الحال وليه لأنه ولي من تولاه وحبيب من أحبه ووالاه فأصبح في سجن الهوى ثاويا وفي أسر العدو مقيما وفي بئر المعصية ساقطا وفي أودية الحيرة والتفرقة هائما معرضا عن المطالب العالية إلى الأغراض الخسيسة الفانية كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوسا في أسفل الحش
فأصبح كالبازي المنتف ريشه ... يرى حسرات كلما طار طائر
وقد كان دهرا في الرياض منعما ... على كل ما يهوى من الصيد قادر
إلى أن أصابته من الدهر نكبة ... إذا هو مقصوص الجناحين حاسر
فيا من ذاق شيئا من معرفة ربه ومحبته ثم أعرض عنها واستبدل بغيرها منها يا عجبا له بأي شيء تعوض وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض وكيف اتخذ سوى أحنيته سكنا وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطنا أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار فيا معرضا عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم ويا بائعا سعادته العظمى بالعذاب الأليم ويا مسخطا من حياته وراحته وفوزه في

رضاه وطالبا رضى من سعادته في إرضاء سواه إنما هي لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها فرح ساعة لا شهر وغم سنة بل دهر طعام لذيذ مسموم أوله لذة وآخره هلاك فالعامل عليها والساعي في تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاته وتنورت ظلماته وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم فإذا أحب عبدا أحبوه وإذا والى واليا والوه إذا أحب الله العبد نادى يا جبرائيل إني أحب فلانا فأحبه فينادي جبرائيل في السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض فيوضع له القبول بينهم ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته ويقبل عليه بأنواع كرامته ويلحظه الملأ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
قاعدة السائر إلى الله والدار الآخرة بل كل سائر إلى مقصد لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين قوة علمية وقوة عملية فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك فيقصدها سائرا فيها ويجتنب

أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتالف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره ويبصر بذلك النور أيضا أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها فلا يضل عنها فيكشف له النور عن الأمرين أعلام الطريق ومعاطبها وبالقوة العملية يسير حقيقة بل السير هو حقيقة القوة العملية فإن السير هو عمل المسافر وكذلك السائر إلى ربه إذا ابصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح وبقي عليه الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافرا في الطريق قاطعا منازلها منزلة بعد منزلة فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى واستشعر القرب من المنزل فهانت عليه مشقة السفر وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول فيحدث لها ذلك نشاطا وفرحا وهمة فهو يقول يا نفس أبشري فقد قرب المنزل ودنا التلاقي فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول فيحال بينك وبين منازل الأحبة فإن صبرت وواصلت المسرى وصلت حميدة مسرورة جذلة وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة فإن الدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة وعمرك درجة من درج تلك الساعة فالله الله لا تنقطعي في المفازة فهو والله الهلاك والعطب لو كنت تعلمين فإن استصعبت عليه فليذكرها ما أمامها من أحبابها وما لديهم من الإكرام والإنعام وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاء فإن رجعت فإلى أعدائها رجوعها وإن تقدمت فإلى أحبابها مصيرها وإن وقفت في طريقها أدركها أعداؤها فإنهم وراءها في الطلب ولا بد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت وليجعل حديث الأحبة حاديها وسائقها ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها

وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها ولا يوحشه انفراده في طريق سفره ولا يغتر بكثرة المنقطعين فألم انقطاعه وبعاده واصل إليه دونهم وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم بل هي من عوارض الطريق فسوف تبدو له الخيام وسوف يخرج إليه المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم فيا قرة عينه إذ ذاك ويا فرحته إذ يقول يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ولا يستوحش مما يجده من كثافة الطبع وذوب النفس وبطء سيرها فكلما أدمن على السير وواظب عليه غدوا ورواحا وسحرا قرب من الدار وتلطفت تلك الكثافة وذابت تلك الخبائث والأدران فظهرت عليه همة المسافرين وسيماهم فتبدلت وحشته أنسا وكثافته لطافة ودرنه طهارة


فصل في تقسيم الناس من حيث القوة العلمية والعملية فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه ويكون ضعيفا في القوة العملية يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها فهو فقيه ما لم يحضر العمل وإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف وفارقهم في العلم وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم والمعصوم من عصمه الله ولا قوة إلا بالله ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والجد والتشمير في العمل ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات فداء هذا من جهله وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم بل على طريق الذوق والوجد والعادة يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه لا يدري من يعبد ولا بماذا يعبده فتارة يعبده بذوقه ووجده وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين أو كشف رأس أو حلق لحية ونحوها وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين وليس له أصل في الدين وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنا ما كان وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم وعن

شريعته ودينه لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه ولا يقبل من أحد دينا سواه كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها فلا معرفة بالرب ولا عبادة له ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ورجي له النفوذ وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته فإن القواطع كثيرة شأنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين ولو شاء الله لأزالها وذهب بها ولكن الله يفعل ما يريد والوقت كا قيل سيف فإن قطعته وإلا قطعك فإذا كان السير ضعيفا والهمة ضعيفة والعلم بالطريق ضعيفا والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة فإنه جهد البلاء ودرك الشقاء وشماتة الأعداء إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع والله ولي التوفيق
قاعدة نافعة العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه ومدة سفره هي عمره الذي كتب له فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل سفره فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر فالكيس الفطن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه فيهتم بقطعها سالما غانما فإذا قطعها جعل الأخرى نصب عينيه ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه ويمتد أمله ويحصر بالتسويف والوعد والتأخير والمطل بل يعد عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل فطوعت له نفسه الانقياد إلى التزويد فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك فلا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته فإذا طلع صبح الآخرة وانقشع ظلام الدنيا فحينئذ يحمد سراه وينجاب عنه كراه فما أحسن ما يستقبل يومه وقد لاح صباحه واستبان فلاحه

ثم الناس في قطع هذه المراحل قسمان فقسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاء فكلما قطعوا منها مرحلة قربوا من تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب ومعاداة رسله وأوليائه ودينه والسعي في إطفاء نوره وإبطال دعوته وإقامة دعوة غيرها فهؤلاء جعلت أيامهم يسافرون فيها إلى الدار التي خلقوا لها واستعملوا بها فهم مصحوبون فيها بالشياطين الموكلة بهم يسوقهم إلى منازلهم سوقا كما قال تعالى ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا أي تزعجهم إلى المعاصي والكفر إزعاجا وتسوقهم سوقا القسم الثاني قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام وهم ثلاثة أقسام ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرجعى إلى الله ولكن متفاوتون في التزود وتعبئة الزاد واختياره وفي نفس السير وسرعته وبطئه فالظالم لنفسه مقصر في الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا في قدره ولا في صفته بل مفرط في زاده الذي ينبغي له أن يتزوده ومع ذلك فهو متزود ما يتأذى به في طريقه ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذي الضار والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه ولم يشد مع ذلك أحمال التجارة الرابحة ولم يتزود ما يضره فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأرباح وشد أحمال التجارات لعلمه بمقدار المربح الحاصل فيرى خسرانا أن يدخر شيئا مما بيده ولا يتجر به فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجاراتهم فهو كرجل قد علم أن أمامه بلدة الدرهم يكسب فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر وعنده حاصل وله خبرة بطريق ذلك البلد وخبرة بالتجارة فهو لو أمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يهيء به تجارة إلى ذلك البلد لفعل

فهكذا حال السابق بالخيرات بإذن الله يرى خسرانا بينا أن يمر عليه وقت في غير متجر فنذكر بعون الله وفضله نبذة من متاجر الأقسام الثلاثة ليعلم العبد من أي التجار هو
فأما الظالم لنفسه فإنه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته استقبلها وقد سبقت حظوظه وشهواته إلى قلبه فحركت جوارحه طالبة لها فإذا زاحمها حقوق ربه فتارة وتارة فمرة يأخذ بالرخصة ومرة بالعزيمة ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاونا ووعدا بالتوبة فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والتصديق بالثواب والعقاب فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران وهو للأغلب منهما فإذا ورد القيامة ميز ربحه من خسرانه وحصل ربحه وحده وخسرانه وحده وكان الحكم للراجح منهما وحكم الله من وراء ذلك لا يعدم منه فضله وعدله
وأما المقتصدون فأدوا وظيفة تلك المرحلة ولم يزيدوا عليها ولا نقصوا منها فلا حصلوا على أرباح التجار ولا بخسوا الحق الذي عليهم فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام والصلاة التامة في وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذن الله فيها مشتغلا بها قائما بأعيانها مؤديا واجب الرب فيها غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار والتوجه فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول فهو كذلك سائر يومه فإذا جاء الليل إلى حين النوم يأخذ الواجب ويقوم بحقه وكذلك الزكاة الواجبة والحج الواجب وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط لا يظلمهم ولا يترك حقه لهم
وأما السابقون بالخيرات فهم نوعان أبرار ومقربون وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين وهم المقتصدون والأبرار والمقربون وأما الظالم لنفسه فليس من أصحاب اليمين عند الإطلاق وإن كان مآله إلى مصير

المؤمنين بعد أخذ الحق منه وقد اختلف في قوله جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب الآية هل ذلك راجع إلى الأصناف الثلاثة الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات أو يختص بالقسمين الأخيرين وهما المقتصد والسابق دون الظالم على قولين فذهبت طائفة إلى أن الأصناف الثلاثة كلهم في الجنة وهذا يروى عن ابن مسعود وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعائشة أم المؤمنين قال أبو إسحق السبيعي أما الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج قال أبو داود الطائي أنبأنا الصلت بن دينار حدثنا عقبة بن صهبان الهنائي قال سألت عائشة عن قول الله فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فقالت لي يا بني كل هؤلاء في الجنة فأما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله يشهد له رسول الله بالخيرة والرزق وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك قال فجعلت نفسها معنا
وقال ابن مسعود هذه الأمة يوم القيامة أثلاث ثلث يدخلون الجنة بغير حساب وثلث يوم القيامة يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة

وثلث يجيئون بذنوب عظام فيقول الله ما هؤلاء وهو أعلم بهم فتقول الملائكة هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا فيقول الله أدخلوهم في سعة رحمتي
وقال كعب تحاذت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم
وقال الحسن السابقون من رجحت حسناتهم والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته والظالم من خفت موازينه واحتجت هذه الفرقة بأنه سبحانه سمى الكل مصطفين وأخبر أنه اصطفاهم من جملة العباد ومحال أن يكون الكافر والمشرك من المصطفين لأن الاصطفاء هو الاختيار وهو الافتعال من صفوة الشيء وهو خياره فعلم أن هؤلاء الأصناف الثلاثة صفوة الخلق وبعضهم خير من بعض فسابقهم مصطفى عليهم ثم مقتصدهم مصطفى على ظالمهم ثم ظالمهم مصطفى على الكافر والمشرك واحتجت أيضا بآثار روتها تؤيد ما ذهبت إليه فمنها ما رواه سليمان الشاذكوني حدثنا حصين بن بهر عن أبي ليلى عن أخيه عن أبيه عن أسامة بن زيد عن النبي في هذه الآية قال كلهم في الجنة
ومنها ما رواه الطبراني حدثنا أحمد بن حماد بن رعية حدثنا يحيى بن بكير حدثنا ابن لهيعة عن أحمد بن حازم المعارفي عن صالح مولى التوأمة عن أبي الدرداء قال قرأ النبي هذه الآية فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله فقال أما السابق فيدخل الجنة

بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم فيجلس في طول المحبس ثم يتجاوز الله عنه
ومنها ما رواه زكريا الساجي بن سالم عن سعد بن طريف عن أبي هاشم الطائي قال قدمت المدينة فدخلت مسجدها فجلست إلى سارية فجاء حذيفة فقال ألا أحدثك بحديث سمعته من رسول الله يقول يبعث الله تبارك وتعالى هذه الأمة أو كما قال ثلاثة أصناف وذلك في قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فالسابق بالخيرات يدخل الجنة بلا حساب والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا والظالم لنفسه يدخل الجنة برحمة الله
ومنها ما رواه الطبراني عن محمد بن إسحق بن راهويه حدثنا أبي حدثنا جرير عن الأعمش عن رجل سماه عن أبي الدرداء قال سمعت رسول الله يقول في قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه الآية قال السابق بالخيرات والمقتصد يدخلان الجنة بغير حساب والظالم لنفسه يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة
ومنها ما رواه ابن لهيعة عن أبي جعفر عن يونس بن عبدالرحمن عن

أبي الدرداء قال سمعت رسول الله يقول هذه الآية ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا إلى قول الله سابق بالخيرات قال فأما السابقون فيدخلون الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالمون فيحاسبون فيصيبهم عناء وكرب ثم يدخلون الجنة ثم يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور ومنها ما رواه الحميدي حدثنا سفيان حدثنا طعمة بن عمرو الجعفري عن رجل قال قال أبو الدرداء لرجل ألا أحدثك بحديث أخصك به لم أحدث به أحدا قال رسول الله فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد جنات عدن قال دخلوا الجنة جميعا واحتجت أيضا بالآيات والأحاديث التي تشهد بنجاة الموحدين من أهل الكبائر ودخولهم الجنة واحتجت أيضا بأن ظلم النفس إنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي فإن الظلم ثلاثة أنواع ظلم في حق النفس باتباعها شهواتها وإيثارها لها على طاعة ربها وظلم في حق الخلق بالعدوان عليهم ومنعهم حقوقهم وظلم في حق الرب بالشرك به فظلم النفس إنما هو بالمعاصي وقد تواترت النصوص بأن العصاة من الموحدين مآلهم إلى الجنة
وقالت طائفة بل الوعد بالجنات إنما هو للمقتصد والسابق دون الظالم لنفسه فإن الظالم لنفسه لا يدخل تحت الوعد المطلق والظالم لنفسه هنا هو الكافر والمقتصد المؤمن العاصي والسابق المؤمن التقي وهكذا يروى عن عكرمة والحسن وقتادة وهو اختيار جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشاف ومنذر بن سعيد في تفسيره والرماني وغيرهم قالوا وهذه الآية متناولة لجميع أقسام الخلق شقيهم وسعيدهم وهي نظير آية وكنتم

أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون قالوا فأصحاب الميمنة هم المقتصدون وأصحاب المشأمة الظالمون لأنفسهم والسابقون السابقون هم السابقون بالخيرات قالوا ولم يصطف الله من خلقه ظالما لنفسه بل المصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم فكيف يوقع عليهم اسم المصطفين ويتناولهم فعل الاصطفاء قالوا وأيضا صفوة الله هم أحباؤه والله لا يحب الظالمين فلا يكونون مصطفين قالوا ولأن الظالم لنفسه وإن كان ممن أورث الكتاب فهو بتركه العمل بما فيه قد ظلم نفسه والله سبحانه إنما اصطفى من عباده من أورثه كتابه ليعمل بما فيه فأما من نبذه وراء ظهره فليس من المصطفين من عباده قالوا ولأن الاصطفاء افتعال من صفوة الشيء وهو خلاصته ولبه وأصله اصتفى فأبدلت التاء طاء لوقوعها بعد الصاد كالاصطباح والاصطلام ونحوه والظالم لنفسه ليس صفوة العباد ولا خلاصتهم ولا لبهم فلا يكون مصطفى قالوا ولأن الله سلم على المصطفين من عباده فقال قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وهذا يقتضي سلامتهم من كل شر وكل عذاب والظالم لنفسه غير سالم من هذا ولا هذا فكيف يكون من المصطفين قالوا وأيضا فطريقة القرآن أن الوعد المطلق بالثواب إنما يكون للمتقين لا للظالمين كقوله تعالى تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا فأين الظالم لنفسه هنا وقوله تعالى أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون وقوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم

وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين وقوله إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا والقرآن مملوء من هذا ولم يجئ فيه موضع واحد بإطلاق الوعد بالثواب للظالم لنفسه أصلا قالوا وأيضا فلم يجئ في القرآن ذكر الظالم لنفسه إلا في معرض الوعيد لا الوعد كقوله تعالى إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين وقوله فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق وقوله وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون قالوا وأيضا فالظالم لنفسه هو الذي خفت موازينه ورجحت سيئاته والقرآن كله يدل على خسارته وأنه غير ناج كقوله تعالى فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون وقوله وأما من خفت موازينه فأمه هاوية فكيف يذكر وعده بجناته وكرامته للظالمين أنفسهم الخفيفة موازينهم قالوا وأيضا فقوله تعالى جنات عدن مرفوع لأنه بدل من قوله ذلك هو الفضل الكبير وهو بدل نكرة من معرفة كقوله لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة وحسن وقوعه مجيء النكرة موصوفة لتخصيصها بالوصف وقربها من المعرفة ومعلوم أن المبدل منه وهو الفضل الكبير مختص بالسابقين بالخيرات والمعنى أن سبقهم

بالخيرات بإذنه ذلك هو الفضل الكبير وهو جنات عدن يدخلونها وجعل السبق بالخيرات نفس الجنات لأنه سببها وموجبها قالوا وأيضا فإنه وصف حليتهم فيها بأنها أساور من ذهب ولؤلؤ وهذه جنات السابقين لا جنات المقتصدين فإن جنات الفردوس أربع كما ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ومعلوم أن الجنتين الذهبيتين أعلى وأفضل من الفضيتين فإذا كانت الجنتان الذهبيتان للظالمين لأنفسهم فمن يسكن الجنتين الفضيتين فعلم أن هذه الجنات المذكورة لا تتناول الظالمين لأنفسهم قالوا وأيضا فإن أقرب المذكورات إلى ضمير الداخلين هم السابقون بالخيرات فوجب اختصاصهم بالدخول إلى الجنات المذكورات قالوا وفي اختصاصهم بعد ذكر الأقسام بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما هو معلوم من طريقة القرآن إذ يصرح بذكر ثواب الأبرار والمتقين والمخلصين والمحسنين ومن رجحت حسناتهم ويذكر عقاب الكفار والفجار والظالمين لأنفسهم ومن خفت موازينهم ويسكت عن القسم الذي فيه شائبتان وله مادتان هذه طريقة القرآن كقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم وقوله فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى وهذا كثير في القرآن قالوا وفي السكوت عن شأن صاحب الشائبتين تحذير

عظيم وتخويف له بأن أمره مرجأ إلى الله وليس عليه ضمان ولا له عنده وعد ليحذر كل الحذر وليبادر بالتوبة النصوح التي تلحقه بالمضمون لهم النجاة والفلاح قالوا وأيضا فمن المحال أن يقع على أحد من المصطفين اسم الظلم مطلقا وإنما يقع اسم الظلم على الكافر كما قال تعالى يا أيها الذين امنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون وقال والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير مع قوله الله ولي الذين امنوا والظالم لا ولي له فلا يكون من المؤمنين قالوا وأيضا فمن تدبر الآيات وتأمل سياقها وجدها قد استوعبت جميع أقسام الخلق ودلت على مراتبهم في الجزاء فذكر سبحانه أن الناس نوعان ظالم محسن ثم قسم المحسن إلى قسمين مقتصد وسابق ثم ذكر جزاء المحسن فلما فرغ منه ذكر جزاء الظالم فقال والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وقال ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين فذكر أنواع العباد زجزاءهم قالوا وأيضا فهذه طريقة القرآن في ذكر أصناف الخلق الثلاثة كما ذكرهم الله تعالى في سورة الواقعة والمطففين وسورة الإنسان فأما سورة الواقعة فذكرهم في أولها وفي آخرها فقال في أولها وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمةما أصحاب المشأمة

والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم فأصحاب المشأمة هم الظالمون وأما أصحاب اليمين فقسمان أبرار وهم أصحاب الميمنة وسابقون وهو المقربون وفي آخرها فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنت نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم فذكر حالهم في القيامة الكبرى في أول السورة ثم ذكر حالهم في القيامة الصغرى في البرزخ في آخر السورة ولهذا قدم قبله ذكر الموت ومفارقة الروح فقال فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعوهنها إن كنتم صادقين ثم قال فأما إن كان من المقربين إلى آخرها وأما في أولها فذكر أقسام الخلق عقب قوله إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأمة ثم قال إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأمة ثم قال إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين ثم قال

عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا فهؤلاء المقربون السابقون ولهذا خصهم بالإضافة إليه وأخبر أنهم يشربون بتلك العين صرفا محضا وأنها تمزج للأبرار مزجا كما قال في سورةالمطففين في شراب الأبرار ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون وقال يشرب بها المقربون ولم يقل منها إشعارا بأن شربهم بالعين نفسها خالصة لا بها وبغيرها فضمن يشرب معنى يروى فعدى بالباء وهذا ألطف مأخذا وأحسن معنى من أن يجعل الباء بمعنى من ويضمن يشرب الفعل معنى فعل آخر فيتعدى تعديته وهذه طريقة الحذاق من النحاة وهي طريقة سيبويه وأئمة أصحابه وقال في الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا لأن شرب المقربين لما كان أكمل استعير له الباء الدالة على شرب الري بالعين خالصة ودلالة القرآن ألطف وأبلغ من أن يحيط بها البشر وقال تعالى في سورة المطففين كلا إن كتاب الفجار لفي سجين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم إلى قوله كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون ثم قال كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون فهؤلاء الأبرار المقتصدون وأخبر أن المقربين يشهدون كتابهم أي يكتب بحضرتهم ومشهدهم لا يغيبون عنه اعتناء به وإظهارا لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربه ثم ذكر سبحانه نعيم الأبرار ومجالستهم ونظرهم إلى ربهم وظهور نضرة النعيم في وجوههم ثم ذكر شرابهم فقال يسقون من

رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ثم قال ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون والتسنيم أعلى أشربة الجنة فأخبر سبحانه أن مزاج شراب الأبرار من التسنيم وأن المقربين يشربون منه بلا مزاج ولهذا قال عينا يشرب بها المقربون كما قال تعالى في سورة الإنسان سواء قال ابن عباس وغيره يشرب بها المقربون صرفا ويمزج لأصحاب اليمين مزجا وهذا لأن الجزاء وفاق العمل فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله خلص شرابهم وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات مزج لهم شرابهم فمن أخلص أخلص شرابه ومن مزج مزج شرابه
يا لاهيا في غمرة الجهل والهوى ... صريعا على فرش الردى يتقلب
تأمل هداك الله ما ثم وانتبه ... فهذا شراب القوم حقا يركب
وتركيبه في هذه الدار إن تفت ... فليس له بعد المنية مطلب
فيا عجبا من معرض عن حياته ... وعن حظه العالي ويلهو ويلعب
ولو علم المحروم أي بضاعة ... أضاع لأمسى قلبه يتلهب
فإن كان لا يدري فتلك مصيبة ... وإن كان يدري فالمصيبة أصعب
بلى سوف يدري حين ينكشف الغطا ... ويصبح مسلوبا ينوح ويندب
ويعجب ممن باع شيئا بدون ما ... يساوي بلا علم وأمرك أعجب
لأنك قد بعت الحياة وطيبها ... بلذة حلم عن قليل سيذهب
فهلا عكست الأمر إن كنت حازما ... ولكن أضعت الحزم والحكم يغلب
تصد وتنأى عن حبيبك دائما ... فأين عن الأحباب ويحك تذهب

ستعلم يوم الحشر أي تجارة ... أضعت إذا تلك الموازين تنصب
قالوا فهكذا هذه الآيات التي في سورة الملائكة ذكر فيها الأقسام الثلاثة الظالم لنفسه وهو من أصحاب الشمال وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين وذكر السابقين وهم المقربون قالوا وليس في الآية ما يدل على اختصاص الكتاب بالقرآن والمصطفين بهذه الأمة بل الكتاب اسم جنس للكتب التي أنزلها على رسله فإنه أورثها المصطفى من عباده من كل أمة والأنبياء هم الذين أورثوه أولا ثم أورثوه المصطفين من أممهم بعدهم قال تعالى ولقد اتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب فأخبر أنه إنما يكون هدى وذكرى لمن له لب عقل به الكتاب وعمل بما فيه والعامل بما فيه هو الذي أورثه الله علمه وتأمل قوله تعالى وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب كيف حذف الفاعل هنا وبنى الفعل للمفعول لما كان في معرض الذم لهم ونفى العلم عنهم ولما كان في سياق ذكر نعمه وآلائه ومنته عليهم قال وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ونظير هذه الآية ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ومن ذلك قوله فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه وأنه لما كان الكلام في سياق ذمهم على اتباعهم شهواتهم وإيثارهم العرض الفاني على حظهم من الآخرة وتماديهم في ذلك لم ينسب التوريث إليه بل نسبه إلى المحل فقال أورثوا الكتاب

ولم يقل أورثناهم الكتاب وقد ذكرت نظير هذا في قوله آتيناهم الكتاب أنه للمدح وأورثوا الكتاب إما في سياق الذم وإما منقسم في كتاب التحفة المكية والمقصود أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباد أولا وآخرا قالوا وقوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه لا يرجع إلى المصطفين بل إما أن يكون الكلام قد تم عند قوله من عبادنا ثم استأنف جملة أخرى وذكر فيها أقسام العباد وأنهم منهم ظالم ومنهم مقتصد ومنهم سابق ويكون الكلام جملتين مستقلتين بين في إحداهما أنه أورث كتابه من اصطفاه من عباده وبين في الأخرى أن من عباده ظالما ومقتصدا وسابقا وإما أن يكون المعنى تقسيم المرسل إليهم بالنسبة إلى قبول الكتاب وأن منهم من لم يقبله وهو الظالم لنفسه ومنهم من قبله مقتصدا فيه ومنهم من قبله سابقا بالخيرات بإذن الله قالوا والذي يدل على هذا الوجه أنه سبحانه ذكر إرساله في كل أمة نذيرا ممن تقدم هذه الأمة فقال وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ثم ذكر أن رسلهم جاءتهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير الآيات الدالة على صدقهم وصحة رسالاتهم والزبر الكتاب واحدها زبور بمعنى مزبور أي مكتوب الكتاب المنير من باب عطف الخاص على العام لتميزه علن المسمى العام بفضله وشرفه امتاز بها واختص بها عن غيره وهو كعطف جبريل وميكال على الملائكة وكعطف أولي العزم على النبيين من قوله وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم والكتاب المنير ههنا

التوراة والإنجيل ثم ذكر إهلاك المكذبين لكتابه ورسله فقال ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير ثم ذكر التالين لكتابه وهم المتبعون له العالمون بشرائعه فقال إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور ثم ذكر الكتاب الذي يخص به خاتم أنبيائه ورسله محمدا فقال والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ثم ذكر من أورثهم الكتاب بعد أولئك وأنه اصطفاهم لتوريث كتابه إذ رده المكذبون ولم يقبلوا توريثه
قالوا وأما قولكم إن الاصطفاء افتعال من الصفوة وهي الخيار وهي إنما تكون في السعداء فهذا بعينه حجة لنا في أن الظلم لنفسه ليس ممن اصطفاه الله من عباده وقد تقدم تقريره قالوا وأما الآثار التي رويتموها عن النبي في ذلك فكلها ضعيفة الأسانيد ومنقطعة لا تثبت كيف وهي معارضة بآثار مثلها أو أقوى منها قال ابن مردويه في تفسيره حدثنا الحسن بن عبدالله حدثنا صالح بن أحمد حدثنا أحمد بن محمد بن المعلى الأدمي حدثنا حفص بن عمار حدثنا مبارك بن فضالة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي في قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه قال الكافر قالوا وأما النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يدخلون

الجنة فصحيح لا ننازعكم فيها غير أنها مطلقة ولها شروط وموانع كما أن النصوص الدالة على عذاب أهل الكبائر صحيحة متواترة ولها شروط وموانع يتوقف لحوق الوعيد عليها فكذلك نصوص الوعد يتوقف مقتضاها على شروطها وانتفاء موانعها قالوا وأما قولكم إن ظلم النفس إنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي دون الكفر فليس بصحيح فقد ذكر القرآن ما ييدل على أن ظلم النفس يكون بالكفر والشرك ولو لم يكن في هذا إلا قول موسى يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل وقوله عز و جل وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ونظائره كثيرة
قالت الطائفة الأولى لو تدبرتم القرآن حق تدبره وأعطيتم الآيات حقها من الفهم وراعيتم وجوهه الدالة وسياق الكلام لعلمتم أن الصواب معنا وأن هذا التقسيم الذي دلت عليه أخص من التقسيم المذكور في سورة الواقعة والإنسان والمطففين فإن ذلك تقسيم للناس إلى شقي وسعيد وتقسيم السعداء إلى أبرار ومقربين وتلك القسمة خالية عن ذكر العاصي الظالم لنفسه وأما هذه الآيات ففيها تقسيم الأمة إلى محسن ومسيء فالمسيء هو الظالم لنفسه والمحسن نوعان مقتصد وسابق بالخيرات فإن الوجود شامل لهذا القسم بل هو أغلب أقسام الأمة فكيف يخلو القرآن عن ذكره وبيان حكمه ثم لما استوفى أقسام الأمة ذكر الخارجين عنهم وهم الذين كفروا فعمت الآية أقسام الخلق كلهم وعلى ما ذهبتم إليه تكون الآية قد أهملت ذكر القسم الأغلب الأكثر وكررت ذكر حكم الكافر

أولا وآخرا ولا ريب أن ما ذكرناه أولى لبيان هذا القسم وعموم الفائدة وأيضا فإن قوله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا صريح في أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده وقوله عز و جل فمنهم ظالم لنفسه إما أن يرجع إلى الذين اصطفاهم وإما أن يرجع غلى العباد وجوعه إلى الذين اصطفاهم لوجهين أحدهما أن قوله تعالى ومنهم مقتصد ومنهم سابق إنما يرجع إلى المصطفين لا إلى العباد فكذلك قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ولا يقال بل الضمائر كلها تعود على العباد لأن سياق الآية والإتيان بالفاء والتقسيم المذكور كله يدل على أن المراد بيان أقسام الوارثين للكتاب لا بيان أقسام العباد إذ لو أراد ذلك لأتى بلفظ يزيل الوهم ولا يلتبس به المراد بغيره وكأن وجه الكلام على هذا أن يقال ومن عبادنا ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا منهم وهذا معنى الكلام عندكم ولا ريب أن سياق الآية لا يدل عليه إنما يدل على أنه أورث الكتاب طائفةمن عباده وأن تلك الطائفة ثلاث أقسام هذا وجه الكلام الذي يدل عليه ظاهره الثاني أنك إذا قلت أعطيت مالي البالغين من أولادي فمنهم تاجر ومنهم خازن ومنهم مبذر ومسرف هل يفهم من هذا أحد قط أن هذا التقسيم لجملة أولاده بل لا يفهم منه إلا أن أولاده كانوا في أخذهم المال أقساما ثلاثة ولهذا أتى فيها بالفاء الدالة على تفصيل ما أجمله أولا كما إذا قلت خذ هذا المال فأعط فلانا كذا وأعط فلانا كذا ونظائره متعددة ولا وجه للإتيان بالفاء ههنا إلا تفصيل المذكور أولا لا تفصيل المسكوت عنه والآية قد سكتت عن تفصيل العباد الذين اصطفى منهم من أورثه الكتاب فالتفصيل للمذكور ليس إلا فتأمله فإنه واضح قالوا وأما قولكم إن الله لا يصطفي من عباده ظالما لنفسه لأن الاصطفاء هو الاختيار من الشيء صفوته وخياره إلى آخر ما ذكرتم فجوابه أن كون العبد

مصطفى ووليا لله ومحبوبا لله ونحو ذلك من الأسماء الدالة على شرف منزلة العبد وتقريب الله له لا ينافي ظلم العبد نفسه أحيانا بالذنوب والمعاصي بل أبلغ من ذلك أن صدقيته لا تنافي ظلمه لنفسه ولهذا قال صديق الأمة وخيارها للنبي علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم وقد قال تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم وأخبر سبحانه عن صفات المتقين وأنهم يقع منه ظلم النفس والفاحشة لكن لا يصرون على ذلك وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون فهؤلاء الصديقون المتقون قد أخبر سبحانه أن لهم أعمالا سيئة يكفرها ولا ريب أنها ظلم للنفس وقال موسى قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم وقال آدم عليه السلام ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا

وترحمنا لنكونن من الخاسرين وقال يونس عليه السلام لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وقال تعالى إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإن غفور رحيم وإذا كان ظلم النفس لا ينافي الصديقية والولاية ولا يخرج العبد عن كونه من المتقين بل يجتمع فيه الأمران يكون وليا لله صديقا متقيا وهو مسيء ظالم لنفسه علم أن ظلمه لنفسه لا يخرجه عن كونه من الذين اصطفاهم الله من عباده وأورثهم كتابه إذ هو مصطفى من جهة كونه من ورثة الكتاب علما وعملا ظالم لنفسه من جهة تفريطه في بعض ما أمر به وتعديه بعض ما نهي عنه كما يكون الرجل وليا لله محبوبا له من جهة ومبغبوضا له من جهة أخرى وهذا عبد الله لخمار كان يكثر شرب الخمر والله يبغضه من هذه الجهة ويحب الله ورسوله ويحبه الله ويواليه من هذه الجهة ولهذا نهى النبي عن لعنته وقال إنه يحب الله ورسوله ونكتة المسألة أن الاصطفاء والولاية والصديقية وكون الرجل من الأبرار ومن المتقين ونحو ذلك كلها مراتب تقبل التجزيء والانقسام والكمال ولانقصان كما هو ثابت باتفاق المسلمين في أصل الإيمان وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفى من وجه ظالما لنفسه من وجه آخر وظلم النفس نوعان نوع لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية والصديقية والاصطفاء وهو ظلمها بالشرك والكفر ونوع يبقى معه حظه من الإيمان والاصطفاء والولاية وهو ظلمها بالمعاصي وهو درجات متفاوتة في القدر والوصف فهذا التفصيل يكشف قناع المسألة

ويزيل أشكالها بحمد الله قالوا وأما قولكم إن قوله تعالى جنات عدن مرفوع لأنه بدل من قوله ذلك هو الفضل الكبير وهو مختص بالسابقين وذكر حليتهم فيها من أساور من ذهب يدل على ذلك إلخ فجوابه من وجهين أحدهما أن هذا بعينه وارد عليكم فإن المقتصد من أهل الجنات ومعلوم أن جنات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جناته فما كان جوابكم عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه فإن التفاوت حاصل بين جنات الأصناف الثلاثة ويختص كل صنف بما يليق بهم ويقتضيه مقامهم وعلمهم الجواب الثاني أنه سبحانه ذكر جزاء السابقين بالخيرات هنا مشوقا لعباده إليه منبها لهم على مقداره وشرفه وسكت عن جزاء الظالمين لأنفسهم والمقتصدين ليحذر الظالمون ويجد المقتصدون وذكر في سورة الإنسان جزاء الأبرار منبها على ما هو أعلى وأجل منه وهو جزاء المقربين السابقين ليدل على أن هذا إذا كان جزاء للأبرار المقتصدين فما الظن بجزاء المقربين السابقين فقال إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا إلى قوله ويطاف عليهم بأنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة إلى قوله عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا فذكر هنا الأساور من الفضة والأكواب من الفضة في جزاء الأبرار وذكر في سورة الملائكة الأساور من الذهب في جزاء السابقين بالخيرات فعلم جزاء المقتصدين من سورة الإنسان وعلم جزاء السابقين من سورة الملائكة فانتظمت السورتان جزاء المقربين على اتم الوجوه والله أعلم بأسرار كلامه وحكمه قالوا وهذا هو الجواب عن قولكم إن الضمير يختص به أقرب مذكور إليه قالوا وأما قولكم إن الظالم لنفسه

إنما هو الكافر فقد تقدم جوابه وذكر ما يبطله قالوا وأما قولكم إن هذه الآيات نظير آيات الواقعة وسورة الإنسان وسورة المطففين في تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام أصحاب الشمال وأصحاب اليمين والمقربون فلا ريب أن هذه الآية وافية بالأقسام الثلاثة مع مزيد تقسيم آخر وهو تقسيم أصحاب اليمين إلى ظالم لنفسه ومقتصد فهي مشتملة على تلك الأقسام وزيادة
قالوا وأما قولكم إن الآثار الدالة على أن الأصناف الثلاثة هم السعداء أهل الجنة ضعيفة لا تقوم بها حجة فجوابه إنها قد بلغت في الكثرة إلى حد يشد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ونحن نسوق منها آثارا غير ما ذكرناه يعلم به كثرتها وتعدد طرقها فروى ابن مردويه في تفسيره من حديث سفيان عن الأعمش عن رجل عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق لي جليسا صالحا فقال أبو الدرداء إن كنت صادقا لأنا أسعد بذلك منك سمعت رسول الله قرأ هذه الآية ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات قال أما السابق بالخيرات فيدخله الجنة بغير حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم والحزن ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الأية الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور وقد ذكرنا فيما تقدم حديث أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن أسامة بن زيد في قوله تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد قال

رسول الله كلهم من هذه الأمة وروى ابن مردويه أيضا من حديث الفضل بن عميرة القيسي عن ميمون بن سياه عن أبي عثمان النهدي قال سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر سمعت رسول الله يقول سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له وقرأ عمر فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات وروى أيضا من حديث أبي داود عن شعبة عن الوليد بن العيزار قال سمعت رجلا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد أن النبي قال في هذه الآية ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا قال كلهم في الجنة أو قال كلهم بمنزلة واحدة قال شعبة أحدهما ورواه داود بن إبراهيم عن شعبة به وقالوا دخلوا الجنة كلهم بمنزلة واحدة فهذا حديث صحيح إلى شعبة وإذا كان شعبة في حديث لم يطرح بل شد يديك به ورواه يحيى بن سعيد عن الوليد بن العيزار فذكره بمثله وروى محمد بن سعد عن أبيه عن عمه حدثنا أبي عن أبيه عن ابن عباس

في قوله عز و جل ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية قال جعل الله أهل الإيمان على ثلاث منازل كقوله واصحاب الشمال ما أصحاب الشمال وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين والسابقون السابقون أولئك المقربون فهم على هذا المثال قلت يريد ابن عباس أن الله قسم أصحاب اليمين إلى ثلاث منازل كما قسم الخلق في الواقعة إلى ثلاث منازل فإن أصحاب الشمال المذكورين في الواقعة هم الكفار المنكرون للبعث فكيف تكون هذه منزلة من منازل أهل الإيمان ويجوز أن يريد أن الظالمين لأنفسهم المستحقين للعذاب هم من أهل الشمال ولكن إيمانهم يجعلهم آخرا من أهل اليمين وروى من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية فقال هم أمة محمد ورثهم الله كل كتاب أنزله فظالمهم يغفر له ومقتصدهم يحاسب

حسابا يسيرا وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب وروي من حديث عثمان بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن عبدالرحمن بن أبي ليلى حدثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى حدثنا أبي عن الحكم بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب أو عن رجل عن البراء بن عازب قال قال رسول الله فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله قال كلهم ناج وهي هذه الأمة ورواه الفريابي حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن رجل حدثه عن البراء قال قال رسول الله في هذه الآية ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية قال كل ناج وقال آدم ابن أبي إياس حدثنا أبو فضالة عن الأزهري عبدالله الخزار حدثنا من سمع عثمان بن عفان يقول ألا إن سابقنا أهل جهادنا ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا ألا وإن ظالمنا أهل بدونا وقد تقدم حديث عائشة وأبي الدرداء وحفيده قالوا فهذه الآثار يشد بعضها بعضا وأنها قد تعددت طرقها واختلفت مخارجها وسياق الآية يشهد لها بالصحة فلا نعدل عنها

والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إياها فلنرجع إليه فنقول أما الأشقياء فقطعوا تلك المراحل سائرين إلى دار الشقاء متزودين غضب الرب سبحانه ومعاداة كتبه ورسله وما بعثوا به ومعاداة أوليائه والصد عن سبيله ومحاربة من يدعو إلى دينه ومقاتلة الذين يأمرون بالقسط من الناس وإقامة دعوة غير دعوة الله التي بعث بها رسله لتكون الدعوة له وحده فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في ضد ما يحبه الله ويرضاه وأما السائرون إليه فظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثار شهواته ولذاته على مراضي الرب سبحانه وأوامره مع إيمانه بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواه يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على الرجوع إلى الله فهذا حال المسلم وأما من زين له سوء عمله فرآه حسنا وهو غير معترف ولا مقر ولا عازم على الرجوع إلى الله والإنابة إليه أصلا فهذا لا يكاد إسلامه أن يكون صحيحا أبدا ولا يكون هذا إلا منسلخ القلب من الإيمان ونعوذ بالله من الخذلان
وأما الأبرار المقتصدون فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاةكما أمره الله فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار إلى حين تطلع الشمس فيركع الضحى ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد فأدي فريضته كما أمر مكملا لها بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرب فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور وقلة التكالب

والحرص على الدنيا وعاجلها قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر وحببت إليه لقاء الله ونفرته من كل قاطع يقطعه عن الله فهو مغموم مهموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة هذا وهم في ذلك كله مراعون لحفظ السنن لا يخلون منها شيء ما أمكنهم فيقبصدون من الوضور أكمله ومن الوقت أوله ومن الصفوف أولها عن يمين الإمام أو خلف ظهره ويأتون بعد الفريضة بألأذكار المشروعة كالاستغفار ثلاثا وقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام وقول
لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد لا إله إلا الله ولا نعبد إلاإياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون
ثم يسبحون ويحمدون ويكبرون تسعا وتسعين ويختمون المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير

ومن أراد المزيد قرأ آية الكرسي والمعوذتين عقيب كل صلاة فإن فيها أحاديث رواها النسائي وغيره ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه هذا دأبهم في كل فريضة
فإذا كان قبل غروب الشمس توفروا على أذكار المساء الواردة في السنة نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار لا يخلون بها أبدا
فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده
فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة وهي كثيرة تبلغ نحوا من أربعين فليأتون منها بما علموه وما يقدرون عليه من قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثا ثم يمسحون بها رؤوسهم ووجوههم

وأجسادهم ثلاثا ويقرأون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ويسبحون ثلاثا وثلاثين ويحمدون ثلاثا وثلاثين ويكبرون أربعا وثلاثين ثم

يقول أحدهم اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليه لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبقيك الذي أرسلت
وإن شاء قال باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين
وإن شاء قال اللهم رب السموات السبع ورب العرض العظيم ربي ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر
وبالجملة فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم هو يذكر الله فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربه من الله

فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد من عيادة المرضى وتشييع الجنائز وإجابة الدعوة والمعاونة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال وزيارتهم وتفقدهم وقائم بحقوق أهله وعياله فهو متنقل في منازل العبودية كيف نقله فيها الأمر فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره فهذا وظيفته دائما
وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولا من وصف حالهم وعدم الاتصاف به بل ما شممنا له رائحة ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة منها أن لا يزال المتخلف المسكين مزريا على نفسه ذاما لها ومنها أن لا يزال منكسر القلب بين يدي ربه تعالى ذليلا له حقيرا يشهد منازل السابقين وهو في زمرة المنقطعين ويشهد بضائع التجار وهو في رفقة المحرمين ومنها أنه عساه أن تنهض همته يوما إلى التشبث والتعلق بساقة القوم ولو من بعيد ومنها أنه لعله أن يصدق في الرغبة واللجاء إلى من بيده الخير كله أن يلحقه بالقوم ويهيئه لأعمالهم فيصادف ساعة إجابة لا يسأل الله فيها شيئا إلا أعطاه ومنها أن هذا العلم هو من أشرف علوم العباد وليس بعد علم التوحيد أشرف منه وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم وتشتاق إليه وتحبه وتأنس بأقله فليبشر بالخير فقد أهل له فليقل لنفسه يا نفس فقد حصل لك شطر السعادة فاحرصي على الشطر الآخر فإن السعادة في العلم بهذا الشأن والعمل به فقد قطعت نصف المسافة فهلا تقطعين باقيها فتفوزين فوزا عظيما ومنها أن العلم بكل حال خير من الجهل فإذا كان اثنان أحدهما

عالم بهذا الشأن غير موصوف به ولا قائم به وآخر جاهل به غير متصف به فهو خلو من الأمرين فلا ريب أن العالم به خير من الجاهل وإن كان العالم المتصف به خيرا منهما فينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه وينزل في مرتبته ومنها أنه إذا كان العلم بهذا الشأن همه ومطلوبه فلا بد أن ينال منه بحسب استعداده ولو لحظة ولو بارقة ولو أنه يحدث نفسه بالنهضة إليه ومنها أنه لعله يجري منه على لسانه ما ينتفع به غيره بقصده أو بغير قصده والله لا يضيع مثقال ذرة فعسى أن يرحم بذلك العامل وبالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر فلا ينبغي أن تصغي إلى من يثبطك عنه وتقول إنه لا ينفع بل احذره واستعن الله ولا تعجز ولكن لا تغتر وفرق بين العلم والحال وإياك أن تظن أن بمجرد علم هذا الشأن قد صرت من أهله هيهات ما أظهر الفرق بين العلم بوجوه الغنى وهو فقير وبين الغني بالفعل وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم وبين الصحيح بالفعل فاسمع الآن وصف القوم وأحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخرهم الجليل فإن وجدت من نفسك حركة وهمة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل فالطريق واضح والباب مفتوح
إذا أعجبتك خصال امرىء ... فكنه تكن مثل ما يعجبك
فليس على الجود والمكرما ... ت إذا جئتها حاجب يحجبك
فنبأ القوم عجيب وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فليها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب قد أنساهم حبه ذكر غيره وأوحشهم أنسهم به ممن سواه قد فنا بحبه عن حب من سواه وبذكره عن ذكر من سواه وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل

والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه واجتمع همه عليه متذكرا صفاته العلى وأسماءه الحسنى ومشاهدا له في اسمائه وصفاته قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه وأسجده بين يديه خاضعا خاشعا ذليلا منكسرا من كل جهة من جهاته
فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء وقيل لبعض العارفين أيسجد القلب بين يدي ربه قال أي والله بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة فشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان وخرق حجب الطبيعة ولم يقف عند رسم ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه في داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأنه وبهاء كماله وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده وتصعد إليه شؤون العباد وتعرض عليه حوائجهم وأعمالهم فيأمر فيها بما يشاء فينزل الأمر من عنده نافذا فيشاهد الملك الحق قيوما بنفسه مقيما لكل ما سواه غنيا عن كل من سواه وكل من سواه فقير إليه يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويفك عانيا وينصر ضعيفا ويجبر كسيرا ويغني فقيرا ويميت ويحيي ويسعد ويشقي ويضل ويهدي وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين ويعز أقواما ويذل آخرين ويرفع أقواما ويضع آخرين ويشهده كما أخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم في خبره حيث يقول في الحديث الصحيح يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإنه لم يغض ما في يمينه وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع فيشاهده

كذلك يقسم الأرزاق ويجزل العطايا ويمن بفضله على من يشاء من عباده بيمينه وباليد الأخرى الميزان يخفض به من يشاء ويرفع به من يشاء عدلا منه وحكمة لا إله إلا هو العزيز الحكيم فيشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن ليس له بواب فيستأذن ولا حاجب فيدخل عليه ولا وزير فيؤتى ولا ظهير فيستعان به ولا ولي من دونه فيشفع به إليه ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده ولا معين له فيعاونه على قضائها أحاط سبحانه بها علما ووسعها قدرة ورحمة فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جودا وكرما ولا يشغله منها شأن عن شأن ولا تغلطه كثرة المسائل ولا يتبرم بإلحاح الملحين لو اجتمع أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم وقاموا في صعيد واحد ثم سألوه فأعطى كلا منهم مسألته ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا ذلك بأنه الغني الجواد الماجد فعطاؤه كلام وعذابه من كلام إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ويشهده كما أخبر عنه أيضا الصادق المصدوق حيث يقول إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وبالجملة فيشهده في كلامه فقد تجلى سبحانه وتعالى لعباده في كلامه وتراءى لهم فيه وتعرف إليهم فيه فبعدا وتبا للجاحدين

والظالمين أفي الله شك فاطر السموات والأرض9 لا إله إلا هو الرحمن الرحيم فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهدا لقلبه أنسته ذكر غيره وشغلته عن حب من سواه وحديث دواعي قلبه إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فيه يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله ومن غلظ حجابه وكثف طبعه وصلب عوده فهو عن فهم هذا بمعزل بل لعله أن يفهم منه ما لا يليق به تعالى من حلول أو اتحاد أو يفهم منه غير المراد منه فيحرف معناه ولفظه ومن لم يجعل الله له نوارا فماله من نور وقد ذكرت معنى الحديث والرد على من حرفه وغلط فيه في كتاب التحفة المكية وبالجملة فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشا للمثل الأعلى أي عرشا لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته وجلاله وكبريائه وناهيك بقلب هذا شأنه فيا له من قلب من ربه ما أدناه ومن قربه ما أحظاه فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه أو يطمئن بغيره فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان وسجدت تحت العرش وأبدانهم في فرشهم كما قال أبو الدرداء إذا نام العبد المؤمن عرج بروحه حتى تسجد تحت العرش فإن كان طاهرا أذن لها في السجود وإن كان جنبا لم يؤذن لها بالسجود

وهذا والله أعلم هو السر الذي لأجله أمر النبي الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ وهو إما واجب على أحد القولين أو مؤكد الاستحباب على القول الآخر فإن الوضوء يخفف حدث الجنابة ويجعله طاهرا من بعض الوجوه ولهذا روى الإمام أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما عن أصحاب رسول الله إنهم إذا كان أحدهم جنبا ثم اراد أن يجلس في المسجد توضى ثم جلس فيه وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره مع أن المساجد لا تحل لجنب على أن وضوءه رفع حكم الجنابة المطلقة الكاملة التي تمنع الجنب من الجلوس في بيت الله وتمنع الروح من السجود بين يدي الله سبحانه فتأمل هذه المسألة وفقهها واعرف مقادر فقه الصحابة وعمق علومهم فهل ترى أحدا من المتأخرين وصل إلى مبلغ هذا الفقه الذي خص الله به خيار عباده وهم أصحاب نبيه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذوا الفضل العظيم فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إلى الله بهمه وحبه وأشواقه مشتاقا إليه طالبا له محتاجا إليه عاكفا عليه فحاله كحال المحب الذي غاب عن محبوبه الذي لا غنى له عنه ولا بد له منه وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النفس والطعام والشراب فإذا نام غاب عنه فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه وإلى الشوق الشديد والحب المقلق فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظه كما قال بعض المحبين لمحبوبه
وآخر شيء أنت في كل هجعة ... وأول شيء أنت عند هبوبي

فقد أفصح هذا المحب عن حقيقة المحبة وشروطها فإذا كان هذا في محبة مخلوق لمخلوق فما الظن في محبة المحبوب الأعلى فأف لقلب لا يصلح لهذا ولا يصدق به لقد صرف عنه خير الدنيا والآخرة فصل فإذا استيقظ أحدهم إلى قلبه هذا الشأن فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه والتوجه إليه واستعطافه والتملق بين يديه والاستعانة به أن لا يخلي بينه وبين نفسه وأن لا يكله إليها فيكله إلى ضعة وعجز وذنب وخطيئة بل يكلؤه كلاءة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فأول ما يبدأ به الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور متدبرا لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت وأعاده إلى حاله سويا سليما محفوظا مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات أو الأذى والتي هو غرض وهدف لسهامها كلها تقصده بالهلاك أو الأذى والتي من بعضها شياطين الإنس والجن فإنها تلتقي بروحه إذا نام فتصد إهلاكه وأذاه فلولا أن الله سبحانه يدفع عنه لما سلم هذا ويلقي الروح في تلك الغيبة من أنواع الأذى والمخاوف والمكاره والتفريعات ومحاربة الأعداء والتشويش والتخبيط بسبب ملابستها لتلك الأرواح فمن الناس من يشعر إذا استيقظ من الوحشة والخوف والفزع

والوجع الروحي الذي ربما غلب حتى سرى إلى البدن ومن الناس من تكون روحه أغلظ وأكثف وأقسى من أن تشعر بذلك فهي مثخنة بالجراح مزمنة بالأمراض ولكن لنومها لا تحس بذلك هذا وكم من مريد لإهلاك جسمه من الهوام وغيرها وقد حفظه منه فهي في أحجارها محبوسة عنه لو خليت وطبعها لأهلكته فمن ذا الذي كلأه وحرسه وقد غاب عنه حسه وعلمه وسمعه وبصره فلو جاءه البلاء من أي مكان جاء لم يشعر به ولهذا ذكر سبحانه عباده هذه النعمة وعدها عليهم من جملة نعمه فقال من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون فإذا تصور العبد ذلك فقال الحمد لله كان حمده أبلغ وأكمل من حمد الغافل عن ذلك ثم تفكر في أن الذي أعاده بعد هذه الإماته حيا سليما قادرا على أن يعيده بعد موتته الكبرى حيا كما كان ولهذا يقول بعدها وإليه النشور ثم يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكب ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم يدعو ويتضرع ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحب لما فيه ثم يصلي ما كتب الله صلاة محب ناصح لمحبوبه متذلل منكسر بين يديه لا صلاة مدل بها عليه يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره واستزاره وطرد غيره وأهله وحرم غيره فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته سروره في تلك الصلاة فهو يتمنى طول ليله ويهتم بطلوع

الفجر كما يتمنى المحب الفائز بوصل محبوبه ذلك فهو كما قيل
يود أن ظلام الليل دام له ... وزيد فيه سواد القلب والبصر
فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه العزيز الرحيم ويناجيه بكلامه معطيا لكل آية حظها من العبودية فتجذب قلبه وروحه إليه آيات المحبة والوداد والآيات التي فيها الأسماء والصفات والآيات التي تعرف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإحسانه إليهم وتطيب له السير آيات الرجاء والرحمة وسعة البر والمغفرة فتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيب له السير ويهونه وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره المائلين إلى سواه فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه فتأمل هذه الثلاثة وتفقه فيها والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله وبالجملة فيشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلى في كلامه ويعطي كل آية حظها من عبودية قلبه الخاصة الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها ثم شأن آخر لو فطن له العبد لعلم أنه كان قبل يلعب كما قيل
وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى ... إلى غاية ما بعدها لي مذهب
فلما تلاقينا وعاينت حسنها ... تيقنت أني إنما كنت ألعب
فوا أسفاه وواحسرتاه كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس فكانت حياته عجزا وموته كمدا ومعاده حسرة وأسفا اللهم فلك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك فصل فإذا صلى ما كتب الله جلس مطرقا بين يدي ربه هيبة له وإجلالا واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه

فإذا قضى من الاستغفار وطرا وكان عليه بعد ليل اضطجع على شقه الأيمن مجما نفسه مريحا لها مقويا على أداء وظيفة الفرض فيستقبله نشيطا بجده وهمته كأنه لم يزل طول ليلته لم يعمل شيئا فهو يريد أن يستدرك ما فاته في صلاة الفجر فيصلي السنة ويبتهل إلى الله بينها وبين الفريضة فإن لذلك الوقت شأنا يعرفه من عرفه ويكثر فيه من قول يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت فلهذا الذكر في هذا الموطن تأثير عجيب ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصد الصف الأول عن يمين الإمام أو خلف قفاه فإن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن فإن للقرب من الإمام تأثيرا في سر الصلاة ولهذا القرب تأثير في صلاة الفج خاصة يعرفه من عرف قوله تعالى وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا قيل يشهده الله عز و جل وملائكته وقيل يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار فيتفق نزول هؤلاء البدل عند صعود أولئك فيجتمعون في صلاة الفجر وذلك لأنها هي أول ديوان النهار وآخر ديوان الليل فيشهده ملائكة الليل والنهار واحتج لهذا القول بما في الصحيح من حيث الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر لقول أبي هريرة واقرؤوا إن شئتم وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا رواه البخاري في الصحيح قال أصحاب القول الأول وهذا لا ينافي قولنا وهو أن يكون الله سبحانه وملائكة الليل والنهار يشهدون قرآن الفجر وليس المراد الشهادة العامة فإن الله على كل شيء شهيد بل المراد شهادة خاصة وهي شهادة حضور ودنو متصل بدنو الرب ونزوله إلى سماء

الدنيا في الشطر الأخير من الليل وقد روى الليث بن سعد حدثني زيادة بن محمد عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد الأنصاري عن أبي الدرداء عن رسول الله قال إن الله عز و جل ينزل في ثلاث ساعات يبقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى الذي يم يره غيره فيمحو الله ما يشاء ويثبت ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن وهي داره التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر وهي مسكنه لا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاث وهم النبيون والصديقون والشهداء ثك يقول وطوبى لمن دخلك ثم ينزل في الساعة الثالثة إلى سماء الدنيا بروحه ملائكته فتنتفض فيقول قومي بعزتي ثم يطلع إلى عباده فيقول هل من مستغفر فأغفر له ألا من سائل يسألني فأعطيه ألا داع يدعوني فأجيبه حتى تكون صلاة الفجر ولذلك يقول الله عز و جل وقرءان الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا يشهده الله عز و جل وملائكته ملائكة الليل والنهار ففي هذا الحديث أن النزول يدوم إلى صلاة الفجر وعلى هذا

فيكون شهوده سبحانه لقرآن الفجر مع شهود ملائكة الليل والنهار له وهذه خاصة بصلاة الصبح ليست لغيرها من الصلاة وهذا لا ينافي دوام النزول في سائر الأحاديث إلى طلوع الفجر ولا سيما وهو معلق في بعضها على انفجار الصبح وهو اتساع ضوئه وفي لفظ حتى يضيء الفجر وهذا دليل لفظ حتى يسطع الفجر وذلك هو وقت قراءة الفجر وهذا دليل على استحباب تقديمها مع مواظبة النبي وخلفائه الراشدين على تقديمها في أول وقتها فكان النبي يقرأ فيها بالستين إلى المائة ويطيل ركوعها وسجودها وينصرف منها والنساء لا يعرفن من الغلس وهذا لا يكون إلا مع شدة التقديم في أول الوقت لتقع القراءة في وقت النزول فيحصل الشهود المخصوص مع أنه قد جاء في بعض الأحاديث مصرحا به دوام ذلك إلى الانصراف من صلاة الصبح رواه الدارقطني في كتاب نزول الرب كل ليلة إلى سماء الدنيا من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله قال ينزل الله عز و جل إلى سماء الدنيا لنصف الليل الآخر أو الثلث الآخر يقول من ذا الذي يدعوني فأستجيب له من ذا الذي يسألني فأعيه من ذا الذي يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر أو ينصرف القارىء من صلاة الصبح رواه عن محمد جماعة منهم

سليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر والدراوردي وحفص بن غياث ويزيد بن هارون وعبدالوهاب بن عطاء ومحمد بن جعفر والنضر بن شميل كلهم قال أو ينصرف القارىء من صلاةالفجر فإن كانت هذه اللفظة محفوظة عن النبي فهي صريحة في المعنى كاشفة للمراد وإن لم تكن محفوظة وكانت من شك الراوي هل قال هذا أو هذا فقد قدمنا أنه لا منافاة بين اللفظين وأن حديث الليث بن سعد عن محمد بن زيادة يدل على دوام النزول إلى وقت صلاة الفجر وأن تعليقه بالطلوع لكونه أول الوقت الذي يكون فيه الصعود كما رواه يونس بن أبي إسحق عن أبيه عن الأغر أبي مسلم قال شهدت على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنهما شهدا على النبي أنه قال إن الله عز و جل يمهل حتى إذا كان ثلث الليل هبط إلى هذه السماء ثم أمر بأبواب السماء ففتحت ثم قال هل من سائل فأعطيه هل من داع فأجيبه هل من مستغفر فأغفر له هل من مستغيث أغيثه هل من مضطر أكشف عنه فلا يزال ذلك مكانه حتى يطلع الفجر في كل ليلة من الدنيا ثم يصعد إلى السماء قال الدارقطني فزاد فيه يونس بن أبي إسحق زيادة حسنة والمقصود ذكر القرب من الإمام في صلاة الفجر وتقديمها في أول وقتها والله أعلم

فصل
فإذا فرغ من صلاة الصبح أقبل بكليته على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار التي شرعت أول النهار فيجعلها وردا له لا يخل بها أبدا ثم يزيد عليها ما شاء من الأذكار الفاضلة أو قراءة القرآن حتى تطلع الشمس فإذا طلعت فإن شاء ركع ركعتي الضحى وزاد ما شاء وإن شاء قام من غير ركوع ثم يذهب متضرعا إلى ربه سائلا له أن يكون ضامنا عليه متصرفا في مرضاته بقية يومه فلا ينقلب إلا في شيء يظهر له فيه مرضاة ربه وإن كان من الأفعال العادية الطبيعية قلبه عبادة بالنية وقصد الاستعانة به على مرضاة الرب وبالجملة فيقف عند أول الداعي إلى فعله فيفتش ويستخرج منه منفذا ومسلكا يسلك به إلى ربه فينقلب في حقه عبادة وقربة وشتان كم بين هذا وبين من إذا عرض له أمر من أوامر الرب لا بد له من فعله وفتش فيه على مراد نفسه وغرض لطبعه ففعل لأجل ذلك وجعل الأمر طريقا له منفذا لمقصده فسبحان من فاوت بين النفوس إلى هذا الحد والغاية فهذا عباداته عادات والأول عاداته عبادات فإذا جاء فرض الظهر بادر إليه مكملا له ناصحا فيه لمعبوده كنصح المحب الصادق المحبة

لمحبوبه الذي قد طلب منه أن يعمل له شيئا ما فهو لا يبقي مجهودا بل يبذل مقدوره كله في تحسينه وتزيينه وإصلاحه وإكماله ليقع موقعا من محبوبه فينال به رضاه عنه وقربه منه أفلا يستحي العبد من ربه ومولاه ومعبوده أن لا يكون في عمله هكذا وهو يرى المحبين في أشغال محبوبيهم من الخلق كيف يجتهدون على أحسن وجه وأكمله بل هو يجد من نفسه ذلك مع من يحبه من الخلق فلا أقل من أن يكون مع ربه بهذه المنزلة ومن أنصف نفسه وعرف أعماله استحى من الله أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه وهو يعلم من نفلسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه ولم يدع من حسنه شيئا إلا فعله
وبالجملة فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله فهو يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه فهو أبدا إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثا وقال تعالى وبالأسحار هم يستغفرون قال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون ربهم وقال تعالى ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم فأمر سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة وشرع للمتوضىء أن يقول بعد وضوئه اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فهذه توبة بعد الوضوء وتوبة بعد الحج وتوبة بعد الصلاة وتوبة بعد قيام الليل فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار كما تبين فهو لا يزال

مستغفرا تائبا وكلما كثرت طاعاته كثرت توبته واستغفاره فصل وجماع الأمر في ذلك إنما هو بتكميل عبودية الله في الظاهر والباطن فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله وكمال عبودية العبد موافقته لربه في محبته ما أحبه وبذل الجهد في فلعه وموافقته في كراهة ما كرهه وبذل الجهد في تركه وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال له شهود خاص فيها مطابق لما جاء به الرسول لا مخالف له فإن بحسب مخالفته له في ذلك يقع الانحراف ويكون مع ذلك قائما بأحكام العبودية الخاصة التي تقتضيها كل صفة بخصوصها وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم طريق سهل قريب موصل طريق آمن أكثر السالكين في غفلة عنه ولكن يستدعي رسوخا في العلم ومعرفة تامة به وإقداما على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله وليس عند أكثر الناس سوى رسوم تلقوها عن قوم معظمين عندهم ثم لإحسان ظنهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم ولم يتجاوزوها فصارت حجابا لهم وأي حجاب فمن فتح الله عليه بصيرة قلبه وإيمانه حتى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحي والفطرة والعقل فقد أوتي خيرا كثيرا ولا يخاف عليه إلا من ضعف همته فإذا انضاف إلى ذلك الفتح همة عالية فذاك السابق حقا واحد الناس بزمانه لا يلحق شأوه ولا يشق غباره فشتان ما بين من يتلقى أحواله ووارداته عن الأسماء والصفات وبين من يتلقاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم أو عن مجرد ذوقه ووجده إذا استحسن شيئا قال هذا هو الحق فالسير إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب وفتحه عجب صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تعب ولا مكدود ولا مشتت عن وطنه ولا مشرد عن سكنه وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر

السحاب وليس العجب من سائر في ليله ونهاره وهو في الثرى لم يبرح من مكانه وإنما العجب من ساكن لا يرى عليه أثر السفر وقد قطع المراحل والمفاوز فسائر قد ركبته نفسه فهو حاملها وسائر بها ملبوك يعاقبها وتعاقبه ويجرها وتهرب منه ويخطو بها خطوة إلى أمامه فتجذبه خطوتين إلى ورائه فهو معها في جهد وهي معه كذلك وسائر قد ركب نفسه وملك عنانها فهو يسوقها كيف شاء وأين شاء لا تلتوي عليه ولا تنجذب ولا تهرب منه بل هي معه كالأسير الضعيف في يد مالكه وآسره وكالدابة الريضة المنقادة في يد سائسها وراكبها فهي منقادة معه حيث قادها فإذا رام التقدم جمزت به وأسرعت فإذا أرسلها سارت به وجرت فلي الحلبة إلى الغاية ولا يردها شيء فتسير به وهو ساكن على ظهرها ليس كالذي نزل عنها فهو يجرها بلجامها ويشحطها ولا تنشحط فشتان ما بين المسافرين فتأمل هذا المثل فإنه مطابق لحال السائرين المذكورين والله يختص برمحمته من يشاء فصل ومن شأن القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبيره تعالى واختياره بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره ولا اختيارهم اختياره لتيقنهم أنه الملك القاهر القابض على نواصي الخلق المتولي تدبير أمر العالم كله وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة فلم يدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده ولو كان كذا وكذا ولا بعسى ولعل ولا بليت بل ربهم أجل وأعظم في قلوبهم من أن يعترضوا عليه أو يتسخطوا تدبيره أو يتمنوا سواه وهو أعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتهموه في تدبيره أو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله بل هو ناظر بعين قلبه إلى بارىء الأشياء وفاطرها

ناظر إلى إتقان صنعه مشاهد لحكمته فيه وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر وعوائدهم ومألوفاتهم قال بعض السلف لو قرض جسمي بالمقاريض أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله ليته لم يقضه وقال آخر أذنبت ذنبا أبكي عليه منذ ثلاثين سنة وكان قد اجتهد في العبادة قيل له وما هو قال قلت مرة لشيء كان ليته لم يكن وبعض العارفين يجعل عيب المخلوقات وتنقيصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها لأنها صنعه وأثر حكمته وهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه وأتقن كل شيء وهو أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين له في كل شيء حكمة بالغة وفي كل مصنوع صنع متقن والرجل إذا عاب صنعة الرب سبحانه بلا إذنه سرى ذلك إلى الصانع لأنه كذلك صنعها وعن حكمته أظهرها إذا كانت الصنعة مجبولة لم تصنع نفسها ولا صنع له في خلقها فالعارف لا يعيب إلا ما عابه الله ولا يذم إلا ما ذمه وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب مالم يعبه الله وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه فإنه يستحي من الله أن يكون في داره وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها فهو يرى نفسه بمنزلة رجل دخل إلى دار ملك من الملوك ورأى ما فيها من الآلات والبناء والترتيب فأقبل يعيب منها بعضها ويذمه ويقول لو كان كذا بدل كذا لكان خيرا ولو كان هذا في مكان هذا لكان أولى وشاهد الملك يولي ويعزل ويحرم ويعطي فجعل يقبول لو ولي هذا مكان فلان كان خيرا ولو عزل هذا المتولي لكان أولى ولو عوفي هذا ولو أغنى هذا فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض وإخراجه له من قربه وكذلك لو أضافه صاحب له فقدم إليه طعاما فمجعل يعيب صفته ويذمه أكان ذلك يهون على صاحب الطعام قالت عائشة وما عاب رسول الله طعاما قط إن اشتهى شيئا أكله وإلا تركه والمقبصود أن ما شأن القوم ترك

الاهتمام بالتدبير والاختيار بل همهم كله في إقامة حقه عليهم وأما التدبير العام والخاص فقد سلموه لولي الأمر كله ومالكه الفعال لما يريد ولعلك تقول من ذا الذي ينازع الله في تدبيره فلانظر إلى نفسك في عجزها وضعفها وجهلها كيف هي عرضت للمنازعة منازعة جاهل عاجز ضعيف لو قدر لظهرت منه العجائب فسبحان من أذله بعجزه وضعفه وجهله وأراه العبر في نفسه لو كان ذا بصر كيف هو عاجز القدرة جبار الإرادة عبد مربوب مدبر مملوك ليس له من الأمر شيء وهو مع ذلك ينازع الله ربوبيته وحكمته وتدبيره لا يرضى بما رضي الله به ولا يسكن عند مجاري أقداره بل هو عبد ضعيف مسكين يتعاطى الربوبية فقير مسكين في مجموع حالاته ويرى نفسه غنيا جاهل ظالم ويرى نفسه عارفا محسنا فما أجهله بنفسه وبربه وما أتركه لحقه وأشد إضاته لحظه ولو أحضر رشده لرأى ناصيته ونواصي الخلائق بيد الله سبحانه وتعالى يخفلضها ويرفعها كيف يشاء وقلوبهم بيده سبحانه وفي قبضته يقلبها كيف يشاء يزيغ منها من يشاء ويقيم من يشاء ولكان هذا غالبا على شهود قلبه فيغيب به عن مشيئاته وإرادته واختياره ولعرف أن التدبير والركون إلى حول العبد وقوته من الجهل بنفسه وبربه فينفي العلم بالله الجهل عن قلبه فتمحي منه الإرادات والمشيئات والتدبيرات ويفوضها إلى مالك القلوب والنواصي فيصير بذلك عبدا لربه تقلبه يد القدرة ويصير ابن وقته لا ينتظر وقتا آخر يدبر فيه نفسه لأن ذلك الوقت بيد موقته فيرى نفسه بمنزلة

الميت في قبره ينتظر ما يفعل به مستسلم لله منقطع المشيئة والاختيار هذا ما يجري على أحدهم من فعل الله وحكمه وقضائه الكوني فإذا جاء الأمر جاءت الإرادة والاختيار والجد والسعي واستفراغ الفكر وبذل الجهد فهو قوي حي فعال يشاهد عبودية مولاه في أمره فهو متحرك فيه بظاهره وباطنه قد أخرج مقدوره من القوة إلى الفعل وهو مع ذلك مستعين بربه قائم بحوله وقوته ملاحظ لضعفه وعجزه قد تحقق بمعنى إياك نعبد وإياك نستعين فهو ناظر بقلبه إلى مولاه الذي حركه مستعين به في أن يوفقه لما يحبه ويرضاه عينه في كل لحظة شاخصة إلى حقه المتوجه عليه لربه ليؤديه في وقته على أكمل أحواله فإذا وردت عليهم أقداره التي تصيبهم بغير اختيارهم قابلوها بمقتضاها من العبودية وهم فيها على مراتب ثلاثة إحداها الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه وهذا نشأ من مشاهدتهم للطفه فيها وبره وإحسانه العاجل والآجل ومن مشاهدتهم حكمته فيها ونصبها سببا لمصالحهم وشوقهم بها إلى حبه ورضوانه ولهم من ذلك مشاهد أخر لا تسعها العبارة وهي فتح من الله على العبد لا يبلغه علمه ولا عمله المرتبة الثانية شكره عليها كشكره علىالنعم وهذا فوق الرضا عنه بها ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة فهذه مرتبتان لأهل هذا الشأن والثالثة للمقتصدين وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته من التسخط والتشكي واستبطاء الفرج واليأس من الروح والجزع الذي لا يفيد إلا فوات الأجر وتضاعف المصيبة فالصبر أول منازل الإيمان ودرجاته وأوسطها وآخرها فإن صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبر في مرتبته بل الصبر معه وبه يتحقق الرضا والشكر لا تصور ولا تحقق لهما دونه وهكذا كل مقام مع الذي فوقه كالتوكل مع الرضا وكالخوف والرجاء مع الحب فإن المقام لا ينعدم بالترقي إلى الآخر ولو

عدم لخلفه ضده وذلك رجوع إلى نقص الطبيعة وصفات النفس المذمومة وإنما يندرج حكمه في المقام الذي أعلى منه فيصير الحكم له كما ينيدرج مقام التوكل في مقام المحبة والرضا وليس هذا كمنازل سير الأبدان الذي إذا قطع منها منزلا خلفه وراء ظهره واستقبل المنزل الآخر معرضا عن الأول بارتحاله بل هذا كمنزلة التاجر الذي كلما باع شيئا من ماله وربح يه ثم باع الثاني وربح فقد ربح بهما معا وهكذا أبدا يكون ربحه في كل صفقة متضاعفا بانضمامه إلى ما قبله فالربح الأول اندرج في الثاني ولم يعدم فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه يزل عنك ما يعرض من الغلط في علل المقامات وتعلم أن دعوى المدعي أنها من منازل العوام ودعوى أنها معلولة غلط من وجهين أحدهما أن أعلى المقامات مقرون بأدناها مصاحب له كما تقدم متضمن له تضمن الكل لجزئه أوم مستلزم له استلزام الملزوم للازمه لا ينفك عنه أبدا ولكن لاندراجه فيه وانطواء حكمه تحته يصير المشهد والحكم للعالي الوجه الثاني أن تلك المقامات والمنازل إنما هي منازل العوام وتعرض لها العلل بحسب متعلقاتها وغاياتها فإن كان متعلقها وغاياتها بريئا من شوائب العلل وهو أجل متعلق وأعظمه فلا علة فيها بحال وهي من منازل الخواص من جهة تعلقها بحظه ولنذكر لذلك أمثلة المثال الأول الإرادة فإن الله جعلها من منازل صفوة عباده وأمر رسوله أن يصبر نفلسه مع أهلها فقال واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وقال تعالى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى وقال حكاية عن أوليائه قولهم إنما نطعمكم لوجه الله وهي لام التعليل الداخلة على

الغايات المرادة وهي كثيرة في القرآن فقالت طائفة والإرادة حلية العوام وهي تجريد القصد وجزم النية والجد في الطلب وذلك غيره في طريق الخواص تفرق ورجوع إلى النفس فإن إرادة العبد عين حظه وهو رأس الدعوى وإنما الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد كقوله تعالى وإن يردك بخير فلا راد لفضله فيكون مراده ما يراد به واختياره ما اختيرله إذ لا إرادة للعبد مع سيده ولا نظر كما قال
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
ومن هذا قول أبي يزيد قيل لي ما تريد قلت أريد أن لا أريد لأني أنا المراد وأنت المريد فيقال ليس المراد من العوام في كلامهم العامة الجهال وإنما مرادهم بهذه اللفظة عموم السالكين دون أهل الخصوص الواصلين منازل الفناء وعين الجمع وإذا عرف هذا فالكلام على ما ذكر في الأرادة من وجوه
أحدها أن الإرادة هي مركب العبودية وأساس بنائها الذي لا تقوم إلا عليه فلا عبودية لمن لا إرادة له بل أكمل الخلق أكملهم عبودية ومحبة وأصحهم حالا وأقومهم معرفة وأتمهم إرادة فكيف يقال إنها حلية العوام أو من منازل العوام
الوجه الثاني أنه يلزم من هذا أن تكون المحبة من منازل العوام

وتكون معلولة أيضا لأنها إرادة تامة للمحبوب ووجود المحبة بلا إرادة كوجود الإنسانية من غير جيوانية وكوجود مقام الأحسان بدون الإيمان والسلام فإذا كانت الإرادة معلولة وهي من منازل العوام لزم أن تكون المحبة كذلك فإن قيل المحبة التي لا علة فيها هي تجرد المحب عن الإرادة وفناؤه بإرادة محبوبه عن إرادته قيل هذا هو حقيقة الإرادة أن يبقى مراده مراد محبوبه فلو لم يكن مريدا لمراد محبوبه لم يكن موافقا له في الإرادة والمحبة هي موافقى المحبوب في إرادته فعاد الأمر إلى ما أشرنا إليه أن المعلول من ذلك ما تعلق بحظ المريد دون محبوبه فإذا صارت إرادته موافقة لإرادة محبوبه لم تكن تلك الإرادة من منازل العوام ولا معلولة بل هذه أشرف منازل الخواص وغاية مطالبهم وليس وراءها إلا التجرد عن كل إرادة والفناء بشهوده عن إرادةما يريد وهذا هو الذي يشير إليه السالكون إلى منازل الفناء ويجعلونه غاية الغايات وهذا عند أهل الكمال نقص وتغيير في وجه المحبة وهضم لجانب العبودية وفناء بحظ المحب من مشاهدته جمال محبوبه وفنائه فيه عن حق المحبوب ومراده فهو الوقوف مع نفس الحظ والهروب عن حق المحبوب ومراده وهل مثل هذا إلا كمثل رجلين ادعيا محبة ملك فحضرا بين يديه فقال ما تريدان فقال أحدهما أريد أن لا أريد شيئا بل أفنى عن إرادتي وأكون أنا المراد وأنت تريد بي ما تشاء وقال الآخر أريد أن أنفق أنفاسي وذراتي في محابك ومرضاتك منفذا لأوامرك مشمرا في طاعتك أتوجه حيث توجهني وأفعل ما تأمرني هذا الذي أريده فقال الآخر وأنا أريد منك أن تفعل مثل هذا فإني سأبعثكما في أشغالي ومهماتي فأما أحدهما فقال لا حظ لي سوى اتباع مرضاتك والقيام بحقوقك وقال الآخر لا أريد إلا مشاهدتك والنظر إليك والفناء فيك فهل يكونان في نظره سواء وهل تستوي منزلتهما عنده ولو أمعنوا النظر لعلموا أن صاحب الفناء هو طالب حظ الواقف معه وأن الآخر وإن لم ينسلخ من الحظ ولكن حظه مراد المحبوب منه لا

مراده هو من المحبوب وبين الأمرين من الفرق كما بين الأرض والسماء فالعجب ممن يفضل صاحب الحظ الذي يريده من محبوبه على من صار حظه مراد محبوبه منه بل الفناء الكامل أن يفنى بإرادته عن إرادة من سواه وبحبه عن حب ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه ليس أن تفنى بحطك منه عن مراده منك وهذا موضع يشتبه علما وحالا وذوقا إلا على من فتح الله عليه بفرقان بين هذا وهذا
الوجه الثالث أن الإرادة إنما تكون ناقصة بحسب نقصان المراد فإذا كان مرادها أشرف المرادات فإرادته أشرف الإرادات ثم إذا كانت الوسيلة إليه أجل الوسائل وأنفعها وأكملها فإرادتها كذلك فلا تخرج إرادته عن إرادة أشرف الغايات وإرادة أقرب الوسائل إليه وأنفعها فأي علة في هذه الإرادة وأي شيء فوقها للخواص
الوجه الرابع أن نقصان الشيء يكون من وجهين أحدهما أن يوجب ضررا والثاني أن تكون له ثمرة نافعة لكن يشغل عما هو أكمل منه وكلاهما منتف عن الإرادة فكيف تكون ناقصة معلولة فإن قيل لما كان الوقوف معها رجوعا إلى النفس وتفرقا ووقوفا مع حظ المريد كانت ناقصة قيل هذا منشأ الغلط
وجوابه بالوجه الخامس وهو أن يقال قوله إن الإرادة تفرق فإن أردتم بالتفرق شهود المريد لإرادته ولمراده ولعبوديته ولمعبوده ولمحبته ولمحبوبه فلم قلتم إن هذا التفرق نقص وهل هذا إلا عين الكمال وهل تتم العبودية إلا بهذا فإن من شهد عبوديته وغاب بها عن معبوده كان محبوبا ومن شهد المعبود وغاب به عن شهود عبوديته وقيامه بما أمره به كان ناقص العبودية ضعيف الشهود وهل الكمال إلا شهود المعبو مع شهود عبادته فإنها عين حقه ومراده ومحبوبه من عبده فهل يكون شهود العبد

لحق محبوبه ومراده منه وأنه قائم به ممتثل له نقصا ويكون غيبته عن ذلك وإعراضه عنه وفناؤه عن شهوده كمالا وهل هذا إلا قلب للحقائق فغاية صاحب هذا الحال والمقام أن يكون معذورا بضيق قلبه عن شهود هذا إما لضعف المحل أو لغلبة الوارد وعجزه عن احتمال شيء آخر معه فأما أن يكون هذا هو الكمال المطلوب والآخر نقص فكلا وأين مقام من يشهد عبوديته ومنة الله عليه فيها وتوفيقه لها وجعهل محلا وآلة وهو ناظر مع ذلك إلى معبوده بقلبه شاهدا له فانيا عن شهود غيره في عبوديته من مقام من لا يتسع لهذا وهذا وتأمل حال أكمل الخلق وأفضلهم وأشدهم حبا لله كيف كان في عبادته جامعا بين الشهودين حتى كان لا يغيب عن أحوال المأمومين فضلا عن شهود عبادته وكان يراعي أحوالهم وهو في ذلك المقام بين يدي ربه سبحانه فالكلمة من أمته على منهاجه وطريقته في ذلك فالواجب التمييز بين المراتب وإعطاء كل ذي حق حقه فقد جعل الله لكل شيء قدرا وإن أردتم بالتفرق شتات القلب في شعاب الحظوظ وأودية الهوى فهذه الإرادة لا تستلزم شيئا من ذلك بل هي جمعية القلب على المحبوب وعلى محابه ومراداته ومثل هذا التفرق هو عين البقاء ومحض العبودية ونفس الكمال وما عداه فمحض حظ العبد لا حق محبوبه
الوجه السادس أن قوله إن الإرادة رجوع إلى النفس وإن إرادة العبد عين حظه كلام فيه إجمال وتفصيل فيقال ما تريدون بقولكم إن الإرادة رجوع إلى النفس أتريدون أنها رجوع عن إرادة الرب وإرادة محابة إلى إرادة النفس وحظوظها أم تريدون أنها رجوع إلى إرادة النفس لربها ولمرضاته فإن أردتم الأول علم أن هذه الإرادة معلولة ناقصة فاسدة ولكن ليست هذه الإرادة التي نتكلم فيها وإن أردتم المعنى الثاني فهو عين الكمال وإنما النقصان خلافه

الوجه السابع أن قولكم إن هذه الإرادة عين حظ العبد قلنا نعم هي أكبر حظ له وأجله وأعظمه وهل العبد حظ أشرف من أن يكون الله وحده إلهه ومعبوده ومحبوبه ومراده فهذا هو الحظ الأوفر والسعادة العظمى ولكن لم قلتم إن اشتغال العبد لهذا الحظ نقص في حقه وهل فوق هذا كمال فيطلبه العبد ثم يقال لو كان فوقه شيء أكمل منه لكان اشتغال العبد به وطلبه إياه اشتغالا بحظه أيضا فيكون ناقصا فأين الكمال فإن قلتم في تركه حظوظه كلها قيل لكم وتركه هذا الحظ أيضا هو من حظوظه فإنه يبقى معطلا فارغا من الإرادة أصلا بل لا بد له من إرادة ومراد وكل إرادة لكم رجوع إلى الحظ فأي اشتغال به وبإرادته كان وقوفا عن حظه فيالله العجب متى يكون عبدا محضا خالصا لربه
ويوضح هذا الوجه الثامن أن الحي لا ينفك عن الإرادة ما دام شاعرا بنفسه وإنما ينفك عنها إذا غاب عنه شعوره بعارض من العوارض فالإرادة من لوازم الحياة فدعوى أن الكمال في التجرد عنها دعوى باطلة مستحيلة طبعا وحسا بل الكمال في التجرد عن الإرادة التي تزاحم مراد المحبوب لا عن الإرادة التي توافق مراده
الوجه التاسع قوله الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد إلخ فيقال هذا على نوعين أحهما ما يراد بالعبد من المقدور الذي يجري عليه بغير اختياره كالفقر والغنى والصحة والمرض والحياة والموت وغير ذلك فهذا لا ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إرادته ووقوفه مع ما يراد به لا يكون له إرادة تزاحم إرادة الله منه كحال الثلاثة الذين قال أحدهم أنا أحب الموت للقاء الله وقال الآخر أحب البقاء لطاعته وعبادته فقال الثالث غلطتما ولكن أنا أحب من ذلك ما يحب فإن كان يحب إماتتي أحببت الموت وإن كان يحب حياتي أحببت الحياة

فأنا أحب ما يحبه من الحياة والموت فهذا أكل وأصح حالا فيما يراد بالعبد والنوع الثاني ما يراد من العبد من الأوامر والقربات فهذا ليس الكمال إلا في إرادته وإن فرقته فهو مجموع في تفرقته متفرق في جمعيته وهذا حال الكملة من الناس متفرق الإرادة في الأمر مجتمع على الأمر فهو مجموع عليه متفرق فيه ولا يكون فعل المرادات المختلفة بإرادة واحدة بالعين وإنما غايتها أن تكون هنا إرادتان إحداهما إرادة واحدة للمراد المحبوب والثانية إرادات متفرقة لحقه ومحابه وما أمر به فهي وإن تعددت وتكثرت فمرجعها إلى مراد واحد بإرادة كلية وكل فعل منها له إرادة جزئية محضة
الوجه العاشر أن قول أبي يزيد أريد أن لا أريد تناقض بين فإنه قد أراد عدم الإرادة فإذا قال أريد أن لا أريد يقال له فقد أردت وأحسن من هذا أن يكون الجواب أريد ما يريد لا ما أريد وإذا كان لا بد من إرادة ففرق بين الإرادتين إرادة سلب الإرادة وإرادة موافقة المحبوب في مراده والله أعلم
الوجه الحادي عشر أنه فسر الإرادة بتجريد القصد وجزم النية والجد في الطلب وهذا هو عين كمال العين وهو متضمن للصدق والإخلاص والقيام بالعبودية فأي نقص في تجريد القبصد وهو تخليصه من كل شائبة نفسانية أو طبيعية وتجريده لمراد المحبوب وحده والجد في طلبه وطلب مرضاته وجزم النية وهو أن لا يعتريها وقفة ولا تأخير وهذا الأمر هو غاية منازل الصديقين وصديقية العبد بحسب رسوخه في هذا المقام وكلما ازداد قربه وعلا مقامه قوي عزمه وتجرد صدقه فالصادق لا نهاية لطلبه ولا فتور لقصده بل قصده أتم وطلبه أكمل ونيته أحزم قال تعالى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين واليقين هنا الموت باتفاق علماء

الإسلام فجاءه إذ جاءه وإرادته وقصده ونيته في الذروة العليا ونهاية كمالها وتمامها فأين العلة في هذه الإرادة ولكن العلة والنقص في الإرادة التي يكون مصدرها النفس والهوى وغايتها نيل حظ المريد من محبوبه وإن كان المحبوب يريد ذلك لكن غيره أحب إليه منه وهو أن يكون مراده محض حق محبوبه وحصول مرضاته فانيا عن حظه هو من محبوبه بل قد صار حظه منه نفس حقه ومراده فهذه هي الإرادة والمحبة التي لا علة فيه ولا نقص نسأل الله تعالى أن يمن علينا ويحيينا ولو بنفس منها كما من بتعليمها ومعرفتها إنه جواد كريم
الوجه الثاني عشر أنه قال بعد هذا فصحة الإرادة بذل الوسع واستفراغ الطاقة مع ترك الاختيار والسكون إلى مجاري الأقدار فيكون كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء فأين هذا من قوله وذلك في طريق الخواص نقص وتفرق وهل يكون بذل الوسع واستفراغ الطاقة إلا مع تمام الإرادة وإنما الذي يفرض له النقص من الإرادة نوعان أحدهما إرادة مصدرها طلب الحظ والثاني اختياره فيما يفعل به بغير اختياره فعن هاتين الإرادتين ينبغي الفناء وفيهما يكون النقص فالكمال ترك الاختيار فيهما والسكون إلى مراد المحبوب وحقه في الأولى وإلى مجاري أقداره وحكمه في الثانية فيكون في الأولى حيا فعالا منازعا لقواطعه عن مراد محبوبه وفي الثانية كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء وبهذا التفصيل ينكشف سر هذه المسألة ويحصل التمييز بين محض العبودية وحظ النفس والله الموفق للصواب فصل المثال الثاني الزهد قال أبو العباس هو للعوام أيضا

لأنه حبس النفس عن الملذوذات وإمساكها عن فضول الشهوات ومخالفة دواعي الهوى وترك مالا يغني من الأشياء وهذا نقص في طريق الخاصة لأنه تعظيم للدنيا واحتباس عن انتقادها وتعذيب للظاهر بتركها مع تعلق الباطن بها والمبالاة بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك وتضييع الوقت في منازعة نفسك وشهود جنسك وبقائك معك ألا ترى إلى من أعطاه الله الدنيا بحذافيرها كيف قال هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وذلك حيث عافى باطنه من شهودها وظاهره من التعلق بها فالزهد صرف الرغبة إليه وتعلق الهمة به والاشتغال به عن كل شيء يشغل عنه ليتولى هو حسم هذه الأسباب عنك كما قيل إن بعض المريدين سأل بعض المشايخ فقال أيها الشيخ بأي شيء تدفع إبليس إذا قصدك بالوسوسة فقال الشيخ إني لا أعرف إبليس فأحتاج إلى دفعه نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله فكفانا ما دونه وكما قال
تسترت عن دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
فيقال الكلام على هذا من وجوه أحداها أن جعل الزهد للعوام لما ذكره إنما يتم إذا كان الزهد ملزوما لمنازعة النفس ومجاذبتها لدواعي الشهوة والهوى وحينئذ فيكون قلبه مشغولا بتلك الدواعي والجواذب ونفسه تطالبه بها وزهده يأمره باجتنابها ولا ريب أن فوق هذا مقاما أعلى منه وهو طمأنينة نفسه وسكونها إلى محبوبها وانجذاب دواعيها إلى محابه ومرضاته وهذا للخواص من المؤمنين ولكن هذه المنازعة غير لازمة للزهد وإن كان لا بد منها في حكم الطبيعة لتحقق الابتلاء والامتحان وليتحقق ترك العبد حظه وهواه لربه إيثارا له على هواه ونفسه الثاني أنه لو كانت هذه المنازعة وحبس النفس عن الملذوذات من لوازم الزهد لم يكن فيها

نقص ولا علة فإنها من لوازم الطبيعة وأحكام الجبلة وهي كالجوع والعطش والألم والتعب فحبس النفس عن إجابة دواعيها إيثارا لله ومرضاته عليها لا يكون نقصا ولا مستلزما لنقص وقد اختلف أرباب السلوك هنا في هذه المسألة وهي أيهما أفضل من له داعية وشهوة وهو يحبسها لله ولا يطيعهما حبا له وحياء منه وخوفا أو من لا داعية له تنازعه بل نفسه خالية من تلك الدواعي والشهوة قد اطمأنت إلى ربها واشتغلت به عن غيره وامتلأت بحبه وإرادته فليس فيها موضع لإرادة غيره ولا حبه فرجحت طائفة الأول وقالت هذا يدل على قوة تعلقه وشدة محبته فهو يعاصي دواعي الطبع والشهوة ويقهرها بسلطان محبته وإرادته وخوفه من الله وهذا يدل على تمكنه من نفسه وتمكن حاله مع الله وغلبة داعي الحق عنده على داعي الطبع والنفس قالوا وأيضا فله مزيد في حاله وإيمانه بهذا الإيثار والترك مع حضور داعي الفعل عنده ومزيد مجاهدة عدوه الباطن ونفسه وهواه كما يكون له مزيد مجاهدة عدوه الظاهر قالوا والذوق والوجد يشهد لمزيده من الحب والأنس والسرور والفرح بربه عن إيثاره على دواعي الهوى والنفس والمطمئن الذي ليس فيه هذا الداعي ليس له مزيد من هذه الجهة وإن كان مزيده من جهة أخرى فهي مشتركة بينهما ويختص هذا بمزيده من الإيثار والمجاهدة قالوا وأيضا فهذا مبتلى بهذه الدواعي والإرادات وذلك معافى منها وقد جرت سنة الله في المؤمنين من عباده أن يبتليهم على حسب إيمانهم فمن ازداد إيمانه زيد في بلائه كما ثبت عن النبي أنه قال يبتلى المرء على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة شدد عليه البلاء وإن كان في دينه رقة خفف عنه البلاء والمراد بالدين

هنا الإيمان الذي يثبت عند نوازل البلاء فإن المؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وراء البلاء قالوا فالبلاء بمخالفة دواعي النفس والطبع من أشد البلاء فإنه لا يصبر عليه إلا الصديقون وأما البلاء الذي يجري على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والطش ونحوها فالصبر عليه لا يتوقف على الإيمان بل يصبر عليه البر والفاجر لا سيما إذا علم أنه لا معول له إلا الصبر فإنه إن لم يصبر اختيارا صبر اضطرارا ولهذا كان بين ابتلاء يوسف الصديق بما فعل به إخوته من الأذى والإلقاء في الجب وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه وابتلائه بمراودة المرأة وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهي الداعية إلى ذلك فرق عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاء فإن الشباب داع إلى الشهوة والشاب قد يستحي من أهله ومارفه من قضاء وطره فإذا صار في دار الغربة زال ذلك الاستحياء والاحتشام وإذا كان عزبا كان أشد لشهوته وإذا كانت المرأة هي الطالبة كان أشد وإذا كانت جميلة كان أعظم فإن كانت ذات منصب كان أقوى في الشهوة فإن كان ذلك في دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ فإن استوثقت بتغليق الأبواب والاحتفاظ من الداخل كان أقوى أيضا للطلب فإن كان الرجل كمملوكها وهي كالحاكمة عليه الآمرة الناهية كان أبلغ في الداعي فإذا كانت المرأة شديدة العشق والمحبة للرجل قد امتلأ قلبها من حبه فهذا الابتلاء الذي صبر معه مثل الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم صلوات الله عليهم أجمعين ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأول بل هو من جنس ابتلاء الخليل بذبح ولده إذ كلاهما ابتلاء بمخالفة الطبع ودواعي النفس والشهوة ومفارقة حكم طبعه وهذا بخلاف البلوى التي أصابت ذا النون والتي أصابت أيوب قالوا وأيضا فإن هذه هي النكتة التي من أجلها كان صالح البشر أفضل من الملائكة لأن الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب دواعي النفس والشهوات البشرية فهي صادرة عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق وهي

كالنفس للحي وأما عبادات البشر فمع منازعات النفوس وقمع الشهوات ومخالفة دواعي الطبع فكانت أكمل ولهذا كان أكثر الناس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره فمن لم يخلق له تلك الدواعي والشهوات فهو بمنزلة الملائكة ومن خلقت له وأعانه الله على دفعها وقهرها وعصيانها كان أكمل وأفضل قالوا وأيضا فإن حقيقة المحبة إيثار المحبوب ومرضاته على ما سواه قالوا وكيف يصح الإيثار ممن لا تنازعه نفسه وطبعه إلى غير المحبوب قالوا وليس العجب من قلب خال عن الشهوات والإرادات قد ماتت دواعي طبعه وشهوته إذا عكف على محبوبه ومعبوده واطمأن إليه واجتمعت همته وإنما العجب من قلب قد ابتلي بما ابتلي من الهوى والشهوة ودواعي الطبيعة مع قوة سلطانها وغلبتها وضعفه وكثرة الجيوش التي تغير على قلبه كل وقت إذا آثر ربه ومرضاته على هواه وشهوته ودواعي طبعه فهو هارب إلى ربه من بين تلك الجيوش وعاكف عليه في تلك الزعازع والأهوية التي تغشى على الأسماع والأبصار والأفئدة يتحمل منها لأجل محبوبه مالا تتحمله الجبال الراسيات قالوا وأيضا فنهي النفس عن الهوى عبودية خاصة لها تأثير خاص وإنما يحصل إذا كان ثم ما ينهي عنه النفس قالوا وأيضا فالهوى عدو الإنسان فإذا قهر عدوه وصار تحت قبضته وسلطانه كان أقوى وأكمل ممن لا عدو له يقهره قالوا ولهذا كان حال النبي في قهره قرينه حتى انقاد وأسلم له فلم يكن يأمره إلا بخير أكمل من حال عمر حيث كان الشيطان إذا رآه يفر

منه وكان إذا سلك فجأ سلك غير فجه وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو كيف لا يقف الشيطان لعمر بل يفر منه ومع هذا قد تفلت على النبي وتعرض له وهو في الصلاة وأراد أن يقطع عليه الصلاة ومعلوم أن حال الرسول أكمل وأقوى والجواب ما ذكرناه أن شيطان عمر كان يفر منه فلا يقدر أحدهما على قهر صاحبه وأما الشيطان الذي تعرض للنبي فقد أخذه وأسره وجعله في قبضته كالأسير وأين من يهرب منه عدوه فلا يظفر به إلى من يظفر بعدوه فيجعله في أسره وتحت يده وقبضته فهذا ونحوه مما احتج به أرباب هذا القول
واحتج أرباب القول الثاني وهم الذين رجحوا من لا منازعة في طباعه ولا هوى له يغالبه بأن قالوا كيف تستوي النفس المطمئنة إلى ربها العاكفة على حبه التي لا منازعة فيها اصلا ولا داعية تدعوها إلى الإعراض عنه والنفس المشغولة بمحاربة هواها ودواعيها وجواذبها قالوا وأيضا ففي الزمن الذي يشتغل هذا بنفسه ومحاربة هواه وطبعه يكون صاحب النفس المطمئنة قد قطع مراحل من سيره وفاز بقرب فات صاحب المحاربة

والمنازعة قالوا كما لو كان رجلان مسافرين في طريق فطلع على أحدهما قاطع اشتغل بدفعه عن نفسه ومحاربته ليتمكن من سيره والآخر سائر لم يعرض له قاطع بل هو على جادة سيره فإن هذا يقطع من المسافة أكثر مما يقطع الأول ويقرب إلى الغاية أكثر من قربه قالوا وأيضا فإن للقلب قوة يسير بها فإذا صرف تلك القوة في دفع العوارض والدواعي القاطعة له عن السير اشتغل قلبه بدفها عن السير في زمن المدافعة
قالوا ولأن المقصود بالقصد الأول إنما هو السير إلىالله والاشتغال بدفع العوارض مقصود لغيره فالاشتغال بالمقصود لنفسه أولى وأفضل من الاشتغال بالوسيلة قالوا وأيضا فالعوارض المانعة للقلب من سيره هي من باب المرض واجتماع القلب على الله وطمأنينته به وسكونه إليه بلا منازع ولا جاذب ولا معارض هو صحته وحياته ونعيمه فكيف يكون القلب الذي يعرض له مرض وهو مشغل بدوائه أفضل من القلب الذي لا داء به ولا علة قالوا وأيضا فهذه الدواعي والميول والإرادات التي في القلب تقتضي جذبه وتعويقه عن وجه سيره وما فيه من داعي المحبة والإيمان يقتضي حذبه عن طريقها فتتعارض الجواذب فإن لم توقفه عوقته ولا بد فأين السير بلا معوق من السير مع المعوق
قالوا وأيضا فالذي يسير العبد بإذن ربه إنما هو همته والهمة إذا علت وارتفعت لم تلحقها القواطع والآفات كالطائر إذا علا وارتفع في الجو فات الرماة ولم يلحقه الحصا ولا البنادق ولا السهام وإنما تدرك هذه الأشياء للطائر إذا لم يكن عاليا فكذلك الهمة العالية قد فاتت الجوارح والكواسر وإنما تلحق الآفات والدواعي والإرادات الهمة النازلة فأما إذا علت فلا تلحقها الآفات قالوا وأيضا فالحس والوجود شاهد بأن قلب المحب متى خلا من غير المحبوب واجتمعت شؤونه كلها على محبوبه ولم يبق فيه التفات إلى غيره كان أكمل محبة من القلب الملتفت إلى الرقباء المهتم بمحاربتهم ومدافعتهم والهرب منهم والتواري عنهم قالوا فكم بين

محب يجتاز على الرقباء فيطرقون من هيبته وخشيته ولا يرفع أحد منهم رأسه إليه وبين محب إذا اجتاز بالرقباء هاشوا عليه كالزنابير أو الكلاب فاشتغل بدفعهم وحرابهم أو جد في الهرب منهم فكيف يسوي هذا بهذا أن كيف يفضل عليه مع هذا التباين قالوا وأيضا فالمحبة الخالصة الصادقة حقيقتها أنها نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب وإذا احترق ما سوى مراده عدم وذهب أثره فإذا بقي في القلب شيء من سوى مراده لم تكن المحبة تامة ولا صادقة بل هي محبة مشوبة بغيرها فالمحب الصادق ليس في قلبه سوى مراد محبوبه حتى ينازعه ويدافعه والآخر في قلبه بقية لغير المحبوب فهو جاهد على إخراجها وإعدامها قالوا وأيضا فالواردات الإلهية ترد على القلوب على قدر استعدادها وقبولها فإذا صادفت القلب خاليا فارغا من العوارض والمنازعات ودواعي الطبع والهوى ملأته على قدر فراغه وإذا امتلأ منها لم يبق لأضدادها وأعدائها فيه مسلك وإذا صادفت فيه موضعا مشغولا بغير من الأغيار لم يساكن ذلك الموضع فيدخل الضد والعدو من تلك الثلمة كما قال القائل
لا كان من لسواك فيه بقية ... يجد السبيل بل إليه العذل
وقال
ومهما بقي للصحو فيه بقية ... يجد نحوك اللاحي سبيلا إلى العذل
قالوا وأيضا فدواعي الطبع وإرادات النفس وشهواتها مصدرها إما جهل وإما ضعف فإنها لا تصدر إلا من جهل العبد بأثارها وموجباتها أو يكون عالما بذلك لكن فيه ضعف وعجز يمنعه عن محوها من قلبه بالكلية وما كانت سببه جهلا أو عجزا لا يكون كمالا ولا مستلزما لكمال وأما القلب الخالي منها ومن الاشتغال بدفعها فقلب شريف قوي علوي رفيع قالوا وأيضا فهذه الإرادات والدواعي لا تسير العبد بل إما أن تنكسه إن أجابها وإما أن تعوقه وتوقفه إن اشتغل بمدافعتها وأما إرادات القلب السليم منها

والنفس المطمئنة بربها فكل إرادة منها تسير به مراحل على مهله فهو يسير رويدا وقد سبق السعادة كما قيل
من لي بمثل سيرك المذلل ... تمشي رويدا وتجي في الأول
قالوا وأيضا فإن هذه الدواعي والإرادات إنما تحمد عاقبتها إذا ردت صاحبها إلى حال السليم منها فيكون كماله في تشبهه به وسيره معه فكيف يكون أكمل ممن كماله إنما هو في تشبهه به قالوا وأيضا فالنفوس ثلاثة أمارة ولوامه ومطمئنة والنفس الأمارة هي المطيعة لدواعي طباعها وشهواتها فمبادىء كونها أمارة هي تلك الدواعي والإرادات فتستحكم فتصير عزمات ثم توجب الأفعال فمبدأ صفة الذم فيها تلك الدواعي وأما النفس المطمئنة فهي التي عدمت هذه المبادىء فعدمت غاياتها فكيف تكون مباي النفس الأمارة مما يوجب لها مزية على النفس المطمئنة فهذا ونحوه مما احتجت به هذه الطائفة أيضا لقولها
والحق أن كلا الطائفتين على صواب من القول لكن كل فرقة لحظت غير ملحظ الفرقة الآخرى فكأنهما لم يتواردا على محل واحد بل الفرقة الأولى نظرت إلى نهاية سير المجاهد لنفسه وإرادته وما ترتب له عليها من الأحوال والمقامات فأوجب لها شهود نهايته رجحانه فحكمت بترجيحه واستحلت بتفضيله والفرق ةالثانية نظرت إلى بدايته في شأنه ذلك ونهاية النفس المطمئنة فأوجب لها شهود الأمرين الحكم بترجيح القلب الخالي من تلك الدواعي ومجاهدتها كل واحدة من الطائفتين قد أدلت بحجج لا تمانع وأتت ببينات لا ترد ولا تدافع وفصل الخطاب في هذه المسألة يظهر بمسألة يرتضع معها من لبانها ويخرج من مشكاتها وهي أن العبد إذا كان له حال أو مقام مع الله ثم نزل عنه إلى ذنب ارتكبه ثم تاب من ذنبه هل يعود إلى مثل ما كان أو لا يعود بل إن رجع رجع إلى أنزل من مقامه وأنقص من رتبته أو يعود خيرا مما كان فقالت طائفة يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأولى فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وإذا

محي أثر الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه فكأنه لم يكن فيعود إلى مثل حاله قالوا ولأن التوبة هي الرجوع إلى الله بعد الإباق منه فإن المعصية إباق العبد من ربه فإذا تاب إلى الله فقد رجع إليه وإذا كان مسمى التوبة هو الرجوع فلو لم يعد إلى حالته الأولى مع الله لم تكن توبته تامة والكلام إنما هو في التوبة النصوح قالوا ولأن التوبة كما ترفع اثر الذنب في الحال بالإقلاع عنه وفي المستقبل بالعزم على أن لا يعود فكذلك ترفع أثره في الماضي جملة ومن أثره في الماضي انحطاط منزلته عند الله ونقصانه عنده فلا بد من ارتفاع هذا الأثر بالتوبة وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله قالوا ولأنه لو بقي نازلا من مرتبته منحطا عن منزلته بعد التوبة كما كان قبلها لم تكن التوبة قد محت أثر الذنب ولا أفادت في الماضي شيئا وإن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها فبلوغه تلك الدرجة إنما كان بالتوبة فلو ضعف تأثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأولى لضعف عن تبليغه تلك المنزلة التي وصل إليها وإن لم تكن التوبة ضعيفة التأثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأثير عن إعادته إلى المنزلة الأولى قالوا وأيضا ربط سبحانه الجزاء بالأعمال ربط الأسباب بمسبباتها فالجزاء من جنس العمل فكما رجع التائب إلى الله بقلبه رجوعا تاما رجع الله عليه بمنزلته وحاله بل ما رجع العبد إلى الله حتى رجع بقلبه إليه أولا فرجع الله إليه وتاب عليه ثانيا فتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله توبة منه إذنا وتمكينا تاب بها العبد وتاب الله عليه قبولا ورضى فتوبة العبد بين توبتين من الله وهذا يدل على عنايته سبحانه وبره ولطفه بعبده التائب فكيف يقال إنه لا يعيده مع هذا اللطف والبر إلى حاله قالوا وأيضا فإن التوبة من أجل الطاعات وأوجبها على المؤمنين وأعظمها غناء عنهم وهم إليها أحوج من كل شيء وهي من أحب الطاعات إلى الله فإنه يحب التوابين ويفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله وإذا كانت بهذه المثابة فالآتي بها آت بما هو من أفضل القربات وأجل الطاعات فإذا كان قد حصل له بالمعصية انحطاط ونزول مرتبة فبالتوبة يحصل له مزيد تقدم وعلو

درجة فإن لم تكن درجته بعد التوبة أعلى فإنها لا تكون أنزل قالوا وأيضا فإنا إذا قابلنا بين جناية المعصية والتقرب بالتوبة وجدنا الحاصل من التوبة أرجح من الأثر الحاصل من المعصية والكلام إنما هو في التوبة النصوح الكاملة وجانب الفضل أرجح من جانب العدل ولهذا كان في جانب العدل آحاد بآحاد وجانب الفضل آحاد بعشرات إلى سبعمائة إلى اضعاف كثيرة وهذا يدل على رجحان جانب الفضل وغلبته وكذلك مصدرهما من الغضب والرحمة فإن رحمة الرب تغلب غضبه قالوا وأيضا فالذنب بمنزلة المرض والتوبة بمنزلة العافية والعبد إذا مرض ثم عوفي وتكاملت عافيته رجعت صحته إلى ما كانت عليه بل ربما رجعت أقوى وأكمل مما كانت عليه لأنه ربما كان معه في حال العافية آلام وأسقام كامنة فإذا اعتل ظهت تلك الأسقام ثم زالت بالعافية جملة فتعود قوته خيرا مما كانت وأكمل وفي مثل هذا قال الشاعر
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
وهذا الوجه هو أحد ما احتج به من قال إنه يعود بالتوبة خيرا مما كان قبل التوبة واحتجوا لقولهم أيضا بأن التوبة تثمر للعبد محبة من الله خاصة لا تحصل بدون التوبة بل التوبة شرط في حصولها وإن حصل له محبة أخرى بغيرها من الطاعات فالمحبة الحاصلة له بالتوبة لا تنال بغيرها فإن الله يحب التوابين ومن محبته لهم فرحه بتوبة أحدهم أعظم فرح وأكمله فإذا أثمرت له التوبة هذه المحبة ورجع بها إلى طاعاته التي كان عليها أولا انضم أثرها إلى أثرتلك الطاعات فقوي الأثران فحصل له المزيد من القرب والوسيلة وهذا بخلاف ما يظنه من نقصت معرفته بربه من أنه سبحانه إذا غفر لعبده ذنبه فإنه لا يعود الود الذي كان له منه قبل الجناية واحتجوا في ذلك بأثر إسرائيلي مكذوب أن الله قال داود عليه السلام يا داود أما الذنب فقد غفرناه وأما الود فلا يعود وهذا كذب قطا فإن الود يعود بعد التوبة النصوح أعظم مما كان فإنه سبحانه يحب التوابين ولو لم

بعد الود لما حصلت له محبته وأيضا فإنه يفرح بتوبة التائب ومحال أن يفرح بها أعظم فرح وأكمله وهو لا يحبه وتأمل سر اقتران هذين الاسمين في قوله تعالى إنه هو يبدىء ويعيد وهو الغفور الودودو تجد فيه من الرد والإنكار على من قال لا يعود الود والمحبة منه لعبده أبدا ما هو من كنوز القرآن ولطائف فهمه وفي ذلك ما يهيج القلب السليم ويأخذ بمجامعه ويجعله عاكفا على ربه الذي لا إله إلا هو ولا رب له سواه عكوف المحب الصادق على محبوبه الذي لا غنى له عنه ولا بد له منه ولا تندفع ضرورته بغيره أبدا واحتجوا أيضا بأن العبد قد يكون بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة لأن الذنب يحدث له من الخوف والخشية والانكسار والتذلل لله والتضرع بين يديه والبكاء على خطيئته والندم عليها والأسف والإشفاء ما هو من أفضل أحوال العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته ولم تكن هذه الأمور لتحصل بدون أسبابها إذ حصول الملزوم بون لازمه محال والله يحب من عبده كسرته وتضرعه وذله بين يديه واستعطافه وسؤاله أن يعفو عنه ويغفر له ويتجاوز عن جرمه وخطيئته فإذا قضى عليه بالذنب فترتبت عليه هذه الآثار المحبوبة له كان ذلك القضاء خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن ولهذا قال بعض السلف
لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه ... لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه
وقيل إن في بعض الآثار يقول الله تعالى لداود عليه السلام يا داود كنت تدخل علي دخول الملوك على الملوك واليوم تدخل علي دخول العبيد على الملوك قالوا وقد قال غير واحد من السلف كان داود بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة قالوا ولهذا قال سبحانه فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب فزاده على المغفرة أمرين الزلفى

وهي درجة القرب منه وقد قال فيها سلف الأمة وأئمتها ما لا تحتمله عقول الجهمية وفراخهم ومن أراد معرفتها فعليه بتفاسير السلف والثاني حسن المآب وهو حسن المنقلب وطيب المأوى عند الله قالوا ومن تأمل زيادة القرب التي أعطيها داود بعد المغفرة علم صحة ما قلنا وأن العبد بعد التوبة يعود خيرا مما كان قالوا وأيضا فإن للعبودية لوازم وأحكاما وأسرارا وكمالات لا تحصل إلا بها ومن جملتها تكميل مقام الذل للعزيز الرحيم فإن الله سبحانه يحب من عبده أن يكمل مقام الذل له وهذه هي حقيقة العبودية واشتقاقها يدل على ذلك فإن العرب تقول طريق معبد أي مذلل بوطء الأقدام والذل أنواع أكملها ذل المحب لمحبوبه الثاني ذل الملوك لمالكه الثالث ذل الجاني بين يدي المنعم عليه المحسن إليه المالك له الرابع ذل العاجز عن جميع مصالحه وحاجاته بين يدي القادر عليها التي هي في يده وبأمره وتحت هذا قسمان أحدهما ذل له في أن يجلب له ما ينفعه والثاني ذل له في أن يدفع عنه ما يضره على الدوام ويدخل في هذا ذل المصائب كالفقر والمرض وأنواع البلاء والمحن فهذه خمسة أنواع من الذل إذا وفاها العبد حقها وشهدها كما ينبغي وعرف ما يراد به وقام بين يدي ربه مستصحبا لها شاهدا لذله من كل وجه ولعزة ربه وعظمته وجلاله كان قليل أعماله قائما مقام الكثير من أعمال غيره قالوا وهذه أسرار لا تدرك بمجرد الكلام فمن لا نصيب له منها فلا يضره أن يخلي المطي وحاديها ويعطي القوس باريها
فللكثافة أقوام لها خلقوا ... وللمحبة أكباد وأجفان
قالوا وأيضا فقد ثبت عن النبي أنه قال لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته قالوا وهذا أعظم ما يكون من الفرح

وأكمله فإن صاحب هذه الراحلة كان عليها مادة حياته من الطعام والشراب وهي مركبه الذي يقطع به مسافة سفره فلو عدمه لانقطع في طريقه فكيف إذا عدم مع مركبه طعامه وشرابه ثم إنه عدمها في أرض دوية لا أنيس بها ولا معين ولا من يأوي له ويرحمه ويحمله ثم إنها مهلكة لا ماء بها ولا طعام فلما أيس من الحياة بفقدها وجلس ينتظر الموت إذا هو براحلته قد أشرفت عليه ودنت منه فأي فرحة تعدل فرحة هذا ولو كان في الوجود فرح أعظم من هذا لمثل به النبي ومع هذا ففرح الله بتوبة عبده إذ تاب إليه أعظم من فرح هذا براحلته وتحت هذا سر عظيم يختص الله بفهمه من يشاء فإن كنت ممن غلظ حجابه وكثفت نفسه وطباعه فعليك بوادي الخفا وهو وادي المحرفين للكلم عن مواضعه الواضعين له على غير المراد منه فهو واد قد سلكه خلق وتفرقوا في شعابه وطرقه ومتاهاته و لم تستقر لهم فيه قدم ولا لجأوا منه إلى ركن وثيق بل هم كحاطب الليل وحاطم السيل وإن نجاك الله من هذا الوادي فتأمل هذه الألفاظ النبوية المعصومة التي مقصود المتكلم بها غاية البيان مع مصدرها عن كمال العلم بالله وكمال النصيحة للأمة ومع هذه المقامات الثلاث أعني كمال بيان المتكلم وفصاحته وحسن تعبيره عن المعاني وكمال معرفته وعلمه بما يعبر عنه وكمال نصحه وإرادته لهداية الخلائق يستحيل عليه أن يخاطبهم بشيء وهو لا يريد منهم ما يدل عليه خطابه بل يريد منه أمرا بعيدا عن ذلك الخطاب إنما يدل عليه كدلالة الألغاز والأحاجي مع قدرته على التعبير عن ذلك المعنى بأحسن عبارة وأوجزها فكيف يليق به أن يعدل عن مقتضى البيان الرافع للإشكال المزيل للإجمال ويوقع الأمة في أودية التأويلات وشعاب الاحتمالات والتجويزات سبحانك هذا بهتان عظيم وهل قدر الرسول حق قدره أو مرسله حق قدره من نسب كلامه سبحانه أو كلام رسوله إلى مثل ذلك ففصاحة الرسول وبيانه وعلمه ومعرفته ونصحه وشفقته يحيل عليه أن يكون مراده من كلامه ما يحمله عليه

المحرفون للكلم عن مواضعه المتأولون له غير تأويله وأن يكون كلامه من جنس الألغاز والأحاجي والحمد لله رب العالمين
فإن قلت فهل من مسلك غير هذا الوادي الذي ذممته فتسلك فيه أو من طريق يستقيم عليه السالك قلت نعم بحمد الله الطريق واضحة المنار بينة الأعلام مضيئة للسالكين وأولها أن تحذف خصائص المخلوقين عن إضافتها إلى صفات رب العالمين فإن هذه العقدة هي أصل بلاء الناس فمن حلها فما بعدها أيسر منها ومن هلك بها فما بعدها أشد منها وهل نفى أحد ما نفى من صفات الرب ونعوت جلاله إلا لسبق نظره الضعيف إليها واحتجاجه بها عن أصل الصفة وتجردها عن خصائص المحدث فإن الصفة يلزمها لوازم باختلاف محلها فيظن القاصر إذا رأى ذلك اللازم في المحل المحدث أنه لازم لتلك الصفة مطلقا فهو يفر من إثباتها للخالق سبحانه حيث لم يتجرد في ظنه عن ذلك اللازم وهذا كما فعل من نفى عنه سبحانه الفرح والمحبة والرضى والغضب والكراهة والمقت والبغض وردها كلها إلى الإرادة فإنه فهم فرحا مستلزما لخصائص المخلوق من انبساط دم القلب وحصول ما ينفعه وكذلك فهم غضبا هو غليان دم القلب طلبا للانتقام وكذلك فهم محبة ورضى وكراهة ورحمة مقرونة بخصائص المخلوقين فإن ذلك هو السابق إلى فهمه وهو المشهود في علمه الذي لم تصل معرفته إلى سواه ولم يحط علمه بغيره ولما كان هو السابق إلى فهمه لم يجد بدا من نفيه عن الخالق والصفة لم تتجرد في عقله عن هذا اللازم فلم يجد بدا من نفيها ثم لأصحاب هذه الطريق مسلكان أحدهما مسلك التناقض البين وهو إثبات كثير من الصفات ولا يلتفت فيها إلى هذا الخيال بل يثبتها مجردة عن خصائص المخلوق كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر وغيرها فإن كان إثبات تلك الصفات التي نفاها يستلزم المحذور الذي فر منه فكيف لم يستلزم إثبات ما أثبته وإن كان إثبات ما أثبته لا يستلزم محذورا فكيف يستلزم إثبات ما نفاه

وهل في التناقض أعجب من هذا والمسلك الثاني مسلك النفي العام والتعطيل المحض هربا من التناقض والتزاما لأعظم الباطل وأمحل المحال فإذا الحق المحض في الإثبات المحض الذي أثبته الله لنفسه في كلامه وعلى لسان رسوله من غير تشبيه ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تبديل ومنشأ غلط المحرفين إنما هو ظنهم أن ما يلزم الصفة في المحل المعين يلزمها لذاتها فينفون ذلك اللازم عن الله فيضطرون في نفيه إلى نفي الصفة ولا ريب أن الأمور ثلاثة أمر يلزم الصفة لذاتها من حيث هي فهذا لا يجب بل لا يجوز نفيه كما يلزم العلم والسمع والبصر من تعلقها بمعلوم ومسموع ومبصر فلا يجوز نفي هذه التعلقات عن هذه الصفات إذ لا تحقق لها بدونها وكذلك الإرادة مثلا تستلزم العلم لذاتها فلا يجوز نفي لازمها عنها وكذلك السمع والبصر والعلم يستلزم الحياة فلا يجوز نفي لوازمها وكذلك كون المرئي مرئيا حقيقة له لوازم لا ينفك عنها ولا سبيل إلى نفي تلك اللوازم إلا بنفي الرؤية وكذلك الفعل الاختياري له لوازم لا بد فيه منها فمن نفى لوازمه نفى الفعل الاختياري ولا بد ومن هنا كان أهل الكلام أكثر الناس تناقضا واضطرابا فإنهم ينفون الشيء ويثبتون ملزومه ويثبتون الشيء وينفون لازمه فتتناقض أقوالهم وأدلتهم ويقع السالك خلفهم في الحيرة والشك ولهذا يكون نهاية أمر أكثرهم الشك والحيرة حاشى من هو في خفارة بلادته منهم أو من قد خرق تلك الخيالات وقطع تلك الشبهات وحكم الفطرة والشرعة والعقل المؤبد بنور الوحي عليها فنقدها نقد الصيارف فنفى زغلها وعلم أن الصحيح منها إما أن يكون قد تولت النصوص بيانه وإما أن يكون فيها غنية عنه بما هو خير منه وأقرب طريقا وأسهل تناولا ولا يستفيد المؤمن البصير بما جاء به الرسول العارف به من المتكلمين سوى مناقضة بعضهم بعضا ومعارضته وإبداء بعضهم عوار بعض ومحاربة بعضهم بعضا فيتولى بعضهم محاربة بعض ويسلم ما جاء به الرسول فإذا رأى

المؤمن العالم الناصح لله ولرسوله أحدهم قد تعدى إلى ما جاء به الرسول يناقضه ويعارضه فليعلم أنهم لا طريق لهم إلى ذلك أبدا ولا يقع ردهم إلا على آراء أمثالهم وأشباههم وأما ما جاء به الرسول فمحفوظ محروس مصون من تطرق المعارضة والمناقضة إليه فإن وجدت شيئا من ذلك في كلامهم فبدار بدار إلى إبداء فضائحهم وكشف تلبيسهم ومحالهم وتناقضهم وتبيين كذبهم على العقل والوحي فإنهم لا يردون شيئا مما جاء به الرسول إلا بزخرف من القول يغتر به ضعيف العقل والإيمان فاكشفه ولا تهن تجده كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ولولا أن كل مسائل القوم وشبههم التي خالفوا فيها النصوص بهذه المثابة لذكرنا من أمثلة ذلك ما تقر به عيون أهل الإيمان السائرين إلى الله على طريق الرسول وأصحابه وإن وفق الله سبحانه جردنا لذلك كتابا مفردا وقد كفانا شيخ الإسلام ابن تيمية هذا المقصد في عامة كتبه لا سيما كتابه الذي وسمه ببيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح فمزق فيه شملهم كل ممزق وكشف أسرارهم وهتك أستارهم فجزاه الله عن الإسلام وأهله من أفضل الجزاء واعلم أنه لا ترد شبهة صحيحة قط على ما جاء به الرسول بل الشبهة التي يوردها أهل البدع والضلال على أهل السنة لا تخلو من قسمين إما أن يكون القول الذي أوردت عليه ليس من أقوال الرسول بل تكون نسبته إليه غلطا وهذا لا يكون متفقا عليه بين أهل السنة أبدا بل يكون قد قاله بعضهم وغلط فيه فإن العصمة إنما هي لمجموع الأمة لا لطائفة معينة منها وإما أن يكون القول الذي أوردت عليه قولا صحيحا لكن لا ترد تلك الشبهة عليه وحينئذ فلا بد له من أحد أمرين إما أن تكون لازمة وإما ألا تكون لازمة فإن كانت لازمة لما جاء بها الرسول فهي حق لا شبهة إذ لازم الحق حق ولا ينبغي الفرار منها كما يفعل الضعفاء من المنتسبين إلى السنة بل كل ما لزم من الحق فهو حق يتعين القول به كائنا ما

كان وهل تسلط أهل البدع والضلال على المنتسبين للسنة إلا بهذه الطريق ألزموهم بلوازم تلزم الحق فلم يلتزموها ودفعوها وأثبتوا ملزوماتها فتسلطوا عليهم بما أنكروه لا بما أثبتوه فلو أثبتوا لوازم الحق ولم يفروا منها لم يجد أعداؤهم إليهم سبيلا وإن لم تكن لازمة لهم فإلزامهم إياها باطل وعلى النقدين فلا طريق لهم إلى رد أقوالهم وحينئذ فلهم جوابان مركب مجمل ومفرد مفصل أما الأول فيقولون لهم هذه اللوازم التي تلزمونا بها إما أن تكون لازمة في نفس الأمر وإما أن لا تكون لازمة فإن كانت لازمة فهي حق إذ قد ثبت أن ما جاء به الرسول فهو الحق الصريح ولازم الحق حق وإن لم تكن لازمة فهي مندفعة ولا يجوز إلزامها وأما الجواب المفصل فيفردون كل إلزام بجواب ولا يردونه مطلقا بل ينظرون إلى ألفاظ ذلك الإلزام ومعانيه فإن كان لفظها موافقا لما جاء به الرسول يتضمن إثبات ما أثبته ونفي ما نفاه فلا يكون المعنى إلا حقا فيقبلون ذلك الإلزام وإن كان مخالفا لما جاء به الرسول متضمنا لنفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه كان باطلا لفظا ومعنى فيقابلونه بالرد وإن كان لفظا مجملا محتملا لحق وباطل لم يقبلوه مطلقا ولم يردوه مطلقا حتى يستفسروا قائله ماذا أراد به فإن أراد معنى صحيحا مطابقا لما جاء به الرسول قبلوه ولم يطلقوا اللفظ المحتمل إطلاقا إن أراد معنى باطلا ردوه ولم يطلقوا نفي اللفظ المحتمل أيضا فهذه قاعدتهم التي بها يعتصمون وعليها يعولون وبسط هذه الكلمات يستدعي أسفارا لا سفرا واحدا ومن لا ضياء له لا ينتفع بها ولا بغيرها فلنقتصر عليها ولنعد إلى المقصود فنقول وبالله التوفيق
فرح الرب سبحانه هذا الفرح العظيم بتوبة عبده إذا تاب إليه هو من

ملزومات محبته ولوازمها أعني كونه محبا لعباده المؤمنين محبوبا لهم وإنما خلق خلقه لعبادته المتضمنة لكمال محبته والخضوع له ولهذا خلق الجنة والنار ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب وهذا هو الحق الذي خلق به السموات والأرض وأنزل به الكتاب قال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وقال تعالى إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إلى قوله هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق وقوله الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق فهذا أمره وتنزيله مصدره الحق والأول خلقه وتكوينه مصدره الحق أيضا فبالحق كان الخلق والأمر وعنه صدر الخلق والأمر وقال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فأخبر سبحانه أن الغاية المطلوبة من خلقه هي عبادته التي أصلها كمال محبته وهو سبحانه كما أنه يحب أن يعبد يحب أن يحمد ويثنى عليه ويذكر بأوصافه العلى وأسمائه الحسنى كما قال النبي في الحديث الصحيح لا أحد أحب إليه المدح من الله ومن أجل ذلك أثنى على نفسه وفي المسند من حديث الأسود بن سريع أنه قال يا رسول الله إني حمدت ربي بمحامد فقال إن ربك يحب الحمد فهو

يحب نفسه ومن أجل ذلك يثني على نفسه ويحمد نفسه ويقدس نفسه ويحب من يحبه ويحمده ويثني عليه بل كلما كانت محبة عبده له أقوى كانت محبة الله له أكمل وأتم فلا أحد أحب إليه ممن يحبه ويحمده ويثني عليه ومن أجل ذلك كان الشرك أبغض الأشياء إليه لأنه ينقص هذه المحبة ويجعلها بينه وبين من أشرك به ولهذا لا يغفر الله أن يشرك به لأن الشرك يتضمن نقصان هذه المحبة والتسوية فيها بينه وبين غيره ولا ريب أن هذا من أعظم ذنوب المحب عند محبوبه التي يسقط بها من عينه وتنقص بها مرتبته عنده إذا كان من المخلوقين فكيف يحتمل رب العالمين أن يشرك بينه وبين غيره في المحبة والمخلوق لا يحتمل ذلك ولا يرضى به ولا يغفر هذا الذنب لمحبه أبدا وعساه أن يتجاوز لمحبه عن غيره من الهفوات والزلات في حقه ومتى علم بأنه يحب غيره كما يحبه لم يغفر له هذا الذنب ولم يقربه إليه هذا مقتضى الطبيعة والفطرة أفلا يستحي العبد أن يسوي بين إلهه ومعبوده وبين غيره في هذه العبودية والمحبة قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين إمنوا أشد حبا لله فأخبر سبحانه أن من أحب شيئا دون الله كما يحب الله فقد اتخذه ندا وهذا معنى قول المشركين لمعبوديهم تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين فهذه تسوية في المحبة والتأليه لا

في الذات والأفعال والصفات والمقصود أنه سبحانه يحب نفسه أعظم محبة ويحب من يحبه وخلق خلقه لذلك وشرع شرائعه وأنزل كتبه لأجل ذلك وأعد الثواب والعقاب لأجل ذلك وهذا هو محض الحق الذي به قامت السماوات والأرض وكان الخلق والأمر فإذا قام به العبد فقد قام بالأمر الذي خلق له فرضي عنه صانعه وبارؤه وأحبه إذ كان يحب ويرضى فإذا صدف عن ذلك وأعرض عنه وأبق عن مالكه وسيده أبغضه ومقته لأنه خرج عما خلق له وصار إلى ضد الحال التي هو لها فاستوجب منه غضبه بدلا من رضاه وعقوبته بدلا من رحمته فكأنه استدعى من رحمته أن يعامله من نفسه بخلاف ما يحب فإنه سبحانه عفو يحب العفو محسن يحب الإحسان جواد يحب الجود سبقت رحمته غضبه فإذا ابق منه العبد وخامر عليه ذاهبا إلى عدوه فقد استدعى منه أن يجعل غضبه غالبا على رحمته وعقوبته على إحسانه وهو سبحانه يحب من نفسه الإحسان والبر والإنعام فقد استدعى من ربه فعل ما غيره أحب إليه منه وهوبمنزلة عبد السوء الذي يحمل أستاذه من المخلوقين المحسن إليه الذي طبيعته الإحسان والكرم على خلاف مقتضى طبيعته وسجيته فأستاذه يحب لطبعه الإحسان وهو بإساءته ولؤمه يكلفه ضد طباعه ويحمله على خلاف سجيته فإذا راجع هذاالعبد ما يحب سيده ورجع إليه وأقبل عليه ورجع عن عدوه فقد صار إلى الحال التي تقتضي محبة سيده له وإنعامه عليه وإحسانه إليه فيفرح به ولا بد أعظم فرح وهذا الفرح هو دليل غاية الكمال والغنى والمجد فليتدبر اللبيب وجود هذا الفرح ولوازمه وملزوماته يجد في طيه من المعارف الإلهية ما لا تتسع له إلا القلوب المهيأة لهذا الشأن المخلوقة له وهذا فرح محسن بر لطيف جواد غني حميد لا فرح محتاج إلى حصول متكمل به مستقيل له من غيره فهو عين الكمال لازم للكمال ملزوم له وألطف من هذا الوجه أن الله سبحانه خلق عباده المؤمنين وخلق كل شيء لأجلهم كما قال تعالى ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في

الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة وكرمهم وفضلهم على كثير ممن خلق فقال ولقد كرمنا بني إدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا وقال لصالحيهم وصفوتهم إن الله اصطفى إدم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين وقال لموسى واصطنعتك لنفسي واتخذ منهم الخليلين والخلة أعلى درجات المحبة وقد جاء في بعض الآثار يقول تعالى ابن آدم خلقتك لنفسي وخلقت كل شيء لك فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له وفي أثر آخر يقول تعالى ابن آدم خلق تك لنفسي فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شيء وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء فالله سبحانه خلق عباده له ولهذا اشترى منهم أنفسهم وهذا عقد لم يعقده مع خلق غيرهم فيما أخبر به على لسان رسوله ليسلموا إليه النفوس التي خلقها له وهذا الشراء دليل على أنها محبوبة له مصطفاة عنده مرضية لديه وقدر السلعة يعرف بجلاله قدر مشتريها وبمقدار ثمنها هذا إذا جهل قدرها في نفسها فإذا عرف قدر السلعة وعرف مشتريها وعرف الثمن المبذول فيها علم شأنها ومرتبتها في الوجود فالسلعة أنت والله المشتري والثمن جنته والنظر إلى وجهه وسماع كلامه في دار الأمن والسلام والله لا يصطفي لنفسه إلا أعز الأشياء وأشرفها وأعظمها قيمة وإذا كان قد اختار العبد لنفسه وارتضاه لمعرفته ومحبته وبنى له دارا في جواره وقربه وجعل ملائكته خدمة يسعون في

مصالحه في يقظته ومنامه وحياته وموته ثم إن العبد أبق عن سيده ومالكه معرضا عن رضاه ثم لم يكفه ذلك حكى حتى خامر عليه وصالح عدوه ووالاه من دونه وصار من جنده مؤثرا لمرضاته على مرضاة وليه ومالكه فقد باع نفسه التي اشتراها منه إلهه ومالكه وجعل ثمنها جنته والنظر إلى وجهه من عدوه وأبغض خلقه إليه واستبدل غضبه برضاه ولعنته برحمته ومحبته فأي مقت خلى هذا المخدوع عن نفسه لم يتعرض له من ربه قال تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا فتأمل ما تحت هذه المعاتبة وما في طي هذا الخطاب من سوء هذا العبد وما تعرض له من المقت والخزي والهوان ومن استعطاف ربه واستعتابه ودعائه إياه إلى العود إلى وليه ومولاه الحق الذي هو أولى به فإذا عاد إليه وتاب إليه فهو بمثابة من أسر له العدو محبوبا له واستولوا عليه وحالوا بينه وبينه فهرب منهم ذلك المحبوب وجاء إلى محبه اختيارا وطوعا حتى توسد عتبة بابه فخرج المحب من بيته فوجد محبوبه متوسدا عتبة بابه واضعا خده وذقنه عليها فكيف يكون فرحه به ولله المثل الأعلى ويكفي في هذا المثل الذي ضربه رسول الله لمن فتح الله عين قلبه فأبصر ما في طيه وما في ضمنه وعلم أنه ليس كلام مجاز ولا مبالغة ولا تخييل بل كلام معصوم في منطقه وعلمه وقصده وعمله كل كلمة منه في موضعها ومنزلتها ومقرها لا يتعدى بها عنه ولا يقصر بها والذي يزيد هذا المعنى تقريرا أن محبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له سبحانه فإنه لولا محبة الله له لما جعل محبته في قلبه فإنه ألهمه حبه وآثره به فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبة أعظم منها فإنه من تقرب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا ومن تقرب إليه ذراعا تقرب إليه باعا ومن أتاه مشيا أتاه

هرولة وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذي يحبه فوق محبة العبد له وإذا تعرض هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فر من محبه وآثر غيره عليه فإذا عاوده وأقبل إليه وتخلى عن غيره فكيف لا يفرح به محبه أعظم فرح وأكمله والشاهد أقوى شاهد تؤيده الفطرة والعقل فلولم يخبر الصادق المصدوق بما أخبر به عن هذا الأمر العظيم لكان في الفطرة والعقل ما يشهد به فإذا انضافت الشرعة المنزلة إلى العقل المنور فذلك الذي لا غاية له بعده وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فصل ومتى أراد العبد شاهد هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التي يجدها بعد التوبة النصوح والسرور واللذة التي تحصل له والجزاء من جنس العمل فلما تاب إلى الله ففرح الله بتوبته أعقبه فرحا عظيما وههنا دقيقة قل من يتفطن لها إلا فقيه في هذا الشأن وهي أن كل تائب لا بد له في أول توبته من عصرة وضغطة في قلبه من هم أو غم أو ضيق أو حزن ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه فينضغط لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره فأكثر الخلق رجعوا من التوبة ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه المحبة والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة والحاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة فكلما كانت أقوى وأشد كانت الفرحة واللذة أكمل وأتم ولذلك اسباب عديدة منها أن هذه العصرة والقبض دليل على حياة قلبه وقوة استعداده ولو كان قلبه ميتا واستعداده ضعيفا لم يحصل له ذلك وأيضا فإن الشيطان لص الإيمان واللص إنما يقصد

المكان المعمور وأما المكان الخراب الذي لا يرجو أن يظفر منه بشيء فلا يقصده فإذا قويت المعارضات الشيطانية والعصرة دل على أن في قلبه من الخير ما يشتد حرص الشيطان على نزعه منه وأيضا فإن قوة المعارض والمضاد تدل على قوة معارضته وضده ومثل هذا إما أن يكون رأسا في الخير أو رأسا في الشر فإن النفوس الأبية القوية إن كانت خيرة رأست في الخير وإن كانت شريرة رأست في الشر وأيضا فإن بحسب موافقته لهذا العارض وصبره عليه يثمر له ذلك من اليقين والثبات والعزم ما يوجب لزيادة انشراحه وطمأنينته وأيضا فإنه كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه هذه سنة الله في الخلق فانظر إلى الجنة وعظمها وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها وانظر إلى محبة الله والانقطاع إليه والإنابة إليه والتبتل إليه وحده والأنس به واتخاذه وليا ووكيلا وكافيا وحسيبا هل يكتسب العبد شيئا أشرف منه وانظر إلى القواطع والموانع الحائلة دونه حتى قد تعلق كل قوم بما تعلقوا به دونه والطالبون له منهم الواقف مع عمله والواقف مع علمه والواقف مع حاله والواقف مع ذوقه وجميعته وحظه من ربه والمطلوب منهم وراء ذلك كله والمقصود أن هذا الأمر الحاصل بالتوبة لما كان من أجل الأمور وأعظمها نصبت عليه المعارضات والمحن ليتميز الصادق من الكاذب وتقع الفتنة ويحصل الابتلاء ويتميز من يصلح ممن لا يصلح قال تعالى الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين وقال ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولكن إذا صبر على هذه العصرة قليلا أفضت به إلى رياض الأنس وجنات الانشراح وإن لم

يصبر لها انقلب على وجهه والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه والمقصود أن هذا الفرح من الله بتوبة عبده مع أنه لم يأت نظيره في غيرها من الطاعات دليل على عظم قدر التوبة وفضلها عند الله وأن التعبد له بها من أشرف التعبدات وهذا يدل على أن صاحبها يعود أكمل مما كان قبلها فهذا بعض ما احتج به لهذا القول
وأما الطائفة التي قالت لا يعود إلى مثل ما كان بل لا بد أن ينقص حاله فاحتجوا بأن الجناية توجب الوحشة وزوال المحبة ونقص العبودية بلا ريب فليس العبد الموفر أوقاته على طاعة سيده كالعبد المفرط في حقوقه وهذا مما لا يمكن جحده ومكابرته فإذا تاب إلى ربه ورجع إليه أثرت توبته ترك مؤاخذته بالذنب والعفو عنه وأما مقام القرب والمحبة فهيهات أن يعود قالوا ولأن هذا في زمن اشتغاله بالمعصية قد فاته فيه السير إلى الله فلو كان واقفا في موضعه لفاته التقدم فكيف وهو في زمن المعصية كان سيره إلى وراء وراء فإذا تاب واستقبل سيره فإنه يحتاج إلى سير جديد وقطع مسافة حتى يصل إلى الموضع الذي تأخر منه قالوا ونحن لا ننكر أنه قد يأتي بطاعات وأعمال تبلغه إلى منزلته وهذا مما لا يكون فإنه بالتوبة قد وجه وجهه إلى الطريق فلا يصل إلى مكانه الذي رجع منه إلا بسير مستأنف يوصله إليه ونحن لا ننكر أن العبد بعد التوبة يعمل أعمالا عظيمة لم يكن ليعملها قبل الذنب توجب له التقدم قالوا وأيضا فلو رجع إلى حاله الذي كان عليها أو إلى أرفع منها فكان بمنزلة المداوم على الطاعة أو أحسن حالا منه فكيف يكون هذا وأين مسير صاحب الطاعة في زمن اشتغال هذا بالمعصية وكيف يلتقي رجلان أحدهما سائر نحو المشرق والآخر نحو المغرب فإذا رجع أحدهما إلى طريق الآخر والآخر مجد على سيره فإنه لا يزال سابقه ما لم يعرض له فتور أو توان هذا مما لا يمكن جحده ودفعه قالوا وأيضا فمرض القلب بالذنوب على مثل مرض الجسم بالأسقام والتوبة بمنزلة شرب الدواء

والمريض إذا شرب الدواء وصح فإنه لا تعود إليه قوته قبل المرض وإن عادت فبعد حين قالوا وأيضا فهذا في زمن معالجة التوبة ملبوك في نفسه مشغول بمداواتها ومعالجتها وفي زمن الذنب مشغول بشهواتها والسالم من ذلك مشغول بربه قد قرب منه في سيره فكيف يلحقه هذا فهذا ونحوه مما احتجب به هذه الطائفة لقولها
وجرت هذه المسألة بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية فسمعته يحكي هذه الأقوال الثلاثة حكاية مجردة فإما سألته وإما سئل عن الصواب منها فقال الصواب أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله ومنهم من يعود إلى أكمل منها ومنهم من يعود إلى أنقص مما كان فإن كان بعد التوبة خيرا مما كان قبل الخطيئة وأشد حذرا وأعظم تشميرا وأعظم ذلا وخشية وإنابة عاد إلى أرفع مما كان وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأمور ولم يعد بعد التوبة إليها عاد إلى أنقص مما كان عليه وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى مثل منزلته هذا معنى كلامه
قلت وههنا مسألة هذا الموضع أخص المواضع ببيانها وهي أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحا فهل تمحىتلك السيئات ويذهب لا له ولا عليه أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة هذا مما اختلف الناس فيه من المفسرين وغيرهم قديما وحديثا فقال الزجاج ليس يجعل مكان السيئة الحسنة لكن يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة قال ابن عطية يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأولى طاعة فيكون ذلك سببا لرحمة الله إياهم قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن ورد على من قال هو في يوم القيامة قال وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذر يقتضي أن الله سبحانه يوم القيامة يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئاته حسنات وذكره الترمذي والطبري وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية قال ابن عطية وهو معنى كرم العفو هذا آخر كلامه قلت سيأتي إن شاء الله ذكر الحديث بلفظه والكلام عليه

قال المهدوي وروي معنى هذا القول عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وغيرهما وقال الثعلبي قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد يبدل الله سيئاتهم حسنات يبدلهم الله بقبيح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام فيبدلهم بالشرك إيمانا ويقتل المؤمنين قتل المشركين وبالزنا عفة وإحصانا وقال آخرون يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسنات يوم القيامة
وأصل القولين أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة فمن قال إنه في الدنيا قال هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها وهي حسنات وهذا تبديل حقيقة والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة لا تنقلب حسنة بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها فأما أن تنقلب حسنة فلا فإنها لم تكن طاعة وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب فكيف تنقلب محبوبة مرضية قالوا وأيضا فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب كقوله تعالى ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وقوله تعالى ويعفوا عن السيئات وقوله تعالى إن الله يغفر الذنوب جميعا والقرآن مملوء من ذلك وفي الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال قال رجل لابن عمر كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى قال سمعته يقول يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كتفه فيقرره بذنوبه فيقول هل تعرف فيقول رب أعرف قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى صحيفة حسناته وأما الكفار

والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على الله عز و جل فهذا الحديث المتفق عليه الذي تضمن العناية بهذا العبد إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له يوم القيامة ولم يقل له وأعطيتك بك سيئة منها حسنة فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها وقد قال الله في حق الصادقين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون فهؤلاء خيار الخلق وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات فدل على أن الجزاء بالحسن إنما يكون على الحسنات وحدها وأما السيئات فأن تلغى ويبطل أثرها قالوا وأيضا فلو انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب لكان أحسن حالا من الذي لم يرتكب منها شيئا وأكثر حسنات منه لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه وكيف يكون صاحب السيئات أرجح ممن لا سيئة له قالوا وأيضا فكما أن العبد إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها بل يبطل أثرها ويكون لا له ولا عليه وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها فإنها لا تنقلب حسنات فإن قلتم وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته لم ننازعكم في هذا وليس هذا معنى الحسنة فإن الحسنة تقتضي ثوابا وجوديا
واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة وهذا إنما

يكون في السيئة المحققة وهي التي قد فعلت ووقعت فإذا بدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة قالوا ولهذا قال تعالى سيئاتهم حسنات فأضاف السيئات إليهم لكونهم باشروها واكتسبوها ونكر الحسنات ولم يضفها إليهم لأنها من غير صنعهم وكسبهم بل هي مجرد فضل الله وكرمه قالوا وأيضا فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها كما قال الله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم وأما ما كان من غير الفاعل فإنه يجعله من تبديله هو كما قال الله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم لا أنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم وإن كان سببه منهم وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح قالوا ويدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنها كبارها فتعرض عليه صغار ذنوبه فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول رب قد عملت أشياء لا أراها ههنا فلقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت

نواجذه وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال قال رسول الله يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال اعرضوا عليه صغار ذنوبه قال فتعرض عليه ويخبأ عنه كبارها فيقال عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وهو مقر لا ينكر وهو مشفق من الكبار فيقال أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة قال فيقول إن لي ذنوبا ما أراها فلقد رأيت رسول الله ضحك حتى بدت نواجذه قالوا وأيضا فروى أبو حفص المستملي عن محمد بن عبدالعزيز بن أبي رزمة حدثنا الفضل بن موسى القطيعي عن أبي العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قيل من هم قال الذين بدل سيئاتهم حسنات قالوا وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة فإنهم إنما سموا أبدالا لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة بالأعمال الحسنة فبدل الله سيئاتهم التي عملوها حسنات قالوا وأيضا فالجزاء من جنس العمل فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة بدلها الله من صحف الحفظة حسنات جزاء وفاقا
قالت الطائفة الأولى كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر على صحة قولكم وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات قد عذب عليها في النار حتى كان آخر أهلها خروجا منها فهذا قد عوقب على

سيئاته فزال أثرها بالعقوبة فبدل مكان كل سيئة منها حسنة وهذا حكم غير ما نحن فيه فإن الكلام في التائب من السيئات لا فيمن مات مصرا عليها غير تائب فأين أحدهما من الآخر وأما حديث الإمام أحمد فهو الحديث بعينه إسنادا ومتنا إلا أنه مختصر وأما حديث أبي هريرة فلا يثبت مثله ومن أبو العنبس ومن أبوه حتى يقبل منهما تفردهما بمثل هذا الأمر الجليل وكيف يصح مثل هذا الحديث عن رسول الله مع شدة حرصه على التنفير من السيئات وتقبيح أهلها وذمهم وعيبهم والإخبار بأنها تنقص الحسنات وتضادها فكيف يصح عنه أنه يقول ليتمنين أقوام أنهم أكثروا منها ثم كيف يتمنى المرء إكثاره منها مع سوء عاقبتها وسوء مغبتها وإنما يتمنى الإكثار من الطاعات وفي الترمذي مرفوعا ليتمنين أقوام يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء فهذا فيه تمني البلاء يوم القيامة لأجل مزيد ثواب أهله وهو تمني الحسنات وأما تمني الحسنات فهذا لا ريب فيه وأما تمني السيئات فكيف يتمنى العبد أنه أكثر من السيئات هذا ما لا يكون أبدا وإنما يتمنى المسيىء أن لو لم يكن أساء وأما تمنيه أنه ازداد من إساءته فكلا قالوا وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان

السيئة فحق وكذلك نقول إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة التي لولا الحسنة لحلت محلها قالوا وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله فهو حق بلا ريب ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها مقارنا لكسبهم إياها بفضله قالوا وأما قولكم إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف لا أنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها فهذا لا دليل لكم فيه فإن الله خالق أفعال العباد فهو المبدل للسيئات حسنات خلقا وتكوينا وهم المبدلون لها فعلا وكسبا قالوا وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم بدلها الله كذلك في صحف الأعمال فهذا حق وبه نقول وأنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحمل في الصحف بحسنات حلت موضعها
فهذا منتهى إقدام الطائفتين ومحط نظر الفريقين وإليك أيها المنصف الحكم بينهما فقد أدلى كل منهما بحجته فأقام بينته والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما فأرشد الله من أعان على هدى فنال به درجة الداعين إلى الله القائمين ببيان حججه ودينه أو عذر طالبا منفردا عفي طريق مطلبه قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق فغاية أمنيته أن يخلي بينه وبين سيره وأن لا يقطع عليه طريقه فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه فقد رضي بالدون وحصل على صفقة المغبون ومن شمر إليه ورام أن لا يعارضه معارض ولا يتصدى له ممانع فقد منى نفسه المحال وإن صبر على لأوائهاه وشدتها فهو والله الفوز المبين والحظ الجزيل وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب فالصواب إن شاء الله في هذه المسألة أن يقال لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة والحسنة إنما هي أمر وجودي يقتضي ثوابا ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة المنهي وذلك الكف والحبس أمر وجودي وهو متعلق

الثواب وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلا ولم يحدث به نفسه فهذا كيف يثاب على تركه ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب لكان مثابا على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى فإن الترك مستصحب معه والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط فهل يثاب على ذلك كله هذا مما لا يتوهم وإذا كانت الحسنة لا بد أن تكون أمرا وجوديا فالتائب من الذنوب التي عملها قد قارن كل ذنب منها ندما عليه وكف نفسه عنه وعزم علىترك معاودته وهذه حسنات بلا ريب وقد محت التوبة أثر الذنب وخلفه هذا الندم والعزم وهو حسنة قد بدلت تلك السيئة حسنة وهذا معنى قول بعض المفسرين يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها فتوبته منها حسنة حلت مكانها فهذا معنى التبديل لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة وقال بعض المفسرين في هذه الآية يعطيهم بالندم على كل سيئة أساؤوها حسنة وعلى هذا فقد زال بحمد الله الإشكال واتضح الصواب وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة وأما حديث أبي ذر وإن كان التبديل فيه في حق المصر الذي عذب على سيئاته فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته فإن الذنوب التي عذب عليها المصر لما زال أثرها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها مع العقوبة لا يقتضي زوال أثرها وتبديلها حسنات فإن الندم لم يكن في وقت ينفعه فلما عقوب عليه وزال أثرها بدلها الله له حسنات فزوال أثرها بالتوبة النصوح أعظم من زوال أثرها بالعقوبة فإذا بدلت بعد زوالها بالعقوبة حسنات فلئن تبدل بعد زوالها بالتوبة حسنات أولى وأحرى وتأثير التوبة في هذا المحو والتبديل أقوى من تأثير العقوبة لأن التوبة فعل اختياري أتى به العبد طوعا ومحبة لله وفرقا منه وأما العقوبة فالتكفير بها من جنس التكفير بالمصائب التي تصيبه

بغير اختياره بل بفعل الله ولا ريب أن تأثير الأفعال الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها في محو الذنوب أعظم من تأثير المصائب التي تناله بغير اختياره
ولنرجع الآن إلى المقصود وهو ما ذكره أبو العباس بن الصائف في علل المقامات فقد ذكرنا كلامه في علة مقام الإرادة وذكرنا أن الكلام على ذلك من وجوه هذا آخر الوجه الثاني منها
الوجه الثالث أن يقال قوله الزهد تعظيم للدنيا واحتباس عن الانتفاع بها إلى آخر الفصل إن أراد به أن زهده دليل على تعظيم الدنيا وأن لها في قلبه من القدر والمنزلة ما يكره لأجله نفسه على تركها أو مستلزم لذلك فإن الزهد لا يدل على هذا التعظيم ولا يستلزمه وإن كان من عوارض غلبات الطبع التي تذم مساكنتها وانحجاب القلب بها بل زهده فيها دليل على خروج عظمها من قلبه ومبالاته بها وترك الاهتبال بشأنها فكيف يكون هذا نقصا بوجه بل النقص في الزهد يكون من أحد وجوه
أولها أن يزهد فيما ينفعه منها ويكون قوة له على سيره ومعونة له على سفره فهذا نقص فإن حقيقة الزهد هي أن تزهد فيما لا ينفعك والورع أن تتجنب ما قد يضرك فهذا الفرق بين الأمرين
الثاني أن يكون زهده مشوبا إما بنوع عجز أو ملالة وسآمة وتأذية بها وبأهلها وتعب قلبه بشغله بها ونحو هذا من المزهدات فيها كما قيل لبعضهم ما الذي أوجب زهدك في الدنيا قال قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها فهذا زهد ناقص فلو صفت للزاهد تلك العوارض لم يزهد فيها بخلاف من كان زهده فيها لامتلاء قلبه من الآخرة ورغبته في الله وقربه فهذا لا نقص في زهده ولا علة من جهة كونه زهدا
الثالث أن يشهد زهده ويلحظه ولا يفنى عنه بما زهد لأجله فهذا نقص أيضا فالزهد كله أن تزهد في رؤية زهدك وتغيب عنه برؤية الفضل

ومطالعة المنة وأن لا تقف عنده فتنقطع بل أعرض عنه جادا في سيرك غير ملتفت إليه مستصغرا لحاله بالنسبة إلى مطلوبك مع أن هذه العلة مطردة في جميع المقامات على ما فيها كما سننبه عليه إن شاء الله فإن ربط هذا الشأن بالنصوص النبوية والعقل الصريح والفطرة الكاملة من أهم الأمور فلا يحسن بالناصح لنفسه أن يقنع فيه بمجرد تقليد أهله فما أكثر غلطهم فيه وتحكيمهم مجرد الذوق وجعل حكم ذلك الذوق كليا عاما فهذا ونحوه من مثارات الغلط
الوجه الرابع أن الزهد على أربعة أقسام أحدها فرض على كل مسلم وهو الزهد في الحرام وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب فلا بد من وجود مسببه ما لم ينعقد سبب آخر يضاده الثاني زهد مستحب وهو على درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه وهو الزهد في المكروه وفضول المباحات والتفنن في الشهوات المباحة الثالث زهد الداخلين في هذا الشأن وهم المشمرون في السير إلى الله وهو نوعان
أحدهما الزهد في الدنيا جملة وليس المراد تخليها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفرا منها وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية فلا يلتفت إليها ولا يدعها تساكن قلبه وإن كانت في يده فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهي في قلبك وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهي في يدك وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز الذي يضرب بزهده المثل مع أن خزائن الأموال تحت يده بل كحال سيد ولد آدم حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح ولا يزيده ذلك إلا زهدا فيها ومن هذا الأثر المشهور وقد روي مرفوعا وموقوفا ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها

بقيت لك والذي يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء
أحدها علم العبد أنها ظل زائل وخيال زائر وأنها كما قال الله تعالى فيها اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وقال الله تعالى إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون وقال تعالى واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا وسماها سبحانه متاع الغرور ونهى عن الاغترار بها وأخبرها عن سوء عاقبة المغترين وحذرنا مثل مصارعهم وذم من رضي بها واطمأن إليها وقال النبي ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها وفي المسند عنه حديث معناه أن الله

جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلا للدنيا فإنه وإن قزحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همة دنية وعقل حقير وقدر خسيس
الثاني علمه أن وراءها دارا أعظم منها قدرا وأجل خطرا وهي دار البقاء وأن نسبتها إليها كما قال النبي ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع فالزاهد فيها بمنزلة رجل في يده درهم زغل قيل له اطرحه فلك عوضه مائة ألف دينار مثلا فألقاه من يده رجاء ذلك العوض فالزهد فيها لكمال الرغبة فيما هو أعظم منها زهد فيها
الثالث معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئا كتب له منها وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها فإنه متى تيقن ذلك وثلج له صدره وعلم أن مضمونه منها سيأتيه بقي حرصه وتعبه وكده ضائعا والعاقل لا يرضى لنفسه

بذلك فهذه الأمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها وتثبت قدمه في مقامه والله الموفق لمن يشاء
النوع الثاني الزهد في نفسك وهو أصعب الأقسام وأشقها وأكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه فإن الزاهد يسهل عليه الزهد في الحرام لسوء مغبته وقبح ثمرته وحماية لدينه وصيانة لإيمانه وإيثارا للذة والنعيم على العذاب وأنفة من مشاركة الفساق والفجرة وحمية من أن يستأثر لعدوه ويسهل عليه الزهد في المكروهات وفضول المباحات علمه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم ويسهل عليه زهده في الدنيا معرفته بما وراءها وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأعلى وأما الزهد في النفس فهو ذبحها بغير سكين وهو نوعان أحدهما وسيلة وبداية وهو أن تميتها فلا يبقى لها عندك من القدر شيء فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها قد سبلت عرضها ليوم فقرها وفاقتها فهي أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها أو تجيبها إذا دعتك أو تكرمها إذا عصتك أو تغضب لها إذا ذمت بل هي عندك أخس مما قيل فيها أو ترفهها عما فيه حظك وفلاحك وإن كان صعبا عليها وهذا وإن كان ذبحا لها وإماتة عن طباعها وأخلاقها فهو عين حياتها وصحتها ولا حياة لها بدون هذا البتة وهذه العقبة هي آخر عقبة يشرف منها على منازل المقربين ويننحدر منها إلى وادي البقاء ويشرب من عين الحياة ويخلص روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق فيا قرة عينها به ويا نعيمها وسرورها بقربه ويا بهجتها بالخلاص من عدوها واللجوء إلى مولاها ومالك أمرها ومتولي مصالحها وهذا الزهد هو أول نقدة من مهر الحب فيا مفلس تأخر والنوع الثاني غاية وكمال وهو أن يبذلها للمحبوب جملة بحيث لا يستبقي منها شيئا بل يزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة محبوبه به فهل يجد من قلبه رغبة في

إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه فهكذا زهد المحب الصادق في نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه فهو يبذلها له دائما بتعرض منه لقبولها وجميع مراتب الزهد المتقدمة مباد ووسائل لهذه المرتبة ولكن لا يصح إلا بتلك المراتب فمن رام الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها فمتعن متمن كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلم قال بعض السلف إنما حرموا الوصول بتضييع الأصول فمن ضيع الأصول حرم الوصول وإذا عرف هذا فكيف يدعي أن الزهد من منازل العوام وأنه نقص في طريق الخاصة وهل الكمال إلا في الزهد وما النقص إلا في نقصانه والله الموفق للصواب فصل المثال الرابع التوكل قال أبو العباس هو للعوام أيضا لأنه وكل أمرك إلى مولاك والتجاؤك إلى علمه ومعرفته لتدبير أمرك وكفاية همك وهذا في طريق الخواص عمى عن الكفاية به ورجوع إلى الأسباب لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل فصار بدلا عن تلك الأسباب فإنك معلق بما رفضته من حيث معتقدك الانفصال وحقيقة التوكل عند القوم التوكل في تخليص القلب من علة التوكل وهو أن يعلم أن الله لم يترك أمرا مهملا بل فرغ من الأشياء وقدرها وإن اختلف منها شيء في المعقول أو تشوش في المحسوس أو اضطراب في المعهود فهو المدبر له وشأنه سوق المقادير إلى المواقيت والمتوكل من أراح نفسه من كل النظر في مطالعة السبب سكونا إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين عنده وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع والتوكل لا يمنع ومتى طالع بتوكله عرضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا فإذا خلص من رق هذه الأسباب ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الله كفاه الله كل

مهم ثم ذكر حكاية عن موسى أنه في رعايته نام عن غنمه فاستيقظ فوجد الذئب واضعا عصاه على عاتقه يرعاها فعجب من ذلك فأوحىالله إليه يا موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد
فيقال الكلام على هذا من وجوه
أحدها إن جعله التوكل من منازل العوام باطل كما تقدم بل الخاصة أحوج إليه من العامة وتوكل الخواص أعظم من توكل العوام والتوكل مصاحب للصادق من أول قدم يضعه في الطريق إلى نهايته وكلما ازداد قربه وقوي سيره ازداد توكله فالتوكل مركب السائر الذي لا يتأتى له السير إلا به ومتى نزل عنه انقطع لوقته وهو من لوازم الإيمان ومقتضياته قال الله تعالى وعلىالله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين فجعل التوكل شرطا في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عند انتفاء التوكل وفي الآية الأخرى وقال موسى يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فجعل دليل صحة الإسلام التوكل وقال تعالى وعلى الله فليتوكل المؤمنون فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل وإذا كان التوكل ضعيفا فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والتقوى وبين التوكل والهداية فأما التوكل والعبادة فقد جمع بينهما في سبعة مواضع من كتابه أحدهما في سورة أم

القرآن فقال إياك نعبد وإياك نستعين والثاني قوله حكاية عن شعيب أنه قال وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب الثالث قوله حكاية عن أوليائه وعباده المؤمنين أنهم قالوا ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير الرابع قوله تعالى لنبيه محمد واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا الخامس قوله ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون السادس قوله فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير السابع قوله قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب فهذه السبعة المواضع جمعت الأصلين التوكل وهو الوسيلة والإنابة وهي الغاية فإن العبد لا بد له من غاية مطلوبه ووسيلة موصلة إلى تلك الغاية فأشرف غاياته التي لا غاية له أجل منها عبادة ربه والإنابة إليه وأعظم وسائله التي لا وسيلة لها غيرها البتة التوكل على الله والاستعانة به ولا سبيل له إلى هذه الغاية إلا بهذه الوسيلة فهذه أشرف الغايات وتلك أشرف الوسائل وأما الجمع بين الإيمان والتوكل ففي مثل قوله تعالى قل هو الرحمن إمنا به وعليه توكلنا ونظيره قوله وعلى الله فتوكلوا

إن كنتم مؤمنين وقوله تعالى وعلى الله فليتوكل المؤمنون وأما الجمع بين التوكل والإسلام ففي قوله تعالى وقال موسى يا قوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وأما الجمع بين التقوى والتوكل ففي مثل قوله تعالى يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إلى قوله تعالى وتوكل على الله وكفىبالله وكيلا وقوله ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه وأما الجمع بين التوكل والهداية ففي مثل قول الرسل لقومهم ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا وقال الله تعالى لنبيه فتوكل على الله إنك على الحق المبين فأمر سبحانه بالتوكل عليه وعقب هذا الأمر بما هو موجب للتوكل مصحح له مستدع لثبوته وتحققه وهو قوله تعالى إنك على الحق المبين فإن كون العبد على الحق يقتضي تحقيق مقام التوكل على الله والاكتفاء به والإيواء إلى ركنه الشديد فإن الله هو الحق وهو ولي الحق وناصره ومؤيده وكافي من قام به فما لصاحب الحق أن لا يتوكل عليه وكيف يخاف وهو على الحق كما قالت الرسل لقومهم ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا فعجبوا من تركهم التوكل على الله وقد هداهم وأخبروا أن ذلك

لا يكون أبدا وهذا دليل على أن الهداية والتوكل متلازمان فصاحب الحق لعلمه بالحق ولثقته بأن الله ولي الحق وناصره مضطر إلى توكله علىالله لا يجد بدا من توكله فإن التوكل يجمع أصلين علم القلب وعمله أما علمه فيقينه بكفايةوكيله وكمال قيامه بما وكله إليه وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك وأما عمله فسكونه إلى وكيله وطمأنينته إليه وتفويضه وتسليمه أمره إليه وأن غيره لا يقوم مقامه في ذلك ورضاه بتصرفه له فوق رضاه بتصرفه هو لنفسه فبهذين الأصلين يتحقق التوكل وهما جماعه وإن كان التوكل دخل في عمل القلب من عمله كما قال الإمام أحمد التوكل عمل القلب ولكن لا بد فيه من العلم وهو إما شرط فيه وإما جزاء من ماهيته والمقصود أن القلب متى كان على الحق كان أعظم لطمأنينته ووثوقه بأن الله وليه وناصره وسكونه إليه فما له أن لا يتوكل على ربه وإذا كان على الباطل علما وعملا أو إحداهما لم يكن مطمئنا واثقا بربه فإنه لا ضمان له عليه ولا عهد له عنده فإن الله لا يتولى الباطل ولا ينصره ولا ينسب إليه بوجه فهو منقطع النسب إليه بالكلية فإنه سبحانه هو الموفق وقوله الحق ودينه الحق ووعده حق ولقاؤه حق وفعله حق ليس في أفعاله شيء باطل بل أفعاله سبحانه بريئة من الباطل كما أقواله كذلك فلما كان الباطل لا يتعلق به بل هو مقطوع البتة كان صاحبه كذلك ومن لم يكن له تعلق بالله العظيم وكان منقطعا عن ربه لم يكن الله وليه ولا ناصره ولا وكيله فتدبر هذا السر العظيم في اقتران التوكل والكفاية بالحق والهدى وارتباط أحدهما بالآخر ولو لم يكن في هذه الرسالة إلا هذه الفائدة السرية لكانت حقيقة أن تودع في خزانة القلب لشدة الحاجة إليها والله السمتعان عليه وعليه التكلان فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان ولجميع أعمال الإسلام وأن منزلته منها منزلة الجسد من الرأس فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل والله أعلم

الوجه الثاني أن قوله في التوكل إنه في طريق الخواص عمى عن الكفاية ورجوع إلى الأسباب إلخ مضمونه أن التوكل لا يتم إلا برفض الأسباب والإعراض عنها جملة والتوكل من أقوى الأسباب وأعظمها في حصول المطلوب فكأنه قد رفض سببا وتعلق بسبب وقد ناقض في أمره ولهذا قال فصار بدلا عن تلك الأسباب وكأنك تعلقت بما رفضته فهذه هي النكتة التي لأجلها صار التوكل عنده من منازل العوام وهذه هي غير مسألة الجمع بين التوكل والسبب بل هذه مسألة تعليل نفس التوكل فيقال قولك إنه عمى عن الكفاية ليس كذلك بل هو نظر إلى نفس الكفاية وملاحظة لها ولا ريب أن الكفاية من الله لا تنال إلا بأسبابها من عبوديته وسببها المقتضي لها هو التوكل كما قال الله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه أي كافيه فجعل التوكل سببا للكفاية فربط الكفاية بالتوكل كربط سائر الأسباب بمسبباتها فكيف يقال إن التوكل عمى عن الكفاية وهل التوكل إلا محض العبودية التي جزاؤها الكفاية وهي لا تحصل بدونه بل العلة ههنا شهود حصولها بفعلك وتوكلك غير ناظر إلى مسبب الأسباب الذي أجرى عليك هذا السبب ليوصلك به إلى الكفاية فأول الأمر وآخره منه فهو المنعم بالسبب والمسبب جميعا ولكن لا يوجب نظر العبد إلى المسبب المنعم بالسبب قطع نظره عن السبب والقيام به بل الواجب القيام بالأمرين معا
الوجه الثالث أن قوله إنه رجوع إلى الأسباب إن أراد به أنه رجوع إلى سبب ينقص العبودية ويضعف التوكل فليس كذلك وظاهر أن الأمر ليس كذلك وإن أراد به أنه رجوع إلى سبب نصبه الله مقتضيا للكفاية منه ورتب عليه جزاء لا يحصل بدونه فهذا حق ولكن القيام بهذا السبب

محض الكمال ونفس العبودية وهو كجعل الإسلام والإيمان والإحسان أسباب مقتضية للفلاح والسعادة بل كجعل سائر أعمال القلوب والجوارح أسبابا مقتضية لما رتب عليها من الجزاء وهل الكمال إلا القيام بهذه الأسباب فالأسباب التي تكون مباشرتها نقصا هي الأسباب التي تضعف التوكل وأما أن يكون التوكل نفسه ناقصا لكون التحقق به تحققا بالسبب فقلب للحقائق
الوجه الرابع أن قوله لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل إن أراد به رفض الأسباب جملة فهذا كما أنه ممتنع عقلا وحسا فهو محرم شرعا ودينا فإن رفض الأسباب بالكليةانسلاخ من العقل والدين وإن أراد به رفض الوقوف معها والوثوق بها وأنه يقوم قيام ناظر إلى سببها فهذا حق ولكن النقص لا يكون في السبب ولا في القيام به وإنما يكون في الإعراض عن المسبب تعالى كما تقدم فمنع الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل والشرع وإثباتها والوقوف معها وقطع النظر عن مسببها قدح في التوحيد والتوكل والقيام بها وتنزيلها منازلها والنظر إلى مسببها وتعلق القيام به جمع بين الأمر والتوحيد وبين الشرع والقدر وهو الكمال والله أعلم
الوجه الخامس قوله فصار التوكل بدلا عن تلك الأسباب هذا حق فإن التوكل من أعظم الأسباب ولكنه بدل عنها كما تكون الطاعة بدلا عن المعصية والتوحيد بدلا عن الشرك فهو بدل واجب مأمور به مطلوب من العبد والمذوم أن يجعل العبد الأسباب بدلا عن التوكل لا أن يجعل التوكل بدلا عن الأسباب
الوجه السادس قوله فكأنك تعلقت بما رفضته من حيث معتقدك الانفصال ليس كذلك فإن المرفوض هو التعلق بغير الله والالتفات إلى سواه فهذا هو الذي رفضه وأما الذي تعلق به فهو التوكل على الله واللجأ

إليه والتفويض إليه والاستعانة به فقد رفض المخلوق وتعلق بالخالق فكيف يقال إنه تعلق بما رفضه
الوجه السابع أن قوله من حيث معتقدك الانفصال يشير به إلى أن التوكل نوع تفرقة وانفصال يشهد فيه مع الله غيره وهذا مناف للفناء في التوحيد وأن لا يشهد مع الله غيره أصلا وهذا قطب رحى السير الذي يشير إليه القوم والعلم الذي يشمرون إليه ولأجله يجعلون كل ما دونه من المقامات معلولا ولا بد من فصل القول فيه بعون الله وتأييده فإنه نهاية إقدامهم وغاية مرماهم فنقول وبالله التوفيق
الفناء الذي يشار إليه على ألسنة السالكين ثلاثة أقسام فناء عن وجود السوي وفناء عن شهود السوي وفناء عن عبادة السوي وإرادته وليس هنا قسم رابع
فأما القسم الأول فهو فناء القائلين بوحدة الوجود فهو فناء باطل في نفسه مستلزم جحد الصانع وإنكار ربوبيته وخلقه وشرعه وهو غاية الإلحاد والزندقة وهذا هو الذي يشير إليه علماء الاتحادية ويسمونه التحقيق وغاية أحدهم فيه أن لا يشهد ربا وعبدا وخالقا ومخلوقا وآمرا ومأمورا وطاعة ومعصية بل الأمر كله واحد فيكون السالك عندهم في بدايته يشهد طاعة ومعصية ثم يرتفع عن هذا الفرق بكشف عندهم إلى أن يشهد الأفعال كلها طاعة لله لا معصية فيها وهو شهود الحكم والقدر فيشهدها طاعة لموافقتها الحكم والمشيئة وهذا ناقص عندهم أيضا إذ هو متضمن للفرق ثم يرتفع عندهم عن هذا الشهود إلى أن لا يشهد لا طاعة ولا معصية إذ الطاعة والمعصية إنما تكون من غير لغير وما ثم غير فإذا تحقق بشهود ذلك وفني فيه فقد فني عن وجود السوي فهذا هو غاية التحقيق عندهم ومن لم يصل إليه فهو محجوب ومن أشعارهم في هذا قول قائلهم

وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائق
وقول الآخر
ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من مدح ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع بالحكم
وقول الآخر
وما الموج إلا البحر لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد
والقسم الثاني من أقسام الفناء هو الذي يشير إليه المتأخرون من أرباب السلوك وهو الفناء عن شهود السوي مع تفريقهم بين الرب والعبد وبين الطاعة والمعصية وجعلهم وجود الخالق غير وجود المخلوق ثم هم مختلفون في هذا الفناء على قولين أحدهما أنه الغاية المطلوبة من السلوك وما دونه بالنسبة إليه ناقص ومن هنا يجعلون المقامات والمنازل معلولة والقول الثاني أنه من لوازم الطريق لا بد منه للسالك ولكن البقاء أكمل منه وهؤلاء يجعلونه ناقصا ولكن لا بد منه وهذه طريقة كثيرة من المتقدمين وهؤلاء يقولون إن الكمال شهود العبودية مع شهود المعبود فلا يغيب بعبادته عن معبوده ولا بمعبوده عن عبادته ولكن لقوة الوارد وضعف المحل وغلبة استيلاء الوارد على القلب حتى يملكه من جميع جهاته يقع الفناء والتحقيق أن هذا الفناء ليس بغاية ولا من لوازم الطريق بل هو عارض من عوارض الطريق يعرض لبعض السالكين دون جميعهم وسببه أمور ثلاثة
أحدها قصده وإرادته والعمل عليه فإنه إذا علم أنه الغاية المطلوبة شمر سائرا إليه عاملا عليه فإذا أشرف عليه وقف معه ونزل بواديه وطلب مساكنته فهؤلاء إنما يحصل لهم الفناء لأن سيرهم كان طلب حظهم ومرادهم من الله وهو الفناء لم يكن سيرهم علىتحصيل مراد الله منهم وهو القيام بعبوديته والتحقق بها والسائر على طلب تحصيل مراد الله منه لا يكاد الفناء يحل بساحته ولا يعتريه السبب الثاني قوة الوارد

بحيث يغمره ويستولي عليه فلا يبقى فيه متسع لغيره أصلا السبب الثالث ضعف المحل عن احتمال ما يرد عليه فمن هذه الأسباب الثلاثة يعرض الفناء ولما رأى الصادق في طريقه السالك إلى ربه أكثر أصحاب الفرق محجوبون على هذا المقام مشتتون في أودية الفرق وشهدوا نقصهم ورأوا ما هم فيه من الفناء أكمل ظنوا أنه لا كمال وراء ذلك وأنه الغاية المطلوبة فمن هنا جعلوه غاية
ولكن أكمل من ذلك وأعلى وهو الفناء عن عبادة السوي وإرادته وخشيته ورجائه والتوكل عليه والسكون إليه فيفنى بعبادة ربه ومحبته وخشيته ورجائه والتوكل عليه وبالسكون إليه عن عبادة غيره وعن محبته ورجائه والتوكل عليه مع شهود الغير ومعاينته فهذا أكمل من فنائه عن عبودية الغير ومحبته مع عدم شهوده له وغيبته عنه فإذا شهد الغير في مرتبته أوجب شهوده له زيادة في محبة معبوده وتعظيما له وهروبا إليه وضنا به فإن نظر المحب إلى مبادي محبوبه ومضاده يوجب زيادة حبه له وفي هذا المعنى قال القائل
وإذا نظرت إلى أمري زادني ... حبا له نظري إلى الأمراء
وكان النبي يقول في دعائه اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت / ح / وفي سجوده اللهم لك سجدت وبك آمنت / ح / وكذلك في ركوعه اللهم

لك ركعت وبك آمنت / ح / فهذا دعاء من قد جمع بين شهود عبوديته وشهود معبوده ولم يغب بأحدهما عن الآخر وهل هذا إلا كمال العبودية أن يشهد ما يأتي به من العبودية موجها لها إلى المعبود الحق محضرا لها بين يديه متقربا بها إليه فأما الغيبة عنها بالكلية بحيث تبقى الحركات كأنها طبيعية غير واقعة بالإرادة فهذا وإن كان أكمل من حال الغائب بشهود عبوديته عن معبوده فحال الجامع بين شهود العبودية والمعبود أكمل منهما وإذا عرفت هذه القاعدة ظهر إن تعليله التوكل بما ذكر تعليل باطل
الوجه الثامن أن التوكل على الله نوعان أحدهما توكل عليه في تحصيل حظ العبد من الرزق والعافية وغيرهما والثاني توكل عليه في تحصيل مرضاته فأما النوع الأول فغايته المطلوبة وإن لم تكن عبادة لأنها محض حظ العبد فالتوكل على الله في حصوله عبادة فهو منشأ لمصلحة دينه ودنياه وأما النوع الثاني فغايته عباده وهو في نفسه عبادة فلا علة فيه بوجه فإنه استعانة بالله على ما يرضيه فصاحبه متحقق بإياك نعبد وإياك نستعين فتركه ترك لشطر الإيمان والعلة إنما هي في ضعف هذا التوكل فهب أن التوكل في حصول الحظ معلول فيلزم من هذا أن يكون التوكل في حصول مراد الرب سبحانه ومرضاته معلولا
الوجه التاسع قوله وحقيقة التوكل عند القوم التوكل في تخليص القلوب من علة التوكل فيقال إذا كان هذا التوكل عندك ليس بمعلول ولا هو عمى عن الكافية ولا رجوع إلى الأسباب بعد رفضها بطل تعليل التوكل بما عللته به وإن كانت هذه العلة بعينها موجودة في هذا التوكل

بطل أن يكون علة فلزم بطلان كونه معلولا على التقديرين وظهر أن العلة في التوكل لا تخرج عن أحد شيئين إما أن يكون متعلقه حظا من حظوظك وإما وقوفك معه وركونك إليه فقط فإذا خلص التوكل من هذا وهذا فلا علة تلحقه ولا نقيصة تدركه
الوجه العاشر أن علة التوكل عنده هي ترك التوكل كما فسره فكيف يتوكل في ترك التوكل وهل هذا إلا جمع بين متضادين
الوجه الحادي عشر قوله وهو أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى لم يترك أمرا مهملا بل فرغ من الأشياء وقدرها وإن اختلف منها شيء في العقول أو تشوش في المحسوس أو اضطرب في المعهود فهو المدبر له وشأنه سوق المقادير إلى المواقيت المتوكل من أراح نفسه من كد النظر في مطالعة السبب سكونا إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين عنده إلى آخر كلامه فيقال هو سبحانه فرغ من الأشياء وقدرها بأسبابها المفضية إليها فكما أن المسببات من قدره الذي فرغ منه فأسبابها أيضا من قدره الذي فرغ منه فتقديره المقادير بأسبابها لا ينافي القيام بتلك الأسباب بل يتوقف حصولها عليها وقد سئل النبي فقيل له أرأيت أدوية نتداوى بها ورقي نسترقي بها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله / ح / وسئل أعلم أهل الجنة والنار فقال

نعم فقالوا ففيم العمل قالوا اعملوا فكل مسير لما خلق له فأمرهم بالأعمال وأخبرهم أن الله يسر كل عبد لما خلق له فجعل عمله سببا لنيل ما خلق له من الثواب والعقاب فلا بد من إثبات السبب والمسبب جميعا
الوجه الثاني عشر قوله المتوكل من أراح نفسه من كد النظر في مطالعة السبب سكونا إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين عنده فهذا الكلام إن أخذ على إطلاقه فهو باطل قطعا فإن السكون إلى ما سبق من القسمة وترك السبب في أعمال البر عين العجز وتعطيل الأمر والشرع ولا يجوز شرعا ولا عقلا التسوية بين الحالين وأما السكون إلى ما سبق من القسمة في أسباب المعيشة فهو حق ولكن الكمال أن يكون ساكنا إلى ما سبق مع قيامه وهذه حالة الكملة من الصحابة ومن بعدهم فالكمال هو تنزيل الأسباب منازلها علما وعملا لا الإعراض عنها ومحوها ولا الانتهاء إليها والوقوف عندها
الوجه الثالث عشر قوله مع استواء الحالين عنده وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع والتوكل لا يمنع يشير به إلى استواء الحالين في مباشرة السبب وتركه نظرا إلى ما سبق وهذا ليس بمأمور ولا معذور فإنه لا تستوي الحالتان شرعا ولا قدرا وكيف يستوي مالم يسوه الله شرعا ولا قدرا

الوجه الرابع عشر قوله الطلب لا يجمع والتوكل لا يمنع فقد بين أن التوكل لا ينافي الطلب بل حقيقة التوكل وكماله مقارنته للطلب ومصاحبته للسبب وأما توكل مجرد عن الطلب والسبب فعجرز وأماني فتوكل الحراث إنما هو بعد شق الأرض وبذرها وحينئذ يصح منه التوكل في طلوع الزرع وأما توكله من غير حرث ولا بذر فعجز وبطالة
الوجه الخامس عشر قوله ومتى طالع بتوكله عرضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا فإذا خلص من رق هذه الأسباب ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الله كفاه كل مهم فيقال التوكل يكون في أحد شيئين إما في حصول حظ العبد ورزقه ونصره وعافيته وإما في حصول مراد ربه منه وكلاهما عبادة مأمور بها والثاني أكمل من الأول بحسب المتوكل فيه ولكن توكله في الأول لا يكون معلولا من حيث هو توكل وإنما تكون علته أن صرف توكله إلى غيره أولى بالتوكل منه وهذا إنما يكون نقصا إذا ضعف توكله في الأمر ومراد الله منه وأما إن لم يضعفه بل أعطى كل مقام حقه من التوكل فهذا محض العبودية والله أعلم فصل المثال الخامس الصبر قال أبو العباس وهو من منازل العوام أيضا لأن الصبر حبس النفس على مكروه وعقل اللسان عن الشكوى ومكابدة الغصص في تحمله وانتظار الفرج عن عاقبته وهذا في طريق الخاصة تجلد ومناوأة وجرأة ومنازعة فإن حاصله يرجع إلى كتمان الشكوى في تحمل الأذى بالبلوى وتحقيقه الخروج عن الشكوى بالتذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى وقيل إنه على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض فالأول التصبر وهو تحمل مشقة وتجرع غصة

والثبات على ما يجري من الحكم وهذا هو التصبر لله وهو صبر العوام والثاني الصبر وهو نوع سهولة تخفف عن المبتلي بعض الثقل وتسهل عليه صعوبة المراد وهو الصبر لله وهو نوع سهولة وهو صبر المريدين والثالث الاصطبار وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى وهذا هو الصبر على الله وهو صبر العارفين والكلام على هذا من وجوه
أحدها أن يقال الصبر نصف الدين فإن الإيمان نصفان رد نصف صبر ونصف شكر قال تعالى إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وقال النبي والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن فمنازل الإيمان كلها بين الصبر والشكر والذي يوضح هذا
الوجه الثاني وهو أن العبد لا يخلو قط من أن يكون في نعمة أو بلية فإن كان في نعمة ففرضها الشكر والصبر وأما الشكر فهو قيدها وثباتها والكفيل بمزيدها وأما الصبر فعن مباشرة الأسباب التي تسلبها وعلى القيام بالأسباب التي تحفظها فهو أحوج إلى الصبر فيها من حاجة المبتلى ومن هنا يعلم سر مسألة الغني الشاكر والفقير الصابر وأن كلا منهما محتاج إلى الشكر والصبر وأنه قد يكون صبر الغني أكمل من صبر الفقير كما قد يكون شكر الفقير أكمل فأفضلهما أعظمهما شكرا وصبرا فإن فضل أحدهما في ذلك فضل صاحبه فالشكر مستلزم للصبر لا يتم إلا به والصبر مستلزم للشكر لا يتم إلا به فمتى ذهب الشكر ذهب الصبر ومتى ذهب الصبر ذهب الشكر وإن كان في بلية ففرضها الصبر والشكر

أيضا أما الصبر فظاهر وأما الشكر فللقيام بحق الله عليه في تلك البلية فإن لله على العبد أن يقوم بعبوديته في هذا وهذا فعلم أنه لا انفكاك له عن الصبر ما دام سائرا إلى الله
الوجه الثالث أن الصبر ثلاثةأقسام إما صبر عن المعصية فلا يرتكبها وإما صبر على الطاعة حتى يؤديها وإما صبر على البلية فلا يشكو ربه فيها وإن كان العبد لا بد له من واحد من هذه الثلاثة فالصبر لازم له أبدا لا خروج له عنه البتة
الوجه الرابع أن الله سبحانه ذكر الصبر في كتابه في نحو تسعين موضعا فمرة أمر به ومرة أثنى على أهله ومرة أمر نبيه أن يبشر به أهله ومرة جعله شرطا في حصول النصر والكفاية ومرة أخبر أنه مع أهله وأثنى به على صفوته من العالمين وهم أنبياؤه ورسله فقال عن نبيه أيوب إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب وقال لخاتم أنبيائه ورسله فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وقال واصبر وما صبرك إلا بالله وقال يوسف الصديق وقد قال له إخوته إءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وهذا يدل على أن الصبر من أجل مقامات الإيمان وأن أخص الناس بالله وأولاهم به أشدهم قياما وتحققا به وأن الخاصة أحوج إليه من العامة
الوجه الخامس أن الصبر سبب في حصول كل كمال فأكمل الخلق أصبرهم ولم يتخلف عن أحد كماله الممكن إلا من ضعف صبره فإن كمال العبد بالعزيمة والثبات فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص ومن كانت له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص فإذا انضم الثبات إلى

العزيمة أثمر كل مقام شريف وحال كامل ولهذا في دعاء النبي الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ومعلوم أن شجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر فلو علم العبد الكنز الذي تحت هذه الأحرف الثلاثة أعني اسم الصبر لما تخلف عنه قال النبي ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر وقال عمر بن الخطاب حين غشي عليه أدركناه بالصبر وفي مثل هذا قال قائل
نزه فؤادك عن سوانا والقنا ... فجنابنا حل لكل منزه
والصبر طلسم لكنز وصالنا ... من حل ذا الطلسم فاز بكنزه
فالصبر طلسم على كنز السعادة من حله ظفر بالكنز
الوجه السادس قوله الصبر حبس النفس على مكروه وعقل اللسان عن الشكوى ومكابدة الغصص في تحمله وانتظار الفرج عند عاقبته فيقال هذا أحد أقسام الصبر وهو الصبر على البلاء وأما الصبر على الطاعة فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه وقد لا يعرض فيه بل يتحلى

بها ويأتي بها محبة ورضى ومع هذا فالصبر واقع عليها فإنه حبس النفس على مداومتها والقيام بها قال الله تعالى واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداوة والعشي وأما الصبر عن المعصية فقد يعرض فيه ذلك أو بعضه وقد لا يعرض فيه لتمكن الصابر من قهر داعيها وغلبته وإذا كان ما ذكر من الأمور الأربعة إنما يعرض في الصبر على البلية فقوله إنه في طريق الخاصة تجلد ومناوأة وجرأة ومنازعة ليس كذلك وإنما فيه التجلد فأين المناوأة والجرأة والمنازعة وأما لوازم الطبيعة من وجود ألم البلوى فلا تنقلب ولا تعدم فلا يصح أن يقال إن وجود التألم والتجلد عليه وحبس النفس عن التسخط واللسان عن الشكوى جرأة ومنازعة بل هو محض العبودية والاستكانة وامتثال الأمر وهو من عبودية الله المفروضة على عبده في البلاء فالقيام بها عين كمال العبد ولوازم الطبيعة لا بد منها ومن رام أن لا يجد البرد والحر والجوع والعطش والألم عند تمام أسبابها وعللها فقد رام الممتنع وهل يكون الأجر إلا على وجود تلك الآلام والمشاق والصبر عليها وقد ثبت عن النبي أنه قال أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل وقيل له في مرضه إنك لتوعك وعكا شديدا قال أجل إن

لي أجر رجلين منكم يعني في وعكة ولا ريب أن ذلك الوعك مؤلم له وأيضا في مرض موته قال وارأساه وهذا إنما هو من وجود ألم الصداع وكان يقول في غمرات الموت اللهم أعني على سكرات الموت وهذا كله لتكميل أجره وزيادة رفعة درجاته وهل كان ذلك

إلا محض العبودية وعين الكمال وهل الجرأة والمناوأة والمنازعة إلا في ترك الصبر وفي التسخط والشكوى
الوجه السابع قوله فإن حامله يرجع إلى كتمان الشكوى في تحامل الأذى بالبلوى والاستبشار باختيار المولى فيقال الذي يمكن الخروج عنه هو الشكوى وأما أن يخرج عن ذوق البلوى فلا يجده أو يتلذذ به فهذا غير ممكن ولا هو في الطبيعة وإنما الممكن أن يشاهد العبد في تضاعيف البلاء لطف صنع الله به وحسن اختياره له وبره به في حمله عنه مؤنة حمله وتشتغل النفس باستخراج لطائف صنع الله به وبره وحسن اختياره عن شهود حمله فيحصل له لذة بما شهده من ذلك وفوق هذا مرتبة أرفع منه وهي أن يشهد أن هذا مراد محبوبه وأنه بمرأى منه ومسمع وأنه هديته إلى عبده وخلعته التي خلعها عليه ليرفل له في أذيال التذلل والمسكنة والتضرع لعزته وجلاله فيعلم العبد أن حقيقة المحبة هي موافقة المحبوب في محابه فيحب ما يحبه محبوبه فيحب العبد تلك الحال من حيث موافقته لمحبوبه وإن كرهها من حيث الطبع البشري فإن هذه الكراهة لا تنافي محبته لها كما يكره طبعه الداء الكريه وهو يحبه من وجه آخر وهذا لا ينكر في المحبة المتعلقة بالمخلوق مع ضعفها وضعف أسبابها كما قال القائل في ذلك
أهوى هواه وبعدي عنه يعجبه ... فالبعد قد صار لي في حبه أربا
وقال الآخر
وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا ... ما من يهون عليك ممن أكرم
وإنه لتبلغ المحبة بالعبد إلى حيث يفنى بمراد محبوبه عن مراده هو منه فإذا شهد مراد محبوبه أحبه وإن كان كريها إليه فهذا لا ينكر ولا ينافي التألم بمراد المحبوب المنافي للمحب وصبره عليه بل يجتمع في حقه الأمران وتقوى هذه المحبة باستبشاره وعلمه بعاقبة تلك البلوى

وإفضائها إلى غاية النعيم واللذة فكلما قوي علمه بذلك وقويت محبته لمن ذكره بابتلائه ازداد تلذذه بها مع الكراهية الطبيعية التي هي من لوازم الخلقة ولا سيما إذا علم المحب الذي أحب الأشياء إليه أن يجري ذكره على بال محبوبه أن محبوبه قد ذكره بنوع من الامتحان فإنه يفرح بذكره له وإن ساءه ما ذكره به كما قال القائل
لئن ساءني أن نلتني بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالكا
الوجه الثامن قوله وهو على ثلاث مقامات مرتبة بعضها فوق بعض فالأول التصبر إلى قوله وهو صبر العوام فيقال لا ريب أن التصبر مؤذن بتكلف وتحمل على كره ولكن هذا لا بد منه في الصبر وهو سببه الذي ينال به فالتصبر من العبد والصبر ثمرته التي يفرعها الله إذا تعاطاه وتكلفه كما قال النبي ومن يتصبر يصبره الله فمنزلة التصبر من الصبر منزلة التعلم والتفهم من العمل والفهم فلا بد منه في حصول الصبر
الوجه التاسع قوله والثاني الصبر وهو نوع سهولة يخفف عن المبتلى بعض الثقل ويسهل عليه صعوبة المراد وهو الصبر لله وهو صبر المريدين فقد تقدم أن الصبر ثمرة التصبر وكلاهما إنما يحمد إذا كان لله وإنما يكون إذا كان بالله فما لم يكن به لا يكون وما لم يكن له لا ينفع ولا يثمر فكلاهما لا يحصل للمريد السالك مقصوده إلا أن يكون بالله ولله قال تعالى في الصبر به واصبر وما صبرك إلا بالله وقال في الصبر له واصبر لحكم ربك واختلف الناس أي الصبرين أعلى وأفضل

الصبر له أو به فقالت طائفة منهم صاحب منازل السائرين وأضعف الصبر الصبر لله وهو صبر العامة وفوقه الصبر بالله وهو صبر العابد الذي تصبر نفسه لأمر الله طالبا لمرضاته وثوابه فهو صابر على العمل صابر عن المحرمات وأما الصبر به فهو تبرؤ من الحول والقوة وإضافة ذلك إلى الله وهو صبر المريد وأما الصبر على الله فصبر السالك على ما يجيء به متعلق أقداره وأحكامه والصواب أن الصبر لله أكمل من لاصبر به فإن الصبر له متعلق بإلهيته ومحبته والصبر به متعلق بربوبيته ومشيئته وما هو له أكمل مما هو به فإن ما هو له هو الغاية وما هو به هو الوسيلة فالصبر به وسيلة والصبر له غاية وبينهما من التفاوت ما بين الغايات والوسائل وأيضا فإن الصبر له متعلق بقوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وهاتان الكلمتان منقسمتان بين العبد وبين الله كما ثبت عن النبي فيما يروي عن ربه و إياك نعبد وهي التي لله وإياك نستعين هي التي للعبد وما لله أكمل مما للعبد فما تعلق بما هو له أفضل مما تعلق بما

هو للعبد وأيضا فالصبر له مصدره المحبة والصبر به مصدره الاستعانة والمحبةأكمل من الاستعانة وأما الصبر على الله فهو الصبر على أحكامه الدينية والكونية فهو يرجع إلى الصبر على أوامره والصبر على ابتلائه فليس في الحقيقة قسما ثالثا والله أعلم فقد تبين أن الصبر بجميع أقسامه أصل مقامات الإيمان وهو أصل لكمال العبد الذي لا كمال له بدونه ولا يذم منه إلا قسم واحد وهو الصبر عن الله فإنه صبر المعرضين المحجوبين فالصبر عن المحبوب أقبح شيء وأسوؤه وهو الذي يسقط المحب من عين محبوبه فإن المحب كلما كان أكمل محبة كان صبره عن محبوبه متعذرا
الوجه العاشر قوله الثالث الاصطبار وهو التلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار المولى وهذا هو الصبر على الله وهو صبر العارفين فيقال الاصطبار افتعال من الصبر كالاكتساب والاتخاذ وهو مشعر بزيادة المعنى على الصبر كأنه صار سجية وملكة فإن هذا البناء مؤذن بالاتخاذ والاكتساب قال تعالى فارتقبهم واصطبر فالاصطبار أبلغ من الصبر كما أن الاكتساب أبلغ من الكسب ولهذا كان في العمل الذي يكون على صاحبه والكسب فيما له قال تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت تنبيها على أن الثواب يحصل لها بأدنى سعي وكسب وأن العقاب إنما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه وإذا علم العقاب إنما هو باكتسابها وتصرفها وما تعانيه وإذا علم هذا فالتلذذ بالبلوى والاستبشار باختيار الله سبحانه لا يخص الاصطبار بل يكون مع الصبر ومع التصبر ولكن لما كان الاصطبار أبلغ من الصبر وأقوى كان بهذا التلذذ والاستبشار أولى والله أعلم

قاعدة الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة
أحدها علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب
السبب الثاني الحياء من الله سبحانه فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومسمع وكان حييا استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه
السبب الثالث مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد فما أذنب عبد ذنبا إلا زالت عنه نعمةمن الله بحسب ذلك الذنب فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها وإن أصر لم ترجع إليه ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها قال الله تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأعظم النعم الإيمان وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبة يزيلها ويسلبها وقال بعض السلف أذنبت ذنبا فحرمت قيام الليل سنة وقال آخر أذنبت ذنبا فحرمت فهم القرآن وفي مثل هذا قيل
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب عياذا بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته
السبب الرابع خوف الله وخشية عقابه وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله وهذا السبب يقوى بالعلم

واليقين ويضعف بضعفهما قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال بعض السلف كفى بخشية الله علما والاغترار بالله جهلا
السبب الخامس محبة الله وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه فإن المحب لمن يحب مطيع وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها وفرق بين من يحمله علىترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده وفي هذا قال عمر نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه يعني أنه لو لم يخف من الله لكان في قلبه من محبة الله وإجلاله ما يمنعه من معصيته فالمحب الصادق عليه رقيب من محبوبه يرعى قلبه وجوارحه وعلامة صدق المحبة شهود هذا الرقيب ودوامه وههنا لطيفة يجب التنبه لها وهي أن المحبة المجردة لا توجب هذا الأثر ما لم تقترن بإجلال المحبوب وتعظيمه فإذا قارنها بالإجلال والتعظيم أوجبت هذا الحياء والطاعة وإلا فالمحبة الخالية عنهما إنما توجب نوع أنس وانبساط وتذكر واشتياق ولهذا يتخلف عنها أثرها وموجبها ويفتش العبد قلبه فيرى نوع محبة لله ولكن لا تحمله على ترك معاصيه وسبب ذلك تجردها عن الإجلال والتعظيم فما عمر القلب شيء كالمحبةالمقترنة بإجلال الله وتعظيمه وتلك من أفضل مواهب الله لعبده أو أفضلها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء

السبب السادس شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع من قدرها وتخفض منزلتها وتحقرها وتسوي بينها وبين السفلة
السبب السابع قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها والضرر الناشيء منها من سواد الوجه وظلمة القلب وضيقه وغمه وحزنه وألمه وانحصاره وشدة قلقه واضطرابه وتمزق شمله وضعفه عن مقاومة عدوه وتعريه من زينته والحيرة في أمره وتخلي وليه وناصره عنه وتولي عدوه المبين له وتواري العلم الذي كان مستعدا له عنه ونسيان ما كان حاصلا له أو ضعفه ولا بد ومرضه الذي إذا استحكم به فهو الموت ولا بد فإن الذنوب تميت القلوب ومنها ذله بعد عزه ومنها أنه يصير أسيرا في يد أعدائه بعد أن كان ملكا متصرفا يخافه أعداؤه ومنها أنه يضعف تأثيره فلا يبقى له نفوذ في رعيته ولا في الخارج فلا رعيته تطيعه إذا أمرها ولا ينفذ في غيرهم ومنها زوال أمنه وتبدله به مخافة فأخوف الناس أشدهم إساءة ومنها زوال الأنس والاستبدال به وحشة وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة ومنها زوال الرضى واستبداله بالسخط ومنها زوال الطمأنينة بالله والسكون إليه والإيواء عنده واستبداله بالطرد والبعد منه ومنها وقوعه في بئر الحسرات فلا يزال في حسرة دائمة كلما نال لذة نازعته نفسه إلى نظيرها إن لم يقض منها وطرا أو إلى غيرها إن قضى وطره منها وما يعجز عنه من ذلك أضعاف أضعاف ما يقدر عليه وكلما اشتد نزوعه وعرف عجزه اشتدت حسرته وحزنه فيا لها نارا قد عذب بها القلب في هذه الدار قبل نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ومنها فقره بعد غناه فإنه كان غنيا بما معه من رأس مال الإيمان وهو يتجر به ويربح الأرباح الكثيرة فإذا سلب رأس ماله أصبح فقيرا معدما فإما أن يسعى بتحصيل رأس مال آخر بالتوبة النصوح والجد والتشمير وإلا فقد فاته ربح كثير بما أضاعه من رأس ماله ومنها نقصان رزقه فإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه ومنها

ضعف بدنه ومنها زوال المهابة والحلاوة التي لبسها بالطاعة فتبدل بها مهانة وحقارة ومنها حصول البغضة والنفرة منه في قلوب الناس ومنها ضياع أعز الأشياء عليه وأنفسها وأغلاها وهو الوقت الذي لا عوض منه ولا يعود إليه أبدا ومنها طمع عدوه فيه وظفره به فإنه إذا رآه منقادا مستجيبا لما يأمره اشتد طمعه وحدث نفسه بالظفر به وجعله من حزبه حتى يصير هو وليه دون مولاه الحق ومنها الطبع والرين على قلبه فإن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب منها صقل قلبه وإن أذنب ذنبا آخر نكت فيه نكتة أخرى ولا تزال حتى تعلو قلبه فذلك هو الران قال الله تعالى كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ومنها أنه يحرم حلاوةالطاعة فإذا فعلها لم يجد أثرها في قلبه من الحلاوة والقوة ومزيد الإيمان والعقل والرغبة في الآخرة فإن الطاعة تثمر هذه الثمرات ولا بد ومنها أن تمنع قلبه من ترحله من الدنيا ونزوله بساحة القيامة فإن القلب لا يزال مشتتا مضيعا حتى يرحل من الدنيا وينزل في الآخرة فإذا نزل فيها أقبلت إليه وفود التوفيق والعناية من كل جهة واجتمع على جمع أطرافه وقضاء جهازه وتعبئة زاده ليوم معاده وما لم يترحل إلىالآخرة ويحضرها فالتعب والعناء والتشتت والكسل والبطالة لازمة له لا محالة ومنها إعراض الله وملائكته وعباده عنه فإن العبد إذا أعرض عن طاعة الله واشتغل بمعاصيه أعرض الله عنه فأعرضت عنه ملائكته وعباده كما أنه إذا أقبل على الله أقبل الله عليه وأقبل بقلوب خلقه إليه ومنها أن الذنب يستدعي ذنبا آخر ثم يقوى أحدهما بالآخر فيستدعيان ثالثا ثم تجتمع الثلاثة فتستدعي رابعا وهلم جرا حتى تغمره ذنوبه وتحيط به خطيئته قال بعض السلف إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها ومنها علمه بفوات ما هو أحب إليه وخير له منها من جنسها وغير

جنسها فإنه لا يجمع الله لعبده بين لذة المحرمات في الدنيا ولذة ما في الآخرة كما قال تعالى ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فالمؤمن لا يذهب طيباته في الدنيا بل لا بد أن يترك بعض طيباته للآخرة وأما الكافر فإنه لا يؤمن بالآخرة فهو حريص على تناول حظوظه كلها وطيباته في الدنيا ومنها علمه بأن أعماله هي زاده ووسيلته إلى دار إقامته فإن تزود من معصية الله أوصله ذلك الزاد إلى دار العصاة والجناة وإن تزود من طاعته وصل إلى دار أهل طاعته وولايته ومنها علمه بأن عمله هو وليه في قبره وأنيسه فيه وشفيعه عند ربه والمخاصم والمحاج عنه فإن شاء جعله له وإن شاء جعله عليه ومنها علمه بأن أعمال البر تنهض بالعبد وتقوم به وتصعد إلى الله به فبحسب قوة تعلقه بها يكون صعوده مع صعودها وأعمال الفجور تهوي به وتجذبه إلى الهاوية وتجره إلى أسفل سافلين بحسب قوة تعلقه بها يكون هبوطه معها ونزوله إلى حيث يستقر به قال الله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقال تعالى إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء فلما لم تفتح أبواب السماء لأعمالهم بل أغلقت عنها لم تفتح لأرواحهم عند المفارقة بل أغلقت عنها وأهل الإيمان والعمل الصالح لما كانت أبواب السماء مفتوحة لأعمالهم حتى وصلت إلى الله سبحانه فتحت لأرواحهم حتى وصلت إليه تعالى وقامت بين يديه فرحمها وأمر بكتابة اسمها في عليين ومنهاخروجه من حصن الله الذي لا ضيعة على من دخله فيخرج بمعصيته منه إلى حيث يصير نهبا للصوص وقطاع الطريق فما الظن بمن خرج من حصن

حصين لا تدركه فيه آفة إلى خربة موحشة هي مأوى اللصوص وقطاع الطريق فهل يتركون معه شيئا من متاعه ومنها أنه بالمعصية قد تعرض لمحق بركته وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علما وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علما فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته وفي بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي ومن ذ الذي عصاني فسعد بمعصيتي
السبب الثامن قصر الأمل وعلمه بسرعة انتقاله وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه حريص على الانتقال بخير ما بحضرته فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل
السبب التاسع مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس فإن قوةالداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات فإنها تطلب لها مصرفا فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام ومن أعظم الأشياء ضررا على العبد بطالته وفراغه فإن النفس لا تقعد فارغة بل إن لم يشغلها بما ينفعها شغلته بما يضره ولا بد
السبب العاشر وهو الجامع لهذه الأسباب كلها ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب والعقاب والجنة والنار امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط فإذا قوي

سراج الإيمان في القلب وأضاءت جهاته كلها به وأشرق نوره في أرجائه سرى ذل النور إلى الأعضاء وانبعث إليها فأسرعت الإجابة لداعي الإيمان وانقادت له طائعة مذللة غير متثاقلة ولا كارهة بل تفرح بدعوته حين يدعوها كما يفرح الرجل بدعوة حبيبه المحسن إليه إلى محل كرامته فهو كل وقت يترقب داعيه ويتأهب لموافاته والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم فصل والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة هذه الأسباب ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة ومن أقوى أسبابها الإيمان والمحبة فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه
وههنا مسألة تكلم فيها الناس وهي أي الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية أم صبره على الطاعة فطائفة رجحت الأول وقالت الصبر عن المعصية من وظائف الصديقين كما قال بعض السلف أعمال البر يفعلها البر والفاجر ولا يقوى على ترك المعاصي إلا صديق قالوا ولأن داعي المعصية أشد من داعي ترك الطاعة فإن داعي المعصية إلى أمر وجودي تشتهيه النفس وتلتذ به والداعي إلى ترك الطاعة الكسل والبطالة والمهانة ولا ريب أن داعي المعصية أقوى قالوا ولأن العصيان قد اجتمع عليه داعي النفس والهوى والشيطان وأسباب الدنيا وقرناء الرجل وطلب التشبه والمحاكاة وميل اطلبع وكل واحد من هذه الدواعي يجذب العبد إلى المعصية ويطلب أثره فكيف إذا اجتمعت وتظاهرت على القلب فأي صبر أقوى من صبر عن إجابتها ولولا أن الله يصبره لما تأتى منه الصبر وهذا القول كما ترى حجته في غاية الظهور ورجحت طائفة الصبر على الطاعة بناء منها على أن فعل المأمور أفضل من ترك المنهيات واحتجت على ذلك بنحو من عشرين حجة ولا ريب أن فعل المأمورات

إنما يتم بالصبر عليها فإذا كان فعلها أفضل كان الصبر عليها أفضل وفصل النزاع في ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية فالصبر على الطاعة المعظمة الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة وصبر العبد على الجهاد مثلا أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الصبح وصوم يوم تطوعا ونحوه فهذا فصل النزاع في المسألة والله أعلم فصل والصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة
أحدها شهود جزائها وثوابها
الثاني شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها
الثالث شهود القدر السابق الجاري بها وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يخلق فلا بد منها فجزعه لا يزيده إلا بلاء
الرابع شهوده حق الله عليه في تلك البلوى وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة أو الصبر والرضا على أحد القولين فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه
الخامس شهود ترتبها عليه بذنبه كما قال الله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة قال علي بن أبي طالب ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة
السادس أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختارها وقسمها وأن العبودية

تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه فإن لم يوف قدر المقبام حقه فهو لضعفه فلينزل إلى مقام الصبر عليها فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدى لحق
السابع أن يعلم أن هذه المصيبة هي داء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلا
الثامن أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم مالم تحصل بدونه فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الداء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره قال تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون وقال الله تعالى فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وفي مثل هذا القائل
لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
التاسع أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا فإن ثبت اصطفاه واجتباه وخلع عليه خلع الإكرام وألبسه ملا بس الفضل وجعل أولياءه وحزبه خدما له وعونا له وإن انقلب على وجهه ونكص على عقبيه طرد وصفع قفاه وأقصي وتضاعفت عليه المصيبة وهو لا يشعر في الحال بتضاعفها وزيادتها ولكن سيعلم بعد ذلك بأن المصيبة في حقه صارت مصائب كما يعلم الصابر أن المصيبة في حقه صارت نعما عديدة وما بين هاتين المنزلتين المتباينتين إلا صبر ساعة

وتشجيع القلب في تلك الساعة والمصيبة لا بد أن تقلع عن هذا وهذا ولكن تقلع عن هذا بأنواع الكرامات والخيرات وعن الآخرة بالحرمان والخذلان لأن ذلك تقدير العزيز العليم وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
العاشر أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء والنعمة والبلاء فيستخرج من عبوديته في جميع الأحوال فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال وأما عبد السراء والعافية الذي يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته فلا ريب أن الإيمان الذي يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الأيمان النافع وقت الحاجة وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاء والعافية فالابتلاء كير العبد ومحك إيمانه فإما أن يخرج تبرا أحمر وإما أن يخرج زغلا محضا وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية فلا يزال به البلاء حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه ويبقى ذهبا خالصا فلو علم العبد أن نعمة الله عليه في البلاء ليست بدون نعمة الله عليه في العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه اللهم أعني على ذكرك وشكر وحسن عبادتك وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبرا خالصا يصلح لمجاورته والنظر إليه في داره فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء فإن قويت أثمرت الرضا والشكر فنسأل الله أن يسترنا بعافيته ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه فصل المثال السادس الحزن قال أبو العباس وهو من منازل العوام وهو انخلاع عن السرور وملازمة الكآبة لتأسف عن فائت أو توجع لممتنع وإنما كان من منازل العوام لأن فيه نسيان المنة والبقباء في رق الطبع وهو في مسالك الخواص حجاب لأن معرفة الله جلا نورها كل

ظلمة وكشف سرورها كل غمة فبذلك فليفرحوا وقيل أوحى الله إلى داود يا داود بي فافرح وبذكري فتلذذ وبمعرفتي فافتخر فعما قليل أفرغ الدار من الفاسقين وأنزل نقمتي على الظالمين
اعلم أن الحزن من عوارض الطريق ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين ولهذا لم يأمر الله به في موضع قط ولا أثنى عليه ولا رتب عليه جزاء ولا ثوابا بل نهى عنه في غير موضع كقوله تعالى ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين وقال تعالى ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون وقال تعالى فلا تأس على القوم الفاسقين وقال إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأل الله دفعها وكشفها ولهذا يقول أهل الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن فحمدوه على أن أذهب عنهم تلك البلية ونجاهم منها وفي الصحيح عن النبي أنه كان يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال فاستعاذ من ثمانية أشياء كل شيئين منها قرينان فالهم والحزن قرينان وهما الألم الوارد على القلب فإن كان على ما مضى فهو حزن وإن كان على ما يستقبل فهو الهم فالألم الوارد إن كان مصدره فوت الماضي أثر الحزن وإن كان

مصدره خوف الآتي أثر الهم والعجز والكسل قرينان فإن تخلف مصلحة العبد وبعدها عنه إن كان من عدم القدرة فهو عجز وإن كان من عدم الإرادة فهو كسل والجبن والبخل قرينان فإن الإحسان يفرح القلب ويشرح الصدر ويجلب النعم ويدفع النقم وتركه يوجب الضيم والضيق ويمنع وصول النعم إلريه فالجن ترك الإحسان بالبدن والبخل ترك الإحسان بالمال وغلبة الدين وقهر الرجال قرينان فإن القهر والغلبة الحاصلة للعبد إما منه وإما من غيره وإن شئت قلت إما بحق وإما بباطل من غيره والمقبصود أن النبي جعل الحزن مما يستغاذ منه وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم ويضر الإرادة ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن قال تعالى إنما النجوى من ال شيطان ليحزن الذين ءامنوا فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره كالمرض والألم ونحوهما وأما أن يكون عبادة مأمورا بتحصيلها وطلبها فلا ففرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات وما يثاب عليه من البليات ولكن يحمد في الحزن سببه ومصدره ولازمه لا ذاته فإن المؤمن إما أن يحزن على تفريطه وتقصيره في خدمةربه وعبوديته وإما أن يحزن على تورطه في مخالفته ومعصيته وضياع أيامه وأوقاته وهذا يدل على صحة الإيمان في قلبه وعلى حياته حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه ولو كان قلبه ميتا لم يحس بذلك ولم يحزن ولم يتألم فما لجرح بميت إيلام وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى ولكن الحزن لا يجدي عليه فإنه يضعفه كما تقدم بل الذي ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر ويبذل جهده وهذا نظير من انقطاع عن رفقته في السفر فجلس في الطرريق حزينا كئيبا يشهد انقطاعه ويحدث نفسه باللحاق بالقوم فكلما فتر وحزن حدث نفسه باللحاق برفقته ووعدها إن

صبرت أن تلحق بهم ويزول عنها وحشة الانقطاع فهكذا السالك إلى منازل الأبرار وديار المقربين وأخص من هذا الحزن حزنه على قطع الوقت بالتفرقة المضعفة للقلب عن تمام سيره وجده في سلوكه فإن التفرقة من أعظم البلاء على السالك ولا سيما في ابتداء أمره فالأول حزن على التفريط في الأعمال وهذا حزن على نقص حاله مع الله وتفرقة قلبه وكيف صار وقته ظرفا لتفرقة حاله واشتغال قلبه بغير معبوده وأخص من هذا الحزن حزنه على جزء من أجزاء قلبه كيف هو خال من محبة لله وعلى جزء من أجزاء بدنه كيف هو منصرف في غير محاب الله فهذا حزن الخاصة ويدخل في هذا حزنهم على كل معارض يشغلهم عما هم بصدده من خاطر أو إرادة أو شاغل من خارج فهذه المراتب من الحزن لا بد منها في الطريق ولكن الكيس لا يدعها تملكه وتقعده بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به فإن المكروه إذا ورد على النفس فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي يدفعها به فأورثها الحزن وإن كانت نفسا كبيرة شريفة لم تفكر فيه بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها فإن علمت منه مخرجا فكرت في طريق ذلك المخرج وأسبابه وإن علمت أنه لا مخرج منه فكرت في عبودية الله فيه وكان ذلك عوضا لها من الحزن فعلى كل حال لا فائدة لها في الحزن أصلا والله أعلم وقال بعض العارفين ليست الخاصة من الحزن في شيء وقوله معرفة الله جلا نورها كل ظلمة وكشف سرورها كل غمة كلام في غاية الحسن فإن من عرف الله أحبه ولا بد ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان وعمر قلبه بالسرور والأفراح وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب فإنه لا حزن مع الله ابدا ولهذا قال حكاية عن نبيه أنه قال لصاحبه أبي بكر لا تحزن إن الله معنا فدل أنه لا حزن مع الله وأن من كان الله معه فما له

والحزن وإنما الحزن كل الحزن لمن فاته الله فمن حصل الله له فعلى أي شيء يحزن ومن فاته الله فبأي شيء يفرح قال تعالى قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا فالفرح بفضله ورحمته تبع للفرح به سبحانه فالمؤمن يفرح بربه أعظم من فرح كل أحد بما يفرح به من حبيب أو حياة أو مال أو نعمة أو ملك يفرح المؤمن بربه أعظم من هذا كله ولا ينال القلب حقيقب ةالحياة حتى يجد طعم هذه الفرحة والبهجةفيظهر سرورها في قلبه ونضرتها في وجهه فيصير له حال من حال أهل الجنة حيث لقاهم الله نضرة وسرورا فلمثل هذا فليعمل العاملون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون فهذا هو العلم الذي شمر إليه أولوا الهمم والعزائم واستبق إليه أصحاب الخصائص والمكارم
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا فصل والمثال السابع الخوف قال أبو العباس هو الانخلاع عن طمأنينة الأمن والتيقظ لنداء الوعيد والحذر من سطوة العقاب وهو من منازل العوام أيضا وليس في منازل الخواص خوف للأنه لا أمان للغافل إنما يعبد مولاه على وحشة من نظره ونفرة من الأنس به عند ذكره ترى الطالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم وأما الخواص أهل الاختصاص فإنهم جعلوا الوعيد منه وعدا والعذاب فيه عذبا لأنهم شاهدوا المبتلى من البلاء والمعذب في العذاب فاستعذبوا ما وجدوا في جنب ما شاهدوا في ذلك قال قائلهم
سقمي في الحب عافيتي ... ووجودي في الهوى عدمي
وعذاب ترتضون به ... في فمي أحلى من النعم

ومن كان مستغرقا في المشاهدة حل في بساط الأنس فلا يبقى للخوف بساحته ألم لأن المشاهدة توجب الأنس والخوف يوجب القبض ثم ذكر حكاية المضروب الذي ضرب مائة سوط فلم يتألم لأجل نظر محبوبه إليه ثم ضرب سوطا فصاح لما توارى عنه محبوبه قال وقد قيل في قوله تعالى والكافرون لهم عذاب شديد دليل خطابه أن المؤمنين لهم عذاب ولكن ليس بشديد وإنما كان عذاب الكفرين شديدا لأنهم لا يشاهدون المعذب لهم والعذاب على شهود المعذب عذب والثواب على الغفة من المعطي صعب فالخوف إذا من منازل العوام
والكلام على ما ذكره من وجوه
أحدها أن الخوف أحد أركان الإيمان والإحسان الثلاثة التي عليها مدار مقامات السالكين جميعها وهي الخوف والرجاء والمحبة وقد ذكره سبحانه في قوله قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه فجمع بين المقامات الثلاثة فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو التقرب إليه بحبه وفعل ما يحبه ثم يقول ويرجون رحمته ويخافون عذابه فذكر الحب والخوف والرجاء والمعنى إن الذين تدعونهم من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين يتقربون إلى ربهم ويخافونه ويرجونه فهم عبيده كما أنكم عبيده فلماذا تعبدونهم من دونه وأنتم وهم عبيد له وقد أمر سبحانه بالخوف منه في قوله فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين فجعل الخوف منه شرطا

في تحقيق الإيمان وإن كان الشرط داخلا في الصيغة على الإيمان فهو المشروط في المعنى والخوف شرط في حصوله وتحققه وذلك لأن الإيمان سبب الخوف الحاصل عليه وحصول المسبب شرط في تحقيق السبب كما أن حصول السبب موجب لحصول مسببه فانتفاء الإيمان عند انتفاء الخوف انتفاء للمشروط عند انتفاء شرطه وانتفاء الخوف عن انتفاء الإيمان انتفاء للمعلول عند انتفاء علته فتدبره والمعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني والجزاء محذوف مدلول عليه بالأول عند سيبويه وأصحابه أو هو المتقدم نفسه وهو جزاء وإن تقدم كما هو مذهب المكوفيين وعلى التقديرين فأداة الشرط قد دخلت على السبب المقتضي للخوف وهو الإيمان وكل منهما مستلزم للآخر لكن الاستلزام مختلف وكل منهم منتف عند انتفاء الآخر لكن جهة الانتفاء مختلفة كما تقدم والمقصود أن الخوف من لوازم الإيمان وموجباته فلا يختلف عنه وقال تعالى فلا تحشوا الناس واخشون وقد أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه فقال عن أنبيائه بعد أن ثنى عليهم ومدحهم إنهم كانوا يسارعون في الخيران ويدعوننا رغبا ورهبا فالرغب الرجاء والرغبة والرهب الخوف والخشية وقال عن ملائكته الذين قد أمنهم من عذابه يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وفي الصحيح عن النبي أنه قال إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية وفي لفظ آخر إني

أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقي وكان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء وقد قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف قال ابن مسعود وكفى بخشية الله علما ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به فأعرف الناس أخشاهم لله ومن عرف الله اشتد حياؤه منه وخوفه له وحبه له وكلما ازداد معرفة ازداد حياء وخوفا وحبا فالخوف من أجل منازل الطريق وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة وهم إليه أحوج وهم بهم أليق ولهم ألزم فإن العبد إما أن يكون مستقيما أو مائلا عن الاستقامة فإن كان مائلا عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف وهو ينشأ من ثلاثة أمر أحدها معرفته بالجناية وقبحها والثاني تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها والثالث أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه فإن الحامل على الذنب إما أن يكون عدم علمه بقبحه وإما عدم علمه بسوء عاقبته وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان فإذا علم قبح الذنب وعلم سوء مغبته وخاف أن لا يفتح له باب التوبة بل يمنعها ويحال بينه وبينها اشتد خوفه هذا قبل الذنب فإذا عمله كان خوفه أشد

وبالجملة فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزاؤها وذكر المعصية والتوعد عليها وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج في قلبه من الخوف مالا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو وأما إن كان مستقيما مع الله فخوفه يكون مع جريان الأنفاس لعلمه بأن الله مقلب القلوب وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عز و جل فإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه كما ثبت عن النبي وكانت أكثر يمينه لا ومقلب القلوب لا ومقلب القلوب وقال بعض السلف القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا وقال بعضهم مثل القلب في سرعة تقلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن ويكفي في هذا قوله تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فأي قرار لمن هذه حاله ومن احق بالخوف منه بل خوفه لازم له في كل حال وإن توارى عنه بغلبة حالة أخرى عليه فالخوف حشو قلبه لكن توارى عنه بغلبة غيره فوجود الشيء غير العلم به فالخوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله وعزته وجلاله وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له المقلب له كيف يشاء لا إله إلا هو
الوجه الثاني قوله وليس في منازل الخواص خوف قد تبين فساده وأن الخاصة أشد خوفا من العامة
الوجه الثالث قوله العاقل يعبد ربه على وحشة من نظره ونفرة من الأنس به عند ذكره ترى الظالمين مشفقين فهذا إنما هو وحشة

ونفار وهو غير الخوف فإن الوحشة إنما تنشأ من عدم الخوف وأما الخوف فإنه يوجب هروبا إلى الله وجميعة عليه وسكونا إليه فهي مخافة مقرونة بجلاوة وطمأنينة وسكينة ومحبة بخلاف خوف المسيء الهارب من الله فإنه خوف مقرون بوحشة ونفرة فخوف الهارب إليه سبحانه محشو بالحلاوة والسكينة والأنس لا وحشة معه وإنما يجد الوحشة من نفسه فله نظران نظر إلى نفسه وجنايته فيوجب له وحشة ونظر إلى ربه وقدرته عليه وعزه وجلاله فيوجب له خوفا مقرونا بأنس وحلاوة وطمأنينة
الوجه الرابع إن استشهاه بقوله ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم ليس استشهادا صحيحا فإن هذا وصف لحالهم في الآخرة عند معانية العذاب أو عند الموت فهذا الإشفاق مقرون بالاستيحاش لأنه قد علم أنه صائر إليه كمن قدم إلى العقوبة ورأى أسبابها فهو مشفق منها إذا رآها لعلمه بأنه صائر إليها فليست الآية من الخوف المأمور به في شيء
والوجه الخامس أن الخوف يتعلق بالأفعال وأما الحب فإنه يتعلق بالذات والصفات ولهذا يزول الخوف في الجنة وأما الحب فيزداد ولما كان الحب يتعلق بالذات كان من أسمائه سبحانه الودود قال البخاري في صحيحه الحبيب وأما الخوف فإن متعلقه أفعال الرب ولا يخرج عن كون سببه جناية العبد وإن كانت جنايته من قدر الله ولهذا قال علي بن أبي طالب لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن عبد إلا ذنبه فمتعلق الخوف ذنب العبد وعاقبته وهي مفعولات للرب فليس الخوف عائدا إلى نفس الذات والفرق بينه وبين االحب أن الحب سببه الكمال وذاته تعالى لها الكمال المطلق وهو متعلق الحب التام وأما الخوف فسببه

توقع المكروه وهذا إنما يكون في الأفعال والمفعولات وبهذا يعلم بطلان قول من زعم أنه سبحانه يخاف لا لعلة ولا لسبب بل كما يخاف السيل الذي لا يدري العبد من أين يأتيه وهذا بناء من هؤلاء على نفي محبته سبحانه وحكمته وأنه ليس إلا محض المشيئة والإرادة التي ترجح مثلا على مثل بلا مرجح ولا يراعي فيها حكمة ولا مصلحة وهؤلاء عندهم الخوف يتعلق بنفس الذات من غير نظر إلى فعل العبد وأنه سبب المخافة إذ ليس عندهم سبب ولا حكمة بل إرادة محضة يفعل بها ما يشاء من تنعيم وتعذيب وعند هؤلاء فالخوف لازم للعبد في كل حال أحسن أم أساء وليس لأفعاله تأثير في الخوف وهذا من قلة نصيبهم من المعرفة بالله وكماله وحكمته وأين هذا من قول أمير المؤمنين علي لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه فجعل الرجاء متعلقا بالرب سبحانه وتعالى لأن رحمته من لوازم ذاته وهي سبقت غضبه وأما الخوف فمتعلق بالذنب فهو سبب المخافة حتى لو قدر عدم الذنب بالكلية لم تكن مخافة
فإن قيل فما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي أسباب المخافة وشدة خوف النبي مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأنه أقرب الخلق إلى الله قيل عن هذا أربعة أجوبه
الجواب الأول أن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره ونظير هذا في المشاهد أن الماثل بين يدي أحد الملوك المشاهد له أشد خوفا منه من البعد عنه بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه وأنه يطالب من حقوق الخدمة وأدائها بما لا يطالب به

غيره فهو أحق بالخوف من البعيد ومن تصور هذا حق تصوره فهم قوله إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية وفهم قوله في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت عن النبي أنه قال إن الله تعالى لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم وليس المراد به لو عذبهم لتصرف في ملكه والمتصرف في ملكه غير ظالم كما يظنه كثير من الناس فإن هذا يتضمن مدحا والحديث إنما سيق للمدح بغير استحقاق فإن حقه سبحانه عليهم أضعاف أضعاف ما أتوا ولهذا قال بعده ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم يعني أن رحمته لهم ليست على قدر أعمالهم إذ أعمالهم لا تستقبل باقتضاء الرحمة وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقها عليهم لم يقوموا بها فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيبا لحقه وهو غير ظالم لهم فيه ولا سيما فإن أعمالهم لا توازي القليل من نعمه عليهم فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم فإذا عذبهم على ترك شكرهم وأداء حقه الذي ينبغي له سبحانه عذبهم ولم يكن ظالما لهم
فإن قيل فهم إذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغي له مقدورا لهم فكيف يحسن العذاب عليه قيل الجواب من وجهين
أحدهما أن المقدور للعبد لا يأتي به كله بل لا بد من فتور وإعراض وغفلة وتوان وأيضا ففي نفس قيامه بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم والنصيحة التامة لله فيها بحيث يبذل مقدوره كله في تحسينها وتكميلها ظاهرا وباطنا فالتقصير لازم

في حال الترك وفي حال الفعل ولهذا سأل الصديق النبي دعاء يدعو به في صلاته فقال له قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم فأخبر عن ظلمه لنفسه مؤكدا له بأن المقتضية ثبوت الخبر وتحققه ثم أكده بالمصدر النافي للتجوز والاستعارة ثم وصفه بالكثرة المقتضية لتعدده وتكثره ثم قال فاغفر لي مغفرة من عندك أي لا ينالها عملي ولا سعيي بل عملي يقصر عنها وإنما هي من فضلك وإحسانك لا بكسبي ولا باستغفاري وتوبتي ثم قال وارحمني أي ليس معولي إلا على مجرد رحمتك فإن رحمتني وإلا فالهلاك لازم لي فليتدبر اللبيب هذا الدعاء وما فيه من المعارف والعبودية وفي ضمنه أنه لو عذبتني لعدلت في ولم تظلمني وإني لا أنجو إلا برحمتك ومغفرتك ومن هذا قوله لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فإذا كان عمل العبد لا يستقل بالنجاة فلو لم ينجه الله فلم يكن قد بخسه شيئا من حقه ولا ظلمه فإنه ليس معه ما يقتضي نجاته وعمله ليس وافيا بشكر القليل من نعمه فهل

يكون ظالما لو عذبه وهل تكون رحمته له جزاء لعمله ويكون العمل ثمنا لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغي له من بذل النصيحة فيه وكمال العبودية من الحياء والمراقبة والمحبة والخشوع وحضور القلب بين يدي الله في العمل له ومن علم هذا علم السر في كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار ففي صحيح مسلم عن ثوبان قال كان رسول الله إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام قال تعالى كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون فأخبر عن استغفارهم عقيب صلاة الليل قال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر فلما كان السحر جلسوا يستغفرون الله وأمر الله تعالى عباده بالاستغفار عقيب الإفاضة في الحج فقال ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم وشرع رسول الله للمتوضىء أن يختم وضوءه بالتوحيد والاستغفار فيقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فهذا ونحوه مما يبين حقيقة الأمر وأن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله ورحمته وأنه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلا
الجواب الثاني أنه لو فرض أن العبد يأتي بمقدوره كله من الطاعة ظاهرا وباطنا فالذي ينبغي لربه فوق ذلك وأضعاف أضعافه فإذا عجز العبد عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاء والذي أتى به لا يقابل أقل النعم فإذا حرم جزاء العمل الذي ينبغي للرب من عبده كان ذلك تعذيبا

له ولم يكن الرب ظالما له في هذا الحرمان ولو كان عاجزا عن أسبابه فإنه لم يمنعه حقا يستحقه عليه فيكون ظالما بمنعه فإذا أعطاه الثواب كان مجرد صدقة منه وفضل تصدق بها عليه لا ينالها عمله بل هي خير من عمله وأفضل وأكثر ليست معوضة عليه والله أعلم
الجواب الثالث عن السؤال الأول أن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب وأنه يحول بين المرءوقلبه وأنه تعالى كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم بنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم وكان من داء النبي اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ومثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك وفي الترمذي عنه أنه يدعو أعوذ بعزتك أن تضلني أنت الحي الذي لا تموت وكان من دعائه اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب وبفعل العافية من فعل العقوبة واستعاذ به منه باعتبارين وكأن في استعاذته منه جمعا لما فصله في الجملتين قبله فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها مع تضمنها فائدة شريفة وهي كمال التوحيد وأن الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره فهو وحده المنفرد بالحكم فإذا أراد بعبده سوءا لم يعذه

منه إلا هو فهو الذي يريد به ما يسوؤه وهو الذي يريد دفعه عنه فصار سبحانه مستعاذا به منه باعتبار الإرادتين وإن يمسسك الله بضرفلا كاشف له إلا هو فهو الذي يمس بالضر وهو الذي يكشفه لاإله إلا هو فالمهرب منه إليه والفرار منه إليه واللجأ منه إليه كما أن الاستعاذة منه فإنه لا رب غيره ولا مدبر للعبد سواه فهو الذي يحركه ويقلبه ويصرفه كيف يشاء
الجواب الرابع أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب ويجعل التوبة والإنابة والإقبال والمحبة والتفويض وأضدادها والعبد في كل لحظة مفتقر إلى هداية يجعلها الله في قلبه وحركات يحركها بها في طاعته وهذا إلى الله سبحانه وتعالى فهو خلقه وقدره وكان من دعاء النبي اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها وعلم حصين بن المنذر أن يقول اللهم الهمني رشدي وقني شر نفسي / ح / وعامة أدعيته متضمنة لطلب توفيق ربه وتزكيته له واستعماله في محابه فمن هداه وصلاحه وأسباب نجاته بيد غيره وهو المالك له ولها المتصرف فيه بما يشاء ليس من أمره شيء من أحق بالخوف منه وهب أنه قد خلق له في الحال الهداية فهل هو على يقين وعلم أن الله سبحانه وتعالى يخلقها له في المستقبل ويلهمه رشده أبدا فعلم أن خوف المقربين عند ربهم أعظم من خوف غيرهم والله المستعان ومن ههنا كان

خوف السابقين من فوات الإيمان كما قال بعض السلف أنتم تخافون الذنب وأنا أخاف الكفر وكان عمر بن الخطاب يقول لحذيفة نشدتك الله هل سماني لك رسول الله يعني في المنافقين فيقول لا ولا أزكي بعدك أحدا رواه البخاري يعني لا أفتح علي هذا الباب في سؤال الناس لي وليس مراده أنه لم يخلص من النفاق غيرك
الوجه السادس قوله وأما الخواص فإنهم جعلوا الوعيد منه وعدا والعذاب فيه عذبا لأنهم شاهدوا المبتلى والمعذب فاستعذبوا ما وجدوا في جنب ما شاهدوا إلى آخر كلامه فيقال هذا الكلام ونحوه من رعونات النفس ومن الشطحات التي يجب إنكارها فمن ذا الذي جعل وعيد الله وعدا وعقابه ثوابا وعذابه عذابا وهل هذا إلا إنكار لوعيده وعذابه في الحقيقة وأي عذاب أشد من عذابه نعوذ بالله منه قال تعالى ولكن عذاب الله شديد وقال فيومئذ لا يعذب عذابه احد ولا يوثق وثاقه أحد وهذا أظهر في كل ملة من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه وإنما ينسب هذا المذهب إلى الملاحدة من القائلين بوحدة الوجود كما قال قائلهم
ولم يبق إلا صادق الوعد ووحده ... فما لوعيد الحق غير تعاين

وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه ... وذاك له كالقشر والقشر صائن
نعيم جنان الخلد والأمر واحد ... وبينهما عند التجلي تباين
فهذا القائل خط على تلك النقطة التي نقطها أبو العباس ولعل الكلامين من مشكاة واحدة وهذا مباين للمعلوم بالاضطرار من دين الرسل وما أخبرت به عن الله وأخبر به على لسان رسول الله فإن قيل ليس مراده ما ذكرتم وفهمتم من كلامه وإنما مراده أنه سبحانه إذا ابتلى عبده في الدنيا فهو لكمال محبته له يتلذذ بتلك البلوى ويعدها نعمة وليس مراده عذاب الآخرة قيل قوله عن الخواص أنهم جعلوا الوعيد منه وعدا ينفي ما ذكرتم من التأويل فإن ابتلاء الدنيا غير الوعيد وأيضا فإنه في مقام الخوف ونفيه عن الخاصة محتجا عليه بأنهم يرون العذاب عذبا والوعيد وعدا فما لهم وللخوف هذا مقصوده من سياق كلامه واحتجاجه عليه بهذا الهذيان الذي يسخر منه العقلاء بل نحن لا ننكر أن العبد إذا تمكن حب الله في قلبه حتى ملك جميع أجزائه فإنه قد يتلذذ بالبلوى أحيانا وليس ذلك دائما ولا أكثريا ولكنه يعرض عند هيجان الحب وغلبة الشوق فيقهر شهود الألم ثم يراجع طبيعته فيذوق الألم ولكن أين هذا من جعل الوعيد وعدا والعذاب عذبا وإن أحسن الظن بصاحب هذا الكلام ظن به أنه ورد عليه وارد من الحب يخيل في نفسه أن محبوبه إذا توعده كان ذلك منه وعدا وإن عذبه كان عذابه عنده عذبا لموافقته مراد محبوبه وهذا خيال فاسد وتقدير في النفس وإلا فالحقيقة الخارجية تكذب هذا الخيال الباطل بل لو صب عليه أدنى شيء من عذابه لصاح واستغاث وطلب العفو والعافية وحكمة الله تقتضي تعجيز هذه النفوس الجاهلة الرعناء الحمقاء بأدنى شيء يكون من الألم والوجع حتى يتبين لها دعاويها الكاذبةوشطحها الباطل وهذا سيد المحبين وسيد ولد آدم استعاذته بالله من عذابه وبلائه وسؤاله عافيته ومعافاته معلومة في أدعيته وتضرعه إلى ربه وابتهاله

إليه في ذلك وهي أكثر وأشهر من أن تذكر ههنا وإن ما في سيد المحبين أسوة وقدوة ولكن قد ابتلي كثير من أهل الإرادة بالشطح كما ابتلي كثير من أهل الكلام بالشك والمعافى من عافاه الله من هذا وهذا فنسأل الله عافيته ومعافاته
الوجه السابع قوله إن عذاب الكافرين إنما كان شديدا لأنهم لا يشاهدون المعذب لهم والمؤمنون يشاهدونه فلم يكن عذابهم شديدا وليس كذلك فإن عذاب الكافرين شديد في نفسه لغلظ جرمهم وهو الكفر وهو دائم لا انقطاع له وأما المؤمنون الذين يعذبون بذنوبهم فعذابهم أضعف من عذاب الكافرين لأن عذابهم على الذنوب وهي دون الكفر وهو منقطع والأية لم يرد بها إثبات عذاب المؤمنين دون عذاب الكافرين وإنما سيقت لبيان عذاب الكافرين فحسب فمفهومها نفي العذاب عن المؤمنين لا إثبات عذاب غير شديد والله أعلم
الوجه الثاني قوله وللخواص الهيبة وهي أقصى درجة يشار إليها في غاية الخوف والخوف يزول بالأمن وينتهي به خوف الشخص على نفسه من العقاب فإذا أمن العقاب زال الخوف والهيبة لا تزول أبدا لأنها مستحقة للرب بوصف التعظيم والإجلال وذلك الوصف مستحق على الدوام وهذه المعارضة والهيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة وتصدم المشاهد أحيان المشاهدة وتعصم العائن بصدمة العزة ومنه قال قائلهم
أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله
لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله
وأصد عنه تجلدا ... وأروم طيف خياله

فيقال من العجائب أن المعنى الذي أمر الله به في كتابه وأثنى به على خاصة عباده وأقربهم إليه وهم أنبياؤه ورسله وملائكته يجعل ناقصا من منازل العوام ويعمد إلى معنى لا يذكره الله ولا رسوله ولا علق به على المدح والثناء في موضع واحد فيجعل هو الكمال وهو للخواص من العباد فأين في القرآن والسنة ذكر الهيبة من لوازم الإيمان وموجباته ولكن المنكر أن يكون الوصف الذي وصف به أنبياءه وملائكته ناقصا والوصف الذي لم يذكره هو الكامل التام وهذا المعنى المعبر عنه بالهيبة حق ولكن لم تجىء العبارة عنه في القرآن والسنة بلفظ الهيبة وإنما جاءت بلفظ الإجلال كقول النبي إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه والإمام العادل فالإجلال هو التعظيم وكذلك الهيبة يوضح هذا
الوجه التاسع وهو أن الهيبة والإجلال يجوز تعلقهما بالمخلوق كما قال النبي إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم الحديث وقال ابن عباس عن عمر هيبته وكان مهيبا وأما البخشية والمخافة فلا تصلح إلا لله وحده قال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون وقال فلا

تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين وقال إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الأخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين فالخوف عبودية القلب فلا تصلح إلا لله كالذل والمحبة والإنابة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب وكيف يجعل المهابة المشتركة أفضل منه وأعلى وتأمل قوله تعالى ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك الفائزون كيف جعل الطاعة لله ولرسوله والخشية والتقوى له وحده وقال تعالى لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه كيف جعل التوقير والتعزير للرسول وحده والتوقير هو التعظيم الصادر عن الهيبة والإجلال هذه حقيقته فعلم أن الخوف من أجل مقامات الخواص وأنهم إليه أحوج وبه أقوم من غيرهم
الوجه العاشر قوله الخوف يزول بالأمن والهيبة لا تزول أبدا إلخ فيقال هذا حق فإن الخوف إنما يكون قبل دخول الجنة فإذا دخلوها زال عنهم الخوف الذي كان يصحبهم في الدنيا وفي عرصات القيامة وبدلوا به أمنا لأنهم قد أمنوا العبذاب فزايلهم الخوف منه ولكن لا يدل على هذا أنه كان مقاما ناقصا في الدنيا كما أن الجهاد من أشرف المقامات وقد زال عنهم في الآخرة وكذلك الإيمان بالغيب أجل المقامات على الإطلاق وقد زال في الآخرة وصار الأمر شهادة وكذلك الصلاة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل النفس لله وهي من أشرف الأعمال وكلها تزول في الجنة وهذا لا يدل على نقصانها فإن الجنة ليست دار سعي وعمل إنما هي دار نعيم وثواب

الوجه الحادي عشر أن الخوف إنما زال في الجنة لأن تعلقه إنما هو بالأفعال لا بالذات كما تقدم وقد أمنهم ما كانوا يخافون منه فقد أمنوا أن لا يفعلوا ما يخافون منه وأن يفعل بهم ربهم ما يخيفهم ولكن كان الخوف في الدنيا أنفع لهم فبه وصلوا إلى الأمن التام فإن الله سبحانه وتعالى لا يجمع على عبده مخافتين اثنتين فمن خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة ومن أمنه في الدنيا ولم يخفه أخافه في الآخرة وناهيك شرفا وفضلا بمقام ثمرته الأمن الدائم المطلق
الوجه الثاني عشر أن الإجلال والمهابة والتعظيم إنما لم تزل لأنها متعلقة بنفس الذات وهي موجودة في دار النعيم وأما الخوف فإنه إنما زال لأنه وسيلة إلى توفية العبودية والقيام بالأمر والوسيلة تزول عند حصول الغاية ولكن زوال الوسيلة عند حصول الغاية لا يدل على انها ناقصة وإذا كانت تلك الغاية لا كمال للعبد بدونها فالوسيلة إليها كذلك
الوجه الثالث عشر قوله وهذه المعارضة والهيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة وتصون المشاهد أحيان المشاهدة وتعصم المعاني بصدمة العزة فيقال لا ريب أن الحب والأنس المجرد عن التعظيم والإجلال يبسط النفس ويحملها على بعض الدعاوي والرعونات والأماني الباطلة وإساءة الأدب والجناية على حق المحبة فإذا قارن المحبة مهابة المحبوب وإجلاله وتعظيمه وشهود عز جلاله وعظيم سلطانه انكسرت نفسه له وذلت لعظمته واستكانت لعزته وتصاغرت لجلاله وصفت من رعونات النفس وحماقاتها ودعاويها الباطلة وأمانيها الكاذبة ولهذا في الحديث يقول الله عز و جل أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي فقال أين المتحابون بجلالي فهو حب بجلاله وتعظيمه ومهابته

ليس حبا لمجرد جماله فإنه سبحانه الجليل الجميل والحب الناشىء عن شهود هذين الوصفين هو الحب النافع الموجب لكونهم في ظل عرشه يوم القيامة فشهود الجلال وحده يوجب خوفا وخشية وانكسارا وشهد الجمال وحده يوجب حبا بانبساط وإذلال ورعونة وشهود الوصفين معا يوجب حبا مقرونا بتعظيم وإجلال ومهابة وهذا هو غاية كمال العبد والله أعلم وإنشاده هذه الأبيات الثلاثة في هذا المقام في غاية القبح فإن هذا المحب ينفي خوفه من محبوبه ويعرض عنه إظهارا للتجلد أمام رقيبه وذلك قبيح في حكم المحبة فإن التذلل للمحبوب وتملقه واستعطافه والانكسار له أولى بالمحب من تجلده وتعززه كما قيل
اخضع وذل لمن تحب فليس في ... شرع الهوى أنف يشال ويعقد
ثم أخبر أنه يروم طيف خياله فهو طالب لحظه من محبوبه لا لمراد محبوبه منه فهذا محب لنفسه وقد جعل طيف محبوبه وسيلة إلى حصول مراده فأحبه حب الوسائل بخلاف من قد أحب محبوبه لذات المحبوب ففني عن مراده هو منه بمراد محبوبه فصار مراده مراد محبوبه فحصل الاتحاد في المراد لا في الإرادة ولا في المريد هذا إن كان صبره عنه تجلدا عليه وإن كان تجلدا على الرقيب خوفا منه فهو ضعيف المحبة لأن فيه بقية ليست مع محبوبه بل مع رقيبه فهلا ملأ الحب قلبه فلم يبق فيه بقية يلاحظ بها الرقيب والعاذل كما قيل
لا كان من لسواك فيه بقبية ... يجد السبيل بها إليه العذل
وبالجملة فهذه أبيات ناقصة المعنى لا يصلح الاستشهاد بها والله أعلم فصل والمقصود الكلام على علل المقامات وبيان ما فيها من خطأ وصواب ولما كان أبو العباس بن العريف قد تعرض لذلك في كتابه محاسن المجالس ذكرنا فيه وما له وما عليه ثم ذكر بعد هذا فصلا

في المحبة وفصلا في الشوق فنذكر كلامه في ذلك وما يفتح الله به تتميما لفائدة ورجاء للمنفعة وأن يمن الله العزيز الوهاب بفضله ورحمته ويرقي عبده من العلم إلى الحال ومن الوصف إلى الاتصاف إنه قريب مجيب
قال أبو العباس وأما المحبة فقد أشار أهل التحقيق في العبارة عنها وكل نطق بحسب ذوقه وانفسح بمقدار شوقه قلت الشيء إذا كان في الأمور الوجدانية الذوقية التي إنما تعلم بآثارها وعلاماتها وكان مما يقع في التفاوت بالشدة والضعف وكان له لوازو وآثار وعلامات متعددة اختلفت العبارات عن بحسب اختلاف هذه الأشياء وهذا شأن المحبة فإنها ليست بحقيقة معانيها ترى بالأبصار فيشترك الواصفون لها في الصفة وهي في نفسها متفاوتة أعظم تفاوت كما بين العلاقة التي هي تعلق القلب بالمحبوب والخلة التي هي أعلى مراتب الحب وبينهما درجات متفاوتة تفاوتا لا ينحصر ولها آثار توجبها وعلامات تدل عليها فكل أدرك بعض علاماتها فعبر بحسب ما أدركه وهي وراء ذلك كله ليس اسمها كمسماها ولا لفظها مبين لمعناها وكذلك اسم المصيبة والبلية والشدة والألم إنما تدل أسماؤها عليها نوع دلالة لا تكشف حقيقتها ولا تعلم حقيقتها إلا بذوقها ووجودها وفرق بين الذوق والوجود وبين التصور والعلم فالحدود والرسوم التي قيلت في المحبة صحيحة غير وافية بحقيقتها بل هي إشارات وعلامات وتنبيهات فصل قال وهي على الإجمال قبل أن ننتهي إلى التفصيل وجود تعظيم في القلب يمنع الانقياد لغير محبوبه فيقال هذا التعظيم المانع من الانقياد لغير المحبوب هو أثر من آثار المحبة وموجب من موجباتها لا أنه نفس المحبة فإن المحبة إذا كانت صادقة أوجبت للمحب تعظيما لمحبوبه يمنعه من انقياده إلى غيره وليس مجرد التعظيم هو المانع له من الانقياد إلى غيره بل التعظيم المقارن للحب هو الذي يمنع من

الانقياد إلى غير المحبوب فإن التعظيم إذا كان مجردا عن الحب يمنع انقياد القلب إلى غير المعظم وكذلك إذا كان الحب خاليا من التعظيم لم يمنع المحب أن ينقاد إلى غير محبوبه فإذا اقترن الحب بالتعظيم وامتلأ القلب بهما امتنع انقياده إلى غير المحبوب والمحبة المشتركة ثلاثة أنواع أحدها محبة طبيعية مشتركة كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء وغير ذلك وهذه تستلزم التعظيم والنوع الثاني محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل ونحوها وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم والنوع الثالث محبة أنس وإلف وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر بعضهم بعضا وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا فهذه الأنواع الثلاثة هي المحبة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله سبحانه ولهذا كان رسول الله يحب الحلواء والعسل
وكان أحب الشراب إليه الحلو البارد
وكان أحب اللحم إليه الذراع

وكان يحب نساءه وكانت عائشة رضي الله عنها أحبهن إليه
وكان يحب أصحابه وأحبهم إليه الصديق وأما المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله وحده ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله فهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره على غيره فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلا وهي التي سوى المشركون بين آلهتهم وبين الله فيها كما قال تعالى ومن الناس من يتحذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حبا لله وأصح القولين أن المعنى يحبونهم كما يحبون الله وسووا بين الله وبين أندادهم في الحب ثم نفى ذلك عن المؤمنين فقال والذين ءامنوا أشد حبا لله فإن الذين آمنوا وأخلصوا حبهم لله لم يشركوا به معه غيره وأما المشركون فلم يخلصوا لله والمقصود من الخلق والأمر إنما هو هذه المحبة وهي أول دعوة الرسل وآخر كلام العبد المؤمن الذ إذا مات عليه دخل الجنة اعترافه وإقراره بهذه المحبة وإفراد الرب بها فهو أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا إلى الله وجميع الأعمال كالأدوات والآلات لها وجميع المقامات وسائل إليها وأسباب لتحصيلها وتكميلها وتحصينها من الشوائب والعلل فهي قطب رحى

السعادة وروح الإيمان وساق شجرة الإسلام ولأجلها أنزل الله الكتاب والحديد فالكتاب هاد إليها ودال عليها ومفصل لها والحديد لمن خرج عنها وأشرك فيها مع الله غيره ولأجلها خلقت الجنة والنار فالجنة د دار أهلها الذين أخلصوها لله وحده فأخلصهم لها والنار دار من أشرك فيها مع الله غيره وسوى بينه وبين الله فيها كما أخبر تعالى عن أهلها أنهم يقولون في النار لآلهتهم تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وهذه التسوية لم تكن منهم في الأفعال والصفات بحيث اعتقدوا أنها مساوية لله سبحانه في أفعاله وصفاته وإنما كانت تسوية منهم بين الله وبينها في المحبة والعبودية مع إقرارهم بالفرق بين الله وبينها فتصحيح هذه هو تصحيح شهادة أن لا إله إلا الله فحقيق لمن نصح نفسه وأحب سعادتها ونجاتها أن يتيقظ لهذه المسألة علما وعملا وحالا وتكون أهم الأشياء عنده وأجل علومه وأعماله فإن الشأن كله فيها والمدار عليها والسؤال يوم القيامة عنها قال تعالى فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون قال غير واحد من السلف هو عن قول لا إله إلا الله وهذا حق فإن السؤال كله عنها وعن أحكامها وحقوقها وواجباتها ولوازمها فلا يسأل أحد قط إلا عنها وعن واجباتها ولوازمها وحقوقها قال أبو العالية كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون ماذا أجبتم المرسلين فالسؤال عماذا كانوا يعبدون هو السؤال عنها نفسها والسؤال عماذا أجابوا المرسلين سؤال عن الوسيلة والطريق المؤدية إليها هل سلكوها وأجابوا لما دعوهم إليها فعاد الأمر كله إليها وأمر هذا شأنه حقيق بأن تنعقد عليه الخناصر ويعض عليه بالنواجذ ويقبض فيه على الجمر ولا يؤخذ بأطراف الأنامل ولا بطلب على فضله بل يجعل هو

المطلب الأعظم وما سواه إنما يطلب على الفضلة والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه فصل قال وقيل المحبة إيثار المحبوب على غيره وهذا الحد أيضا من جنس ما قبله فإن إيثار المحبوب على غيره موجب المحبة ومقتضاها فإذا استقرت المحبة في القلب استدعت من المحبة إيثار محبوبه على غيره وهذا الإيثار علامة ثبوتها وصحتها فإذا آثر غير المحبوب عليه لم يكن محبا له وإن زعم أنه محب فإنما هو محب لنفسه ولحظه ممن يحبه فإذا رأى حظا آخر هو أحب إليه من حظه الذي يريده من محبوبه آثر ذلك الحظ المحبوب إليه فهذا موضع يغلط فيه الناس كثيرا إذ أكثرهم إنما هو يحب لحظه ومراده فإذا علم أنه عند غيره أحب ذلك الغير حب الوسائل لا حبا له لذاته ويظهر هذا عند حالتين إحداهما أنه يرى حظا له آخر عند غيره فيؤثر ذلك الحظ ويترك محبوبه الثانية أنه إذا نال ذلك الحظ من محبوبه فترت محبته وسكن قلبه وترحل قاطن المحبة من قلبه كما قيل من ودك لأمر ولى عند انقضائه فهذه محبة مشوبة بالعلل بل المحبة الخالصة أن يحب المحبوب لكماله وأنه أهل أن يحب لذاته وصفاته وأن الذي يوجب هذه المحبة فناء العبد عن إرادته لمراد محبوبه فيكون عاملا على مراد محبوبه منه لا على مراده هو من محبوبه فهذه هي المحبة الخالصة من درن العلل وشوائب النفس وهي التي تتزايد وفي مثل هذا قيل
تعصي الإله وأن تزعم حبه ... هذا لعمرك في القياس شنيع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
وههنا دقيقة ينبغي التفطن لها وهي أن إيثار المحبوب نوعان إيثار معاوضة ومتاجرة وإيثار حب وإرادة فالأول يؤثر محبوبه على غيره طلبا لحظه منه فهو يبذل ما يؤثره ليعاوضه بخير منه والثاني يؤثره إجابة لداعي

محبته فإن المحبة الصادقة تدعوه دائما إلى إيثار محبوبه فإيثاره هو أجل حظوظه فحظه في نفس الإيثار لا في العوض المطلوب بالإيثار وهذا لا تفهمه إلا النفس اللطيفةالورعة المشرقة وأما النفس الكثيفة فلا خبر عندها من هذا وما هو بعشها فلتدرج
والدين كله والمعاملة في الإيثار فإنه تقديم وتخصيص لمن تؤثره بما تؤثره به على نفسك حتى إن من شرطه الاحتياج من جهة المؤثر إذ لو لم يكن محتاجا إليه لكان بذله سخاء وكرما وهذا إنما يصح في إيثار المخلوق والله سبحانه يؤثر عبده على غيره من غير احتياج منه سبحانه فإنه الغني الحميد وفي الدعاء المرفوع اللهم زدنا ولا تنقصنا وأعطنا ولا تحرمنا وأكرمنا ولا تهنا وآثرنا ولا تؤثر لينا وأرضنا وارض عنا وقيل من آثر الله على غيره آثره الله على غيره والفرق بين الإيثار والأثرة أن الإيثار تخصيص الغير بما تريده لنفسك والأثرة اختصاصك به على الغير وفي الحديث بايعنا رسول الله على لاسمع والطاعة في عسرنا ويسرنا وننشطنا ومكرهنا وأثرة علينا

فإذا عرف هذا فالإيثار إما أن يتعلق بالخلق وإما أن يتعلق بيالخالق وإن تعلق بالخلق فكماله أن تؤثرهم على نفسك بما لا يضيع عليك وقتا ولا يفسد عليك حالا ولا يهضم لك دينا ولا يسد عليك طريقا ولا يمنع لك واردا فإن كان في إيثارهم شيء من ذلك فإيثار نفلسك عليهم أولى فإن الرجل من لا يؤثر بنصيبه من الله أحدا كائنا من كان وهذا في غاية الصعوبة على السالك والأول أسهل منه فإن الإيثار المحمود الذي أثنى الله على فاعله الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب قال الله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون فأخبر أن إيثارهم إنما هو بالشيء الذي إذا وقي الرجل الشح به كان من المفلحين وهذا إنما هو فضول الدنيا لا الأوقات المصروفة في الطاعات فإن الفلاح كل الفلاح في الشح بها فمن لم يكن شحيحا بوقته تركه الناس على الأرض عيانا مفلسا فالشح بالوقت هو عمارة القلب وحفظ رأس ماله ومما يدل على هذا أنه سبحانه أمر بالمسابقة في أعمال البر والتنافس فيها والمبادرة إليها وهذا ضد الإيثار بها قال الله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض تعالى وقال فاستبقوا الخيرات وقال تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وقال النبي لو يعلم الناس ما

في النداء والصف الأول لكانت قرعة والقرعة إنما تكون عند التزاحم والتنافس لا عند الإيثار فلم يجعل الشارع الطاعات والقربات محلا للإيثار بل محلا للتنافس والمسابقة ولهذا قال الفقهاء لا يستحب الإيثيار بالقربات والسر فيه والله أعلم أن الإيثار إنما يكون بالشيء الذي يضيق عن الاشتراك فيه فلا يسع المؤثر والمؤثر بل لا يسع إلا أحدهما وأما أعمال البر والطاعات فلا ضيق على العباد فيها فلو اشتركت الألوف المؤلفة في الطاعة الواحدة لم يكن عليهم فيها ضيق ولا تزاحم ووسعتهم كلهم وإن قدر التزاحم ي عمل واحد أو مكان لا يمكن أن يفعله الجميع بحيث إذا فعله واحد فات على غيره فإن في العزو والنية الجازة على فعله من الثواب ما لفاعله كما ثبت عن النبي في غير حديث فإذا قدر فوت

مباشرته له فلا يفوت عليه عزمه ونيته لفعله وأيضا فإنه إذا فات عليه كان في غيره من الطاعات والقربات عوض منه إما مساو له وإما أزيد وإما دونه فمتى أتى بالعوض وعلم الله من نيته وعزيمته الصادقة إرادته لذلك العمل الفائت أعطاه الله ثوابه وثواب ما تعوض به عنه فجمع له الأمرين وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأيضا فإن المقصود رغبة العبد في التقرب إلى الله وابتغاء الوسيلة إليه والمنافسة في محابه والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه وتركه له وعدم المنافسة فيه وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه إذا كان أخوه محتاجا إليه فإذا اختص به أحدهما فات الآخر فندب الله عبده إذا وجد من نفسه قوة وصبرا على الإيثار به ما لم يخرم عليه دينا أو يجلب له مفسدة أو يقطع عليه طريقا عزم على سلوكه إلى ربه أو شوش عليه قلبه بحيث يجعله متعلقا بالخلق فمفسدة إيثار هذا أرجح من مصلحته فإذا ترجحت مصلحة الإيثار بحيث تتضمم إنقاذ نفسه من هلكة أو عطب أو شدة ضرورة وليس للمؤثر نظيرها تعين عليه الإيثار فإن كان به نظيرها لم يتعين عليه الإيثار ولكن لو فعله لكان غاية الكرم والسخاء والإحسان فإنه من آثر حياة غيره على حياته وضرورة على ضرورته فقد استولى على أمد الكرم والسخاء وجاوز أقصاه وضرب فيه بأوفر الحظ وفي هذا الموضع مسائل فقهية ليس هذا موضع ذكرها فإن قيل فما الذي يسهل على النفس هذا الإيثار فإن النفس مجبولة على الأثرة لا على الإيثار قيل يسهله أمور
أحدها رغبة العبد في مكارم الأخلاق ومعاليها فإن من أفضل أخلاق الرجل وأشرفها وأعلاها الإيثار وقد جبل الله القلوب على تعظيم صاحبه ومحبته كما جبلها على بغض المستأثر ومقته لا تبديل لخلق الله والأخلاق ثلاثة خلق الإيثار وهو خلق الفضل وخلق القسمة والتسوية وهو خلق العدل وخلق الاستئثار والاستبداد وهو خلق الظلم فصاحب

الإيثار محبوب مطاع مهيب وصاحب العدل لا سبيل للنفوس إلى أذاه والتسلط عليه ولكنها لا تنقاد إليه انقيادها لمن يؤثرها وصاحب الاستئثار النفوس إلى أذاه والتسلط عليه أسرع من السيل في حدوره وهل أزال المملك وقلعهاإلا الاستئثار فإن النفوس لا صبر لها عليه ولهذا أمر رسول الله أصحابه بالسمع والطاعة لولاة الأمر وإن استأثروا عليهم لما في طاعة المستأثر من المشقة أو لكره الاستئثار
الثاني النفرة من أخلاق اللئام ومقت الشح وكراهته له
الثالث تعظيم الحقوق التي جعلها الله سبحانه وتعالى للمسلمين بعضهم على بعض فهو يرعاها حق رعايتها ويخاف من تضييعها ويعلم أنه إن لم يبذل فوق العدل لم يمكنه الوقوف مع حده فإن ذلك عسر جدا بل لا بد من مجاوزته إلى الفضل أو التقصير عنه إلى الظلم فهو لخوفه من تضييع الحق والدخول في الظلم يختار الإيثار بما لا ينقصه ولا يضره ويكتسب به جميل الذكر في الدنيا وجزيل الأجر في الآخرة مع ما يجلبه له الإيثار من البركة وفيضان الخير عليه فيعود عيه من إيثاره أفضل مما بذله ومن جرب هذا عرفه ومن لم يجربه فليستقر أحوال العالم والموفق من وفقه الله سبحانه وتعالى فصل والإيثار المتعلق بالخالق أجل من هذا وأفضل وهو إيثار رضاه على رضى غيره وإيثار حبه على حب غيره وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه وإيثار الذل له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملق على بذل ذلك لغيره وكذلك إيثار الطلب من هوالسؤال وإنزال الفاقات به على تعلق ذلك بغيره فالأول آثر بعض العبيد على نفسه فيما هو محبوب له وهذا آثر الله على غيره ونفسه من أعظم الأغيار فآثر الله عليها فترك

محبوبها لمحبوب الله وعلامة هذا الإيثار شيئان أحدهما فعل ما يحب الله إذا كانت النفس تكرهه وتهرب منه الثاني ترك ما يكرهه إذا كانت النفس تحبه وتهواه فبهذين الأمرين يصح مقام الإيثار ومؤنة هذا الإيثار شديدة لغلبة الأغيار وقوة داعي العادة والطبع فالمحنة فيه عظيمة والمؤنة فيه شديدة والنفس عنه ضعيفة ولا يتم فلاح العبد وسعادته إلا به وإنه ليسير على من يسره الله عليه فحقيق بالعبد أن يسمو إليه وإن صعب المرتقى وأن يشمر إليه وإن عظمت فيه المحنة ويحمل فيه خطرا يسير لملك عظيم وفوز كبير فإن ثمرة هذا في العاجل والآجل ليست تشبه ثمرة شيء من الأعمال ويسير منه يرقي العبد ويسيره ما لا يرقى غيره إليه في المدد المتطاولة وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ولا تتحقق المحبة إلا بهذا الإيثار والذي يسهله على العبد أمور أحدها أن تكون طبيعته لينة منقادة سلسة ليست بجافية ولا قاسية بل تنقاد معه بسهولة الثاني أن يكون إيمانه راسخا ويقينه قويا فإن هذا ثمرة الإيمان ونتيجته الثالث قوة صبره وثباته فبهذه الأمور الثلاثة ينهض إلى هذا المقام ويسهل عليه دركه والنقص والتخلف في النفس عن هذا يكون من أمرين أن تكون جامدة غير سريعة الإدراك بل بطيئة ولا تكاد ترى حقيقة الشيء إلا بعد عسر وإن رأتها اقترنت به الأوهام والشكوك والشبهات والاحتمالات فلا يتخلص له رؤيتها وعيانها الثاني أن تكون القريحة وقادة دراكة لكن النفس ضعيفة مهينة إذا أبصرت الحق والرشد ضعفت عن إيثاره فصاحبها يسوقها سوق العليل المريض كلما ساقه خطوة وقف خطوة أو كسوق الطفل الصغير الذي تعلقت نفسه بشهواته ومألوفاته فهو يسوقه إلى رشده وهو ملتفت إلى لهوه ولعبه لا ينساق معه إلا كرها فإذا رزق العبد قريحة وقادة وطبيعة منقادة إذا زجرها انزجرت وإذا قادها انقادت بسهولة وسرعة ولين وارتدى مع ذلك بعلم نافع وإيمان راسخ أقبلت إليه وفود السعادة من كل جانب
ولما كانت هذه القرائح والطبائع ثابتة للصحابة رضي الله عنهم

وكملها الله لهم بنور الإسلام وقوة اليقين ومباشرة الإيمان لقلوبهم كانوا أفضل العالمين بعد الأنبياء والمرسلين وكان من بعدهم لو أنفق مثل جب أحد ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ومن تصور هذا الموضع حق تصوره علم من أين يلزمه النقص والتأخر ومن أين يتقدم ويرقى في درجات السعادة وبالله التوفيق والله أعلم
فصل قال وقيل المحبة موافقة المحبوب فيما ساء وسر ونفع وضر كما قيل
وأهنتني فأهنت نفسي صاغرا ... ما من يهون عليك ممن أكرم
فيقال وهذا الحد أيضا جنس ما قبله فإن موافقة المحبوب من موجبات المحبة وثمراتها وليست نفس المحبة بل المحبة تستدعي الموافقة وكلما كانت المحبة أقوى كانت الموافقة أتم قال الله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله قال الحسن قال قوم على عهد النبي إنا نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال الحسن قال قوم على عهد النبي انا نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال الجنيد ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله يعني

أن متابعة الرسول هي موافقة حبيبكم فإنه المبلغ عنه ما يحبه وما يكرهه وقال مالك في هذه الآية من أحب طاعة الله أحبه الله وحببه إلى خلقه وإنما كانت موافقة المحبوب دليلا على محبته لأن من أحب حبيبا فلا بد أن يحب ما يحبه ويبغض ما يبغضه وإلا لم يكن محبا له محبة صادقة بل إن تخلف ذلك عنه لم يكن له محبا له بل يكون محبا لمراده منه أحبه محبوبه أم كرهه ومحبوبه عنده وسيلة إلى ذلك المراد فلو حصل له حظه من غيره ترحل عوضه فهذه المحبة المدخولة الفاسدة وإذا كانت المحبة الصحيحة تستدعي حب ما يحبه المحبوب وبغض ما يبغضه فلا بد أن يوافقه فيه
ولكن ههنا مسألة يغلط فيها كثير من المدعين للمحبة وهي أن موافقة المحبوب في مراده ليس المعنى بها مراده الخلقي الكني فإن كل الكون مراده وكل ما يفعله الخلائق فهو موجب مشيئته وإرادته الكونية فلو كانت موافقته في هذا المراد هي محبته لم يكن له عدو أصلا وكانت الشياطين والكفار والمشركون عباد الأوثان والشمس والقمر أولياءه وأحبابه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وإنما يظن ذلك من يظنه من أعدائه الجاحدين لمحبته ودينه والذين يسوون بين أوليائه وأعدائه قال الله تعالى أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار وقال الله تعالى أم حسبت الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون وقال الله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون وبين المطيعين والمفسين مع أن الكل تحت المراد

الكوني والمشيئة العامة وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول قال لي بعض شيوخ هؤلاء المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراده فأي شيء أبغض منه قال فقلت له فإذا كان المحبوب قد أبغض بعض ما في الكون فأبغض قوما ومقتهم ولعنهم وعاداهم فأحببتهم أنت وواليتهم تكون مواليا للمحبوب موافقا له أو مخالفا له معاديا له قال فكأنما ألقم حجرا ويبلغ الجهل والكفر ببعض هؤلاء إلى حد بحيث إذا فعل محظورا يزعم أنه مطيع لله سبحانه وتعالى ويقول أنا مطيع لإرادته وينشد في ذلك
أصبحت منفعلا لما يختاره ... مني ففعلي كله طاعات
ويقول أحدهم إبليس وإن عصى الأمر لكنه أطاع الإرادة يعني أن فعله طاعة لله من حيث موافقة إرادته وهذا انسلاخ من ربقة العقل والدين وخروج عن الشرائع كلها فإن الطاعة إنما هي موافقة الأمر الديني الذي يحبه الله ويرضاه وأما دخوله تحت القدر الكوني الذي يبغضه ويسخطه ويكفر فاعله ويعاقبه فهي المعصية والكفر ومعاداته ومعاداة دينه ولا ريب أن المسرفين على أنفسهم المنهمكين في الذنوب والمعاصي المعترفين بأنهم عصاة مذنبون أقرب إلى الله من هؤلاء العارفين المنسلخين عن دين الأنبياء كلهم الذين لا عقل لهم ولا دين فنسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه
أما البيت الذي استشهد به فهو من أبيات لأبي الشيص من قصيدة يقول فيها
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا ... ما من يهون عليك ممن يكرم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم ... إذ كان حظي منك حظي منهم
أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم
وقد ناقض فيها في دعواه مناقضة بينة فإنه أخبر أن هواه قد صار

وقفا عليها لا يزول عنها ولا يتحول بتقدم ولا تأخر ثم أخبر أنه قد بلغ به حبها وهواها إلى أن صار مرادها من نفسه غير مراده هو فلما أرادت إهانته بالصد والهجران والبعد سعى هو في إهانة نفسه بجهده موافقة لها في إرادتها فصارت إهانته لنفسه مرادة محبوبه له من حيث هي مرادة محبوبة لها وزعم أنه لو أكرم نفسه لكان مخالفا لمحبوبته مكرما لمن أهانته ثم نقض هذا الغرض من حيث شبهها بأعدائه الذين هم أبغض شيء إليه ووجه هذا التشبيه أنه لم يحصل منها من حظه ومراده على شيء بل الذي يحصل له منها مثل ما يحصل له من أعدائه من إهانتهم له وأذاه فصار حظه منها ومن أعدائه واحدا فصارت شبيهة لهم فأين هذا من الموافقة التامة لها في مرادها بحيث يهين نفسه لمحبتها في إهانته ثم أخبر أن له منها حظا مرادا وأن ذلك الحظ الذي يريده لم يحصل له وإنما حصل له منه نظير ما يحصل له من أعدائه وهذه شكاية في الحقيقة وإخبار عن محبه ببخله بالحظ وشكاية للحبيب بتفويته عليه ثم إنه أخبر عن جناية أخرى وهي أنه شرك بينهما وبين أعدائه في حبه لها فصار حبه منقسما بعضه له وبعضه لأعدائه لشبههم إياها ثم إن في الشعر جناية أخرى عليها وهو أنه شبهها بمن جبلت القلوب على بغضه وهو العدو واللائق تشبيه الحبيب بما هو أحب الأشياء إلى النفس كالسمع والبصر والحياة والروح والعافية كما هو عادة الشعراء والناس في نظمهم ونثرهم كما هو معروف بينهم وهو جادة كلامهم ثم أخبر بمحبته لأعدائه لشبههم بها فتضمن كلامه معاداة من يحبه ومحبة من يعاديه فإنها إذا أشبهت أعداءه لزم أن يحصل لها نصيب من معاداته وإذا أشبهها أعداؤه لزم أن يحصل لهم نصيب من محبته كما صرح به في جانبهم وترك التصريح في جانبها وهو مفهوم من كلامه ثم أخبر أنه يلتذ بملامة اللوام في هواها لما يتضمن من ذكراها وهذا يدل على قوة محبتها وسماع ذكرها وهذا غرض صحيح مع أنه مدخول أيضا فإن محبوبته قد تكره

ذلك لما يتضمن من فضيحتها به وجعلها مضغة للماضغين فيكون محبا لنفس ما تكرهه وهذه محبة فاسدة معلولة ناقضة لدعواه موافقتها في محابها
فصل قال وقيل المحبة القيام بين يديه وأنت قاعد ومفارقة المضجع وأنت راقد والسكون وأنت ناطق ومفارقة المألوف والوطن وأنت مستوطن فيقال وهذا أيضا أثر من آثار المحبة وموجب من موجباتها وحكم من أحكامها وهو صحيح فإن المحبة توجب سفر القلب نحو المحبوب دائما والمحبة وطنه وتوجب مثوله وقيامه بين يدي محبوبه وهو قاعد وتجافيه عن مضجعه ومفارقته إياه وهو فيه راقد وفراغه لمحبوبه كله وهو مشغول في الظاهر بغيره كما قال بعضهم
وأديم نحو محدثي ليرى ... أن قد عقلت وعندكم عقلي
وقال بعض المريدين لشيخه أيسجد القلب بين يدي الله فقال نعم سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة فهذه سجدة متصلة بقيامه وقعوده وذهابه ومجيئه وحركته وسكونه وكذلك يكون جسده في مضجعه وقلبه قد قطع المراحل مسافرا إلى حبيبه فإذا أخذ مضجعه اجتمع عليه حبه وشوقه فيهزه المضجع إلى مسكنه كما قال الله تعالى في حق المحبين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا فلما تجافت جنوبهم عن المضاجع جافت الجنوب عنها واستخدمتها وأمرتها فأطاعتها وقال القائل
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
ويحكى أن بعض الصالحين اجتاز بمجسد فرأى الشيطان واقفا ببابه لا يستطيع دخوله فنظر فإذا فيه رجل نائم وآخر قائم يصلي فقال له أيمنعك هذا المصلي من دخوله فقال كلا إنما يمنعني ذلك الأسد

الرابض ولولا مكانه لدخلت وبالجملة فقلب المحب دائما في سفر لا ينقضي نحو محبوبه كلما قطع مرحلة له ومنزلة تبدت له أخرى كما قيل إذا قطعت علما بدا علم فهو مسافر بين أهله وظاعن وهو في داره وغريب وهو بين إخوانه وعشيرته ويرى كل أحد عنده ولا يرى نفسه عند أحد فقوة تعلق المحب بمحبوبه توجب له أن لا يستقر قلبه دون الوصول إليه وكلما هدأت حركاته وقلت شواغله اجتمعت عليه شؤون قلبه بله قوى سيره إلى محبوبه
ومحك هذا الحال يظهر في مواطن أربعة
أحدها عند أخذ مضجعه وتفرغ حواسه وجوارحه من الشواغل واجتماع قلبه على ما يحبه فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه وشغل قلبه به
الموطن الثاني عند انتباهه من النوم فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه فإنه إذا استيقظ وردت إليه روحه رد معها إليه ذكر محبوبه الذي كان قد غاب عنه في النوم ولكن كان قد خالط روحه وقلبه فلما ردت إليه الروح أسرع من الطرف رد إليه ذكر محبوبه متصلا بها مصاحبا لها فورد عليه قبل كل وارد وهجم عليه قبل كل طارق فإذا وردت عليه الشواغل والقواطع وردت على محل ممتلىء بمحبة ما يحبه فوردت على ساحته من ظاهرها فإذا قضى وطره منها قضاه بمصاحبته لما في قلبه من الحب فإنه قد لزمه ملازمة الغريم لغريمه ولذلك يسمى غراما وهو الحب اللازم الذي لا يفارق فسمع بمحبوبه وأبصر به وبطش به ومشى به فصار محل سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها هذا مثل محبوبه في وجوده وهو غير متحد به بل هو قائم بذاته مباين له وهذا المعنى مفهوم بين الناس لا ينكره منهم إلا غليظ الحجاب أو قليل العلم ضعيف العقل يجد محبوبه قد استولى على قلبه وذكره فيظن أنه هو نفس ذاته الخارجة قد اتحدت به أو حلت

فيه فينشأ من قسوة الأول وكثافته غلظ حجاب ومن قلة علم الثاني ومعرفته وضعف تمييزه ضلال الحلول والاتحاد وضلال الإنكار والتعطيل والحرمان ويخرج للبصير من بين فرث هذا ودم هذا لبن الفطرة الأولى خالصا سائغا للشاربين
الموطن الثالث عند دخوله في الصلاة فإنها محك الأحوال وميزان الإيمان بها يوزن إيمان الرجل ويتحقق حاله ومقامه ومقدار قربه من الله ونصيبه منه فإنها محل المناجاة والقربة ولا واسطة فيها بين العبد وبين ربه فلا شيء أقر لعين المحب ولا ألذ لقلبه ولا أنعم لعيشه منها إذا كان محبا فإنه لا شيء آثر عند المحب ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه ومناجاته له ومثوله بين يديه وقد أقبل محبوبه عليه وكان قبل ذلك معذبا بمقاساة الأغيار ومواصلة الخلق والاشتغال بهم فإذا قام إلى الصلاة هرب من سوى الله إليه وآوى عنده واطمأن بذكره وقرت عينه بالمثول بين يديه ومناجاته فلا شيء أهم إليه من الصلاة كأنه في سجن وضيق وغم حتى تحضر الصلاة فيجد قلبه قد انفسح وانشرح واستراح كما قال النبي لبلال يا بلال أرحنا بالصلاة ولم يقل أرحنا منها كما يقول المبطلون الغافلون وقال بعض السلف ليس بمستكمل الإيمان من لم يزل في هم وغم حتى تحضر الصلاة فيزول همه وغمه أو كما قال فالصلاة قرة عيون المحبين وسرور أرواحهم ولذة قلوبهم وبهجة نفوسهم يحملون هم الفراغ منها إذا دخلوا فيها كما يحمل الفارغ البطال همها حتى يقضيها بسرعة فلهم فيها شأن وللنقارين شأن يشكون إلى الله سوء صنيعهم بها إذا ائتموا بهم كما يشكو الغافل المعرض تطويل إمامه فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم بالجملة فمن كان قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه ولا أنعم عنده منها ويود

أن لو قطع عمره بها غير مشتغل بغيرها وإنما يسلي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب فهو دائما يثوب إليها ولا يقضي منها وطرا فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة فإنها الميزان العادل الذي وزنه غير عائل
الموطن الرابع عند الشدائد والأهوال فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء إليه ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده ولهذا كانوا يفتخرون بذكرهم من يحبونهم عند الحرب واللقاء وهو كثير في أشعارهم كما قال
ذكرتك والخطي يخطر بيننا ... وقد نهلت مني المثقفة السمر
وقال غيره
ولقد ذكرتك والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم
وقد جاء في بعض الآثار يقول تبارك وتعالى إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه والسر في هذا والله أعلم أن عند مصائب الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياء إليه وهي حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربه من محبوبه فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه فإذا خاف فوتها بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذي يفوت بفوات حياته ولهذا والله أعلم كثيرا ما يعرض للعبد عند موته لهجه بما يحبه وكثرة ذكره له وربما خرجت روحه وهو يلهج به وذكر ابن أبي

الدنيا في كتاب المحتضرين عن زفر أنه جعل يقول عند موته لها ثلاثة أخماس الصداق لها ربع الصداق لها كذا ومات لامتلاء قلبه من محبة الفقه والعلم وأيضا فإنه عند الموت تنقطع شواغله وتبطل حواسه فيظهر ما في القلب ويقوى سلطانه فيبدو ما فيه من غير حاجب ولا مدافع وكثيرا ما سمع من بعض المحتضرين عند الموت شاه مات وسمع من آخر بيت شعر لم يزل يغني به حتى مات وكان مغنيا وأخبرني رجل عن قرابة له أنه حضره عند الموت وكان تاجرا يبيع القماش قال فجعل يقول هذه قطعة جيدة هذه على قدرك هذه مشتراها رخيص يساوي كذا وكذا حتى مات والحكاية في هذا كثيرة جدا فمن كان مشغولا بالله وبذكره ومحبته في حال حياته وجد ذلك أحوج ما هو إليه عند خروج روحه إلى الله ومن كان مشغولا بغيره في حال حياته وصحته فيعسر عليه اشتغاله بالله وحضوره معه عند الموت ما لم تدركه عناية من ربه ولأجل هذا كان جديرا بالعاقل أن يلزم قلبه ولسانه ذكر الله حيثما كان لأجل تلك اللحظة التي إن فاتت شقي شقاوة الأبد فنسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته
فصل وقد قيل في المحبة حدود كثيرة غير ما ذكره أبو العباس فقيل المحبة ميل القلب إلى محبوبه وهذا الحد لا يعطي تصور حقيقة المحبة فإن المحبة أعرف عند القلب من الميل وأيضا فإن الميل لا يدل على حقيقة المحبة فإنها أخص من مجرد ميل القلب إذ قد يميل قلب العبد إلى الشيء ولا يكون محبا له لمعرفته بمضرته له فإن سمي هذا الميل محبة فهو اختلاف عبارة وقيل المحبة علم المحب بجمال المحبوب ومحاسنه وهذا حد قاصر فإن العلم بجماله ومحاسنه هو السبب الداعي إلى محبته فعبر عن المحبة بسببها وقيل المحبة تعلق القلب بالمحبوب وقيل انصباب القلب إلى المحبوب وقيل سكون القلب إليه وقيل اشتغال القلب بالمحبوب بحيث لا يتفرغ قلبه لغيره وقيل

المحبة بذل المجهود في معرفة محبوبك وبذل المجهود في مرضاته وقيل هيجان القلب عند ذكر المحبوب وقيل شجرة تنبت في القلب تسقى بماء المراقبة وإيثار رضى المحبوب وقيل المحبة حفظ الحدود فليس بصادق من ادعى محبة الله ولم يحفظ حدوده وقيل المحبة إرادة لا تنقص بالجفاء ولا تزيد بالبر وقيل المحبة هي السخاء بالنفس للمحبوب وقيل المحبة أن لا يزال عليك رقيب من المحبوب لا يمكنك من الانصراف عنه أبدا وأنشد في ذلك
أبت غلبات الشوق إلا تقربا ... إليك ويأبى العذل إلا تجنبا
وما كان صدي عنك صد ملامة ... ولا ذلك الإعراض إلا تقربا
وما كان ذاك العذل إلا نصيحة ... ولا ذلك الإغضاء إلا تهيبا
علي رقيب منك حل بمهجتي ... إذا رمت تسهيلا علي تصعبا
وقيل المحبة سقوط كل محبة من القلب سوى محبة حبيبك وقيل المحبة صدق المجاهدة في أوامر الله وتجريد المتابعة لسنة رسول الله وقيل المحبة أن لا يفتر من ذكره ولا يأنس بغيره وقال أبو يزيد المحبة استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك وقيل المحبة أن يميتك حبيبك وتحيا به وقال أبو عبدالله القرشي المحبة أن تهب كلك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء وقيل أن تمحو من قلبك ما سوى المحبوب وقيل المحبة نسيان حظك من محبوبك وفقرك بكلك إليه وقال النصر أباذي المحبة مجانبة السلو على كل حال وقال الحارث بن أسد المحبة ميلك إلى المحبوب بكليتك ثم إيثارك له على نفسك وروحك ومالك ثم موافقتك له سرا وجهرا ثم علمك بتقصيرك في حبه وقيل المحبة سكر لا يصحو إلا بمشاهدة المحبوب وقيل المحبة إقامتك بالباب على الدوام وقيل المحبة حرفان حاء وباء فالحاء الخروج عن الروح وبذلها للمحبوب والباء الخروج عن البدن وصرفه في طاعة المحبوب وقال أبو عمر الزجاجي سألت الجنيد عن المحبة فقال تريد

الإشارة قلت لا قال تريد الدعوى قلت لا قال فأيش تريد قلت عين المحبة فقال أن تحب ما يحب الله في عباده وتكره ما يكره الله في عباده وقيل المحبة معية القلب والروح مع المحبوب معية لا تفارقه فإن المرء مع من أحب وقد قيل في المحبة حدود أكثر من هذا وكل هذا تعن ولا توصف المحبة ولا تحد بحد أوضح من المحبة ولا أقرب إلى الفهم من لفظها وأما ذكر الحدود والتعريفات فإنما يكون عند حصول الإشكال والاستعجام على الفهم فإذا زال الإشكال وعدم الاستعجام فلا حاجة إلى ذكر الحدود والتعريفات كما قال بعض العارفين إن كل لفظ يعبر به عن الشيء فلا بد أن يكون ألطف وأرق منه والمحبة ألطف وأرق من كل ما يعبر به عنها
فصل قال أبو العباس وقال قوم ليس للمحبة صيغة يعبر بها عن حقيقتها فإن الغيرة من أوصاف المحبة والغيرة تأبى إلا التستر والاختفاء وكل من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرها فليس له منها ذوق وإنما حركة وجدان الرائحة ولو ذاق منها شيئا لغاب عن الشرح والوصف فإن المحبة لا تظهر على المحب بلفظه وإنما تظهر عليه بشمائله ونحوله ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب لموضع اقتداح الأسرار من القلوب كما قيل
تشير فأدري ما تقول بطرفها ... وأطرق طرفي عند ذاك فتعلم
تكلم منا في الوجوه عيوننا ... فنحن سكوت والهوى يتكلم
قلت كل معنى فله صيغة تعبر به عنه ولا سيما إذا كانت من المعاني المعروفة للخاص والعام ولكن العبارة قد تكون كاشفة للمعنى مطابقة له كلفظ الدراهم والخبز والماء واللبن ونحوها وهي أكبر الألفاظ وقد يكون المعنى فوق ما يشير إليه اللفظ ويعبر عنه وهو أجل من أن يدل لفظه على كمال ماهيته وهذا كأسماء الرب سبحانه وأسماء كتابه وكذلك

اسم الحب فإنه لا يكشف اسمه مسماه بل مسماه فوق لفظه وكذلك اسم الشوق والعشق والموت والبلاء ونحوها وقد يكون المعنى دون اللفظ بكثير واللفظ أجل منه وأعظم وهذا كلفظ الجوهر الفرد الذي هو عبارة عن أقل شيء وأصغره وأقه وأحقره فليس معناه على قدر لفظه وإذا عرف هذا فقولهم ليس للمحبة صيغة يعبر بها عن حقيقتها المراد به أن لفظها لا يفهم حقيقة معناها ومعناها فوق ما يفهم من لفظها وقوله الغيرة من أوصاف المحبة وهي تأبى إلا التستر والاختفاء هذا كلام في حكم المحبة ومقتضاها لا في حقيقتها ومعناها والمحبون متباينون في هذا الحكم فمنهم من يجعل الغيرة من لوازم المحبة وعلامة ثبوتها وتمكنها ويجعل نداء المرء عليها وبسط لسانه بالإخبار بها دليلا على أنه دعي فيها وأن ما معه منها رائحتها لا حقيقتها وحقيقتها تأبى إلا التستر والكتمان وهذه طريقة الملامين كما قيل
لا تنكري جحدي هواك فإنما ... ذاك الجحود عليه ستر مسبل
ولهذا قيل المحبة كتمان الإرادة وإظهاره الموافقة وهذه الطائفة رأت أن كمال المحبة بكتمانها لأسباب عديدة
أحدها أن الحب كلما كان مكتوما كان أشد وأعظم سريانا وسكونا في أجزاء القلب كلها كما قيل الحب أقتله أكتمه فإذا أفشاه المحب وأظهره وباح به ونادى عليه ضعف أثره وصار عرضة للزوال
الثاني أن الحب كنز من الكنوز بل هو أعظم الكنوز المودعة في سر العبد وقلبه فلا طريق للصوص إليه فإذا باح به ونادى عليه فقد دل قطاع الطريق واللصوص على موضع كنزه وعرضه لسلبه منه فإن النفوس غيارة مغيرة تغار على المحبوب أن يشاركها في حبه فانتزعته منه وهذه الآفة قد ابتلي بها كثير من السالكين الذين هم في الحقيقة قطاع الطريق على السالكين إلى الله وسولت لهم أنفسهم أن هذه غيرة منهم على

محبوبهم أن يحب مثل هذه النفوس المتلوثة بالدنيا وغرتهم أنفسهم ومنتهم أنهم يغارون على الله ويحولون بين تلك النفوس وبين المحبة فغاروا وأغاروا ونهبوا واستلبوا وهذه الطريقة عند المحبين المخلصين أولياء الله الداعين إلى الله عداوة لله في الحقيقة ومعاونة للشيطان وقعود على طريق الله المستقيم الذي خلق عباده لأجله وأمرهم به فالحذر من هؤلاء القطاع اللصوص حمل أهل المحبةعلى المبالغة في كتمانها وإظهار التخلي منها بأسباب يلامون عليها ظاهرا وقلوبهم مغمورة بالمحبة مأهولة بها وهذا الذي ظنوه غيرة هو من تلبيس الشيطان وخدعه لهم ومكره بهم وإنما غيرة المحبين لله أن يغار أحدهم لمحارم الله إذا انتهكت فيغار لله على الله كما قال النبي إن الله يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه فغيرة المحب هي الموافقة لغيرة محبوبه وهي أن يغار مما يغار منه المحبوب وإذا كان المحبوب ممن يحبه وهذا يغار ممن يحبه الله فهو في الحقيقة ساع في خلاف مراد محبوبه وفي إعدام ما يحبه محبوبه فأن هذا من الغيرة المحبوبة لله وإنما هذه غيرة من أخيه المسلم كيف خصه الله بعطائه وألبسه ثوب نعمائه فهي غيرة منه لا غيرة على الله فإن الله لا يغار عليه بل يغار له وسنفرد إن شاء الله للغيرة فصلا نذكر فيه أقسامها وحقيقتها
الثالث أن المحبة التامة تستدعي شغل القلب بالمحبوب وعدم تفرغه للشرح والوصف فلو صدقت محبته لاستغرق فيها عن شرح حاله ووصفه فهذه طريقة هؤلاء ومنهم من يجعل تهتكه وبوحه بها وإعلامه لها من تمامها وقوتها ومن علامات قهرها له وأنها غلبت على سره حتى لم يطق صبره كتمانها كما قال النوري المحبة هتك الأستار وكشف الأسرار فهذا حال النوري وأضرابه وعند هؤلاء التكتم ضعف في المحبة وجور

فيها وحقيقتها أن تخليها ومقتضاها من ظهور آثارها على الجوارح والبدن فإن أثرت حركة لم يسكنها وإن أثرت دمعة لم يمسكها وإن أثرت تنفسا لم يكظمه وإن أثرت بذلا وإيثارا لم يمسكه وكمال المحبة عندهم أن تنادي عليه أعضاؤه وألفاظه وألحاظه وحركاته وسكناته بالحب نداء لا يملك إنكاره وقال علي بن عبيد وكتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد سكرت من كثرة ما شربت من كأس محبته فكتب إليه أبو يزيد غيرك شرب بحور السموات والأرض ما روي بعد ولسانه خارج وهو يقول هل من مزيد فلم ير هذان العارفان التكتم بها وإخفاءها وجحدها وهما هما وكان الأستاذ أبو علي الدقاق ينشد كثيرا
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
وجاء رجل إلى عبدالله بن المنازل فقال رأيت في المنام كأنك تموت إلى سنة فقال عبدالله لقد أجلتني إلى أجل بعيد أعيش إلى سنة لقد كان لي أنس ببيت سمعته من أبي علي الثقفي
يا من شكى شوقه من طول فرقته ... اصبر لعلك تلقى من تحب غدا
وقال الشبلي المحب إذا سكت هلك والعارف إن لم يسكت هلك والتحقيق أن هذا هو حال المتمكن في حبه الذي تزول الجبال الراسيات وقلبه على الود لا يلوي ولا يتغير والأول حال المريد المبتدىء الذي قد علقت نار المحبة في قلبه ولم يتمكن اشتعالها فهو يخاف عليها عواصف الرياح أن تطفئها فهو يخبئها ويكتمها ويسترها من الرياح جهده فإذا اشتعلت وتمكن وقودها في القلب لم تزدها كثرة الرياح إلا وقودا واشتعالا فهذا يختلف باختلاف الناس وتفاوتهم في قوة المحبة وضعفها والمقصود أن من بسط لسانه بالعبارة عنها والكشف عن سرها وأحكامها أن يؤمن أن يكون من أهل العلم بالمحبة لا من المتصفين بها حالا فكم بين العلم بالشيء والاتصاف به ذوقا وحالا فعلم المحبة شيء ووجودها في القلب شيء وكثير من المحبين الذين امتلأت قلوبهم محبة لو سئل عن

حدها وأحكامها وحقيقتها لم يطق أن يعبر عنها ولا يتهيأ له أن يصفها ويصف أحكامها وأكثر المتكلمين فيها إنما تكلموا فيها بلسان العلم لا بلسان الحال وهذا والله أعلم هو معنى قول بعض المشايخ أعظم الناس حجابا عن الله أكثرهم إليه إشارة فإنه إنما حظه من الإشارة إليه لا علوق القلب عليه كالفقير الذي دأبه وصف الأغنياء وأموالهم ووصف الدنيا وممالكها وهو خلو من ذلك ولا ريب أن وجود الحب في القلب وترك الكلام علما خير من كثرة الكلام في هذه المسألة وخلو القلب منها وخير من الرجلين من امتلأ قلبه منها حالا وذوقا وفاضت على لسانه إرشادا وتعليما ونصيحة للأمة فهذا حال الكملة من الناس والله المسؤول من فضله وكرمه
قوله المحبة لا تظهر على المحب بلفظه وإنما تظهر عليه بشمائله ونحوله هذا حق فإن دلالة الحال على المحبة أعظم من دلالة القال عليها بل الدلالة عليها في الحقيقة هو شاهد الحال لا صريح المقال ففرق بين من يقول لك بلسانه إني أحبك ولا شاهد عليه من حاله وبين من هو ساكت لا يتكلم وأنت ترى شواهد أحواله كلها ناطقة بحبه لك قال جعفر قال الجنيد دفع السري إلي رقعة وقال هذه خير لي من سبعمائة قصة وكذا فإذا فيها
ولما ادعيت الحب قالت كذبتني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا
فما الحب حتى يلصق القلب بالحشا ... وتذبل حتى لا تجيب المناديا
وتبخل حتى ليس يبقي لك الهوى ... سوى مقلة تبكي بها وتناجيا
وبالجملة فشاهد الحب الذي لا يكذب هو شاهد الحال وأما شاهد المقال فصادق وكاذب
قوله ولا يفهم حقيقتها من المحب سوى المحبوب لموضع اقتداح الأسرار من القلوب يعني أن حقيقة المحبة وسرها لا يفهمه من المحب إلا

محبوبه وذلك لشدة الاتصال الذي بينه وبين محبوبه في الباطن فروحه أقرب شيء إليه والغير وإن علم أنه محب بظهور أثر المحبةعليه وقيام شاهدها لكن لا يدرك تلك اللطيفة والحقيقة التي يدركها المحبوب من محبه لموضع اتصال سره وقرب ما بين الروحين ولا سيما إذا كانت المحبة من الطرفين فهناك العجب والمناجاة والملاطفة والإشارة والعتاب والشكوى وهما ساكنان لا يدري جليسهما بشأنهما
فصل في محبة العوام قال وأما محبة العوام فهي محبة تنبت من مطالعة المنة وتثبت باتباع السنة وتنمو على الإجابة للغاية وهي محبة تقطع الوسواس وتلذذ الخدمة وتسلي عن المصائب وهي طريق العوام عمدة الإيمان فيقال لا ريب أن المحبة درجات متفاوتة بعضها أكمل من بعض وكل درجة خاصة بالنسبة إلى ما تحتها عامة بالنسبة إلى ما فوقها فليس انقسامها إلى خاص وعام انقساما حقيقيا متميزا بالنسبة بفصل يميز أحد النوعين عن الآخر وإنما تنقسم باعتبار الباعث عليها وسببها وتنقسم بذلك إلى قسمين أحدهما محبة تنشأمن الإحسان ومطالعة الآلاء والنعم فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها ولا أحد أعظم إحسانا من الله سبحانه فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان فضلا عن أنواعه أو عن أفراده ويكفي أن من بعض أنواعه نعمة النفس التي لا تكاد تخطر ببال العبد وله عليه في كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرون ألف نعمة فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرين ألف نفس وكل نفس نعمة منه سبحانه فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم أربعة وعشرين ألف نعمة فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها هذا إلى ما يصرف عنه

من المضرات وأنواع الأذى التي تقصده ولعلها توازن النعم في الكثرة والعبد لا شعور له بأكثرها أصلا والله سبحانه يكلؤه منها بالليل والنهار كما قال تعالى قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن وسواء كان المعنى من يكلؤكم ويحفظكم منه إذا أراد بكم سوء ويكون يكلؤكم مضمنا معنى يجيركم وينجيكم من بأسه أو كانت من البدلية أي من يكلؤكم بدل الرحمن أي هو الذي يكلؤكم وحده لا كالىء لكم غيره ونظير من هذه قوله ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون على أحد القولين أي عوضكم وبدلكم واستشهدوا على ذلك بقول الشاعر
جارية لم تأكل المرققا ... ولم تذق من البقول الفستقا
أي لم تأكل الفستق بدل البقول وعلى كلا القولين فهو سبحانه منعم عليهم بكلاءتهم وحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده لا حافظ لهم غيره هذا مع غناه التام عنهم وفقرهم التام إليه من كل وجه وفي بعض الآثار يقول تعالى أنا الجواد ومن أعظم مني جودا وكرما أبيت أكلأ عبادي في مضاجعهم وهم يبارزونني بالعظائم وفي الترمذي أن النبي لما رأى السحاب قال هذه روايا الأرض يسوقها الله إلى قوم لا يذكرونه ولا يعبدونه وفي الصحيحين عنه أنه قال لا أحد أصبر على اذى سمعه من الله إنهم ليجعلون له الولد وهو يرزقهم

ويعافيهم وفي بعض الآثار يقول الله ابن آدم خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك وكم تتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح ولو لم يكن من تحببه إلى عباده وإحسانه إليهم وبره بهم إلا أنه خلق لهم ما في السموات والأرض وما في الدنيا والآخرة ثم أهلهم وكرمهم وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وشرع لهم شرائعه وأذن لهم في مناجاته كل وقت أرادوا وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وكتب لهم بالسيئة واحدة فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنة وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفره غفر له ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة وشرع لهم التوبة الهادمة للذنوب فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم وشرع لهم الحج الذي يهدم ما قبله فوفقهم لفعله وكفر عنهم سيئاتهم به وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات وهو الذي أمرهم بها وخلقها لهم وأعطاهم إياها ورتب عليها جزاءها فمنه السبب ومنه الجزاء ومنه التوفيق ومنه العطاء أولا وآخرا وهم محل إحسانه كله منه أولا وآخرا أعطى عبده المال وقال تقرب بهذا إلي أقبله منك فالعبد له والمال له والثواب منه فهو المعطي أولا وخرا فكيف لا يحب من هذا شأنه وكيف لا يستحي العبد أن يصرف شيئا من محبته إلى غيره ومن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه ومن أولى بالكرم والجود والإحسان منه فسبحانه وبحمده لا إله إلا هو العزيز الحكيم ويفرح سبحانه وتعالى بتوبة أحدهم إذا تاب إليه أعظم فرح وأكمله ويكفر عنه ذنوبه ويوجب له محبته بالتوبة وهو الذي ألهمه إياها ووفقه لها وأعانه عليها وملأ سبحانه وتعالى سماواته من ملائكته واستعملهم في الاستغفار لأهل

الأرض واستعمل حملة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين والاستغفار لذنوبهم ووقايتهم عذاب الجحيم والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جناته فانظر إلى هذه العناية وهذا الإحسان وهذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد واللطف التام بهم ومع هذا كله بعد أن أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم ويستعرض حوائجهم بنفسه ويدعوهم إلى سؤاله فيدعو مسيئهم إلى التوبة ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه وفقيرهم إلى أن يسأله غناه وذا حاجتهم يسأله قضاءها كل ليلة ويدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه وعذبوا أولياءه وأحرقوهم بالنار قال تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق وقال بعض السلف انظروا إلى كرمه كيف عذبوا أولياءه وحرقوهم بالنار ثم هو يدعوهم إلى التوبة فهذا الباب يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه وتعالى فإن نعمته على عباده مشهودة لهم يتقلبون فيها على عدد الأنفاس واللحظات وقد روي في بعض الأحاديث مرفوعا أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني بحب الله فهذه محبة تنشأ من مطالعة المنن ورؤية النعم والآلاء وكلما سافر القلب فيها ازدادت محبته وتأكدت ولا نهاية لها

فيقف سفر القلب عندها بل كلما ازداد فيها نظرا ازداد فيها اعتبارا وعجزا عن ضبط القليل منها فيستدل بما عرفه على مالم يعرفه والله سبحانه وتعالى دعا عباده إليه من هذا الباب حتى إذا دخلوا منه دعوا من الباب الآخر وهو باب الأسماء والصفات الذي إنما يدخل منه إليه خواص عباده وأوليائه وهو باب المحبين حقا الذي لا يدخل منه غيرهم ولا يشبع من معرفته أحد منهم بل كلما بدا له منه علم ازداد شوقا ومحبة وظمأ فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدها نقصا وأبعدها من كل خير فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها قلوب عباده فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحسانا منه سبحانه وتعالى ولا شيء أكمل منه ولا أجمل فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعه سبحانه وتعالى وهو الذي لا يحد كماله ولا يوصف جلاله وجماله ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله بل هو كما أثنى على نفسه وإذا كان الكمال محبوبا لذاته ونفسه وجب أن يكون الله هو المحبوب لذاته وصفاته إذ لا شيء أكمل منه وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته وأفعاله دالة عليها فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل ما أمر إذ ليس في أفعاله عبث ولا في أوامره سفه بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة والعدل والفضل والرحمة وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه وكلامه كله صدق وعدل وجزاؤه كله فضل وعدل فإنه إن أعطى فبفضله ورحمته ونعمته وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع

فصل ولا يتصور نشر هذا المقام حق تصوره فضلا عن أن يوفاه حقه فأعرف خلقه به وأحبهم له يقول لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ولو شهد بقلبه صفة واحدة من أوصاف كماله لاستدعت منه المحبة التامة عليها وهل مع امحبين محبة إلا من آثار صفات كماله فإنهم لم يروه في هذه الدار وإنما وصل إليهم العلم بآثار صفاته وآثار صنعه فاستدلوا بما علموه على ما غاب فلو شاهدوه ورأوا جلاله وجماله وكماله سبحانه وتعالى لكان لهم في حبه شأن آخر وإنما تفاوتت منازلهم ومراتبهم في محبته على حسب تفاوت مراتبهم في معرفته والعلم به فأعرفهم بالله أشدهم حبا له ولهذا كانت رسله أعظم الناس حبا له والخليلان من بينهم أعظمهم حبا وأعرف الأمة أشدهم له حبا ولهذا كان المنكرون لحبه من أجهل الخلق به فإنهم منكرون لحقيقة إلهيته ولخلة الخليلين ولفطرة الله التي فطر الله عباده عليها ولو رجعوا إلى قلوبهم لوجدوا حبه فيها ووجدوا معتقدهم نفي محبتهم يكذب فطرهم وإنما بعثت الرسل بتكميل هذه الفطرة وإعادة ما فسد منها إلى الحالة الأولى التي فطرت عليها وإنما دعوا إلى القيام بحقوقها ومراعاتها لئلا تفسد وتنتقل عما خلقت له وهل الأوامر والنواهي إلا خدم ووابع ومكملات ومصلحات لهذه الفطرة وهل خلق الله سبحانه وتعالى خلقه إلا لعبادته التي هي غاية محبته والذل له وهل هيىء الإنسان إلا لها كما قيل
قد هيئوك لأمر لو فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وهل في الوجود محبة حق غير باطلة إلا محبته سبحانه فإن كل محبة متعلقة بغيره فباطلة زائلة ببطلان متعلقها وأما محبته سبحانه فهو الحق الذي لا يزول ولا يبطل كما لا يزول متعلقها ولا يفنى وكل ما

سوى الله باطل ومحبة الباطل باطل فسبحان الله كيف ينكر المحبة الحق التي لا محبة أحق منها ويعترف بوجود المحبة الباطلة المتلاشية وهل تعلقت المحبة بوجود محدث إلا الكمال في وجوده بالنسبة إلى غيره وهل ذلك الكمال إلا من آثار صنع الله الذي أتقن كل شيء وهل الكمال كله إلا له فكل من أحب شيئا لكمال ما يدعوه إلى محبته فهو دليل وعبرة على محبة الله وأنه أولى بكمال الحب من كل شيء ولكن إذا كانت النفوس صغارا كانت محبوباتها على قدرها وأما النفوس الكبار الشريفة فإنها تبذل حبها لأجل الأشياء وأشرفها والمقصود أن العبد إذا اعتبر كل كمال في الووجود وجده من آثار كماله سبحانه فهو دال على كمال مبدعه كما ان كل علم في الوجود فمن آثار علمه وكل قدرة فمن آثار قدرته ونسبة الكمالات الموجودة في العالم العلوي والسفلي إلى كماله كنسبة علوم الخلق وقدرهم وقواهم وحياتهم إلى عمله سبحانه وقدرته وقوته وحياته فإذا لا نسبة أصلا بين كمالات العالم وكمال الله سبحانه فيجب أن لا يكون بين محبته ومحبه غيره من الموجودات له بل يكون حب العبد لكه أعظم من حبه لكل شيء بما لا نسبة بينهما ولهذا قال تعالى والذين ءامنوا أشد حبا لله فالمؤمنون أشد حبا لربهم ومعبودهم من كل محب لك محبوب هذا مقتضى عقد الأيمان الذي لا يتم إلا به وليست هذه المسألة من المسائل التي للعبد عنها غنى أو منها بد كدقائق العلم والمسائل التي يختص بها بعض الناس دون بعض بل هذه مسألة تفرض على العبد وهي أصل عقد الإيمان الذي لا يدخل فيه الداخل إلا بها ولا فلاح للعبد ولا نجاة له من عذاب الله إلا بها فليشتغل بها العبد أو ليعرض عنها ومن لم يتحقق بها علما وحالا وعملا لم يتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله فإنها سرها وحقيقتها ومعناها وإن أبى ذلك الجاحدون وقصر عن

علمه الجاهلون فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها وتخضع له وتذل له وتخافه وترجوه وتنيب إليه في شدائدها وتدعوه في مهماتها وتتوكل عليه في مصالحها وتلجأ إليه وتطمئن بذكره وتسكن إلى حبه وليس ذلك إلا الله وحده ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام وكان أهلها أهل الله وحزبه والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته فهذه المسألة قطب رحى الدين الذي عليه مداره وإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله وأحواله وأقواله ولا حول ولا قوة إلا بالله
فلنرجع إلى شرح كلامه فقوله وأما محبة العوام فهي محبة تنبت من مطالعة المنة يعني أن لهذه المحبة منشأ وثبوتا ونموا فمنشؤها الإحسان ورؤية فضل الله ومنته على عبده وثبوتها باتباع أوامره التي شرعها على لسان رسول الله ونموها وزيادتها يكون بإجابة العبد لدواعي فقره وفاقته إلى ربه فكلما دعاه قره وفاقته إلى ربه أجاب هذا الداعي وهو فقير بالذات فلا يزال فقره يدعوه إليه فإذا دامت استجابته له بدوام الداعي لم تزل المحبة تنمو وتتزايد فكلما أخطر الرب في قلبه خواطر الفقر والفاقة بادر قلبه بالإجابة والانكسار بين يديه ذلا وفاقة وحبا وخضوعا وإنما كانت هذه محبة العوام عنده لأن منشأها من الأفعال لا من الصفات والجمال ولو قطع الإحسان عن هذه القلوب لتغيرت وذهبت محبتها أو ضعفت فإن باعثها إنما هو الإحسان ومن ودك لأمر ولى عند انقضائه فهو برؤية الإحسان مشغول وبتوالي النعم عليه محمول
قوله وهي محبة تقطع الوساوس وتلذذ الخدمة وتسلي على المصائب وهي في طريق العوام عمدة للإيمان إنما كانت هذه المحبة قاطعة للوسواس لإحضار المحب قلبه بين يدي محبوبه والوسواس إنما ينشأ من الغيبة والبعد وأما الحاضر المشاهد فما له وللوسواس فالموسوس

يجاهد نفسه وقبه ليحضر بين يدي معبوده والمحب لم يغب قلبه عن محبوبه فيجاهده على إحضاره فالوسواس والمحب ةمتنافيان ومن وجه آخر أن المحب قد انتقطعت عن قلبه وساوس الأطماع لامتلاء قلبه من محبة حبيبه فلا تتوارد على قلبه جواذب الأطماع والأماني لاشتغاله بما هو فيه وأيضا فإن الوسواس والأماني إنما تنشأ من حاجته وفاقته إلى ما تعلق طمعه به وهذا عبد قد جنى من الإحسان وأعطي من النعم ما سد حاجته وأغنى قافته فلم يبق له طمع ولا وسواس بل بقي حبه للمنعم عليه وشكره له وذكره إياه في محل وساوسه وخواطره لمطالعة نعم الله عليه وشهوده منها ما لم يشهد غيره وقوله وتلذذ الخدمة هو صحيح فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذه الطاعة والخدمة أكمل فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان ولينظر هل هو ملتذ بخدمة محبوبه أو متكره لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة فهذا محك إيمان العبد ومحبته لله قال بعض السلف إني أدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها ويضيق صدري إذا فرغت أني خارج منها ولهذا قال النبي جعلت قرة عيني في الصلاة ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به وقال بعض السلف إني لأفرح بالليل حين يقبل لما يلتذ به عيشي وتقر به عيني من مناجاة من أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه وأغتم للفجر إذا طلع لما أشتغل به بالنهار عن ذلك فلا شيء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته وقال بعضهم تعذبت بالصلاة عشرين سنة ثم تنعمت بها عشرين سنة وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة والتعب أولا فإذا صبر عليه وصدق في صبره أفضى به الى هذه اللذة قال أبو زيد سقت نفسي إلى الله وهي تبكي فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك

ولا يزال السالك عرضة للآفات والفتور والانتكاس حتى يصل إلى هذه الحالة فحينئذ يصير نعيمه في سيره ولذته في اجتهاده وعذابه في فتوره ووقوفه فترى أشد الأشياء عليه ضياع شيء من وقته ووقوفه عن سيره ولا سبيل إلى هذا إلا بالحب المزعج
وقوله وسلا عن المصائب صحيح فإن المحب يتسلى بمحبوبه عن كل مصيبة يصاب بها دونه فإذا سلم له محبوبه لم يبال بما فاته فلا يجزع على ما ناله فإنه يرى في محبوبه عوضا عن كل شيء ولا يرى في شيء غيره عوضا منه أصلا فكل مصيبة عنده هينة إذا أبقت عليه محبوبه ولهذا لما خرجت تلك المرأة الأنصارية يوم أحد تنظر ما فعل برسول الله مرت بأبيها وأخيها مقتولين فلم تقف عندهما وجاوزتهما تقول ما فعل رسول الله فقيل لها ها هو ذا حي فلما نظرت إليه قالت ما أبالي إذا سلمت هلك من هلك ولو لم يكن في المحبة من الفوائد إلا هذه الفائدة وحدها لكفى بها شرفا فإن المصائب لازمة للعبد لا محيد له عنها ولا يمكن دفعها بمثل المحبة وهكذا مصائب الموت وما بعدها إنما تسهل وتهون بالمحبة وكذلك مصائب القيامة وأعظم المصائب مصيبة النار ولا يدفعها إلا محبة الله وحده ومتابعة رسوله

فالمحبة أصل كل خير في الدنيا والآخرة كما قال سمنون ذهب المحبون لله بشرف الدنيا والآخرة فإن النبي قال المرء مع من أحب فهم مع الله
وقوله وهي في طريق العوام عمدة الإيمان كلام قاصر فإنها عمود الإيمان وعمدته وساقه الذي لا يقوم إلا عليه فلا إيمان بدونها البتة وإنما مراده هذه المحبة الخاصة التي تنشأ من رؤية النعم هي عمدة إيمان العوام وأما الخواص فعمدة إيمانهم محبة تنشأ من معرفة الكمال ومطالعة الأسماء والصفات والله أعلم
قال أبو العباس وأما محبة الخواص فهي محبة خاطفة تقطع العبارة وتدقق الإشارة ولا تنتهي بالنعوت ولا تعرف إلا بالحيرة والسكوت وقال بعضهم
يقول وقد ألبست وجدا وحيرة ... وقد ضمنا بعد التفرق محضر
ألست الذي كنا نحدث أنه ... ولوع بذكراها فأين التذكر
فرد عليه الوجد أفنيت ذكره ... فلم يبق إلا زفرة وتحسر

فيقال ههنا مرتبتان من المحبة مختلف في أيتهما أكمل من الأخرى إحداهما هذه المرتبة التي أشار إليها المصنف وهي الدرجة الثالثة التي ذكرها شيخ الإسلام في منازله فقال والدرجة الثالثة محبة خاطفة تقطع العبارة وتدقق الإشارة ولا تنتهي بالنعوت وهذه المحبة قطب هذا الشأن وما دونها مجال تنادي عليها الألسن وادعتها الخليقة وأوجبتها القول والمرتبة الثانية عند صاحب المنازل ومن تبعه دون هذه المرتبة وهي المحبة التي تنشأ من مطالعة الصفات فقال في منازله والدرجة الثانية محبة تبعث على إيثار الحق على غيره ويلهج اللسان بذكره ويعلق القلب بشهوده وهي محبة تظهر من مطالعة الصفات والنظر في الآيات والارتياض بالمقامات وإنما جعل هؤلاء هذه المحبة أنقص من المحبة الثالثة بناء على أصولهم فإن الفناء هو غاية السالك التي لا غاية له وراءها فهذه المحبة لما أفنت المحب واستغرقت روحه بحيث غيبته عن شهوده وفني فيها المحب وانمحت رسومه بالكلية ولم يبق هناك إلا محبوبه وحده فكأنه هو المحب لنفسه بنفسه إذ فني من لم يكن وبقي من لم يزل ولما ضاق نطاق النطق بهم عن التعبير عنها عدلوا إلى التعبير عنها بكونها قاطعة للعبارة مدققة للإشارة يعني تدق عنها الإشارة ولأن الإشارة تتناول محبا ومحبوبا وفي هذه المحبة قد فني المحب فانقطع تعلق الإشارة به إذ الإشارة لا تتعلق بمعدوم وسر هذا المقام عندهم هو الفناء في الحب بحيث لا يشاهد له رسما ولا محبة ولا سببا ولهذا كانت الدرجتان اللتان قبله عنه معلولتين لأنهما مصحوبتان بالبقاء وشهود الأسباب بخلاف الثالثة ولهذا قال ولا تنتهي بالنعوت يعني أن النعت لا يصل إليها ولا يدركها وهذا بناء على قاعدته في كل باب من أبواب كتابه يجعل الدرجة العالية التي تتضمن الفناء أكمل مما قبلها والصواب أن الدرجة الثانية أكمل من هذه وأتم وهي درجة الكملة من المحبين ولهذا كان إمامهم وسيدهم وأعظمهم حبا في الذروة العليا من المحبة وهو

مراع لجريان الأمور ولجريان الأمة مثل سماعه بكاء الصبي في الصلاة فيخففها لأجله
ومثل التفاته في صلاته إلى الشعب الذي بعث منه العين يتعرف له أمر العدو وهذا هو في أعلى درجة المحبة ولهذا رأى ما رأى في ليلة الإسراء وهو ثابت الجأش حاضر القلب لم يفن عن تلقي خطاب ربه وأوامره ومراجعته في أمر الصلاة مرارا
ولا ريب أن هذا الحال أكمل من حال موسى الكليم فإن موسى خر صعقا وهو في مقامه في الأرض لما تجلى ربه للجبل والنبي قطع تلك المسافات وخرق تلك الحجب وأى ما رأى وما زاغ بصره وما طغى ولا اضطراب فؤاده ولا صعق ولا ريب أن الوراثة المحمدية أكمل من الوراثة الموسوية وتأمل شأن النسوة اللاتي رأين يوسف كيف أدهشهن حسنه وتعلقت قلبوهن به وأفناهن عن أنفسهن حتى قطعن أيديهن وامرأة العزيز

أكمل حبا منهن له وأشد ولم يعرض لها ذلك مع أن حبها أقوى وأتم لأن حبها كان مع البقاء وحبهن كان مع الفناء فالنسوة غيبهن حسنه وحبه عن أنفسهن فبلغن من تقطيع أيديهن ما بلغن وامرأة العزيز لم يغبها حبه لها عن نفسها بل كانت حاضرة القلب متمكنة في حبها فحالها حال الأقوياء من المحبين وحال النسوة حال أصحاب الفناء ومما يدل على أن حال البقاء في الحب أكمل من حال الفناء أن الفناء إنما يعرض لضعف النفس عن وارد المحبة فتمتلىء به وتضعف عن حمله فيفنيها ويغيبها عن تمييزها وشهودها فيورثها الحيرة والسكوت وأما حال البقاء فيدل على ثبابت النفس وتمكنها وأنها حملت من الحب مالم يطق حمله صاحب الفناء فتصرفت في حبها ولم يتصرف فيها والكمال من إذا ورد عليه الحال تصرف هو فيه ولا يدع حاله يتصرف فيه وأيضا فإن البقاء متضمن لشهود كمال المحبوب ولشهود ذل عبوديته ومحبته ولشهود مراضيه وأوامره والتمييز بين ما يحبه ويكرهه والتمييز بين المحبوب إليه والأحب والعزم على إيثار الأحب إليه فكيف يكون الفاني عن شهود هذا التغييب الحب له أكمل وأقوى وأي عبودية للمحبوب في فناء المحب في محبته وهل العبودية كل العبودية إلا في البقاء والصحو وكمال التمييز وشهود عزة محبوبه وذله وهو في حبه واستكانته فيه اجتماع أرادته كلها في تنفيذ مراد محبوبه فهذا وأمثاله مما يدل على أن الدرجة الثانية التي أشار إليها أكمل من الثالثة وأتم هكذا في جميع أبواب الكتاب والله أعلم
وكأني بك تقول لا يقبل في هذا إلا كلام من قطع هذه المفاوز حالا وذوقا وأما الكلام فيها بلسان العمل المجرد فغير مقبول والمحبون أن أصحاب الحال والذوق في المحبة لهم شأن وراء الأدلة والحجج فاعلم أولا أن كل حال وذوق ووجد وشهود لا يشرق عليه نور العلم المؤيد بالدليل فهو من عبث النفس وحظوظها فلو قدر أن المتكلم إنما تكلم بلسان العلم المجرد فلا ريب أن ما كشفه العلم الصحيح المؤيد بالحجة

أنفع من حال يخالف العلم والعلم يخالفه وليس من الإنصاف رد العلم الصحيح بمجرد الذوق والحال وهذا أصل الضلالة ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين في تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم فكانت فتنة في الأرض وفساد كبير وكم قد ضل وأضل محكم الحال على العلم بل الواجب تحكيم العلم على الحال ورد الحال إليه فما زكاه شاهد العلم فهو المقبول وما جرحه شاهد العلم فهو المردود وهذه وصية أرباب الاستقامة من مشايخ الطريق يوصون بذلك ويخبرون أن كل ذوق ووجد لا يقوم عليه شاهدان اثنان من العلم فهو باطل ويقال ثانيا ليس من شرط قبول العلم بالشيء من العالم به أن يكون ذائقا له أفتراك لا تقبل معرفة الآلام والأوجاع وأدويتها إلا ممن قد مرض بها وتداوى بها أفيقول هذا عاقل ويقال ثالثا أتريد بالذوق أن يكون القائل قد بلغ الغاية القصوى في هذه المرتبة فلا يقبل إلا ممن هذا شأنه أو تريد أنه لا بد أن يكون له أذواق أهله من حيث يحمله فإن أردت الأول لزمك ن لا يقبل أحد من أحد إذ ما من ذوق إلا وفوقه أكمل منه وإن أردت الثاني فمن أين لك نفيه عن صاحب العلم ولكن لإعراضك عن العلم وأهله صرت تظن أن أهل العلم لهم العلم والكلام والوصف وللمعرضين عنه الذوق والحال والاتصاف والظن يخطىء تارة ويصب والله أعلم
فصل قال أبو العباس فعند القوم كل ما هو من العبد فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته وإنما عين الحقيقة عندهم أن يكون قائما بإقاماته له محبا بمحبته له ناظرا بنظره لا من غير أن يبقىمعه بقية تناط باسم أو تقف على رسم أو تتعلق بنظر أو تنعت بنعت أو توصف بوصف أو تنسب إلى وقت صم بكم عمي لدينا محضرون فيقال هذا هو مقام الفناء الذي يشير إليه كثير من المتأخرين ويجعلونه غاية الغايات ونهاية النهايات

وكل ما دونه فمرقاة إليه وعيلة عليه ولهذا كانت المحبة عندهم آخر منازل الطريق وأول أودية الفناء والعقبة التي ينحدر منها على منازل المحو وهي آخر منزل يلقى فيه مقدمة العامة ساقة الخاصة وما دونها أعراض الإعراض فجعلوا المحبة منزلا من المنازل ليست غاية وجعلوها أول الأدوية التي سلك فيها أصحاب الفناء فهي أول أوديتهم والعقبة التي ينحدرون منها إلى منازل الفناء والمحو فليست هي الغاية عندهم وأصحابها عندهم مقدمة العامة وساقة أصحاب الفناء عندهم مقدمون عليهم سابقون لهم فإنهم ساقة الخاصة وهؤلاء مقدمة العامة فهذا كله بناء على أن الفناء هو الغاية التي لا غاية للعبد وراءها ولا كمال له يطلبه فوقها وقد تبين ما في ذلك وما هو الصواب بحمد الله كمال له يطلبه فوقها وقد تبين ما في ذلك وما هو الصواب بحمد الله فقوله كل ما هو من العبد فهو علة تليق بعجز العبد وفاقته يقال له إذا كان إنما منته العبودية التي يحبها الله كسبا ومباشرة فهو قائم بها شاهد لمقيمه فيها مطالع لمنته وفضله فأي علة هنا سوى وقوفه مع شهودها منه وغيبته عن شهود إقامة الله وتحريكه إياه وتوفيقه له فالعلة هي بهذا الشهود وهذه الغيبة المنافية لكمال الافتقار والفاقة إلى الله وأما شهود فقره وفاقته ومجموع حالاته وحركاته وسكناته إلى وليه وباريه مستعينا به أن يقيمه في عبودية خالصة له فلا علة هناك قوله وإنما عين الحقيقة أن يكون قائما بإقامته له إلى آخر كلامه يقال إن أردت أنه يشهد إقامة الله له حتى قام ومحبته له حتىلا أحبه ونظره إلى عبده حتى أقبل عبده عليه ناظرا إليه بقلبه فهذا حق فإن ما من الله سبق ما من العبد فهو الذي أحب عبده أولا فأحبه العبد وأقام العبد في طاعته فقام بإقاماته ونظر إليه فأقبل العبد عليه تاب عليه أولا فتاب إليه العبد وإن أردت أنه لا يشهد فعله البتة بل يفنى عنه جملة ويشهد أن الله وحده هو الذاكر لنفسه الموحد لنفسه المحب لنفسه وأن هذه الأسباب والرسوم تصير عدما في شهوده وإن لم تفن

وتعدم في الخارج وهذا هو مراد القوم فدعوى أن هذا هو الكمال الذي لا كمال فوقه ولا غاية وراءه دعوى مجردة لا يستدل عليها مدعيها بأكثر من الذوق والوجد وقد تقدم أن هذا ليس بغاية وإنما غايته أن يكون من عوارض الطريق وأن شهود الأشياء في مراتبها ومنازلها التي أنزلها سبحانه إياها أكمل وأتم ويكفي في بعض هذا الاحتجاج عليه بصفات الكفار فإن الله ذمهم بأنهم صم بكم عمي فهذه صفات نقص وذم لا صفات كمال ومدحة وهل الكمال إلا في حضو السمع والبصر والعقل وكمال التمييز وتنزيل الخلق والأمر منازلهما والتفريق بين ما فرق الله بينه فالأمر كله فرقان وتمييز وتبيين فكلما كان تمييز العبد وفرقانه أتم كان حاله أكمل وسيره أصح وطريقه أقوم وأقرب والحمد لله رب العالمين
فصل قال أبو العباس وأما الشوق فهو هبوب القلب إلى غائب وإعواز الصبر عن فقده وارتياح السر إلى طلبه وهو من مقامات العوام وأما الخواص فهو عندهم مخلة عظيمة لأن الشوق إنما يكون إلى غائب ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة والطريق عندهم أن يكون العبد غائبا والحق ظاهرا ولهذا المعنى لم ينطق بالشوق كتاب ولا سنة صحيحة إلا أن الشوق مخبر عن بعد ومشير إلى غائب وهو يطلع إلى إدراك وهو معكم أين ما كنتم وقيل
ولا معنى لشكوى الشوق يوما ... إلى من لا يزول عن العيان
اختلف الناس في الشوق والمحبة أيهما أعلى فقالت طائفة المحبة أعلى من الشوق هذا قول ابن عطاء الله وغيره واحتجوا بأن الشوق غايته أن يكون أثرا من آثار المحبة ومتولدا عنها فهي أصله وهو فرعها قالوا والمحبة توجب آثارا كثيرة فمن آثارها الشوق وقالت طائفة منهم سري السقطي وغيره الشوق أعلى قال الجنيد سمعت السري يقوله الشوق

أجل مقامات العارف إذا تحقق في الشوق لها عن كل شيء يشغله عمن يشتاق إليه وإنما يظهر سر المسألة بذكر فصلين الأول في حقيقةالشوق والثاني في الفرق بينه وبين المحبة ويتبع ذلك خمس مسائل إحداها هل يجوز إطلاقه على الله كما يطلق عليه أنه يحب عباده أم لا الثانية هل يجوز إطلاقه على العبد فيقال يشتاق إلى الله كما يقال يحبه الثالثة أنه هل يقوى بالوصول والقرب أم يضعف بهما فأي الشوقين أعلى شوق القريب الداني أم شوق البعيد الطالب الرابعة ما الفرق بينه وبين الاشتياق فهل هما بيمعنى واحد أم بينهما فرق الخامسة في بيان مراتبه وأقسامها ومنازل أهله فيه
الفصل الأول في حقيقة الشوق هو سف القلب في طلب محبوبه بحيث لا يقر قراره حتى يطفر به ويحصل له وقيل هو لهيب ينشأ بين أثناءالحشا سببه الفرقة فإذا قع اللقاء أطفأ ذلك اللهيب وقيل الشوق هبوب القلب إلى محبوب غائب وقال ابن خفيف الشوق ارتياح القلوب نحو المحبوب من غير منازع ويقال الشوق انتظار اللقاء بعد البعاد فهذه الحدود ونحوها مشتركة في أن الشوق إنما يكون مع الغيبة من المحبوب وأما مع حضوره ولقائه فلا شوق وهذه حجة من جعل المحبة أعلى منه فإن المحبة لا تزول باللقاء وبهذا يتبين الكلام في الفصل الثاني وهو الفرق بينه وبين المحبة
الفصل الثاني الفرق بينهما فرق ما بين الشيء وأثره فإن الحامل علىالشوق هو المحبة ولهذا يقال لمحبتي له اشتقت إليه وأحببته فاشتقت إلى لقائه ولا يقال لشوقي إليه أحببته ولا اشتقت إلى لقائه فأحببته فالمحبة بذر في القلب والشوق بعض ثمرات ذلك البذر وكذلك من ثمراتها حمد المحبوب والرضى عنه وشكره وخوفه ورجاؤه والتنعم بذكره والسكون والأنس به والوحشة بغيره وكل هذه من أحكام المحبة وثمراتها وهو حياتها فمنزلة الشوق من المحبة منزلة الهرب من البغضاء والكراهة

فإن القلب إذا أبغض الشيء وكرهه جد في الهرب منه وإذا أحبه جد في الهرب إليه وطلبه فهو حركة القلب في الظفر بمحبوبه ولشدة ارتباط الشوق بالمحبة يقع كل واحد منهما موقع صاحبه ويفهم منه ويعبر عنه
فصل وأما المسائل الخمس فإحداها هل يجوز إطلاقه على الله فهذا مما لم يرد به القرآن ولا السنة بصريح لفظه قال صاحب منازل السائرين وغيره وسبب ذلك أن الشوق إنما يكون لغائب ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة ولهذا السبب عندهم لم يجىء في حق الله ولا في حق العبد وجوزت طائفة إطلاقه كما يطلق عليه سبحانه ورووا في أثر انه يقول طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق قالوا وهذا الذي تقتضيه الحقيقة وإن لم يرد به لفظ صريح فالمعنى حق فإن كل محب فهو مشتاق إلى لقاء محبوبه قالوا وأما قولكم إن الشوق إنما يكون إلى الغائب وهو سبحانه لا يغيب عن عبده ولا يغيب العبد عنه فهذا حضور العلم وأما اللقاء والقرب فأمر آخر فالشوق يقع بالاعتبار الثاني وهو قرب الحبيب ولقاؤه والدنو منه وهذا له أجل مضروب لا ينال قبله قال تعالى من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لأت قال أبو عثمان الحيري هذا تعزية للمشتاقين معناه إني أعلم أن اشتياقكم إلي غالب وأنا أجلت للقائكم أجلا وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه والصواب أن يقال إطلاقه متوقف على السمع ولم يرد به فلا ينبغي إطلاقه وهذا كلفظ العشق أيضا فإنه لما لم يرد به سمع فإنه يمتنع إطلاقه عليه سبحانه واللفظ الذي اطلقه سبحانه على نفسه وأخبر به عنها أتم من هذا وأجل شأنا هو لفظ المحبة فإنه سبحانه يوصف من كل صفة كمال بأكملها وأجلها وأعلاها فيوصف من الإرادة بأكملها وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بإرادته كما قال تعالى فعال

لما يريد وبإرادة اليسر لا العسر كما قال يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وبإرادة الإحسان وإتمام النعمة على عباده كقوله والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فإرادة التوبة لله وإرادة الميل لمبتغي الشهوات وقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون وكذلك الكلام يصف نفسه منه بأعلى أنواعه كالصدق والعدل والحق وكذلك الفعل يصف نفسه منه بأكمله وهو العدل والحكمة والمصلحة والنعمة وهكذا المحبة وصف نفسه منها بأعلاها وأشرفها فقال يحبهم ويحبونه يحب التوابين ويحب المتطهرين يحب المحسنين و يحب الصابرين ولم يصف نفسه بغيرها من العلاقة والميل والصبابة والعشق والغرام ونحوها فإن مسمى المحبة أشرف وأكمل من هذه المسميات فجاء في حقه إطلاقه دونها وهذه المسميات لا تنفك عن لوازم ومعان تنزه تعالى عن الاتصاف بها وهكذا جميع ما أطلقه على نفسه من صفاته العلى أكمل معنى ولفظا مما لم يطلقه فالعليم الخبير أكمل من الفقيه والعارف والكريم الجواد أكمل من السخي والخالق البارىء المصور أكمل من الصانع الفاعل

ولهذا لم تجىء هذه في أسمائه الحسنى والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه مالم يكن مطابقا لمعنى أسمائه وصفاته وحينذ فيطلق المعنى لمطابقته له دون اللفظ ولا سيما إذا كان مجملا أو منقسما إلى ما يمدح به وغيره فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيدا وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقا مقيدا أطلقه على نفسه كقوله تعالى فعال لما يريد ويفعل الله ما يشاء وقوله صنع الله الذي أتقن كل شيء فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم ولهذا المعنى والله أعلم لم يجىء في الأسماء الحسنى المريد كما جاء فيها السميع البصير ولا المتكلم ولا لآمر الناهي لانقسام مسمى هذه الأسماء بل وصسف نفسه بكمالاتها وأشرف أنواعها ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في إشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسما مطلقا فأدخله في أسمائه الحسنى فاشتق له اسم الماكر والخادع والفاتن والمضل والكاتب ونحوها من قوله ويمكر الله ومن قوله وهو خادعهم ومن قوله لنفتنهم فيه ومن قوله يضل من يشاء وقوله تعالى كتب الله

لأغلبن وهذا خطأ من وجوه أحدها أنه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه الأسماء فإطلاقها عليه لا يجوز الثاني أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة فلا يجوز أن ينسب إليه مسمى الاسم عند الإطلاق الثالث أن مسمى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به وإلى ما يذم فيحسن في موضع ويقبح في موضع فيمتنع إظلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل الرابع أن هذه ليست من الأسماء الحسنى الذي يسمى بها سبحانه كما قال تعالى ولله الأسماء الحسنى وهي التي يحب سبحانه أن يثني عليه ويحمد بها دون غيرها الخامس أن هذا القائل لو سمي بهذه الأسماء وقيل له هذه مدحتك وثناء عليك فأنت الماكر الفاتن المخادع المضل اللاعن الفاعل الصانع ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدها مدحة ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون به علوا كبيرا السادس أن هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه اللاعن والجائي والآتي والذاهب والتارك والمقاتل والصادق والمنزل والنازل والمدمدم والمدمر وأضعاف ذلك فيشتق له اسما من فعل أخبر به عن نفسه إلا تناقض تناقضا بينا ولا أحد من العقلاء طرد ذلك فعلم بطلان قوله والحمد لله رب العالمين
فصل وأما المسألة الثانية وهي هل يطلق على العبد أنه يشتاق إلى الله وإلى لقائه فهذا غير ممتنع فقد روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي وغيرهما من حديث حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبيه قال صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها فقلت خففت يا أبا اليقظان فقال وما علي من ذلك ولقد دعوت الله بدعوات سمعتها من رسول الله فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات فقال

اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين فهذا فيه إثبات لذة النظر إلى وجهه الكريم وشوق أحبابه إلى لقائه فإن حقيقة الشوق إليه هو الشوق إلى لقائه قال أبو القاسم القشيري سمعت الأستاذ أبا علي يقول في لقائه أسألك الشوق إلى لقائك قال كان الشوق مائة جزء فتسعة وتسعون له وجزء متفرق في الناس فأراد أن يكون ذلك الجزء له أيضا فغار أن تكون شظية من الشوق في غيره قال وسمعته يقول في قول موسى وعجلت إليك رب لترضى قال معناه شوقا إليك فستره بلفظ الرضى وهذا أكثر مشايخ الطريق يطلقونه ولا يمتنعون منه وقيل إن شعيبا بكى حتى عمي بصره فأوحى الله إليه إن كان هذا لأجل الجنة فقد أبحتها لك وإن كان لأجل النار فقد أجرتك منها فقال لا بل شوقا إليك وقال بعض العارفين من اشتاق إلى الله اشتاق إليه كل شيء وقال بعضهم قلوب العاشقين

منورة بنور الله فإذا تحرك اشتياقهم أضاء النور ما بين السماء والأرض فيعرضهم الله على الملائكة فيقول هؤلاء المشتاقون إلي أشهدكم أني إليهم أشوق وإذا كان الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه ونزوعه إليه فهو من أشرف مقامات العبيد وأجلها وأعلاها ومن أنكر شوق العبد إلى ربه فقد أنكر محبته له لأن المحبة تستلذ الشوق فالمحب دائما مشتاق إلى لقاء محبوبه لا يهدأ قلبه ولا يقر قراره إلا بالوصول إليه
فأما قوله إن الشوق عند الخواص علة عظيمة لأن الشوق إنما يكون إلى غائب ومذهب هذه الطائفة إنما قام على المشاهدة فيقال المشاهدة نوعان مشاهدة عرفان ومشاهدة عيان وبينهما من التفاوت ما بين اليقين والعيان ولا ريب أن مشاهدة العرفان متفاوتة بحسب تفاوت الناس بالمعرفة ورسوخهم فيها وليس للمعرفة نهاية تنتهي إليها بحيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب بل كلما وصل منها إلى معلم ومنزلة اشتد شوقه إلى ما وراءه وكلما ازداد معرفة ازداد شوقا فشوق العارف أعظم الشوق فلا يزال في مزيد من الشوق ما دام في مزيد من المعرفة فكيف يكون الشوق عنده علة عظيمة هذا من المحال البين بل من عرف الله اشتاق إليه وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها فشوق العارف لا نهاية له هذا مع الشوق الناشىء عن طلب اللقاء والرؤية والمعرفة العيانية فإذا كان القلب حاضرا عند ربه وهو غير غائب عنه لم يوجب له هذا أن لا يكون مشتاقا إلى لقائه ورؤيته بل هذا يكون أتم لشوقه وأعظم فظهر أن قوله وإن الشوق علة عظيمة في طريق الخواص كلام باطل على كل تقدير وإن الشوق بالحقيقة إنما هو شوق الخواص العارفين بالله والعبد إذا كان له مع الله حال أو مقام وكشف له عما هو أفضل منه وأجل اشتاق إليه بالضرورة ولم يكن شوقه علة له ونقصا في حاله بل زيادة وكمالا ويكون ترك الشوق هو العلة وقد تقدم أن لا غاية للمعرفة تنتهي إليها

فيبطل الشوق بنهايتها بل لا يزال العارف في مزيد من معرفته وشوقه والله المستعان
فصل وأما المسألة الثالثة وهي هل يزول الشوق باللقاء أم يقوى فقالت طائفة الشوق يزول باللقاء لأنه طلب فإذا حصل المطلوب زال الطلب لأن تحصيل الحاصل محال ولا معنى للشوق إلى شيء حاصل وإنما يكون الشوق إلى شيء مراد الحصول محبوب الإدراك وقالت طائفة أخرى ليس كذلك بل الشوق يزيد بالوصول واللقاء ويتضاعف بالدنو ولهذا قال القائل
وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذ دنت الديار من الديار
ولهذا قال بعضهم شوق أهل القرب أتم من شوق المحبوبين واحتجت هذه الطائفة بأن الشوق من آثار الحب ولوازمه فكما أن الحب لا يزول باللقاء فهكذا الشوق الذي لا يفارقه قالوا ولهذا لا يزول الرضى والحمد والإجلال والمهابة التي هي من آثار المحبة باللقاء فهكذا الشوق يتضاعف ولا يزول والقولان حق وفصل الخطاب في المسألة أن المحب إذا اشتاق إلى لقاء محبوبه فإذا حصل له اللقاء زال ذلك الشوق الذي كان متعلقا بلقائه وخلفه شوق آخر أعظم منه وأبلغ إلى ما يزيد قربه والحظوة عنده وأما إذا قدر أنه لقيه ثم احتجب عنه ازداد شوقه إلى لقاء آخر ولا يزال يحصل له الشوق كلما احتجب عنه فهذا لا ينقطع شوقه أبدا فهو إذا رآه بل شوقه برؤيته وإذا زال عنه الطرف عاوده الشوق كما قيل
ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته ... حتى يعود إليه الطرف مشتاقا
وإنما الشأن في دوام الشوق حال الوصول واللقاء فاعلم أن الشوق نوعان شوق إلى اللقاء فهذا يزول باللقاء وشوق في حال اللقاء وهو تعلق الروح بالمحبوب تعلقا لا ينقطع أبدا فلا تزال الروح مشتاقة إلى مزيد

من هذا التعلق وقوته اشتياقا لا يهدأ وقد أفصح بعض المحبين للمخلوق عن هذاالمعنى بقوله
أعانقها والنفس بعد مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدان
وألثم فاها كي تزول صبابتي ... فيشتد ما ألقى من الهيمان
فالشوق في حال الوصل والقرب إلى مزيد من النعيم واللذة لا ينقطع والشوق في حال السير إلى اللقاء ينقطع ونستغفر الله من الكلام فيما لسنا بأهل له
فالخوف أولى بالمسي ... ء إذا تأله والحزن
والحب يجمل بالتقى ... وبالبقاء من الدرن
لكن إذا ما لم يحب ... بكم المسيء إذن فمن
وإذا تخون فعلنا ... فعل المحبة مؤتمن
أيحب شيء غيركم ... وحياتكم كلا ولن
أيحب من تأتي محب ... ته بأنواع المحن
والسعد فيها ذابح ... والقلب فيها ممتحن
دون الذي في حبه ... نيل السعادة والمنن
ومحل بدر كمالها ... سعد السعود هو الوطن
والقلب حين يحل في ... تلك المنازل والدمن
يمسي ويصبح من رضا ... ه ومن مناه في وطن
أيحبهم قلب ويخ ... شىأن يضام فلا إذن
فصل وأما المسألة الرابعة وهي الفرق بين الشوق والاشتياق فقال أبو عبدالرحمن السلمي سمعت النصر أباذي يقول للخلق كلهم مقام بن الشوق وليس لهم مقام الاشتياق ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له أثر ولا قرار وهذا يدل على أن الاشتياق عنده غير الشوق

ولا ريب أن الاشتياق مصدر اشتاق يشتاق اشتياقا كما أن التشوق مصدر تشوق تشوقا والشوق في الأصل إسم مصدر شاقة يشوقه شوقا مثل شاقه شوقا إذا دعاه إلى الاشتياق فالاشتياق مطاوع شاقة يقال شاقني فاشتقت إليه ثم صار الشوق اسم مصدر الاشتياق وغلب عليه حتى لا يفهم عند الإطلاق إلا الاشتياق القائم بالمشوق والمشوق هو الصب المشتاق والشائق هو الذي قام به وادعى الشوق فههنا ألفاظ الشوق والاشتياق والتشوق والشائق والمشوق والشيق فهذه ستة ألفاظ أحدها الشوق وهو في الأصل مصدر الفعل المتعدي شاقة يشوقه ثم صار اسم مصدر الاشتياق اللفظ الثاني الاشتياق وهو مصدر اشتاق اشتياقا والفرق بينه وبين الشوق هو الفرق بين المصدر واسم المصدراللفظ الثالث التشوق وهو مصدر تشوق إذا اشتاق مرة بعد مرة كما يقال تجرع وتعلم وتفهم وهذا البناء مشعر بالتكلف وتناول الشيء على مهلةاللفظ الرابع الشائق وهو الداعي للمشوق إلى الاشتياق اللفظ الخامس المشوق وهو المشتاق الذي قد حصل له الشوق اللفظ السادس الشيق وهو فيعل بمنزلة هين ولين وهو المشتاق فهذه فروق ما بين هذه الألفاظ وأما كون الاشتياق أبلغ من الشوق فهذا قد يقال فيه إنه الأصل وهو أكثر حروفا من الشوق وهو يدل على المصدر الفاعل وأما المشوق ففرع عليه لأنه اسم مصدر وأقل حروفا وهو إنما يدل على المصدر المجرد فهذه ثلاثة فروق منها والله أعلم
فصل وأما المسألة الخامسة وهي في مراتب الشوق ومنازله فقال صاحب منازل السائرين وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى شوق العابد إلى الجنة ليأمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل والدرجة الثانية شوق إلى الله سبحانه وتعالى زرعه الحب الذي ينبت على حافات المنن تعلق قلبه بصفاته المقدسية واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره

وعلامة فضله وهذا شوق تغشاه المبار وتخالجه المسار ويقارنه الاصطبار والدرجة الثالثة نار أضرمها صفو المحبة فنغصت العيش وسلبت السلو ولم ينهنهها مقر دون اللقاء قلت الدرجة الأولى هي شوق إلى فضل الله وثوابه والثانية شوق إلى لقائه ورؤيته والثالثة شوق إليه لا لعلة ولا لسبب ولا ملاحظة فيه غير ذاته فالأول حظ المشتاق من إفضاله وإنعامه والثاني حظه من لقائه ورؤيته والثالث قد فنيت فيه الحظوظ واضمحلت فيه الأقسام
وقوله في الدرجة الأولى ليأمن الخائف ويفرح الحزين ويظفر الآمل هذه ثلاثة فوائد ذكرها في هذا الشوق أمن الخائف وفرح الحزين والظفر بالأمل فهذه المقاصد لما كانت حاصلة بدخول الجنة كانت مصورة للنفس أشد الشوق إلى حصول هذه المطالب وهي الفوز والفرح وجماع ذلك أمران أحدهما النجاة من كل مكروه والثاني الظفر بكل محبوب فهذان هما المشوقان إلى الجنة
وقوله في الثانية شوق إلى الله سبحانه وتعالى زرعه الحب قد تقدم أن الشوق ثمرة الحب وقوله الذي ينبت على حافات المنن أي انشأه الفكر في منن الله وأياديه وأنعامه المتواترة وفيه إشارة إلى أن هذا الحب الذي هو نابت على الحافات والجوانب بعده حب أكمل منه وهو الحب الناشىء من شهود كمال الأسماء والصفات وذلك ليس من نبات الحافت ولكن من الحب الأول يدخل في هذا كما تقدم ولهذا قال تعلق قلبه بصفاته المقدسة وقوله واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات بره وعلامة فضله يشير به غلى ما يكرم الله به عبده من أنواع كراماته التي يستدل بها على أنه مقبول عند ربه ملاحظ بعنايته وأنه قد استخدمه وكتبه في ديوان

أوليائه وخواصه ولا ريب أن العبد متى شاهد تلك العلامات والآيات قوي قلبه وفرح بفضل ربه وعلم أنه أهل فطاب له السير ودام اشتياقه وزالت عنه العلل وما لم ينعم عليه بشيء من ذلك لم يزل كئيبا حزينا خائفا أن يكون ممن لا يصلح لذلك الجناب ولم يصل لتلك المنزلة وقوله وهذا شوق تغشاه المبار هي جمع مبرة وهي البر أي أن هذا الشوق مشحون بالبر مغشي به وهو إما بر القلب وهو كثرة خيره فهذا القلب أكثر القلوب خيرا فيفعل البر تقربا إلى من هو مشتاق إليه فهو يجيش بأنواع البر وهذه من فوائد المحبة أن قلب صاحبها ينبع منه عيون الخير وتنفجر منه ينابيع البر يريد به أن مبار الله ونعمه تغشاه على الدوام وقوله وتخالجه المسار يخالطه السرور في غضون أشواقه فإنها أشواق لا وحشة معها ولا ألم بل هي محشوة بالمسرات وقوله ويقارنه الاصطبار أي صحابه له قوة على اصطباره على مرضاة حبيبه لشوقه إليه وإنما يضعف الصبر لضعف المحبة والمحب من أصبر الخلق كما قيل
نفس المحب على الآلام صابرة ... لعل مسقمها يوما يداويها
وقوله في الدرجة الثالثة إنها نار أضرمها صفو المحبة يعني أن هذا الشوق يتوقد من خالص المحبة التي لا تشوبها علة فهو أشد أنواع الشوق ولهذا نغصت العيش أي كدرته ونغصت المشتاق فيه لأنه لا يصل إلى محبوبه ما دام فيه فهو يترقب مفارقته وقوله وسلبت السلو يعني أن صاحبه لم يبق له مطمع في سلوه أبدا وهذا أعظم ما يكون من الحب والشوق أن المحب آيس من السلو وانتقطع طمعه منه كما أيس من الأمور الممتنعة كرجوع أيام الشباب عليه وعوده طفلا ونحو ذلك وقوله ولم ينهنهها مقر دون اللقاء أي أن هذه النار لا يبردها ولا يفتر حرها مقصود ولا مطلب ولا مراد دون لقاء محبوبه فليس لا سبيل إلى تبريدها وتسكينها إلا بلقاء محبوبه

فصل قال أبو العباس فهذه كلها علل أنف الخواص منها وأسباب النفطموا عنها فلم يبق لهم مع الحق إرادة ولا في عطائه تشوق إلى استزادة فهو منتهى زادهم وغاية رغبتهم فيعتقدون أن ما دونه قاطع عنه قل أي شيء أكبر شهادة قل الله وإنما زهدهم جمع الهمة عن تعرفات الكون لأن الحق عافاهم بنور الكشف يعن التعلق بالأحوال إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار قلت يشير بذلك إلى المحو ومقام الفناء الذي هو غاية الغايات عنده وقد تقدم الكلام عليه وأن مقام الصحو والبقاء أفضل منه وأتم عبودية وينبغي أن يعرف أن مراعاة مقام الفناء الذي جعلوه غاية آل بكثير من طالبيه إلى ترك القيام بالأعمال جملة ورأوا أنها علل قاطعة عنه واشتد نكير الشيوخ والأئمة عليهم حتى قال شيخ الطائفة الجنيد إن الذي يزني ويسرق خير من هؤلاء وهم نوعان نوع جردوا الفناء في شهود الحكم وهو الحكم القدري ورأوا أنه نهاية التوحيد فآل بهم استغراقهم فيه إلى اطراح الأسباب حتى قال قائلهم العارف لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا لاستبصاره بسر الله في القدر والنوع الثاني أصحاب تجريد الفناء والإرادة فجردوا الفناء والإرادة تجريدا آل بهم إلى ترك الأسباب جملة والطائفتان منحرفتان ضالتان خارجتان عن العلم والدين ولهذا قال لهم شيخ القوم الجنيد عليكم بالفرق الثاني يعني أن الفرق فرقان فرق بالطبع والهوى وهو الفرق الذي شهدوه وفروا منه إلى معنى الجمع ولكن بعد الجمع فرق ثان وهو الفرق بالأمر والمحبة لا بالشهوة والطبع وهو دين الرسل فإن دينهم مبناه على الفرق الأمري الشرعي بين محبوب الرب ومأموره وبين مسخوطه ومنهيه فمن لم يشهد هذا الفرق ولم يكن من أهله لم يكن من

أتباع الرسل فإن الكمال شهود الجمع في هذا الفرق فيشهد انفراد الله وحده بالخلق والأمر ويشهد الفرق بين ما يحبه فيؤثره ويقدمه وبين ما بيبغضه فيتركه ويتجنبه فيصير له هذا الفرق في محل فرقه الطبعي الحسي بين ما يلائمه وينافره ومن المعلوم أن صاحب الجمع لا بد أن يفرق بطبعه وحسه وإن ادعى عدم التفريقب طبعا فإنه كاذب مفتر وإذا كان لا بد من الفرق فالفرق الشرعي الإيماني الذي بعث الله به رسله أولى به من الفرق الطبعي الحيواني الذي شاركه فيه سائر البهائم وأبطل من هذا الجمع الجمع في الوجود وهو أن يرى الوجود كله واحدا لا فرق فيه أصلا وإنما التفريق بالعادة والوهم فقط كما يقوله زنادقة القائلين بوحدة الوجود الذين لا يفرقون بين الخالق والمخلوق بل يجعلون وجود أحدهما وجود الآخر بل ليس عندهم فرق بين أحدهما والآخر إذ ما ثم غير فهذا جمع في الوجود وجمع أولئك جمع في الشهود فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فكانوا أصحاب الجمع في الفرق ففرقوا بين ما فرق الله بينه بإذنه وجمعوا الأشياء كلها في خلقه وأمره وجمعوا إرادتهم ومحبتهم وشهودهم فيه فكانوا أصحاب جمع في فرق وفرق في جمع فهؤلاء خواص الخلق فنسأل الله العظيم من فضله وكرمه أن يجعلنا منهم فهؤلاء هم الذين لم يبق لهم مع الحق إرادة بل صارت إرادتهم تابعة لإرادته فحصل الاتحاد في المراد فقط لا في الإرادة ولا في المريد فأصحاب الوحدة ظنوا الاتحاد في المريد وأصحاب الحلول توهموا الاتحاد في بالإرادة فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فعلموا أن المراد واحد فالاتحاد وقع في المراد فقط لا في الإرادة ولا في المريد وقوله فيعتقدون أن ما دونه قاطع عنه إنما يكون ما دونه قاطعا عنه إذا وقف العبد معه وتعلقت إرادته به وانصرف طلبه إليه وأما إذا جعله وسيلة إلى الله

وطريقا يصل بها إليه لم يكن قاطعا ولا حجابا بل يكون حاجبا موصلا إليه وقوله تعالى قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم المراد بالآية شهادته سبحانه لرسوله بتصديقه على رسالته فإن المشركين قالوا لرسول الله من يشهد لك على ما تقول فأنزل الله سبحانه آيات شهادته له وشهادة ملائكته وشهادة علماء أهل الكتاب به فقال تعالى قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب أي ومن عنده علم الكتاب يشهد لي وشهادته مقبوله لأنها شهادة بعلم قال الله تعالى لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى

بالله شهيدا وقال تعالى قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم فأخبر سبحانه في هذه المواضع بشهادته لرسوله وكفى بشهادته إثباتا لصدقه وكفى به شهيدا فإن قيل وما شهادته لرسوله قيل هي ما أقام على صدقه من الدلالات والآيات المستلزمه لصدقه بعد العلم بها ضرورة فدلالتها على صدقه أعظم من دلالة كل بينة وشاهد على حق فشهادته سبحانه لرسوله أصدق شهادة وأعظمها وأدلها على ثبوت المشهود به فهذا وجه ووجه آخر أنه صدقه بقوله وأقام الأدلة القاطعة على صدقه فيما يخبر به عنه فإذا أخبر عنه أنه شهد له قولا لزم ضرورة صدقه في ذلك الخبر وصحت الشهادة له به قطعا فهذا معنى الآية وكان أجنبيا عما استدل به المصنف
ونظير هذا استشهادهم بقوله تعالى وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا ءاباؤكم قل الله ثم ذرهم حتى رتب على ذلك بعضهم أن الذكر بالاسم المفرد وهو الله الله أفضل من الذكر بالجملة المركبة كقوله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وهذا فاسد مبني على فاسد فإن الذكر بالاسم المفرد غير مشروع أصلا ولا مفيد شيئا ولا هو كلام أصلا ولا يدل على مدح ولا تعظيم ولا يتعلق به إيمان ولا ثواب ولا يدخل به الذاكر في عقد الإسلام جملة فلو قال الكافر الله الله من أول عمره إلى آخره لم يصر بذلك مسلما فضلا عن أن يكون من جملة الذكر أو يكون أفضل الأذكار وبالغ بعضهم في ذلك حتى قال الذكر بالاسم المضمر أفضل من الذكر بالأسم الظاهر فالذكر بقوله هو هو بالاسم المضمر أفضل من الذكر بقولهم الله الله

وكل هذا من أنواع الهوس والخيالات الباطلة المفضية بأهلها إلى أنواع من الضلالات فهذا فساد هذا البناء الهائر وأما فساد المبني عليه فإنهم ظنوا أن قوله تعالى قل الله أي قل هذا الاسم فقل الله الله وهذا من عدم فهم القوم لكتاب الله فإن اسم الله هنا جواب لقوله قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا إلى أن قال قل الله أي قل الله أنزله فإن السؤال معاد في الجواب فيتضمنه فيحذف اختصارا كما يقول من خلق السموات والأرض فيقال الله أي الله خلقهما فيحذف الفعل لدلالة السؤال عليه فهذا معنى الآية الذي لا تحتمل غيره
قوله وإنما زهدهم جمع الهمة عن تعريفات الكون لأن الحق عافاهم بنور الكشف عن التعلق بالأحوال فيقال الكشف الذي أوجب لهم هذا الجمع وقطع هذا التعلق هو الكشف الإيماني القرآني فهو في الحقيقة الكشف النافع الجاذب لصاحبه إلى سلوك منازل الأبرار والوصول إلى مقامات القرب ولا سيما إذا قارنه الكشف عن عيوب النفس وعلى الأعمال فناهيك به من كشف والكرامة المرتبة عليه هي لزوم الاستقامة ودوام العبودية فهذا أفضل كشف يعطاه العبد وهذه أفضل كرامة يكرم بها الولي رزقنا الله من فضله وبره وأما استشهاده بقوله تعالى إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار فهذه الآية يخبر فيها سبحانه عما أخلص له أنبياؤه ورسله من ختصاصهم بالآخرة وفيها قولان أحدهما أن المعنى نزعنا من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وإيثارها والعمل بها والقول الثاني إنا أخلصناهم بأفضل ما في الدار الآخرة واختصصناهم به عن العالمين

قوله وتوكلهم رضاهم بتدبير الحق وتخلصهم من تدبيرهم وفراغ همهم من احتيالها فلي إصلاح شؤونها بوقوفهم على فراغ المدبر منها ومرها على علمه بمصالحهم فيها ونفوسهم مطمئنة بذلك يا أيتها النفس المطمئنة الآية وقد تقدم الكلام على التوكل وبيان أنه من مقامات العارفين وأنه لا انفكاك للمؤمن منه وذكر العلة فيه ما هي وقوله وتوكلهم رضاهم بتدبير الحق الرضا بالتدبير ثمرة التوكل وموجبه لا أنه نفس التوكل والمقدور يكشفه أمران التوكل قبل وقوعه والرضا به بعد وقوعه ومن هنا قال بعضهم حقيقة التوكل الرضا لأنه لما كان ثمرته وموجبه استدل له عليه استدلالا بالأثر على المؤثر وبالمعلول على العلة ولهذا قال في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن النبي أنه قال في دعائه اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك علىالخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضا بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت الحديث وقد تقدم فقال وأسألك الرضا بعد القضاء وأما التوكل فإنما يكون قبله وقوله وتخلصهم من تدبيرهم هذا مقام كثيرا ما يشير إليه السالكون وهو ترك التدبير وينبغي أن لا يؤخذ على إطلاقه بل لا بد فيه من التفصيل فيقال العبد دائر بين مأمور يفعله ومحظور يتركه وقد يجري عليه بلا إرادة منه ولا كسب فوظيفته في المأمور كمال التدبير والجد

والتشمير وأن يدبر الحيلة في تنفيذه بكل ما يمكنه فترك التدبير هنا تعطيل للأمر بل يدبر فعله ناظرا إلى تدبير الحق له وأن تدبيره إنما يتم بتدبير الله له فلا يكون هنا قدريا مجوسيا ناظرا إلى فعله جاحدا لتدبير الله وتقديره ومعونته ولا قدريا مجبرا ولا واقفا مع القدر جاحدا لفعله وتدبيره ومجلى أمر الله ونهيه فإن فعله الاختياري هو محل الأمر والنهي فمن جحد فعل نفسه فقد عطل الأمر والنهي وجحد محلهما ووظيفته في المحظور الفناء عن إرادته وفعله فإن عارضته أسباب الفعل فالواجب عليه الجد في الهرب والتشمير في الكف والبعد وهذا تدبير للنهي وأما القدر الذي يصيبه بغير إرادته فهذا الذي يحسن فيه إسقاط التدبير جملة وصبره ورضاه بما قسم له من محبوب ومكروه فعلى هذا التفصيل ينبغي أن يوضع إيقاط التدبير وجماع ذلك أنك تسقط التدبير في حظك وتكون قائما بالتدبير في حق ربك وهكذا ينبغي أن تفرغ الهمة من إجالتها في إصلاح شأنك فإن إصلاح شأنك بحصول حظوظك يحصل فيه فراغ الهمة وترك التدبير وأما أصلاح شأنك بأداء حق الله فالواجب شغل الهمة وإجالتها في القيام به وقوله بوقوفهم على الفراغ المدبر منها ومرها على علمه بمصالحهم فيها فلا ريب أن الله سبحانه وتعالى قضى القضية وفرغ من تدبير أمور الخلائق ولكن قدرها بأسبابها المفضية إليها فلا يكون وقوف العبد على فراغه سبحانه وتعالى من أقضيته في خلقه وتدبيره مانعا له من قيامه بالأسباب التي جعلها طرقا لحصول ما قضاه منها وكذلك يباشر العبد الأسباب التى بها حفظ حياته من الطعام والشراب واللباس والمسكن ولا يكون وقوفه مع فراغ المدبر منها مانعا له من تعاطيها وكذلك يباشر الأسباب الموجبة لبقاء النوع من النكاح والتسري ولا يكون وقوفه مع فراغ الله من خلقه مانعا له وهكذا جميع مصالح الدنيا والآخرة وإن كانت مفروغا منها قضاء وقدرا فهي منوطة بأسبابها التي يتوقف حصولها عليها شرا وخلقا وأما استدلاله بقوله تعالى يا أيتها النفس المطمئنة

ارجعي إلى ربك فالنفس المطمئنة هي التي اطمأنت إلى ربها وسكنت إلى حبه واطمأنت بذكره وأيقنت بوعده ورضيت بقضائه وهي ضد النفس الأمارة بالسوء فلم تكن طمأنينتها بمجرد إسقاط تدبيرها بل القيام بحقه والطمأنينة بحبه وبذكره
فصل قال وصبرهم صونهم قلبوهم عن خاطر السوء أن الله قضى قضاء عاريا عن الموافقة خارجا عن الخيرة قال الله تعالى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا قد تقدم الكلام في الصبر وأقسامه وبيان مرتبته من الإيمان وما ذكره في تفسيره ههنا غير مطابق لمعناه وهو تفسير بعيد جدا فإن الصبر من أعمال القلوب وهو حبس النفس وكفها عن السخط وأما صون القلب عن اعتقاد مالا يليق بالله فلا يقال له صبر بل هذا من لوازم الإيمان وهو كاعتقاد أنه سبحانه وتعالى حكيم رحيم عليم سميع بصير إلى غير ذلك من صفات كماله فلا يقال الصبر صون القلب عن اعتقاد أضدادها هذا بعيد جدا وتكلف زائد لتفسير الصبر وهل فهم أحد قط هذا المعنى من قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا وقوله تعالى والصبر لحكم ربك وقوله تعالى واصبر وما صبرك إلا بالله وقوله فاصبر على ما يقولون واصبروا إن الله مع الصابرين وسائر نصوص الصبر ومن العجب جعل الصبر الذي هو

نصف الإيمان من منازل العوام وتفسيره بهذا التفسير نعم يجب على كل مسلم أن ينزه الله سبحانه وتعالى عن أن يقضي قضاء ينافي حكمته وعدله وفضله وبره وإحسانه بل كل أقضيته لا تخرج عن الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة وإن كان كثير من المتكلمين ينازع في هذا الأصل ويقول الذي ينزه الله عنه من الأقضية هو المستحيل الممتنع وأما الممكن فلا يقبح منه شيء وهؤلاء لا يمكن صون القلب عن خواطر السوء المتعلقة بما يقضيه الله عندهم إلا صونها عن خواطر الممتنعات والمستحيلات فقط وبالجملة هذا مقام آخر غير مقام الصبر بل هذا باب من أبواب المعرفة والعلم ولكل مقام مقال وأما استشهاده بقوله تعالى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا فالبلاء الحسن هنا هو النعمة بالظفر والغنيمة والنصر على الأعداء وليس من الابتلاء الذي هو الامتحان بالمكروه بل من أبلاه بلاء حسنا إذا أنعم عليه يقال أبلاك الله ولا ابتلاك فأبلاه بالخير وابتلاه بالمكاره غالبا كما في الحديث إني مبتليك ومبتل بك
فصل قال وحزنهم يأسهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء إن الإنسان لربه لكنود وقد تقدم أيضا الكلام على ما ذكره في الحزن وأما تفسيره إياه أنه بأسهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء فليس بالبين فإن الحزن هو الأسف على فوت محبوب أو حصول مكروه وإن تعلق ذلك بالماضي كان حزنا وإن تعلق بالمستقبل كان خوفا وهما وأما اليأس عن النفس الأمارة بالسوء فليس بحزن ويمكن أن يكون مراده أن حزنهم ينشأ عن النفس الأمارة بالسوء لا عن المطمئنة فإن المطمئنة لا تحزن وإنما تحزن الأمارة

لفوات محبوبها وليس هذا كما قال فإن النفس المطمئنة تحزن على تقصيرها في أداء الحق وعلى تضييعها الوقت وإيثارها غير الله عليه في الأحيان وهذا الحزن لا بد منه إذ التقصير ! والتضييع لازم وأما استشهاده على ذلك بقوله تعالى إن الإنسان لربه لكنود فوجهه أن الكنود هو الكفور وهو الذي يذكر المصائب وينسي النعم ولا ريب أن الحزن ينشأ عن هذين ولا ريب أن الحزن الناشىء عن الكنود حزن ناشىء عن النفس الأمارة بالسوء وأما الحزن على تقصيره وتضييع وقته فليس من هذا وقد تقدم ذلك وذكر أقسام الحزن ومتعلقاته والله أعلم
فصل قال وخوفهم هيبة الجلال لا خوف العذاب فإن خوفهم مناضلة عن النفس وضن بها وهيبة الجلال تعظيم الحق ونسيان النفس يخافون ربهم من فوقهم وقال في حق العوام يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار وقد تقدم أيضا الكلام على ما ذكره في الحديث وعلته وقوله هو هيبة الجلال لا خوف العذاب تقدم بيان بطلانه وأن الله سبحانه أثنى على خاصة أوليائه من الملائكة والأنبياء وغيرهم ممن عبدهم المشركون بأنهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه فكيف يقال إن خوف العذاب نقص ومناضلة عن النفس هذا من الترهات والزعوم ودعاوي الأنفس وقوله إن الخوف مناضلة عن النفس فسبحان الله هل يقال لمن خاف الله وخاف عقوبته إنه مناضل ربه ولو كان مناضله فهو مناضلة العدو والهوى والشهوة وهذه المناضلة من أعظم أنواع العبودية فإن من خاف شيئا ناضل عنه فهو مناضلة عن العذاب

وأسبابه وما ثم إلا مناضلة وإلقاء باليد إلى التهلكة ولولا هذه المناضلة لحصل الاستسلام للعقوبة والمناضلة المحذورة المناضلة عن محبوبات الرب وأوامره وليس الضن بالنفس عن عذاب الله نقصا بل الكمال والفوز والنعيم في ضن العبد بنفسه عن أن يسلمها لعذاب الله ومن لم يضن بنفسه فليس فيه خير البتة والضن بالنفس إنما يذم إذا ضن بها عن بذلها في محبوب الرب وأوامره وأما إذا ضن بها عن عذابه فهل يكون هذا علة وهل العلة كلها إلا في عدم هذه المناضلة والضن قوله وهيبة الجلال تعظيم الحق ونسيان النفس قد تقدم الكلام في الهيبة والتعظيم وأنهما غير الخوف والخشية ولا تستلزم هذه الهيبة أيضا نسيان النفس ولا يكون شعور العبد بنفسه في هذا المقام نقصا ولا علة كما تقدم بل هو أكمل لاستلزامه البقاء الذي هو أقوى وأكمل من الفناء وأما قوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم فهو حجة عليه كما تقدم ولا يصح تفسير الخوف هنا بالهيبة لوجهين أحدهما أنه خروج عن حقيقة اللفظ ووضعه الأصلي بلا موجب الثاني أن هذا وصف للملائكة وقد وصفهم سبحانه بخوفه وخشيته فالخوف في هذه الآية والخشية في قوله تعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون فوصفهم بالخشية والإشفاق ووصفهم بخوف العذاب في قوله تعالى يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه وهم خواص خلقه فإياك ورعونات النفس وحماقاتها وجهالاتها ولا تكن ممن لا يقدر الله حق قدره وقد قال النبي إن الله لو عذب

أهل سماواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم فإذا علم المقرب العارف أن الله لو عذبه لم يظلمه فمن أحق بالخوف منه قوله وقال في حق العوام ! يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار هذا من الشطحات القبيحة الباطلة فإن هذا صفة خواص عباده وعارفيهم وهم الذين قال فيهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله فهؤلاء خواص الخلق وهم أصحاب رسول الله ومن تبعهم بإحسان أفلا يستحي من جعل هذا الومصف للعوام ولا ريب أن هذا مصدره إما جهل مفرط وإما تقليد لقائل لا يدري لازم قوله هذا إن أحسن الظن بقائله وإن كان مصدره غير ذلك فأدهى وأمر ولولا أن هذه الكلمات ونحوها مهاو ومعاطب في الطريق لكان الإعراض عنها إلى ما هو أهم منها أولى والله المستعان
فصل قال ورجاؤهم ظمؤهم إلى الشراب الذي هم في غرقى وبه سكرى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل وهذا أيضا من ذلك النمط ورجاء الأنبياء والرسل فمن دونهم إنما هو طمعهم في رحمته ومغفرته وانظر إلى دعوى هؤلاء وإلى قول إمام الحنفاء خليل الرحمن والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين كيف علق رجاءه وطمعه بمغفرة الله له قال تعالى عن خاصة خلقه وأعلمهم به أنهم يرجون

رحمته ويخافون عذابه ومن العجب استدلاله بقوله تعالى ألم تر إلى ربك كيف مد الظل فما لهذه الآية وما للرجاء ولا سيما ما ذكره المصنف في تفسيره رجاء القوم والاستشهاد بهذا من جنس الألغاز ومعنى الآية التنبيه على هذه الدلالة الباهرة على قدرة الرب سبحانه وعجائب مخلوقاته الدالة عليه والمعنى انظر كيف بسط ربك الظل والظل ما قبل الزوال والفيء بعده فمده سبحانه وبسطه عند طلوع الشمس فإنه يكون مديدا أطول ما يكون وجعل الشمس دليلا عليه فإنها هي التي تظهره وتبينه ثم كلما ارتفعت الشمس شيئا انقبض من الظل جزء فلا يزال ينقص يسيرا حتى ينتهي إلى غايته فإذا أخذت الشمس في الجانب الغربي انبسط بعد انقباضه شيئا فشيئا حتى يصير كهيئته عند طلوعها ولهذا كان الزوال يعرف بانتهاء الظل في قصره فإذا أخذ في الزيادة بعد تناهي قصره فقد تحقق الزوال ولو شاء الله لجعله ساكنا دائما على حالة واحدة فلا يتحرك بالزيادة والنقصان فالظل أحد الأدلة على الخالق سبحانه وأما دلالة هذه الآية على الرجاء فيحتاج إلى أشارة وتكلف غير مقصود بها وآيات الرجاء في القرآن أكثير وأظهر وأصرح في المقصود ظاهرة واستنباطا فالظاهرة كقوله تعالى فمن كان يرجو لقاء به وقوله تعالى يرجون رحمته وقوله من كان يرجو لقاء الله والمستنبطة كآيات البشارة كلها كقوله وبشر المؤمنين وبشر الصابرين فبشر عباد

الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات
فصل قال وشكرهم وسرورهم بموجودهم واستبشارهم بلقائه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وهذا أيضا من النمط المتقدم وشكر القوم هو عملهم بطاعة الله واستعانتهم بنعمه على محابه قال تعالى اعملوا آل داود شكرا وقال النبي لما قيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال أفلا أكون عبدا شكورا فسمى الأعمال شكرا وأخبر أن شكره قيامه بها ومحافظته عليها فحقيقة الشكر هو الثناء على النعم ومحبته والعمل بطاعته كما قال
أفادتكم النعماء عندي ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا
فاليد للطاعة واللسان للثناء والضمير للحب والتعظيم وأما السرور به وإن كان من أجل المقامات فإن العبد إنما يسر بمن هو أحب الأشياء إليه وعلى قدر حبه له يكون سروره وهذا السور ثمرة الشكر لا أنه نفس الشكر فكذلك الاستبشار والفرح بلقائه إنما هو ثمرة الشكر وموجبه وهو كالرضا من التوكل وكالشوق من المحبة وكالأنس من الذكر وكالخشية من

العلم وكالطمأنينة من اليقين فإنها ثمرات لها وآثار وموجبات فعلى قدر شكره لله بالأعمال الظاهرة والباطنة وتصحيح العبودية يكون سروره واستبشاره بلقائه وأما قوله سبحانه وتعالى فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به فهذا إنما قاله للشاكين الذين يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون ثم وصفهم بعد ذلك بقيامهم بأعمال الشكر فقال التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله فهؤلاء المستبشرون ببيعهم جعلنا الله منهم بمنه وكرمه
فصل قال ومحبتهم فناؤهم في محبة الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال وقد تقدم الكلام على هذا بما فيه الكفاية وبينا أن البقاء في المحبة أفضل وأكمل من الفناء فيها من وجوه متعددة وأن الفناء إنما هو لضعف المحب عما حمل وأما الأقوياء فهم مع شدة محبتهم في مقام البقاء والتمييز وأما استدلاله بقوله تعالى فماذا بعد الحق إلا الضلال فالآية إنما سبقت في الكلام على من يعبد غير الله ويشرك به قال تعالى قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل إفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون فمن عبد غير الله فما عبد إلا الضلال المحض

والباطل البحت وأما من عبد الله بأمره وكان في مقام التمييز بين محابه ومساخطه مفرقا بينهما يحب هذا ويبغض هذا ناظرا بقلبه إلى ربه عاكفا بهمته عليه منفذا لأوامره فهو مع الحق المحض والله أعلم
فصل قال وشوقهم هزمهم من رسمهم وسماتهم استعجالا للوصول إلى غاية المنى وعجلت إليك رب لترضى قد تقدم الكلام في الشوق مستوفى وليس الهرب من الغير والضد هو ال شوق بل هنا مهروب منه ومهروب إليه فالشوق هوسفر القلب نحو المحبوب وهذا لا يتم إلا بالهرب من ضده فليس الشوق هو نفس الهرب من الرسوم والسمات
فصل قال والإرادة والزهد والتوكل والصبر والحزن والخوف والرجاء والشكر والمحبة والشوق من منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة فإذا شاهدوا عين الحقيقة اضمحلت فيها أحوال الشاهدين حتى يفنى ما لم يكن ويبقى ما لم يزل قلت الحقائق التي أشار إليها على لسان أهل السلوك ثلاث حقيقة إيمانية نبوية وهي حقيقة العبودية التي هي كمال الحب وكمال الذل وسير أهل الاستقامة إنما هو إلى هذه الحقيقة ومنازل السير التي ينزلون فيها هي منازل الإيمان المصولة إليها والمنحرفون لا يرضون بهذه الحقيقة ولا يقفون معها ويرونها منزلة من منازل العامة الحقيقة الثانية حقيقة كونية قدرية يشاهدون فيها انفراد الرب سبحانه بالتكوين والإيجاد وحده وأن العالم كالميت يقلبه ويصرفه كيف يشاء وهم يعظمون هذا المشهد ويورون الفناء فيه غاية ما بعيدها شيء وهذا ن أغلاطهم في المعرفة والسلوك فإن هذا المشهد لا يدخل صاحبه في الإيمان فضلا عن أن يكون أفضل مشاهد أولياء الله المقربين فإن عباد

الأصنام شهدوا هذا المشهد ولم ينفعهم وحده قال تعالى قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا وهذا كثير في القرآن فالفناء في هذا المشهد لا يدخل العبد في دائرة الإسلام فكيف يجعله هوم الحقيق ةالتي ينتهي إليها سير السالكين ويجعل حقيقة الإيمان ودعوة الرسل منزلة من منازل العامة وهل هذا إلا غاية الانحراف والبعد عن الصراط المستقيم وقلب للحقائق وكم قد هلك في هذه الحقيقة من أمم لا يحصيهم إلا الله وكم عطل لأجلها الواقفون معها من الشرائع وخربوا من المنازل وما نجا من معاطيها إلا من شملته العناية الربانية ونفذ ببصره من هذه الحقيقة إلى الحقيقة الإيمانية النبوية حقيقة رسل الله وأنبيائه وأتباعهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والحقيقة الثالثة حقيقة اتحادية بل واحدية لا يفرق فيها بين الرب والعبد ولا بين القديم والمحدث ولا بين صانع ومصنوع بل الأمر كله واحد والأمر المخلوق هو عين الأمر الخالق وهذه الحقيقة التي يشير إلى عينها طائفة الاتحادية ويعدون من

لم يكن من أهلها محجوبا وهذه حقيقة كفرية اتحادية وهي مع ذلك خيال فاسد وعقل منكوس وذوق من عين منتنة وكفرأهلها أعظم من كفر كل أمة فإنهم جحدوا الصانع حقا وإن أثبتوه جعلوا وجوده وجود كل موجود والذين أثبتوا الصانع وعدلوا به غيره وسووا بينه وبين غيره في العبادة مقالتهم خير من مقالة هؤلاء الذي جعلوه وجود كل موجود وعين كل شيء تعالى الله عما يقول الكاذبون المفترون علوا كبيرا فعليك بالفرق بين السائرين إلى هذه الحقيقة والسائرين إلى عين الحقيقة الكونية الحكمية
والسائرين إلى عين الحقيقة المحمدية الإبراهيمية الحنيفية التي هي حقيقة جميع الأنبياء والمرسلين وفيها تفاوتت مراتب السالكين ويمنازلهم من القرب من رب العالمين قال شيخ هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام لما تحقق فناء تلك الرسوم وأفولها إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وهذا التوجه يتضمن محبته دون غيره وعبادته وطاعته دون غيره فهذه هي الحقيقة حقا وما سواها باطل حقيقة قال تعالى لأكرم خلقه عليه ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين فأمره تعالى أن يقتدي بأبيه إبراهيم في هذه الحقيقة وكان يعلم أصحابه إذا أصبحوا وإذا أمسوا أن يقولوا أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنفا مسلما وما كان من المشركين فنسأل الله العظيم أن يهب

لنا هذه الحقيقة ويثبتنا عليها ويعيذنا مما سواها إنه قريب مجيب بمنه وكره والله أعلم


فصل في مراتب المكلفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها وهم ثمان عشرة طبقة الطيقة الأولى وهي العليا على الإطلاق مرتبة الرسالة فأكرم الخلق على الله وأخصهم بالزلفى لديه رسله وهم المصطفون من عباده الذين سلم عليهم في العالمين كما قال تعالى وسلام على المرسلين وقال تعالى سلام على نوح في العالمين وقال تعالى سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين سلام على إل ياسين وقال تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وكلمة السلام هنا تحتمل أن تكون داخلة في حيز القول فتكون معطوفة على الجملة الخبرية وهي الحمد لله ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ويكون محلها النصب محكيه بالقول ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة معطوفة على جملة الطلب وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب وهذا التقدير أرجح وعليه يكون السلام من الله عليهم وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه

وتعالى على رسله عليهم السلام وعلى التقدير الأول يكون أمر بالسلام عليهم ولكن يقال على هذا كيف يعطف الخبر على الطلب مع تنافر ما بينهما فلا يحسن أن يقال قم وذهب زيد ولا أخرج وقعد عمرو أو يجاب على هذا بأن جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية ومع هذا لا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه وهذا نظير قوله تعالى قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون فقوله تعالى وما تغني الآيات ليس معطوفا علىالقول وهو نظروا بل معطوف على الجملة الكبرى على أن عطف الخبر على الطلب كثير كقوله تعالى قل رب احكم بالحق وربنبا الرحمن المستعان على ما تصفون وقوله تعالى وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين والمقصود أنه على هذا القول يكون الله سبحانه وتعالى قد سلم على المصطفين من عباده والرسل أفضلهم وقد أخبر سبحانه وتعالى أنه أخلصهم بخالصة ذكرى الدار وأنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ويكفي في فضلهم وشرفهم أن الله سبحانه وتعالى اختصهم بوحيه وجعلهم أمناء على رسالته وواسطة بينه وبين عباده وخصهم بأنواع كراماته فمنهم من اتخذه خليلا ومنهم من كلمه تكليما ومنهم من رفعه مكانا عليا على سائرهم درجات ولم يجعل لعباده وصولا إليه إلا من طريقهم ولا دخولا إلى جنته إلا خلفهم ولم يكرم أحدا منهم بكرامة إلا على أيديهم فهم أقرب الخلق إليه وسيلة

وأرفعهم عنده درجة وأحبهم إليه وأكرمهم عليه وبالجملة فخير الدنيا والآخرة إنما ناله العباد على أيديهم وبهم عرف الله وبهم عبد وأطيع بهم حصلت محابه تعالى في الأرض وأعلاهم منزلة أولو العزم منهم المذكورون في قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى وهؤلاء هم الطبقة العليا من الخلائق وعليهم تدور الشفاعة حتى يردوها إلى خاتمهم وأفضلهم
الطبقة الثانية من عداهم من الرسل على مراتبهم من تفضيلهم بعضهم على بعض
الطبقة الثالثة الذين لم يرسلوا إلى أممهم وإنما كانت لهم النبوة دون الرسالة فاختصوا عن الأمة بإيحاء الله إليهم وإرساله ملائكته إليهم واختصت الرسل عنهم بإرسالهم إلى الأمة بدعوتهم إلى الله بشريعته وأمره واشتركوا في الوحي ونزول الملائكة عليهم
الطبقة الرابعة ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا ودعوة للخلق إلى الله على طرقهم ومنهاجهم وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة وهي مرتبة الصديقية ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة وهؤلاء هم الربانيون وهم الراسخون في العلم وهم الوسائط بين الرسول وأمته فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه وهم

المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وقال الله تعالى والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم وقيل إن الوقف على قوله تعالى هم الصديقون ثم يبتدىء والشهداء عند ربهم فيكون الكلام جملتين أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون والإيمان التام يستلزم العلم والعمل والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين هنا وفي سورة النساء وهكذا جاء ذكرهم مقدما على الشهداء في كلام النبي في قوله أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيد ولهذا كان نعت الصديقية وصفا لأفضل الخلق بعبد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق ولو كان بعبد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتا له رضي الله عنه وقيل إن الكلام كله جملة واحدة وأخبر عن المؤمنين بأنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم وعلى هذا فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة وهو قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس وهم المؤمنون فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا وشهداء على الناس يوم القيامة ويكون الشهداء وصفا لجملة

المؤمنين الصديقين وقيل الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين ويكون قوله والشهداء مبتدأ خبره ما بعده لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيدا في سبيل الله ويرجحه أيضا أنه لو كان الشهداء داخلا في جملة الخبر لكان قوله تعالى لهم أجرهم ونورهم داخلا أيضا في جملة الخبر عنهم ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء أحدها أنهم هم الصديقون الثاني أنهم هم الشهداء والثالث أن لهم أجرهم ونورهم وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول ثم ذكر الخبر الثالث مجردا عن العطف وهذا كما تقول زيد كريم وعالم له مال والأحسن في هذا تناسب الأخبار بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعا فتقول زيد كريم عالم له مال أو كريم وعالم وله مال فتأمله ويرجحه أيضا أن الكلام يصير جملا مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء وهم الصديقون والشهداء والصالحون وهم المذكورون في الآية وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضا حسنا فهؤلاء ثلاثة أصناف ثم ذكر الرسول في قوله تعالى لقد أرسلنا رسلنا بالبينات فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكور في سورة النساء فهؤلاء هم السعداء ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان كفار ومنافقون فقال تعالى والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم وذكر المنافقون في قوله تعالى يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم فهؤلاء أصناف العالم كلهم وترك سبحانه وتعالى ذكر المخلط صاحب الشائبتين على طريقة القرآن في ذكر السعداء والأشقياء دون المخلطين غالبا لسر اقتضته حكمته فليحذر صاحب التخليط فإنه لا

ضمان له على الله ولا هو من أهل وعده المطلق ولا ييأس من روح الله فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين ولكن غلطوا في تخليده في النار ولو نزلوه منزلة بين المنزلتين ووكلوه إلى المشيئة وقالوا بأنه يخرج من النار بتوحيده وإيمانه لأصابوا ولكن منزلة بين منزلتين وصاحبهما مخلد في النار مما لا يقتضيه عقل ولا سمع بل النصوص الصريحة المعلومة الصحة تشهد ببطلان قولهم والله أعلم وأيضا فصاحب الشائبتين يعلم حكمه من نصوص الوعد والوعيد فإن الله سبحانه وتعالى رتب على كل عمل جزاء في الخير والشر فإذا أتى العبد بهما كان فيه سبب الجزاءين والله لا يضيع مثقال ذرة فإن كان عمل الشر مما يوجب سقوط أثر الحسنة كالكفر كان التأثير وإن لم يسقطه كالمعصية ترتب في حقه الأثران ما لم يسقط أحدهما بسبب من الأسباب التي نذكرها إن شاء الله فيما بعبد والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأمة ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كل من علم بتعليمهم وإرشادهم أو علم غيره شيئا من ذلك كان له مثل أجره ما دام ذلك جاريا في الأمة على آباد الدهور وقد صح عن النبي أنه قال لعلي بن أبي طالب والله لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم

وصح عنه أنه قال من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كان له مثل أجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيئا وصح عنه أيضا أنه قال إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له وصح عنه أنه قال من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وفي السنن عنه أنه قال إن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى النملة في جحرها وعنه أنه

قال إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير وعنه أنه قال إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ عظيم وافر وعنه العالم والمتعلم شريكان في الأجر ولا خير في سائر الناس بعد وعنه أنه قال نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وأداهما كما سمعها والأحاديث في هذا كثيرة وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد فيا لها من مرتبة ما أعلاها ومنقبة ما أجلها وأسناها أن يكون المرء في حياته مشغولا ببعض أشغاله أو في قبره قد صار أشلاء متمزقة وأوصالا متفرقة وصحف حسناته متزايدة يملي فيها الحسنات كل وقت وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب تلك والله المكارم والغنائم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وعيه يحسد

الحاسدون وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تنفق نفائس الأنفاس عليها ويسبق السابقون إليها وتوفر عليها الأوقات وتتوجه نحوها الطلبات فنسأل الله الذي بيده مفاتيح كل خير أن يفتح علينا خزائن رحمته ويجعلنا من أهل هذه الصفة بمنه وكرمه وأصحاب هذه المرتبةيدعون عظماء في ملكوت السماء كما قال بعض السلف من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء وهؤلاء هم العدول حقا بتعديل رسول الله لهم إذ يقول فيما يروى عنه من وجوه شد بعضها بعضا يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وما أحسن

ما قال فيهم الإمام أحمد في خطبة كتابه في الرد على الجهمية الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ومن ضال جاهل قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وذكر ابن وضاح هذا الكلام عن عمر بن الخطاب

الطبقة الخامسة أئمة العدل وولاته الذين تؤمن بهم السبل ويستقيم بهم العالم ويستنصر بهم الضعيف ويذل بهم الظالم ويأمن بهم الخائف وتقام بهم الحدود ويدفع بهم الفساد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقام بهم حكم الكتاب والسنة وتطفأ بهم نيران البدع والضلالة وهؤلاء الذين تنصب لهم المنابر من النور عن يمين الرحمن عز و جل يوم القيامة فيكونون عليها والولاة الظلمة قد صهرهم حر الشمس وقد بلغ منهم العرق مبلغه وهم يحملون أثقال مظالمهم العظيمة على ظهورهم الضعيفة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيل أحدهم إما إلى الجنة وإما إلى النار فقال النبي المقسطون على منابر من نور يوم القيامة عن يمين الرحمن تبارز وتعالى وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا وعنه إن أحب الخلق إلى الله وأقربهم منه منزلة يوم القيامة إمام عادل وإن أبغض الخلق إلى الله وأبعدهم منه منزلة يوم القيامة إمام جائر أو كما قال وهم أحد السبعة الأصناف الذين

يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وكما كان الناس في ظل عدلهم في الدنيا كانوا في ظل عرش الرحمن يوم القيامة ظلا بظل جزاء وفاقا ولو لم يكن من فضلهم وشرفهم إلا أن أهل السموات والأرض والطير في الهواء يصلون عليهم ويستغفرون لهم ويدعون لهم وولاة الظلم يلعنهم من بين السموات والأرض حتى الدواب والطير كما أن معلم الناس الخير يصلي عليه الله وملائكته وكاتم العلم والهدى الذي أنزله اله وحامل أهله على كتمانه يلعنه الله وملائكته ويلعنه اللاعنون فيا لها من منقبة ومرتبة ما أجلها وأشرفها أن يكون الوالي والإمام على فراشه ويعمل بالخير وتكتب الحسنات في صحائفه فهي متزايدة ما دام يعمل بعدله ولساعة واحدة منه خير من عبادة أعوام من غيره فأين هذا من الغاش لرعيته الظالم لهم قد حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار ويكفي في فضله وشرفه أن يكف عن الله دعوة المظلوم كما في الآثار أيها الملك المسلط المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ولكن بعثتك لتكف عني دعوة المظلوم إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض فإني لا أحجبها ولو كانت من كافر فأين من هو نائم وأعين العباد ساهرة تدعو الله له وآخر أعينهم ساهرة تدعو عليه
الطبقةالسادسة المجاهدون في سبيل الله وهم جند الله اذين يقيم بهم دينه وييدفع بهم بأس أعدائه ويحفظ بهم بيضة الإسلام ويحمي لهم حوزة الدين وهم الذين يقاتلون أعداء الله ليكون الدين كله لله وتكون

كلمة الله هي العليا قد بذلوا أنفسهم في محبة الله ونصر دينه وإعلاء كلمته ودفع أعدائه وهم شركاء لكل من يحمونه بسيوفهم في أعمالهم التي يعملونها وإن باتوا في ديارهم ولهم مثل أجور من عبدالله بسبب جهادهم وفتوحهم فإنهم كانوا هم السبب فيه والشارع قد نزل المتسبب منزلة الفاعل التام في الأجر والوزر ولهذا كان الداعي إلى الهدى والداعي إلى الضلال لكل منهما بتسببه مثل أجر من تبعه وقد تظاهرت آيات الكتاب وتواترت نصوص السنة على الترغيب في الجهاد والحض عليه ومدح أهله والإخبار عما لهم عند ربهم من أنواع الكرامات والعطايا الجزيلات ويكفي في ذلك قوله تعالى يا أيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم فتشوقت النفوس إلى هذه التجارة الرابحة الدال عليها رب العالمين العليم الحكيم فقال تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم فكأن النفوس ضنت بحياتها وبقائها فقال ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يعني أن الجهاد لكم لكم من قعودكم للحياة والسلامة فكأنها قالت فما لنا في الجهاد من الحظ فقال يغفر لكم ذنوبكم مع المغفرة يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم فكأنها قالت هذا في الآخرة فما لنا في الدنيا فقال وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين فيا لله ما أحلى هذه الألفاظ وما

ألصقها بالقلوب وما أعظمها جذبا لها وتسييرا إلى ربها وما ألطف موقعها من قلب كل محب وما أعظم غنى القلب وأطيب عيشه حين تباشره معانيها فنسأل الله من فضله إنه جواد كريم ومن هذا قوله تعالى أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الآخر وجهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه وضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم فأخبر سبحانه وتعالى أنه لا يستوي عنده عمار المسجد الحرام وهم عماره بالاعتكاف والطواف والصلاة هذه هي عمارة مساجده المذكورة في القرآن وأهل سقاية الحاج لا يستوون هم وأهل الجهاد في سبيل الله وأخبر أن المؤمنين المجاهدين أعظم درجة عنده وأنهم هم الفائزون وأنهم أهل البشارة بالرحمة والرضوان والجنان فنفى التسوية بين المجاهدين وعمار المسجد الحرام مع انواع العبادة مع ثنائه على عماره بقوله تعالى إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين فهؤلاء هم عمال المساجد ومع هذا فأهل الجهاد أرفع درجة عند الله منهم وقال تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات ومغفرة

ورحمة وكان الله غفورا رحيما فنفى سبحانه وتعالى التسوية بين المؤمنين القاعدين عن الجهاد وبين المجاهدين ثم أخبر عن تفضيل المجاهدين على القاعدين درجة ثم أخبر عن تفضيلهم عليهم درجات
وقد أشكل فهم هذه الآية على طائفة من الناس من جهة أن القاعدين الذين فضل عليهم المجاهدون بدرجات إن كانوا هم القاعدين الذي فضل عليهم أولو الضرر فيكون المجاهدون أفضل من القاعدين مطلقا وعلى هذا فما وجه استثناء أولي الضرر من القاعدين وهم لا يستوون والمجاهدين أصلا فيكون حكم المستثني والمستثنى منه واحدا فهذا وجه الإشكال ونحن نذكر ما يزيل الإشكال بحمد الله فاختلف القراء في إعراب غير فقرىء رفعا ونصبا وهما في السبعة وقرىء بالجر في غير السبعة وهي قراءة أبي حيوة فأما قراءة النصب فعلى الاستثناء لأن غيرا يعرب في الاستثناء إعراب الاسم الواقع بعد إلا وهو النصب هذا هو الصحبح وقالت طائفة إعرابها نصب على الحال أي لايستوي القاعدون غير مضرورين أي لا يستوون في حال صحتهم هم والمجاهدون والاستثناء أصح فإن غير لا تكاد تقع حالا في كلامهم إلا مضافة إلى نكرة كقوله تعالى فمن اضطر غير باغ وقوله عز و جل في أول المائدة أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وقوله تعالى مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى فإن أضيفت إلى معرفة

كانت تابعة لما قبلها كقوله تعالى صراط الذين أنعمت عيهم غير المغضوب عليهم ولو قلت مرحبا بالوفد غير الخزايا ولا الندامى لجرت غير هذا هو المعروف من كلامهم والكلام في عدم تعرف غير بالإضافة وحسن وقوعها إذ ذاك حالا له مقام آخر وأما الرفع فعلى النعت للقاعدين هذا هو الصحيح وقال أبو إسحاق وغيره هو خبر مبتدأ محذوف تقديره الذين هم غير أولي الضرر والذي حمله على هذا ظنه أن غيرا لا تقبل التعريف بالإضافة فلا تجري صفة للمعرفة وليس مع من ادعى ذلك حجة يعتمد عليها سوى أن غيرا توغلت في الإبهام فلا تتعرف بما يضاف إليه وجواب هذا أنها إذا دخلت بين متقابلين لم يكن فيها إبهام لتعيينها ما تضاف إليه وأما قراءة الجر ففيها وجهان أيضا أحدهما وهو الصحيح أنه نعت للمؤمين والثاني وهو قول المبرد أنه بدل منه بناء على أنه نكرة فلا تنعت به المعرفة وعلى الأقوال كلها فهو مفهوم معنى الاستثناء وإن نفي التسوية غير مسلط على ما أضيفت إليه غيره وقوله فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة هو مبين لمعنى نفي المساواة قالوا والمعنى فضل الله المجاهد على القاعد من اولي الضرر درجة واحدة لامتيازه عنه بالجهاد بنفسه وماله ثم أخبر سبحانه وتعالى أن الفريقين كليهما موعود بالحسنى فقال وكلا وعد الله الحسنى أي المجاهد والقاعد المضرور لاشتراكهما في الإيمان قالوا وفي هذا دليل على تفضيل الغني المنفق على الفقير لأن الله أخبر أن المجاهد بماله ونفسه أفضل من القاعد وقدم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس وأما

الفقير فنفى عنه الحرج بقوله ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه فأين مقام من حكم له بالتفضيل إلى مقام من نفى عنه الحرج قالوا فهذا حكم القاعد من أولي الضرر والمجاهد وأما القاعد من غير أولي الضرر فقال تعالى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما وقوله درجات قيل هو نصب على البدل من قوله أجرا عظيما وقيل تأكيد له وإن كان بغير لفظه لأنه هو في المعنى قال قتادة كان يقال الإسلام درجة والهجرة في الإسلام درجة والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة وقال ابن زيد الدرجات التي فضل الله بها المجاهد على القاعد سبع وهي التي ذكرها الله تعالى إذ يقول تعالى ذلك بأنهم لا يصيبهم طمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين فهذه خمس ثم قال ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم به عمل صالح فهاتان اثنتان وقيل الدرجات سبعون درجة ما بين الدرجتين حضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة والصحيح إن الدرجات هي المذكورة في حديث ابي هريرة الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي أنه قال من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإن حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي

ولد فيها قالوا يا رسول الله أفلا نخبر الناس بذلك قال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة قالوا وجعل سبحانه وتعالى التفضيل الأول بدرجة فقط وجعله ههنا بدرجات ومغفرة ورحمة وهذا يدل على أنه يفضل على غير أولي الضرر فهذا تقرير هذا القول وإيضاحه
ولكن بقي أن يقال إذا كان المجاهدون من القاعدين مطلقا لزم أن لا يستوي مجاهد وقاعد مطلقا فلا يبقى في تقييد القاعدين بكونهم من غير أولي الضرر فائدة فإنه لا يستوي المجاهدون والقاعدون من أولي الضرر ايضا وأيضا فإن القاعدين المذكورين في الآية الذين وقع التفضيل عليهم هم غير أولي الضرر لا القاعدون الذين هم أولو الضرر فإنهم لم يذكر حكمهم في الآية بل استثناهم وبين أن التفضيل على غيرهم فاللام في القاعدين للعهد والمعهود هم غير أولي الضرر لا المضرورون وأيضا فالقاعد من المجاهدين لضرورة تمنعه من الجهاد له مثل أجر المجاهد كما ثبت عن النبي أنه قال إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل صحيحا مقيما وقال إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم قالوا وهم بالمدينة قال وهم بالمدينة حبسهم العذر وعلى هذا فالصواب أن يقال الآية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ايميل دار نشر الجامعة بالامارات

ايميلات دور النشر في الامارات Post category: مواضيع عامة / تعليم تتميز الامارات بتواجد العديد من دور النشر المشهورة في الوطن العربي والتي...