898.اندكس ب سليم

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

ج3.وج4.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

 

ج3.وج4.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ 

 اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

==النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ إذْ ذَاكَ مَفْتُوحَةٌ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ إذْ ذَاكَ فِي الصِّغَرِ بِحَيْثُ قَدْ عُلِمَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إسْرَاعِهِ فِي الْمَشْيِ بِحَيْثُ قَدْ عُلِمَ فَلَا يُمْكِنُهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ يَسْتَوُوا قِيَامًا إلَّا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِ أَزْوَاجِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَخْرَجَ عَنْ بِشْرِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَجُلٍ غَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي ذَرٍّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَافِحُكُمْ إذَا لَقِيتُمُوهُ ؟ قَالَ : مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إلَّا صَافَحَنِي ، وَبَعَثَ إلَيَّ ذَاتَ يَوْمٍ وَلَمْ أَكُنْ فِي أَهْلِي فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيَّ فَأَتَيْته ، وَهُوَ عَلَى سَرِيرِهِ فَالْتَزَمَنِي وَكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ الْإِنْصَافِ أَيُّ شَيْءٍ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمُصَافَحَةِ وَالِالْتِزَامِ وَبَيْنَ الْقِيَامِ بَلْ فِيهِ التَّعَرُّضُ لِتَرْكِ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَيْتِ عَلَى السَّرِيرِ وَالْتَزَمَهُ إذْ ذَاكَ وَلَمْ يَقُمْ إلَيْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَرْكِ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ ، وَلَوْ كَانَ مَنْدُوبًا إذْ ذَاكَ لَفَعَلَهُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَرْمَيَيْنِ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيُّ بِإِسْنَادِهِ ( عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ انْتَهَى .
اُنْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ إلَى هَذَا الدَّلِيلِ مَا أَعْجَبَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَفْتَحَ لَهُ الْبَابَ فَفَتَحَهُ لَهُ وَاعْتَنَقَهُ فَأَخَذَ هُوَ مِنْهُ الدَّلِيلَ لِلْقِيَامِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْقِيَامِ إلَى فَتْحِ الْبَابِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ غَائِبٌ قَدْ قَدِمَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُجِيزُونَ ذَلِكَ لِلْقَادِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي التَّقْسِيمِ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : كُنَّا عِنْدَ أَيُّوبَ فَجَاءَ يُونُسُ فَقَالَ حَمَّادٌ قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ أَوْ قَالَ لِسَيِّدِنَا ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَتَاهُ أَبُو إبْرَاهِيمَ الزُّهْرِيُّ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ لَمَّا رَآهُ أَحْمَدُ وَثَبَ إلَيْهِ قَائِمًا وَأَكْرَمَهُ فَلَمَّا مَضَى قَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ : يَا أَبَتِ أَبُو إبْرَاهِيمَ شَابٌّ عَمِلَ بِهِ هَذَا الْعَمَلَ وَتَقُومُ إلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا بُنَيَّ لَا تُعَارِضْنِي فِي مِثْلِ هَذَا أَلَا أَقُومُ لِابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعَنْ أَبِي هَاشِمٍ قَالَ : قَامَ وَكِيعٌ لِسُفْيَانَ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ قِيَامَهُ فَقَالَ أَتُنْكِرُ عَلَيَّ قِيَامِي وَأَنْتَ حَدَّثْتَنِي عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى إجْلَالَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَأَخَذَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ إلَى جَانِبِهِ .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّلْتِ قَالَ : كُنْت عِنْدَ بِشْرِ بْنِ الْحَارِثِ يَعْنِي الْحَافِي الزَّاهِدَ فَجَاءَ رَجُلٌ يُسَلِّمُ عَلَى بِشْرٍ فَقَامَ إلَيْهِ بِشْرٌ فَقُمْتُ لِقِيَامِهِ فَمَنَعَنِي مِنْ الْقِيَامِ ، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلُ قَالَ لِي بِشْرٌ يَا بُنَيَّ تَدْرِي لِمَ مَنَعْتُكَ مِنْ الْقِيَامِ لَهُ ؟ قُلْتُ : لَا قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَك وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ ، وَكَانَ قِيَامُكَ لِقِيَامِي فَأَرَدْتُ أَنْ لَا تَكُونَ لَكَ

حَرَكَةٌ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي كِتَابِ آدَابِ الصُّحْبَةِ قَالَ : وَيَقُومُ لِإِخْوَانِهِ إذَا أَبْصَرَهُمْ مُقْبِلِينَ ، وَلَا يَقْعُدُ إلَّا بِقُعُودِهِمْ وَأَنْشَدُوا فَلَمَّا بَصُرْنَا بِهِ مُقْبِلًا حَلَلْنَا الْحَبَا وَابْتَدَرْنَا الْقِيَامَ فَلَا تُنْكِرُنَّ قِيَامِي لَهُ ، فَإِنَّ الْكَرِيمَ يُجِلُّ الْكِرَامَ انْتَهَى .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ الْجُلَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ الْجَائِزِ الْمَنْدُوبِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ فِيمَا تَقَدَّمَ لَا عَلَى قَصْدِ قِيَامٍ لَيْسَ إلَّا ، وَهَذَا بَيِّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَعَ أَنَّ هَذَا الْعَالِمَ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآثَارِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ مَذْهَبِهِ أَنْكَرُوا عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَخْذِهِ بِعَمَلِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَعَ أَنَّهُمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، وَعِنْدَهُمْ اسْتَقَرَّ أَمْرُ الشَّرِيعَةِ وَبَانَ مَا اُسْتُنْسِخَ وَمَا بَقِيَ وَقَلَّ أَنْ تَذْهَبَ عَنْهُمْ السُّنَنُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ الْقَرِيبِ ، وَمَعَ هَذِهِ الْقَرَائِنِ كُلِّهَا وَأَكْثَرَ مِنْهَا أَكْثَرُوا النَّكِيرَ عَلَيْهِ وَشَدَّدُوا ، ثُمَّ يَأْتِي هَذَا الْعَالِمُ بَعْدَ إنْكَارِهِ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا ذَكَرَ يَشْرَعُ النَّدْبَ فِي الْقِيَامِ بِفِعْلِ آحَادِ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلَعَلَّهَا لِأَعْذَارٍ وَقَعَتْ لَهُمْ إذْ ذَاكَ كَامِنَةٍ عِنْدَهُمْ بَلْ هِيَ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ مَوْجُودَةٌ كَمَا أَبْدَيْنَا ذَلِكَ مَعَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْهَضُ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْبَعِ قَوَاعِدَ : الْقَاعِدَةُ الْأُولَى : آيَةٌ مُحْكَمَةٌ .
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَاسِخٍ ، وَلَا مُعَارِضٍ .
الْقَاعِدَةُ

الثَّالِثَةُ : إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ إجْمَاعُ أَكْثَرِهِمْ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمْ وَمُنَاظَرَتِهِمْ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى آيَةٍ مُحْكَمَةٍ أَوْ حَدِيثٍ صَحِيحٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ نَاسِخٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْهَضُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِعَدَمِ دُخُولِهِ فِي عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلِ ، بَلْ وَقَعَ لِلْآحَادِ مِنْ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلَا يَنْهَضُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمُتَّصِلِ فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ هَذَا الْقَائِلُ لِجَوَازِ ذَلِكَ بِعَمَلِ آحَادٍ مِنْ النَّاسِ فِي أَقْطَارٍ مُخْتَلِفَةٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا وَقَعَ النَّكِيرُ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَوْنِهِ يَتَشَرَّعُ بِعَمَلِهِمْ ، وَهَذَا لَيْسَ بِتَشْرِيعٍ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَشْرِيعٌ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الْمَنْدُوبِ ، وَبَابُ الْمَنْدُوبِ مَشْرُوعٌ ، وَلَوْ جَعَلَهُ مِنْ قَبِيلِ الْمُبَاحِ لَكَانَ كَلَامًا صَحِيحًا مُسْتَقِيمًا أَوْ سَلِمَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي سَعِيدٍ الْقَفَّاصِ قَالَ : النُّبَلَاءُ مِنْ الرِّجَالِ وَالْعُلَمَاءِ يَكْرَهُونَ قِيَامَ الرَّجُلِ لَهُمْ لِكَرَاهَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مُبَاحٌ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَقُومَ لِلنَّاسِ انْتَهَى ، وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْقِيَامَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِكَرَاهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ : وَهُوَ مُبَاحٌ لِبَعْضِ النَّاسِ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقِيَامِ الْمَنْدُوبِ أَوْ الْجَائِزِ مَا تَقَرَّرَ فَافْهَمْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاكَ .
ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ

اللَّهُ هَذَا مَا تَيَسَّرَ نَاجِزًا مِنْ الْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الْأَئِمَّةِ مِنْ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ ثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَبِأَمْرِهِ بِذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ وَبِتَقْرِيرِهِ حِينَ فُعِلَ بِحَضْرَتِهِ وَمِنْ فِعْلِ جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي مَوَاطِنَ وَجِهَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَمِنْ جِهَةِ أَئِمَّةِ النَّاسِ فِي أَعْصَارِهِمْ فِي الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ وَالزُّهْدِ انْتَهَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ حِينَ أُتِيَ بِهِ وَمَا الْمُرَادُ بِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ لِلْجَوَازِ بَلْ لِلْمَنْعِ أَقْرَبُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ .
وَقَدْ عَمِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي عَمِلَهُ فِي إبَاحَةِ الْقِيَامِ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : الْفَصْلُ الْأَوَّلُ : فِيمَا وَرَدَ مِنْ التَّرْخِيصِ فِي الْقِيَامِ .
الْفَصْلُ الثَّانِي : فِي تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ .
الْفَصْلُ الثَّالِثُ : فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْقِيَامِ وَالْجَوَابِ عَنْهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مُسْتَوْفًى وَبَقِيَ الْفَصْلَانِ اللَّذَانِ بَعْدَهُ .

فَقَالَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَقَالَ تَعَالَى وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مُسْلِمٌ لَا يُنَازَعُ فِيهِ إلَّا أَنَّ تَعْظِيمَ الْحُرُمَاتِ وَالشَّعَائِرِ قَدْ عُرِفَتْ مِنْ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَيْسَ لِلْقِيَامِ فِيهَا مَجَالٌ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ مِنْ إجْلَالِ اللَّهِ تَعَالَى إكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا مُسْلِمٌ ( عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ التِّرْمِذِيُّ .
( عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً وَمَرَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ انْتَهَى .
حَاصِلُهُ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقَرَّرَ عِنْدَهُ ، وَفِي نَفْسِهِ أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ عَلَى مَا قُرِّرَ قَبْلُ فَأَخَذَ يَسْتَدِلُّ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِيَتْرُكَ بِرَّ وَالِدِيهِ وَإِكْرَامَهُمَا بِالْقِيَامِ .
وَانْظُرْ هَلْ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي أَتَى بِهَا فِي

تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ أَنَّ أَحَدًا قَامَ لِأَحَدٍ بَلْ نَزَّلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ فِي إجْلَاسِهِمْ وَفِي إطْعَامِهِمْ زَائِدًا عَلَى غَيْرِهِمْ فَنَمْتَثِلُ ذَلِكَ عَلَى مَا وَرَدَ عَنْهُمْ فَلَوْ وَرَدَ عَنْهُمْ الْقِيَامُ لِأَشْرَافِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ لَاقْتَفَيْنَاهُ وَقَبِلْنَاهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمْ الْقُدْوَةُ وَنَحْنُ الْأَتْبَاعُ وَمَا يُخَالِفُهُمْ إلَّا جَاحِدٌ أَوْ مُعَانِدٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا تُوَسَّعُ الْمَجَالِسُ إلَّا لِثَلَاثٍ لِذِي عِلْمٍ وَلِذِي سِنٍّ وَلِذِي سُلْطَانٍ انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا كَيْفَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا تُوَسَّعُ الْمَجَالِسُ إلَّا لِثَلَاثٍ وَلَمْ يَقُلْ لَا يُقَامُ إلَّا لِثَلَاثٍ فَيُحْمَلُ إكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ ، وَإِجْلَالُهُ وَبِرُّهُ عَلَى مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَا عَلَى مَا يَخْطُرُ لَنَا مِنْ عَوَائِدِنَا الَّتِي اصْطَلَحْنَا عَلَيْهَا ، فَهَلْ يُنْقَلُ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ مَضَى فِي تَنْزِيلِ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ مَا نَفْعَلُهُ نَحْنُ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْقِيَامِ ، وَاحِدٌ نَقُومُ إلَيْهِ وَنَمْشِي إلَيْهِ خُطُوَاتٍ ، وَآخَرُ نَقُومُ إلَيْهِ لَيْسَ إلَّا ، وَآخَرُ نَقُومُ إلَيْهِ نِصْفَ قَوْمَةٍ ، وَآخَرُ رُبْعَ قَوْمَةٍ ، وَآخَرُ التَّحَرُّكَ مِنْ الْأَرْضِ ، وَآخَرُ لَا نَتَحَرَّكُ لَهُ إلَّا بِالْبَشَاشَةِ ، وَآخَرُ لَا بَشَاشَةَ وَلَا غَيْرَهَا ، وَهَذَا شَيْءٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اعْتِزَائِهِ إلَى صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ أَصْلًا بَلْ لِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ لِأَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ بَلْ لِأَحَدٍ مِنْ تَابِعِ التَّابِعِينَ ، وَشَيْءٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ أَصْلٌ عِنْدَ أَهْلِ هَذِهِ الْقُرُونِ فَإِطْرَاحُهُ يَتَعَيَّنُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَغَوِيّ ( قَدْ كَانَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَائِمًا عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَمَعَهُ

السَّيْفُ وَالْمِغْفَرُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْبَغَوِيّ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ فِي الصَّحِيحِ انْتَهَى .
اُنْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ وَإِيَّانَا لِهَذَا الْعَجَبِ كَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِأَنَّ الْقِيَامَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ وَكَيْفَ يُمْكِنُ ذَلِكَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ كَانَ خَادِمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ ، وَهُوَ الَّذِي يُخَاطِبُ قَبَائِلَ الْعَرَبِ وَيَذُبُّ عَنْهُ مَنْ أَرَادَ أَذِيَّتَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْمُتَمَرِّدِينَ مِنْهُمْ ، وَهَذَا لَا يُنْكَرُ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْقِيَامِ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ بَلْ هُوَ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمُغِيرَةِ أَنْ يَقْعُدَ إذْ ذَاكَ وَيَتْرُكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْعَدُوِّ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ فَكَيْفَ يَسْتَدِلُّ أَحَدٌ بِهَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الْوَاجِبِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لِلدَّاخِلِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، فَلَوْ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ وَاجِبٌ لَكَانَ أَقْرَبَ إذْ أَنَّ قِيَامَ الْمُغِيرَةِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، فَعَلَى هَذَا بَانَ أَنَّ الْقِيَامَ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ مَضَتْ أَرْبَعَةٌ وَبَقِيَ الْخَامِسُ الَّذِي هُوَ الْمَعْمُولُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَاجِبُ مِثْلُ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ .
هَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ عَلَى الْفَصْلِ الثَّانِي الَّذِي قَرَّرَهُ ، وَهُوَ تَنْزِيلُ النَّاسِ مَنَازِلَهُمْ .

وَبَقِيَ الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنْ الْقِيَامِ وَمَا أَجَابَ عَنْهُ .
فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ التِّرْمِذِيُّ : ( عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا إذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَتَرْجَمَ التِّرْمِذِيُّ لِهَذَا بَابُ كَرَاهَةِ قِيَامِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ .
أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لِلتِّرْمِذِيِّ ( خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ صَفْوَانَ حِينَ رَأَيَاهُ فَقَالَ : اجْلِسَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلَيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ وَتَرْجَمَ لَهُ بَابُ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ .
أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصَا فَقُمْنَا إلَيْهِ فَقَالَ : لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَقُومُ الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ فَهَذَا مَا بَلَغَنَا فِي النَّهْيِ .
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَقْرَبُ مَا يَحْتَجُّ بِهِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَافَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ الْفِتْنَةَ بِإِفْرَاطِهِمْ فِي تَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَكَرِهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَهُمْ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَمْ يَكْرَهْ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بَلْ قَامَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامُوا لِغَيْرِهِ بِحَضْرَتِهِ وَلَمْ يَنْهَ عَنْ

ذَلِكَ بَلْ أَقَرَّهُ وَأَمَرَ بِهِ فِي حَدِيثِ الْقِيَامِ لِسَعْدٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ بَيَانَ هَذَا كُلِّهِ ، وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْوُدِّ وَالصَّفَاءِ مَا لَا يَحْتَمِلُ زِيَادَةً بِالْإِكْرَامِ بِالْقِيَامِ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْقِيَامِ مَقْصُودٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ ، فَإِنْ فُرِضَ صَاحِبُ الْإِنْسَانِ قَرِيبًا مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَامِ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَقَدْ أُولِعَ أَكْثَرُ النَّاسِ بِالِاحْتِجَاجِ بِهِ وَالْجَوَابِ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ الْأَصَحُّ وَالْأَوْلَى وَالْأَحْسَنُ بَلْ الَّذِي لَا حَاجَةَ إلَى مَا سِوَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ .
وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ الصَّرِيحَ الظَّاهِرَ مِنْهُ الزَّجْرُ الْأَكْبَرُ وَالْوَعِيدُ الشَّدِيدُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْقِيَامِ بِنَهْيٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْآتِي أَنْ يُحِبَّ قِيَامَ النَّاسِ لَهُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ مَحَبَّةُ الْقِيَامِ .
وَلَا يُشْتَرَطُ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَخُطُورُ ذَلِكَ بِبَالِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبَالِهِ وَقَامُوا إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقُومُوا فَلَا ذَمَّ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَحَبَّ فَقَدْ ارْتَكَبَ التَّحْرِيمَ سَوَاءٌ قِيمَ لَهُ أَوْ لَمْ يُقَمْ ، فَمَدَارُ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمَحَبَّةِ ، وَلَا تَأْثِيرَ لِقِيَامِ الْقَائِمِ ، وَلَا نَهْيِهِ فِي حَقِّهِ بِحَالٍ ، وَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، فَإِنْ قَالَ : مَنْ لَا تَحْقِيقَ عِنْدَهُ بِأَنَّ قِيَامَ الْقَائِمِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ هَذَا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ قُلْنَا هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ لَا يَسْتَحِقُّ سَائِلُهُ جَوَابًا .
فَإِنْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ قِيلَ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْوُقُوعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَبَّةِ فَحَسْبُ انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ وَإِيَّانَا بِنَظَرِ

الْإِنْصَافِ كَيْفَ قَرَّرَ أَحَادِيثَ النَّهْيِ وَصَحَّحَهَا ، ثُمَّ أَجَابَ الْجَوَابَ الْأَوَّلَ وَفِيهِ مَا فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَّرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَقُومُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ وَقَامُوا بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكْرَهْ قِيَامَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ قَالَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى مَا ظَهَرُوا لَهُ وَاسْتَقَرَّ فِي ذِهْنِهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَلَمْ يَكُنْ لِضَرُورَةٍ أَدَّتْ إلَيْهِ كَمَا قَدْ أَبْدَيْنَاهُ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَقُمْنَا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَيُّ إطْرَاءٍ فِي ذَلِكَ إنْ جَعَلْنَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَوَاحِدٍ مِنَّا لَمْ نَزِدْ لَهُ شَيْئًا فِي الْإِكْرَامِ فَلَوْ عُكِسَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَمْرُ فَقَالَ : لَمْ تَكُنْ الصَّحَابَةُ يَقُومُونَ ، وَلَا قَامَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَحَدٍ ، ثُمَّ قَامُوا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَهَاهُمْ لَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا مُسْتَقِيمًا إذْ أَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَخَالَفْنَا الْعَادَةَ الَّتِي يُعَامِلُ بَعْضُنَا بَعْضًا بِهَا وَزِدْنَا لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْخَوْفُ مِنْ الْإِطْرَاءِ ، وَأَمَّا إذَا عَامَلْنَاهُ مُعَامَلَةَ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ وَمُعَامَلَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَنَا فَهَذَا لَا يُقَالُ أَنَّ فِيهِ إطْرَاءً إذْ أَنَّا نَزَّلْنَاهُ مَنْزِلَةَ وَاحِدٍ مِنَّا فِي مُعَامَلَةِ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ وَمُعَامَلَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَنَا ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لِهَذَا السَّيِّدِ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ لَوَقَعَنَا فِي مُخَالَفَةِ نَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَوْقِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ فَإِذَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَكُنَّا نَفْعَلُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ بَعْضُنَا مَعَ بَعْضٍ ، وَلَا نَفْعَلُهُ مَعَهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَنَكُونُ قَدْ ارْتَكَبْنَا النَّهْيَ مُصَادَمَةً إذْ أَنَّا تَرَكْنَا تَوْقِيرَهُ فِي ذَلِكَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَنْ نَظُنَّ بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْ يَكُونَ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَكَيْفَ يَتَّفِقُ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ بَلْ فِي هَذَا الْقَوْلِ خَطَرٌ عَظِيمٌ لَوْ تَأَمَّلَهُ هَذَا الْقَائِلُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ ، وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ أَلَا تَرَى إلَى جَوَابِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَنْ سُئِلَتْ عَنْ خُلُقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَتْ : كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ مَحْسُوسًا ظَاهِرًا بَيِّنًا فِي عَوَائِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُعَامَلَتِهِ الْجَمِيلَةِ مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِهِ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِالْأَمْرِ بِتَوْقِيرِهِ فَكَيْفَ يَنْهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ شَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ هَذَا أَمْرٌ لَا يُتَعَقَّلُ وَإِنَّمَا هِيَ عَادَةٌ اسْتَمَرَّتْ فَوَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا لِمُرُورِهَا ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَخْلُو مِنْ الْغَفْلَةِ فَوَقَعَ مَا وَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْمُخَالَفَةُ لِلسُّنَّةِ فَبَعِيدَةٌ عَنْ مَنْصِبِ الْعُلَمَاءِ فَكَيْفَ بِالْأَخْيَارِ مِنْهُمْ ، وَقَدْ وَرَدَ مَنْ اجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ ، فَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ لَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَاَللَّهُ يَعْفُو عَنْ الْجَمِيعِ ، إذْ لَوْلَا الْعَفْوُ مَا اسْتَحَقَّ أَحَدٌ النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ إلَّا مَنْ اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِمَّنْ قَدْ عَلِمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يَكُونُ نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْقِيَامِ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَاضُعِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَوَاضِعَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْء ، وَأَمَّا بَعْدَ الْإِنْزَالِ فَلَا سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ أَمْرٌ بِتَرْكِ مَا أَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ

التَّوْقِيرِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا بَابٌ ضَيِّقٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْغَلَطِ وَالْغَفَلَاتِ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُفَضِّلُوا الْأَنْبِيَاءَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ، وَلَا فَخْرَ وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ آدَم فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي فَهَذِهِ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ كَمَا تَرَى وَالْجَمْعُ بَيْنَهَا هُوَ أَنَّ حَدِيثَ الْمُسَاوَاةِ وَعَدَمِ التَّفْضِيلِ كَانَ قَبْلَ الْإِنْزَالِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَالْإِخْبَارِ لَهُ بِالْأَمْرِ ، وَأَحَادِيثُ التَّفْضِيلِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ لَهُ بِذَلِكَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أَعْنِي بِالتَّفْضِيلِ مِنْ غَيْرِ تَنْقِيصٍ يَلْحَقُ الْمَفْضُولَ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ بَلْ مَسْأَلَتُنَا آكَدُ وَأَوْلَى .
لِأَنَّ فِيهَا الْقُرْآنَ يُتْلَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ، وَقَدْ قَرَّرَ أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، ثُمَّ مَنَعَهُ وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ مُتَنَاقِضٌ .
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَغْشَانَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَجَاءَ يَوْمًا فِي وَسَطِ الْقَائِلَةِ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدٌ عَلَى السُّرَرِ فَقَالَ : مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ إلَّا أَمْرٌ حَدَثَ فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي قَاعِدٌ عَلَى السَّرِيرِ فَوَسَّعَ لَهُ فِي السَّرِيرِ حَتَّى جَلَسَ مَعَهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَقَالَ الصُّحْبَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصُّحْبَةُ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ كَيْفَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَسَّعَ لَهُ وَلَمْ يَقُمْ وَكَانَ أَكْثَرَ

النَّاسِ بِرًّا وَإِكْرَامًا وَاحْتِرَامًا وَتَعْظِيمًا وَتَرْفِيعًا وَتَوْقِيرًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ انْتَهَى فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذَا اللَّفْظِ مِنْ هَذَا السَّيِّدِ مَا أَعْجَبَهُ .
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُخْتَصَرِهِ الْكَبِيرِ مَا هَذَا لَفْظُهُ : قِيلَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالرَّجُلُ يَقُومُ لِلرَّجُلِ لَهُ الْفِقْهُ وَالْفَضْلُ فَيُجْلِسُهُ فِي مَجْلِسِهِ قَالَ يُكْرَهُ ذَلِكَ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَسِّعَ لَهُ قِيلَ لَهُ : فَالْمَرْأَةُ تُبَالِغُ فِي بِرِّ زَوْجِهَا فَتَلْقَاهُ فَتَنْزِعُ ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ وَتَقِفُ حَتَّى يَجْلِسَ قَالَ : أَمَّا تَلَقِّيهَا وَنَزْعُهَا ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ فَلَا بَأْسَ ، وَأَمَّا قِيَامُهَا حَتَّى يَجْلِسَ فَلَا ، وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ رُبَّمَا يَكُونُ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَهُ ، فَإِذَا طَلَعَ قَامُوا إلَيْهِ فَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَيُقَالُ : إنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فُعِلَ ذَلِكَ بِهِ أَوَّلَ مَا وَلِيَ حِينَ خَرَجَ إلَى النَّاسِ فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ : إنْ تَقُومُوا نَقُمْ وَإِنْ تَقْعُدُوا نَقْعُدْ وَإِنَّمَا يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لَفْظُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَيْفَ يَقُولُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا جَوَابٌ وَاضِحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُعَانِدٌ وَعَدَالَةُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَقَدُّمُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَشْهُورَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَوَابِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي فَالْوَاجِبُ الْعُدُولُ عَنْهُ لِمَا وَرَدَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِشِدَّةِ تَوْقِيرِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَيْبَتِهِمْ لَهُ حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَتَأَمَّلُوهُ ، وَلَا

يَرْفَعُوا رُءُوسَهُمْ بِحَضْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ ( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَلَأْتُ عَيْنِي مِنْهُ قَطُّ حَيَاءً مِنْهُ وَتَعْظِيمًا لَهُ ، وَلَوْ قِيلَ لِي صِفْهُ لَمَا كِدْت ) انْتَهَى .
هَذَا قَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مِنْ جُلَّةِ أَصْحَابِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُبَاسِطُهُمْ وَيَتَوَاضَعُ لَهُمْ وَيُؤَانِسُهُمْ لَمَا قَدَرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ ، وَلَا أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالْجَلَالَةِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوضِحُهُ مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ رُكُوعِهِ الْفَجْرَ قَالَتْ : إنْ كُنْت مُسْتَيْقِظَةً قَالَ حَدِّثِينِي يَا حُمَيْرَاءُ ، وَإِنْ كُنْتُ نَائِمَةً اضْطَجَعَ بِالْأَرْضِ ، ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الصَّلَاةِ .
وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ خَرَجَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا وَمَا تَحَصَّلَ لَهُ مِنْ الْخَلْعِ وَالْقُرْبِ وَالتَّدَانِي فِي مُنَاجَاتِهِ وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ وَتِلَاوَتِهِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي يَكِلُّ اللِّسَانُ أَنْ يَصِفَ بَعْضَهَا لَمَا اسْتَطَاعَ بَشَرٌ أَنْ يَتَلَقَّاهُ .
وَلَا يُبَاشِرُهُ ، وَلَا يَسْمَعُ كَلَامَهُ فَيَتَحَدَّثُ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ يَضْطَجِعُ بِالْأَرْضِ حَتَّى يَحْصُلُ التَّأْنِيسُ بِجِنْسِهِمْ ، وَهُوَ حَدِيثُهُ مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ جِنْسُ أَصْلِ الْخِلْقَةِ الَّتِي هِيَ الْأَرْضُ ، فَإِذَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ مَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ حِينَئِذٍ يَخْرُجُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهِمْ ، وَأَمَّا قَبْلَ حُصُولِ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُطِيقُونَ مُقَابَلَةَ تِلْكَ الْأَنْوَارِ الْجَلِيلَةِ ، وَلَا سَمَاعَ تِلْكَ

الْأَلْفَاظِ الْعَذْبَةِ الْمَعْدُومَةِ فِي غَيْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَيَفْعَلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رِفْقًا بِهِمْ وَلِكَيْ يَتَوَصَّلَ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ عَنْ اللَّهِ أَحْكَامَهُ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا فَهَذَا التَّوْقِيرُ وَالْمَهَابَةُ حَاصِلٌ فِيهِمْ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ مِنْهُمْ كَثِيرًا بَلْ ذَلِكَ فِي أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ أَعْظَمُ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْهُ وَأَكْثَرُ .
أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ ذِي الْيَدَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِيهِ وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ هَابَا الْكَلَامَ مَعَ قُرْبِهِمَا وَذُو الْيَدَيْنِ تَكَلَّمَ فَعَلَى هَذَا فَكُلُّ مَنْ قَرُبَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَأَكَّدَ أَمْرُهُ مَعَهُ كَانَ أَكْثَرَ هَيْبَةً لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَكْثَرَ تَوْقِيرًا وَأَعْظَمَ احْتِرَامًا وَأَكْبَرَ إجْلَالًا ، وَإِذَا قُلْنَا أَنَّ الْقِيَامَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَيَكُونُونَ قَدْ تَرَكُوهُ لِأَجْلِ قُرْبِهِمْ مِنْهُ فَتُعْطِي هَذِهِ الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ كَانَ أَقَلَّ تَوْقِيرًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَجْلِ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْمَوَدَّةِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْقِيرِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنْ يَكُونَ الصَّالِحُونَ وَالْأَوْلِيَاءُ أَقَلَّ تَوْقِيرًا مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَجْلِ الْأُنْسِ وَكَمَالِ الْمَوَدَّةِ ، وَهَذَا عَكْسُ مَا ظَهَرَ فِي الْوُجُودِ وَمَا اسْتَقَرَّ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ وَنَقْلِ الْأُمَّةِ عَنْ الْأُمَّةِ فَيَأْتِي عَلَى هَذَا الْجَوَابِ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَلْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَجَدْنَا اسْتِعْمَالَ الْأَدَبِ فِي حَقِّ الْقَرِيبِ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْبَعِيدِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي دُخُولِهِ عَلَى مَالِكٍ وَقِصَّتِهِ مَعَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَصْحَابُهُ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ

النَّاسِ إلَيْهِ كَانُوا كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرَ لِشِدَّةِ هَيْبَتِهِمْ لَهُ وَتَوْقِيرِهِمْ لِجَنَابِهِ وَتَعْظِيمِهِمْ لِحُرْمَتِهِ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ لِأَجْلِ بُعْدِهِ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا كَانَ لَهُمْ ، فَلَوْ عُكِسَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَمْرُ .
وَقَالَ : إذَا لَمْ يَكُنْ الصَّاحِبُ تَأَكَّدَتْ صُحْبَتُهُ ، وَلَا لَزِمَ أَمْرُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقِيَامِ لَكَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ الْقَبُولِ مِنْهُ لِأَجْلِ أَنَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ازْدَادَ قُرْبًا إلَى اللَّهِ ، وَمَنْ ازْدَادَ قُرْبًا إلَى اللَّهِ ازْدَادَ إلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْقِيرًا وَتَعْزِيرًا وَتَبْجِيلًا وَهَيْبَةً وَإِعْظَامًا وَإِجْلَالًا ، وَهَذَا مَوْجُودٌ مَحْسُوسٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ أَمْرٌ نَافِذٌ وَيَرْجِعُ لِمَا يَأْمُرُ بِهِ وَيُنَفِّذُ تَجِدُ أَخْوَفَ النَّاسِ مِنْهُ وَأَهْيَبَهُمْ لَهُ وَأَوْقَرَهُمْ لِدِينِهِ مَنْ كَانَ أَقْرَبَهُمْ إلَيْهِ ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ مُطَالَبُونَ بِآدَابٍ لَا يُطَالَبُ بِهَا غَيْرُهُمْ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ لِزِيَادَةِ خُصُوصِيَّتِهِمْ وَمَزِيَّتِهِمْ عَلَى غَيْرِهِمْ ، فَإِذَا تَرَكُوا مِنْهَا شَيْئًا عُوقِبُوا عَلَى تَرْكِهَا وَيَتْرُكُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ ، وَلَا يُبَالُونَ فَلَا يُعَاقَبُونَ وَمَا ذَاكَ إلَّا ؛ لِأَنَّ الْقَرِيبَ الْحُرْمَةُ عَلَيْهِ أَقْوَى ، وَالْآدَابُ تُطْلَبُ مِنْهُ أَكْثَرَ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَدَّ رِجْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِيَسْتَرِيحَ ، ثُمَّ ضَمَّهَا مِنْ سَاعَتِهِ وَجَعَلَ يَسْتَغْفِرُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ جُلَسَائِهِ : أَلَيْسَ هَذَا أَمْرًا مُبَاحًا فَقَالَ : أَمَّا لَكُمْ فَنَعَمْ .
وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاوَرَ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ مُدَّةً لَمْ يَبُلْ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ وَلَمْ يَسْتَنِدْ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِلْهَيْبَةِ الْقَائِمَةِ عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ لِأَجْلِ قُرْبِهِ ، وَكَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ يَنْظُرْ إلَى السَّمَاءِ لِأَجْلِ

الْهَيْبَةِ وَالْإِعْظَامِ ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْقَاسِمِ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ وَحِكَايَتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُكْتَبَ أَوْ تُحْصَرَ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَوَابِهِ عَنْ الْحَدِيثِ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ لَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ إلَى آخَرِ كَلَامِهِ وَعِبَارَتِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرُدُّ مَا شَهِدَتْ بِهِ الْأُصُولُ وَاسْتَقَرَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ قَدْ أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ الَّذِي أَوْرَدَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ انْتَهَى .
فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْك أَخُوك الْمُؤْمِنُ فَقُمْت إلَيْهِ وَسُرَّ بِذَلِكَ فَقَدْ تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِسَبَبِ قِيَامِك أَنْتَ وَحَرَكَتِك لَهُ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي جَوَابِهِ بِقَوْلِهِ : مَدَارُ التَّحْرِيمِ عَلَى الْمَحَبَّةِ فَحَسْبُ سَوَاءٌ قِيمَ لَهُ أَوْ لَمْ يَقُمْ قَدْ ارْتَكَبَ التَّحْرِيمَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ إنَّمَا صَدَرَتْ مِنْهُ لِمُشَاهَدَتِهِ لِلْقِيَامِ فَلَوْ كَانَ لَا يَقُومُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ لَمْ تَتَشَوَّفْ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَلَمْ تُحِبُّهُ وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ قَاعِدَتُهُ فِي تَصَرُّفِهِ كُلِّهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ نَفْسِهِ وَمَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى نَفْسِهِ لِسَانُ الْعِلْمِ وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَازِمٍ سَلَمَةُ بْنُ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ شَيْئَانِ هُمَا خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ عَمِلْت بِهِمَا أَتَكَفَّلُ لَك بِالْجَنَّةِ ، وَلَا أَطْوَلُ عَلَيْك قِيلَ وَمَا هُمَا قَالَ تَعْمَلُ مَا تَكْرَهُ إذَا أَحَبَّهُ اللَّهُ وَتَتْرُكُ مَا تُحِبُّ إذَا كَرِهَهُ اللَّهُ أَوْ قَالَ : فَلَيْسَ الْإِنْسَانُ مُكَلَّفًا بِأَنْ لَا يَقَعَ لَهُ مَحَبَّةُ الشَّيْءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُكَلَّفٌ بِأَنْ لَا

يَرْضَى بِهِ وَإِنْ كَانَتْ نَفْسُهُ تُحِبُّهُ فَيَكْرَهُهُ لِكَرَاهِيَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَقَدْ قِيلَ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ ، فَإِذَا أَحَبَّ وَلَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى وُقُوعِ مَا أَحَبَّ فَقَدْ عُصِمَ مِنْ وُقُوعِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الَّذِي يَكْرَهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ وَيَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ أَنْ يُعَافِيَهُ مِنْهُ ، وَلَا يَرْضَاهُ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُصَاةِ ، وَهُوَ تَبَوُّءُ مَقْعَدِهِ مِنْ النَّارِ لَا يَفْعَلُهُ بِهَذَا الْأَخِ الْمُؤْمِنِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ يُحِبُّ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا انْتَهَى ، وَهَذَا الْفِعْلُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ ؛ لِأَنَّك تَكْرَهُ الشَّيْءَ لِنَفْسِك وَتُوقِعُ فِيهِ غَيْرَك بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الْخَدِيعَةِ وَالْمَكْرِ ، وَأَهْلُ الْإِيمَانِ بُعَدَاءُ عَنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا فَعَلَى هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ فَكُلُّ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ كَانَتْ سَبَبًا إلَى نَجَاةِ أَخِيك مِنْ النَّارِ وَاجِبٌ أَنْ تُعَامِلَهُ بِهَا .
وَكَذَلِكَ فِي الْعَكْسِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، فَكُلُّ بَابٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ أَوْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ كَانَتْ سَبَبًا إلَى عِقَابِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَدُخُولِهِ دَارَ الْهَوَانِ وَالْغَضَبِ وَاجِبٌ عَلَيْكَ أَنْ تُعْفِيَهُ مِنْهَا ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الدِّينُ النَّصِيحَةُ فَإِذَا قُمْتَ إلَيْهِ ، فَإِنَّكَ لَمْ تَنْصَحْهُ بَلْ غَشَشْتَهُ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ بَلْ يَنْبَغِي أَوْ يَجِبُ أَنْ يَعْرِضَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ هَذَا الْقِيَامَ ، فَإِنْ رَأَى نَفْسَهُ أَنَّهَا تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَشْتَهِيهِ وَتُؤْثِرُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْعَلَهُ مَعَ أَخِيهِ

الْمُؤْمِنِ لِئَلَّا يُوقِعَهُ فِي الْبَلَاءِ الْعَظِيمِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ ، وَإِنْ رَأَى نَفْسَهُ أَنَّهَا لَا تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَكْرَهُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعَامِلَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بِشَيْءٍ يَكْرَهُهُ هُوَ أَنْ يُعَامَلَ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ فَيَنْظُرُ إلَى نَفْسِهِ فَمَا يُحِبُّ أَنْ يُفْعَلَ مَعَهُ فَعَلَهُ هُوَ مَعَ أَخِيهِ ، وَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُفْعَلَ مَعَهُ لَمْ يَفْعَلْهُ مَعَهُ أَلْبَتَّةَ ، وَهَذَا الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ كُلُّهُ هُوَ الَّذِي قَالَ هَذَا السَّيِّدُ فِيهِ : هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ جَوَابًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُهُ بِمَا يَسَّرَ اللَّهُ فِي الْوَقْتِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا فِعْلُ الصَّحَابَةِ وَفَهْمُهُمْ لِلْحَدِيثِ ، وَمَعْنَاهُ لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِنَا وَفَهْمِنَا بَلْ أَوْجَبَ ؛ لِأَنَّهُمْ تَلْقَوْهُ مُشَافَهَةً مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى مُعَاوِيَةَ الَّذِي تَلَقَّى الْحَدِيثَ مِنْ فِي صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَيْفَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ عَلَى الْعُمُومِ ، وَذَلِكَ الَّذِي فَهِمَ فَكَانَ يَنْبَغِي اتِّبَاعُهُ فِي فَهْمِهِ وَفِقْهِهِ .
وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى رُوَاةِ الْحَدِيثِ كَيْفَ بَوَّبُوا عَلَيْهِ بَابَ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلنَّاسِ ، بَابَ كَرَاهَةِ الْقِيَامِ لِلرَّجُلِ ، وَلَمْ يَقُولُوا بَابُ مَا جَاءَ فِي تَرْكِ الْقِيَامِ وَلَمْ يَقُولُوا مِثْلَ مَا قَالُوا فِي عَكْسِهِ .
حَيْثُ قَالُوا : بَابُ مَا جَاءَ فِي الْقِيَامِ فَيُعْطِي ذَلِكَ أَوْ يُفِيدُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْكَرَاهَةِ ، وَلَا يَقُولُونَ بِالْجَوَازِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .

وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَصْحَابِهِ لَمَّا أَنْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَامُوا إلَيْهِ : لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا جَمَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ شَيْئَيْنِ الْأَوَّلَ النَّهْيَ وَالثَّانِيَ التَّعْلِيلَ ، وَهُوَ كَوْنُ الْقِيَامِ إذَا وَقَعَ بِنَفْسِهِ يَكُونُ تَعْظِيمًا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَبَيَّنَ لَهُمْ كَيْفِيَّةَ الْقِيَامِ الْجَائِزِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ الْقِيَامَ إذَا وَقَعَ وَلَمْ يَكُنْ بِنِيَّةِ التَّعْظِيمِ كَانَ جَائِزًا ، وَهَذَا وَقْتُ الْبَيَانِ وَتَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ لَا يَجُوزُ بَلْ لَوْ كَانَ يَجُوزُ عَلَى سَبِيلِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ مَا احْتَاجَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى نَهْيِهِمْ عَنْ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ مِنْهُمْ بِإِكْرَامِهِ وَتَبْجِيلِهِ وَتَوْقِيرِهِ وَلِعِلْمِهِ مِنْهُ أَنَّهُمْ مُمْتَثِلُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ .
ثُمَّ اُنْظُرْ أَيْضًا إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَنَا مِنْ أَصْلِ الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ وَالْعَادَةِ وَالتَّجْرِبَةِ أَنَّ النَّفْسَ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ غَالِبَةٌ مَكَّارَةٌ خَدَّاعَةٌ مُتَكَبِّرَةٌ مُتَجَبِّرَةٌ مُنَازِعَةٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ ، فَالشَّيْطَانُ عَلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّيْطَنَةِ وَالتَّمَرُّدِ وَالْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالْعِصْيَانِ لَا يُنَازِعُ الرُّبُوبِيَّةَ ، وَهِيَ تُنَازِعُهَا ، فَإِنْ شَعَرَتْ مِنْ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ مِنْهَا مَا تُبْدِيهِ مِنْ أَحْوَالِهَا السَّيِّئَةِ رَمَتْهُ بِالْجَمِيعِ وَأَظْهَرَتْهُ لَدَيْهِ ، وَإِنْ شَعَرَتْ مِنْهُ أَنَّهُ يَرُدُّهَا عَنْ أَحْوَالِهَا الْمُسْتَهْجَنَةِ قَلَّ أَنْ تُظْهِرَ لَهُ شَيْئًا مِنْ خَبَايَاهَا وَبَقِيَتْ تُمَارِي عَلَيْهِ فِي حُظُوظِهَا وَتَزْعُمُ أَنَّهَا طَالِبَةٌ لِلثَّوَابِ وَالْخَيْرِ ، وَهِيَ طَالِبَةٌ لِشَهَوَاتِهَا وَحُظُوظِهَا خِيفَةً مِنْهَا إنْ أَظْهَرَتْ مَا أَكَنَّتْهُ أَنْ لَا يُمَكِّنَهَا

صَاحِبُهَا مِنْ مُرَادِهَا ، وَالْغَالِبُ مِنْهَا مَحَبَّةُ الْحُظْوَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأَقْرَانِ ، وَمَحَبَّةُ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ عَلَى النَّاسِ وَالْكِبْرِ عَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي الْقِيَامِ إلَيْهَا فَأَيْنَ النَّفْسُ الَّتِي تَقِفُ لِذَلِكَ وَيَحْصُلُ لَهَا الِانْكِسَارُ وَالتَّذَلُّلُ وَتَرَاهُ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَتَنْوِيهِ عَلَى مَا زَعَمَ هَذَا الْقَائِلُ ، وَالْعَجَبُ مِنْ هَذَا السَّيِّدِ كَيْفَ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا النَّهْيَ الصَّرِيحَ الْمُطْلَقَ الْعَامَّ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِقَيْدٍ وَلَمْ يُخَصِّصْهُ بِحَالَةٍ فَقَالَ : هَذَا يَجُوزُ بِنِيَّةِ الْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا كُلِّهِ .
فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِوُرُودِ الْأَحَادِيثِ الْمُعَارِضَةِ فِي فِعْلِ الْقِيَامِ .
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَجْوِبَةِ عَنْ الْقِيَامِ الْمَذْكُورِ مَا كَانَ سَبَبُهُ وَمَا جَرَى فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ وَلِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ وَفِيمَا وَقَعَ مِنْ الْجَوَابِ مَقْنَعٌ مَعَ الْإِنْصَافِ ، وَقَدْ وَقَعَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْعُتْبِيَّةِ مِنْ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْمَرْأَةُ الْحَرِيصَةُ الْمُبَالِغَةُ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ فَإِذَا رَأَتْهُ دَاخِلًا تَلَقَّتْهُ فَأَخَذَتْ عَنْهُ ثِيَابَهُ وَنَزَعَتْ نَعْلَيْهِ وَلَمْ تَزَلْ قَائِمَةً حَتَّى يَجْلِسَ فَقَالَ : أَمَّا تَلَقِّيهَا إيَّاهُ وَنَزْعُهَا ثِيَابَهُ وَنَعْلَيْهِ فَلَا أَرَى فِي ذَلِكَ بَأْسًا ، وَأَمَّا قِيَامُهَا فَلَا أَرَى ذَلِكَ ، وَلَا أَرَى أَنْ تَفْعَلَهُ هَذَا مِنْ التَّجَبُّرِ وَالسُّلْطَانِ فَقُلْتُ وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ ، وَلَا يَشْتَهِي هَذِهِ الْحَالَةَ ، وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ إكْرَامَهُ وَتَوْقِيرَهُ وَتَأْدِيَةَ حَقِّهِ وَأَنَّهُ لَيَنْهَاهَا عَنْ ذَلِكَ وَيَمْنَعُهَا مِنْهُ فَقَالَ لِي : كَيْفَ اسْتِقَامَتُهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ ؟ فَقُلْت لَهُ : مِنْ أَقْوَمِ النَّاسِ طَرِيقَةً فِي كُلِّ أَمْرِهَا ؟ فَقَالَ : تُؤَدِّي حَقَّهُ فِي غَيْرِ هَذَا ، وَأَمَّا هَذَا فَلَا أَرَى أَنْ

تَفْعَلَهُ ، إنَّ هَذَا مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ ، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةِ يَكُونُ النَّاسُ جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَهُ فَإِذَا طَلَعَ عَلَيْهِمْ قَامُوا لَهُ حَتَّى يَجْلِسَ فَلَا خَيْرَ فِي هَذَا ، وَلَا أُحِبُّهُ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ ، فَأَرَى أَنْ تَدَعَ هَذَا وَتُؤَدِّيَ حَقَّهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلدَّابَّةِ الَّتِي رَكِبَ مَا نَزَلْتُ عَنْهَا حَتَّى تَغَيَّرْت قَالَ : قَالَ مَالِكٌ وَلِعُمَرَ فَضْلُهُ .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : لَوْ كُنْت آمِرًا أَحَدًا بِالسُّجُودِ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا فَانْظُرْ مَعَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ وَالْحَقِّ الَّذِي لِلزَّوْجِ بِنَصِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ لَهَا مَالِكٌ الْقِيَامَ لَهُ لِفَهْمِهِ مَنْعَ الْقِيَامِ مُطْلَقًا ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْقِيَامِ لِلْبِرِّ وَالْإِكْرَامِ وَالِاحْتِرَامِ وَالتَّعْظِيمِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَهَذَا نَصُّ الْإِمَامِ .
وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الْعُظْمَى الَّتِي وَقَعَتْ بِسَبَبِ جَوَازِ هَذَا الْقِيَامِ كَيْفَ وَقَعَ بِسَبَبِهِ ارْتِكَابُ مَا نَهَيْنَا عَنْهُ ، وَهُوَ هَذَا الْقِيَامُ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِي الْقِيَامِ إذْلَالًا لِلْقَائِمِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْإِسْلَامُ يَعْلُو ، وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ انْتَهَى ، وَقَدْ عَلَا هَذَا الْعَدُوُّ الْكَافِرُ عَلَى هَذَا الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْحَالِ بِسَبَبِ مَا أُجِيزَ مِنْ الْقِيَامِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الْمُؤْمِنُ لَا يَذِلَّ نَفْسَهُ أَوْ كَمَا قَالَ فَهُوَ قَدْ نَهَى أَنْ يَذِلَّ نَفْسَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ مُسْلِمٍ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ مَعَ يَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ

أَوْ مُنَافِقٍ عَدُوٍّ مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَ يَكُونُ الْقِيَامُ إلَيْهِ وَكَيْفَ يَكُونُ الذُّلُّ لَهُ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَدَمِ الْحَيَاءِ مِنْ الِارْتِكَابِ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا أَجَازُوا ذَلِكَ إذَا خَافُوا الْفِتْنَةَ مِنْهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ خِيفَةَ الْفِتْنَةِ إنَّمَا سَبَبُهَا اسْتِعْمَالُنَا نَحْنُ الْقِيَامَ حَتَّى جَعَلْنَاهُ بَيْنَنَا شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ حَتَّى لَوْ تَرَكَهُ وَاحِدٌ مِنَّا لَوَجَدْنَا عَلَيْهِ الْوَجْدَ الشَّدِيدَ ، فَلَمَّا أَنْ ارْتَكَبْنَا هَذَا الْأَمْرَ بَيْنَنَا وَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا طَلَبَهُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ مِنَّا ؛ لِأَنَّ شَهَوَاتِ النُّفُوسِ وَالْحُظُوظَ ؛ النَّاسُ الْكُلُّ مُشْتَرَكُونَ فِي مَحَبَّتِهَا وَالْقَوْلِ بِهَا إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ سِيَّمَا مَنْ كَانَ شَارِدًا عَنْ بَابِ رَبِّهِ مُعْرِضًا عَنْ مَوْلَاهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ شُرُودٌ وَإِعْرَاضٌ أَعْظَمُ وَأَدْهَى وَأَمَرُّ مِنْ الْمُخَالَفَةِ بِالْكُفْرِ وَجَحْدِ الْوَحْدَانِيَّةِ ، فَيَكُونُ مَحَبَّةُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ أَكْثَرَ وَأَكْثَرَ فَلَوْ وَقَفْنَا نَحْنُ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ وَلَمْ نَزِدْ عَلَيْهَا شَيْئًا ، وَلَا نَسْتَحْسِنُهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِنَا إلَّا مَا اسْتَحْسَنَهُ صَاحِبُ شَرِيعَتِنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْضَاهُ لَنَا وَرَآهُ مَصْلَحَةً لَنَا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ يُخَالِطُنَا فِيهِ ، وَلَا يَطْلُبُهُ مِنَّا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَى اتِّبَاعِهِ فِي أَمْرٍ مَا أَبَدًا لِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَامَ الْمَشْرُوعَ وَمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنْ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا حِسًّا وَمَعْنًى كَيْفَ يَتَحَامَاهُ أَهْلُ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ عَنْ آخِرِهِمْ ، وَلَا يَفْعَلُونَهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَا مَعَ مَنْ يُعَامِلُونَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا

الْقِيَامُ مَشْرُوعًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَتَحَامَوْهُ كَمَا تَحَامَوْا السَّلَامَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا شَرَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَفَتْ مِنْهُ حُظُوظُ النَّفْسِ ، فَلَيْسَ لَهُمْ إلَيْهِ سَبِيلٌ ، وَمَا يُسْتَعْمَلُ لِحُظُوظِ النَّفْسِ هُوَ الَّذِي يُشَارِكُنَا فِيهِ أَهْلُ الْمِلَلِ ، فَلَوْ أَنْكَرْنَا الْقِيَامَ ابْتِدَاءً بَعْضُنَا لِبَعْضٍ مَا طَلَبَهُ أَهْلُ الْمِلَلِ مِنَّا ، وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ الْقِيَامِ أَلْبَتَّةَ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُهُ ، وَلَا يُعَامِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهِ ، فَلَمَّا أَنْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ بَانَ أَمْرُهُ وَاتَّضَحَ وَزَالَ إشْكَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ نَهَى فِي غَيْرِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ ، وَقَدْ عَلَّلَهُ هَاهُنَا بِأَنَّهُ فِعْلُ الْأَعَاجِمِ حَتَّى نَهَى عَنْهُ ، وَهَذَا وَاضِحٌ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَا بِالنَّصَارَى فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الْإِشَارَةُ بِالْأَصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الْإِشَارَةُ بِالْأَكُفِّ انْتَهَى .
وَأَعْظَمُ مِنْ هَذَا فِتْنَةً أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ الْفِتْنَةَ الْمَخُوفَةَ مَا هِيَ ، وَيَظُنُّونَ أَنَّهُ لَوْ تَسَبَّبَ الذِّمِّيُّ فِي قَطْعِ رِيَاسَتِهِمْ أَوْ قَطْعِ مَنْصِبٍ لَهُمْ أَوْ قَطْعِ شَيْءٍ مِنْ جَامِكِيَّتِهِمْ أَوْ عَقَدَ وَجْهَهُ فِي وُجُوهِهِمْ أَوْ تَكَلَّمَ فِيهِمْ عِنْدَ أُسْتَاذِهِ بِأَمْرٍ مَا كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُمْ فِي جَوَازِ الْقِيَامِ لِأَهْلِ الْمِلَلِ مَعَاذَ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ الْخَوْفُ الشَّرْعِيُّ وَهُوَ مَعْلُومٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ مَشْهُورٌ بَيْنَهُمْ لَيْسَ عَلَى مَا تُسَوِّلُ لَنَا حُظُوظُ أَنْفُسِنَا وَيُزَيِّنُ لَنَا شَيْطَانُنَا وَيَحْمِلُنَا عَلَيْهِ قِلَّةُ يَقِينِنَا ، وَأَعْظَمُ فِتْنَةً

وَأَدْهَاهَا وَأَمَرُّهَا هَذَا الْأَمْرُ الْمُفْظِعُ الَّذِي وَقَعْنَا فِيهِ وَاصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّا نَرَى ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ مُعْضِلَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تُسْتَدْرَكُ ، وَلَا يُمْكِنُ تَلَافِيهَا لِتَعَذُّرِ وُقُوعِ التَّوْبَةِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَكُونُ مِنْ الْجَائِزِ ، وَلَا مِنْ الْمَنْدُوبِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مِنْ الْمَعَاصِي .
فَالْحَاصِلُ مِنْ أَحْوَالِنَا فِيهِ أَعْنِي فِي الْقِيَامِ أَنَّا ارْتَكَبْنَا بِهِ بِدْعَةً جَرَّتْ إلَى حَرَامٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْقِيَامُ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُنَافِقِينَ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى ارْتِكَابِ الْبِدَعِ ، وَالتَّسَامُحِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي ، وَمَعْذِرَةِ بَعْضِ عُلَمَائِنَا وَتَسَامُحِهِمْ وَتَغَافُلِهِمْ عَنْ كُلِّ ذَلِكَ حَتَّى اُرْتُكِبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْكَثِيرُ الْكَبِيرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ وَالْعَفْوِ عَمَّا مَضَى ، وَالتَّدَارُكِ وَاللُّطْفِ وَالْإِقَامَةِ مِمَّا بَقِيَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ .
وَقَدْ وَقَعَ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ هَذَا الْقِيَامَ يَتَعَيَّنُ الْيَوْمَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، وَقَدْ أَمَرَنَا بِتَرْكِ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا الْحَدِيثَ .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُؤَدِّي إلَى مَا اُحْتُرِزَ مِنْهُ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَحْوَالٍ ثَلَاثَةٍ : إمَّا أَنْ يَقُومَ لِكُلِّ دَاخِلٍ عَلَيْهِ أَوْ الْعَكْسِ ، وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَهُوَ مَذْهَبٌ لِحُرْمَةِ الْعِلْمِ وَالْمُرُوءَةِ وَقَلَّ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَرَارٌ فِي مَجْلِسٍ وَيَشْتَغِلُ عَنْ كُلِّ ضَرُورَاتِهِ لِكُلِّ دَاخِلٍ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا .
وَهَذَا شَنِيعٌ وَمَعَ شَنَاعَتِهِ يَمْنَعُ مَا الْإِنْسَانُ قَاعِدٌ إلَيْهِ وَيَشْتَغِلُ عَنْهُ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ .
وَإِنْ قَامَ لِبَعْضِ النَّاسِ دُونَ

بَعْضٍ فَهُوَ مَوْضِعُ الْفِتْنَةِ وَالتَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَقُومَ لِأَحَدٍ فَيَسْلَمُ النَّاسُ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمْ وَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ التَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ وَتَبْقَى حُرْمَةُ الْعِلْمِ قَائِمَةً ، وَالْمُرُوءَةُ مَوْجُودَةً ، وَبَرَكَةُ الِاتِّبَاعِ حَاصِلَةً ، وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ أَجَزْنَا ذَلِكَ لِأَجْلِ مَا يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ التَّغْيِيرِ لَكَانَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى نَسْخِ الشَّرِيعَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَوَامَّ كُلَّمَا أَحْدَثُوا حَدَثًا فِي الدِّينِ إنْ لَمْ نُوَافِقْهُمْ عَلَيْهِ حِفْظًا لِخَوَاطِرِهِمْ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ لَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى مَا ذُكِرَ ، وَهَذَا عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ عَادَتَهُمْ مَضَتْ أَنَّ الْعَوَامَّ يُحْدِثُونَ وَالْعُلَمَاءَ يُنْكِرُونَ وَيَزْجُرُونَ فَصَارَ الْيَوْمَ الْحَالُ بِالْعَكْسِ الْعَوَامُّ يُحْدِثُونَ وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَتَّبِعُونَ وَبَعْضُهُمْ لَا يُنْكِرُونَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَهَذَا عَامٌّ فِي الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ .

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَجْلِسَ عَلَى حَائِلٍ مُرْتَفِعٍ دُونَ مَنْ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ صُورَةَ التَّرَفُّعِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شِيَمِ الْعُلَمَاءِ إذْ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُدَرِّسِ التَّوَاضُعَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى شَيْءٍ مِثْلِ فَرْوَةٍ ، أَوْ بِسَاطٍ ، أَوْ شَيْءٍ يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَعَابَهُ وَقَالَ : أَتُتَّخَذُ الْمَسَاجِدُ بُيُوتًا وَرَخَّصَ ذَلِكَ لِلْمَرِيضِ ، فَعَلَى هَذَا إنْ اضْطَرَّ الْمُدَرِّسُ ، أَوْ غَيْرُهُ إلَى شَيْءٍ يَجْعَلُهُ تَحْتَهُ فَلْيَكُنْ قَدْرَ الضَّرُورَةِ وَلْيُبَيِّنْ عُذْرَهُ لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْمَاضِينَ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصَابَهُ مَرَضٌ فَاِتَّخَذَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهُ لِأَجْلِ مَرَضِهِ ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ مِنْ الْغَدِ خَرَجَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَقَعَدَ خَارِجًا عَنْهَا فَقِيلَ لَهُ : هَلَّا تَقْعُدُ بِمَوْضِعِك بِالْأَمْسِ ؛ لِأَنَّهُ أَكَنُّ لَك لِأَجْلِ مَرَضِك فَقَالَ : إنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَوْقَ جُلَسَائِي وَكَانَ الْمَوْضِعُ عُلُوُّهُ عَنْ أَصْحَابِهِ عَرْضُ أُصْبُعَيْنِ ، فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي هَذَا شَيْءٌ يَسِيرٌ ، فَقَالَ : لَوْ وَجَدْت سَبِيلًا أَنْ أَحْفِرَ حُفْرَةً تَحْتَ الْأَرْضِ فَأَقْعُدَ تَحْتَ جُلَسَائِي لَفَعَلْت ذَلِكَ ، أَوْ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَمَا رَأَيْت أَحَدًا مِنْ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ وَفُضَلَائِهِمْ يَقْعُدُونَ عَلَى حَائِلٍ دُونَ جُلَسَائِهِمْ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْلِسُ إلَى أَخْذِ الدُّرُوسِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى الْحَالَةِ الْمَذْكُورَةِ ، ثُمَّ بَعَثَ لَهُ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ سَجَّادَةً مِنْ صُوفٍ فَبَقِيَ يَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِهِ فِي إرْسَالِهَا إذْ أَنَّ السَّجَّادَاتِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بِدْعَةٌ ، وَمِثْلُهُ بَعِيدٌ أَنْ يَقَعَ فِي مِثْلِ هَذَا ، ثُمَّ قَالَ : مَا أَرْسَلَهَا إلَّا

لِحِكْمَةٍ فَتَرَكَهَا فِي بَيْتِهِ لَمْ يَسْتَعْمِلْهَا فَمَا كَانَ إلَّا قَلِيلٌ وَأَخَذَهُ مَغَصٌ فِي فُؤَادِهِ بِسَبَبِ بُرُودَةِ الْبَلَاطِ الَّتِي تَصْعَدُ مِنْ تَحْتِ الْحَصِيرِ فَبَقِيَ يَخْرُجُ بِهَا إلَى الْمَسْجِدِ وَيَطْوِيهَا حَتَّى تَكُونَ عَلَى قَدْرِ جُلُوسِهِ لَيْسَ إلَّا وَيَسْجُدُ عَلَى الْحَصِيرِ ، وَكَانَ يَقُولُ : هَذِهِ هِيَ الْحِكْمَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَرْسَلَهَا هَذَا السَّيِّدُ ، فَهَذَا دَأْبُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَالْعُلَمَاءُ أَوْلَى مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ وَيُقْتَفَى آثَارُهُمْ وَيُهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاوِحِ إنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ إذْ أَنَّهَا بِدْعَةٌ ، وَقَدْ أَنْكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي تُعْهَدُ فِي الْبُيُوتِ أَنْ تُعْمَلَ فِي الْمَسَاجِدِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي غَيْرِهِ ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمَدَارِسِ لِضَرُورَةِ الْحَرِّ وَالذُّبَابِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَنُهَا مِنْ رَيْعِ الْوَقْفِ ، أَوْ يُقْطَعُ بِهَا حُصْرُ الْوَقْفِ عِنْدَ الْبَحْثِ وَالِانْزِعَاجِ عِنْدَ إيرَادِ الْمَسَائِلِ ، وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَكْرَهُ الْمَرَاوِحَ الَّتِي فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ الَّتِي يَرُوحُ بِهَا النَّاسُ قَالَ : وَمَا كَانَ ذَلِكَ يُفْعَلُ فِيمَا مَضَى ، وَلَا أُجِيزُ لِلنَّاسِ أَنْ يَأْتُوا بِالْمَرَاوِحِ يَتَرَوَّحُونَ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذِهِ الْحَلْقَةِ الَّتِي تُعْمَلُ لَهُ فِي كَوْنِ الطَّلَبَةِ يَبْعُدُونَ عَنْهُ وَالسَّلَفُ كَانُوا لَا يَبْعُدُونَ بَلْ تَمَسُّ ثِيَابُ الطَّلَبَةِ ثِيَابَ الْمُدَرِّسِ لِقُرْبِهِمْ مِنْهُ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِلرِّيَاسَةِ فَذَمُّهُ أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ

فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ فِي مَجْلِسِهِ مَكَانٌ مُمَيَّزٌ لِآحَادِ النَّاسِ بَلْ كُلُّ مَنْ سَبَقَ لِمَوْضِعٍ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ كَمَا هُوَ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ ، وَلَا يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَوْضِعِهِ جَبْرًا وَيَجْلِسُ فِيهِ غَيْرُهُ لِلنَّهْيِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ قَامَ غَيْرُ مُعْرِضٍ عَنْهُ لِضَرُورَةٍ وَعَادَ كَانَ بِهِ أَحَقَّ أَيْضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ مَعْلُومًا عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ فِيهِ إلَّا فُلَانٌ ، وَهُمْ مُحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي فَتْوَاهُ وَعِلْمِهِ ، فَإِنْ جَلَسَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُعْلَمْ مَكَانُهُ أَوْ يُعْلَمْ بِمَشَقَّةٍ فَهَذَا مُسْتَثْنًى مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْبُوقُ صَاحِبَ عِلْمٍ وَفَضِيلَةٍ فَحَيْثُمَا جَلَسَ كَانَ صَدْرًا ، وَلَيْسَتْ الْمَوَاضِعُ بِاَلَّتِي تُصَدِّرُ النَّاسَ ، وَلَا تَرْفَعُهُمْ وَإِنَّمَا يَرْفَعُ الْمَرْءُ مَا هُوَ حَامِلُهُ مِنْ عِلْمٍ وَفَضِيلَةٍ وَدِينٍ وَتَقْوَى ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّخْصِيصُ لِمَنْ ذُكِرَ لِاحْتِيَاجِهِمْ إلَيْهِ فِي فَتْوَاهُ وَعِلْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ مُقْتَضَاهُ الْعُمُومُ فَالضَّرُورَةُ خَصَّصَتْ الدَّلِيلَ الْعَامَّ ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ دَلِيلٍ خُصَّ وَذَلِكَ كَثِيرٌ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إلَى الضَّرَرِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَنْزَعِجَ عَلَى مَنْ آذَاهُ وَيُجَاهِدَ نَفْسَهُ لِتَرْتَاضَ فَيُحْسِنَ لَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ لَا يُؤَاخِذُ مَنْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ بِالْأَذِيَّةِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ وَيُوَاجِهُهُ بِمَا يُوَاجِهُ بِهِ غَيْرَهُ مِنْ الْمُحِبِّينَ وَالْمُعْتَقِدِينَ مِنْ طَيِّبِ الْقَوْلِ وَحُسْنِ الْعِبَارَةِ وَعَدَمِ الْجَفَاءِ تَقَرُّبًا بِذَلِكَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَا يُقَابِلُ الشَّرَّ بِمِثْلِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْعُلَمَاءِ ، وَإِنَّمَا شِيَمُهُمْ الْحِلْمُ وَالْإِقَالَةُ وَالصَّفْحُ وَالْعَفْوُ ، أَلَا تَرَى إلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَحْنُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ قَاضِي بِلَادِ إفْرِيقِيَّةَ فَكَانَ إذَا قَعَدَ لِأَخْذِ الدُّرُوسِ أَتَاهُ إنْسَانٌ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ فَيُحَدِّثُهُ فِي أُذُنِهِ سَاعَةً ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ مُدَّةً ، وَكَانَ إذَا أَقْبَلَ يَقُولُ الْقَاضِي لِجَمَاعَتِهِ أَفْسِحُوا لَهُ فَيَأْتِي وَيَفْعَلُ الْعَادَةَ ، ثُمَّ انْقَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُدَّةً فَسَأَلَ عَنْهُ مَنْ حَضَرَهُ فَقَالُوا لَا نَعْرِفُ خَبَرَهُ فَقَالَ اُطْلُبُوهُ فَإِذَا وَجَدْتُمُوهُ فَأْتُونِي بِهِ فَوَجَدُوهُ فَأَتَوْا بِهِ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ وَخَلَا بِهِ وَقَالَ لَهُ مَا مَنَعَك مِنْ عَادَتِك فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدِي لِي بَنَاتٌ قَدْ كَبِرْنَ وَاحْتَجْنَ إلَى التَّزْوِيجِ وَأَنَا فَقِيرٌ فَقَالَ لِي بَعْضُ النَّاسِ إنْ أَغْضَبْت فُلَانًا فَنَحْنُ نُزِيلُ فَقْرَك وَنُجَهِّزُ بَنَاتَك ، أَوْ كَمَا قَالُوا فَبَقِيتُ تِلْكَ الْمُدَّةَ أَجِيءُ إلَيْك فَأَقْذِفُك وَأَشْتُمُك وَأَفْعَلُ مَا قَدْ رَأَيْت لَعَلَّك تَغْضَبُ يَوْمًا مَا لِيَحْصُلَ لِي مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا أَيِسْتُ مِنْ غَضَبِك تَرَكْت ذَلِكَ إذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ لَوْ أَخْبَرْتنِي كُنْت أَقُومُ لَك بِضَرُورَتِك أَعَلَيْكَ سَفَرٌ فَقَالَ يَا سَيِّدِي أَيُّ شَيْءٍ أَشَرْت بِهِ عَلَيَّ فَعَلْته ، فَأَمَرَ الْكَاتِبَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا بِالْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ إلَى نُوَّابِهِ بِالْبِلَادِ وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ ، وَمِمَّنْ يَعْتَنِي بِهِ

الْقَاضِي فَسَافَرَ إلَى الْبِلَادِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَمَعَهُ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا أَزَالَ فَقْرَهُ وَجَهَّزَ بَنَاتَه .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ وَإِيَّانَا مُعَامَلَتَهُ مَعَ مَنْ شَتَمَهُ وَقَذَفَهُ فَيَكُونُ الْعَالِمُ يَقْتَدِي بِهَذَا السَّيِّدِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُ فِي الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالشِّيَمِ الْجَمِيلَةِ ، وَقُدْوَتُهُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سُنَّةُ نَبِيِّهِمْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ انْتَهَى .
فَمِنْ جُمْلَةِ أَخْلَاقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ وَالْمَغْفِرَةُ وَالثَّوَابُ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَا أُمِرَ بِهِ وَهُوَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَرُتْبَتُهُ مُنِيفَةٌ وَالصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى أَوَّلُهَا ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي يُؤْذِيكَ هُوَ الْمُحْسِنُ إلَيْك .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَنَّهُ قَالَ : جُبِلَتْ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا وَإِذَا نَظَرْت إلَى النَّاسِ وَجَدْتَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُحْسِنٌ وَمُسِيءٌ فَالْمُحْسِنُ جُبِلَ قَلْبُك عَلَى مَحَبَّتِهِ ، وَهَذَا الْمُحْسِنُ إنَّمَا أَحْسَنَ إلَيْك بِشَيْءٍ يَفْنَى ، وَإِذَا نَظَرْت إلَى الْمُسِيءِ بِعَيْنِ التَّحْقِيقِ فَهُوَ مُحْسِنٌ أَكْثَرَ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ إلَيْك بِالْبَاقِي إذْ أَنَّك تَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ إنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً وَإِلَّا أَخَذَ مِنْ سَيِّئَاتِك ، وَشَأْنُ أَهْلِ التَّوْفِيقِ اغْتِنَامُ الْبَاقِي فَيَنْبَغِي لَك أَنْ تُكَافِئَهُ عَلَى إحْسَانِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يُبَيِّنُ هَذَا وَيُوَضِّحُهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مَارًّا بِطَرِيقٍ فَلَقِيَهُ إنْسَانٌ فَصَفَعَهُ وَمَرَّ فِي طَرِيقِهِ فَرَآهُ جَمَاعَةٌ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُمْ ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ قَالُوا لَهُ : أَتَعْرِفُ مَنْ هَذَا الَّذِي صَفَعْتَهُ قَالَ لَا قَالُوا هُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ فَرَجَعَ إلَيْهِ

فَطَأْطَأَ عَلَى قَدَمِهِ فَقَبَّلَهَا وَقَالَ وَاَللَّهِ يَا سَيِّدِي مَا عَرَفْتُك وَسَأَلَهُ الْمُحَالَلَةَ فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ مَا ارْتَفَعَتْ يَدُك عَنِّي حَتَّى سَأَلْت اللَّهَ تَعَالَى لَك الْمَغْفِرَةَ فَقَالَ لَهُ وَمَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ لِأَنَّك لَمَّا صَفَعْتنِي عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثِيبُنِي عَلَى ذَلِكَ وَمَا كُنْت بِاَلَّذِي تُوصِلُ إلَيَّ خَيْرًا فَأُوصِلُ إلَيْك شَرًّا .
وَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ إلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ لَوْ كُنْت مُغْتَابًا لِأَحَدٍ لَاغْتَبْت وَالِدَيْ ؛ لِأَنَّهُمَا أَحَقُّ بِحَسَنَاتِي فَهُمْ أَبَدًا يَنْظُرُونَ إلَى بَاطِنِ الْأُمُورِ وَعَوَاقِبِهَا ، وَغَيْرُهُمْ إلَى ضِدِّهَا .
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذَا الْمَقَامِ الْأَسْنَى الَّذِي يَحْصُلُ لِكَاظِمِ الْغَيْظِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ يُدْخِلُهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَامَةُ الصَّدْرِ لَا تُبْلَغُ بِعَمَلٍ فَنَفْيُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ تُبْلَغَ سَلَامَةُ الصَّدْرِ بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَقِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَغَيْرِهِمَا وَهَذَا مُتَحَصِّلٌ بِمَا ذَكَرَ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِنْ أَنْ يَتَّكِئَ عَلَى الْيَدِ الْيُسْرَى إذَا جَعَلَهَا مِنْ خَلْفِهِ قَلِيلًا وَيَتَّكِئَ عَلَى شَحْمَتَيْ أَصْلِ كَفِّهِ تِلْكَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ تِلْكَ الْهَيْئَةَ مِنْ فِعْلِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ .

( فَصْلٌ ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَسْمَعَ مَنْ يَنِمُّ عِنْدَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَنْقُلُ أَخْبَارَ النَّاسِ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِمَّا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَائِدَةٌ شَرْعِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ لِلشَّيْطَانِ فِي هَذَا الْبَابِ مَجَالًا كَبِيرًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْتِي لِأَحَدٍ إلَّا مِنْ الْبَابِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْبَلُ مِنْهُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ لِلْعَالِمِ ، أَوْ الْعَابِدِ فَيُوَسْوِسُ لَهُ بِالزِّنَا ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ يَأْتِي بِذِكْرِ شَخْصٍ غَائِبٍ فَيُذْكَرُ بِخَيْرٍ فَيَقُومُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ وَيَسْتَثْنِي بِقَوْلِهِ : إلَّا أَنَّ فِيهِ كَذَا وَأَنَّهُ كَذَا ، فَيَتَرَتَّبُ الْإِثْمُ عَلَى جَمِيعِ مَنْ حَضَرَ ، فَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا ، وَرَدَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَيَتَنَفَّسَ فَيَحْرِقُ بِنَفَسِهِ جَمَاعَةً كَثِيرَةً ، أَوْ كَمَا وَرَدَ وَهَا هُوَ ذَا بَيِّنٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَثْنِي إذَا اسْتَثْنَى وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْحَاضِرِينَ فَقَدْ بَاءُوا جَمِيعًا بِالْإِثْمِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ .

( فَصْلٌ ) وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ الْغِيبَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُصِيبَةٌ عُظْمَى فِي الدِّينِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّحْذِيرِ عَنْ ذَلِكَ إلَّا قَوْله تَعَالَى وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْغِيبَةُ قَالَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ حَسْبُك مِنْ صَفِيَّةَ قِصَرُهَا قَالَ لَقَدْ قُلْت كَلِمَةً لَوْ مُزِجَ بِهَا مَاءُ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ قَالَتْ وَحَكَيْتُ لَهُ إنْسَانًا فَقَالَ : مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إنْسَانًا وَلِي كَذَا وَكَذَا وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ رَزِينٍ عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ وَلَا مُجَاهِرٍ وَكُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلَّا الْمُجَاهِرُونَ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّ رَجُلًا يَرْفَعُ الْحَدِيثَ ، أَوْ يَمْشِي بِالْحَدِيثِ إلَى الْأَمِيرِ فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُبَلِّغُنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرَجَ إلَيْهِمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ وَالْأَدِلَّةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَى هَذَا وَأَشْبَاهِهِ كَثِيرَةٌ .
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبَارَكِينَ بِتُونُسَ فَلَمَّا أَنْ أَرَادُوا الطَّعَامَ أَبْطَأَ

وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهُ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ مَا زَالَتْ عَادَتُهُ هَكَذَا ، فَقَامَ سَيِّدِي حَسَنٌ الزُّبَيْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ : إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ الْيَوْمَ لِي سَنَةٌ لَمْ أَسْمَعْ غِيبَةً فَسَمَّعْتُمُوهَا لِي الْيَوْمَ ، وَاَللَّهِ لَا أَقْعُدُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ وَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ شَيْئًا ، فَقِسْ عَلَى هَذَا وَانْظُرْ بِنَظَرِك أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا رَخَّصَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ، وَذَلِكَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا : وَهِيَ غِيبَةُ الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ بِفِسْقِهِ ، وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ يَدْعُو إلَيْهَا ، وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ يُخْفِيهَا ، فَإِذَا ظَفِرَ بِأَحَدٍ أَلْقَاهَا إلَيْهِ ، وَالْغِيبَةُ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِخَصْمِهِ ، وَإِذَا سَأَلَ الْحَاكِمُ عَنْ أَحَدٍ فَغِيبَتُهُ جَائِزَةٌ وَعِنْدَ الْعَالِمِ لِلْفَتْوَى ، وَعِنْدَ مَنْ يُرْجَى تَغْيِيرُ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ ، وَعِنْدَ الْخُطْبَةِ ، وَعِنْدَ الْمُرَافَقَةِ فِي السَّفَرِ ، وَكَذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ لِلشَّرِكَةِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ يَشْتَرِي دَارًا فَسَأَلَ عَنْ جَارِهَا أَوْ دُكَّانًا ، وَالتَّجْرِيحُ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَالْمُشَاوَرَةُ فِي أَمْرٍ مَا مِنْ أُمُورِ الْمُخَالَطَةِ ، أَوْ الْمُجَاوِرَةِ ، أَوْ الْمُصَاهَرَةِ ، وَتَجْرِيحُ الْمُحَدِّثِينَ لِلرُّوَاةِ ، وَذِكْرُ الرَّجُلِ بِاسْمٍ قَبِيحٍ يَشْتَهِرُ بِهِ كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَخْفَشِ فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْمُسْتَثْنَاةُ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَصْحَابُ الْمُكُوسِ وَالظَّلَمَةُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْمُنْتَصِبِينَ لِظُلْمِ الْعِبَادِ وَأَذِيَّتِهِمْ فِي الْعِرْضِ ، أَوْ الْمَالِ ، أَوْ الْبَدَنِ ، وَلَا يُعَيِّنُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ بِالذِّكْرِ إذَا خَشِيَ الْفِتْنَةَ ، فَإِنْ أَمِنَ عَيَّنَ ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ الْمَذْكُورُ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَيَحْذَرُونَهُ وَيَهْجُرُونَهُ ، وَلَا يَتَعَاطَوْنَ مِثْلَ فِعْلِهِ

( فَصْلٌ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَنْعُ مِنْ النُّعُوتِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْكَذِبِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى الْكَذِبُ صُرَاحًا ، فَيَتَحَرَّزُ مِنْهُ أَنْ يَقَعَ فِي مَجْلِسِهِ ، فَإِنْ وَقَعَ فَلْيَنْقِمْ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ ، أَوْ يَمْنَعْهُ مِنْ حُضُورِ الْمَجْلِسِ حَتَّى يَتُوبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْلِعَ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ وَشُرُوطِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِنْكَارِ إلَّا بِقَلْبِهِ قَامَ وَتَرَكَهُ ، وَلَا يَكُونُ مُنْكِرًا بِقَلْبِهِ إنْ قَعَدَ ، وَيَأْثَمُ إلَّا أَنْ يَعْجِزَ عَنْ الْخُرُوجِ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَلَيْسَ هِيَ الْحَيَاءُ وَتَعْبِيسُ وَجْهِ الْمُنْكَرِ بَلْ مَا يُعَدُّ إنْكَارًا شَرْعِيًّا .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْأَرْبَعِينَ لَهُ : كُلُّ مَنْ شَاهَدَ مُنْكَرًا وَلَمْ يُنْكِرْ وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَهُوَ شَرِيكٌ فِيهِ ، فَالسَّامِعُ شَرِيكُ الْمُغْتَابِ وَيَجْرِي هَذَا فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي حَتَّى فِي مُجَالَسَةِ مَنْ يَلْبَسُ الدِّيبَاجَ وَيَتَخَتَّمُ بِالذَّهَبِ وَيَجْلِسُ عَلَى الْحَرِيرِ ، وَالْجُلُوسِ فِي دَارٍ أَوْ حَمَّامٍ عَلَى حِيطَانِهَا صُوَرٌ ، أَوْ فِيهَا أَوَانٍ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَالْجُلُوسِ فِي مَسْجِدٍ يُسِيءُ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ فَلَا يُتِمُّونَ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ ، وَالْجُلُوسُ فِي مَجْلِسِ وَعْظٍ يَجْرِي فِيهِ ذِكْرُ الْبِدْعَةِ ، أَوْ فِي مَجْلِسِ مُنَاظَرَةٍ ، أَوْ مُجَادَلَةٍ يَجْرِي فِيهَا الْأَذَى ، أَوْ الْأَبْحَاثُ بِالسَّفَهِ وَالشَّتْمِ .
وَبِالْجُمْلَةِ مَنْ خَالَطَ النَّاسَ كَثُرَتْ مَعَاصِيه وَإِنْ كَانَ تَقِيًّا فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَتْرُكَ الْمُدَاهَنَةَ فَلَا تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَيَشْتَغِلُ بِالْحِسْبَةِ وَالْمَنْعِ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْوُجُوبُ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ وَلَمْ يُتْرَكْ الْمُنْكَرُ وَنَظَرَ إلَيْهِ بِعَيْنِ الِاسْتِهْزَاءِ وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي مُنْكَرَاتٍ يَرْتَكِبُهَا الْفُقَهَاءُ وَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ فَهَا هُنَا يَجُوزُ

السُّكُوتُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الزَّجْرُ بِاللِّسَانِ ، وَيَجِبُ أَنْ يُفَارِقَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَلَيْسَ يَجُوزُ مُشَاهَدَةُ الْمَعْصِيَةِ بِالِاخْتِيَارِ ، فَمَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسِ الشُّرْبِ فَهُوَ فَاسِقٌ وَإِنْ لَمْ يَشْرَبْ وَمَنْ جَالَسَ مُغْتَابًا ، أَوْ لَابِسَ حَرِيرٍ ، أَوْ آكِلَ رِبًا ، أَوْ حَرَامٍ فَهُوَ فَاسِقٌ وَلْيَقُمْ مِنْ مَوْضِعِهِ .
الثَّانِي : أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ بِأَنْ يَرَى زُجَاجَةً فِيهَا خَمْرٌ فَيَكْسِرُهَا ، أَوْ يَسْلُبَ آلَةَ الْمَلَاهِي مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا وَيَضْرِبَ بِهَا عَلَى الْأَرْضِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُضْرَبُ ، أَوْ يُصَابُ بِمَكْرُوهٍ فَهَا هُنَا يُسْتَحَبُّ الْحِسْبَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ .
ثُمَّ قَالَ عُمْدَةُ الْحِسْبَةِ شَيْئَانِ : أَحَدُهُمَا : اللُّطْفُ وَالرِّفْقُ وَالْبُدَاءَةُ بِالْوَعْظِ عَلَى سَبِيلِ اللِّينِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْعُنْفِ وَالتَّرَفُّعِ وَالْإِدْلَالِ بِدَلَالَةِ الصَّلَاحِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَكِّدُ دَاعِيَةَ الْمَعْصِيَةِ وَيَحْمِلُ الْعَاصِي عَلَى الْمَنَاكِرِ وَعَلَى الْأَذَى ، ثُمَّ إذَا آذَاهُ وَلَمْ يَكُنْ حَسَنَ الْخُلُقِ غَضِبَ لِنَفْسِهِ وَتَرَكَ الْإِنْكَارَ لِلَّهِ وَاشْتَغَلَ بِشِفَاءِ غَلِيلِهِ مِنْهُ فَيَصِيرُ عَاصِيًا بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَارِهًا لِلْحِسْبَةِ يَوَدُّ لَوْ تُرِكَتْ الْمَعْصِيَةُ بِقَوْلِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُعْتَرِضُ كَانَ ذَلِكَ لَمَا فِي نَفْسِهِ مِنْ دَلَالَةِ الِاحْتِسَابِ وَعِزَّتِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ إلَّا رَفِيقٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ رَفِيقٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ حَلِيمٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ حَلِيمٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ فَقِيهٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ فَقِيهٌ فِيمَا يَنْهَى عَنْهُ وَوَعَظَ الْمَأْمُونَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاعِظٌ بِعُنْفٍ فَقَالَ يَا رَجُلُ : اُرْفُقْ فَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك إلَى مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنِّي وَأَمَرَهُ بِالرِّفْقِ فَقَالَ لَهُ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ غُلَامًا شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَتَأْذَنُ لِي فِي الزِّنَا فَصَاحَ النَّاسُ بِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقِرُّوهُ أَقِرُّوهُ اُدْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتُحِبُّهُ لِأُمِّك فَقَالَ لَا جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِأُمَّهَاتِهِمْ ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَتُحِبُّهُ لِابْنَتِك قَالَ لَا قَالَ كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ حَتَّى ذَكَرَ الْأُخْتَ وَالْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ وَهُوَ يَقُولُ كَذَلِكَ النَّاسُ لَا يُحِبُّونَهُ ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ طَهِّرْ قَلْبَهُ وَاغْفِرْ ذَنْبَهُ وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ الزِّنَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِلْفُضَيْلِ إنَّ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ قَبِلَ جَوَائِزَ السُّلْطَانِ فَقَالَ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ إلَّا دُونَ حَقِّهِ ، ثُمَّ خَلَا بِهِ وَعَاتَبَهُ بِالرِّفْقِ فَقَالَ يَا أَبَا عَلِيٍّ : إنْ لَمْ نَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ فَإِنَّا نُحِبُّ الصَّالِحِينَ .
الْعُمْدَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ قَدْ بَدَأَ بِنَفْسِهِ فَهَذَّبَهَا وَتَرَكَ مَا يَنْهَى عَنْهُ أَوَّلًا .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كُنْت تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ فَلْتَكُنْ مُرَاعِيًا لَهُ قَبْلَ أَخْذِ النَّاسِ بِهِ وَإِلَّا هَلَكْت فَهَذَا هُوَ الْأَوْلَى حَتَّى يَنْفَعَ كَلَامُهُ وَإِلَّا اُسْتُهْزِئَ بِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا شَرْطًا بَلْ يَجُوزُ الِاحْتِسَابُ لِلْعَاصِي أَيْضًا .
قَالَ أَنَسٌ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : لَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى نَعْمَلَ بِهِ كُلَّهُ قَالَ بَلْ مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهِ كُلَّهُ وَانْهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَإِنْ لَمْ تَجْتَنِبُوهُ كُلَّهُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُرِيدُ أَنْ لَا يَظْفَرَ الشَّيْطَانُ مِنْكُمْ بِهَذِهِ الْخَصْلَةِ وَهُوَ أَنْ لَا تَأْمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى تَفْعَلُوا الْأَمْرَ كُلَّهُ يَعْنِي أَنَّ هَذَا

يُؤَدِّي إلَى حَسْمِ بَابِ الْحِسْبَةِ فَمَنْ ذَا الَّذِي يُعْصَمُ مِنْ الْمَعَاصِي

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْمِزَاحِ الْمُخْرِجِ عَنْ حَدِّ الْوَقَارِ وَإِنْ كَانَ الْمِزَاحُ جَائِزًا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الصَّوَابِ وَإِبْقَاءِ هَيْبَةِ الْعِلْمِ وَوَقَارِهِ أَلَا تَرَى إلَى وَاصِفِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ وَكَانَ يَمْزَحُ ، وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا مِثْلَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ لِلَّذِي سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ لَهُ لَا أَحْمِلُك إلَّا عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَخَرَجَ إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ لَهُمْ سَأَلْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَنِي عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ لَا أَحْمِلُك إلَّا عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ فَقَالُوا لَهُ وَهَلْ الْجَمَلُ إلَّا وَلَدُ النَّاقَةِ .
وَمِثْلُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي شَكَتْ زَوْجَهَا فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا : هُوَ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ فَأَتَتْ الْمَرْأَةُ إلَى زَوْجِهَا فَوَجَدَتْهُ نَائِمًا فَجَعَلَتْ تَفْتَحُ عَيْنَيْهِ وَتَنْظُرُ الْبَيَاضَ فَاسْتَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ وَسَأَلَهَا عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ فَأَخْبَرَتْهُ بِكَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهَا زَوْجُهَا أَمَّا عَلِمْت أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَرَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي هَذَا الْبَابِ تَخْفِيفًا لِأُمَّتِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَهَذَا هُوَ تَوْقِيرُ مَجَالِسِ الْعِلْمِ لَا بِالْقُمَاشِ وَحُسْنِ الْمَلْبَسِ بَلْ بِحُسْنِ السَّمْتِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ صَنَّفَ فِي ذِكْرِ الْآدَابِ سَلَفٌ صَالِحٌ مِنْهُمْ الْإِمَامَانِ الْكَبِيرَانِ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ كِبَارِ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا ذَكَرْت نُبَذًا مِمَّا احْتَاجَ إلَيْهِ الْوَقْتُ فِي الْأَمْرِ الظَّاهِرِ ، وَمَنْ طَلَبَ زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ فَلْيَلْتَمِسْهُ فِي كُتُبِ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

، ثُمَّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ حِينَ خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى الْمَسْجِدِ وَتَحِيَّتِهِ لَهُ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَحَضَرَتْ صَلَاةُ الْفَرْضِ فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ مُشْتَغِلًا بِإِلْقَاءِ الْعِلْمِ إذْ ذَاكَ فَلْيَتْرُكْ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ هُوَ وَجُلَسَاؤُهُ وَيَشْتَغِلُونَ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْقَائِلِ مَا هُوَ فَرْضٌ يُتْرَكُ لِفَرْضٍ فَيُقَالُ هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ يُتْرَكُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حِكَايَةِ مَالِكٍ مَعَ ابْنِ وَهْبٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ لَهُ مَا الَّذِي قُمْت إلَيْهِ بِأَوْجَبَ عَلَيْك مِنْ الَّذِي قُمْت عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَكُونَا فِي الْمَسْجِدِ إذْ ذَاكَ ، فَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ لَهَا رُكُوعٌ قَبْلَهَا فَإِنْ كَانَتْ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَهِيَ مِنْ السُّنَنِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمَا فَرْضًا فَلَهُ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَنْ يَنْذِرَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِهِمَا فَتَصِيرُ فَرْضًا فِي سُنَّةٍ ، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِمَا ثُمَّ يُصَلِّي الْفَرْضَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ اسْتِحْضَارِ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَمِنْ الْآدَابِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا بَعْدَهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ النَّظَرُ فِيمَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ ، أَوْ يُسْتَحَبُّ وَفِيمَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ ، أَوْ يُسْتَحَبُّ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ يَقَعُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي تَقْدِيمِ مَا يَجِبُ تَأْخِيرُهُ ، أَوْ تَأْخِيرِ مَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ فَيُنْظَرُ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْمَشْهُودِ وَهُوَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ الَّذِي يُتَكَلَّمُ فِيمَا يُفْعَلُ فِيهِ مَا هُوَ الْأَوْلَى بِهِ فِيهِ فَيُقَدَّمُ فِعْلُهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا جَاءَ أَحَدٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةِ عِلْمٍ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَقُولُ يَأْتِي أَحَدُهُمْ فِي صِفَةِ شَيْطَانٍ وَيَسْأَلُ عَنْ مَسْأَلَةِ عِلْمٍ إنْكَارًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ

فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اقْتِدَاءً مِنْهُ بِالسَّلَفِ السَّابِقِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِيثَارًا مِنْهُ اشْتِغَالَ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالتَّوَجُّهِ وَالْعِبَادَةِ وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى زَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رَاغِبِينَ فِي الْعِلْمِ ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ انْتَشَرُوا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ ، وَأَمَّا الْيَوْمَ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ انْتَشَرُوا فِي أَسْبَابِ الدُّنْيَا وَالِانْهِمَاكِ عَلَيْهَا غَالِبًا فَقَلَّ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ وَيَأْتُوا الْمَسَاجِدَ لِتَعَلُّمِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الْعَالِمَ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعِلْمَ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الصُّبْحِ ، وَسَيَأْتِي إذَا كَانَ فِي الْمَدْرَسَةِ ، أَوْ غَيْرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا فَيَنْبَغِي ، أَوْ يَجِبُ إشْغَالُ هَذَا الْوَقْتِ بِالْكَلَامِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ ، وَآكَدُهَا الْفِقْهُ وَالْكَلَامُ فِي أَمْرِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يُكْرَهُ وَمَا يُمْنَعُ لَعَلَّهُمْ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ وَيَتَعَلَّمُونَ أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ وَلَعَلَّ ذَلِكَ يَدْعُوهُمْ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى فَوَائِدِهِ ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ، وَعَهْدِي مِنْ عَادَةِ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَغْرِبِ يَأْخُذُونَ الدُّرُوسَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيَأْتِي الْعَوَامُّ إلَيْهِمْ يَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ أَمْرَ دِينِهِمْ ، وَكَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الزَّيَّاتُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدُ شُيُوخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَأْخُذُ الدَّرْسَ فِي رِسَالَةِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُلِينُ عِبَارَتَهُ لِيُوَصِّلَ إلَى الْعَوَامّ فَهْمَ الْعِلْمِ ، وَلَا يَسْمَعُ سُؤَالَ طَالِبٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَقُولُ لَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ دَرْسُ كِتَابِ التَّهْذِيبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنِّي إذَا اشْتَغَلْت بِالْبَحْثِ مَعَكُمْ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَقُومُ هَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينُ إلَى أَسْبَابِهِمْ

وَدَكَاكِينِهِمْ فَهَذِهِ صِفَةُ الْعُلَمَاءِ الْمَرْجُوعِ إلَيْهِمْ وَالْمُقْتَدَى بِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا جَرَمَ أَنَّ الْعَوَامَّ صَارُوا فِي دَكَاكِينِهِمْ مِنْ أَعْرَفِ النَّاسِ بِعِلْمِ مَا يُحَاوِلُونَهُ وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ، وَتَجِدُهُمْ يَبْحَثُونَ فِي دَكَاكِينِهِمْ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فِي الْمَسَائِلِ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ لِيُوقِف بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ ، فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ فَإِنْ كَانَ هُوَ عَلَى وُضُوءٍ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْ الْإِشْرَاقِ وَتُجْزِئُ عَنْ الضُّحَى إنْ نَوَاهَا وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا فَرْضًا فَعَلَ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فَرَغَ مِنْ مَجْلِسِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْإِشْرَاقِ ، أَوْ قَبْلَهُ وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي أَثْنَائِهِ فَلَا يَقْطَعُهُ حَتَّى يُتِمَّهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ وَهُوَ عَلَى طَهَارَةٍ فَلْيَرْكَعْ كَمَا سَبَقَ ، ثُمَّ يَنْصَرِفْ لِسَبِيلِهِ ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْآدَابُ فِي خُرُوجِهِ مِنْهُ وَيَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْوِيَ سُرْعَةَ الْعُودِ إلَى الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ وَعَدَّ مِنْهُمْ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ فَإِذَا ذَهَبَ مَارًّا إلَى بَيْتِهِ فَلَهُ فِي رُجُوعِهِ إلَيْهِ نِيَّاتٌ عَدِيدَةٌ تَارَةً تَكُونُ عَلَى الْوُجُوبِ وَتَارَةً تَكُونُ عَلَى النَّدْبِ ، فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ لِيَقُومَ بِالْحَقِّ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ وَأَنْ يُرْشِدَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهُمْ وَمَا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي فَرْضِهِمْ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ لِمَا وَرَدَ : كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَشْيِ النَّاسِ مَعَهُ وَمِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ وَطْءِ عَقِبِهِ وَتَقْدِيمِهِمْ نَعْلَهُ وَاتِّكَائِهِ عَلَى أَحَدٍ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَثَارُهُ مِنْ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَقُوَّةِ النَّفْسِ غَالِبًا ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ مُتَوَاضِعًا لَكِنْ ظَاهِرُ هَذِهِ الْأَفْعَالِ تُنَافِي ذَلِكَ وَتَجُرُّ إلَى الْمَذْمُومِ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَكَفَى بِهِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَضَرُّ مَا عَلَى الْإِنْسَانِ وَطْءُ عَقِبِهِ ، أَوْ كَمَا قَالَ وَوَطْءُ الْعَقِبِ هُوَ الْمَشْيُ خَلْفَهُ

( فَصْلٌ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ ، أَوْ يُنْدَبُ لَهُ فِي الطَّرِيقِ حِينَ خُرُوجِهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَهُ فِي رُجُوعِهِ

( فَصْلٌ ) فَإِذَا بَدَأَ بِدُخُولِ بَيْتِهِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَيُقَدِّمُ الْيَمِينَ وَيُؤَخِّرُ الشِّمَالَ كَمَا وَرَدَ فِي خُرُوجِهِ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فَإِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى أَهْلِهِ إنْ كَانُوا حُضُورًا وَإِنْ كَانُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى نَفْسِهِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَأَ عِنْدَ دُخُولِهِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ كَامِلَةً لِمَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو فَيَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلِجِ وَخَيْرَ الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا لِمَا جَاءَ فِيهِ أَيْضًا

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْكَعَ فِي بَيْتِهِ قَبْلَ جُلُوسِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهَا فَرْضًا كَمَا تَقَدَّمَ

فَصْلٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ أَهْلَهُ بِمَسَائِلِ الْعِلْمِ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ تَعْلِيمِ غَيْرِهِمْ طَلَبًا لِثَوَابِ إرْشَادِهِمْ فَخَاصَّتُهُ وَمَنْ تَحْتَ نَظَرِهِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُمْ رَعِيَّتُهُ وَمِنْ الْخَاصَّةِ بِهِ كَمَا سَبَقَ " كُلُّكُمْ رَاعٍ " الْحَدِيثَ ، فَيُعْطِيهِمْ نَصِيبَهُمْ فَيُبَادِرُ لِتَعْلِيمِهِمْ لِآكَدِ الْأَشْيَاءِ فِي الدِّينِ أَوَّلًا وَأَنْفَعِهَا وَأَعْظَمِهَا فَيُعَلِّمُهُمْ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ وَيُجَدِّدُ عَلَيْهِمْ عِلْمَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوهُ وَيُعَلِّمُهُمْ الْإِحْسَانَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْوُضُوءَ وَالِاغْتِسَالَ وَصِفَتَهُمَا وَالتَّيَمُّمَ وَالصَّلَاةَ وَمَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ ، وَكُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ سَمِعْتُ سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَمَّا أَنْ تَأَهَّلْت قُلْت لِلزَّوْجَةِ لَا تَتَحَرَّكِي ، وَلَا تَتَكَلَّمِي بِكَلِمَةٍ فِي غَيْبَتِي إلَّا وَتَعْرِضِيهَا عَلَيَّ حِينَ آتِي لِأَنِّي مَسْئُولٌ عَنْ تَصَرُّفِك كُلِّهِ ، كُنْت مَسْئُولًا عَنْ نَفْسِي لَيْسَ إلَّا وَأَنَا الْآنَ مَسْئُولٌ عَنْ نَفْسِي وَعَنْكِ فَأُسْأَلُ عَنْ عَشْرِ صَلَوَاتٍ ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ ، وَكُلُّ مَا أَنَا مُطَالَبٌ بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَغَيْرِهَا حَتَّى بَالَغَ مَعَهَا بِأَنْ قَالَ لَهَا إنْ نَقَلْتِ الْكُوزَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَأَخْبِرِينِي بِهِ قَالَ وَذَلِكَ خِيفَةً مِنْ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ تَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِيهِ فَبَقِيَتْ تُخْبِرُنِي بِكُلِّ تَصَرُّفِهَا إلَى أَنْ طَالَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَبَقِيَتْ تُخْبِرُنِي بِمَا يَظْهَرُ لَهَا أَنَّ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةٌ وَتَسْكُتُ عَنْ الْبَاقِي فَوَجَدْت نَفْسِي قَلِقًا خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ فِيهِ فَائِدَةً قَدْ يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ فَبَقِيت إذَا دَخَلْت الْبَيْتَ يُنْطِقُ اللَّهُ لِي جِدَارَ الْبَيْتِ حِينَ أَدْخُلُ فَيَقُولُ لِي جَمِيعَ تَصَرُّفِهَا فَأَجْلِسُ فَتَعْرِضُ عَلَيَّ كُلَّ

مَا تُرِيدُهُ مِمَّا يَظْهَرُ لَهَا أَنَّ فِي ذِكْرِهِ فَائِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَأَقُولُ لَهَا هَلْ بَقِيَ شَيْءٌ فَتَقُولُ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهَا هُوَ ذَاكَ ، فَأَقُولُ لَهَا وَفَعَلْت كَذَا وَكَذَا وَأَذْكُرُ لَهَا بَقِيَّةَ تَصَرُّفِهَا فَتَقُولُ : أَوَحْيٌ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْبَابُ عَلَيَّ مُغْلَقًا ، وَلَا أَجِدُ مَعِي فِي الْبَيْتِ أَحَدًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ فَعَلْته فَمَنْ أَخْبَرَك فَمَا بَقِيَتْ بَعْدَ ذَلِكَ تَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ حَتَّى تُخْبِرَنِي فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّانَا كَيْفِيَّةَ نَظَرِهِمْ إلَى تَخْلِيصِ ذِمَمِهِمْ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الَّذِينَ فَهِمُوا مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَعَمِلُوا بِهِ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ وَأَعَادَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ لَا رَبَّ غَيْرُهُ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ آكَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَهَمِّهَا تَفَقُّدُ الْقِرَاءَةِ إذْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامِ وَاجِبَةٌ وَسُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ فَالْوَاجِبَةُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ بِجَمِيعِ حُرُوفِهَا وَحَرَكَاتِهَا وَشَدَّاتِهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ ذَلِكَ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُومًا وَالسُّنَّةُ سُورَةٌ مَعَهَا وَالْفَضِيلَةُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَعْنِي فِي غَيْرِ الْفَرَائِضِ ؛ لِأَنَّ أَفْضَلَهَا طُولُ الْقِيَامِ فِيهَا .
أَلَا تَرَى إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَيْثُ قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ آلِ عِمْرَانَ ، ثُمَّ النِّسَاءِ ، ثُمَّ الْمَائِدَةِ حَتَّى سَمِعْت هَذَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ رَكَعَ .
وَحَدِيثُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ كَانَ يَقْرَأُ فِي رَكْعَةِ الْوِتْرِ الْخَتْمَةَ كُلَّهَا ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ فِي وَلَدِهِ وَعَبْدِهِ وَأَمَتِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِهِمْ عُجْمَةٌ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى النُّطْقِ فَلَا حَرَجَ ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالتَّصْرِيحِ فِيهِمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ الصَّلَاةَ وَالْقِرَاءَةَ وَمَا يَحْتَاجَانِ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِ هِمَا كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ إذْ لَا فَرْقَ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ رَعِيَّتِهِ ، وَقَدْ كَثُرَ الْجَهْلُ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ بِهَذَا الْمَعْنَى حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ لَا حَظَّ لَهُمَا فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يَذْكُرُ شَيْئًا لَوْ اعْتَقَدَهُ لَكَانَ كُفْرًا لَا شَكَّ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ جَهْلٌ وَسَخَفٌ وَبِدْعَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَالْإِقْلَاعُ عَنْهُ وَهُوَ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ

مِنْ قَوْلِهِمْ : إنَّ صَلَاةَ الْعَبْدِ وَصَوْمَهُ وَبَاقِيَ عِبَادَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ لِسَيِّدِهِ ، أَوْ لِسَيِّدَتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
وَكَذَلِكَ يُعَلِّمُهُنَّ مَا يَخُصُّهُنَّ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِي الْحَيْضِ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَرِّفَهُنَّ أَنَّ الْحَيْضَ عَلَى سِتِّ مَرَاتِبَ : أَوَّلُهُ أَسْوَدُ ، ثُمَّ حُمْرَةٌ ، ثُمَّ صُفْرَةٌ ، ثُمَّ غُبْرَةٌ ، ثُمَّ كُدْرَةٌ ، ثُمَّ قَصَّةٌ ، ثُمَّ يَنْقَطِعُ فَتَصِيرُ جَافَّةً ، فَالْخَمْسَةُ الْأُوَلُ حَيْضٌ وَالْقَصَّةُ وَالْجُفُوفُ نَقَاءٌ وَكَثِيرًا مَا يُتَسَاهَلُ الْيَوْمَ فِي هَذَا الْبَابِ لِقِلَّةِ سُؤَالِهِنَّ وَمَنْ يُعَلِّمُهُنَّ ، فَمِنْهُنَّ مَنْ تَرَى أَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا يَحْرُمُ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَأَمَّا الصُّفْرَةُ وَالْغُبْرَةُ وَالْكُدْرَةُ فَلَا بَأْسَ بِالْوَطْءِ فِيهَا عِنْدَهُمْ ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ الْوَطْءَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الْأُوَلِ وَبَعْدَهَا يَجُوزُ الْوَطْءُ وَمِنْهُنَّ مَنْ تَعْتَقِدُ أَنَّ مُدَّةَ الْحَيْضِ سَبْعَةُ أَيَّامٍ فَإِنْ رَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ مُضِيِّهَا لَمْ تَعْتَدَّ بِهِ وَانْتَظَرَتْ تَمَامَهَا دُونَ غُسْلٍ وَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَوَطْءٍ ، وَإِنْ زَادَ عَلَيْهَا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَصَامَتْ وَوُطِئَتْ مَعَ وُجُودِ الْحَيْضِ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ انْتَهَى فَيَسْتَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَتَغَفُّلِ الْأَزْوَاجِ ، ثُمَّ يُعَلِّمُهُنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَأَقَلَّهَا وَمَا بَيْنَهُمَا وَيُعَرِّفُهُنَّ مَا إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ بِقَدْرِ خَمْسِ رَكَعَاتٍ إلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَلْ يُقَدَّرُ لَهَا قَدْرَ زَمَنِ الْغَسْلِ بِلَا تَرَاخٍ ، أَوْ زَمَنِ الرَّكَعَاتِ ، وَكَذَا إذَا رَأَتْ الطُّهْرَ

قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ إلَى رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالصُّبْحُ إلَى أَنْ يَبْقَى لَهَا مِقْدَارُ رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيُحَقِّقُ لَهُنَّ الطُّهْرَ بِمَاذَا يَكُونُ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ يَخْتَلِفْنَ فِي هَذَا فَوَاحِدَةٌ يَكُونُ طُهْرُهَا بِالْجُفُوفِ وَأُخْرَى يَكُونُ طُهْرُهَا بِالْقَصَّةِ الْبَيْضَاءِ ، وَيُعَلِّمُهُنَّ أَيْضًا مَوَانِعَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَذَلِكَ خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً مِنْهَا عَشَرَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ وَهِيَ : مَنْعُ رَفْعِ حَدَثِهَا مِنْ حَيْضَتِهَا .
وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ صِحَّةُ فِعْلِهَا .
صِحَّةُ فِعْلِ الصَّوْمِ دُونَ وُجُوبِهِ .
مَسُّ الْمُصْحَفِ .
دُخُولُ الْمَسْجِدِ .
الِاعْتِكَافُ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ .
الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ .
الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ .
وَمِنْهَا خَمْسَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَهِيَ : مَنْعُ وَطْئِهَا فِيمَا تَحْتَ الْإِزَارِ .
مَنْعُ وَطْئِهَا بَعْدَ النَّقَاءِ وَقَبْلَ الْغُسْلِ الْمَشْهُورُ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ مَنْعُ رَفْعِ حَدَثِ غَيْرِهَا .
مَنْعُ اسْتِعْمَالِ فَضْلِ مَائِهَا .
قِرَاءَتُهَا الْقُرْآنَ ظَاهِرًا الْمَشْهُورُ الْجَوَازُ ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي تُفْعَلُ فِي زَمَانِنَا هَذَا وَهِيَ أَنْ تَقْعُدَ الْمَرْأَةُ بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِهَا فَتَطْلُبَ الصَّابُونَ فِي يَوْمٍ وَتَغْسِلَ ثِيَابَهَا فِي الثَّانِي وَتَغْتَسِلَ فِي الثَّالِثِ وَتُصَلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَتَقْعُدُ مُدَّةً بِغَيْرِ صَلَاةٍ فِي ذِمَّتِهَا ، ثُمَّ تَرْتَكِبُ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَهِيَ أَنَّهَا لَا تُصَلِّي إلَّا مَا أَدْرَكَتْهُ بَعْدَ غُسْلِهَا ، وَلَا تَقْضِي مَا فَوَّتَتْهُ بَعْدَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا .

وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهَا حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا سَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّهُ هَلْ هُوَ مُرْتَدٌّ ، أَوْ مُسْلِمٌ فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ مُرْتَدٌّ قَالَ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَيَعُودُ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ مُرْتَكِبٌ لِكَبِيرَةٍ عُظْمَى فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ وَيَقْضِيَ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إلَّا أَنْ تَظْهَرَ اسْتِقَامَتُهُ .

وَكَذَلِكَ يُنَبِّهُهُنَّ أَيْضًا عَلَى مَا إذَا تَمَادَى بِهَا الدَّمُ وَزَادَ عَلَى عَادَتِهَا وَانْقَطَعَ ، وَحُكْمُ ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَمَادَى بِهَا وَلَمْ يَنْقَطِعْ وَهِيَ الْمُسْتَحَاضَةُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُنَبِّهَهُنَّ عَلَى مَا يَفْعَلُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّهُنَّ إذَا انْقَطَعَ الْحَيْضُ عَنْ إحْدَاهُنَّ خَرَجَتْ إلَى الْحَمَّامِ فَتَغْتَسِلُ فِيهِ ، وَهِيَ لَا تَدْرِي أَحْكَامَ الْغُسْلِ وَمَا يَلْزَمُهَا فِيهِ بَلْ تُنَظِّفُ جَسَدَهَا وَتَقْتَصِرُ عَلَيْهِ ، فَلَوْ صَلَّتْ بِهَذَا الْغُسْلِ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهَا ، وَلَا يَحِلُّ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا إذْ أَنَّهَا لَمْ تَغْتَسِلْ بَعْدُ مِنْ حَيْضَتِهَا الْغُسْلَ الشَّرْعِيَّ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ تَغْتَسِلَ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ مِنْ حَيْضَتِهَا ، أَوْ جَنَابَتِهَا ، أَوْ هُمَا مَعًا ، فَإِذَا نَوَتْ النِّيَّةَ الْمُعْتَبَرَةَ فَقَدْ صَحَّ غُسْلُهَا وَاسْتَبَاحَتْ الصَّلَاةَ وَالْوَطْءَ وَكُلَّ مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً مِنْهُ فِي حَالِ حَيْضِهَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ إزَالَةِ الْوَسَخِ ، أَوْ بَعْدَهُ ، بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّ الْغُسْلَ إنَّمَا هُوَ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ وَالتَّنَظُّفِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِجَهْلِهِنَّ بِالْحُكْمِ فِي ذَلِكَ وَيُنَبِّهُهُنَّ عَلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النِّسَاءِ بَلْ الْمُحَرَّمَةِ وَهِيَ أَنَّهُنَّ يَعْتَقِدْنَ أَنَّ إحْدَاهُنَّ لَا تَطْهُرُ حَتَّى تُدْخِلَ يَدَهَا فِي فَرْجِهَا وَتَغْسِلَ دَاخِلَهُ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَا غُسْلَ لَهَا فَجَرَّتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الْمُحَرَّمَةُ إلَى مُحَرَّمٍ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهَا إذَا انْقَطَعَ حَيْضُهَا وَلَمْ تَغْتَسِلْ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي رَمَضَانَ فَإِنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهِيَ لَمْ تَغْتَسِلْ فَتَتْرُكْ الْغُسْلَ نَهَارًا مُحَافَظَةً مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ الصَّوْمِ بِسَبَبِ أَنَّهَا تُفْطِرُ بِإِدْخَالِ يَدِهَا فِي فَرْجِهَا ، فَلَوْ أَنَّهَا لَمْ

تَفْعَلْ هَذَا الْفِعْلَ الْمُحَرَّمَ اغْتَسَلَتْ نَهَارًا وَحَصَلَ لَهَا الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ مَعًا عَلَى أَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ نَهَارًا لَصَحَّ صَوْمُهَا فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ فِعْلِهَا هَذَا الْمُحَرَّمَ الشَّنِيعَ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفْطِرُ بِذَلِكَ عِنْدَهُ وَيَنْتَقِضُ بِهِ وُضُوءُهَا دُونَ غُسْلِهَا ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَمَسُّ فَرْجَهَا هَلْ عَلَيْهَا وُضُوءٌ أَمْ لَا فَقَالَ : إنْ أَلْطَفَتْ فَعَلَيْهَا الْوُضُوءُ قِيلَ وَمَا مَعْنَى أَلْطَفَتْ قَالَ أَنْ تَفْعَلَ كَمَا يَفْعَلُ شِرَارُ النِّسَاءِ وَهِيَ أَنْ تُدْخِلَ أُصْبُعَهَا مَعَهَا انْتَهَى .
وَسَبَبُ هَذَا عَدَمُ الْعِلْمِ وَعَدَمُ الْفَهْمِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنْ الْحَيْضِ قَالَ : خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً وَتَوَضَّئِي ثَلَاثًا ، ثُمَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَحَى وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ ، أَوْ قَالَ تَوَضَّئِي بِهَا .
قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا فَأَخْبَرْتهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .
وَذَلِكَ أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ لَهُ رَائِحَةٌ فَقَدْ يَشُمُّهَا الرَّجُلُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْفِرَاقِ ، وَالْوُضُوءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَضَاءَةِ يُقَالُ : وَجْهٌ وَضِيءٌ أَيْ حَسَنٌ نَظِيفٌ فَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ تَنْظِيفُ الْمَحَلِّ وَتَطْيِيبُهُ ، وَصِفَةُ مَا تَفْعَلُ أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ الْقُطْنِ ، أَوْ غَيْرِهِ فَتَجْعَلُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الْمِسْكِ وَلَوْ قَلَّ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطِّيبِ إنْ تَعَذَّرَ الْمِسْكُ فَتُرْسِلَهُ مَعَهَا بِرِفْقٍ وَتَلْحِمُ عَلَيْهِ بِحَفَّاضٍ وَتَتْرُكُهُ حَتَّى تَظُنَّ أَنَّ مَا فِي الْمَحَلِّ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ هَكَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلَيْسَ هُوَ غَسْلُ بَاطِنِ الْفَرْجِ بِالْمَاءِ كَمَا يَزْعُمْنَ .
وَمَعَ ذَلِكَ

فَفِيهِ أَذِيَّةُ لَهَا وَلِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ إذَا وَصَلَ إلَى بَاطِنِ الْفَرْجِ مَعَ الْأَصَابِعِ أَرْخَى الْمَحَلَّ وَبَرَّدَهُ وَوَسَّعَهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ فَكَيْفَ مَعَ وُجُودِ الضَّرَرِ وَالْإِخْلَالِ بِالْفَرْضِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهَا أَنْ تَغْسِلَ الْمَحَلَّ كَمَا تَغْسِلُهُ الْبِكْرُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ لَا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُنَّ مِمَّنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَعْلِيمُهُنَّ بِمَا أَحْدَثَ بَعْضُ النِّسَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِمَّنْ لَهَا مَنْظَرٌ وَسِمَنٌ فَتَخَافُ إنْ صَامَتْ أَنْ يَذْهَبَ بَعْضُ جَمَالِهَا ، أَوْ سِمَنِهَا فَتُفْطِرُ خِيفَةً مِنْ ذَلِكَ ، وَهِيَ لَا تَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ اسْتِحْلَالًا فَتَكْفُرُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهَا عَلَى اعْتِقَادِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ مُرْتَكِبَةٌ لِمَعْصِيَةٍ كُبْرَى يَجِبُ عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : التَّوْبَةُ ، وَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ وَتُؤَدَّبُ إنْ عَثَرَ عَلَيْهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فَيَحْتَاجُ الْعَالِمُ أَنْ يَتَبَتَّلَ لِتَعْلِيمِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِلْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ إلَى قَوْلِهِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ فَسَوَّى بَيْنَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ ، وَمَا زَالَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ تَجِدُ أَوْلَادَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ وَإِمَاءَهُمْ فِي غَالِبِ أَمْرِهِمْ مُشْتَرَكِينَ فِي هَذِهِ الْفَضَائِلِ كُلِّهَا .
أَلَا تَرَى إلَى بِنْتِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَنْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا وَكَانَ مِنْ أَحَدِ طَلَبَةِ وَالِدِهَا فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ أَخَذَ رِدَاءَهُ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ فَقَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ : إلَى أَيْنَ تُرِيدُ

فَقَالَ : إلَى مَجْلِسِ سَعِيدٍ أَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ فَقَالَتْ : لَهُ اجْلِسْ أُعَلِّمُكَ عِلْمَ سَعِيدٍ .
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ كَانَ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْمُوَطَّأَ فَإِنْ لَحَنَ الْقَارِئُ فِي حَرْفٍ ، أَوْ زَادَ ، أَوْ نَقَصَ تَدُقُّ ابْنَتُهُ الْبَابَ فَيَقُولُ أَبُوهَا لِلْقَارِئِ ارْجِعْ فَالْغَلَطُ مَعَك فَيَرْجِعُ الْقَارِئُ فَيَجِدُ الْغَلَطَ .
وَكَذَلِكَ مَا حُكِيَ عَنْ أَشْهَبَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَأَنَّهُ اشْتَرَى خَضِرَةً مِنْ جَارِيَةٍ وَكَانُوا لَا يَبِيعُونَ الْخَضِرَةَ إلَّا بِالْخُبْزِ فَقَالَ لَهَا : إذَا كَانَ عَشِيَّةً حِينَ يَأْتِينَا الْخُبْزُ فَائْتِينَا نُعْطِيك الثَّمَنَ فَقَالَتْ : ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَقَالَ لَهَا : وَلِمَ فَقَالَتْ : لِأَنَّهُ بَيْعُ طَعَامٍ بِطَعَامٍ غَيْرُ يَدٍ بِيَدٍ فَسَأَلَ عَنْ الْجَارِيَةِ فَقِيلَ لَهُ إنَّهَا جَارِيَةُ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كَانَ حَالُهُمْ وَإِنَّمَا عَيَّنْت مَنْ عَيَّنْت تَنْبِيهًا عَلَى مَنْ عَدَاهُمْ ، وَقَدْ كَانَ فِي زَمَانِنَا هَذَا سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَرَأَتْ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ الْخَتْمَةَ فَحَفِظَتْهَا .
وَكَذَلِكَ رِسَالَةُ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنِصْفُ الْمُوَطَّإِ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ ابْنَتَاهَا قَرِيبَانِ مِنْهَا فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي زَمَانِنَا فَمَا بَالُكَ بِزَمَانِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَحْمِلُ أَهْلَهُ وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ عَلَى طَلَبِ الْمَرَاتِبِ الْعَلِيَّةِ فَيَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ جُهْدَهُ فَإِنَّهُمْ آكَدُ رَعِيَّتِهِ وَأَوْجَبُهُمْ عَلَيْهِ وَأَوْلَاهُمْ بِهِ فَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

فَصْلٌ فِي آدَابِ الْأَكْلِ وَيَتَحَرَّزُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ طَعَامٌ خَاصٌّ بِهِ وَزُبْدِيَّةٌ خَاصَّةٌ بِهِ وَكُوزٌ خَاصٌّ بِهِ أَلَا تَرَى حَدِيثَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْت أَشْرَبُ مِنْ الْإِنَاءِ فَيَأْخُذُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْرَبُ مِنْهُ فَيَضَعُ فَاهُ فِي مَوْضِعِ فِي انْتَهَى .
وَهَذَا تَشْرِيعٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِتَغْتَنِمَ أُمَّتُهُ بَرَكَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَتَكُونُ مَنْفَعَتُهُمْ عَامَّةً بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ .
وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُؤْرُ الْمُؤْمِنِ شِفَاءٌ فَيُحْرَمُ الْمِسْكِينُ هَذِهِ الْبَرَكَةَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ انْتَهَى فَإِذَا كَانَ لَهُ طَعَامٌ خَاصٌّ بِهِ فَهُوَ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ نَفْسِهِ فَكَيْفَ بِالْعَالِمِ الَّذِي هُوَ إمَامُهُمْ وَقُدْوَتُهُمْ وَهَذِهِ دَسِيسَةٌ مِنْ دَسَائِسِ إبْلِيسَ دَسَّهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِوَاسِطَةِ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُنَّ يَجِدْنَ السَّبِيلَ إلَى إطْعَامِ الرَّجُلِ مَا يَخْتَرْنَ مِنْ السِّحْرِ وَغَيْرِهِ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ وَدِينِهِنَّ إذْ أَنَّهُنَّ مَصَائِدُ الشَّيْطَانِ وَغَيْرَتُهُنَّ تَحْمِلُهُنَّ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ يُشَارِكُهُنَّ فِي الْأَكْلِ مَا وَجَدَ إبْلِيسُ لِفَتْحِ هَذَا الْبَابِ مِنْ سَبِيلٍ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى شَيْنِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ تَجُرُّ إلَى مُحَرَّمَاتٍ ، وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ فَاعِلَهُ مُتَّصِفٌ بِالْكِبْرِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى النَّاسِ بِالتَّوَاضُعِ وَاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْأَكْلِ وَحْدَهُ لِمَا وَرَدَ شَرُّ النَّاسِ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ وَضَرَبَ عَبْدَهُ وَمَنَعَ رِفْدَهُ انْتَهَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ بِسَبَبِ حَمِيَّةٍ ، أَوْ مَرَضٍ ، أَوْ صَوْمٍ ، أَوْ وِصَالٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ

كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ قَدْ خَرَجَ هَذَا عَنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُخَلَّى مَنْ أَتَاهُ بِطَعَامٍ أَنْ يُذِيقَهُ مِنْهُ شَيْئًا مَا وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامٍ فَلْيُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ ، أَوْ أَكْلَةً ، أَوْ أَكْلَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ وَلِيَ عِلَاجَهُ انْتَهَى .
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقُوَّةِ بَاعِثِ الشَّهْوَةِ عَلَى الْخَادِمِ ، وَلَا فَرْقَ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ بَيْنَ الْخَادِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ ، أَوْ يَرَاهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ وَالْعَيْنَانِ تَنْظُرَانِ حَتَّى لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ هِرٌّ ، أَوْ كَلْبٌ فَقَدْ جَعَلَهُ الْعُلَمَاءُ دَاخِلًا فِي النَّهْيِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ مَنْ عَمِلَ لَهُ الطَّعَامَ ، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ فَلْيُنَاوِلْهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَكُونُ مَا يُنَاوِلُهُ مِنْ أَوَّلِهِ لَا مَنْ فَضْلَتِهِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الْأَكْلِ وَأَحَدٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ إذْ ذَاكَ فَإِنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ قَلَّ إنْ سَلِمَ مِنْ وُجُودِ الْكِبْرِ ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَفْعَلُ الْيَوْمَ هَذَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الذُّبَابُ كَثِيرًا فَيَقُومُ شَخْصٌ عَلَى رُءُوسِ الْآكِلِينَ فَيَنُشُّ عَلَيْهِمْ وَيُرَوِّحُ وَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ فَلْيَكُنْ فَاعِلُهُ جَالِسًا حَتَّى يَسْلَمَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ وَمِنْ الْخُيَلَاءِ وَالْكِبْرِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِمُ عَبْدَهُ ، أَوْ أَمَتَهُ ، أَوْ كَائِنًا مَنْ كَانَ

( فَصْلٌ ) فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ يَدُهُ نَظِيفَةً أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَتْ نَظِيفَةً فَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي الْغَسْلِ ، أَوْ التَّرْكِ ، وَالْغَسْلُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ الْتِزَامَهُ أَعْنِي الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ فَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِهِ شَيْءٌ ، أَوْ حَكَّ بَدَنَهُ ، أَوْ مَسَّ عَرَقَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهَا .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْغَسْلُ قَبْلَ الطَّعَامِ يَنْفِي الْفَقْرَ وَبَعْدَهُ يَنْفِي اللَّمَمَ يَعْنِي الْجُنُونَ وَيَنْوِي بِغَسْلِهِ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ ، وَهَذَا فِيمَا كَانَ لَهُ مِنْ الطَّعَامِ دَسَمٌ ، فَإِنْ يَكُنْ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَنْدَلُونَ بِأَقْدَامِهِمْ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لَهَا وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَرْفِيعِهِمْ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ فِي الْيَدِ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ مَا تَمَنْدَلُوا بِالْأَقْدَامِ ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِلَعْقِ الْيَدِ بَعْدَ الْأَكْلِ ، أَوْ يُلْعِقُهَا أَخَاهُ ، وَقَدْ أَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَصْعَةً بَقِيَ لُعَاقُهَا قَالَ فَلَعِقْتُهَا فَشَبِعْت ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ ، وَقَدْ رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ سَاعَةً ، ثُمَّ دَعَا بِالطَّعَامِ وَدَعَا بِالْوَضُوءِ لِغَسْلِ يَدِهِ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ ابْدَءُوا بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يَغْسِلُ فَقَالَ مَالِكٌ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَا يَغْسِلُ يَدَهُ فَاغْسِلْ أَنْتَ يَدَك فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ لِمَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ لَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَدْرَكْت عَلَيْهِ أَهْلَ بَلَدِنَا وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ ، وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ إيَّاكُمْ وَزِيَّ الْعَجَمِ

وَأُمُورَهَا ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إذَا أَكَلَ مَسَحَ يَدَهُ بِظَهْرِ قَدَمَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ أَفَتَرَى لِي تَرْكَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : إيْ وَاَللَّهِ فَمَا عَادَ عَبْدُ الْمَلِكِ إلَى ذَلِكَ انْتَهَى .

فَإِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى آدَابٍ مِنْهَا أَنْ يُشْعِرَ نَفْسَهُ فَيَنْظُرَ فِيمَا حَضَرَهُ كَمْ مِنْ عَالَمٍ عُلْوِيٍّ وَسُفْلِيٍّ خَدَمَهُ فِيهِ لِمَا قِيلَ : إنَّ الرَّغِيفَ لَا يَحْضُرُ بَيْنَ يَدَيْ آكِلِهِ حَتَّى يَخْدُمَ فِيهِ ثَلَثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ عَالِمًا عَلَى مَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ فَإِذَا أَشْعَرَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ فَيَعْلَمُ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي إحْضَارِ هَذَا الرَّغِيفِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُقَدِّرُ شُكْرَهَا بِأَنْ يَعْلَمَ مَا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ النِّعَمِ وَعَجْزَهُ عَنْ شُكْرِهَا .
ثُمَّ الْأَكْلُ فِي نَفْسِهِ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ : وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ ، فَالْوَاجِبُ مَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ لِأَدَاءِ فَرْضِ رَبِّهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَالْمَنْدُوبُ مَا يُعِينُهُ عَلَى تَحْصِيلِ النَّوَافِلِ وَعَلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الطَّاعَاتِ ، وَالْمُبَاحُ الشِّبَعُ الشَّرْعِيُّ وَالْمَكْرُوهُ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ قَلِيلًا وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ ، وَالْمُحَرَّمُ الْبِطْنَةُ وَهُوَ الْأَكْلُ الْكَثِيرُ الْمُضِرُّ لِلْبَدَنِ وَرُتْبَةُ الْعَالِمِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَكْلِ الْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ ، وَقَدْ سَبَقَ حَدُّهُمَا فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ فَلْيَقُلْ عِنْدَهُ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ قَبْلَ التَّسْمِيَةِ أَوْ مَعَهَا كَيْفِيَّةَ السُّلُوكِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَكْلِهِ فَيَنْوِيَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَكْلِهِ ذَلِكَ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ انْتَهَى .
وَيُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ الِافْتِقَارِ وَالْحَاجَةِ وَالْإِضْرَارِ وَالْمَسْكَنَةِ مَعَ نِيَّةِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ الْمُتَقَدِّمِي الذِّكْرِ فِي التَّقْسِيمِ ، وَنَوْعٌ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالتَّعَلُّقِ بِمَوْلَاهُ

وَالشُّكْرِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِ فِي أَكْلِهِ وَفِي تَخْلِيصِهِ مِنْ آفَةِ أَكْلِهِ فَإِنَّ لَهُ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالطَّعَامِ وَآخَرَ بِالشَّرَابِ فَإِذَا أَخَذَ لُقْمَةً سَوَّغَهَا لَهُ الْمَلَكُ وَمِثْلُهُ فِي الشَّرَابِ ، فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ يَشْرَقُ تَخَلَّى عَنْهُ الْمَلَكُ بِإِذْنِ رَبِّهِ حَتَّى يَنْفُذَ فِيهِ مَا قُدِّرَ عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي تَسْوِيغِ هَذِهِ اللُّقْمَةِ وَالشَّرْبَةِ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُفَكِّرُ فِي حَالِهِ حِينَ الْأَكْلِ إذْ أَنَّهُ مُتَوَقَّعٌ لِلْمَوْتِ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ وَفِي كُلِّ شَرْبَةٍ ، وَكَثِيرٌ مَنْ جَرَى لَهُ ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى فِي مَجْلِسِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ قَالَ : إنَّ اللَّهَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ بِالنِّعَمِ قَتَلَ بِالنِّعَمِ وَلَوْ كَانَ مَا كَانَ ، أَوْ كَمَا قَالَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ أَيَقْتُلُ بِالزُّبْدِ فَقَالَ نَعَمْ فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ الْمَجْلِسِ قَالَ : مَا أَتَغَدَّى الْيَوْمَ إلَّا بِالزُّبْدِ حَتَّى أَرَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ أَأَحَدٌ يَمُوتُ بِالزُّبْدِ فَأَخَذَ خُبْزًا وَزُبْدًا وَجَاءَ إلَى بَيْتِهِ فَرَفَعَ لُقْمَةً فَأَكَلَهَا فَشَرِقَ بِهَا فَمَاتَ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ طَلَبَ أَهْلَ الْكِتَابِ لِلْمُبَاهَلَةِ فَامْتَنَعُوا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ فَعَلُوا لَمَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرِيقِهِ ، أَوْ كَمَا قَالَ : فَإِذَا كَانَ الْمَوْتُ مُتَوَقَّعًا مَعَهُ فِي حَالِ بَلْعِهِ رِيقَهُ فَمَا بَالُكَ بِاللُّقْمَةِ ، أَوْ الشَّرْبَةِ ، وَالْمَوْتُ مُتَوَقَّعٌ مَعَهُ فِي حَالِ طَلَبِهِ لِلْحَيَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ فِي غَالِبِ الْحَالِ لَا يَطْلُبُهُمَا النَّاسُ إلَّا لِلْحَيَاةِ ، وَقَدْ يَمُوتُ بِهِمَا فَنَفْسُ سَبَبِ الْحَيَاةِ يُخَافُ مِنْهُ الْمَوْتُ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إنَّ الْمَلَكَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ اللُّقْمَةَ وَالْآخَرَ الَّذِي يَتَنَاوَلُ الشَّرْبَةَ

وَظِيفَتُهُمَا التَّسْوِيغُ لَيْسَ إلَّا وَلَهُ مَلَكٌ آخَرُ مُوَكَّلٌ بِالْغِذَاءِ فَيَقْسِمُ قُوتَهُ عَلَى الْبَدَنِ فَيُرْسِلُ لِكُلِّ عُضْوٍ وَجَارِحَةٍ وَعِرْقٍ مَا يَصْلُحُ لَهُ وَيَحْتَمِلُهُ بَعْدَ تَصْفِيَتِهِ فَيُعْطَى اللَّطِيفُ لَطِيفًا وَالْكَثِيفُ كَثِيفًا قُدْرَةُ قَادِرٍ ، وَمَلَكٌ آخَرُ يَأْخُذُ مَا لَا قُوتَ فِيهِ وَهُوَ الْفَضْلَةُ فَيُرْسِلُهُ لَلْمُصْرَانِ فَلَوْ بَقِيَ مَعَهُ ذَلِكَ الثُّفْلُ لَمَاتَ بِهِ ، أَوْ زَادَ خُرُوجُهُ عَلَى الْعَادَةِ لَمَاتَ فَهُوَ عَبْدٌ مُفْتَقِرٌ مُضْطَرٌّ مُحْتَاجٌ إلَى شَيْءٍ يَأْكُلُهُ وَإِلَى مَنْ يُسَوِّغُهُ لَهُ وَإِلَى مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْهُ .
فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَرَقَّبَ الْمَوْتَ عِنْدَ كُلِّ نَفَسٍ ؛ لِأَنَّ أَنْفَاسَهُ عَلَيْهِ مَعْدُودَةٌ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا نَعُدُّ عَلَيْهِمْ الْأَنْفَاسَ فَتَصِيرُ كَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى شَيْخِهِ لِيَزُورَهُ قَالَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَوَجَدْته يُصَلِّي فَأَوْجَزَ فِي صَلَاتِهِ وَقَالَ لِي مَا حَاجَتُك فَإِنِّي مَشْغُولٌ فَقُلْت لَهُ وَمَا شَغَلَك ؟ قَالَ أُبَادِرُ خُرُوجَ رُوحِي وَقَالَ غَيْرُهُ جِئْت إلَى شَيْخِي لِأُسَلِّمَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ فَسَلَّمْت عَلَيْهِ فَرَأَى فِي كِسَائِي عُقْدَةً فَقَالَ مَا هَذِهِ فَقُلْت أَخِي فُلَانٌ أَعْطَانِي لُوَيْزَاتٍ عَزَمَ عَلَيَّ أَنْ أُفْطِرَ عَلَيْهَا فَقَالَ لِي وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّك تَعِيشُ إلَى الْمَغْرِبِ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُك بَعْدَهَا أَبَدًا ، أَوْ كَمَا قَالَ .
وَكَمَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ فَوَجَدُوهُ يَتَلَفَّتُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَقَالُوا لَهُ لِمَنْ أَنْتَ تَتَلَفَّتُ قَالَ لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَنْظُرُ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يَأْتِي لِقَبْضِ رُوحِي

وَلِمَصَالِحِ الْإِنْسَانِ مَلَائِكَةٌ عَدِيدَةٌ غَيْرُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِحِفْظِهِ وَحِرَاسَتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا نَامَ فَهُوَ مَحْرُوسٌ مِنْ الْخَشَاشِ وَالْجَانِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِحِرَاسَتِهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَمْرًا تَخَلَّوْا عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَمِنْ مُسْنَدِ ابْنِ قَانِعٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَكَّلَ اللَّهُ بِالْعَبْدِ سِتِّينَ وَثَلَاثَمِائَةِ مَلَكٍ يَذُبُّونَ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِالْبَصَرِ سَبْعَةُ أَمْلَاكٍ وَلَوْ وُكِلَ الْعَبْدُ إلَى نَفْسِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَاخْتَطَفَتْهُ الشَّيَاطِينُ انْتَهَى .
فَإِذَا نَظَرَ الْعَبْدُ إلَى هَذِهِ الْحِكَمِ تَبَيَّنَ لَهُ قَدْرُ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِ إذْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَحْفَظُهُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَتَحْرُسُهُ بَعْدَ الْمَمَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْحَفَظَةَ تَصْعَدُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَقُولُ يَا رَبَّنَا وَكَّلْتَنَا بِعَبْدِك فُلَانٍ ، وَقَدْ مَاتَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ ، أَوْ كَمَا قَالَ فَمَا نَفْعَلُ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْزِلَا إلَى قَبْرِهِ وَاعْبُدَانِي وَاكْتُبَا لَهُ ذَلِكَ فِي صَحِيفَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَانْظُرْ إلَى هَذِهِ الْمِنَّةِ الْعُظْمَى وَالْكَرْمِ الشَّامِلِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ يَا ذَا الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فِي حَالِ أَكْلِهِ وَكَيْفِيَّةِ أَمْرِهِ فَيَكُونُ مَشْغُولًا بِذَلِكَ التَّفَكُّرِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِيءُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَقِيَ أَكْلُهُمْ أَكْلَ الْمَرْضَى وَنَوْمُهُمْ نَوْمَ الْغَرْقَى فَيَكُونُ مُشْعِرًا نَفْسَهُ بِذَلِكَ مُتَهَيِّئًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَغَيْرِهَا .

وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ وَإِنْ كَانَ حَسَنًا فَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَلَا يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ إذْ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ فَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُشَرِّعُونَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّبِعِينَ ، وَكَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا وَرَدَ بِسْمِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَفْعَلَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَقُولُ فِي أَوَّلِ لُقْمَةٍ بِسْمِ اللَّهِ وَفِي الثَّانِيَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ وَفِي الثَّالِثَةِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، ثُمَّ يُسَمِّي بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ لُقْمَةٍ وَهَذَا مِثْلُ مَا سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ قِيلَ لَهُ كَيْفَ نَقُولُ فِي الرُّكُوعِ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ ، أَوْ سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ فَقَالَ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ وَبِحَمْدِهِ تَحَفُّظًا مِنْهُ عَلَى الِاتِّبَاعِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ إلَى مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ ذِكْرٌ حُسْنٌ لَكِنَّ الِاتِّبَاعَ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ أَبَدًا ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ وَهُوَ قَائِمٌ ، أَوْ مَاشٍ بَلْ حَتَّى يَجْلِسَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْسِنَ الْجُلُوسَ إلَى الطَّعَامِ عَلَى الْهَيْئَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ أَنْ يُقِيمَ رُكْبَتَهُ الْيُمْنَى وَيَضَعَ الْيُسْرَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْلِسَ عَلَيْهَا وَالْهَيْئَةُ الثَّانِيَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ يُقِيمُهُمَا مَعًا وَالْهَيْئَةُ الثَّالِثَةُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ يَجْلِسَ كَجُلُوسِهِ لِلصَّلَاةِ ، وَأَمَّا جُلُوسُ الْمُتَرَبِّعِ وَالْجَالِسِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ الْكَابِّ رَأْسَهُ عَلَى الطَّعَامِ فَهَاتَانِ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَإِنَّمَا كُرِهَ أَنْ يَكُبَّ رَأْسَهُ لِئَلَّا يَقَعَ شَيْءٌ مِنْ فَضَلَاتِ فَمِهِ فِي الطَّعَامِ سِيَّمَا إذَا كَانَ سُخْنًا فَيَعَافُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ وَيَعَافُهُ غَيْرُهُ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْعِمَامَةُ كَبِيرَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِ غَيْرِهِ

مِنْ مَدِّ يَدِهِ لِلْمَائِدَةِ ، أَوْ حَصْرِهَا وَكَفَى بِهَاتَيْنِ الْهَيْئَتَيْنِ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ فِيهِمَا .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا أَنَا فَلَا آكُلُ مُتَّكِئًا ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْسَبُ أَكْثَرُ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمُتَّكِئَ هُوَ الْمَائِلُ الْمُعْتَمِدُ عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ لَا يَعْرِفُونَ غَيْرَهُ ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَتَأَوَّلُ هَذَا الْكَلَامَ عَلَى مَذْهَبِ الطِّبِّ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَدَنِ إذْ كَانَ مَعْلُومٌ أَنَّ الْآكِلَ مَاثِلًا عَلَى أَحَدِ شِقَّيْهِ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ ضَغْطٍ يَنَالُهُ فِي مَجَارِي طَعَامِهِ ، وَلَا يُسِيغُهُ ، وَلَا يَسْهُلُ نُزُولُهُ إلَى مَعِدَتِهِ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَلَيْسَ مَعْنَى الْحَدِيثِ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْمُتَّكِئُ هَا هُنَا هُوَ الْمُعْتَمِدُ عَلَى الْوِطَاءِ الَّذِي تَحْتَهُ وَكُلُّ مَنْ اسْتَوَى قَاعِدًا عَلَى وِطَاءٍ فَهُوَ مُتَّكِئٌ وَالِاتِّكَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوِكَاءِ وَوَزْنُهُ الِافْتِعَالُ وَمِنْهُ الْمُتَّكِئُ وَهُوَ الَّذِي أَوْكَأَ مُقْعَدَتَهُ وَشَدَّهَا بِالْقُعُودِ عَلَى الْوِطَاءِ الَّذِي تَحْتَهُ ، وَالْمَعْنَى إنِّي إذَا أَكَلْت لَمْ أَقْعُدْ مُتَّكِئًا عَلَى الْأَوْطِئَةِ وَالْوَسَائِدِ فِعْلُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَيَتَوَسَّعَ فِي الْأَلْوَانِ وَلَكِنِّي آكُلُ عَلَقَةً وَآخُذُ مِنْ الطَّعَامِ بُلْغَةً فَيَكُونُ قُعُودِي مُتَوَفِّزًا لَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْعُدُ مُقْعِيًا وَيَقُولُ : أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ انْتَهَى .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ الْمُقْعِي هُوَ الَّذِي يُلْصِقُ أَلْيَتَهُ بِالْأَرْضِ وَيَنْصِبُ سَاقَيْهِ انْتَهَى ، وَالسُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ بِيَدِهِ ، وَلَا يُدْخِلَ أَصَابِعَهُ فِي فَمِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّهَا إلَى الْقَصْعَةِ فَإِنَّهُ يُصِيبُهَا شَيْءٌ مِنْ لُعَابِهِ فَيَعَافُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ ، أَوْ يَعَافُهُ غَيْرُهُ مِمَّنْ يَرَاهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ

جَاهِلًا ، أَوْ نَاسِيًا فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ وَحِينَئِذٍ يَعُودُ إنْ لَمْ يَكُنْ اكْتَفَى مِنْ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ لَعْقَ الْأَصَابِعِ إنَّمَا شُرِعَ بَعْدَ الطَّعَامِ خَوْفًا مِنْ الِاسْتِقْذَارِ وَحِفْظًا لِنَعَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ تُمْتَهَنَ وَطَرَدُوا ذَلِكَ حَتَّى فِي التَّمْرِ قَالُوا : إنَّهُ إذَا أَكَلَ التَّمْرَ يَأْخُذُ نَوَاةَ التَّمْرِ عَلَى ظَهْرِ يَدِهِ فَيُلْقِيهَا ، أَوْ يُلْقِيهَا بِفِيهِ خِيفَةً مِنْ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ النَّوَاةَ مِنْ فِيهِ بِبَاطِنِ أَصَابِعِهِ أَنْ يَتَعَلَّقَ لُعَابُهُ بِالتَّمْرَةِ الَّتِي يَرْفَعُهَا ثَانِيًا ، وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا لَهُ نَوًى وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ حَتَّى يَمَسَّهُ الْجُوعُ ، وَلَا يَأْكُلَ بِالْعَادَةِ دُونَ أَنْ يَجِدَهُ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَطِيبَ لَهُ الْخُبْزُ وَحْدَهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَذُمَّ طَعَامًا لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ذَمَّ طَعَامًا قَطُّ إنْ أَعْجَبَهُ أَكَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَعْجِلَ عَلَى الْأَكْلِ إذَا كَانَ الطَّعَامُ سُخْنًا لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ رُفِعَتْ الْبَرَكَةُ مِنْ ثَلَاثٍ الْحَارِّ وَالْغَالِي وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ اللَّهَ لَمْ يُطْعِمْنَا نَارًا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ بِهَذِهِ الْمَلَاعِقِ ، وَلَا بِغَيْرِهَا وَذَلِكَ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : مُخَالَفَةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُدْخِلُ ذَلِكَ فِي فَمِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّهُ إلَى الطَّعَامِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ عِلَّةُ الْمَنْعِ .
وَالثَّالِثُ : فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الرَّفَاهِيَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَأَرْبَابُ الْأَعْذَارِ لَهُمْ حُكْمٌ خَاصٌّ بِهِمْ مَعْلُومٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْحَدِيثَ عَلَى الطَّعَامِ فَإِنَّ تَرْكَهُ عَلَى الطَّعَامِ بِدْعَةٌ ، وَلَا يُكْثِرُ مِنْهُ فَإِنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ بِدْعَةٌ أَيْضًا وَلِأَنَّهُ قَدْ يَشْغَلُ غَيْرَهُ عَنْ الْأَكْلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدْعِيَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الْكَلَامَ ، فَإِنَّ الْأُنْسَ بِالْكَلَامِ جَانِبٌ قَوِيٌّ مِنْ الْقِرَى .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَمْزَحَ عَلَى الْأَكْلِ خِيفَةَ أَنْ يَشْرَقَ هُوَ ، أَوْ غَيْرُهُ ، أَوْ يَشْتَغِلَ عَنْ ذِكْرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اسْتِحْضَارِ ذِكْرِ اللَّهِ وَشُكْرِ النِّعَمِ وَذِكْرِ الْمَوْتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا قَدَرَ عَلَى تَكْثِيرِ الْأَيْدِي عَلَى الطَّعَامِ فَعَلَ لِمَا وَرَدَ أَنَّ خَيْرَ الطَّعَامِ مَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ الْأَيْدِي وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَجْمِعُوا طَعَامَكُمْ يُبَارَكُ لَكُمْ فِيهِ وَلِمَا رُوِيَ مَنْ أَكَلَ مَعَ مَغْفُورٍ غُفِرَ لَهُ وَهَذَا فِيهِ وَجْهَانِ مِنْ الْفَوَائِدِ : أَحَدُهُمَا : بَرَكَةُ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ .
وَالثَّانِي : كَثْرَةُ الْبَرَكَةِ لِوُجُودِ الْمَلَائِكَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَرَكَةَ تَحْصُلُ فِي الطَّعَامِ إذَا حَضَرَهُ

وَاحِدٌ مِنْ الْمُبَارَكِينَ ، أَوْ أَكَلَ مِنْهُ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ مَلَائِكَةٌ مَعَهُ فَبِقَدْرِ عَدَدِ الْجَمَاعَةِ تَتَضَاعَفُ الْمَلَائِكَةُ وَمَهْمَا كَثُرَ عَلَيْهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ ذُنُوبٌ كَانَتْ الْبَرَكَةُ فِيهِ أَكْمَلَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَكْلُهُ مِنْ الطَّعَامِ ثُلُثَ بَطْنِهِ وَلِلْمَاءِ الثُّلُثُ وَلِلنَّفَسِ الثُّلُثُ فَهُوَ مِنْ الْآدَابِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَلْعَقَ الْإِنَاءَ إذَا فَرَغَ الطَّعَامُ مِنْهُ لِمَا ذُكِرَ أَنَّ الْقَصْعَةَ تَسْتَغْفِرُ لِلَاعِقِهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شَبِعَ الشِّبَعَ الشَّرْعِيَّ فَإِنَّهُ يَتْرُكُ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَجُوعَ فَيَلْعَقَهَا ، أَوْ يَأْتِيَ غَيْرَهُ مُحْتَاجًا فَيَلْعَقَهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يُلْقِمَ زَوْجَتَهُ اللُّقْمَةَ وَاللُّقْمَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ عَبِيدِهِ وَإِمَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَخَدَمِهِ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ أَصْهَارًا كَانُوا ، أَوْ ضُيُوفًا ، أَوْ أَصْدِقَاءَ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى اللُّقْمَةُ يَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِهِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ مَعَ أَنَّ وَضْعَ اللُّقْمَةِ فِي فِي امْرَأَتِهِ لَهُ فِيهَا اسْتِمْتَاعٌ فَغَيْرُهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى الَّذِي هُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ ذَلِكَ إلَّا لِلَّهِ خَالِصًا ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْتَسِبَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَعْنِي إحْضَارَ الطَّعَامِ وَالْإِطْعَامِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إذَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ يَحْتَسِبُهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الثَّوَابُ ابْتِدَاءً لَكِنْ لَمَّا أَنْ زَادَ هَذَا نِيَّةَ الِاحْتِسَابِ جَعَلَ لَهُ فِي مُقَابَلَةِ الِاحْتِسَابِ صَدَقَةً ، فَإِنْ اسْتَحْضَرَ مَعَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ كَانَ لَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ مَغْفِرَةُ مَا تَقَدَّمَ كَمَا مَرَّ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَغِّرَ اللُّقْمَةَ وَيُكْثِرَ الْمَضْغَةَ لِلسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ فِي أَوَّلِ اللُّقْمَةِ أَنْ يَبْدَأَ فِي مَضْغِهَا بِنَاحِيَةِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ هِيَ السُّنَّةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَبَعْدَ ذَلِكَ يَأْكُلُ كَيْفَ شَاءَ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ شَابًّا جَاءَ لِزِيَارَتِهِ فَقَدَّمَ لَهُ شَيْئًا لِلْأَكْلِ فَابْتَدَأَ الْأَكْلَ بِجِهَةِ الْيَسَارِ فَقَالَ لَهُ مَنْ شَيْخُك فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدِي إنَّ نَاحِيَةَ الْيَمِينِ تُوجِعُنِي فَقَالَ لَهُ كُلْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْك وَعَمَّنْ رَبَّاك ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى يُقَالُ : إنَّ الشَّخْصَ إذَا وَرَدَ يُعْرَفُ فِي تَصَرُّفِهِ مَنْ هُوَ فَإِنْ كَانَتْ حَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ عَلَى السُّنَّةِ عُرِفَ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ مِنْ الْعَوَامّ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ فِي كَمْ يَعْرِفُ الشَّخْصَ قَالَ إنْ سَكَتَ فَمِنْ يَوْمِهِ وَإِنْ نَطَقَ فَمِنْ حِينِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا ذُكِرَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ إلَّا مِمَّا يَلِيه اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَكْلُ مَعَ أَهْلِهِ ، أَوْ هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ فَلَهُ أَنْ يَجُولَ بِيَدِهِ حَيْثُ شَاءَ .
وَكَذَلِكَ فِي الْفَاكِهَةِ وَالتَّمْرِ عُمُومًا مَعَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ سَوَاءٌ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ وَسَطِ الْقَصْعَةِ ، وَلَا أَعْلَاهَا بَلْ مِنْ جَانِبِهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَإِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ اللُّقْمَةُ أَمَاطَ عَنْهَا الْأَذَى وَأَكَلَهَا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْرِنَ فِي التَّمْرِ وَمَا أَشْبَهَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ لُقْمَةً حَتَّى يَبْتَلِعَ مَا قَبْلَهَا فَإِنَّ أَخْذَهَا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ مِنْ الشَّرَهِ وَالْبِدْعَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَى الْآكِلِينَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْثِرَ غَيْرَهُ وَيَتْرُكَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، فَلِهَذِهِ الْمُصْلِحَةِ يَتَفَقَّدُ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَيَأْمُرُهُ بِالْأَكْلِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُصَوِّتَ بِالْمَضْغِ ، فَإِنْ ذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمَكْرُوهٌ كَمَا لَا يُصَوِّتُ بِمَجِّ الْمَاءِ مِنْ الْمَضْمَضَةِ حِينَ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ وَمَكْرُوهٌ أَيْضًا .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ عَدَمَ الرِّيَاءِ فِي الْأَكْلِ ؛ لِأَنَّ مَنْ رَاءَى فِي أَكْلِهِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَائِيَ فِي عَمَلِهِ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَصْحَابَهُ أَثْنَوْا عَلَى شَخْصٍ بَيْنَ يَدَيْهِ مِرَارًا وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَرُدُّ جَوَابًا فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ سُكُوتِهِ فَقَالَ : رَأَيْتُهُ يُرَائِي فِي أَكْلِهِ وَمَنْ رَاءَى فِي أَكْلِهِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ أَنْ يُرَائِيَ فِي عَمَلِهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَخَذَ لُقْمَةً لَا يَرُدُّ بَعْضَهَا إلَى الصَّحْفَةِ خِيفَةً مِنْ إصَابَةِ لُعَابِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا وَلَكِنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْعَالِمِ فِي الْأَكْلِ رُتْبَتَيْنِ قَدْ ذَكَرْنَاهُمَا قَبْلُ فَإِذَا كَانَتْ الْأَلْوَانُ اسْتَدْعَى ذَلِكَ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى رُتْبَتَيْهِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ لَوْنٍ شَهْوَةً بَاعِثَةً غَالِبًا فَإِنْ كَانَ عَمَلُ الْأَلْوَانِ لِأَجْلِ شَهْوَةِ عِيَالِهِ ، أَوْ غَيْرِهِمْ فَلَهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ لَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَوْنًا وَاحِدًا مِنْ الطَّعَامِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الِاتِّبَاعِ وَبَيْنَ شَهْوَةِ مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَدَّمَ إلَيْهِ أَلْوَانَ طَعَامٍ فَفَرَّغَ الْجَمِيعَ فِي صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ خَلَطَهَا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَكَلَ تَحَفُّظًا مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَابِلَ الْأَطْعِمَةَ فَيَأْكُلُ ثَقِيلًا بِخَفِيفٍ وَرَطْبًا بِيَابِسٍ وَحَارًّا بِبَارِدٍ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْسِمَ الصَّائِمُ أَكْلَهُ بَيْنَ الْفُطُورِ وَالسُّحُورِ فَيَسْلَمُ مِنْ الشِّبَعِ وَيَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُتَابِعَ الشَّهَوَاتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي الْأَكْلِ ، وَعَلَامَتُهُ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ وَهُوَ يَشْتَهِيهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْهَشَ الْبِضْعَةَ وَيَرُدَّهَا فِي الْقَصْعَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُسْتَقْذَرٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْكُلَ عَلَى حَائِلٍ عَنْ الْأَرْضِ ، وَلَا يَأْكُلُ عَلَى هَذِهِ الْأَخْوِنَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ وَفِيهَا نَوْعٌ مِنْ الْكِبْرِ .
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ أَنَّ أَوَّلَ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ أَرْبَعٌ وَهِيَ الْمُنْخُلُ وَالْخُوَانُ وَالْأُشْنَانُ وَالشِّبَعُ انْتَهَى .
أَمَّا الْمُنْخُلُ فَإِنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمَطْحُونُ بِالْيَدِ ، أَوْ بِرَحَى الْمَاءِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْخُلَ بِدْعَةٌ إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ إلَّا مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّحِينُ بِالدَّوَابِّ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنْخُلَ يَتَعَيَّنُ إنْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ رَوْثِ الدَّوَابِّ ، وَأَمَّا الْخُوَانُ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَفِي بَعْضِهَا يَأْكُلُ عَلَى سُفْرَةٍ .
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الْخُوَانَ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَهُوَ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ جِنْسُهُ مِنْ نُحَاسٍ ، أَوْ خَشَبٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمُتَّبِعِينَ إذَا جَاءَتْهُ زُبْدِيَّةٌ لَهَا قَعْرٌ مُرْتَفِعٌ يَكْسِرُ قَعْرَهَا وَحِينَئِذٍ يَأْكُلُ مِنْهَا وَيَقُولُ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ خُوَانًا لِعُلُوِّهَا عَنْ الْأَرْضِ فَنَقَعُ فِي التَّشَبُّهِ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَأَمَّا الْأُشْنَانُ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي أَرْضِ مِصْرَ ، أَوْ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّ لُحُومَهَا لَيْسَتْ فِيهَا ذَفْرَةٌ

بَلْ لَهَا رَائِحَةٌ عِطْرِيَّةٌ كَالْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ وَبِلَادِ الْمَغْرِبِ وَغَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ فِي دِيَارِ مِصْرَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَظِّفَ يَدَيْهِ مِنْ ذَفَرِ لُحُومِهَا ، وَلَكِنْ لَا يَتَعَيَّنُ الْأُشْنَانُ فَيَسْتَغْنِي بِغَيْرِهِ مَا اسْتَطَاعَ تَحَفُّظًا عَلَى السُّنَّةِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى غَسْلِهِ بِهِ فَعَلَ ، وَأَمَّا الشِّبَعُ فَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَرَاتِبُ الْأَكْلِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْعَالِمُ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ

، فَإِذَا أَكَلَ مَعَ الضَّيْفِ فَلَهُ زِيَادَةُ آدَابٍ مِنْهَا أَنْ يَخْدُمَ الضَّيْفَ بِنَفْسِهِ إنْ اسْتَطَاعَ وَيَنْوِيَ بِذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَلَّى أَمْرَ أَصْحَابِ النَّجَاشِيِّ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ فَقِيلَ لَهُ أَلَا نَكْفِيكَ فَقَالَ خَدَمُوا أَصْحَابِي فَأُرِيدُ أَنْ أُكَافِئَهُمْ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ يَتَوَلَّى بِنَفْسِهِ صَبَّ الْمَاءِ عَلَى يَدِ الضَّيْفِ حِينَ غَسْلِ يَدَيْهِ ، وَيُقَدِّمَ لَهُ مَا حَضَرَ وَلْيَحْذَرْ التَّكَلُّفَ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ إلَى التَّبَرُّمِ بِالضَّيْفِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ بَلْ هُوَ قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ ، وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ مَنْ دَعَا أَنْ يُقَدِّمَ لَهُمْ مَا عِنْدَهُ مُعَجِّلًا ، وَلَا يُبْطِئُ لِيَتَكَثَّرَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَخَيَّرَ الْمَدْعُوُّ عَلَى الدَّاعِي إنَّمَا يَأْكُلُ مَا حَضَرَ وَيَنْبَغِي إنْ خُيِّرَ الْمَدْعُوُّ أَنْ لَا يَتَشَطَّطَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَكَلُّفٌ وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى مَنْ خَيَّرَهُ ، وَالتَّكَلُّفُ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ شَيْئًا بِالدَّيْنِ ، وَلَيْسَ لَهُ جِهَةٌ يُعَوِّضُ مِنْهَا ، أَوْ يَكُونُ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ الدَّيْنَ مُتَكَرِّهًا لِمَا يَبْذُلُ لَهُ ، أَوْ يَكُونُ الْمُتَدَايِنُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْذُلَ وَجْهَهُ فِي أَخْذِ الدَّيْنِ ، فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ هُوَ التَّكَلُّفُ الْمَمْنُوعُ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الدَّيْنُ يُسَرُّ بِذَلِكَ وَالْآخَرُ يُدْخِلُ عَلَيْهِ السُّرُورَ مَعَ كَوْنِ الْوَفَاءِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ التَّكَلُّفِ فِي شَيْءٍ ، وَمَا أَعَزَّهُ إذَا كَانَ لِلَّهِ خَالِصًا بَلْ هَذَا النَّوْعُ مَفْقُودٌ فِي زَمَانِنَا هَذَا .

وَيَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ أَنْ لَا يُعْطِيَ مِنْ الطَّعَامِ لِأَحَدٍ شَيْئًا إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْمَنْزِلِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ مَا تَيَسَّرَ لَهُمْ أَخْذُهُ فَيَخْتَلِسُونَهُ وَيَجْعَلُونَهُ تَحْتَهُمْ حَتَّى إذَا رَجَعُوا إلَى بُيُوتِهِمْ أَخْرَجُوهُ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ السَّرِقَةِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .
وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ مَنْ دُعِيَ وَأُحْضِرَ الطَّعَامُ فَلَا يُنْتَظَرُ مَنْ غَابَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْضِرَ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْحِفَ بِأَهْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَلْوَانًا ؛ لِأَنَّ الضَّيْفَ لَهُ حُكْمٌ آخَرُ غَيْرُ حُكْمِ أَهْلِ الْبَيْتِ إذْ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا الْأَلْوَانَ فِي عِدَّةِ أَيَّامٍ بِخِلَافِ الضُّيُوفِ فَقَدْ لَا يُقِيمُونَ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ شَهْوَةُ بَعْضِ الضُّيُوفِ فِي لَوْنٍ ، وَآخَرُ شَهْوَتُهُ فِي آخَرَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْأَلْوَانُ لِهَذَا الْغَرَضِ فَهُوَ صَحِيحٌ وَلَهُ فِي ذَلِكَ جَزِيلُ الثَّوَابِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْجَمِيعِ وَفِي إدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَدْ عُلِمَ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ إذَا جَاءَهُ الْأَضْيَافُ يُقَدِّمُ لَهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَا يَقُومُ بِنَفَقَتِهِ شَهْرًا ، أَوْ نَحْوَهُ فَيُقَالُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ : قَدْ وَرَدَ أَنَّ بَقِيَّةَ الضَّيْفِ لَا حِسَابَ عَلَى الْمَرْءِ فِيهَا فَكَانَ لَا يَأْكُلُ إلَّا فَضْلَةَ الضُّيُوفِ لِأَجْلِ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَرُوحَ عَلَيْهِمْ صَاحِبُ الْبَيْتِ ، أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَكَذَلِكَ يَنُشُّ ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ قَائِمًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِيهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ .

وَيَنْبَغِي لِمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يَأْكُلُونَ أَنْ لَا يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ لِمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ أَرْبَعَةً لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ جَوَابًا .
الْآكِلُ وَالْجَالِسُ لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ وَالْمُؤَذِّنُ وَالْمُلَبِّي وَزَادَ بَعْضُ النَّاسِ قَارِئَ الْقُرْآنِ .

وَيَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْبَيْتِ ، أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ مَقَامَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَكْلِ إينَاسًا لِلضُّيُوفِ فَيُؤَاكِلُهُمْ ، وَلَا يُمْعِنُ فِي الْأَكْلِ حَتَّى إذَا شَبِعَ الْأَضْيَافُ ، أَوْ قَارَبُوا حِينَئِذٍ يَأْكُلُ بِانْشِرَاحٍ وَيَعْزِمُ عَلَيْهِمْ بِالْأَكْلِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ بَقِيَ بَعْضُهُمْ بِدُونِ شِبَعٍ ، وَقَدْ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ رَجُلٌ مِنْ التُّجَّارِ فَكَانَ يَعْمَلُ الطَّعَامَ الشَّهِيَّ فِي بَيْتِهِ وَيَجْمَعُ الْفُقَرَاءَ فَيَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَيْدِيهِمْ حَتَّى غَسْلِهَا ، وَيُقَدِّمُ لَهُمْ الطَّعَامَ ، فَإِذَا شَبِعُوا قَعَدَ يَأْكُلُ وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ اشْتَهَتْ نَفْسِي هَذَا الطَّعَامَ فَجَعَلْت كَفَّارَةَ شَهْوَتِهَا أَنْ تَأْكُلُوهُ قَبْلِي فَإِذَا فَرَغَ مِنْ غَسْلِ أَيْدِيهِمْ وَقَفَ لَهُمْ عَلَى الْبَابِ وَدَفَعَ لِكُلِّ وَاحِدٍ شَيْئًا مِنْ الْفِضَّةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْخُبْزَ قَبْلَ الْأُدْمِ ، ثُمَّ يَأْتِي بِالْأُدْمِ بَعْدَهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ غَيْرَ مُتَطَلِّعَةٍ لِشَيْءٍ يَبْقَى بَعْدَ الْأَضْيَافِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شِيَمِ النَّاسِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَصِفَ طَعَامًا لِلْحَاضِرَيْنِ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدْخُلُ التَّشْوِيشُ بِذَلِكَ عَلَى بَعْضِهِمْ .
وَيَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ إنْ كَانَ عِنْدَهُ الْخَبَرُ بِالدَّعْوَةِ أَنْ يُصْبِحَ مُفْطِرًا فَهُوَ أَفْضَلُ وَذَلِكَ فِقْهٌ حَالٌّ ، فَإِذَا حَضَرَ الْمَدْعُوُّ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِنْدَهُ الْخَبَرُ وَكَانَ صَائِمًا فَلْيَدَعْ .
وَيَنْبَغِي لِلْمَدْعُوِّ أَنْ لَا يَسْتَحْقِرَ مَا دُعِيَ إلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْت وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ الضَّيْفَ فِي أَثْنَاءِ أَكْلِهِ وَيَجْعَلَ خِيَارَ الطَّعَامِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَا يُحْوِجُهُ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحْيِ مِنْ ذَلِكَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الضَّيْفُ فِيهِ مِنْ الْإِدْلَالِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ

فَلَا بَأْسَ بِتَرْكِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ وَفَرْقَدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حَضَرَا عَلَى طَعَامٍ فَكَانَ فَرْقَدٌ يَلْتَقِطُ اللُّبَابَ مِنْ الْأَرْضِ وَيَأْكُلُهُ ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْ الصَّحْفَةِ شَيْئًا ، وَكَانَ الْحَسَنُ يَنْظُرُ إلَى أَطْيَبِ الطَّعَامِ فَيَأْكُلُهُ ، فَلَمَّا أَنْ خَرَجَا جَاءَ إنْسَانٌ مِنْ الْحَاضِرِينَ إلَى فَرْقَدٍ فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ مَا رَأَى مِنْهُ فَقَالَ : لَهُ أَغْتَنِمُ بَرَكَةَ سُؤْرِ الْإِخْوَانِ وَلِأُكْرِمَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنِّي إنْ لَمْ أَلْتَقِطْ ذَلِكَ قَدْ يَقَعُ عَلَى الْأَرْضِ فَتَدُوسُهُ الْأَقْدَامُ ، ثُمَّ رَاحَ إلَى الْحَسَنِ فَسَأَلَهُ كَمَا سَأَلَ فَرْقَدًا فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي مَا أَجَبْتُهُ حِينَ دَعَانِي إلَّا لِأُدْخِلَ السُّرُورَ عَلَيْهِ وَكَيْفَمَا بَالَغْت فِي الْأَكْلِ وَتَنَاوَلْت أَطَايِبَ الطَّعَامِ الَّذِي انْتَخَبَهُ فَفِيهِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِ أَكْثَرَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَفَقَّدَ مَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ فَرْقَدٍ فِي أَكْلِهِ فَيُؤَكِّدُ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ الْحَسَنِ فِي ذَلِكَ فَيُسَرُّ بِهِ وَيَشْكُرُهُ عَلَى ذَلِكَ .

وَيَنْبَغِي إذَا حَضَرَ الْخُبْزُ بَيْنَ يَدَيْ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَنْتَظِرُونَ غَيْرَهُ مِنْ الْأُدْمِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ عَدَمَ احْتِرَامٍ لِلْخُبْزِ ، وَاحْتِرَامُهُ مَطْلُوبٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، فَإِنْ كَانَ الْخُبْزُ كَثِيرًا أَبْقَاهُ عَلَى حَالِهِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَسَّرَهُ ، وَإِنْ كَسَّرَهُ مَعَ كَثْرَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ سَتْرًا عَلَى الْآكِلِينَ كُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ وَتَكْسِيرُ الْخُبْزِ بِالسِّكِّينِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَفِيهِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ الْخُبْزِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَعَضُّ فِي الْخُبْزِ حِينَ الْأَكْلِ ، وَلَا يَنْهَشُهُ بِخِلَافِ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَتْ الْعَضَّ وَالنَّهْشَ فِي اللَّحْمِ دُونَ الْخُبْزِ ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَتَسَاهَلُونَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ فَيَقْطَعُونَ اللَّحْمَ بِالسِّكِّينِ إذَا أَرَادُوا أَكْلَهُ وَمِثْلُهُ الْخُبْزُ ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كُسِّرَ الْخُبْزُ يَجْعَلُ النَّاحِيَةَ الْمَكْسُورَةَ مِنْ جِهَةِ الْآكِلِينَ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَهُ لِنَاحِيَةِ الزَّبَادِيِّ فَإِنَّ تَعَمُّدَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ بَلْ يَضَعُ الْخُبْزَ كَيْفَ تَيَسَّرَ ، وَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَنْفُخُ فِي الطَّعَامِ ، وَلَا فِي الشَّرَابِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ رِيقِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بُصَاقًا فِيهِ وَهُوَ مُسْتَقْذَرٌ وَفِيهِ امْتِهَانٌ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ اللُّقْمَةَ بِشِمَالِهِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ وَالْمُؤْمِنُونَ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْكُلَ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ يَدِهِ الْيَمِينِ ، وَهِيَ الْمُسَبِّحَةُ وَالْإِبْهَامُ وَالْوُسْطَى إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَرِيدًا وَمَا أَشْبَهَهُ فَيَأْكُلُ بِالْخَمْسَةِ مِنْهَا كَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَمَضَى عَمَلُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَبْدَؤُنَّ بِأَكْلِ

اللَّحْمِ قَبْلَ الطَّعَامِ ، وَلَا يَأْكُلُ مُضْطَجِعًا إلَّا الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالْبَقْلِ وَغَيْرِهِ لَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَنَاوَلَ تَمَرَاتٍ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ ، وَكَذَلِكَ لَا يَشْرَبُ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ خِيفَةَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي شُرْبِهِ وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ لَا يُخْلِيَ الْمَائِدَةَ مِنْ شَيْءٍ أَخْضَرَ بَقْلٍ ، أَوْ غَيْرِهِ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ : إنَّهُ يَنْفِي الْجَانَّ ، أَوْ الشَّيَاطِينَ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَإِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ فَلَا يَجْعَلُ عَلَيْهِ الْخُبْزَ خِيفَةَ أَنْ يَتَلَوَّثَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الطَّعَامَ وَيَجْعَلُهُ عَلَى الْخُبْزِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَأْكُلُ ذَلِكَ الْخُبْزَ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُلَوَّثُ فَلَا يُجْعَلُ الْخُبْزُ عَلَيْهِ احْتِرَامًا لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَأْكُلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمْسَحَ يَدَهُ فِي الْخُبْزِ فَإِنَّ فِيهِ امْتِهَانًا لَهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّي أَضْيَافَهُ مِنْ شَيْءٍ حُلْوٍ وَإِنْ قَلَّ ، بَلْ هُوَ آكَدُ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ ، فَلَوْ أَطْعَمَهُمْ لَوْنًا وَاحِدًا مَعَ شَيْءٍ حُلْوٍ بَعْدَهُ كَانَ أَوْلَى مِنْ عَمَلِ الْأَلْوَانِ ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حُلْوٌ فَإِنْ جَمَعَهُمَا فَيَا حَبَّذَا ، وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ أَلْوَانًا وَقَدَّمَ لَهُمْ بَعْضَهَا ، وَقَدْ بَقِيَ بَعْضُهَا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عِنْدَهُ مِنْ الْأَلْوَانِ كَذَا وَكَذَا حَتَّى لَا يَكْتَفُوا مِنْ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ لَوْ عَلِمَ بِالطَّعَامِ الثَّانِي لَانْتَظَرَهُ فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَأَتَى بِهِ وَحْدَهُ عَلَى كِفَايَةٍ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَحْرِمُهُ شَهْوَتَهُ وَيَحْرِمُ نَفْسَهُ مِنْ سُرُورِهِ بِأَكْلِ الْمَدْعُوِّ فَيَكُونُ قَدْ بَخَسَ نَفْسَهُ حَظَّهَا ، وَكَذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ بِالْحَلَاوَةِ إنْ كَانَ مَا أَحْضَرَهَا مَعَ الطَّعَامِ ، وَكَذَلِكَ الْفَاكِهَةُ وَالنَّقْلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي إنْ كَانَتْ أَلْوَانًا أَنْ يُقَدِّمَ خَفِيفَهَا قَبْلَ ثَقِيلِهَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَكْلِ الْتَقَطَ

مَا سَقَطَ مِنْ اللُّبَابِ .

وَيَنْبَغِي لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَتْرُكُوا فَضْلَةً مِنْ الطَّعَامِ وَإِنْ قَلَّ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ ، وَقَدْ تَكُونُ لِأَهْلِ الْبَيْتِ نِيَّةٌ صَالِحَةٌ فِي بَقِيَّةِ سُؤْرِهِ ، وَيُقَدِّمُ لَهُمْ مَا يَغْسِلُونَ بِهِ أَيْدِيَهُمْ فَيَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ كَمَا فَعَلَ قَبْلَ الْأَكْلِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِالْغَسْلِ أَفْضَلُهُمْ ، ثُمَّ يَدُورُ عَلَى يَمِينِ مَنْ يَصُبُّ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ لِلْغَسْلِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ آخِرَهُمْ غَسْلَ يَدٍ وَأَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصُبُّ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ لِلْغَسْلِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْصُقَ أَحَدٌ فِي الْمَاءِ ، وَلَا يَغْسِلُ بِالْأُشْنَانِ ، وَلَا بِالتُّرَابِ فَإِذَا غَسَلُوا بِالْمَاءِ مَسَحُوا أَيْدِيَهُمْ بَعْدَ الْغَسْلِ بِأَخْمَصِ أَقْدَامِهِمْ إنْ كَانَتْ نَظِيفَةً ، أَوْ بِخِرْقَةِ صُوفٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ شَيْءٍ خَشِنٍ عَدَا الْمُحَرَّمِ شَرْعًا لِيُزِيلُوا بِذَلِكَ بَقِيَّةَ الدَّسَمِ عَنْ أَيْدِيهِمْ مُحَافَظَةً عَلَى النَّظَافَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مِنْ الْغَسْلِ بِالْأُشْنَانِ وَالتُّرَابِ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَشْرَبَ هَذَا الْمَاءَ إذْ أَنَّ شُرْبَهُ شِفَاءٌ وَمَا زَالَ السَّلَفُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْغَسْلَ بِالْأُشْنَانِ وَالتُّرَابِ يَحْرِمُ بَرَكَةَ ذَلِكَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَشْرَبَهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَيَدْخُلُ فِي جَوْفِهِ التُّرَابُ وَالْأُشْنَانُ وَالْبُصَاقُ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَشْرَبُ هَذَا الْمَاءَ فَيَغْسِلُ بِمَا شَاءَ مِنْ تُرَابٍ وَغَيْرِهِ .
وَالْغَسْلُ بِالْأُشْنَانِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَعَ تَعَذُّرِ غَيْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَشْفُونَ بِهَذَا الْمَاءِ وَيَتَشَاحُّونَ عَلَيْهِ وَيَتَنَافَسُونَ فِيهِ حَتَّى أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ النِّدَاءَ عَلَيْهِ وَيَبِيعُونَهُ بِالثَّمَنِ الْكَثِيرِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ بَرَكَةُ ذَلِكَ اغْتِنَامًا مِنْهُمْ لِلْبَرَكَةِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ فِي

قِصَّةِ هِرَقْلَ لَمَّا أَنْ سَأَلَ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ حَالُهُمْ فِي تَصَرُّفِهِمْ مَعَهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُمْ يَتَبَرَّكُونَ بِالْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ وَبِبُصَاقِهِ وَمَا شَاكَلَهُمَا فَاسْتَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَكَذَلِكَ الْمُتَّبِعُونَ لَهُ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ هَذِهِ الْبَرَكَةُ حَاصِلَةٌ لَهُمْ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ مِثْلَهَا لَكِنْ بِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى ذَلِكَ وَرِثُوا مِنْهَا أَوْفَرَ نَصِيبٍ .
وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَنَا بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ الْقَاضِيَ الْأَعْظَمَ بِهَا وَكَانَ يُعْرَفُ بِابْنِ الْمَغِيلِيِّ وَكَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالصُّلَحَاءِ الْكِبَارِ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا إلَى أَنْ أَشْرَفَ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ ، وَكَانَ بِالْبَلَدِ طَبِيبٌ حَاذِقٌ فِي وَقْتِهِ عَارِفٌ بِالطِّبِّ فَأَيِسَ مِنْهُ ، وَقَالَ لَهُمْ اُتْرُكُوهُ يَأْكُلُ كُلَّ مَا شَاءَ وَاخْتَارَ فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لَهُ عَلَى مُقْتَضَى مَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الصَّنْعَةِ ، فَأَرْسَلَتْ زَوْجَةُ الْقَاضِي إلَى الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي عُثْمَانَ الْوَرْكَالِيِّ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا جَرَى مِنْ الطَّبِيبِ فَأَخَذَ الشَّيْخُ الْمَاءَ وَتَوَضَّأَ فِي إنَاءٍ ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِمَاءِ وُضُوئِهِ إلَى زَوْجَةِ الْقَاضِي وَقَالَ لَهَا اسْقِيهِ هَذَا الْمَاءَ فَسَقَتْهُ ذَلِكَ ، ثُمَّ بَقِيَ سَاعَةً ، ثُمَّ قَامَ يُرِيدُ قَضَاءَ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَأُتِىَ لَهُ بِإِنَاءٍ فَقَضَى حَاجَتَهُ فِيهِ فَوَجَدْت فِيهِ كُبَّةً عَظِيمَةً سَوْدَاءَ فَتَعَجَّبَ كُلُّ مَنْ رَآهَا فَأَرْسَلَتْ زَوْجَةُ الْقَاضِي إلَى الطَّبِيبِ الَّذِي مَا شَكَّ أَنَّهُ يَمُوتُ كَمَا تَقَدَّمَ فَأَرَتْهُ مَا خَرَجَ مِنْهُ فَتَعَجَّبَ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا شَدِيدًا وَقَالَ : هَذَا أَمْرٌ إلَهِيٌّ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَمَّا الْبَشَرُ فَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُخْرِجَ هَذَا مِنْ فُؤَادِهِ وَهَذَا هُوَ الَّذِي لَوْ بَقِيَ مَعَهُ لَقَتَلَهُ ، وَأَمَّا الْآنَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِ فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ

تَعَالَى إلَى هَذِهِ الْبَرَكَةِ كَيْفَ هِيَ بَاقِيَةٌ فِي الْمُتَّبِعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذِهِ الْعِصَابَةُ فِيهِمْ مَنْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ مَعْرُوفٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخْفَاهُ فَلَا يُعْرَفُ فَيَغْتَنِمُ بَرَكَةَ الْجَمِيعِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنَبِّهَ مَنْ حَضَرَهُ وَغَيْرَهُمْ عَلَى مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ بَلْ الْمُحَرَّمِ لِلسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَهِيَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ غَسْلِ الْأَيْدِي بِمَاءِ الْوَرْدِ وَتَنْشِيفِهَا بِالْمَنَادِيلِ وَالْفُوَطِ الْحَرِيرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ وَظِيفَةَ الْعَالِمِ فِي التَّغْيِيرِ الْكَلَامُ بِاللِّسَانِ فَيَبُثُّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ إذَا قَدَرَ بِشَرْطِهِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ أَحَدٌ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَاءُ ، فَإِنَّ الْأَكْلَ بِغَيْرِ حُضُورِهِ بِدْعَةٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ وَفِيهِ خَطَرٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَشْرَقُ بِاللُّقْمَةِ فَلَا يَجِدُ مَا يُسِيغُهَا بِهِ فَيَكُونُ قَدْ تَسَبَّبَ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا فَرَغَ مِنْ أَكْلِهِ انْتَشَرَ وَخَرَجَ ، وَلَا يَلْبَثُ ، وَلَا يَتَحَدَّثُ بَعْدَ تَمَامِ الطَّعَامِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَعْجِلَ بِرَفْعِ السُّفْرَةِ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : الْأَوَّلُ : بَسْطُ الْجَمَاعَةِ بِزِيَادَةِ الْأُنْسِ لَهُمْ .
الثَّانِي : لَعَلَّ أَنْ يَأْتِيَ وَارِدٌ فَيَحْصُلُ لِمَنْ حَضَرَ بَرَكَتُهُ ، أَوْ أَجْرُهُ ، أَوْ هُمَا مَعًا .
الثَّالِثُ : لِمَا وَرَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ مَا دَامَ الْمَأْكُولُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهَذَا عَامٌّ وَلَوْ فَرَغُوا مِنْ الْأَكْلِ فَتُتْرَكُ لِأَجْلِ ذَلِكَ .
الرَّابِعُ : أَنَّ فِي تَرْكِهَا التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ ، وَالتَّشَبُّهُ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَمْتَثِلُوا السُّنَّةَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْأَكْلِ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ الْحَمْدُ لِلَّهِ اللَّهُمَّ أَبْدِلْنَا خَيْرًا مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَبَنًا فَالسُّنَّةُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ اللَّهُمَّ زِدْنَا مِنْهُ .
وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ الْفِطْرَةِ أَعْنِي فِطْرَةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي قُبِضَ عَلَيْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ أُتِيَ لَهُ بِطَسْتَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَمْلُوءٌ لَبَنًا ، وَالْآخَرُ خَمْرًا ، فَقَبَضَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى طَسْتِ اللَّبَنِ فَوَقَعَ النِّدَاءُ قَبَضَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْفِطْرَةِ فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَسْتَزِيدُ مِنْهَا فَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لَوَقَعَ الْإِشْكَالُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُيِّرَ أَنْ تُسَيَّرَ مَعَهُ جِبَالُ تِهَامَةَ ذَهَبًا وَفِضَّةً تُسَيَّرُ لِسَيْرِهِ وَتَقِفُ لِوُقُوفِهِ فَأَبَى فَكَيْفَ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ مِنْ هَذَا الشَّيْءِ

الْيَسِيرِ ؟ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَكَفَانَا وَآوَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ ، فَأَيُّ ذَلِكَ قَالَ : فَقَدْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ وَإِنْ أَتَى بِالْجَمِيعِ فَيَا حَبَّذَا ، وَيَزِيدُ الضَّيْفُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَجَاءَ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَأَكَلَ ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْطَرَ عِنْدَكُمْ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمْ الْمَلَائِكَةُ انْتَهَى زَادَ بَعْضُهُمْ وَذَكَرَكُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ بِشُرْبِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُضِرٌّ بِالْبَدَنِ عَلَى مُقْتَضَى صِنَاعَةِ الطِّبِّ سِيَّمَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ سُخْنًا فَإِنَّهُ يُبَخِّرُ الْفَمَ وَيُتْلِفُ الْأَسْنَانَ وَيُفَجِّجُ الطَّعَامَ وَيُنْزِلُهُ مِنْ الْمَعِدَةِ قَبْلَ أَنْ يَنْضَجُ وَذَلِكَ ضَرَرٌ كَبِيرٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ

، فَإِذَا شَرِبَ شَيْئًا نَوَى بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي الْأَكْلِ ، ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ فَقَطْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحُكْمُ إذَا قَالَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ بِسْمِ اللَّهِ عِنْدَ الْأَكْلِ فَفِي الشُّرْبِ هُنَا كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ فِي الْأَكْلِ لَا يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ لُقْمَةٍ وَفِي الشُّرْبِ يُسَمِّي عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرَّاتِ الثَّلَاثِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ فَإِنَّ السُّنَّةَ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا فَجَعَلَتْ التَّسْمِيَةَ فِي أَوَّلِ الْأَكْلِ مَرَّةً وَالتَّحْمِيدَ فِي آخِرِهِ كَمَا سَبَقَ وَجَعَلَتْ فِي الشُّرْبِ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُصَّ الْمَاءَ مَصًّا ، ثُمَّ يَقْطَعَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى ، ثُمَّ يُسَمِّيَ ، ثُمَّ يَشْرَبَ الثَّانِيَةَ ، ثُمَّ يَحْمَدَ اللَّهَ عَقِبَهَا ، ثُمَّ يُسَمِّيَ ، ثُمَّ يَشْرَبَ حَتَّى يَرْوَى ، ثُمَّ يَحْمَدَ اللَّهَ فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَيُدْرِجَ شُرْبَ الْمَاءِ فَتَكُونُ الْأُولَى هِيَ الْأَقَلُّ وَالثَّانِيَةُ أَكْثَرَ مِنْهَا وَالثَّالِثَةُ يَبْلُغُ بِهَا كِفَايَتَهُ .
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّ لِنِيَاطِ الْقَلْبِ مَوْضِعًا رَقِيقًا لَطِيفًا فَإِذَا جَاءَ الْمَاءُ دَفْعَةً وَاحِدَةً قَطَعَهُ ، وَقَدْ يَمُوتُ بِسَبَبِهِ فَيُؤْنِسُ الْأُولَى بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِيمَنْ شَرِبَ الْمَاءَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ أَنَّ الْمَاءَ يُسَبِّحُ فِي جَوْفِهِ مَا بَقِيَ فِي جَوْفِهِ فَيَبْقَى فِي عِبَادَةٍ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا ، أَوْ غَافِلًا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ لِمَعَالِمِ سُنَنِ أَبِي دَاوُد : رَحِمَهُ اللَّهُ

وَأَمَّا نَهْيُهُ عَنْ الشُّرْبِ نَفَسًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ نَهْيُ تَأْدِيبٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا جَرَعَهُ جَرْعًا وَاسْتَوْفَى رِيَّهُ مِنْهُ نَفَسًا وَاحِدًا تَكَاثَرَ الْمَاءُ فِي مَوَارِدِ حَلْقِهِ وَأَثْقَلَ مَعِدَتَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ ( ثَلَاثَةٍ كَانَ أَنْفَعَ لِرِيِّهِ وَأَخَفَّ لِمَعِدَتِهِ وَأَحْسَنَ فِي الْأَدَبِ وَأَبْعَدَ مِنْ فِعْلِ ذِي الشَّرَهِ انْتَهَى .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هُوَ فِي شُرْبِ الْمَاءِ ، وَأَمَّا اللَّبَنُ فَيَعُبُّهُ عَبًّا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى فِي أَوَّلِهِ وَيَحْمَدُهُ فِي آخِرِهِ كَمَا سَبَقَ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَشْرِبَةِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِيهَا بَيْنَ الْعَبِّ وَالْمَصِّ وَيَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ وَيُسِرُّ بِالتَّحْمِيدِ ، وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجْهَرُ بِالتَّسْمِيَةِ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَخْذِ فِي الْأَكْلِ ، بِخِلَافِ التَّحْمِيدِ جَهْرًا فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بَعْدُ ، وَأَمَّا فِي شُرْبِ الْمَاءِ فَإِنْ شَاءَ جَهَرَ وَإِنْ شَاءَ أَسَرَّ لَكِنَّ الْعَالِمَ الْجَهْرُ فِي حَقِّهِ أَوْلَى لِيُقْتَدَى بِهِ .

وَيَنْبَغِي لِلْجَمَاعَةِ أَنْ لَا يَرْفَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَدَهُ قَبْلَ أَصْحَابِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْمَدُ جَهْرًا كَمَا تَقَدَّمَ إذْ فِي ذَلِكَ تَنْفِيرٌ لَهُمْ عَمَّا هُمْ بِصَدَدِهِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا وَرَدَ مِنْ نَهْيِ الشَّارِعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ وَكَفَى بِهِ .
وَالثَّانِي : خَشْيَةَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْإِنَاءِ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ فَيَتَأَذَّى بِهَا الشَّارِبُ وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ قَائِمًا لِحَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ لَهُ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ فَشَرِبَ قَائِمًا ، ثُمَّ قَالَ : إنَّ أَحَدَكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَشْرَبَ قَائِمًا ، وَقَدْ { رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ وَهُوَ قَائِمٌ } .

وَيَنْبَغِي إنْ كَانَ فِي كُوزٍ ثُلْمَةٌ أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اجْتِمَاعِ الْوَسَخِ ، وَقَدْ نَصَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْرَبَ مِنْ نَاحِيَةِ أُذُنِ الْكُوزِ لِمَا وَرَدَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَشْرَبُ مِنْهَا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ فِي السَّقْيِ بِأَفْضَلِهِمْ ، ثُمَّ يَدُورُ عَلَى يَمِينِهِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا شَرِبَ بَعْضُ مَنْ يَحْتَرِمُونَهُ قَامُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ شُرْبِهِ فَيَنْحَنُونَ لَهُ وَيُقَبِّلُونَ أَيْدِيَهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَقُومُونَ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الشُّرْبِ وَيَفْعَلُونَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَبَعْضُهُمْ يَقُومُونَ نِصْفَ قَوْمَةٍ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا ، أَوْ أَكْثَرَ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَى الْأَرْضِ بِالتَّقْبِيلِ وَقَوْلِهِمْ صِحَّةٌ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَفِيهِ التَّشَبُّهُ بِالْأَعَاجِمِ وَبَعْضُهُمْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لِمَنْ يَفْرُغُ مِنْ الشُّرْبِ صِحَّةٌ وَهَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ دُعَاءً حَسَنًا فَاِتِّخَاذُهُ عَادَةً عِنْدَ الشُّرْبِ بِدْعَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ أَيْمَنَ لَمَّا أَنْ شَرِبَتْ بَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صِحَّةٌ يَا أُمَّ أَيْمَنَ لَنْ تَلِجَ النَّارُ بَطْنَك } .
فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَاءٌ يُشْرَبُ وَإِنَّمَا هُوَ الْبَوْلُ ، وَهُوَ إذَا شُرِبَ عَادَ بِالضَّرَرِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : صِحَّةٌ لِيَنْفِيَ عَنْهَا مَا تَتَوَقَّعُهُ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ بَوْلِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَتَضَمَّنَ ذَلِكَ دُعَاءً وَإِخْبَارًا وَذَلِكَ بِخِلَافِ شُرْبِ الْمَاءِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا اللَّفْظُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْطِنِ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا

أَنْ يَكُونَ بِدْعَةً ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْعُلَمَاءُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْمِلَ الْآدَابَ مَعَهُمْ حَتَّى يَحُوزَ فَضِيلَةَ الِاتِّبَاعِ وَالسَّبَقِ فَيُقَدِّمُ لَهُمْ نِعَالَهُمْ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ وَيَمْشِي مَعَهُمْ خُطُوَاتٍ لِتَوْدِيعِهِمْ ، وَقَدْ وَرَدَ { ثَلَاثٌ مُحَقَّرَاتٌ أَجْرُهُنَّ كَبِيرٌ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى يَدِ أَخِيكَ حَتَّى يَغْسِلَهَا وَتَقْدِيمُ نَعْلِهِ إذَا خَرَجَ وَإِمْسَاكُ الدَّابَّةِ لَهُ حَتَّى يَرْكَبَهَا } فَيَحْصُلُ لَهُ فِي هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ فَيَكُونُ مُتَّصِفًا بِالِاتِّبَاعِ مَعَ حُصُولِ التَّوَاضُعِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى الْإِخْوَانِ ، وَهَذِهِ مِنْ أَكْمَلِ الْحَالَاتِ .
هَذَا حَالُ الْعَالِمِ مَعَ الضَّيْفِ .

وَبَقِيَ الْكَلَامُ فِيمَا إذَا دُعِيَ الْعَالِمُ إلَى دَعْوَةٍ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَارِعَ إلَى الدَّعَوَاتِ كُلِّهَا مَا خَلَا دَعْوَةَ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْإِجَابَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ وَهُوَ فِي الْأَكْلِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَكَلَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ ، فَإِنْ أُهْدِيَ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَنْظُرْ فِي ذَلِكَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ ، فَلِسَانُ الْعِلْمِ مَعْرُوفٌ ، وَكَذَلِكَ الْوَرَعُ ، وَالْوَرَعُ أَعْلَى وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَيِّهِمَا يَسْلُكُ ، وَلَهُ فِي الْعِلْمِ سَعَةٌ إنْ شَقَّ عَلَيْهِ الْوَرَعُ ، وَيَنْظُرُ فِي سَبَبِ صَاحِبِ الطَّعَامِ ، فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا بِلِسَانِ الْعِلْمِ عَمِلَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا قَامَ عَلَيْهِ بِسَطْوَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَزَجَرَهُ وَأَخْبَرَهُ بِمَا فِيهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَانِعٌ شَرْعِيٌّ فَيَتَلَطَّفُ لَهُ فِي الْجَوَابِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْعَادَةِ الْمَذْمُومَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ وَهِيَ أَنْ يُهْدِيَ أَحَدُ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ طَعَامًا فَلَا يُمْكِنُ الْمُهْدَى إلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْوِعَاءَ فَارِغًا حَتَّى يَرُدَّهُ بِطَعَامٍ ، وَكَذَلِكَ الْمُهْدِي إنْ رَجَعَ إلَيْهِ الْوِعَاءُ فَارِغًا وَجَدَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ وَكَانَ سَبَبًا لِتَرْكِ الْمُهَادَاةِ بَيْنَهُمَا ، وَلِسَانُ الْعِلْمِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ غَيْرَ يَدٍ بِيَدٍ ، وَيَدْخُلُهُ أَيْضًا بَيْعُ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا وَيَدْخُلُهُ الْجَهَالَةُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْبِيَاعَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْهَدَايَا ، وَقَدْ سُومِحَ فِي ذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا مُسَلَّمٌ لَوْ مَشَوْا فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى الْهَدَايَا الشَّرْعِيَّةِ لَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ضِدَّ ذَلِكَ لِطَلَبِهِمْ الْعِوَضَ ، فَإِنَّ الدَّافِعَ يَتَشَوَّفُ لَهُ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يَحْرِصُ عَلَى الْمُكَافَأَةِ ، فَخَرَجَ بِالْمُشَاحَّةِ مِنْ بَابِ الْهَدَايَا إلَى بَابِ الْبِيَاعَاتِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُنَبِّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ

فَصْلٌ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَفِي غَيْرِهِ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَهِيَ أَنَّهُ لَا يُعَادُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَ طَبِيبًا لِمَلِكٍ مِنْ الْمُلُوكِ فَمَرِضَ الْمَلِكُ مَرَضًا شَدِيدًا وَكَانَ الْيَهُودِيُّ لَا يُفَارِقُ عِيدَهُ ، فَجَاءَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَأَرَادَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يَمْضِيَ إلَى سَبْتِهِ فَمَنَعَهُ الْمَلِكُ فَمَا قَدَرَ الْيَهُودِيُّ أَنْ يَسْتَحِلَّ سَبْتَهُ وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ سَفْكَ دَمِهِ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ إنَّ الْمَرِيضَ لَا يُدْخَلُ عَلَيْهِ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَرَكَهُ الْمَلِكُ وَمَضَى لَسَبْتِهِ ، ثُمَّ شَاعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ هَذِهِ الْبِدْعَةُ ، وَصَارَ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَعْتَمِدُونَهَا حَتَّى أَنِّي رَأَيْت بَعْضَ الْفُضَلَاءِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ يَنْسِبُهَا إلَى السُّنَّةِ وَيَسْتَدِلُّ بِزَعْمِهِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ الْقُبُورَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَأَخَذَ مِنْ هَذَا بِزَعْمِهِ أَنَّ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ يَوْمَ السَّبْتِ تَفَاؤُلًا عَلَى مَوْتِ الْمَرِيضِ ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ التَّشَاؤُمِ وَالطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا ، وَالْمُسْلِمُونَ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ وَفِي غَيْرِهِ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ أَيْضًا وَهِيَ أَنَّ مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ مَعَهُ بِشَيْءٍ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَإِلَّا وَقَعَ الْكَلَامُ فِيهِ بِمَا لَا يَنْبَغِي ، وَلَمْ تَرِدْ السُّنَّةُ بِذَلِكَ بَلْ الْمَطْلُوبُ الْعِيَادَةُ لَيْسَ إلَّا فَإِنْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْهَدَايَا وَالصَّدَقَاتِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي هَدَايَا الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ فِي الطَّعَامِ وَسَيَأْتِي تَمَامُ الْبَيَانِ فِي ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى تَرْكِ شَعِيرَةٍ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ إذَا اشْتَكَى صَاحِبُهُ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِ تَرَكَ عِيَادَتَهُ وَرُبَّمَا كَانَ سَبَبًا لِلْقَطِيعَةِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْعَمَى وَالضَّلَالِ .

هَذَا حَالُ الْعَالِمِ فِي مُنَاوَلَةِ غِذَائِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَأَضْيَافِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ بَقِيَّةِ تَصَرُّفِهِ فِي بَيْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ ، أَوْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ بِدْعَةِ هَذِهِ الْأَسَامِي الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي نُعُوتِ الرِّجَالِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْحَافِظُ الْقُدْوَةُ الْمَعْرُوفُ بِالنَّوَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ فَكَفَى غَيْرَهُ مُؤْنَةَ ذَلِكَ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَلْتَمِسْهُ فِي كِتَابِهِ .
لَكِنْ بَقِيَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ النُّعُوتَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : شَنِيعٌ قَبِيحٌ وَهُوَ النَّعْتُ بِسِتِّ الْخَلْقِ وَسِتِّ الْإِسْلَامِ وَسِتِّ الْحُكَّامِ وَسِتِّ الْقُضَاةِ وَسِتِّ الْعُلَمَاءِ وَسِتِّ الْفُقَهَاءِ وَسِتِّ النَّاسِ وَسِتِّ النِّسَاءِ وَسِتِّ الْكُلِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
أَلَّا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ وَالْعُلَمَاءُ وَالصُّلَحَاءُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَخْيَارِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى بِذَلِكَ وَالْمُتَلَفِّظُ بِهِ لَا يَعْتَقِدُونَ دُخُولَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ تَحْتَ الْعُمُومِ ، وَإِذَا لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ فَهُوَ تَعَمُّدُ كَذِبٍ مَحْضٍ بِلَا ضَرُورَةٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالتَّزْكِيَةِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّعْظِيمِ وَالتَّشَبُّهِ بِالْأَعَاجِمِ .
وَأَمَّا مَا سِوَاهَا كَسِتِّ الْعِرَاقِ وَسِتِّ الْيَمَنِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ وَالتَّعْظِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهُنَّ بِأُمِّ فُلَانِ الدِّينِ وَفُلَانُ الدِّينِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّزْكِيَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ نُعُوتِ الرِّجَالِ لَكِنْ نَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّاتِي أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِنَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ وَعَظَّمَ فِيهِ قَدْرَهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ

النِّسَاءِ } الْآيَةَ مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي لَا يُشَكُّ فِيهَا ، وَلَا يُرْتَابُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ مَنْ يُبَادِرُ إلَى تَعْظِيمِ الْحُرُمَاتِ وَالشَّعَائِرِ ، مَعَ ذَلِكَ لَمْ يُسَمِّ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ الطَّاهِرَاتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ النُّعُوتِ الْمُحْدَثَةِ وَكَفَى بِهَا ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ ابْنَتِهِ الطَّاهِرَةِ الَّتِي قَالَ فِي حَقِّهَا { فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي } فَإِذَا كَانَتْ بَضْعَةً مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاهِيكَ بِهَا مَنْزِلَةً رَفِيعَةً فَيَجِبُ تَعْظِيمُهَا مَا أَمْكَنَ ، ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَزِدْ عَلَى اسْمِهَا الْمَعْلُومِ شَيْئًا وَوَاجِبٌ الِاعْتِقَادُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَّى لَهَا حَقَّهَا وَلِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَتُكْرَمُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ فَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَسْمَاءِ الْمَعْلُومَةِ لَهُنَّ فِيهَا شَيْءٌ مَا مِنْ الْخَيْرِيَّةِ لَمْ يَتْرُكْهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَبَيَّنَ الْجَوَازَ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً لِتَعْظِيمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّعَائِرِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ تَعْظِيمَهُنَّ مِنْ الشَّعَائِرِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ النُّعُوتُ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ أَعْنِي أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ سَالِمَةً مِنْ التَّزْكِيَةِ وَالْكَذِبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُمَا بِالنُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ لَكَانَ أَمْرُهَا أَقْرَبَ ، وَلَكِنْ وَضَعُوا النُّعُوتَ فِي بَابِ الْمَكْرُوهِ ، أَوْ الْمُحَرَّمِ بِحَسَبِ حَالِ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فَهَؤُلَاءِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبُنَاتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَسْمَاؤُهُنَّ مَعْلُومَةٌ وَهُنَّ اللَّاتِي أُمِرْنَا بِأَخْذِ شَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُنَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { تَرَكْتُ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي } انْتَهَى .
فَهَذِهِ عِتْرَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الرَّاوِي عَنْهُنَّ عَنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْقُلَ زِيَادَةً عَلَى أَسْمَائِهِنَّ الْمَعْرُوفَةِ هَذَا مَعَ عِلْمِ مَنْ نَقَلَ عَنْهُنَّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ تَعْظِيمِ حُقُوقِهِنَّ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَظُنَّ فِي هَذِهِ الْقُرُونِ الَّتِي وَصَفَهُمْ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْخَيْرِيَّةِ أَنَّهُمْ بِأَجْمَعِهِمْ فَاتَهُمْ تَعْظِيمُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْخَيْرِيَّةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَانِهِمْ لَكِنَّهُ عَلَى أُصُولِهِمْ وَقَوَاعِدِهِمْ فَنَعَمْ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى بَابِ الْمَكْرُوهِ ، أَوْ الْمُحَرَّمِ وَهَذِهِ النُّعُوتُ الْمُحْدَثَةُ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَحَدِهِمَا ، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ مَثَلًا أُمُّ شَمْسِ الدِّينِ وَأُمُّ ضِيَاءِ الدِّينِ وَنَحْوُهُمَا فَلَا خَفَاءَ أَنَّهَا احْتَوَتْ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّزْكِيَةِ وَهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا ، فَأَمَّا الْكَذِبُ فَحَرَامٌ ، وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ ، فَإِنْ كَانَتْ عَلَى خِلَافِ مَا ذُكِرَ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الشَّخْصِ فَمَكْرُوهٌ { لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِينَ أَثْنَوْا عَلَى الرَّجُلِ بِحَضْرَتِهِ قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ

، أَوْ ظَهْرَ أَخِيكُمْ } فَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّنَا نُنْكِرُ الْكُنَى الشَّرْعِيَّةَ فَإِنَّ مَا وَرَدَ مِنْهَا لَيْسَ فِيهِ تَزْكِيَةٌ .
وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ } فَهَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ التَّزْكِيَةِ ، وَكَذَلِكَ أُمُّ سَلَمَةَ وَأُمُّ رُومَانَ وَأُمُّ مَعْبَدٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَقِسْ عَلَى هَذَا تُصِبْ ، فَالْكُنَى الْمَشْرُوعَةُ أَنْ يُكَنَّى الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ ، أَوْ بِوَلَدِ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُكَنَّى بِوَلَدِهَا ، أَوْ بِوَلَدِ غَيْرِهَا كَمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ وَجَدَتْ عَلَى كَوْنِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ تَتَكَنَّى بِهِ فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : تَكَنِّي بِابْنِ أُخْتِك يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا } ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ التَّكَنِّي بِالْحَالَةِ الَّتِي الشَّخْصُ مُتَّصِفٌ بِهَا كَأَبِي تُرَابٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيُكَنَّى الصَّبِيُّ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ كَنَّيْت ابْنَك أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُكَنُّونَهُ فَمَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُ فِي تَكْنِيَةِ الصَّبِيِّ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ أَحْسَنُ عِنْدَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي كُنْيَةِ ابْنِهِ : أَمَّا أَنَا فَلَا أَفْعَلُهُ وَلَكِنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ يُكَنُّونَهُ وَإِنَّمَا كَانَ تَرْكُهُ أَحْسَنَ لِمَا فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْكَذِبِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا وَلَدَ لَهُ يُكَنَّى بِذَلِكَ لِلْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ وَالِدُ الْمُكَنَّى بِاسْمِهِ ، وَإِنَّمَا تُجْعَلُ الْكُنْيَةُ الَّتِي يُكَنَّى بِهَا عَلَمًا لَهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

فَصْلٌ فِي لُبْسِ النِّسَاءِ قَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَك اللَّهُ نِيَّةُ الْعَالِمِ وَهَدْيُهُ فِي لُبْسِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ وَبَقِيَ الْكَلَامُ هُنَا عَلَى لُبْسِ أَهْلِهِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ فِي لِبَاسِهِنَّ ، وَهُنَّ كَمَا وَرَدَ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ فَلُبْسُهُنَّ كَذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، فَالذِّكْرُ لِلنِّسَاءِ وَالْكَلَامُ مَعَ مَنْ سَامَحَهُنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْأَزْوَاجِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَأْخُذُ عَلَى أَهْلِهِ وَبِرَدِّهِنَّ لِلِاتِّبَاعِ مَهْمَا اسْتَطَاعَ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَلْبَسْنَ مِنْ هَذِهِ الثِّيَابِ الضَّيِّقَةِ الْقَصِيرَةِ وَهُمَا مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ بِضِدِّهِمَا ؛ لِأَنَّ الضَّيِّقَ مِنْ الثِّيَابِ يَصِفُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَكْتَافَهَا وَثَدْيَيْهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ ، هَذَا فِي الضَّيِّقِ ، وَأَمَّا الْقَصِيرُ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْهُنَّ أَنْ يَجْعَلْنَ الْقَمِيصَ إلَى الرُّكْبَةِ ، فَإِنْ انْحَنَتْ أَوْ جَلَسَتْ أَوْ قَامَتْ انْكَشَفَتْ عَوْرَتُهَا ، وَوَرَدَتْ السُّنَّةُ أَنَّ ثَوْبَ الْمَرْأَةِ تَجُرُّهُ خَلْفَهَا وَيَكُونُ فِيهِ وُسْعٌ بِحَيْثُ إنَّهُ لَا يَصِفُهَا ، فَإِنْ قُلْنَ إنَّ السَّرَاوِيلَ يُغْنِي مِنْ الثَّوْبِ الطَّوِيلِ فَصَحِيحٌ أَنَّ فِيهِ سُتْرَةً لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ السُّرَّةِ وَهُنَّ يَعْمَلْنَهُ تَحْتَهَا بِكَثِيرٍ .
وَحُكْمُ الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ كَحُكْمِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ وَحُكْمُهُمَا أَنَّ مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ لَا يَكْشِفُهُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبَدَنِ ، فَتَكُونُ قَدْ ارْتَكَبَتْ النَّهْيَ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى حَدِّ السَّرَاوِيلِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ كَثِيفًا لَا يَصِفُ وَلَا يَشِفُّ وَقَدْ اتَّخَذَ بَعْضُهُنَّ هَذَا السَّرَاوِيلَ عِنْدَ الْخُرُوجِ لَيْسَ إلَّا ، وَأَمَّا فِي الْبَيْتِ فَتَقْعُدُ بِدُونِهِ وَهِيَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ لَا يَدْخُلُهُ غَيْرُ زَوْجِهَا أَوْ هُوَ وَغَيْرُهُ ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ

الثَّوْبُ الرَّفِيعُ وَالضَّيِّقُ الَّذِي يَصِفُ كُلَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا جَارِيَةٌ فِي الْبَيْتِ أَوْ عَبْدٌ أَوْ أَخٌ أَوْ وِلْدَانٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ ظُهُورِ أَطْرَافِهَا لِذِي الْمَحَارِمِ ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَقْعُدْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ بِهَذِهِ الثِّيَابِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ بِغَيْرِ سَرَاوِيلَ بَيْنَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ، وَلَا يَلْبَسْنَ السَّرَاوِيلَ إلَّا عِنْدَ الْخُرُوجِ فَيَكُونُ الْعَالِمُ يَنْهَى عَنْ هَذِهِ الْقَبَائِحِ وَيَذُمُّهَا وَيُعَلِّمُهُنَّ أَمْرَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ .
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ لُبْسِ الْقَبَاطِيِّ قَالَ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَشِفُّ فَإِنَّهَا تَصِفُ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَبَاطِيُّ ثِيَابٌ ضَيِّقَةٌ مُلْتَصِقَةٌ بِالْجَسَدِ لِضِيقِهَا فَتُبْدِي ثَخَانَةَ جِسْمِ لَابِسِهَا مِنْ نَحَافَتِهِ وَتَصِفُ مَحَاسِنَهُ وَتُبْدِي مَا يُسْتَحْسَنُ مِمَّا لَا يُسْتَحْسَنُ فَنَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَلْبَسْنَهَا النِّسَاءُ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } .

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ عَنْ هَذِهِ الْعَمَائِمِ الَّتِي يَعْمَلْنَهَا عَلَى رُؤْسِهِنَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ } قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مَا هَذَا نَصُّهُ : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ } يَعْنِي أَنَّهُنَّ كَاسِيَاتٌ بِالثِّيَابِ عَارِيَّاتٌ مِنْ الدِّينِ لِانْكِشَافِهِنَّ وَإِبْدَاءِ بَعْضِ مَحَاسِنِهِنَّ ، وَقِيلَ كَاسِيَاتٌ ثِيَابًا رِقَاقًا يَظْهَرُ مَا تَحْتَهَا وَمَا خَلْفَهَا فَهُنَّ كَاسِيَاتٌ فِي الظَّاهِرِ عَارِيَّاتٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَقِيلَ كَاسِيَاتٌ فِي الدُّنْيَا بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ مِنْ الْحَرَامِ وَمِمَّا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ ، عَارِيَّاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ } قِيلَ مَعْنَاهُ زَائِغَاتٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ طَاعَةِ الْأَزْوَاجِ وَمَا يَلْزَمُهُنَّ مِنْ صِيَانَةِ الْفُرُوجِ وَالتَّسَتُّرِ عَنْ الْأَجَانِبِ وَمُمِيلَاتٌ يُعَلِّمْنَ غَيْرَهُنَّ الدُّخُولَ فِي مِثْلِ فِعْلِهِنَّ ، وَقِيلَ مَائِلَاتٌ مُتَبَخْتِرَاتٌ يُمِلْنَ رُءُوسَهُنَّ وَأَعْطَافَهُنَّ لِلْخُيَلَاءِ وَالتَّبَخْتُرِ وَمُمِيلَاتٌ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَطِيبِ رَائِحَتِهِنَّ ، وَقِيلَ يَتَمَشَّطْنَ الْمَيْلَاءَ يَهِيَ مِشْطَةُ الْبَغَايَا ، وَالْمُمِيلَاتُ اللَّوَاتِي يُمَشِّطْنَ غَيْرَهُنَّ مِشْطَةَ الْمَيْلَاءِ ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ } مَعْنَاهُ يُعَظِّمْنَ رُءُوسَهُنَّ بِالْخُمُرِ وَالْمَقَانِعِ وَيَجْعَلْنَ عَلَى رُءُوسِهِنَّ شَيْئًا يُسَمَّى عِنْدَهُنَّ النَّاهِرَةَ لَا عَقْصُ الشَّعْرِ وَالذَّوَائِبُ الْمُبَاحَةُ لِلنِّسَاءِ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى

رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ } فَهَذَا مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، إذْ أَنَّ فِي عِمَامَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سَنَامَيْنِ ، وَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ أَنَّ رَأْسَهَا يَعْتَلُّ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعِمَامَةِ ؛ لِأَنَّهُنَّ اتَّخَذْنَهَا عَادَةً مِنْ فَوْقِ الْحَاجِبَيْنِ وَفِي ذَلِكَ مَفَاسِدُ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحِلٌّ لِاسْتِمْتَاعِ الرَّجُلِ وَأَعْظَمُ جَمَالٍ فِيهَا وَجْهُهَا وَهِيَ تُغَطِّي أَكْثَرَهُ فَتَقَعُ بِذَلِكَ فِي الْإِثْمِ ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ زَوْجَهَا حَقَّهُ وَلَوْ رَضِيَ زَوْجُهَا بِذَلِكَ فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْهُ لِمُخَالَفَتِهَا لِلسُّنَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا إذَا كَانَتْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ مَسْتُورَةً ، فَإِذَا احْتَاجَتْ إلَى الْوُضُوءِ تَحْتَاجُ إلَى كَشْفِهَا حَتَّى تَغْسِلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا ، فَإِذَا غَسَلَتْهُ فَقَدْ تُسْتَهْوَى ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ قَدْ اعْتَادَ التَّغْطِيَةَ فَإِذَا كَشَفَتْهُ عِنْدَ الْغَسْلِ قَدْ تَتَضَرَّرُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ فَرْضَيْنِ : أَحَدُهُمَا : غَسْلُ الْوَجْهِ .
وَالثَّانِي : مَسْحُ الرَّأْسِ .
وَالثَّالِثُ : الزِّينَةُ الَّتِي جَمَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي وَجْهِهَا سَتَرَتْهَا عَنْ زَوْجِهَا ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ لِلْفِرَاقِ ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَشِعَةَ الْمَنْظَرِ ، فَإِنْ قِيلَ : إنَّ فِيهِ بَعْضَ جَمَالٍ لَهَا فَهَذَا نَادِرٌ وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ ، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ جَمَالٌ لَهَا فَتُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مُخَالَفَتِهَا لِلسُّنَّةِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ

فَصْلٌ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ تَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ الَّتِي أَحْدَثْنَهَا مَعَ قِصَرِ الْكُمِّ فَإِنَّهَا إذَا رَفَعَتْ يَدَهَا ظَهَرَتْ أَعْكَانُهَا وَنُهُودُهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ مِنْ الْمُتَبَرِّجَاتِ ، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ الْقَصِيرِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ وَتَرْكِ السَّرَاوِيلِ وَتَقِفُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فِي بَابِ الرِّيحِ عَلَى هَذِهِ السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا ، فَمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ أَوْ الْتَفَتَ رَأَى عَوْرَتَهَا ، وَالشَّرْعُ أَمَرَهَا بِالتَّسَتُّرِ الْبَالِغِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ .

فَصْلٌ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُنَّ السُّنَّةَ فِي الْخُرُوجِ إنْ اضْطَرَّتْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ فِي حَفْشِ ثِيَابِهَا وَهُوَ أَدْنَاهُ وَأَغْلَظُهُ ، وَتَجُرُّ مِرْطَهَا خَلْفَهَا شِبْرًا أَوْ ذِرَاعًا وَيُعَلِّمُهُنَّ السُّنَّةَ فِي مَشْيِهِنَّ فِي الطَّرِيقِ ، وَذَلِكَ أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ حَكَمَتْ أَنْ يَكُونَ مَشْيُهُنَّ مَعَ الْجُدَرَانِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ الطَّرِيقَ } وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ وَقَدْ اخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ : اسْتَأْخِرْنَ فَلَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تُضَيِّقْنَ الطَّرِيقَ عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ } فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْصَقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى أَنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا انْتَهَى .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي طَرِيقٍ وَأَمَامَهُ امْرَأَةٌ فَقَالَ لَهَا : تَنَحِّي عَنْ الطَّرِيقِ فَقَالَتْ : الطَّرِيقُ وَاسِعٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ } انْتَهَى .
وَلَمَّا كَانَ مَشْيُهُنَّ مَعَ الْجُدْرَانِ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْبَوْلِ هُنَاكَ لِئَلَّا يَنْجَسَ مِرْطُ مَنْ مَرَّتْ عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحِكَمِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَفَوَائِدُهَا مُتَعَدِّدَةٌ ، وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ السُّنَنِ كَيْفَ انْدَرَسَتْ فِي زَمَانِنَا هَذَا حَتَّى بَقِيَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تُعْرَفْ لِمَا ارْتَكَبْنَ مِنْ ضِدِّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَتَقْعُدُ الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِنَّ بِحَفْشِ ثِيَابِهَا وَتَرْكِ زِينَتِهَا وَبِحَمْلِهَا ، وَبَعْضُ شَعْرِهَا نَازِلٌ عَلَى جَبْهَتِهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَوْسَاخِهَا وَعَرَقِهَا حَتَّى لَوْ

رَآهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ لَنَفَرَ بِطَبْعِهِ مِنْهَا غَالِبًا فَكَيْفَ بِالزَّوْجِ الْمُلَاصِقِ لَهَا ، فَإِذَا أَرَادَتْ إحْدَاهُنَّ الْخُرُوجَ تَنَظَّفَتْ وَتَزَيَّنَتْ وَنَظَرَتْ إلَى أَحْسَنِ مَا عِنْدَهَا مِنْ الثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ فَلَبِسَتْهُ ، وَتَخْرُجُ إلَى الطَّرِيقِ كَأَنَّهَا عَرُوسٌ تُجَلِّي ، وَتَمْشِي فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ وَتُزَاحِمُ الرِّجَالَ وَلَهُنَّ صَنْعَةٌ فِي مَشْيِهِنَّ حَتَّى أَنَّ الرِّجَالَ لَيَرْجِعُونَ مَعَ الْحِيطَانِ حَتَّى يُوَسِّعُوا لَهُنَّ فِي الطَّرِيقِ أَعْنِي الْمُتَّقِينَ مِنْهُمْ ، وَغَيْرُهُمْ يُخَالِطُوهُنَّ وَيُزَاحِمُوهُنَّ وَيُمَازِحُوهُنَّ قَصْدًا ، كُلُّ هَذَا سَبَبُهُ عَدَمُ النَّظَرِ إلَى السُّنَّةِ وَقَوَاعِدِهَا وَمَا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِذَا نَبَّهَ الْعَالِمُ عَلَى هَذَا وَأَمْثَالِهِ انْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ وَرُجِيَ لِلْجَمِيعِ بَرَكَةُ ذَلِكَ فَمَنْ رَجَعَ عَمَّا لَا يَنْبَغِي فَهُوَ الْقَصْدُ الْحَسَنُ وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ عُلِمَ أَنَّهُ مُكْتَسِبٌ لِلذُّنُوبِ فَيَبْقَى مُنْكَسِرَ الْقَلْبِ لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَفِي الْكَسْرِ مِنْ الْخَيْرِ مَا قَدْ عُلِمَ ، وَمَنْ انْكَسَرَ رُجِيَ لَهُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ

فَصْلٌ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى شِرَاءِ حَوَائِجِهِنَّ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ لِأَهْلِهِ حَاجَةٌ مِنْ شِرَاءِ ثَوْبٍ أَوْ حُلِيٍّ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلْيَتَوَلَّ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ إنْ كَانَتْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ أَوْ بِمَنْ يَقُومُ عَنْهُ بِذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ وَهُوَ مَعْلُومٌ ، وَلَا يُمَكِّنْهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ أَلْبَتَّةَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى الْمُنْكَرِ الْبَيِّنِ الَّذِي يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْهُنَّ الْيَوْمَ جِهَارًا أَعْنِي فِي جُلُوسِهِنَّ عِنْدَ الْبَزَّازِينَ وَالصَّوَّاغِينَ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهَا تُنَاجِيهِ وَتُبَاسِطُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمَا ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { بَاعِدُوا بَيْنَ أَنْفَاسِ النِّسَاءِ وَأَنْفَاسِ الرِّجَالِ } ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ { لَوْ كَانَ عِرْقٌ مِنْ الْمَرْأَةِ بِالْمَشْرِقِ وَعِرْقٌ مِنْ الرَّجُلِ بِالْمَغْرِبِ لَحَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ } ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَكَيْفَ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْمُزَاحِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ لِلْمَرْأَةِ فِي عُمْرِهَا ثَلَاثَ خَرَجَاتٍ : خَرْجَةٌ لِبَيْتِ زَوْجِهَا حِينَ تُهْدَى إلَيْهِ ، وَخَرْجَةٌ لِمَوْتِ أَبَوَيْهَا ، وَخَرْجَةٌ لِقَبْرِهَا ، فَأَيْنَ هَذَا الْخُرُوجُ مِنْ هَذَا الْخُرُوجِ ، وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا حَاصِلَةٌ فِي خُرُوجِهِنَّ عَلَى تَقْدِيرِ عِلْمِهِنَّ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فِيمَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أَمْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالصَّرْفِ وَكَيْفِيَّةِ حُكْمِ الرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَكَيْفَ بِهِنَّ مَعَ الْجَهْلِ بِذَلِكَ كُلِّهِ ، بَلْ أَكْثَرُ الرِّجَالِ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { الْغَيْرَةُ مِنْ الْإِيمَانِ } أَوْ كَمَا قَالَ وَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِسَاءِ الْإِفْرِنْجِ شَبَهٌ ؛ فَإِنَّ نِسَاءَهُنَّ

يَبِعْنَ وَيَشْتَرِينَ وَيَجْلِسْنَ فِي الدَّكَاكِينِ وَالرِّجَالُ فِي الْبُيُوتِ ، وَالشَّرْعُ قَدْ مَنَعَ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ .

فَصْلٌ فِي السُّكْنَى عَلَى الْبَحْرِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ السُّكْنَى عَلَى الْبَحْرِ مَهْمَا اسْتَطَاعَ جَهْدَهُ وَذَلِكَ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : نَهْيُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطُّرُقَاتِ ، وَمَنْ كَانَ فِي دَارٍ عَلَى الْبَحْرِ فَهُوَ كَالْجَالِسِ عَلَى الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ طَرِيقٌ لِلْمُرُورِ فِيهِ بِالْمَرَاكِبِ ، فَإِذَا نَظَرَ كَشَفَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ يَشْتَمِلُ عَلَى عَوْرَاتٍ كَثِيرَةٍ : مِنْهَا : كَشْفُ عَوْرَاتِ النَّوَاتِيَّةِ كَمَا هُوَ وَاقِعٌ مَرْئِيٌّ ، وَكَذَلِكَ كَشْفُ عَوْرَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُغْتَسِلِينَ فِيهِ ، وَالْكَلَامُ الْفَاحِشُ الَّذِي يُمْنَعُ لِلرِّجَالِ سَمَاعُهُ فَكَيْفَ بِالْمَرْأَةِ ؟ وَمِنْهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَكُونُ مَعَهُمْ الْمَغَانِي فِي الشَّخَاتِيرِ ، وَغَيْرِهَا فَإِحْدَاهُنَّ تَضْرِبُ بِالطَّارِ ، وَأُخْرَى بِالشَّبَّابَةِ ، وَمَعَهُنَّ مَنْ يُصَوِّتُ بِالْمِزْمَارِ مَعَ رَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ بِالْغِنَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ الْعَوْرَاتِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ أَهْلَهُ يَنْكَشِفْنَ بِجُلُوسِهِنَّ فِي الطُّرُقَاتِ وَغَيْرِهَا وَيُشَاهِدْنَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَغَيْرُهُ ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ بَنَاتٌ أَوْ إمَاءٌ أَوْ غَيْرُهُنَّ فَتَزِيدُ الْمَفَاسِدُ بِحَسَبِ ذَلِكَ الثَّالِثُ : أَنَّ شَاطِئَ الْبَحْرِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ لِلسُّكْنَى وَلَا لِغَيْرِهَا إلَّا الْقَنَاطِرَ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ الْبِرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، وَالظِّلِّ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهَا مَرَافِقُ لِلْمُسْلِمِينَ فَمَنْ جَاءَ يَرْتَفِقُ بِهَا يَجِدُ هُنَاكَ نَجَاسَةً فَيَقُولُ لَعَنْ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا فَإِذَنْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدُ اللَّعْنَ بِهَذَا الْفِعْلِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَنَهَاهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يُلْعَنُونَ

بِسَبَبِهِ ، هَذَا وَهُوَ مِمَّا يَذْهَبُ بِالشَّمْسِ ، وَالرِّيحِ وَغَيْرِهِمَا فَكَيْفَ بِالْبِنَاءِ عَلَى النَّهْرِ الْمُتَّخَذِ لِلدَّوَامِ غَالِبًا ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ اتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَاخْتِلَافِهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الطَّرِيقَ لَا يَجُوزُ تَضْيِيقُهَا انْتَهَى .
وَالْبِنَاءُ عَلَى النَّهْرِ أَكْثَرُ ضَرَرًا وَأَشَدُّ مِنْ تَضْيِيقِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ يُمْكِنُ الْمُرُورُ فِيهَا مَعَ تَضْيِيقِهَا بِخِلَافِ النَّهْرِ فَمَنْ بَنَى عَلَيْهِ كَانَ غَاصِبًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْرِدٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ يَرِدُ الْمَاءَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدُورَ مِنْ نَاحِيَةٍ بَعِيدَةٍ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَكَانَ مَنْ أَحْوَجَهُ إلَى ذَلِكَ غَاصِبًا ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِيمَنْ أَرْسَلَ سَجَّادَتَهُ إلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ إتْيَانِهِ فَوُضِعَتْ هُنَاكَ لِيَحْصُلَ بِهَا الْمَكَانُ ، أَوْ كَانَ فِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَصْبٌ ، هَذَا وَهُوَ مِمَّا لَا يَدُومُ فَكَيْفَ بِالْبِنَاءِ عَلَى النَّهْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ؟ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ حَرِيمَ الْعُيُونِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمَ الْأَنْهَارِ أَلْفُ ذِرَاعٍ وَاخْتَلَفُوا فِي حَرِيمِ الْبِئْرِ فَقِيلَ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا ، وَقِيلَ خَمْسُونَ ، وَقِيلَ ثَلَثُمِائَةٍ ، وَقِيلَ خَمْسُمِائَةٍ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَوْضِعِ الْبِئْرِ وَلِأَيِّ شَيْءٍ هِيَ هَلْ هِيَ لِلزَّرْعِ أَوْ لِلْمَاشِيَةِ أَوْ فِي الْبَادِيَةِ أَوْ فِي الْبَلَدِ ، نَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ فِي تَبْصِرَتِهِ وَابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يَحُدَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ حَدًّا إلَّا مَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ فَعَلَى هَذَا وَلَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ ذِرَاعٍ إذَا أَضَرَّ بِهِمْ يُمْنَعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } وَعَكْسُهُ إنْ كَانَ أَقَلَّ وَلَمْ يَضُرَّ بِالنَّاسِ لَمْ يُمْنَعْ ، ثُمَّ أَفْضَى الْأَمْرُ مِنْ أَجْلِ كَثْرَةِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ إلَى أَنْ امْتَنَعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَخْذُ الْمَاءِ مِنْهُ لِلشُّرْبِ وَغَيْرِهِ إلَّا مَوَاضِعَ قَلِيلَةً ، وَمَعَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فِتَنٌ لِمَنْعِ أَصْحَابِ الدُّورِ مَنْ يَرِدُ الْمَاءَ مِنْ السَّقَّائِينَ الَّذِينَ يَبِيعُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ جَرَتْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ إلَى أَنْ وَصَلَتْ إلَى عِمَادِ الدِّينِ وَأَصْلِهِ ، وَهُوَ الصَّلَاةُ بِإِفْسَادِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا صَلَّى أَحَدٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ فِي الصِّحَّةِ ، وَالْفَسَادِ وَهَذَا مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ كَمَوْضِعِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ } انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَتْ مَنْزِلَةُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ الْعُظْمَى فَكَيْفَ يَرْضَى لَبِيبٌ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي مَوْضِعٍ اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
الرَّابِعُ : أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْبَحْرِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَفْضُلَ شَيْءٌ مِنْ آلَةِ الْعِمَارَةِ أَوْ يَنْهَدَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ الدُّورِ فَيَقَعُ ذَلِكَ فِي الْبَحْرِ غَالِبًا فَتَجِيءُ الْمَرَاكِبُ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ خَبَرٌ فَتَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ فَيَكْسِرُهَا غَالِبًا سِيَّمَا إذَا كَانَتْ الْحِجَارَةُ مَبْنِيَّةً بَارِزَةً مَعَ الزَّرَابِيِّ الْخَارِجَةِ عَنْ الْبُيُوتِ فِي دَاخِلِ الْبَحْرِ ، ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَذِبَّةِ يَمْنَعُونَ أَصْحَابَ الْمَرَاكِبِ مِنْ أَنْ يَلْتَصِقُوا إلَيْهَا ، وَالْمَوْضِعُ مُبَاحٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ اخْتِصَاصٌ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَرَاكِبَ قَدْ تَأْتِي فِي وَقْتِ هَوْلِ الْبَحْرِ مَعَ ثِقَلِهَا بِالْوَسْقِ فَيُرِيدُ صَاحِبُهَا أَنْ يُرْسِيَ فِي الْمَوْضِعِ الْقَرِيبِ مِنْهُ لِيَسْلَمَ مِنْ آفَاتِ الْبَحْرِ فَلَا يَجِدُ لِذَلِكَ سَبِيلًا مِنْ كَثْرَةِ الدُّورِ الَّتِي هُنَاكَ فَيَمْضِي لِسَبِيلِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ الدُّورَ ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَرَقِهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي

ذِمَّةِ الْبَانِي هُنَاكَ .
السَّادِسُ : مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ يَلْبَسْنَ وَيَتَحَلَّيْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ الَّتِي عَلَى الْبَحْرِ عَلَى مَا اعْتَدْنَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي الْخُرُوجِ إلَى الطُّرُقَاتِ وَعَلَيْهِنَّ مِنْ جَمَالِ الزِّينَةِ ، وَالتَّحَلِّي مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّهُنَّ يُبَالِغْنَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا شَعَرْنَ أَنَّ الْعُيُونَ تَنْظُرُ إلَيْهِنَّ ، فَقَدْ يَرَاهَا مِنْ يَشْغَفُ قَلْبُهُ بِصُورَتِهَا فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهَا فَيَحْتَالُ الْحِيَلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى الْوُصُولِ إلَيْهَا إمَّا بِالطَّوَاعِيَةِ مِنْهَا إنْ قَدَرَ أَوْ يَأْتِي بِاللَّيْلِ قَهْرًا ، فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهَا وَقَعَتْ الْفَاحِشَةُ الْكُبْرَى ، وَإِنْ عَلِمَ بِهِ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ ، وَقَدْ يَشْغَفُ آخَرُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الْحُلِيِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنُزُولِ الْمَنَاسِرِ عَلَيْهِمْ بِاللَّيْلِ وَمَا يُقَارِبُهُ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَالْخِلْسَةِ ، وَقَدْ تَشْغَفُ هِيَ بِبَعْضِ مَنْ تَرَاهُ مِنْ الشَّبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الرَّجُلِ ، وَأَقَلُّ مَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْقُلُوبَ تَتَعَلَّقُ غَالِبًا بِمَا رَأَتْ ، وَالْغَالِبُ عَدَمُ الْعِلْمِ عِنْدَهُمَا ، فَإِذَا قَرُبَ زَوْجَتَهُ قَدْ يَجْعَلُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ الصُّورَةَ الَّتِي تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ هِيَ فَيَكُونُ ذَلِكَ حَرَامًا كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ شَرِبَ الْمَاءَ يَعُدُّ أَنَّهُ خَمْرٌ أَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ يَصِيرُ فِي حَقِّهِ حَرَامًا ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
السَّابِعُ : أَنَّ فِي ذَلِكَ سَرَفًا وَإِضَاعَةَ مَالٍ ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمَا ، إذْ لَا يَخْلُو السَّاكِنُ هُنَاكَ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَسْكُنَ فِي مِلْكِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَسْكُنَ بِأُجْرَةٍ ، فَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ ، فَقَدْ أَضَاعَ مَالَهُ لِمَا يَئُولُ إلَيْهِ الْأَمْرُ كَمَا قَدْ عَلِمَ مِنْ

مُجَاوِرَةِ الْبَحْرِ فَفِي ذَلِكَ تَغْرِيرٌ بِمَالِهِ وَبِأَهْلِهِ وَبِوَلَدِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَهَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ قَدْ أَلْقَى بِنَفْسِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَسْكُنُ بِالْأُجْرَةِ فَلَا يُثَابُ عَلَى مَا دَفَعَ مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَقَدْ أَخْبَرَنِي مِنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِمِصْرَ قَبْلَ هَذَا الزَّمَنِ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِمْ الْمِلْكُ لِلْبَيْعِ صَعِدُوا عَلَى سَطْحِهِ ، فَإِذَا رَأَوْا الْبَحْرَ لَا يُعْطُونَ فِيهِ شَيْئًا وَيَقُولُونَ عَنْهُ : إنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِمَا يَخَافُونَ عَلَيْهِ مِنْ وُصُولِ الْبَحْرِ إلَيْهِ فَيُتْلِفَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْا الْبَحْرَ حِينَئِذٍ يَتَسَاوَمُونَ فِيهِ ، وَهُمْ الْيَوْمَ بِضِدِّ ذَلِكَ يُرِيدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَبْنِيَ فِي قَلْبِ الْبَحْرِ وَمَنْ بَنَى فِي قَلْبِ الْبَحْرِ ، فَهُوَ شَبِيهٌ بِمَنْ رَمَى مَالَهُ فِيهِ إلَّا أَنَّ الَّذِي رَمَى مَالَهُ فِيهِ هُوَ الَّذِي عَجَّلَ إتْلَافَهُ ، وَاَلَّذِي بَنَى فِيهِ أَجَّلَ إتْلَافَهُ ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَعَلَى هَذَا فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى بِنَاءِ الْمَسْكَنِ عَلَيْهِ فَلْيَكُنْ بِمَوْضِعٍ يَرَاهُ مِنْهُ إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ فِي الْبُعْدِ بِحَيْثُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى ؛ لِأَنَّهُ إذْ كَانَ كَذَلِكَ انْزَاحَتْ تِلْكَ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا وَسَقَطَ عَنْهُ التَّغْيِيرُ وَغَيْرُهُ .
وَهَذَا طَرِيقٌ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ قَبْلُ كَمَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ أَحْدَثَ مِئْذَنَةً عَلَى دُورٍ سَبَقَتْهَا أَنَّهُ إذَا صَعِدَ الْمُؤَذِّنُ عَلَيْهَا وَرَأَى النَّاسَ فِي بُيُوتِهِمْ وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ مَيَّزَ ذَلِكَ مُنِعَ إحْدَاثُهَا ، وَالصُّعُودُ عَلَيْهَا

وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُكْمَ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَوَاضِعِهِ ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : بَعِيدٌ مِنْ الْعُمْرَانِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ لَا ضَرَرَ عَلَى أَحَدٍ فِي إحْيَائِهِ ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ فِي إحْيَائِهِ ضَرَرٌ عَلَى مَنْ يَخْتَصُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، فَأَمَّا الْبَعِيدُ مِنْ الْعُمْرَانِ فَلَا يَحْتَاجُ فِي إحْيَائِهِ إلَى اسْتِئْذَانِ الْإِمَامِ إلَّا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ عَلَى مَا حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ ، وَأَمَّا الْقَرِيبُ مِنْهُ الَّذِي لَا ضَرَرَ فِي إحْيَائِهِ عَلَى أَحَدٍ فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ .
وَأَمَّا الْقَرِيبُ مِنْهُ الَّذِي فِي إحْيَائِهِ ضَرَرٌ كَالْأَفْنِيَةِ الَّتِي يَكُونُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا ضَرَرًا بِالطَّرِيقِ وَشِبْهُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ إحْيَاؤُهُ بِحَالٍ ، وَلَا يُبِيحُ ذَلِكَ الْإِمَامُ ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ

فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْقُبُورِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُنَّ مَيِّتٌ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ قَدْ حَكَمَتْ بِعَدَمِ خُرُوجِهِنَّ { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِنِسَاءٍ خَرَجْنَ فِي جِنَازَةٍ أَتَحْمِلْنَهُ فِيمَنْ يَحْمِلُهُ قُلْنَ لَا قَالَ : أَفَتُنْزِلْنَهُ قَبَرَهُ فِيمَنْ يُنْزِلُهُ قُلْنَ : لَا قَالَ : أَفَتَحْثِينَ عَلَيْهِ التُّرَابَ فِيمَنْ يَحْثِي قُلْنَ : لَا قَالَ : فَارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ } { وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ لَقِيَهَا فِي طَرِيقٍ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت فَقَالَتْ مِنْ عِنْدِ جِيرَانٍ لَنَا عَزَّيْتُهُمْ فِي مَيِّتِهِمْ فَقَالَ لَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَعَلَّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ يَعْنِي الْقُبُورَ فَقَالَتْ : لَا وَاَللَّهِ سَمِعْتُك تَنْهَى عَنْهَا فَقَالَ : لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ وَذَكَرَ وَعِيدًا شَدِيدًا } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَعَنْ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ ، وَالسُّرُجَ } أَخْرَجَهُ أَبُو دؤاد فِي سُنَنِهِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَقَدْ رَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِسَاءً فِي جِنَازَةٍ فَطَرَدَهُنَّ وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَأَرْجِعُ إنْ لَمْ تَرْجِعْنَ ، وَحَصَبَهُنَّ بِالْحِجَارَةِ ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي حُضُورِ الْجِنَازَةِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي خُرُوجِهِنَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : قَوْلٌ بِالْمَنْعِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي بِالْجَوَازِ عَلَى مَا يُعْلَمُ فِي الشَّرْعِ مِنْ السَّتْرِ ، وَالتَّحَفُّظِ عَكْسُ مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ .
وَالثَّالِثُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُتَجَالَّةِ ، وَالشَّابَّةِ فَيَجُوزُ لِلْمُتَجَالَّةِ وَيُمْنَعُ لِلشَّابَّةِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْكُورَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إنَّمَا هُوَ فِي نِسَاءِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَكُنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ فِي الِاتِّبَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا خُرُوجَهُنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَمَعَاذَ

اللَّهِ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، أَوْ مَنْ لَهُ مُرُوءَةٌ ، أَوْ غَيْرَةٌ فِي الدِّينِ بِجَوَازِ ذَلِكَ ، فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةٌ لِلْخُرُوجِ فَلْيَكُنْ ذَلِكَ عَلَى مَا يُعْلَمُ فِي الشَّرْعِ مِنْ السَّتْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ الذَّمِيمَةِ فِي هَذَا

وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ لِبَعْضِهِمْ فِي بِنَاءِ هَذِهِ الدُّورِ فِي الْقُبُورِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّارِعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَرَعَ دَفْنَ الْأَمْوَاتِ فِي الصَّحْرَاءِ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْإِيمَانَ بُنِيَ عَلَى النَّظَافَةِ ، فَإِذَا دُفِنَ الْمُؤْمِنُ فِي الصَّحْرَاءِ ، فَالصَّحْرَاءُ عَطْشَانَةٌ فَأَيُّ فَضْلَةٍ خَرَجَتْ مِنْ الْمَيِّتِ شَرِبَتْهَا الْأَرْضُ فَيَبْقَى الْمُؤْمِنُ نَظِيفًا فِي قَبْرِهِ .
فَلَمَّا أَنْ رَأَى الشَّيْطَانُ هَذِهِ السُّنَّةَ الْمُبَارَكَةُ ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ سَوَّلَ لَهُمْ ضِدَّهَا ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ مَيِّتٌ خَرَجُوا بِأَهْلِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ إلَى قَبْرِهِ فَيَسْكُنُونَ فِي دَارٍ إلَى جَانِبِهِ وَلَا بُدَّ لِلدَّارِ مِنْ بَيْتِ الْخَلَاءِ وَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمِيَاهِ ، فَإِذَا أَقَامُوا هُنَاكَ نَزَلَتْ تِلْكَ الْفَضَلَاتُ وَهِيَ سَرِيعَةُ السَّرَيَانِ فِي الْأَرْضِ فَتَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ فَتُنَجِّسُهُ ، وَيَنْمَاعُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ بِالْفَضَلَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ ، وَالنَّجَاسَاتُ الَّتِي انْجَذَبَتْ إلَيْهِ عَكْسُ مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، وَهُمْ يُقِيمُونَ عَلَى مَيِّتِهِمْ هُنَاكَ بِقَدْرِ عِزَّتِهِ عِنْدَهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقِيمُ الشَّهْرَ ، وَالشَّهْرَيْنِ ، وَالثَّلَاثَةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَمَا جَرَّتْ إلَيْهِ ، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ الْمَبِيتِ فِي الْقُبُورِ لِمَا يُخْشَى مِنْ كَشْفِ أَسْرَارِ الْمَوْتَى ، وَقَدْ سَتَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ عَنَّا رَحْمَةً بِنَا فَمَنْ يَبِتْ هُنَاكَ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ إلَى زَوَالِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى شَيْئًا يَذْهَبُ بِهِ عَقْلُهُ .
وَنَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ حِين تَشْيِيعِهِ إلَى قَبْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَفَاؤُلٌ رَدِيءٌ وَهَؤُلَاءِ يُوقِدُونَ الشُّمُوعَ وَغَيْرِهَا عِنْدَهُ مَعَ مَا يُوقِدُونَهُ مِنْ الْأَحْطَابِ لِطَعَامِهِمْ اللَّهُمَّ

عَافِنَا مِنْ قَلْبِ الْحَقَائِقِ ، وَقَدْ قَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ إنَّهُ بَنَى دَارًا حَوْلَ الْقُبُورِ فَسَكَنَ هُنَاكَ فَأَصْبَحَتْ جَارِيَةٌ مِنْ جَوَارِيهِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا رَأَتْ فِي النَّوْمِ شَيْخًا كَبِيرًا ذَا شَيْبَةٍ وَجَمَالٍ ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ وَهُوَ يَقُولُ نَحْنُ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ سُكَّانٌ بِهَذَا الْمَوْضِعِ وَأَنْتُمْ تَدُقُّونَ عَلَى رُؤْسِنَا بِالْهَاوُنِ بِاللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ ، وَقَدْ شَوَّشْتُمْ عَلَيْنَا قَالَ فَأَخْلَيْت ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَأَمَرْت بِهَدْمِهِ عَنْ آخِرِهِ فَالْبِنَاءُ فِي الْقُبُورِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إذَا كَانَتْ فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَلَا يَحِلُّ الْبِنَاءُ فِيهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ تَارِيخَ مِصْرَ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ فَتْحَ مِصْرَ وَأَخَذَ الْبِلَادَ مِنْ الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ مِصْرَ أَعْطَاهُ الْمُقَوْقِسُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ الْقَرَافَةِ مَالًا جَزِيلًا فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ أَنَّ الْمُقَوْقِسَ أَعْطَاهُ فِي أَرْضٍ مِنْ الْأَمْوَالِ كَذَا وَكَذَا ، وَهِيَ لَا تَنْفَعُ لِشَيْءٍ وَرَأَيْت أَنَّ هَذَا الْمَالَ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَأْخُذُ هُوَ أَرْضًا لَا مَنْفَعَةَ فِيهَا لَكِنِّي وَقَفْت فِي ذَلِكَ لِأَمْرِك فَانْظُرْ مَا تَرَى فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا بَعْدُ فَاسْأَلْهُ لِمَاذَا بَذَلَ هَذَا الْمَالَ فِيهَا ، وَهِيَ لَا تَنْفَعُ لِشَيْءٍ فَسَأَلَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ : إنَّا نَجِدُ فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا تُرْبَةُ الْجَنَّةِ فَكَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّى لَا أَعْرِفُ تُرْبَةَ

الْجَنَّةِ إلَّا لِأَجْسَادِ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلْهَا لِمَوْتَاهُمْ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَإِذَا جَعَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِدَفْنِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فِيهَا وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ مُنِعَ الْبِنَاءُ فِيهَا .
وَقَدْ قَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ وَأَسْكُنُ إلَى قَوْلِهِ : إنَّ الْمَلِكَ الظَّاهِرَ كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى هَدْمِ كُلِّ مَا فِي الْقَرَافَةِ مِنْ الْبِنَاءِ كَيْفَ كَانَ فَوَافَقَهُ الْوَزِيرُ فِي ذَلِكَ وَفَنَّدَهُ وَاحْتَالَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ لَهُ : إنَّ فِيهَا مَوَاضِعَ لِلْأُمَرَاءِ وَأَخَافُ أَنْ تَقَعَ فِتْنَةٌ بِسَبَبٍ ذَلِكَ ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَعْمَلَ فَتَاوَى فِي ذَلِكَ فَيَسْتَفْتِي فِيهَا الْفُقَهَاءَ : هَلْ يَجُوزُ هَدْمُهَا أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالُوا بِالْجَوَازِ فَعَلَ الْمَلِكُ ذَلِكَ مُسْتَنِدًا إلَى فَتَاوِيهِمْ فَلَا يَقَعُ تَشْوِيشٌ عَلَى أَحَدٍ .
فَاسْتَحْسَنَ الْمَلِكُ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ قَالَ : فَأَخَذَ الْفَتَاوَى وَأَعْطَاهَا إلَيَّ وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْشِيَ بِهَا عَلَى مَنْ وُجِدَ فِي الْوَقْتِ مِنْ الْعُلَمَاءِ فَمَشَيْت بِهَا عَلَيْهِمْ مِثْلُ الظَّهِيرِ التَّزْمَنْتِيِّ وَابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ وَنَظَائِرِهِمَا فِي الْوَقْتِ ، فَالْكُلُّ كَتَبُوا خُطُوطَهُمْ وَاتَّفَقُوا عَلَى لِسَانٍ وَاحِدٍ : إنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَهْدِمَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُكَلِّفَ أَصْحَابَهَا رَمْيَ تُرَابِهَا فِي الْكِيمَانِ ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْهُمْ .
قَالَ فَأَعْطَيْت الْفَتَاوَى لِلْوَزِيرِ فَمَا أَعْرِفُ مَا صَنَعَ فِيهَا وَسَكَتَ عَلَى ذَلِكَ وَسَافَرَ الْمَلِكُ الظَّاهِرُ إلَى الشَّامِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ فَلَمْ يَرْجِعْ وَمَاتَ بِهِ ، فَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْبِنَاءُ فِيهَا فَعَلَى هَذَا ، فَكُلُّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَقَدْ خَالَفَهُمْ وَمِنْ كِتَابِ ابْنِ بَشِيرٍ : وَلَيْسَتْ الْقُبُورُ مَوْضِعَ زِينَةٍ وَلَا مُبَاهَاةٍ ؛ وَلِهَذَا نُهِيَ عَنْ بِنَائِهَا عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي الْمُبَاهَاةَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ

يَحْرُمُ مَعَ هَذَا الْقَصْدِ وَوَقَعَ لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ فِيمَنْ أَوْصَى أَنْ يُبْنَى عَلَى قَبْرِهِ بَيْتٌ أَنَّهُ تَبْطُلُ وَصِيَّتُهُ وَقَالَ : لَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ وَلَا كَرَامَةَ ، وَظَاهِرُ هَذَا التَّحْرِيمِ ، وَإِلَّا لَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَنَفَّذَ وَصِيَّتَهُ ، وَنَهَى عَنْهَا ابْتِدَاءً انْتَهَى .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَيَأْتِي عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّلَاةِ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ ، بَلْ هَذَا الْغَصْبُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا غَصْبٌ لِحَقِّ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ ، وَالْأَوَّلُ لِلْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ ، فَالْأَحْيَاءُ قَدْ يُمْكِنُ التَّحَلُّلُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْأَمْوَاتِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ قَبْرًا لِيُدْفَنَ فِيهِ إذَا مَاتَ ؛ لِأَنَّهُ تَحْجِيرٌ عَلَى غَيْرِهِ ، وَمَنْ سَبَقَ كَانَ أَوْلَى بِالْمَوْضِعِ مِنْهُ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا غَصْبَ فِي ذَلِكَ .
وَفِيهِ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ حَفَرَ لَهُ ، وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ كُلُّهَا مَعَ وُجُودِ السَّلَامَةِ مِنْ هَتْكِ الْحَرِيمِ ، وَالْمَخَاوِفِ الَّتِي تَقَعُ لَهُمْ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى كَلَامٍ وَلَا بَيَانٍ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَذُبُّ عَنْ الدِّينِ وَيَذْكُرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَغَيْرَهَا ، وَيُعَظِّمُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ وَيَنْشُرُهَا حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا مِنْ الْقَبَائِحِ ، وَيُبَيِّنَ السُّنَّةَ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَلَّ مَنْ يَعْلَمُ آدَابَهَا فِي الْوَقْتِ أَعْنِي فِي الْغَالِبِ ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ، ثُمَّ أَبَاحَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ } فَجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَائِدَةَ زِيَارَةِ الْقُبُورِ تَذْكِرَةَ الْمَوْتِ

وَصِفَةُ السَّلَامِ عَلَى الْأَمْوَاتِ أَنْ يَقُولَ ( السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَالْمُسْلِمِينَ ، وَالْمُسْلِمَاتِ رَحِمَ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا ، وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ ) انْتَهَى .
ثُمَّ يَقُولُ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ ) وَمَا زِدْت ، أَوْ نَقَصْت فَوَاسِعٌ ، وَالْمَقْصُودُ الِاجْتِهَادُ لَهُمْ فِي الدُّعَاءِ ، فَإِنَّهُمْ أَحْوَجُ النَّاسِ لِذَلِكَ لِانْقِطَاعِ أَعْمَالِهِمْ ، ثُمَّ يَجْلِسُ فِي قِبْلَةِ الْمَيِّتِ وَيَسْتَقْبِلُهُ بِوَجْهِهِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يَجْلِسَ فِي نَاحِيَةِ رِجْلَيْهِ إلَى رَأْسِهِ ، أَوْ قُبَالَةِ وَجْهِهِ ، ثُمَّ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا حَضَرَهُ مِنْ الثَّنَاءِ ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ الْمَشْرُوعَةَ ، ثُمَّ يَدْعُو لِلْمَيِّتِ بِمَا أَمْكَنَهُ ، وَكَذَلِكَ يَدْعُو عِنْدَ هَذِهِ الْقُبُورِ عِنْدَ نَازِلَةٍ نَزَلَتْ بِهِ ، أَوْ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي زَوَالِهَا وَكَشْفِهَا عَنْهُ وَعَنْهُمْ ، وَهَذِهِ صِفَةُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ عُمُومًا .
فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ الْمُزَارُ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ فَيَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِ ، وَكَذَلِكَ يَتَوَسَّلُ الزَّائِرُ بِمَنْ يَرَاهُ الْمَيِّتُ مِمَّنْ تُرْجَى بَرَكَتُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ يَبْدَأُ بِالتَّوَسُّلِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إذْ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي التَّوَسُّلِ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ ، وَالْمُشَرَّعُ لَهُ فَيَتَوَسَّلُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَنْ تَبِعَهُ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا قُحِطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إلَيْك بِنَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ

إلَيْك بِعَمِّ نَبِيِّك فَاسْقِنَا فَيُسْقَوْنَ ) انْتَهَى .
ثُمَّ يَتَوَسَّلُ بِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ أَعْنِي بِالصَّالِحِينَ مِنْهُمْ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ ، ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدِيهِ وَلِمَشَايِخِهِ وَلِأَقَارِبِهِ وَلِأَهْلِ تِلْكَ الْمَقَابِرِ وَلِأَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَلِأَحْيَائِهِمْ وَذُرِّيَّتِهِمْ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلِمَنْ غَابَ عَنْهُ مِنْ إخْوَانِهِ وَيَجْأَرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ وَيُكْثِرُ التَّوَسُّلَ بِهِمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اجْتَبَاهُمْ وَشَرَّفَهُمْ وَكَرَّمَهُمْ فَكَمَا نَفَعَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا فَفِي الْآخِرَةِ أَكْثَرُ ، فَمَنْ أَرَادَ حَاجَةً فَلْيَذْهَبْ إلَيْهِمْ وَيَتَوَسَّلُ بِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَخَلْقِهِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ وَعُلِمَ مَا لِلَّهِ تَعَالَى بِهِمْ مِنْ الِاعْتِنَاءِ ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ ، وَمَا زَالَ النَّاسُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَالْأَكَابِرِ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ مَشْرِقًا وَمَغْرِبًا يَتَبَرَّكُونَ بِزِيَارَةِ قُبُورِهِمْ وَيَجِدُونَ بَرَكَةَ ذَلِكَ حِسًّا وَمَعْنًى ، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسَفِينَةِ النَّجَاءِ لِأَهْلِ الِالْتِجَاءِ فِي كَرَامَاتِ الشَّيْخِ أَبِي النَّجَاءِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ عَلَى ذَلِكَ مَا هَذَا لَفْظُهُ : تَحَقَّقَ لِذَوِي الْبَصَائِرِ ، وَالِاعْتِبَارِ أَنَّ زِيَارَةَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ مَحْبُوبَةٌ لِأَجْلِ التَّبَرُّكِ مَعَ الِاعْتِبَارِ ، فَإِنَّ بَرَكَةَ الصَّالِحِينَ جَارِيَةٌ بَعْدَ مَمَاتِهِمْ كَمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِمْ

وَالدُّعَاءُ عِنْدَ قُبُورِ الصَّالِحِينَ ، وَالتَّشَفُّعُ بِهِمْ مَعْمُولٌ بِهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَئِمَّةِ الدِّينِ انْتَهَى ، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ فَلْيَذْهَبْ إلَيْهِمْ وَلْيَتَوَسَّلْ بِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } انْتَهَى .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ آدَابِ السَّفَرِ مِنْ كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ مَا هَذَا نَصُّهُ : الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ يُسَافِرَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ إمَّا لِجِهَادٍ ، أَوْ حَجٍّ إلَى أَنْ قَالَ : وَيَدْخُلُ فِي جُمْلَتِهِ زِيَارَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَقُبُورِ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ ، وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَكُلُّ مَنْ يُتَبَرَّكُ بِمُشَاهَدَتِهِ فِي حَيَاتِهِ يُتَبَرَّكُ بِزِيَارَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَيَجُوزُ شَدُّ الرِّحَالِ لِهَذَا الْغَرَضِ ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا لِثَلَاثِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } .
لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ ؛ لِأَنَّهَا مُتَمَاثِلَةٌ بَعْدَ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ ، وَإِلَّا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ زِيَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَالْعُلَمَاءِ فِي أَصْلِ الْفَضْلِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَفَاوَتُ فِي الدَّرَجَاتِ تَفَاوُتًا عَظِيمًا بِحَسَبِ اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَذَكَرَ الْعَبْدَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِهِ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا هَذَا لَفْظُهُ : وَأَمَّا النَّذْرُ لِلْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ فَلَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْحَجُّ ، وَالْعُمْرَةُ وَإِلَى الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالنَّبِيُّ أَفْضَلُ مِنْ الْكَعْبَةِ وَمِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ حَجٌّ

وَلَا عُمْرَةٌ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُسْلِمٌ صَحِيحٌ لَا يَرْتَابُ فِيهِ إلَّا مُشْرِكٌ ، أَوْ مُعَانِدٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ هُبَيْرَةَ فِي كِتَابِ اتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ قَالَ : اتَّفَقَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَحَبَّةٌ ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي تَهْذِيبِ الطَّالِبِ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ أَنَّ زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبَةٌ قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ يُرِيدُ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ .
وَالْحَاصِلُ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَنَّهَا قُرْبَةٌ مَطْلُوبَةٌ لِنَفْسِهَا لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِغَيْرِهَا فَتَنْفَرِدُ بِالْقَصْدِ وَشَدِّ الرَّحَّالِ إلَيْهَا ، وَمَنْ خَرَجَ قَاصِدًا إلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا فَهُوَ فِي أَجَلِّ الطَّاعَاتِ وَأَعْلَاهَا فَهَنِيئًا لَهُ ، ثُمَّ هَنِيئًا لَهُ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّك يَا كَرِيمُ .
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : اُنْظُرْ إلَى سِرِّ مَا وَقَعَ مِنْ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْمَدِينَةِ وَإِقَامَتِهِ بِهَا حَتَّى انْتَقَلَ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَذَلِكَ أَنَّ حِكْمَةَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ مَضَتْ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَتَشَرَّفُ الْأَشْيَاءُ بِهِ لَا هُوَ يَتَشَرَّفُ بِهَا فَلَوْ بَقِيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَكَّةَ إلَى انْتِقَالِهِ إلَى رَبِّهِ تَعَالَى لَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَدْ تَشَرَّفَ بِمَكَّةَ ، إذْ أَنَّ شَرَفَهَا قَدْ سَبَقَ بِآدَمَ ، وَالْخَلِيلِ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ كَانَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْمَدِينَةِ فَتَشَرَّفَتْ الْمَدِينَةُ بِهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ مِنْ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ أَفْضَلَ الْبِقَاعِ

الْمَوْضِعُ الَّذِي ضَمَّ أَعْضَاءَهُ الْكَرِيمَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَفْضَلُ مِنْ الْكَعْبَةِ وَغَيْرِهَا وَانْظُرْ إلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي بَاشَرَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَجِدْهَا أَبَدًا تَتَشَرَّفُ بِحَسَبِ مُبَاشَرَتِهِ لَهَا وَبِقَدْرِ ذَلِكَ يَكُونُ التَّشْرِيفُ أَلَا تَرَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِي الْمَدِينَةِ : تُرَابُهَا شِفَاءٌ } .
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِتَرَدُّدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتِلْكَ الْخُطَى الْكَرِيمَةِ فِي أَرْجَائِهَا لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ ، أَوْ إغَاثَةِ مَلْهُوفٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمَّا أَنْ كَانَ مَشْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِهِ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ تَرَدُّدِهِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ عَظُمَ شَرَفُهُ بِذَلِكَ فَكَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ وَلَمَّا أَنْ كَانَ تَرَدُّدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَ بَيْتِهِ وَمِنْبَرِهِ أَكْثَرَ مِنْ تَرَدُّدِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ الشَّرِيفَةُ بِنَفْسِهَا رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ } انْتَهَى .
وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْعَمَلَ فِيهَا يُحَصِّلُ لِصَاحِبِهِ رَوْضَةً فِي الْجَنَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا بِنَفْسِهَا تُنْقَلُ إلَى الْجَنَّةِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ

، ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْآدَابِ ، وَهُوَ فِي زِيَارَةِ الْعُلَمَاءِ ، وَالصُّلَحَاءِ وَمَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِمْ .
وَأَمَّا عَظِيمُ جَنَابِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ فَيَأْتِي إلَيْهِمْ الزَّائِرُ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ قَصْدُهُمْ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ ، فَإِذَا جَاءَ إلَيْهِمْ فَلْيَتَّصِفْ بِالذُّلِّ ، وَالِانْكِسَارِ ، وَالْمَسْكَنَةِ ، وَالْفَقْرِ ، وَالْفَاقَةِ ، وَالْحَاجَةِ ، وَالِاضْطِرَارِ ، وَالْخُضُوعِ وَيُحْضِرْ قَلْبَهُ وَخَاطِرَهُ إلَيْهِمْ ، وَإِلَى مُشَاهَدَتِهِمْ بِعَيْنِ قَلْبِهِ لَا بِعَيْنِ بَصَرِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَبْلَوْنَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ ، ثُمَّ يُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ وَيَتَرَضَّى عَنْ أَصْحَابِهِمْ ، ثُمَّ يَتَرَحَّمُ عَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ، ثُمَّ يَتَوَسَّلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِهِمْ فِي قَضَاءِ مَآرِبِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَيَسْتَغِيثُ بِهِمْ وَيَطْلُبُ حَوَائِجَهُ مِنْهُمْ وَيَجْزِمُ بِالْإِجَابَةِ بِبَرَكَتِهِمْ وَيُقَوِّي حُسْنَ ظَنِّهِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ بَابُ اللَّهِ الْمَفْتُوحِ ، وَجَرَتْ سُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَضَاءِ الْحَوَائِجِ عَلَى أَيْدِيهِمْ وَبِسَبَبِهِمْ وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهِمْ فَلْيُرْسِلْ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَذِكْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ وَسَتْرِ عُيُوبِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ السَّادَةُ الْكِرَامُ ، وَالْكِرَامُ لَا يَرُدُّونَ مَنْ سَأَلَهُمْ وَلَا مَنْ تَوَسَّلَ بِهِمْ ، وَلَا مَنْ قَصَدَهُمْ وَلَا مَنْ لَجَأَ إلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامُ فِي زِيَارَةِ الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عُمُومًا .

فَصْلٌ وَأَمَّا فِي زِيَارَةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخِرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَكُلُّ مَا ذُكِرَ يَزِيدُ عَلَيْهِ أَضْعَافَهُ أَعْنِي فِي الِانْكِسَارِ ، وَالذُّلِّ ، وَالْمَسْكَنَةِ ؛ لِأَنَّهُ الشَّافِعُ الْمُشَفَّعُ الَّذِي لَا تُرَدُّ شَفَاعَتُهُ وَلَا يَخِيبُ مَنْ قَصْدَهُ وَلَا مَنْ نَزَلَ بِسَاحَتِهِ وَلَا مَنْ اسْتَعَانَ ، أَوْ اسْتَغَاثَ بِهِ ، إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قُطْبُ دَائِرَةِ الْكَمَالِ وَعَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ رَأَى صُورَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِذَا هُوَ عَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ فَمَنْ تَوَسَّلَ بِهِ ، أَوْ اسْتَغَاثَ بِهِ ، أَوْ طَلَبَ حَوَائِجَهُ مِنْهُ فَلَا يُرَدُّ وَلَا يَخِيبُ لِمَا شَهِدَتْ بِهِ الْمُعَايَنَةُ ، وَالْآثَارُ وَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدَبِ الْكُلِّيِّ فِي زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الزَّائِرَ يُشْعِرُ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا هُوَ فِي حَيَاتِهِ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْتِهِ وَحَيَاتِهِ أَعْنِي فِي مُشَاهَدَتِهِ لِأُمَّتِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِأَحْوَالِهِمْ وَنِيَّاتِهِمْ وَعَزَائِمِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ جَلِيٌّ لَا خَفَاءَ فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : هَذِهِ الصِّفَاتُ مُخْتَصَّةٌ بِالْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ مَنْ انْتَقَلَ إلَى الْآخِرَةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ يَعْلَمُونَ أَحْوَالَ الْأَحْيَاءِ غَالِبًا ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى مِنْ حِكَايَاتٍ وَقَعَتْ مِنْهُمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ حِينَ عَرْضِ أَعْمَالِ الْأَحْيَاءِ عَلَيْهِمْ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مَغِيبَةٌ عَنَّا .
وَقَدْ أَخْبَرَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعَرْضِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهِمْ فَلَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ ، وَالْكَيْفِيَّةُ فِيهِ غَيْرُ

مَعْلُومَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا وَكَفَى فِي هَذَا بَيَانًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } انْتَهَى .
وَنُورُ اللَّهِ لَا يَحْجُبُهُ شَيْءٌ هَذَا فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فَكَيْفَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ؟ ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَذْكِرَتِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ : ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو حَدَّثَنَا أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ : لَيْسَ مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَتُعْرَضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْمَالُ أُمَّتِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً فَيَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ ؛ فَلِذَلِكَ يَشْهَدُ عَلَيْهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِك عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } ، قَالَ : وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَعَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَالْآبَاءِ ، وَالْأُمَّهَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا تَعَارُضَ ، فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَخْتَصَّ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْعَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ انْتَهَى .
فَالتَّوَسُّلُ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُوَ مَحَلُّ حَطِّ أَحْمَالِ الْأَوْزَارِ وَأَثْقَالِ الذُّنُوبِ ، وَالْخَطَايَا ؛ لِأَنَّ بَرَكَةَ شَفَاعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعِظَمَهَا عِنْدَ رَبِّهِ لَا يَتَعَاظَمُهَا ذَنْبٌ ، إذْ أَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَمِيعِ فَلْيَسْتَبْشِرْ مَنْ زَارَهُ وَيَلْجَأْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْ لَمْ يَزُرْهُ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ شَفَاعَتِهِ بِحُرْمَتِهِ عِنْدَك آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
وَمَنْ اعْتَقَدَ خِلَافَ هَذَا فَهُوَ الْمَحْرُومُ أَلَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا

اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } فَمَنْ جَاءَهُ وَوَقَفَ بِبَابِهِ وَتَوَسَّلَ بِهِ وَجَدَ اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُنَزَّهٌ عَنْ خُلْفِ الْمِيعَادِ ، وَقَدْ وَعَدَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالتَّوْبَةِ لِمَنْ جَاءَهُ وَوَقَفَ بِبَابِهِ وَسَأَلَهُ وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ ، فَهَذَا لَا يَشُكُّ فِيهِ وَلَا يَرْتَابُ إلَّا جَاحِدٌ لِلدِّينِ مُعَانِدٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْحِرْمَانِ ، وَقَدْ جَاءَ بَعْضُهُمْ إلَى زِيَارَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَدْخُلْ الْمَدِينَةَ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، بَلْ زَارَ مِنْ خَارِجِهَا أَدَبًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَدْخُلُ فَقَالَ : أَمِثْلِي يَدْخُلُ بَلَدَ سَيِّدِ الْكَوْنَيْنِ لَا أَجِدُ نَفْسِي تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِرَسُولِ الْخَلِيفَةِ لَمَّا أَنْ أَتَى إلَيْهِ بِالْبَغْلَةِ لِيَرْكَبَهَا حَتَّى يَأْتِيَ إلَيْهِ لِعُذْرِهِ فِي كَوْنِهِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ انْخَلَعَتْ يَدَاهُ وَرُكْبَتَاهُ مِنْ الضَّرْبِ الَّذِي قَدْ وَقَعَ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحِكَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُ فَأَبَى أَنْ يَرْكَبَ ، وَقَالَ : مَوْضِعٌ وَطِئَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَقْدَامِهِ الْكَرِيمَةِ مَا كَانَ لِي أَنْ أَطَأَهُ بِحَافِرِ بَغْلَةٍ وَمَشَى إلَيْهِ مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إلَى الْخَلِيفَةِ فِي خَارِجِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَجَرَى لَهُ مَعَهُ مَا جَرَى .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْخَلِيفَةِ لَمَّا أَنْ سَأَلَهُ إذَا دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَتَوَجَّهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ إلَى الْقِبْلَةِ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَيْفَ تَصْرِفُ وَجْهَك عَنْهُ وَهُوَ وَسِيلَتُك وَوَسِيلَةُ أَبِيك آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ

الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ لَهُ : وَزِيَارَةٌ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْمُسْلِمِينَ مَجْمَعٌ عَلَيْهَا وَفَضِيلَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي } .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ زَارَنِي فِي الْمَدِينَةِ مُحْتَسِبًا كَانَ فِي جِوَارِي وَكُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي } قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمِمَّا لَمْ يَزَلْ مِنْ شَأْنِ مَنْ حَجَّ الْمُرُورُ بِالْمَدِينَةِ ، وَالْقَصْدُ إلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالتَّبَرُّكُ بِرُؤْيَةِ رَوْضَتِهِ وَمِنْبَرِهِ وَقَبْرِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَلَامِسِ يَدَيْهِ وَمَوَاطِئِ قَدَمَيْهِ ، وَالْعَمُودِ الَّذِي يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَيَنْزِلُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ فِيهِ عَلَيْهِ وَبِمَنْ عَمَّرَهُ وَقَصَدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالِاعْتِبَارُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ سَمِعْت بَعْضَ مَنْ أَدْرَكْته يَقُولُ : بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا مُحَمَّدٌ يَقُولُهَا سَبْعِينَ مَرَّةً نَادَاهُ مَلَكٌ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك يَا فُلَانُ وَلَمْ تَسْقُطْ لَهُ حَاجَةٌ وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَهْدِيِّ قَالَ : قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمَّا وَدَّعْته قَالَ لِي أَلَك حَاجَةٌ إذَا أَتَيْت الْمَدِينَةَ سَتَرَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ قَالَ غَيْرُهُ وَكَانَ يُبْرِدُ إلَيْهِ

الْبَرِيدَ مِنْ الشَّامِ قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ : إذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعَا يَقِفُ وَوَجْهُهُ إلَى الْقَبْرِ لَا إلَى الْقِبْلَةِ ، وَيَدْنُو وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ ، وَقَالَ نَافِعٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَبْرِ رَأَيْته مِائَةَ مَرَّةٍ ، وَأَكْثَرُ مَا يَفْعَلُ يَجِيءُ إلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَامُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَى أَبِي حَفْصٍ ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَيَقُولُ إذَا دَخَلَ مَسْجِدَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : بِسْمِ اللَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالسَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا وَصَلَّى اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِك وَجَنَّتِك وَاحْفَظْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، ثُمَّ اقْصِدْ إلَى الرَّوْضَةِ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ ، وَالْمِنْبَرِ فَارْكَعْ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ وُقُوفِك بِالْقَبْرِ تَحْمَدُ اللَّهَ فِيهِمَا وَتَسْأَلُهُ تَمَامَ مَا خَرَجْت إلَيْهِ ، وَالْعَوْنَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَتْ رَكْعَتَاك فِي غَيْرِ الرَّوْضَةِ أَجْزَأْتُك ، وَفِي الرَّوْضَةِ أَفْضَلُ ، ثُمَّ تَقِفُ بِالْقَبْرِ مُتَوَاضِعًا مُتَوَقِّرًا فَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا يَحْضُرُك وَتُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَتَدْعُو لَهُمَا قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ وَخَرَجَ قَالَ مُحَمَّدٌ وَإِذَا خَرَجَ جَعَلَ آخِرَ عَهْدِهِ الْوُقُوفَ بِالْقَبْرِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ خَرَجَ مُسَافِرًا ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطَةِ : وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَخَرَجَ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْوُقُوفُ بِالْقَبْرِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ فَقِيلَ لَهُ إنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدِمُونَ مِنْ سَفَرٍ وَلَا يُرِيدُونَهُ إلَّا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ

فِي الْيَوْمِ مَرَّةً ، أَوْ أَكْثَرَ فَيُسَلِّمُونَ وَيَدْعُونَ سَاعَةً فَقَالَ : لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلَدِنَا ، وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ ، أَوْ أَرَادَهُ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَرَأَيْت أَهْلَ الْمَدِينَةِ إذَا خَرَجُوا مِنْهَا ، أَوْ دَخَلُوهَا أَتَوْا الْقَبْرَ فَسَلَّمُوا قَالَ ، وَذَلِكَ دَأْبِي قَالَ الْبَاجِيُّ : فَفَرْقٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَالْغُرَبَاءِ ؛ لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ قَاصِدُونَ إلَى ذَلِكَ ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ مُقِيمُونَ بِهَا لَمْ يَقْصِدُوهَا مِنْ أَجْلِ الْقَبْرِ ، وَالتَّسْلِيمِ .
وَفِي الْعُتْبِيَّةِ يَبْدَأُ بِالرُّكُوعِ قَبْلَ السَّلَامِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ كِتَابِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْهِنْدِيِّ وَمَنْ وَقَفَ بِالْقَبْرِ لَا يَلْتَصِقْ بِهِ وَلَا يَمَسَّهُ وَلَا يَقِفْ عِنْدَهُ طَوِيلًا انْتَهَى .
يَعْنِي بِالْوُقُوفِ طَوِيلًا أَنَّ الْحُجْرَةَ الشَّرِيفَةَ دَاخِلُ الدَّرَابِيزِ ، فَإِذَا وَقَفَ طَوِيلًا ضَيَّقَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَأَمَّا لَوْ وَقَفَ خَارِجَ الدَّرَابِيزِ فَذَلِكَ الْمَوْضِعُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِيهِ حَقَّ الصَّلَاةِ وَانْتِظَارَهَا ، وَالِاعْتِكَافَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدْخُلَ مِنْ دَاخِلِ الدَّرَابِيزِ الَّتِي هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ مَحَلُّ احْتِرَامٍ وَتَعْظِيمٍ فَيُنَبِّهُ الْعَالِمُ غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُحَذِّرُهُمْ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ هُنَاكَ فَتَرَى مِنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَطُوفُ بِالْقَبْرِ الشَّرِيفِ كَمَا يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ الْحَرَامِ وَيَتَمَسَّحُ بِهِ وَيُقَبِّلُهُ وَيُلْقُونَ عَلَيْهِ مَنَادِيلَهُمْ وَثِيَابَهُمْ يَقْصِدُونَ بِهِ التَّبَرُّكَ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاتِّبَاعِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا كَانَ سَبَبُ عِبَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ لِلْأَصْنَامِ

إلَّا مِنْ هَذَا الْبَابِ

وَلِأَجْلِ ذَلِكَ كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ التَّمَسُّحَ بِجِدَارِ الْكَعْبَةِ ، أَوْ بِجُدْرَانِ الْمَسْجِدِ ، أَوْ بِالْمُصْحَفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُتَبَرَّكُ بِهِ سَدًّا لِهَذَا الْبَابِ وَلِمُخَالِفَةِ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ التَّعْظِيمِ مَوْقُوفَةٌ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَكُلُّ مَا عَظَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعَظِّمُهُ وَنَتَّبِعُهُ فِيهِ ، فَتَعْظِيمُ الْمُصْحَفِ قِرَاءَتُهُ ، وَالْعَمَلُ بِمَا فِيهِ لَا تَقْبِيلُهُ وَلَا الْقِيَامُ إلَيْهِ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ تَعْظِيمُهُ الصَّلَاةُ فِيهِ لَا التَّمَسُّحُ بِجُدْرَانِهِ .
وَكَذَلِكَ الْوَرَقَةُ يَجِدُهَا الْإِنْسَانُ فِي الطَّرِيقِ فِيهَا اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى ، أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
تَرْفِيعُهُ إزَالَةُ الْوَرَقَةِ مِنْ مَوْضِعِ الْمَهَانَةِ إلَى مَوْضِعٍ تُرْفَعُ فِيهِ لَا بِتَقْبِيلِهَا ، وَكَذَلِكَ الْخُبْزُ يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مُلْقًى بَيْنَ الْأَرْجُلِ ؛ تَعْظِيمُهُ أَكْلُهُ لَا تَقْبِيلُهُ ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ تَعْظِيمُهُ اتِّبَاعُهُ لَا تَقْبِيلُ يَدِهِ وَقَدَمِهِ ، وَلَا التَّمَسُّحُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ تَعْظِيمُهُ بِاتِّبَاعِهِ لَا بِالِابْتِدَاعِ عِنْدَهُ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِهِمْ فِي الْمُصْحَفِ مُصَيْحِفٌ ، وَفِي الْكِتَابِ كُتَيِّبٌ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ حِينَ مُنَاوَلَتِهِمْ الْمُصْحَفَ ، وَالْكِتَابَ لَفْظَةَ حَاشَاك ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ مُسَيْجِدٌ وَفِي الدُّعَاءِ اُدْعُ لِي دُعَيْوَةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ شَنِيعَةٌ قَبِيحَةٌ لَوْ عَلِمُوا مَا فِيهَا مِنْ الْخَطَرِ مَا تَكَلَّمُوا بِهَا ، إذْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ تَعْظِيمُهُ مَطْلُوبٌ ، وَالتَّصْغِيرُ ضِدُّهُ ، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنْ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ } انْتَهَى ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الذَّمُّ الْعَظِيمُ فِيمَنْ اتَّخَذَ الْمَوْضِعَ مَسْجِدًا فَكَيْف بِالطَّوَافِ

عِنْدَهُ

، وَأَمَّا أَكْلُ التَّمْرِ عِنْدَهُ فِي الرَّوْضَةِ الْمُشَرَّفَةِ فَمَمْنُوعٌ ، إذْ أَنَّ فِيهِ قِلَّةُ أَدَبٍ وَاحْتِرَامٍ مَعَهُ وَمَعَ مَسْجِدِهِ وَمَعَ رَوْضَتِهِ الَّتِي عَظَّمَهَا وَرَفَعَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ عَامَّتَهُمْ يُلْقُونَ النَّوَى هُنَاكَ وَهُوَ أَذًى فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الذُّبَابُ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْأَذَى لِلْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ مَا فِيهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُعَامِلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي عَظَّمَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالنَّقِيضِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكَلَ التَّمْرَ حَصَلَ لُعَابُهُ فِي النَّوَاةِ ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا وَيُلْقِيهَا فِي الْمَسْجِدِ وَلُعَابُهُ عَلَيْهَا ، وَهَذَا بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ ، وَفِيهِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ وَقِلَّةِ الِاحْتِرَامِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

ج4.




اتصل بنا | Other languages | الصفحة الرئيسية
مكتبة القرآن مكتبة علوم القران مكتبة الحديث مكتبة العقيدة مكتبة الفقه مكتبة التاريخ مكتبة الأدب المكتبة العامة
http://www.islamicbook.ws/amma/images/header.jpg

كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ
المؤلف : أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

فَإِذَا زَارَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ قَدَرَ أَنْ لَا يَجْلِسَ فَهُوَ بِهِ أَوْلَى ، فَإِنْ عَجَزَ ، فَلَهُ أَنْ يَجْلِسَ بِالْأَدَبِ ، وَالِاحْتِرَامِ ، وَالتَّعْظِيمِ ، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ الزَّائِرُ فِي طَلَبِ حَوَائِجِهِ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ أَنْ يَذْكُرَهَا بِلِسَانِهِ ، بَلْ يُحْضِرُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْلَمُ مِنْهُ بِحَوَائِجِهِ وَمَصَالِحِهِ وَأَرْحَمُ بِهِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ ، وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الْفَرَاشِ تَقَعُونَ فِي النَّارِ وَأَنَا آخُذُ بِحُجُزِكُمْ عَنْهَا } .
أَوْ كَمَا قَالَ ، وَهَذَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ أَعْنِي فِي التَّوَسُّلِ بِهِ وَطَلَبِ الْحَوَائِجِ بِجَاهِهِ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَنْ لَمْ يُقَدَّرْ لَهُ زِيَارَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِسْمِهِ فَلْيَنْوِهَا كُلَّ وَقْتٍ بِقَلْبِهِ وَلْيُحْضِرْ قَلْبَهُ أَنَّهُ حَاضِرٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُتَشَفِّعًا بِهِ إلَى مَنْ مَنَّ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيُوسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي رُقْعَتِهِ الَّتِي أَرْسَلَهَا إلَيْهِ مِنْ أَبْيَاتٍ إلَيْك أَفِرُّ مِنْ زَلَلِي وَذَنْبِي وَأَنْتَ إذَا لَقِيت اللَّهَ حَسْبِي وَزَوْرَةُ قَبْرِك الْمَحْجُوجُ قِدَمًا مُنَايَ وَبُغْيَتِي لَوْ شَاءَ رَبِّي ، فَإِنْ أُحْرَمْ زِيَارَتَهُ بِجِسْمِي فَلَمْ أُحْرَمْ زِيَارَتَهُ بِقَلْبِي إلَيْك غَدَتْ رَسُولَ اللَّهِ مِنِّي تَحِيَّةُ مُؤْمِنٍ دَنِفٍ مُحِبِّ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا شَفَاعَتَهُ وَلَا عِنَايَتَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ وَأَدْخَلْنَا بِفَضْلِك فِي زُمْرَةِ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ بِجَاهِهِ عِنْدَك ، فَإِنَّ جَاهَهُ عِنْدَك عَظِيمٌ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَى صَاحِبِهِ وَأَوَّلِ خُلَفَائِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتَرَضَّى عَنْهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا حَضَرَهُ ، ثُمَّ

يَفْعَلُ كَذَلِكَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتَوَسَّلُ بِهِمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقَدِّمُهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ شَفِيعَيْنِ فِي حَوَائِجِهِ ، ثُمَّ هُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْبَقِيعِ لِيَزُورَ مَنْ فِيهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا أَتَى إلَى الْبَقِيعِ بَدَأَ بِثَالِثِ الْخُلَفَاءِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ يَأْتِي قَبْرَ الْعَبَّاسِ عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يَأْتِي مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْأَكَابِرِ وَيَنْوِي امْتِثَالَ السُّنَّةِ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَزُورُ أَهْلَ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ ، وَهَذَا نَصٌّ فِي الزِّيَارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا قُرْبَةٌ بِنَفْسِهَا مُسْتَحَبَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا فِي الدِّينِ ظَاهِرَةٌ بَرَكَتُهَا عِنْدَ السَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ ، وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ كَانَتْ إقَامَتُهُ كَثِيرَةً بِالْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ ، وَالسَّلَامِ .
فَأَمَّا الزَّائِرُ أَيَّامًا وَيَرْجِعُ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَجِوَارِهِ ، وَالْمُقَامِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنَّهُ عَرُوسُ الْمَمْلَكَةِ وَبَابُ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ دِينًا وَدُنْيَا وَأُخْرَى فَيَذْهَبُ إلَى أَيْنَ ، وَقَدْ فَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَيْنَ الْأَفَّاقِي ، وَالْمُقِيمِ فِي التَّنَفُّلِ بِالطَّوَافِ ، وَالصَّلَاةِ فَقَالُوا : الطَّوَافُ فِي حَقِّ الْأَفَّاقِي أَفْضَلُ لَهُ ، وَالتَّنَفُّلُ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ أَفْضَلُ ، وَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى فَمَنْ كَانَ مُقِيمًا خَرَجَ إلَى زِيَارَةِ أَهْلِ الْبَقِيعِ وَمَنْ كَانَ مُسَافِرًا فَلْيَغْتَنِمْ مُشَاهَدَتَهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ، وَقَدْ قَالَ لِي سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ : مَا جَلَسْت فِي الْمَسْجِدِ إلَّا الْجُلُوسَ فِي

الصَّلَاةِ ، أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ ، وَمَا زِلْت وَاقِفًا هُنَاكَ حَتَّى رَحَلَ الرَّكْبُ وَلَمْ أَخْرُجْ إلَى بَقِيعٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَمْ أَزُرْ غَيْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ قَدْ خَطَرَ لِي أَنْ أَخْرُجَ إلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ فَقُلْت : إلَى أَيْنَ أَذْهَبُ ؟ هَذَا بَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمَفْتُوحُ لِلسَّائِلِينَ ، وَالطَّالِبِينَ ، وَالْمُنْكَسِرِينَ ، وَالْمُضْطَرِّينَ ، وَالْفُقَرَاءِ ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يُقْصَدُ مِثْلُهُ ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى هَذَا ظَفَرَ وَنَجَحَ بِالْمَأْمُولِ ، وَالْمَطْلُوبِ ، أَوْ كَمَا قَالَ

ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى زِيَارَةِ قُبُورِ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ ، فَإِذَا زَارَ فَلْيَعْتَبِرْ فِي حَالِ مَنْ زَارَهُ وَمَا صَارَ إلَيْهِ فِي قَبْرِهِ مِنْ الْحَمَإِ الْمَسْنُونِ وَهِيَ الطِّينَةُ الْحَارَّةُ الْمُنْتِنَةُ الْعَفِنَةُ ، وَمَاذَا سُئِلَ عَنْهُ ، وَبِمَاذَا أَجَابَ وَمَا هُوَ حَالُهُ هَلْ فِي جَنَّةٍ ، أَوْ ضِدِّهَا ، وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي التَّرَحُّمِ عَلَيْهِ وَرَفْعِ مَا بِهِ مِنْ الْكَرْبِ إنْ كَانَ بِهِ وَيَسْأَلُ لَهُ جَلْبَ الرَّحْمَةِ وَرَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَيُشْعِرُ نَفْسَهُ أَنَّهُ حَصَلَ فِي عَسْكَرِهِمْ ، إذْ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ كَمَا قِيلَ : مَنْ عَاشَ مَاتَ وَمَنْ مَاتَ فَاتَ وَأَنَّهُ الْآنَ كَأَنَّهُ يَسْأَلُ وَيُفَكِّرُ فِي مَاذَا يُجِيبُ ، وَهُوَ فِي قَبْرِهِ وَحِيدٌ فَرِيدٌ قَدْ رَحَلَ عَنْهُ أَهْلُهُ وَمَعَارِفُهُ وَوَلَدُهُ وَمَالُهُ فَيَكُونُ مَشْغُولًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ } انْتَهَى .
فَيَتَعَلَّقُ بِمَوْلَاهُ فِي الْخَلَاصِ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَطِرَةِ الْعَظِيمَةِ وَيَلْجَأُ إلَيْهِ وَيَتَوَسَّلُ

وَلَا يَقْرَأُ الزَّائِرُ عِنْدَ قَبْرِ الْمَيِّتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ شَغْلِهِ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ يَحْتَاجُ صَاحِبُهَا إلَى التَّدَبُّرِ وَإِحْضَارِ الْفِكْرَةِ فِيمَا يَتْلُوهُ وَفِكْرَتَانِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ لَا يَجْتَمِعَانِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَنَا أَعْتَبِرُ فِي وَقْتٍ وَأَقْرَأُ فِي وَقْتٍ آخَرَ ، وَالْقِرَاءَةُ إذَا قُرِئَتْ تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ ، إذْ ذَاكَ فَلَعَلَّ أَنْ يَلْحَقَ الْمَيِّتَ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ شَيْءٌ يَنْفَعُهُ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ السُّنَّةَ لَمْ تَرِدْ بِذَلِكَ وَكَفَى بِهَا .
الثَّانِي : شَغْلُهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفِكْرَةِ ، وَالِاعْتِبَارِ فِي حَالِ الْمَوْتِ وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَالْوَقْتُ مَحَلٌّ لِهَذَا فَقَطْ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عِبَادَةٍ إلَى عِبَادَةٍ أُخْرَى سِيَّمَا لِأَجْلِ الْغَيْرِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ فِي بَيْتِهِ وَأَهْدَى لَهُ لَوَصَلَتْ ، وَكَيْفِيَّةُ وُصُولِهَا أَنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ تِلَاوَتِهِ وَهَبَ ثَوَابَهَا لَهُ ، أَوْ قَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْ ثَوَابَهَا لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ دُعَاءٌ بِالثَّوَابِ ؛ لَأَنْ يَصِلَ إلَى أَخِيهِ ، وَالدُّعَاءُ يَصِلُ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقُبُورِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى قَبْرِهِ سَبَبًا لِعَذَابِهِ ، أَوْ لِزِيَادَتِهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِهِ آيَةٌ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا فَيُقَالُ لَهُ : أَمَا قَرَأْتَهَا أَمَا سَمِعْتهَا فَكَيْفَ خَالَفْتهَا فَيُعَذَّبُ ، أَوْ يُزَادُ فِي عَذَابِهِ لِأَجْلِ مُخَالِفَتِهِ لَهَا كَمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ مَنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ ؛ أَنَّهُ رُئِيَ فِي عَذَابٍ عَظِيمٍ فَقِيلَ لَهُ : أَمَا تَنْفَعُك الْقِرَاءَةُ الَّتِي تُقْرَأُ عِنْدَك لَيْلًا وَنَهَارًا فَقَالَ : إنَّهَا سَبَبٌ لِزِيَادَةِ عَذَابِي وَذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْقُبُورِ بِدْعَةٌ وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ وَإِنَّ مَذْهَبَ

مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ انْتَهَى .

فَيَكُونُ الْعَالِمُ يُبَيِّنُ هَذِهِ السُّنَّةَ فِي الزِّيَارَةِ وَيُوَضِّحُهَا حَتَّى تُعْرَفَ وَيَتَعَاهَدَهَا النَّاسُ ، وَيُبَيِّنُ لِمَنْ حَضَرَهُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي الزِّيَارَةِ مِنْ الْبِدَعِ ، وَالْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي يَكِلُّ السَّمْعُ عَنْهَا فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهَا وَمُبَاشَرَتِهَا فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسَاءِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي رُكُوبِهِنَّ عَلَى الدَّوَابِّ فِي الذَّهَابِ ، وَالرُّجُوعِ وَفِي مَسِّ الْمُكَارِي لَهُنَّ وَتَحْضِينِهِ لِلْمَرْأَةِ فِي إرْكَابِهَا ، وَإِنْزَالِهَا وَحِينَ مُضِيِّهَا يَجْعَلُ يَدَهُ عَلَى فَخْذِهَا وَتَجْعَلُ يَدَهَا عَلَى كَتِفِهِ مَعَ أَنَّ يَدَهَا وَمِعْصَمَهَا مَكْشُوفَانِ لَا سِتْرَ عَلَيْهِمَا سِيَّمَا مَعَ مَا يَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْخَوَاتِمِ ، وَالْأَسَاوِرِ مِنْ الذَّهَبِ ، أَوْ الْفِضَّةِ ، أَوْ هُمَا مَعًا مَعَ الْخِضَابِ فِي الْغَالِبِ وَتَقْصِدُ مَعَ ذَلِكَ إظْهَارَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ لَوْ فَعَلَهُ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ لَا يَعْرِفُ لَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ وَمُنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَرَاهُ الزَّوْجُ ، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ ، أَوْ الْعَالِمُ ، أَوْ غَيْرُهُمْ فَيَسْكُتُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ مَعَ أَنَّهَا تُنَاجِي الْمُكَارِيَ وَتُحَدِّثُهُ كَأَنَّهُ زَوْجُهَا ، أَوْ ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا ، بَلْ الْعَجَبُ أَنَّ زَوْجَهَا وَغَيْرَهُ مِمَّنْ ذُكِرَ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ بِالْحَضْرَةِ وَيَعْلَمُونَهُ بِالْغَيْبَةِ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ ، وَكُلُّ مَنْ يُعَايِنُهُمْ مِنْ النَّاسِ سُكُوتٌ لَا يَتَكَلَّمُونَ وَلَا يُغَيِّرُونَ وَلَا يَجِدُونَ لِذَلِكَ غَيْرَةً إسْلَامِيَّةً فِي الْغَالِبِ ، فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ إذَا رَآهُ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِ مَنْ يُجَالِسُهُ وَيَرَاهُ تَنَبَّهَ النَّاسُ لِهَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَلَّ فَاعِلُهَا ، فَإِنْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ يَعْلَمُ بِسَبَبِ إشَاعَةِ الْعَالِمِ ذَلِكَ كُلَّهُ أَنَّهُ عَاصٍ وَكَفَى بِهَذِهِ نِعْمَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا ذَلِكَ رُجِيَ لَهُمْ التَّوْبَةُ ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي ذَهَابِهِنَّ وَعَوْدِهِنَّ

.
وَأَمَّا فِي حَالِ زِيَارَتِهِنَّ الْقُبُورَ فَأَشْنَعُ وَأَعْظَمُ ؛ لِأَنَّهَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَفَاسِدَ عَدِيدَةٍ : فَمِنْهَا : مَشْيُهُنَّ بِاللَّيْلِ مَعَ الرِّجَالِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ مَعَ كَثْرَةِ الْخَلَوَاتِ هُنَاكَ وَكَثْرَةِ الدُّورِ الْمُتَيَسِّرَةِ ، وَكَشْفُهُنَّ لِوُجُوهِهِنَّ وَغَيْرِهَا حَتَّى كَأَنَّهُنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ خَالِيَاتٌ فِي بَيْتِهِنَّ ، وَيَنْضَمُّ إلَى ذَلِكَ مُحَادَثَتُهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَمَزْحُهُنَّ وَمُلَاعَبَتُهُنَّ وَكَثْرَةُ الضَّحِكِ مَعَ الْغِنَاءِ فِي مَوْضِعِ الْخُشُوعِ ، وَالِاعْتِبَارِ ، وَالذُّلِّ ، فَإِنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالْحُزْنِ ، وَالْخَوْفِ ضِدَّ مَا يَفْعَلُونَهُ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا الْعَبَثَ فِي الصَّلَاةِ ، وَالرَّفَثَ فِي الصِّيَامِ ، وَالضَّحِكَ عِنْدَ الْمَقَابِرِ } انْتَهَى .
فَيَحِقُّ لِمَنْ مَصِيرُهُ إلَى هَذَا عَدَمُ اللَّهْوِ ، وَاللَّعِبِ ، وَخُرُوجُهُنَّ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَوْ كَانَ بِالنَّهَارِ لَخِيفَ عَلَيْهِنَّ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْكُبْرَى فَكَيْفَ بِهِ لَيْلًا ، وَيَنْضَافُ إلَى ذَلِكَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْوُعَّاظِ عَلَى الْمَنَابِرِ ، وَالْكَرَاسِيِّ ، وَالْمُحَدِّثِينَ مِنْ الْقُصَّاصِ بَيْنَ الْمَقَابِرِ فِي اللَّيَالِي الْمُقْمِرَةِ وَغَيْرِهَا ، وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا مُخْتَلِطِينَ ، وَكَذَلِكَ الْقُرَّاءُ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ بِالتَّرْجِيعِ ، وَالزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَفْعِ الْأَصْوَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ ، وَالْوَقَارِ ، وَالتَّمْطِيطِ ، وَالْمَدِّ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَتَخْفِيفِ الْمُشَدَّدِ وَعَكْسِهِ ، وَتَرْتِيبِهَا عَلَى تَرْتِيبِ هَنُوكِ الْغِنَاءَ ، وَالطَّرَائِقِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ وَسَوَاءٌ كَانَ الزُّوَّارُ رِجَالًا ، أَوْ نِسَاءً فَكُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ

وَغَيْرِهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ صِفَةُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الْمَشْرُوعَةِ أَعْنِي لِلرِّجَالِ ، إذْ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لِلنِّسَاءِ حِينَ رَآهُنَّ فِي جِنَازَةٍ : { ارْجِعْنَ مَأْزُورَاتٍ غَيْرَ مَأْجُورَاتٍ } وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِفَاطِمَةَ ابْنَتِهِ لَوْ بَلَغْت مَعَهُمْ الْكَدَاءَ يَعْنِي الْقُبُورَ وَذَكَرَ وَعِيدًا شَدِيدًا ، هَذَا وَهُنَّ فِي حَالِ التَّشْيِيعِ لِلْجِنَازَةِ فَمَا بَالُك بِهِنَّ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ ، وَكَذَلِكَ زِيَارَتُهُنَّ فِي النَّهَارِ مَمْنُوعَةٌ أَيْضًا ، بَلْ النَّهَارُ أَشَدُّ كَشْفًا لِمَا يُظْهِرْنَهُ مِنْ الزِّينَةِ وَكَشْفِهَا وَعَدَمِ الْحَيَاءِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا قَرَّرَهُ النِّسَاءُ فِي هَذِهِ الزِّيَارَةِ الَّتِي ابْتَدَعْنَهَا لِأَنْفُسِهِنَّ فَإِنَّهُنَّ جَعَلْنَ لِكُلِّ مَشْهَدٍ يَوْمًا مَعْلُومًا فِي الْجُمُعَةِ حَتَّى أَتَيْنَ عَلَى أَكْثَرِ أَيَّامِ الْجُمُعَةِ لِيَجِدْنَ السَّبِيلَ إلَى وُصُولِهِنَّ إلَى مَقَاصِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ فِي أَكْثَرِ الْأَيَّامِ فَجَعَلْنَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلسَّيِّدِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَوْمَ الثُّلَاثَاءِ ، وَالسَّبْتِ لِلسَّيِّدَةِ نَفِيسَةَ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ ، وَالْجُمُعَةِ لِلْقَرَافَةِ لِزِيَارَةِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ لِأَمْوَاتِهِنَّ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ تَعَالَى إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ الَّتِي تَرَتَّبَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الدَّيِّنَ الْغَيُورَ مِنْهُمْ عَلَى زَعْمِهِ لَا يُمَكِّنُ زَوْجَتَهُ أَنْ تَخْرُجَ وَحْدَهَا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا الْخُرُوجَ ، أَوْ تُفَارِقُهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّشْوِيشَاتِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا مِنْهَا مِنْ الِامْتِنَاعِ وَغَيْرِهِ بِسَبَبِ مَنْعِهِ لَهَا فَيَخْرُجُ مَعَهَا لِئَلَّا يُفَارِقَهَا فَيُبَاشِرُ مَا ذُكِرَ ، أَوْ بَعْضَهُ ، أَوْ زِيَادَةً عَلَيْهِ ، أَوْ يَسْمَعُ وَيَرَى وَهِيَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَهَا وَيَقَعُ اسْتِمْتَاعُ

الْأَجَانِبِ بِزَوْجَتِهِ بِالْمُزَاحِ ، وَالْبَسْطِ ، وَالْمُلَاعَبَةِ مَعَهَا ، وَاللَّمْسِ لَهَا بِحُضُورِهِ ، وَقَدْ يَرَى هَذَا مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَالسِّيَاسَةِ ، وَالسَّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِرْضِ زَوْجَتِهِ وَعَلَى عِرْضِ مَنْ بَاشَرَ ذَلِكَ مِنْ زَوْجَتِهِ .
وَقَدْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ ، وَهَذَا بَلَاءٌ عَظِيمٌ وَخَسْفٌ بَاطِنٌ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ هَذَا إنْ احْتَمَلَ الزَّوْجُ مَا رَأَى مِمَّا وَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ الْعَدِيدَةِ ، وَإِنْ غَلَبْته الْغَيْرَةُ ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا فَعَلَ مَعَ زَوْجَتِهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيَقَعُ الضَّرْبُ ، وَالْخِصَامُ ، وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْوَالِي ، وَالْحَاكِمِ ، وَالْحَبْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
هَذَا إنْ كَانَ الزَّوْجُ سَالِمًا مِنْ الرِّيَاسَةِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَتَرَأَّسُ ، أَوْ هُوَ رَئِيسٌ وَلَا يَرْضَى أَنْ يَخْرُجَ مَعَ زَوْجَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَهَا وَحْدَهَا لِمَا يَعْلَمُ هُنَاكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيُرْسِلُ مَعَهَا مَنْ يَكُونُ لَهَا عَوْنًا عَلَى ذَلِكَ مِنْ صَبِيٍّ ، أَوْ عَبْدٍ ، أَوْ عَجُوزٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا كَانَ أَكْثَرَ فَسَادًا مِنْ خُرُوجِهَا وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَهَابُ أَنْ يَهْجُمَ عَلَى الْمَرْأَةِ فَيَبْتَدِئُهَا بِكَلَامٍ ، أَوْ مُزَاحٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ هَذَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ تَبْتَدِئْ أَحَدًا بِكَلَامٍ وَلَا مُزَاحٍ ، فَإِنْ وَجَدُوا مَعَهَا أَحَدًا مِمَّنْ ذُكِرَ تَوَصَّلُوا بِسَبَبِهِ إلَى مَا يَخْتَارُونَ مِنْهَا بِسَبَبِ تَوَسُّلِ الْوَاسِطَةِ وَتَحْسِينِهِ وَتَزْيِينِهِ لِلْفِعْلِ الذَّمِيمِ وَتَيْسِيرِهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ قَدْ عَدِمَ الطَّرَفَيْنِ : أَحَدُهُمَا يَسْتَحْيِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ زَوْجَتِهِ .
وَالثَّانِي لَا يَكُونُ عِنْدَهُ مَنْ يُرْسِلُهُ مَعَهَا وَعِنْدَهُ غَيْرَةٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَتْرُكَهَا تَخْرُجُ وَحْدَهَا وَتَأْبَى عَلَيْهِ إلَّا الْخُرُوجَ فَيَخْرُجُ مَعَهَا وَيَمْشِي بَعِيدًا عَنْهَا ، وَهَذَا أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي الْفَسَادِ ،

وَالْفِتْنَةِ بِكَثْرَةٍ تَتَبُّعِ فُرُوعِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعِصْمَةَ فِي الْحَرَكَاتِ ، وَالسَّكَنَاتِ ، وَقَدْ قَالَ لِي بَعْضُ الْمَشَايِخِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَكَانَ وَرَدَ إلَى مَدِينَةِ مِصْرَ : وَاَللَّهِ مَا عِنْدَنَا أَحَدٌ بِبَغْدَادَ يَفْعَلُ هَذَا وَلَا يَرْضَى بِهِ وَلَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ عِنْدَنَا وَنَفَرَ النُّفُورَ الْكُلِّيَّ مِنْ إقَامَتِهِ بِإِقْلِيمِ مِصْرَ ، وَكَانَ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَرُدَّهُ إلَى بَغْدَادَ ، إذْ أَنَّهَا عِنْدَهُ أَقَلُّ مَفَاسِدَ مِنْ مِصْرَ ، فَإِذَنْ كَانَتْ بَغْدَادُ عَلَى هَذَا أَقَلَّ مَفَاسِدَ مِنْ مِصْرَ وَهِيَ مُقَامُ التَّتَارِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّهَا الْمَدِينَةُ الْمَلْعُونَةُ يُخْسَفُ بِهَا ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ } فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

فَصْلٌ فِي خُرُوجِهِنَّ إلَى دُورِ الْبِرْكَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبِرْكَةِ وَمَا كَانَ فِي مَعْنَاهَا ، إذْ أَنَّهَا احْتَوَتْ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَمِنْهَا : رُكُوبُهُنَّ إلَيْهَا عَلَى الدَّوَابِّ فِي الذَّهَابِ ، وَالْعَوْدِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَمِنْهَا خُرُوجُ بَعْضِهِنَّ مِنْ الْبُيُوتِ الَّتِي هُنَاكَ عَلَى شَاطِئِ الْبِرْكَةِ فِي الطَّرِيقِ مُتَبَرِّجَاتٍ مُتَزَيِّنَاتٍ مُخْتَلِطَاتٍ بِالرِّجَالِ ، وَبَعْضُهُنَّ يَغْتَسِلْنَ فِي الْبِرْكَةِ ، وَبَعْضُ الرِّجَالِ يَنْظُرُونَ فِي الْغَالِبِ إلَيْهِنَّ وَمَا يَفْعَلْنَ أَيْضًا مِنْ تَبَرُّجِهِنَّ إنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْبُيُوتِ مَنْ يَنْظُرُهُنَّ مِنْ الطَّاقَاتِ وَأَبْوَابِ الرِّيحِ ، وَالْأَسْطِحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيُظْهِرْنَ مَا بِهِنَّ مِنْ الزِّينَةِ وَمَا عَلَيْهِنَّ مِنْ حُسْنِ الثِّيَابِ ، وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمُمَازَحَتِهِنَّ لِلرِّجَالِ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي أَيَّامِ الْخَضِيرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَحَلٌّ لِفُرْجَةِ الرِّجَالِ وَفُسْحَتِهِمْ فَقَلَّ مَنْ تَرَاهُ هُنَاكَ إلَّا وَهُوَ رَافِعٌ رَأْسَهُ إلَى الطَّاقَاتِ ، وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ الزِّينَةُ ، وَالتَّبَرُّجُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ الْمُتَفَرِّجِينَ أَنَّهُمْ لَا يَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ عَنْ الْمَحَارِمِ وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ ، بَلْ يَرْتَكِبُونَ الْمُحَرَّمَ جِهَارًا فَيَمْشُونَ فِي زُرُوعِ النَّاسِ قَصْدًا وَيَتَّخِذُونَهَا طَرِيقًا وَمَجَالِسَ وَرُبَّمَا عَمِلُوا فِيهَا السَّمَاعَ ، وَإِنْشَادَ الشَّعْرِ الرَّقِيقِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى التَّغَزُّلَاتِ الَّتِي تُمِيلُ قُلُوبَ الرِّجَالِ فَكَيْفَ بِالنِّسَاءِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رِفْقًا بِالْقَوَارِيرِ } انْتَهَى .
يَعْنِي النِّسَاءَ ، وَذَلِكَ لِضَعْفِهِنَّ عَنْ سَمَاعِ الصَّوْتِ الْحَسَنِ فَكَيْفَ بِهِ مَعَ التَّغَزُّلَاتِ ، وَقَدْ قَالُوا : إنَّ الْغِنَاءَ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الْبَقْلَ فَتَرِقُّ طِبَاعُهُنَّ لِمَا يَسْمَعْنَ

وَيَرَيْنَ مِنْ ذَلِكَ وَيُشَاهِدْنَهُ فَيَمِلْنَ إلَيْهِ فَيَدْخُلُ الْفَسَادُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا ، وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى الْفِرَاقِ ، وَالْبَقَاءِ عَلَى دَخَنٍ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ

فَصْلٌ فِي الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبَسَاتِينِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الدُّورِ الَّتِي عَلَى الْبَسَاتِينِ ، إذْ أَنَّ فِي ذَلِكَ كَشْفَةً لَهُنَّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبُسْتَانُ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ فَهُوَ أَخَفُّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَذِنَ فِي الدُّخُولِ إلَى الْبُسْتَانِ تَحَرَّزَ مِمَّا يَتَوَقَّعُهُ بِغَلْقِ الطَّاقَاتِ ، وَالْأَبْوَابِ ، وَالْأَسْطِحَةِ وَيَمْنَعُهُنَّ مِنْ النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَيُبَاحُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ أَهْلَهُ إلَى الْبُسْتَانِ بِشَرْطَيْنِ ، وَهُوَ : أَنْ يَكُونَ الْبُسْتَانُ لَا يُكْشَفُ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَأَنْ لَا يَدْخُلَهُ مَعَ أَهْلِهِ غَيْرُ ذِي مَحْرَمٍ

فَصْلٌ فِي رُكُوبِهِنَّ الْبَحْرَ وَيَنْبَغِي لَهُ ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى مَوْضِعٍ يَحْتَجْنَ فِيهِ إلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ لِلْفُرْجَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُبَاحًا ، إذْ أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ كَشْفَةٌ لَهُنَّ ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ رُكُوبِ الدَّوَابِّ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَقَصِّي جُزْئِيَّاتِهِ هَذَا إنْ كَانَ مَوْضِعُ الْفُرْجَةِ لَا مُنْكَرَ فِيهِ وَلَا فِتْنَةً يَتَخَوَّفُ وُقُوعَهَا ، وَأَمَّا إذَا انْضَمَّ إلَى رُكُوبِ الْبَحْرِ مَفْسَدَةٌ فَالْأَوْلَى الْمَنْعُ مِثْلُ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْقَنَاطِرِ وَغَيْرِهَا وَاجْتِمَاعِ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ وَمَا يَجْرِي هُنَاكَ مِمَّا يَكِلُّ السَّمْعُ عَنْهُ فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ كَسْرِ الْخَلِيجِ وَمَا يَجْتَمِعُ فِيهِ مِنْ الْغَوْغَاءِ وَمَا فِيهِ الْيَوْمَ مِنْ الْفِتَنِ وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى إزْهَاقِ النُّفُوسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَرَقِ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ اعْتَادُوا فِيهِ عَادَةً ذَمِيمَةً وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْحَرَافِيشِ وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَمُدُّونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الطَّرِيقِ يُجَرِّدُونَهُ وَيَأْخُذُونَ مَا مَعَهُ وَيَضْرِبُونَهُ وَرُبَّمَا قَتَلُوهُ وَأَعْدَمُوهُ أَلْبَتَّةَ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَاكِمٌ ؛ لِأَنَّهُ سَبِيلٌ فِيهِمْ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

فَصْلٌ فِي خُرُوجِهِنَّ إلَى الْمَحْمَلِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى شُهُودِ الْمَحْمَلِ حِينَ يَدُورُ وَيَمْنَعَهُنَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي يَسْتَعِدُّ فِيهَا لِدَوَرَانِ الْمَحْمَلِ ، إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ وَمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ فَمِنْهَا تَزْيِينُ الدَّكَاكِينِ فِي الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهَا بِالْقُمَاشِ مِنْ الْحَرِيرِ ، وَالْحُلِيِّ وَغَيْرِهِمَا وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ مِنْ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ لَا يُنَازَعُ فِيهِ ، وَتَحْرِيمُهُ لَا خَفَاءَ فِيهِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ قَبْلَ دَوَرَانِهِ إلَى أَنْ يَنْقَضِيَ ، وَيَقَعُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ مِنْ الْمَفَاسِدِ اسْتِمْتَاعُ الرِّجَالِ بِالْحَرِيرِ الْمُحَرَّمِ عَلَيْهِمْ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ فِي الشَّرْعِ لِحَكَّةٍ ، أَوْ جِهَادٍ وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فَقُمْت إلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدْ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ فَسَمَّى اسْتِعْمَالَ الْحَصِيرِ لُبْسًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تَزْيِينِهِمْ بِمَسَانِدِ الْحَرِيرِ وَالْبَشْخَانَاتِ الْمُعَلَّقَةِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ حَرَامٌ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهَا صُوَرٌ مُحَرَّمَةٌ فَيَتَأَكَّدُ الْوَعِيدُ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحُ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا } .
.
وَمَا وَرَدَ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُصَوِّرِينَ فِي الدُّنْيَا : أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ انْتَهَى .
وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ أَعْنِي فِي لُحُوقِ الْإِثْمِ بَيْنَ مَنْ صَنَعَهَا وَبَيْنَ مِنْ اسْتَحْسَنَهَا وَبَيْنَ مَنْ جَلَسَ إلَيْهَا وَبَيْنَ مَنْ رَضِيَ بِهَا وَأَحَبَّهَا وَبَيْنَ مَنْ رَآهَا وَلَمْ يُنْكِرْ وَلَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّغْيِيرِ بِحَسَبِ مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ ،

وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهَذَا فِيمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّ ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَنْ اسْتَحَلَّهُ فَالْحُكْمُ فِيهِ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا فَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِرَجُلٍ وَلَا لِامْرَأَةٍ عُمُومًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لُبْسَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْلِسَ تَحْتَ الْبَشْخَانَاتِ وَلَا مَسَانِدِ الْحَرِيرِ وَشِبْهِهَا ، وَلَا أَنْ يَمْشِيَ تَحْتَهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّهَا ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِهَا ، بَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِهَا بِشَرْطِ أَنْ يُزِيلَهَا دُونَ إفْسَادِهَا وَلَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ .
أَمَّا الرِّجَالُ فَتَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بَيِّنٌ ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْأَدِلَّةُ مَانِعَةٌ لَهُنَّ مِنْ اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَعْنِي مِنْ الْمَسَانِدِ وَالْبَشْخَانَاتِ الْحَرِيرِ وَشِبْهِهَا .
وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْكَتَّانِ الرَّفِيعِ ، أَوْ الْقُطْنِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَلَا يَصِلُ إلَى التَّحْرِيمِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُبَاحٌ أَعْنِي لُبْسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ شَرْعًا ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ ، وَفِيهِ ضَرْبٌ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا يُبْلِيهَا وَتَتَدَنَّسُ بِمَا يُلَاقِيهَا مِنْ غُبَارٍ وَدُخَانِ مِصْبَاحٍ وَغَيْرِهِمَا دُونَ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ ، وَالْأَدِلَّةُ دَالَّةٌ عَلَى مَنْعِ اسْتِعْمَالِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى النِّسَاءِ كَالرِّجَالِ إلَّا مَا أَبَاحَ الشَّرْعُ لَهُنَّ مِنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ وَلِهَذَا أَبَاحَ الْعُلَمَاءُ لَهَا اللِّحَافَ ، وَالْفِرَاشَ مِنْ الْحَرِيرِ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ لُبْسٌ لَهُنَّ وَلَمْ يَعُدُّوهُ إلَى غَيْرِ اللُّبْسِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا اتِّخَاذُ الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ كَانَتْ لِلزِّينَةِ ، أَوْ لِلِاسْتِعْمَالِ فَذَلِكَ كُلُّهُ حَرَامٌ عَلَيْهَا ، فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ

كَانَتْ عَاصِيَةً وَيَجِبُ عَلَيْهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ زَكَاةُ تِلْكَ الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِشُرُوطِهَا مَعَ وُجُودِ الْإِثْمِ ، إذْ أَنَّ التَّوْبَةَ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ ، وَالتَّوْبَةُ لَا تَصِحُّ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ الْإِقْلَاعِ عَنْ الشَّيْءِ الَّذِي تَابَتْ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَا دَامَتْ تِلْكَ الْآنِيَةُ عَلَى حَالِهَا إلَّا بِإِخْرَاجِهَا مِنْ يَدِهَا وَعَنْ مِلْكِهَا لِمَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ لَهَا وَذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَتْ مِنْ فِعْلِهِ فَإِنْ لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ فَتَوْبَتُهَا صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا اسْتِعْمَالُ الْفِرَاشِ ، وَاللِّحَافِ مِنْ الْحَرِيرِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لَهَا خَاصَّةً وَأَمَّا زَوْجُهَا ، فَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ لَا يَجُوز لَهُ ذَلِكَ إلَّا عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ لَهَا فَلَا يَدْخُلُ الْفِرَاشَ إلَّا بَعْدَ دُخُولِهَا وَلَا يُقِيمُ فِي الْفِرَاشِ بَعْدَ قِيَامِهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَامَتْ ضَرُورَةٌ ، ثُمَّ تَرْجِعُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى حَالِهِ ، بَلْ يَنْتَقِلُ مِنْهُ لِمَوْضِعٍ يُبَاحُ لَهُ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى فِرَاشِهَا وَإِنْ قَامَتْ وَهُوَ نَائِمٌ فَتُوقِظُهُ حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَى مَوْضِعٍ يُبَاحُ لَهُ ، أَوْ تُزِيلُهُ عَنْهُ انْتَهَى .
هَذَا حُكْمُ الزَّوْجِ مَعَهَا إنْ كَانَتْ عَالِمَةً بِالْحُكْمِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهَا الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ جَاهِلَةً بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ يُعَلِّمُهُ فَيُعَلِّمَهَا ، أَوْ يَأْذَنَ لَهَا فِي الْخُرُوجِ لِتَتَعَلَّمَ وَإِنْ أَبَى أَنْ تَخْرُجَ فَلْتَخْرُجْ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا وَلَا تَكُونُ عَاصِيَةً وَعَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى تَحْصِيلِ الْعِلْمِ لَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَذِنَ لَهَا الْحَاكِمُ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا الْأَوْلَادُ الذُّكُورُ فَفِيهِمْ خِلَافٌ ، وَالْمَنْعُ أَوْلَى ، وَهَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ فِي شَأْنِ الْحَرِيرِ فِي الْبُيُوتِ وَأَمَّا فِي الْأَسْوَاقِ ، وَالدَّكَاكِينِ فَالزِّينَةُ

فِيهَا أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ دِينًا وَدُنْيَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ فِي الْغَالِبِ خَاصٌّ بِأَهْلِهِ فَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَهْلِ الْأَسْوَاقِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ هَذَا مَعَ مَا فِي الزِّينَةِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَالْمُبَاهَاةِ ، وَالتَّفَاخُرِ الْمَوْجُودِ بِالْفِعْلِ ، وَالتَّكَاثُرِ بِعَرَضِ الدُّنْيَا الدَّنِيئَةِ وَكَسْرِ خَوَاطِرِ الْفُقَرَاءِ إذَا رَأَوْا ذَلِكَ أَمَّا إضَاعَةُ الْمَالِ فَلِأَنَّهُمْ يُوقِدُونَ الْقَنَادِيلَ عَلَيْهِ لَيَالِيَ الزِّينَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُقْمِرَةً وَتَبْقَى اللَّيْلَ كُلَّهُ مُوقَدَةً وَذَلِكَ إضَاعَةُ مَالٍ لِلزَّيْتِ الَّذِي يَحْتَرِقُ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، بَلْ لِلْمَضَرَّةِ بِتَسْوِيدِ الْقُمَاشِ مِنْ كَثْرَةِ الدُّخَانِ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْوَقُودُ بِالزَّيْتِ الْحَارِّ فَإِنَّهُ يَضُرُّ بِهِ وَيُنْقِصُ ثَمَنَهُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : الْخَوْفُ عَلَى الْقُمَاشِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مُتَوَقَّعٌ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَالْخِلْسَةِ وَغَيْرِهِمَا .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكَلُّفِ السَّهَرِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَلَا حَاجَةٍ ، بَلْ لِلْبِدْعَةِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَكَفَى بِهَا .
الْخَامِسُ : أَنَّ هَذِهِ الْبِدْعَةَ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ أَعْنِي الزِّينَةَ ، فَإِنَّ الَّذِي قَرَّرَهَا كَانَ ، وَالِيًا بِمِصْرَ وَصَارَتْ بَعْدَهُ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ حَتَّى شَاعَتْ وَذَاعَتْ ، وَأَفْضَى ذَلِكَ إلَى أَمْرٍ مَهُولٍ ، وَهُوَ أَنْ ادَّعَوْا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ الْعَوَامّ لَعِيبَ عَلَيْهِمْ وَعُنِّفُوا وَزُجِرُوا عَلَى اعْتِقَادِ ذَلِكَ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَنْ يُصَرِّحَ بِذَلِكَ ، أَوْ يَعْتَقِدَهُ بِمَقَالِهِ ، أَوْ حَالِهِ ، وَالْعِلْمُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ ، وَقَوَاعِدُ الشَّرْعِ تَأْبَى ذَلِكَ فَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَنْ خَالَفَهَا ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَكَ اللَّهُ كَيْفَ تَعَدَّتْ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ إلَى مُحَرَّمَاتٍ ؟ مِنْهَا أَنَّ النِّسَاءَ ، وَالرِّجَالَ يَخْرُجُونَ لَيْلًا وَنَهَارًا

وَيَجْتَمِعُونَ فِي لَيَالِي الزِّينَةِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ تَحْتَ سِتْرِ ظَلَامِ اللَّيْلِ ، وَكُلُّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ تَيَسَّرَ لَهُ مَا يُرِيدُهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي بِخِلَافِ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْأَمَاكِنِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذَكَرُهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا لِإِنْفَاذِ غَرَضِهِ الْخَسِيسِ .
فَإِذَا تَيَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ قَرِيبٍ فَعَلَهُ فَكَانَتْ الزِّينَةُ سَبَبًا لِتَسْهِيلِ الْمَعَاصِي وَتَيَسُّرِهَا عَلَى مَنْ أَرَادَهَا وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَهُوَ وَقُودُ الْقَنَادِيلِ ، وَالشُّمُوعِ نَهَارًا يَوْمَ دَوَرَانِ الْمَحْمَلِ ، وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْوَقُودَ بِالنَّهَارِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ دُونَ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

فَصْلٌ فِي اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ بَعْضُهُنَّ مَعَ بَعْضٍ وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَمْنَعَ أَهْلَهُ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِالنِّسْوَةِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ يَسْتَحْيِنَ أَنْ يَسْأَلْنَ الرِّجَالَ ، وَلَا يُمْكِنُهُ مُبَاشَرَتُهُنَّ بِالْكَلَامِ ، وَيَرَى أَنَّ بَذْلَ الْعِلْمِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ لَهُنَّ فَيَجُوزُ ، أَوْ يَجِبُ بِحَسَبِ الْحَالِ الْوَاقِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ مَضَى فِعْلُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ زَوْجَةَ الْعَالِمِ تُبَلِّغُ عَنْهُ أَحْكَامَ الشَّرْعِ لِلنِّسَاءِ عُمُومًا وَلِبَعْضِ الرِّجَالِ خُصُوصًا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مُخَاطَبَةِ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْلِيمِ زَوْجَةِ الْعَالِمِ لِلنَّاسِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي } انْتَهَى .
لِأَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ لَمْ يَزَالُوا يُبَلِّغُونَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ ، وَقَدْ كَانَ كِبَارُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ أَرْسَلُوا إلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُنَّ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَا يُفْتِينَ بِهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { خُذُوا عَنْهَا شَطْرَ دِينِكُمْ } فَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَالِمَ يُعَلِّمُ زَوْجَتَهُ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ وَهِيَ تُعَلِّمُهَا النَّاسَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَعْلُومِ الْمَشْرُوعِ ، وَلَيْسَ هَذَا خَاصًّا بِالزَّوْجَةِ ، بَلْ كُلُّ مَنْ عَلَّمَهُ الْعَالِمُ مِنْ زَوْجَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا صَارَ عَالِمًا بِذَلِكَ الْحُكْمِ وَيُعَلِّمُهُ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ وَأَصْحَابَهُ ، ثُمَّ عَلَّمُوا النَّاسَ وَانْتَشَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ

فَكَانَ الْجَمِيعُ فِي صَحِيفَتِهِمْ وَهُمْ وَمَا فِي صَحِيفَةِ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخَرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَذَلِكَ مَاضٍ إلَى أَنْ يُرْفَعَ الْقُرْآنُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهَا إنْ كَانَتْ جَاهِلَةً بِالْحُكْمِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَالَبَتْهُ بِذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ طَالَبَتْهُ بِالْخُرُوجِ إلَى التَّعْلِيمِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهَا فِي الْخُرُوجِ خَرَجَتْ بِغَيْرِ ، إذْنِهِ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ ، وَهَذَا الْقِسْمُ أَعْنِي طَلَبَ النِّسَاءِ حُقُوقَهُنَّ فِي أَمْرِ الدِّينِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْنَ إلَّا لِأَجْلِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } قَدْ أُهْمِلَ الْيَوْمَ وَصَارَ مَتْرُوكًا قَدْ دُثِرَ مَنَارُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يُعْرَفْ لِعَدَمِ الْكَلَامِ فِيهِ مِنْ الزَّوْجِ ، وَالزَّوْجَةِ فِي الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَةَ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا فِي غَالِبِ الْحَالِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إنَّمَا هُوَ فِي النَّفَقَةِ ، وَالْكِسْوَةِ وَفِيمَا كَانَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَلَا يَهُمُّهُمْ شَأْنُهُ غَالِبًا وَلَا يَكْتَرِثُونَ بِهِ ، بَلْ لَا يَخْطِرُ لِبَعْضِهِمْ بِبَالٍ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْخِطَابِ ، فَظَاهِرُ حَالِهِمْ كَحَالِ مِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى تَرْكِهِ فَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ حَقَّهَا فِي أَمْرِ دِينِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَرَفَعْته إلَى الْحَاكِمِ وَطَالَبَتْهُ بِالتَّعْلِيمِ لِأَمْرِ دِينِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهَا إمَّا بِنَفْسِهِ ، أَوْ بِوَاسِطَةِ إذْنِهِ لَهَا فِي الْخُرُوجِ إلَى ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ جَبْرُهُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا يَجْبُرُهُ عَلَى حُقُوقِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ ، إذْ أَنَّ حُقُوقَ الدِّينِ آكَدُ وَأَوْلَى ، وَإِنَّمَا سَكَتَ الْحَاكِمُ عَمَّا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّ الْحَاكِمَ لَا يَحْكُمُ إلَّا بَعْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَاكِمُ قَاضِيًا ، أَوْ مُحْتَسِبًا ، أَوْ غَيْرَهُمَا مِمَّنْ يَنْفُذُ أَمْرُهُ

، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ زَوْجَةُ الْعَالِمِ بِالنِّسْوَةِ ؛ لَأَنْ تُعَلِّمَهُنَّ الْأَحْكَامَ فَلْتَحْذَرْ أَنْ يَسْرِيَ إلَيْهَا مِمَّنْ اجْتَمَعَتْ بِهِنَّ مِنْ النِّسْوَةِ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، إذْ أَنَّ الْغَالِبَ مِنْ اجْتِمَاعِهِنَّ لَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرِ بَعْضِ الْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ الَّتِي نَشَأْنَ عَلَيْهَا وَتَمَكَّنَتْ مِنْ قُلُوبِهِنَّ حَتَّى كَأَنَّهَا مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَقْصِدُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّعْلِيمِ لِلنِّسَاءِ فَيَئُولُ الْأَمْرُ إلَى ضَرَرٍ يَلْحَقُ أَهْلَهُ بِمَعْرِفَةِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، أَوْ بَعْضِهَا وَيَتَضَرَّرُ هُوَ لِذَلِكَ ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُمَا الْأَمْرُ بِالتَّعْلِيمِ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَعْنِي تَعْلِيمَهَا لِغَيْرِهَا وَإِذْنَ زَوْجِهَا لَهَا وَيَبْقَى الْعَالِمُ مَأْمُورًا بِالتَّعْلِيمِ ، فَإِنْ تَخَوَّفَ وُقُوعَهُ ، فَالتَّعْلِيمُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ لَمْ تُحَقَّقْ لَكِنْ يَحْتَرِزُ مِنْهَا جَهْدَهُ ، وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ فَمِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُهُنَّ وَاسْتَحْكَمَ حُبُّهَا فِي قُلُوبِهِنَّ ، وَالْعَمَلِ بِهَا الذِّكْرُ لِلنِّسَاءِ ، وَالْكَلَامُ مَعَ مَنْ سَامَحَهُنَّ مِنْ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَاشَرَ ، أَوْ رَأَى وَسَكَتَ كَمَنْ فَعَلَ وَمِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ مَا رَتَّبْتَهُ فِي بَعْضِ أَيَّامِ السَّنَةِ وَأَيَّامِ الْجُمُعَةِ ، فَكُلُّ يَوْمٍ فَعَلُوا فِيهِ أَفْعَالًا مَخْصُوصَةً لَا تَكُونُ فِي غَيْرِهِ وَمَنْ خَالَفَ مِنْهُنَّ ذَلِكَ يَتَطَيَّرْنَ بِهِ وَيَنْسُبْنَهُ إلَى الْجَهْلِ وَعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ فَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُنَّ اللَّبَنَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ الْمُحَرَّمِ وَهِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ السَّنَةِ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ ذَلِكَ تَفَاؤُلٌ بِأَنْ تَكُونَ سَنَتُهُمْ كُلُّهَا عَلَيْهِمْ بَيْضَاءَ وَهَذَا مِنْهُمْ بِدْعَةٌ وَبَاطِلٌ ؛ أَمَّا الْبِدْعَةُ فَاِتِّخَاذُهُمْ ذَلِكَ عَادَةً وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا مَضَى عَلَيْهِ السَّلَفُ ، وَأَمَّا الْبَاطِلُ فَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّفَاؤُلِ ،

وَالتَّفَاؤُلُ فِي الشَّرْعِ هُوَ الَّذِي لَا يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ حَتَّى يَسْمَعَهُ ابْتِدَاءً ، وَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُهُ فَلَيْسَ مِنْ التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ .
وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ التَّفَاؤُلُ فِي فَتْحِ الْخِتْمَةِ ، وَالنَّظَرِ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ يَخْرُجُ مِنْهَا ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ ؛ بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ لَهُ مِنْهَا آيَةُ عَذَابٍ وَوَعِيدٍ فَيَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ مِنْ ذَلِكَ فَرُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَطِعَ عَنْهُ مَادَّةُ التَّشْوِيشِ ، بَلْ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ لَهُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ وَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى الْخَطَرِ الْعَظِيمِ أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُلُوكِ أَنَّهُ فَتَحَ الْمُصْحَفَ لِيَأْخُذَ مِنْهُ الْفَأْلَ فَوَجَدَ فِي أَوَّلِ سَطْرٍ مِنْهُ { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } فَوَجَدَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرًا عَظِيمًا حَتَّى خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ حَالِ الْمُسْلِمِينَ وَجَرَتْ مِنْهُ أُمُورٌ لَا يُمْكِنُ ذِكْرُهَا لِمُنَافَرَتِهَا لِحَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمِنْ الذَّخِيرَةِ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّ أَخْذَ الْفَأْلِ بِالْمُصْحَفِ وَضَرْبَ الرَّمَلِ وَنَحْوَهُمَا حَرَامٌ وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ مَعَ أَنَّ الْفَأْلَ حَسَنٌ بِالسُّنَّةِ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ هُوَ مَا يَعْرِضُ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِثْلُ قَائِلٍ يَقُولُ : يَا مُفْلِحُ وَنَحْوُهُ .
وَالتَّفَاؤُلُ الْمُكْتَسَبُ حَرَامٌ كَمَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ انْتَهَى .
أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُمْ الْفُقَّاعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَذَلِكَ الْيَوْمِ فِي أَوَّلِ السَّنَةِ فَيَفْتَحُونَ فَمَهْ فِي الْبَيْتِ فَيَصْعَدُ نَاحِيَةَ السَّقْفِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الرِّزْقَ يَفُورُ لَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَيُوَسَّعُ عَلَيْهِمْ فِيهَا ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْقَبَطِ ، وَالْأُنْسِ بِعَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ وَيَفْعَلُونَ فِيهِ أَفْعَالًا مِنْ جِهَةِ الْبَسْطِ قَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ فِيهِ إلَى إزْهَاقِ النُّفُوسِ إلَى

غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهَذَا جَهْلٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَهُ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَهُوَ أَنَّهُنَّ لَا يَشْتَرِينَ فِيهِ السَّمَكَ وَلَا يَأْكُلْنَهُ وَلَا يُدْخِلْنَهُ بُيُوتَهُنَّ ، وَهَذِهِ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الْيَهُودِ ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ لَا يَصْطَادُونَ السَّمَكَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ وَلَا يُدْخِلُونَهُ بُيُوتَهُمْ وَلَا يَأْكُلُونَهُ ، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ فَمَنَعَهُ هَؤُلَاءِ عَنْ أَنْفُسِهِنَّ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِيهِ الْحَمَّامَ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الْمُسْلِمَةُ قَدْ ارْتَفَعَ عَنْهَا حَيْضُهَا تَتْرُكَ الصَّلَاةَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَتِلْكَ اللَّيْلَةِ ، وَلَا يَشْتَرِينَ فِيهِ الصَّابُونَ وَلَا السِّدْرَ وَلَا الْأُشْنَانَ وَلَا يَغْسِلْنَ فِيهِ الثِّيَابَ ، وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ خِصَالِ الْيَهُودِ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ انْتَقَلْنَ مِنْ خَصْلَةِ الْيَهُودِ إلَى خَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ النَّصَارَى فِي كَوْنِهِنَّ لَا يَعْمَلْنَ فِي لَيْلَةِ الْأَحَدِ وَلَا فِي يَوْمِهِ شُغْلًا ، وَأَمَّا يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمُ الثُّلَاثَاءِ فَعِنْدَهُنَّ أَنَّهُ مُبَاحٌ لَهُنَّ فِيهِمَا جَمِيعُ مَا يَخْتَرْنَهُ ، وَيَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ لَا يَشْتَرِينَ فِيهِ اللَّبَنَ وَلَا يُدْخِلْنَهُ بُيُوتَهُنَّ وَلَا يَأْكُلْنَهُ ، وَيَوْمُ الْخَمِيسِ لِلْإِشْغَالِ ، وَالْحَوَائِجِ الَّتِي لَهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ، وَيَوْمُ الثُّلَاثَاءِ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ لَا يَعْمَلْنَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ غَزْلِ كَتَّانٍ وَلَا مَحْرِهِ وَلَا تَسْرِيحِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ مَنْعُهُنَّ خُرُوجَ النَّارِ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْ مَاعُونِ الْبَيْتِ عَشِيَّةَ كُلِّ يَوْمٍ وَيُبَالِغْنَ فِي مَنْعِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُنَّ يَتَعَشَّى فِي ضَوْءِ السِّرَاجِ ، ثُمَّ جَاءَ أَحَدٌ يُسْرِجُ مِنْهُ فَلَا يَتْرُكْنَهُ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ أَذِنَ لَهُ بِشَرْطِ أَنْ يُسْرِجَهُ ، ثُمَّ يُطْفِئَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ وَيُوقِدَهُ فِي الرَّابِعَةِ وَحِينَئِذٍ يَذْهَبُ بِهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى :

إنَّ النَّارَ لَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ الِاقْتِبَاسِ مِنْهَا ، إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِهِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الضَّرَرِ ، وَالضِّرَارِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إنْ اضْطَرَّ أَحَدٌ إلَى أَخْذِ الْغِرْبَالِ جَعَلْنَ فِيهِ حَجَرًا ، أَوْ مِلْحًا ، أَوْ غَيْرَهُمَا ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الطِّيَرَةِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْحِجَامَةِ ، وَالِاطِّلَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ : أَتَفْعَلُهُ أَنْتَ قَالَ نَعَمْ وَأُكْثِرُهُ وَأَتَعَمَّدُهُ ، وَقَدْ احْتَجَمْتُ فِيهِ وَلَا أَكْرَهُ شَيْئًا مِنْ حِجَامَةٍ وَلَا اطِّلَاءٍ وَلَا نِكَاحٍ وَلَا سَفَرٍ وَلَا شَيْئًا مِنْ الْأَيَّامِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ ذَلِكَ : وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَفْعَلَ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَطَيَّرَ ، فَقَدْ أَثِمَ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { وَلَا طِيَرَةَ ، وَالطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ } .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ ، وَالطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ أَيْ عَلَيْهِ إثْمُ مَا تَطَيَّرَ بِهِ لَا أَنَّ مَا تَطَيَّرَ بِهِ يَكُونُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : وَلَا طِيَرَةَ انْتَهَى .
وَهَذِهِ الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ كُلُّهَا وَمَا شَاكَلَهَا إنَّمَا سَبَبُهَا ارْتِكَابُ مَا نَهَى عَنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُجَاوِرُونَ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ أَمَرَ أَنْ يَكُونُوا بِمَعْزِلٍ فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مُنْحَازِينَ عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُشَارِكُونَهُمْ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ هُمْ لَا يُشَارِكُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي بَقِيَّةِ الْبَلَدِ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَا قَرَّرَ لَهُمْ إبْلِيسُ اللَّعِينُ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ كَيْفَ جَرَتْ إلَى مَا هُوَ أَرْدَأُ مِنْهَا مِنْ أَوْجُهٍ سَبْعَةٍ :

مِنْهَا فِي التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْكِتَابِ الْوَجْهَانِ الْمُتَقَدِّمَا الذِّكْرِ ، وَهُمَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ يَوْمِ السَّبْتِ وَيَوْمِ الْأَحَدِ ، وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ تَشَبُّهُهُمْ أَيْضًا فِي تَرْكِ الشُّغْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ وَرَدَ عَنْ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنَّهُ أَوْقَعَهُمْ فِي مُخَالَفَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَمَّ مَنْ مَنَعَ الْمَاعُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هُوَ مَاعُونُ الْبَيْتِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : مَا أَحْرَمَهُمْ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ ، وَالْخَيْرِ الْجَسِيمِ مِنْ غَيْرِ كَبِيرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ ، وَهُوَ مَا وَرَدَ أَنَّ الْقِدْرَ إذَا أَعَارَهَا الْإِنْسَانُ ، أَوْ الْغِرْبَالَ ، أَوْ غَيْرَهُمَا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَا يُفْعَلُ بِذَلِكَ فَمَا طُبِخَ فِيهَا كَأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِهِ ، وَإِنْ قُرِئَ عَلَى ضَوْءِ السِّرَاجِ مِنْ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، وَالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ شَيْءٌ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَالْفَاعِلِ لِذَلِكَ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُ ، أَوْقَعَهُمْ فِي النَّهْيِ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الطِّيَرَةِ } وَهُمْ يَتَطَيَّرُونَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : مَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ فِي كَوْنِهِمْ يُحْدِثُونَ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ أَشْيَاءَ لَمْ يَرِدْ بِهَا الشَّرْعُ وَلَا هِيَ مُسْتَحْسَنَةٌ عَقْلًا ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَرْكَ الْمُبَادَرَةِ لِلْمَعْرُوفِ ، وَالنَّفْعِ الْمُتَعَدِّي ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَوْقَدُوا الْمِصْبَاحَ مِنْ عِنْدَهُمْ ، أَوْ أَخَذُوا الْغِرْبَالَ فَعَلُوا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَابْتَدَعُوا مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الشَّرْعُ فِيهِ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ إذَا نَزَلَتْ الشَّمْسُ فِي بُرْجِ الْحَمَلِ فَيَخْرُجُونَ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا مُخْتَلِطِينَ أَقَارِبَ وَأَجَانِبَ فَيَجْمَعُونَ شَيْئًا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ يُسَمُّونَهُ بِالْكَرْكِيشِ فَيَقْطَعُونَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعِهِ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالْخَوَاتِمِ النَّفِيسَةِ ، وَالْأَسَاوِرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُلِيِّ وَيَتَكَلَّمُونَ عِنْدَ قَطْعِهِ بِكَلَامٍ أَعْجَمِيٍّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمَا يُدْرِيه لَعَلَّهُ كُفْرٌ وَيَجْعَلُونَ مَا يَقْطَعُونَ مِنْ تِلْكَ الْحَشِيشَةِ فِي خَرَائِطَ مَصْبُوغَاتٍ بِزَعْفَرَانٍ ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ الْخَرِيطَةَ فِي الصُّنْدُوقِ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ يَكُونُ سَبَبًا لِإِكْثَارِ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِغْنَائِهِمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ، وَأَنَّ الْفَقْرَ يُوَلِّي عَنْهُمْ وَشَاعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ حَتَّى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يُذْكَرُ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَبَعْضُهُمْ يَسْتَحْسِنُهُ وَبَعْضُهُمْ يَسْكُتُ وَلَا يَقُولُ شَيْئًا ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَحْذُورِ وُجُوهٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّ فِيهِ التَّشَبُّهَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ وَأَشْبَاهَهُ خَرَجَ مِنْ جِهَةِ الْقَبَطِ الثَّانِي : مَا فِيهِ مِنْ الْكَشَفَةِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ فِي اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ ، وَالشَّبَابِ وَرُبَّمَا اخْتَلَطُوا وَتَزَاحَمُوا عَلَى ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِغِنَاهُمْ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ عَرَّضَ مَا مَعَهُ مِنْ الْآلَةِ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا إلَى إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَقْطَعُ بِمَا مَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَدْ ` يَسْقُطُ مِنْ يَدِهِ وَيَقَعُ فِي شَقٍّ مِنْ تِلْكَ الشُّقُوقِ فَيُدْخِلُ يَدَهُ لِيَأْخُذَهُ ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَوْتِهِ ، أَوْ لِلْوُقُوعِ فِي أَمْرَاضٍ خَطِرَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ذَلِكَ الشِّقِّ ثُعْبَانٌ ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْحَيَوَانِ الْمُؤْذِي ؛ فَإِمَّا أَنْ يَمُوتَ بِلَسْعِهَا

وَإِمَّا أَنْ يَمْرَضَ ، وَقَدْ يُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ بِسَبَبِ مَا ارْتَكَبَ مِنْ ذَلِكَ ، وَرُبَّمَا اسْتَعَارَ بَعْضُهُمْ الذَّهَبَ أَوْ غَيْرَهُ لِيَقْطَعَ بِهِ تِلْكَ الْحَشِيشَةِ فَضَاعَ مِنْهُ ، أَوْ سَقَطَ فِي تِلْكَ الشُّقُوقِ فَيَقَعُ فِي التَّشْوِيشِ مَعَ غُرْمِ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَقَعَ هَذَا لِكَثِيرٍ مِنْهُمْ فَهَذَا قَدْ عُجِّلَ لَهُ الْفَقْرُ بِمَا سَقَطَ مِنْهُ أَوْ ضَاعَ ضِدَّ مُرَادِهِ ، وَهَكَذَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا جَارِيَةٌ فِيمَنْ طَلَبَ الشَّيْءَ مِنْ غَيْرِ بَابِهِ الَّذِي شَرَعَهُ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ أَرْبَعِينَ أَرْبِعَاءَ مُتَوَالِيَاتٍ فَإِنَّهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِ بِالدُّنْيَا ، وَذَلِكَ قُبْحٌ عَظِيمٌ وَسَخَافَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ تَسْوِيلِ اللَّعِينِ حَتَّى يُوقِعَهُمْ فِي ارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي ، وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ الْحَمَّامِ فِيهِ أَشْيَاءُ مُسْتَهْجَنَةٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ فِيهِ إحْدَاثًا ، وَالْحَدَثُ مَمْنُوعٌ .
الثَّالِثُ : مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ ذَكَرَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ عَدَّ فِيهَا طَلَبَ الرِّزْقِ بِالْمَعَاصِي وَلَا شَكَّ أَنَّ دُخُولَ الْحَمَّامِ بِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مَعْصِيَةٌ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } فَلَا يُنَالُ ذَلِكَ إلَّا بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ حُصُولَ ذَلِكَ بِالْمُخَالَفَةِ نَقِيضُ الْمُرَادِ مِنْهُمْ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ

عِيد الأضحي ( فَصْلٌ ) وَمِنْ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَوَاسِمِ وَهُمْ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ : الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى : الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ .
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : الْمَوَاسِمُ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ .
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَوَاسِمُ الَّتِي تَشَبَّهُوا فِيهَا بِالنَّصَارَى ؛ فَأَمَّا الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَأَوَّلُهَا عِيدُ الْأَضْحَى الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مَوَاسِمِ الْمُسْلِمِينَ تَرَكَ بَعْضُهُمْ فِيهِ سُنَّةَ الْأُضْحِيَّةِ الَّتِي سَنَّهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَرَغَّبَ فِيهَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا ، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ فِي شَيْءٍ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَفْضَلَ مِنْ إرَاقَةِ دَمٍ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هَلْ هِيَ فَرْضٌ ، أَوْ سُنَّةٌ ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا وَاجِبَةٌ يَعْنِي وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَتْرُكُونَ الْأُضْحِيَّةَ وَيَشْتَرُونَ اللَّحْمَ وَيَطْبُخُونَ أَلْوَانَ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي تَكُونُ الْأُضْحِيَّةُ الْمَشْرُوعَةُ بِبَعْضِ ثَمَنِ مَا أَنْفَقُوهُ ، أَوْ مِثْلِهِ ، أَوْ يُقَارِبُهُ حَتَّى حَرَمَهُمْ إبْلِيسُ اللَّعِينُ هَذِهِ الْبَرَكَةَ الْعُظْمَى ، وَالْخَيْرَ الشَّامِلَ بِتَسْوِيلِهِ وَتَزْيِينِهِ لَهُمْ ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ يَذْبَحُ لَيْلَةَ الْعِيدِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهَا الْأُضْحِيَّةَ ، أَوْ لَا ، فَإِنْ نَوَاهَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ عَيَّنَهَا ، أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ عَيَّنَهَا أَثِمَ فِي ذَبْحِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا وَيَكُونُ حَرِجَةً

فِي حَقِّهِ إنْ قَدِمَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ جَهْلًا جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي الْجَاهِلِ هَلْ هُوَ كَالْمُتَعَمِّدِ ، أَوْ كَالنَّاسِي ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ كَالْمُتَعَمِّدِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَدَلُهَا فِي وَقْتِهَا إذَا وَجَدَهَا وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ أُخَرُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهَا وَنَوَى بِهَا الْأُضْحِيَّةَ حِينَ ذَبَحَهَا لَمْ تُجْزِهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهَا فِي وَقْتِهَا إذَا وَجَدَهَا ، وَهَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ بِهَا الْأُضْحِيَّةَ ، فَقَدْ أَسَاءَ فِي فِعْلِهِ بِارْتِكَابِهِ الْبِدْعَةَ ، وَالْأُضْحِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا فِي وَقْتِهَا وَيُفْطِرَ عَلَى زِيَادَةِ الْكَبِدِ مِنْهَا .
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى الْأُضْحِيَّةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَهُوَ السَّبَبُ فِي حِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْ هَذَا الثَّوَابِ الْجَزِيلِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ بَعْضُهُمْ يَعْمَلُ الطَّعَامَ بِلَيْلٍ حَتَّى إذَا جَاءُوا مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ وَجَدُوا ذَلِكَ مُتَيَسِّرًا فَأَكَلُوا هُمْ وَمَنْ يَخْتَارُونَ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْتَغِلُونَ بِذَبْحِ الْأُضْحِيَّةِ وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قَدَّمَ بَعْضُهُمْ الذَّبْحَ بِاللَّيْلِ لِأَجْلِ عَمَلِ الطَّعَامِ فَوَقَعَ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ ارْتِكَابُ بِدْعَةٍ وَمُخَالَفَةٍ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الْجَلِيلَةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ يُضَحِّي بِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ ؛ أَحَدُهُمَا يَكْفِيه بَاعَ الثَّانِي وَاشْتَرَى بِهِ الْأُضْحِيَّةَ ، وَكَذَلِكَ فِي ثَوْبِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلَةٌ تَدَايَنَ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ الْقُرْبَةَ الْعَظِيمَةَ ، وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ

إلَى مَكِيدَةِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ وَمَا أَدْخَلَ مِنْ سُمِّهِ السَّمُومِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ بِتَسْوِيلِهِ لَهُمْ تَرْكَ هَذِهِ السُّنَّةِ الْعُظْمَى ، وَحَرَمَهُمْ جَزِيلَ ثَوَابِهَا بِمَا أَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ الْعِلَلِ الْقَبِيحَةِ الشَّنِيعَةِ فَزَيَّنَ لِكُلِّ أَهْلِ إقْلِيمٍ مَا يَقْبَلُونَهُ مِنْهُ ، فَإِذَا قُلْت لِبَعْضِ مَنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ : لِمَ لَا تُضَحِّي ؟ فَيَقُولُ : لِي مَعَارِفُ كَثِيرَةٌ وَخَرُوفٌ وَاحِدٌ لَا يَعُمُّهُمْ ، فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ يَلُومَنِي وَلَا يَلْزَمُنِي أَكْثَرُ مِنْ خَرُوفٍ وَاحِدٍ ، وَإِذَا قُلْت لِلْفَقِيرِ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ : لِمَ تَتَكَلَّفُ الْأُضْحِيَّةَ وَهِيَ لَا تَجِبُ عَلَيْك فَيَقُولُ : قَبِيحٌ مِنْ الْجِيرَانِ ، وَالْأَهْلِ ، وَالْمَعَارِفِ أَنْ يَقُولُوا : فُلَانٌ لَمْ يُضَحِّ فَصَارَتْ هَذِهِ الْقُرْبَةُ بِالنَّظَرِ إلَى فِعْلِهَا وَتَرْكِهَا مَشُوبَةٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْخَلْقِ وَتَحْسِينِهِمْ وَتَقْبِيحِهِمْ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْمَوْسِمِ الْعَظِيمِ كَيْفَ تَرَكُوا بَرَكَتَهُ وَانْحَازُوا عَنْهَا بِمَعْزِلٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْيَوْمِ { مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ وَأَمَرَ بِزِيَادَةِ الْكَبِدِ فَصُنِعَ لَهُ ، ثُمَّ أَفْطَرَ عَلَيْهِ } تَشَبُّهًا مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَفَاؤُلًا بِأَهْلِ الْجَنَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَا يَفْطُرُونَ فِيهَا عَلَى زِيَادَةِ كَبِدِ الْحُوتِ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَارُ الْأَرَضِينَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّفَاؤُلِ بِذَلِكَ ، إذْ أَنَّهُ عَرُوسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ يُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُنَبِّهَهُمْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْجَلِيِّ الْجَلِيلِ ، ثُمَّ إنَّ مَنْ يُضَحِّي مِنْهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي ، بَعْضُهُمْ يَبِيعُ جُلُودَ الْأُضْحِيَّةِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ ،

وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنْ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَحَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا } فَيَدْخُلُ الْمِسْكِينُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ دَفَعَهُ لِمَنْ يَعْلَمُ أَوْ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَبِيعُهُ ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ فِي تَفْرِقَةِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ ، إذْ أَنَّهُمْ يُهْدُونَ اللَّحْمَ لِلْجَارِ وَغَيْرِهِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ تَتَشَوَّفُ نَفْسُهُ لِلْعِوَضِ عَنْهُ ، ثُمَّ إنَّ الْجَارَ وَغَيْرَهُ يُكَافِئُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ بِمِثْلِهِ ، أَوْ أَقَلَّ ، أَوْ أَكْثَرَ ، وَالْمُعْطِي ، وَالْآخِذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْظُرُ فِيمَا يُعْطِيَهُ صَاحِبُهُ مِنْ الْعِوَضِ فَيَرْضَى بِهِ ، أَوْ يَسْخَطُهُ ، فَقَدْ خَرَجَ هَذَا عَنْ بَابِ الْمُهَادَاةِ بِقَصْدٍ مِنْ قَصْدِ الْعِوَضِ عَنْهُ .
وَالْأُضْحِيَّةُ لَا يُتَعَوَّضُ عَنْهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْهَدَايَا ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا الْعِوَضِيَّةُ بِشَرْطِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي هَدِيَّةِ الْجِيرَانِ الطَّعَامُ يَتَعَوَّضُونَ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ فَاعِلَ السُّنَّةِ فِيمَا ذُكِرَ قَلِيلٌ مِنْ قَلِيلٍ ، وَاعْلَمْ وَفَّقْنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذَا الْمَنْعَ الْمَذْكُورَ فِي إهْدَاءِ اللَّحْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَقَاصِدِ الذَّمِيمَةِ وَمَا شَاكَلَهَا ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ يُعْطِي لِلَّهِ تَعَالَى وَيَأْخُذُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى التَّعْوِيضِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي النَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ، بَلْ هُوَ مِنْ أَعْلَى الْمَرَاتِبِ وَأَسْنَاهَا ، وَكَذَلِكَ الْحَالُ فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ فِي هَدَايَا الْجِيرَانِ وَالْأَقَارِبِ الطَّعَامَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مَكِيدَةِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ كَيْفَ يَتَّبِعُ السُّنَنَ وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَيُلْقِي لِمَنْ يَقْبَلُ مِنْهُ وَسْوَسَتَهُ حُجَجًا لِتَرْكِ تِلْكَ السُّنَّةِ

وَاسْتِعْمَالِ غَيْرِهَا بِمَا يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّهُ عِبَادَةٌ وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ مُحَرَّمٌ بَيِّنٌ ، أَوْ بِدْعَةٌ بَيِّنَةٌ ، يَرَى ذَلِكَ وَيَعْلَمُهُ مَنْ لَهُ نُورٌ أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ قَدْ وَرَدَتْ فِي الْعِيدِ بِإِسْرَاعِ الْأَوْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَى الْأَهْلِ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِقَطْعِ تَشَوُّفِ الْأَهْلِ لِوُرُودِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَذَكَاةِ الْأُضْحِيَّةِ إنْ كَانَتْ وَاجْتِمَاعِهِمْ وَفَرَحِهِمْ بِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّمَا هِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى وَذِكْرِ اللَّهِ مَوْضِعَ وَبِعَالٍ انْتَهَى .
يَعْنِي بِذَلِكَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَلَمَّا عَلِمَ إبْلِيسُ مَا لَهُمْ فِيهِ مِنْ النَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْبَرَكَةِ الشَّامِلَةِ ، وَالرَّاحَةِ الْمُعَجَّلَةِ الْمُثَابِ عَلَيْهَا وَعَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ مَا يُلْقِيه لَهُمْ مِنْ تَرْكِ السُّنَّةِ مُجَرَّدًا ، وَمِنْ عَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِتَرْكِ سُنَّةٍ حَتَّى يُعَوِّضَ لَهُمْ عَنْهَا شَيْئًا يُخَيَّلُ إلَيْهِمْ أَنَّهُ قُرْبَةٌ .
عَوَّضَ لَهُمْ عَنْ سُرْعَةِ الْأَوْبَةِ زِيَارَةَ الْقُبُورِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَى أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْعِيدِ وَزَيَّنَ لَهُمْ ذَلِكَ وَأَرَاهُمْ أَنَّ زِيَارَةَ الْأَقَارِبِ مِنْ الْمَوْتَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَزِيَادَةِ الْوُدِّ لَهُمْ وَأَنَّهُ مِنْ قُوَّةِ التَّفَجُّعِ عَلَيْهِمْ ، إذْ فَقَدَهُمْ فِي مِثْلِ هَذَا الْعِيدِ ، وَفِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ الْبِدَعِ ، وَالْمُحَرَّمَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَكَيْفَ بِهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ النِّسَاءُ يَلْبَسْنَ وَيَتَحَلَّيْنَ ابْتِدَاءً ، وَيَتَجَمَّلْنَ فِيهِ بِغَايَةِ الزِّينَةِ مَعَ عَدَمِ الْخُرُوجِ فَكَيْفَ بِهِنَّ فِي الْخُرُوجِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَتَرَاهُنَّ يَوْمَ الْعِيدِ عَلَى الْقُبُورِ مُتَكَشِّفَاتٍ قَدْ خَلَعْنَ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ عَنْهُنَّ ، فَبَدَّلَ لَهُمْ مَوْضِعَ السُّنَّةِ مُحَرَّمًا وَمَكْرُوهًا ، فَالْمَكْرُوهُ فِي كَوْنِهِ

أَخَّرَهُمْ عَنْ سُرْعَةِ الْأَوْبَةِ إلَى الْأَهْلِ ؛ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْمُحَرَّمُ مَا يُشَاهِدُ الزَّائِرُ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ فِي الْمَقَابِرِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ كُلُّهَا لَمْ يَقْنَعْ الشَّيْطَانُ مِنْهُمْ بِهَا ، بَلْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُحَرَّمًا شَنِيعًا ، وَهُوَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ وَفِيهِنَّ الْأَبْكَارُ ، وَالْمُرَاهِقَاتُ وَغَيْرُهُنَّ اللَّاتِي يَخْرُجْنَ عَلَى الصِّفَةِ الْمَعْلُومَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ ظَاهِرَاتٍ بِذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَمَا يَفْعَلْنَهُ مِنْ الْغِنَاءِ ، وَالدُّفُوفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الطُّرُقِ ، وَالْأَسْوَاقِ وَدُخُولِهِنَّ الْبُيُوتَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ يَفْتَتِنُ بِهِنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، وَيَسْكُتُ لَهُنَّ الْعَالِمُ وَغَيْرُهُ وَيَعِظُونَهُنَّ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

عِيدُ الْفِطْرِ ( فَصْلٌ ) ، وَالسُّنَّةُ فِي عِيدِ الْفِطْرِ التَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ الْمَأْكُولِ ، إذْ لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ فِيهِ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ فَمَنْ وَسَّعَ عَلَى أَهْلِهِ فِيهِ ، فَقَدْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهِ طَعَامًا مَعْلُومًا ، إذْ هُوَ مِنْ الْمُبَاحِ لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّكَلُّفِ فِيهِ وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يَجْعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ بِهَا فَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً ، وَإِذَا وَصَلَ الْأَمْرُ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَفِعْلُ ذَلِكَ بِدْعَةٌ ، إذْ أَنَّهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ يُنْسَبُ إلَى السُّنَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ .
وَأَمَّا مَا يُفْعَلُ الْيَوْمَ مِنْ شِرَاءِ الْخُشْكِنَانِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامَيْنِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْكَعْكِ الْمَحْشُوِّ بِالْعَجْوَةِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي بَاطِنِهِ تَبَعٌ لِظَاهِرِهِ بِخِلَافِ الْخُشْكِنَانِ وَالْبُسْنَدُودِ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَبَعٌ لِبَاطِنِهِ فَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَكْسِرَ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا .
وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ كَسْرٍ بِشَرْطِ أَنْ يَكْسِرَ وَاحِدَةً وَيُعَايِنَ جَمِيعَ مَا فِي بَاطِنِهَا ، ثُمَّ يَشْتَرِيَ الْبَاقِيَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، وَفِيهِ مِنْ الْبِدَعِ كَوْنُهُمْ يَبُخُّونَهُ بِمَاءِ الْوَرْدِ .
وَالْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ : أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَهُمْ صِيَامٌ ، وَحَالُ فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ ، وَكَذَلِكَ فِعْلُهُمْ فِي بَخٍّ الْكَعْكِ بِالشَّيْرَجِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَهُمْ صِيَامٌ أَيْضًا ، وَحَالُ فَمِ الصَّائِمِ كَمَا قَدْ عُلِمَ فَيُعَرِّضُ الصَّائِمُ نَفْسَهُ لِلْفِطْرِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَقْذَرًا ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْيَهُودِ يَعْمَلُونَهُ وَيَبِيعُونَهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يُؤْتَمَنُونَ مِنْ أَنْ يَبُخُّونَهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُونَ ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ

سُؤْرَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ مَكْرُوهٌ إنْ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ فِي أَفْوَاهِهِمْ نَجَاسَةً فِي وَقْتِ الْفِعْلِ لِذَلِكَ ، أَوْ كَانَتْ قَبْلَهُ وَلَمْ يُطَهِّرْ فَمَهُ بَعْدَهَا ، فَمَا أَصَابَهُ بِرِيقِهِ مُتَنَجِّسٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ إذَا كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ فَكَيْفَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلِاقْتِدَاءِ بِالسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ لِمَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْمُسْتَقْذَرَاتِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَأْكُولُ عَلَى سَبِيلِ السَّلَامَةِ مِمَّا ذُكِرَ لَكَانَ بَعِيدًا مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ ، وَالطِّبِّ : أَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ .
وَأَمَّا الطِّبُّ فَإِنَّ الصَّوْمَ يُجَفِّفُ الرُّطُوبَاتِ غَالِبًا وَيَعْصِمُ ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ الصَّوْمِ أَفْطَرُوا عَلَى الْكَعْكِ الَّذِي يَزِيدُهُمْ جَفَافًا وَإِمْسَاكًا فَيَتَضَرَّرُ الْبَدَنُ بِذَلِكَ ، فَقَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْأَدْوِيَةِ ، وَالْأَشْرِبَةِ ، وَالْأَطِبَّاءِ وَكَانُوا فِي غِنًى عَنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِمْ السَّمَكَ الْمَشْقُوقَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْفَاضِلِ الَّذِي يُعْتِقُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ مِنْ الرِّقَابِ بِقَدْرِ مَا أَعْتَقَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُبَادِرَ الْمَرْءُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَى كَسْبِ الْحَسَنَاتِ ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ كُلِّهِ اتِّقَاءُ الْمَحَارِمِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا } .
فَاتَّخَذَ هَؤُلَاءِ فِطْرَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ الشَّرِيفِ عَلَى شَيْءٍ مُمَكَّسٍ ، وَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعِدَّ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لِإِفْطَارِهِ شَيْئًا حَلَالًا مِنْ جِهَةٍ يَرْضَاهَا الشَّرْعُ لَعَلَّهُ يَلْحَقُ بِالْقَوْمِ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَتَّبِعُونَ الْأَشْيَاءَ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا حَظُّ نَفْسٍ وَمُبَاهَاةٌ

وَشَهْوَةٌ خَسِيسَةٌ فَانِيَةٌ يَحْرِصُونَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعًا مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَوَلَدٍ وَعَبْدٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهِ وَيَسْتَعِدُّونَ لِذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِمْ ، وَمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ شَرْعًا ، وَاَلَّذِي لَهُمْ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَسِيمُ وَالْخَيْرُ الْعَمِيمُ يَتَسَاكَتُونَ عَنْهُ وَيُهْمِلُونَ أَمْرَهُ ، وَلَمْ يُطَالِبْ بِهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا هَذَا الْغَالِبُ مِنْهُمْ ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ هُوَ مَا شَرَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ وُجُوبِ الْفِطْرَةِ فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ ، وَهُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ الْيَوْمَ إخْرَاجُهُ عَلَى أَهْلِ مِصْرَ ، إذْ أَنَّهُ قُوتُ جَمِيعِهِمْ فَفَعَلَ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بَعْضُهُمْ فِي يَوْمِ الْأُضْحِيَّةِ فِي كَوْنِهِمْ يَتْرُكُونَهَا لِعَدَمِ اهْتِمَامِهِمْ بِهَا وَيُنْفِقُونَ أَضْعَافَ ثَمَنِهَا ، أَوْ مِثْلَهُ فَعَوَّضُوا مَكَانَ السُّنَنِ الْمَطْهَرَةِ عَوَائِدَهُمْ الرَّدِيئَةَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَفِي لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ مِنْ الْبِدَعِ سَهَرُ بَعْضِ النَّاسِ فِيهِمَا ، أَوْ فِي بَعْضِهِمَا لَا لِعِبَادَةٍ ، بَلْ لِلشُّغْلِ بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا وَمَا شَاكَلَهَا وَإِضَاعَةِ الْمَالِ بِصَقْلِ الْقُمَاشِ الَّذِي يُفْضِي إلَى تَقْطِيعِهِ وَتَرْكِ إحْيَاءِ اللَّيْلَتَيْنِ الشَّرِيفَتَيْنِ بِعِبَادَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَنْدُوبِ إلَى إحْيَائِهِمَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى مَا فِيهِ مِنْ بَنَاتِ الْعِيدِ ، وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ ، وَتَأْخِيرِ الرُّجُوعِ إلَى الْبُيُوتِ وَتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ بِتِلْكَ الْمَقَاصِدِ الذَّمِيمَةِ ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا ، فَتَفْرِقَةُ الْكَعْكِ هَاهُنَا مُقَابِلَةٌ لِتَفْرِقَةِ اللَّحْمِ فِي الْأَضْحَى

يَوْمُ عَاشُورَاءَ الْمَوْسِمُ الثَّالِثُ مِنْ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُوَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ فَالتَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ ، وَالْأَقَارِبِ ، وَالْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ وَزِيَادَةُ النَّفَقَةِ ، وَالصَّدَقَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا بِحَيْثُ لَا يُجْهَلُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطٍ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ عَدَمِ التَّكَلُّفِ ، وَمِنْ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ بِهَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَيُكْرَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ سِيَّمَا إذَا كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ ؛ لِأَنَّ تَبْيِينَ السُّنَنِ وَإِشَاعَتَهَا وَشُهْرَتَهَا أَفْضَلُ مِنْ النَّفَقَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ مَضَى فِيهِ طَعَامٌ مَعْلُومٌ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتْرُكُونَ النَّفَقَةَ فِيهِ قَصْدًا لِيُنَبِّهُوا عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ فِيهِ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِنْ أَنَّ عَاشُورَاءَ يَخْتَصُّ بِذَبْحِ الدَّجَاجِ وَغَيْرِهَا ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَكَأَنَّهُ مَا قَامَ بِحَقِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَكَذَلِكَ طَبْخُهُمْ فِيهِ الْحُبُوبَ وَغَيْرُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَتَعَرَّضُونَ فِي هَذِهِ الْمَوَاسِمِ وَلَا يَعْرِفُونَ تَعْظِيمَهَا إلَّا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَالصَّدَقَةِ ، وَالْخَيْرِ وَاغْتِنَامِ فَضِيلَتِهَا لَا بِالْمَأْكُولِ بَلْ كَانُوا يُبَادِرُونَ إلَى زِيَادَةِ الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الصَّدَقَةَ الْيَوْمَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ مَعْدُومَةٌ ، أَوْ قَلِيلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَتَصَدَّقُ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهَا الصَّدَقَةُ الْوَاجِبَةُ ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ بِدْعَةً ، أَوْ مُحَرَّمًا ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ الزَّكَاةُ مَثَلًا فِي شَهْرِ صَفَرٍ ، أَوْ رَبِيعٍ ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ فَيُؤَخِّرُونَ إعْطَاءَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَفِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ بِمَالِ الصَّدَقَةِ مَا

فِيهِ ، فَقَدْ يَمُوتُ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ ، أَوْ يُفْلِسُ فَيَبْقَى ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ ، وَأَقْبَحُ مَا فِيهِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ شَهِدَ فِيهِ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } .
وَفِيهِ بِدْعَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَدَّ لِلزَّكَاةِ حَوْلًا كَامِلًا وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، وَفِي فِعْلِهِمْ الْمَذْكُورِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَوْلِ بِحَسَبِ مَا جَاءَهُمْ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ، فَقَدْ يَكُونُ كَثِيرًا ، وَقَدْ يَكُونُ قَلِيلًا ، وَعِنْدَ بَعْضِ مَنْ ذُكِرَ نَقِيضُ ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاةَ قَبْلَ وَقْتِهَا لِأَجْلِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَرْضًا مِنْهُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِيه كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ قَبْلَ وَقْتِهَا ، وَإِنْ قَلَّ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيه عِنْدَ الْجَمِيعِ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجْزِيه بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ دَافِعُ الزَّكَاةِ وَآخِذُهَا بَاقِيَيْنِ عَلَى وَصْفَيْهِمَا مِنْ الْحَيَاةِ ، وَالْجِدَةِ ، وَالْفَقْرِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُزَكَّى عَنْهُ ، وَفِي هَذَا مِنْ التَّغْرِيرِ بِمَالِ الصَّدَقَةِ كَالْأَوَّلِ .
وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ زِيَارَةُ الْقُبُورِ ، وَنَفْسُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمَعْلُومِ بِدْعَةٌ مُطْلَقًا لِلرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ ، ثُمَّ يَنْضَمُّ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ خُرُوجِ النِّسَاءِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ اخْتِصَاصِ النِّسَاءِ بِدُخُولِهِنَّ الْجَامِعَ الْعَتِيقَ بِمِصْرَ وَهُنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ الْخَسِيسَةِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ التَّحَلِّي ، وَالزِّينَةِ الْحَسَنَةِ ، وَالتَّبَرُّجِ لِلرِّجَالِ وَكَشْفِ بَعْضِ أَبْدَانِهِنَّ وَيُقِمْنَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ لَا يُشَارِكُهُنَّ فِيهِ الرِّجَالُ وَيَتَمَسَّحْنَ فِيهِ بِالْمَصَاحِفِ وَبِالْمِنْبَرِ ، وَالْجُدَرَانِ وَتَحْتَ اللَّوْحِ

الْأَخْضَرِ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ كَانَ السَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ

( فَصْلٌ ) وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثَهَا النِّسَاءُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْحِنَّاءِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا مِنْهُنَّ فَكَأَنَّهَا مَا قَامَتْ بِحَقِّ عَاشُورَاءَ ، وَمِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا مَحْرُهُنَّ فِيهِ الْكَتَّانَ وَتَسْرِيحُهُ وَغَزْلُهُ وَتَبْيِيضُهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ وَيَشِلْنَهُ لِيَخِطْنَ بِهِ الْكَفَنَ ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا لَا يَأْتِيَانِ مَنْ كَفَنُهَا مِخْيَطٌ بِذَلِكَ الْغَزْلِ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الِافْتِرَاءِ ، وَالتَّحَكُّمِ فِي دِينِ اللَّهِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ فَكَيْفَ بِمَنْ رَآهُ ، وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ الْبِدَعِ الْبَخُورُ .
فَمَنْ لَمْ يَشْتَرِهِ مِنْهُنَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَتَبَخَّرْ بِهِ فَكَأَنَّهُ ارْتَكَبَ أَمْرًا عَظِيمًا وَكَوْنُهُ سُنَّةً عِنْدَهُنَّ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا ، وَادِّخَارِهِنَّ لَهُ طُولَ السَّنَةِ يَتَبَرَّكْنَ بِهِ وَيَتَبَخَّرْنَ إلَى أَنْ يَأْتِيَ مِثْلُهُ يَوْمُ عَاشُورَاءَ الثَّانِي ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُ إذَا بُخِّرَ بِهِ الْمَسْجُونَ خَرَجَ مِنْ سِجْنِهِ وَأَنَّهُ يُبْرِئُ مِنْ الْعَيْنِ ، وَالنَّظْرَةِ ، وَالْمُصَابِ ، وَالْمَوْعُوكِ ، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِرٌ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ أَمْرٌ بَاطِلٌ فَعَلْنَهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ فَهَذِهِ الْمَوَاسِمُ الثَّلَاثَةُ هِيَ الْمَوَاسِمُ الشَّرْعِيَّةُ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَمْ مِنْ بِدْعَةٍ أَحْدَثُوا فِي ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : الْمَوَاسِمُ الَّتِي نَسَبُوهَا إلَى الشَّرْعِ وَلَيْسَتْ مِنْهُ فَمِنْهَا أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ فَيَتَكَلَّفُونَ فِيهِ النَّفَقَاتِ ، وَالْحَلَاوَاتِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ صَوَّرَ صُورَةً ، فَإِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا } .
فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الصُّوَرِ الَّتِي لَهَا رُوحٌ وَدَلِيلٌ عَلَى عَذَابِ مَنْ صَوَّرَهَا ، فَمَنْ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ فَهُوَ مُعِينٌ لَهُمْ عَلَى تَصْوِيرِهَا ، وَمَنْ أَعَانَهُمْ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا تَوَاعَدُوا بِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ الْحَلَاوَةَ الَّتِي لَيْسَتْ بِصُورَةٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً عَلَى مَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ بَيْعِ الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ وَقَفَ يَنْظُرُ إلَيْهَا ، أَوْ تُعْجِبُهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ فَكُلُّ ذَلِكَ إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْمَسْأَلَةَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى التَّغْيِيرِ وَيُسْمَعُ كَلَامُهُ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَنْهَى عَنْهُ بَلْ يَقِفُ بَعْضُهُمْ وَيَنْظُرُ إلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى ، وَمَنْ مَرَّ بِهَا مِنْ الْعُدُولِ وَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهَا وَهُوَ عَالِمٌ بِالتَّحْرِيمِ مُخْتَارٌ ، فَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِ نَظَرٌ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ هَؤُلَاءِ حَتَّى تَقَعَ مِنْهُمْ التَّوْبَةُ بِشُرُوطِهَا ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ أُجْرَةً عَلَى الشَّهَادَةِ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِمَا ذَكَرَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ أَخَذَ حَرَامًا وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي بُكَاءِ وَلَدِهِ ، أَوْ سَخَطِ زَوْجَتِهِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْأَعْذَارَ الشَّرْعِيَّةَ مَعْرُوفَةٌ لَيْسَ هَذَا مِنْهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْحَلَاوَةُ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ شَرْعًا الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ فِعْلِهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى الْمَنْعِ ،

وَمَا مُنِعَ فِعْلُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ فَلَوْ كَسَّرَهَا وَبَاعَهَا مَكْسُورَةً لَجَازَ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَكِنْ يُكْرَهُ لِأَهْلِ الْفَضْلِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ أَنْ يَشْتَرُوهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ صِفَةً فِعْلُهَا مُحَرَّمٌ وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي زَجْرِ فَاعِلِهَا عَلَى الصِّفَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ، وَهُوَ آثِمٌ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ التَّصْوِيرِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ التَّوْبَةَ بِشُرُوطِهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَكَثْرَتِهَا وَتَشَعُّبِهَا وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا مِنْ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِهَذَا الْمَوْسِمِ عَلَى زَعْمِهِمْ ، ثُمَّ زَادُوا فِيهِ مِنْ التَّكَلُّفِ أَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى مُهَادَاةِ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْهَارِ سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْمُصَاهَرَةُ جَدِيدَةً ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِالزَّوْجَةِ بَعْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ خِرْقَةٍ عَلَى صِينِيَّةٍ مَعَ أَطْبَاقِ الْحَلَاوَاتِ وَغَيْرِهَا كَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ .
وَالْغَالِبُ مِنْ النِّسْوَةِ أَنَّهُنَّ يُكَلِّفْنَ أَزْوَاجَهُنَّ بِهَذِهِ التَّكَالِيفِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَرُبَّمَا يَئُولُ أَمْرُهُمْ إنْ قَصَّرَ فِي التَّوْسِعَةِ إلَى الْفِرَاقِ ، أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنْ الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَمَا شَاكَلَهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { أَنَا وَأُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ } فَمَنْ تَكَلَّفَ ، أَوْ كَلَّفَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الدُّخُولِ فِي عُمُومِ الْحَدِيثِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
وَالتَّكَلُّفُ مَذْمُومٌ فِي الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْعِبَادَاتِ الْعَمَلِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فَكَيْفَ بِهِ فِي غَيْرِ مَوْسِمٍ شَرْعِيٍّ وَلَا عُرْفِيٍّ ، بَلْ مُحْدَثٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمَا كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُعَظِّمُونَ هَذَا الشَّهْرَ أَعْنِي شَهْرَ رَجَبٍ وَيَحْتَرِمُونَهُ إلَّا بِزِيَادَةِ الْعِبَادَةِ فِيهِ ، وَالتَّشْمِيرِ لِأَدَاءِ حُقُوقِهِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِقَامَةِ حُرْمَتِهِ لِكَوْنِهِ أَوَّلَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَأَوَّلَ شُهُورِ الْبَرَكَةِ

وَافْتِتَاحِ تَزْكِيَةِ الْأَعْمَالِ لَا بِالْأَكْلِ وَالرَّقْصِ وَلَا بِالْمُفَاخَرَةِ بِالطَّعَامِ وَالْهَدَايَا .

وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ : أَنَّ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْهُ يُصَلُّونَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْجَوَامِعِ ، وَالْمَسَاجِدِ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ جَوَامِعِ الْأَمْصَارِ وَمَسَاجِدِهَا وَيَفْعَلُونَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ وَيُظْهِرُونَهَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ بِإِمَامٍ وَجَمَاعَةٍ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ مَشْرُوعَةٌ ، وَانْضَمَّ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَفَاسِدُ مُحَرَّمَةٌ ، وَهِيَ اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ فِي اللَّيْلِ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ اجْتِمَاعِهِمْ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ زِيَادَةِ وَقُودِ الْقَنَادِيلِ وَغَيْرِهَا .
وَفِي زِيَادَةِ وَقُودِهَا إضَاعَةُ الْمَالِ لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الزَّيْتُ مِنْ الْوَقْفِ فَيَكُونُ ذَلِكَ جُرْحَةً فِي حَقِّ النَّاظِرِ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْوَاقِفُ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْعًا .
وَزِيَادَةُ الْوُقُودِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ سَبَبٌ لِاجْتِمَاعِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَمَنْ حَضَرَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ عَالِمًا بِذَلِكَ فَهُوَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ ، وَأَمَّا إنْ حَضَرَ لِيُغَيِّرَ وَهُوَ قَادِرٌ بِشَرْطِهِ فَيَا حَبَّذَا ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَقْبِيحَ اجْتِمَاعِهِمْ وَفِعْلِهِمْ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فِي جَمَاعَةٍ ، وَأَعْظَمَ النَّكِيرَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ : إنَّهَا بِدْعَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ حَدَثَتْ فِي زَمَانِهِ وَأَوَّلُ مَا حَدَثَتْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَحْدَثَهَا فُلَانٌ سَمَّاهُ فَالْتَمَسَهُ هُنَاكَ هَذَا قَوْلُهُ فِيهَا ، وَهِيَ عَلَى دُونِ مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّدْبِ إلَى هَذِهِ الصَّلَاةِ ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ إنَّمَا

وَقَعَ عَلَى فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَإِظْهَارِهَا فِي الْجَمَاعَاتِ ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا الرَّجُلُ يَفْعَلُهَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَيُصَلِّيهَا سِرًّا كَسَائِرِ النَّوَافِلِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَهَا سُنَّةً دَائِمَةً لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ بِالسَّنَدِ الضَّعِيفِ قَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا : إنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا وَلِكِنِّهَا لَا تُفْعَلُ عَلَى الدَّوَامِ فَإِنَّهُ إذَا عَمِلَ بِهَا ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمْرِهِ ، فَإِنْ يَكُنْ الْحَدِيثُ صَحِيحًا ، فَقَدْ امْتَثَلَ الْأَمْرَ بِهِ ، وَإِنْ يَكُنْ الْحَدِيثُ فِي سَنَدِهِ مَطْعَنٌ يَقْدَحُ فِيهِ فَلَا يَضُرُّهُ مَا فَعَلَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ خَيْرًا وَلَمْ يَجْعَلْهُ شَعِيرَةً ظَاهِرَةً مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ كَقِيَامِ رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى صِفَةِ الْجَمْعِ فِي الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَالْحَدِيثِ الَّذِي أَشْكَلَ عَلَيْنَا صِحَّتُهُ ، وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ مَكْرُوهٌ فِعْلُهَا ، وَذَلِكَ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ ؛ لِأَنَّ تَكْرِيرَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ يَمْنَعُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ

وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِيهِ أَعْنِي فِي شَهْرِ رَجَبٍ لَيْلَةَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ الَّتِي هِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ الَّتِي شَرَّفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ فِيهَا بِفَضْلِهِ الْعَمِيمِ وَإِحْسَانِهِ الْجَسِيمِ ، وَكَانَتْ عِنْدَ السَّلَفِ يُعَظِّمُونَهَا إكْرَامًا لِنَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَادَتِهِمْ الْكَرِيمَةِ مِنْ زِيَادَةِ الْعِبَادَةِ فِيهَا وَإِطَالَةِ الْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالتَّضَرُّعِ ، وَالْبُكَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ عُلِمَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الْجَمِيلَةِ فِي تَعْظِيمِ مَا عَظَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِامْتِثَالِهِمْ سُنَّةَ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ يَقُولُ : تَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ ، وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَحَاتِ وَكَيْفَ لَا ، وَقَدْ جُعِلَتْ فِيهَا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ بِخَمْسِينَ إلَى سَبْعمِائَةِ ضِعْفٍ وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ، وَهَذَا هُوَ الْفَضْلُ الْعَظِيمُ مِنْ غَنِيٍّ كَرِيمٍ ، فَكَانُوا إذَا جَاءَتْ يُقَابِلُونَهَا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ شُكْرًا مِنْهُمْ لِمَوْلَاهُمْ عَلَى مَا مَنْحَهُمْ وَأَوْلَاهُمْ نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ آمِينَ ، فَجَاءَ بَعْضُ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ فَقَابَلُوا هَذِهِ اللَّيْلَةَ الشَّرِيفَةَ بِنَقِيضِ مَا كَانَ السَّلَفُ يُقَابِلُونَهَا بِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا فِيهَا مِنْ الْبِدَعِ أَشْيَاءَ ، فَمِنْهَا إتْيَانُهُمْ الْمَسْجِدَ الْأَعْظَمَ وَاجْتِمَاعُهُمْ فِيهِ ، وَمِنْهَا زِيَادَةُ وَقُودِ الْقَنَادِيلِ فِيهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ لِمَا وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ ، وَمِنْهَا مَا يَفْرِشُونَهُ مِنْ الْبُسُطِ ، وَالسَّجَّادَاتِ وَغَيْرِهِمَا ، وَمِنْهَا أَطْبَاقُ النُّحَاسِ فِيهَا الْكِيزَانُ ، وَالْأَبَارِيقُ وَغَيْرِهِمَا كَأَنَّ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى بَيْتُهُمْ ، وَالْجَامِعُ إنَّمَا جُعِلَ لِلْعِبَادَةِ لَا لِلْفِرَاشِ ، وَالرُّقَادِ ، وَالْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ .

فَإِنْ احْتَجَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ } وَبِفِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مُلَازَمَتِهِ الْمَسْجِدَ وَمَبِيتِهِ فِيهِ حَتَّى إنَّهُ كَانَ يُسَمَّى حَمَامَةَ الْمَسْجِدِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْتِزَامَهُمْ الْمَسْجِدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَبِيتَهُمْ فِيهِ لِمَعْنًى بَيِّنٍ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ بَرَاحٌ مِنْهُ لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَكَيْفِيَّةُ الْتِزَامِهِمْ مَعْلُومَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِمَا نُقِلَ عَنْهُمْ ، إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَزَالُونَ فِي أَحْوَالٍ سَنِيَّةٍ إمَّا صَلَاةٍ ، أَوْ ذِكْرٍ ، أَوْ تِلَاوَةٍ ، أَوْ فِكْرٍ كُلُّ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ ، وَإِنْ غَلَبَ النَّوْمُ عَلَى أَحَدِهِمْ أَعْطَى الرَّاحَةَ لِنَفْسِهِ بِأَنْ يَجْلِسَ مُحْتَبِيًا قَلِيلًا ، ثُمَّ يَنْهَضُ لِمَا كَانَ بِسَبِيلِهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُمْ لَيْسُوا كَمِثْلِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ زَائِرٌ يَزُورُهُ فَوَجَدَهُ يُصَلِّي فَانْتَظَرَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ صَلَاتِهِ فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حَالُهُ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ : إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ أُحَدِّثُهُ فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ قَامَ يَتَنَفَّلُ فَخَافَ الزَّائِرُ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ تَنَفُّلَهُ ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ ، فَقَالَ الزَّائِرُ : إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أُكَلِّمُهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَقْبَلَ عَلَى الذِّكْرِ ، وَالتِّلَاوَةِ فَخَافَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَيْهِ وِرْدَهُ فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ حَتَّى دَخَلَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ ، فَقَالَ : إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ أُكَلِّمُهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَامَ يَتَنَفَّلُ كَذَلِكَ إلَى وَقْتِ الْعِشَاءِ ، فَأَرَادَ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ، فَقَامَ يَتَنَفَّلُ ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَقَعَدَ يَنْتَظِرُهُ إلَى أَنْ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ أَقْبَلَ

عَلَى الذِّكْرِ ، وَالتِّلَاوَةِ إلَى أَنْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ قَامَ يَتَنَفَّلُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ جَلَسَ يَذْكُرُ اللَّهَ ، وَالزَّائِرُ يَنْتَظِرُهُ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُكَلِّمَهُ فَخَفَقَتْ رَأْسُ هَذَا السَّيِّدِ فَاسْتَفَاقَ عِنْدَ خَفَقَانِ رَأْسِهِ فَجَعَلَ يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُ وَيَقُولُ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَيْنٍ لَا تَشْبَعُ مِنْ النَّوْمِ فَقَالَ الزَّائِرُ فِي نَفْسِهِ : يَحْرُمُ عَلَيَّ أَنْ أُكَلِّمَ مَنْ هَذَا حَالُهُ .
فَانْصَرَفَ عَنْهُ وَمَضَى فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ كَيْفَ صَارَ حَالُ هَذَا ، وَهُوَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ عَنْ دَرَجَةِ مَنْ ذَكَرَ حَالَهُمْ فَجَعَلَ السِّنَةَ الَّتِي لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ ذَنْبًا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ وَيَسْتَعِيذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ فَمَا بَالُك بِالسَّادَةِ الْكِرَامِ فَكَيْفَ يَحِلُّ الِاسْتِدْلَال بِهِمْ عَلَى اللَّهْوِ ، وَاللَّعِبِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَاتِّبَاعِ أَهْوَاءِ النَّفْسِ وَتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ الْيَوْمَ مَعْلُومٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، وَقَدْ كَانَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لِمَنْ يَظُنُّ فِيهِ ، أَوْ يَتَوَهَّمُهُ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَبِيعَ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ يَشْتَرِيَ : مَا تَفْعَلُ وَمَا تُرِيدُ ، فَإِنْ أَخْبَرَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَوَهَّمَهُ يَقُولُ لَهُ عَلَيْك بِسُوقِ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا هَذَا سُوقُ الْآخِرَةِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

وَمِنْهَا السَّقَّاءُونَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ جُمْلَةٌ فَمِنْهَا الْبَيْعُ ، وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَهِيَ أَنْ تُعْطِيَهُ وَيُعْطِيَك مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْبَيْعِ يَكُونُ بَيْنَكُمَا ، وَقَدْ مُنِعَ فِي الْمَسْجِدِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنْ يُذْكَرَ لَفْظُ الْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ ، وَلَوْ شِرَاءً مِنْ غَيْرِ تَقَابُضٍ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ فَقَطْ ، وَيَلْحَقُ بِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ مَنْ سَبَّلَ شَيْئًا مِنْ الْمَاءِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بَيْعٌ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ دَخَلَ لِيَسْقِيَ النَّاسَ فِي الْمَسْجِدِ لَجَازَ ذَلِكَ بِشُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ لَا يَضْرِبَ بِالنَّاقُوسِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا غَيْرِهِ ، وَمَنْعُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْجَبُ .
الثَّانِي : أَنْ لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ : الْمَاءُ لِلسَّبِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ .
الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ .
الرَّابِعُ : أَنْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ بِقَدَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَمْشُونَ حُفَاةً وَيَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَأَقْدَامُهُمْ مُتَنَجِّسَةٌ .
الْخَامِسُ : إنْ كَانَ لَهُ نَعْلٌ فَلَا يَجْعَلُهُ تَحْتَ إبْطِهِ ، أَوْ خَلْفَ ظَهْرِهِ دُونَ شَيْءٍ يُكِنُّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَتِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَذًى وَقَعَ فِي الْمَسْجِدِ وَلِذَلِكَ لَا يُصَلِّي وَهُوَ حَامِلٌ لَهُ لِمَا ذُكِرَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَيْنَ يَضَعُ نَعْلَهُ حِينَ صَلَاتِهِ ، وَلَوْ تَحَفَّظَ النَّاسُ الْيَوْمَ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يَتَحَفَّظُونَ لَمَا احْتَاجُوا إلَى بِدْعَةِ السَّجَّادَةِ ، وَالْحُصُرِ .
وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِنْ الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي السَّقَّاءِ فَلَيْسَ بِخَاصٍّ بِهَذِهِ اللَّيْلَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بَلْ الْمَنْعُ عَامٌّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَحَيْثُ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ

الشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ وَقَعَ الْمَنْعُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ، وَمِنْهَا اجْتِمَاعُهُمْ حَلَقَاتٍ كُلُّ حَلْقَةٍ لَهَا كَبِيرٌ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي الذِّكْرِ ، وَالْقِرَاءَةِ وَلَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ ذِكْرًا ، أَوْ قِرَاءَةً لَكِنَّهُمْ يَلْعَبُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى فَالذَّاكِرُ مِنْهُمْ فِي الْغَالِبِ لَا يَقُولُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، بَلْ يَقُولُ : لَا يِلَاهَ يِلَّلَّهُ فَيَجْعَلُونَ عِوَضَ الْهَمْزَةِ يَاءً وَهِيَ أَلِفُ قَطْعٍ جَعَلُوهَا وَصَلًا ، وَإِذَا قَالُوا سُبْحَانَ اللَّهِ يَمُطُّونَهَا وَيُرْجِعُونَهَا حَتَّى لَا تَكَادُ تُفْهَمُ ، وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَزِيدُ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَيُنْقِصُ مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ بِحَسَبِ تِلْكَ النَّغَمَاتِ ، وَالتَّرْجِيعَاتِ الَّتِي تُشْبِهُ الْغِنَاءَ ، وَالْهُنُوكَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الذَّمِيمَةِ ، ثُمَّ فِيهَا مِنْ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ أَنَّ الْقَارِئَ يَبْتَدِئُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَالْآخَرُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ ، أَوْ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِدَهُ فَيُسْكِتُونَ الْقَارِئَ ، أَوْ يَهُمُّونَ بِذَلِكَ ، أَوْ يَتْرُكُونَ هَذَا فِي شِعْرِهِ ، وَهَذَا فِي قِرَاءَتِهِ لِأَجْلِ تَشَوُّقِ بَعْضِهِمْ لِسَمَاعِ الشَّعْرِ وَتِلْكَ النَّغَمَاتِ الْمَوْضُوعَةِ أَكْثَرَ ، فَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مِنْ اللَّعِبِ فِي الدِّينِ أَنْ لَوْ كَانَتْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ مُنِعَتْ فَكَيْفَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى ذَلِكَ ، بَلْ ضَمُّوا إلَيْهِ اجْتِمَاعَ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ مُخْتَلَطِينَ بِاللَّيْلِ ، وَخُرُوجَ النِّسَاءِ مِنْ بُيُوتِهِنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ الزِّينَةِ ، وَالْكِسْوَةِ ، وَالتَّحَلِّي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ ، وَمِنْهَا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قَضَاءِ الْحَاجَةِ فَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي مُؤَخَّرِ الْجَامِعِ وَبَعْضُ النِّسَاءِ يَسْتَحْيِنِ أَنْ يَخْرُجْنَ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِنَّ فَيَدُورُ عَلَيْهِنَّ

إنْسَانٌ بِوِعَاءِ فَيَبُلْنَ فِيهِ وَيُعْطِينَهُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا ، أَوْ يُخْرِجُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ يَعُودُ كَذَلِكَ مِرَارًا ، وَالْبَوْلُ فِي الْمَسْجِدِ فِي وِعَاءٍ حَرَامٌ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ ، وَالشَّنَاعَةِ وَبَعْضُهُمْ يَخْرُجَ إلَى سِكَكِ الطُّرُقِ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِيهَا ، ثُمَّ يَأْتِي النَّاسُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فَيَمْشُونَ إلَى الْجَامِعِ فَتُصِيبُ أَقْدَامَهُمْ النَّجَاسَةُ ، أَوْ نِعَالَهُمْ وَيَدْخُلُونَ بِهَا فِي الْمَسْجِدِ فَيُلَوِّثُونَهُ .
وَدُخُولُ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ فِيهَا مَا فِيهَا مِنْ عَظِيمِ الْإِثْمِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهَا خَطِيئَةٌ هَذَا وَهِيَ طَاهِرَةٌ بِاتِّفَاقٍ فَكَيْفَ بِالنَّجَاسَةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ قَاعِدًا يَوْمًا مَعَ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الزَّوَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ مِنْ جُلَّةِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالْأَكَابِرِ فِي الْعِلْمِ ، وَالدِّينِ وَهُوَ شَيْخُ الشَّيْخَيْنِ الْجَلِيلَيْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي عَلِيٍّ الْقَرَوِيَّيْنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ شَيْخُهُمَا الْمَذْكُورُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْهُ شُبَّاكٌ فِيهِ عَلَى الطَّرِيقِ فَتَنَخَّمَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الزَّوَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَرَكَ النُّخَامَةَ فِي فِيهِ وَلَمْ يُلْقِهَا حَتَّى قَامَ وَمَشَى خُطْوَتَيْنِ وَأَخْرَجَ فَمَهْ مِنْ الْمَسْجِدِ وَحِينَئِذٍ أَلْقَاهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ .
قَالَ : فَقُلْت لَهُ : لِمَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ وَأَنْتَ جَالِسٌ بِمَوْضِعِك ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقَعُ إلَّا خَارِجَ الْمَسْجِدِ .
فَقَالَ لِي : إنَّ النُّخَامَةَ إذَا خَرَجَتْ لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ الْبُصَاقِ ، وَلَوْ مِثْلَ رُءُوسِ الْإِبَرِ ، أَوْ دُونَهُ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ بُصَاقٌ فِي الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ خَطِيئَةٌ فَقُمْت ؛ لَأَنْ أَسْلَمَ مِنْ تِلْكَ الْخَطِيئَةِ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى احْتِرَازِ هَذَا الْعَالِمِ الْجَلِيلِ فِيمَا فَعَلَ

فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْعِكَاسِ الْأُمُورِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ إلَى ضِدِّهَا فَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ بَعْضُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَمَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى نُورًا وَبَصِيرَةً رَأَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ أَعْنِي فِي الْخَيْرِ وَضِدِّهِ

لَيْلَةُ نِصْفِ شَعْبَانَ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ مَوْسِمِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى زَعْمِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَهُ مَوْسِمًا وَلَيْسَ بِمَوْسِمٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَوَاسِمَ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ الْعِيدَانِ وَعَاشُورَاءُ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ هَلْ هِيَ هَذِهِ اللَّيْلَةُ ، أَوْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا أَنَّهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ اللَّيْلَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلَهَا فَضْلٌ عَظِيمٌ وَخَيْرٌ جَسِيمٌ وَكَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُعَظِّمُونَهَا وَيُشَمِّرُونَ لَهَا قَبْلَ إتْيَانِهَا فَمَا تَأْتِيهِمْ إلَّا وَهُمْ مُتَأَهِّبُونَ لِلِقَائِهَا ، وَالْقِيَامُ بِحُرْمَتِهَا عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ احْتِرَامِهِمْ لِلشَّعَائِرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ هَذَا هُوَ التَّعْظِيمُ الشَّرْعِيُّ لِهَذِهِ اللَّيْلَةِ ، ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فَعَكَسُوا الْحَالَ كَمَا جَرَى مِنْهُمْ فِي غَيْرِهَا فَمَا ثَمَّ مَوْضِعٌ مُبَارَكٌ ، أَوْ زَمَنٌ فَاضِلٌ حَضَّ الشَّرْعُ عَلَى اغْتِنَامِ بَرَكَتِهِ ، وَالتَّعَرُّضِ لِنَفَحَاتِ الْمَوْلَى سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى فِيهِ إلَّا وَتَجِدُ الشَّيْطَانَ قَدْ ضَرَبَ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَجَمِيعِ مَكَايِدِهِ لِمَنْ يُصْغِي إلَيْهِ ، أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُ حَتَّى يَحْرِمَهُمْ جَزِيلَ مَا فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ وَيُفَوِّتَهُمْ مَا وُعِدُوا فِيهِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَمِيمِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَمَرُّدِهِ وَشَيْطَنَتِهِ وَإِغْوَائِهِ بِمَا نَالَ مِنْهُمْ فِي كَوْنِهِمْ سَمِعُوا مِنْهُ وَنَالَ مِنْهُمْ بِأَنْ حَرَمَهُمْ مَا فِيهَا مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَبْدَلَ لَهُمْ مَوْضِعَ الْعِبَادَةِ وَالْخَيْرِ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ إحْدَاثِ الْبِدَعِ وَشَهَوَاتِ النُّفُوسِ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ ، وَالْحَلَاوَاتِ

الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَالْوَعِيدِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ التَّوْبَةِ وَغَيْرِهَا فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ مِنْ شَهْرِ رَجَبٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حِكَايَةً عَنْ اللَّعِينِ إبْلِيسَ بِقَوْلِهِ { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيَدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَجِدُ اللَّعِينَ لَا يَجِدُ مَوْضِعًا فِيهِ امْتِثَالُ سُنَّةٍ إلَّا وَيَعْمَلُ عَلَى تَبْدِيلِهَا بِمَا يُنَاقِضُهَا حَتَّى صَارَ مَا أَبْدَلَهُ سُنَّةً لَهُمْ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً } .
وَهَذَا الْحَدِيثُ بَيِّنٌ وَاضِحٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَمْرِ ، وَالنَّهْيِ ، وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، أَوْ يُشِيرُ بِهِ إنَّمَا هُوَ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتَارَةً يُؤَكِّدُ ذَلِكَ فَيُوجِبُهُ وَتَارَةً يُخَفِّفُ عَنْ الْعِبَادِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سُنَّةً ، فَإِذَا سَمِعْت بِالسُّنَّةِ فَهِيَ عَادَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَرِيقَتُهُ ، ثُمَّ بِهَذِهِ السُّنَّةِ أَعْنِي فِي اتِّخَاذِ السُّنَّةِ عَادَةً فَكُلُّ مَنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ ، أَوْ طَرِيقَةٌ فَتِلْكَ سُنَّتُهُ فَلَمَّا أَنْ اعْتَادَ النَّاسُ عَوَائِدَ وَمَضَتْ الْأَعْوَامُ عَلَيْهَا كَانَتْ سُنَّتَهُمْ .
فَإِذَا جَاءَ الْإِنْسَانُ يَتْرُكُ عَادَتَهُمْ قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً ، فَإِذَا جَاءَ يَفْعَلُ سُنَّةً أَعْنِي سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا فَعَلَ بِدْعَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى أَنَّهُ خَالَفَ عَادَتَهُمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ إنَّمَا جَرَى بَعْدَ انْقِطَاعِ الثَّلَاثَةِ قُرُونٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِمْ خَيْرَ الْقُرُونِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ { كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً } انْتَهَى .
هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ هُوَ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ ، إذْ أَنَّ أَكْثَرَ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ مَا حَدَثَتْ إلَّا بَعْدَهُمْ ، وَفِي كُلِّ عَامٍ تَزِيدُ الْبِدَعُ وَتَنْقُصُ السُّنَنُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ عَامٌ إلَّا وَاَلَّذِي قَبْلَهُ خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ مَالِكٌ مَا أَرَاهُ مُنْذُ زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ عَامَنَا هَذَا أَخْصَبُ وَأَرْخَصُ سِعْرًا مِنْ الْعَامِ الْمَاضِي فَقَالَ : فَأَيُّهُمَا أَكْثَرُ فِقْهًا وَقِرَاءَةً وَأَحْدَثُ عَهْدًا بِالنُّبُوَّةِ فَقَالَ الَّذِي مَضَى فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ الَّذِي أَرَدْت وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي } .
وَهَا هُوَ ذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ كَانَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ يَقُولُ : لَا تَسْأَلُوهُمْ الْيَوْمَ عَمَّا أَحْدَثُوا فَإِنَّهُمْ قَدْ أَعَدُّوا لَهُ جَوَابًا وَلَكِنْ سَلُوهُمْ عَنْ السُّنَنِ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَهَا وَكَانَ الشَّعْبِيُّ إذَا نَظَرَ إلَى مَا أَحْدَثَ النَّاسُ مِنْ الرَّأْي ، وَالْهَوَى يَقُولُ : لَقَدْ كَانَ الْقُعُودُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا يَعْدِلُ بِهِ فَمُذْ صَارَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْمُرَاءُونَ ، فَقَدْ بَغَّضُوا إلَيَّ الْجُلُوسَ فِيهِ وَلَأَنْ أَقْعُدَ عَلَى مَزْبَلَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ

مِنْ أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ أَنْ تُجَادِلَ عَنْ السُّنَّةِ وَلَكِنَّك تُخْبِرُ بِهَا ، فَإِنْ قُبِلَ مِنْك وَإِلَّا فَاسْكُتْ وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ ، فَقَدْ صَارَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا وَصَارَتْ السُّنَّةُ بِدْعَةً ، وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً انْتَهَى .
وَالْغَرِيبُ هُوَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَنْ أَوْصَاهُ { كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّك غَرِيبٌ ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ } .
وَلَمَّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِك قَالَ : الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ } انْتَهَى وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ { الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي } { وَلَمَّا أَنْ ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْفِتَنَ قَالَ بَعْضُهُمْ مَا تَأْمُرُنِي بِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا أَدْرَكَنِي ذَلِكَ الزَّمَانُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك } يَعْنِي أَنْ يَتَّخِذَ بَيْتَهُ كَأَنَّهُ ثَوْبُهُ الَّذِي يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ فَيُلَازِمُهُ وَلَا يُفَارِقُهُ إذَا عَمَّتْ الْفِتَنُ وَكَثُرَتْ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ مُشَاهَدٌ ؛ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْعِبَادَاتِ رَجَعَتْ لِلْعَادَاتِ ، بَلْ بَعْضُ الْعِبَادَاتِ قَدْ صَارَتْ الْيَوْمَ وَسَائِلَ لِلدُّخُولِ فِي الدُّنْيَا وَأُكُلِهَا ، وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُهَا لِلرِّيَاءِ ، وَالسُّمْعَةِ فِي الْغَالِبِ ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْهَرَبُ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبَادَاتِ الْمُشْتَمِلَةِ الْيَوْمَ عَلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الْعَدِيدَةِ إلَى قُعُودِ الْإِنْسَانِ فِي بَيْتِهِ أَسْلَمُ لَهُ بَلْ أَوْجَبُ عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرِهَا : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَقُلْ مِنْ فَوْقِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ لِلْعَبْدِ جِهَةُ الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي جَرَتْ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَأْتِيَ

بِالنَّصْرِ مِنْهَا لَهُ فَلَا يُبَالِي الْمُكَلَّفُ بِتَعَدُّدِ جِهَاتِ اللَّعِينَ إبْلِيسَ لِإِبْقَاءِ الْبَابِ الْعُلْوِيِّ الْمَفْتُوحِ لَهُ بِمَحْضِ الْفَضْلِ ، وَالْكَرَمِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ } انْتَهَى .
فَبَابُ التَّوْبَةِ مَفْتُوحٌ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَمَهْمَا وَقَعَ الْمُؤْمِنُ فِي شَيْءٍ مَا مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ فِيهِ الْعَتَبُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى التَّوْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَإِذَا أَوْقَعَهَا بِشُرُوطِهَا الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا وَجَدَ الْبَابَ ، وَالْحَمْدَ لِلَّهِ مَفْتُوحًا لَا يُرَدُّ عَنْهُ وَلَا يُغْلَقُ دُونَهُ بِكَرَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ التَّائِبِ وَقُوَّةِ صِدْقِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَا جَرَى لَهُ فِي بَدْءِ تَوْبَتِهِ وَنُزُولِهِ عَنْ فَرَسِهِ وَدَفْعِهِ ثِيَابَهُ لِلصَّيَّادِ وَأَخْذِهِ ثِيَابَ الصَّيَّادِ وَمَرَّ لِسَبِيلِهِ فَرَأَى إنْسَانًا قَدْ وَقَعَ عَنْ قَنْطَرَةٍ فَقَالَ لَهُ : قِفْ .
فَوَقَفَ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى وَصَلَ إلَيْهِ فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ وَأَلْقَاهُ عَلَى الْقَنْطَرَةِ سَالِمًا وَمَا ذَاكَ إلَّا لِصِدْقِ تَوْبَتِهِ وَحُسْنِ نِيَّتِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ صَدَقَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَوْبَتِهِ وَفِي الرُّجُوعِ إلَيْهِ وَفِي مُلَازَمَتِهِ سُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسُنَّتُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْكُلِّ وَاحِدَةٌ أَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقْبَلُ تَوْبَتَهُمْ وَيُقِيلُهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا مَضَى وَيَعُودُ عَلَيْهِمْ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ عَاجِلًا وَآجِلًا ، أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ ابْتَلَعَهُ الْحُوتُ وَابْتَلَعَ الْحُوتَ حُوتٌ آخَرُ وَنَزَلَ بِهِ إلَى قَعْرِ الْبَحْرِ وَهُوَ يُنَادِي رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقَوْلِهِ : { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ

سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ } فَسَمِعَهُ قَارُونُ وَهُوَ يُخْسَفُ بِهِ فَسَأَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِعَذَابِهِ أَنْ يَقِفُوا بِهِ حَتَّى يَسْأَلَ صَاحِبَ الصَّوْتِ فَلَمَّا أَنْ سَأَلَهُ وَأَجَابَهُ قَالَ لَهُ قَارُونُ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَإِنَّك إذَا رَجَعْت إلَيْهِ تَجِدُهُ فِي أَوَّلِ قَدَمٍ تَرْجِعُ إلَيْهِ فِيهِ .
فَقَالَ لَهُ يُونُسُ عَلَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَا مَنَعَك أَنْتَ أَنْ تَرْجِعَ إلَى رَبِّك فَقَالَ لَهُ : إنَّ تَوْبَتِي وُكِّلَتْ إلَى ابْنِ خَالَتِي مُوسَى فَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنِّي فَهَذَا وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ فِي قَبُولِ التَّائِبِ عِنْدَ صِدْقِهِ فِي رُجُوعِهِ إلَى مَوْلَاهُ الْكَرِيمِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَعْنَاهُ لَكِنْ قَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَسْلَمُ لِذِي دِينٍ إلَّا مَنْ فَرَّ مِنْ شَاهِقٍ إلَى شَاهِقٍ كَطَائِرٍ بِأَفْرَاخِهِ ، أَوْ كَثَعْلَبٍ بِأَشْبَالِهِ } .
أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَا أَتْقَاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مَا أَتْقَاهُ } فَظَاهِرُ الْحَدِيثَيْنِ التَّعَارُضُ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ هَذَا بِالْإِقَامَةِ فِي بَيْتِهِ وَأَمَرَ هَذَا بِالْفِرَارِ .
وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْإِقَامَةِ ، وَالْفِرَارِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ ظَاهِرُهُ التَّعَارُضُ وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ مَا مَعْنَاهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الْفِرَارِ مَحْمُولٌ عَلَى زَمَانٍ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ الْمَوَاضِعِ صَالِحًا لِلْإِقَامَةِ فِيهَا وَأُخْرَى فَاسِدَةً ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَفِرَّ بِدَيْنِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْفَاسِدَةِ إلَى الْمَوَاضِعِ الصَّالِحَةِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الزَّمَانُ قَدْ

اسْتَوَى فِي عُمُومِ مُخَالَفَةِ السُّنَنِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يَفِرُّ إلَيْهِ فَلْيَكُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إذَا رَأَيْت الْفَسَادَ قَدْ كَثُرَ فِي مَوْضِعٍ وَعَلَا أَمْرُهُ فَلَا تَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ وَاعْتَزِلْ مَا قَدَرْت عَلَيْهِ وَكُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّك إذَا خَرَجْت مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ وَصِرْت إلَى غَيْرِهِ وَجَدْتَهُ أَكْثَرَ فَسَادًا وَمَنَاكِرَ وَبِدَعًا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي خَرَجْت عَنْهُ فَتَنْدَمُ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى خُرُوجِك مِنْهُ وَتُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت فِيهِ فَتَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِشَارَةِ ، وَالِاسْتِخَارَةِ وَتَبْدِيلِ الْحَالِ بِطُرُقِ الْأَسْفَارِ وَمُبَاشَرَةِ مَا كُنْت مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ وَمُلَاقَاةِ الْمَخَاوِفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَرِي الْمُسَافِرِينَ ، فَإِذَا وَصَلْت إلَى مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت فِيهِ وَجَدْته قَدْ تَغَيَّرَ حَالُهُ إلَى مَا هُوَ أَشَدُّ فَتَنْدَمُ عَلَى رُجُوعِك إلَيْهِ ، وَتَرَى أَنَّ إقَامَتَك فِي مَوْضِعِك الَّذِي كُنْت سَافَرْت إلَيْهِ أَقَلُّ فَسَادًا فَتَقَعُ فِي ضَيَاعِ الْأَوْقَاتِ ، وَالْمَشَاقِّ وَارْتِكَابِ الْأَهْوَالِ وَرُؤْيَةِ الْمُخَالَفَاتِ وَمُبَاشَرَتِهَا عِيَانًا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي بَيْتِهِ وَلَمْ يُسَافِرْ ، ثُمَّ يَبْقَى حَالُهُ كَذَلِكَ مُذَبْذَبًا لَا يَسْتَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ ، أَوْ كَمَا قَالَ وَفِي أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْإِقَامَةِ فِي الْبُيُوتِ رِفْقٌ عَظِيمٌ وَرَحْمَةٌ شَامِلَةٌ لِأُمَّتِهِ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رَفَعَ عَنْهُمْ تِلْكَ الْمَشَقَّاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا بِالْجُلُوسِ فِي ، أَوْطَانِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { نِعْمَ الصَّوَامِعُ بُيُوتُ أُمَّتِي } .
هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمَوْضِعَ إذَا كَثُرَ فِيهِ الْفَسَادُ ، وَأَهْلُهُ الْمُقِيمُونَ مَعَهُ عَلَى حَالِهِمْ لَمْ يُصِبْهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْبَلَاءِ

دَلَّ ذَلِكَ عَلَى قُوَّةِ حَالِ الْوَلِيِّ الْمُقِيمِ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا قُوَّةُ حَالِهِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَكَانَتُهُ عِنْدَهُ وَقُرْبُهُ مِنْهُ مَا انْدَفَعَتْ الْعُقُوبَةُ عَنْهُمْ فَبِنَفْسِهِ وَهِمَّتِهِ الْعَالِيَةِ وَحُلُولِهِ بَيْنَهُمْ أَخَّرَ الْمَوْلَى الْكَرِيمُ الْعَذَابَ عَنْهُمْ لِيَتُوبَ مَنْ يَتُوبُ وَيَرْجِعَ مَنْ يَرْجِعُ ، أَوْ يُصِيبُ الْعَذَابُ بَعْضَهُمْ خُصُوصًا وَلَا يَقَعُ عَامًّا .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَعْرُوفُ بِالصِّقِلِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُخْلِ الْأَرْضَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؛ إمَّا قَائِمٌ لَهُ بِحُجَّةٍ ، وَإِمَّا مَدْفُوعٌ بِهِ الْبَلَاءُ انْتَهَى .
فَالْقَائِمُ بِالْحُجَّةِ مَعْرُوفٌ بَيْنَ النَّاسِ ، وَالْمَدْفُوعُ بِهِ الْبَلَاءُ قَدْ يُعْرَفُ ، وَقَدْ لَا يُعْرَفُ ، وَقَدْ يَعْرِفُهُ بَعْضُ النَّاسِ دُونَ آخَرِينَ يُبَيِّنُ ذَلِكَ وَيُوَضِّحُهُ مَا جَرَى لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ الْمَعْرُوفِ بِالْقُرَشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ رَأَى فِي وَقْتِهِ أَنَّهُ سَيَنْزِلُ بِأَهْلِ مِصْرَ بَلَاءٌ قَالَ : أَيَقَعُ هَذَا وَأَنَا فِيهِمْ قِيلَ لَهُ : اُخْرُجْ مِنْ بَيْنِهِمْ فَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ فَخَرَجَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى الشَّامِ فَأَقَامَ بِهِ ، ثُمَّ بَعْدَ خُرُوجِهِ نَزَلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ أَسْأَلُ اللَّهِ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ ، فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُعَذَّبُونَ عَذَابًا عَامًّا وَفِيهِمْ أَحَدٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ

فَعَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْفِرَارُ إلَى الْبُيُوتِ لَكِنْ بِشَرْطِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى إظْهَارِ مَعَالِمِ الشَّرْعِ ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهَا فَيُبَادِرُ إلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ يَتَخَوَّفُ مِنْهُ أَعْنِي مِنْ الْبِدَعِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ هَلْ الْمُقَامُ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ الرُّجُوعُ إلَى بَيْتِهِ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَنُوبُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ فِي بَيْتِهِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَفْضَلَ وَأَكْثَرَ نَفْعًا بَادَرَ إلَى فِعْلِهِ سِيَّمَا إذَا كَانَ النَّفْعُ مُتَعَدِّيًا ، وَإِنْ كَانَ يَتَخَوَّفُ مِنْ شَيْءٍ فِيهِ فَالرُّجُوعُ إلَى بَيْتِهِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ وَإِقَامَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَا ذُكِرَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ ، إذْ لَوْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ لَحَصَلَ لَهُ الْمَعْنَى الْمَقْصُودُ وَزِيَارَةُ جِوَارِ بَيْتِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالِاعْتِكَافُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ النِّيَّاتِ فِي أَوَائِلِ الْكِتَابِ .
فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ يُرْشِدُهُ ، أَوْ يَسْتَرْشِدُ هُوَ مِنْهُ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ ، إذْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ ، وَالْمَقْصُودَ مِنْ كَوْنِهِ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِهِ إنَّمَا هُوَ طَلَبُ السَّلَامَةِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي زَمَنِهِ فَيَكُونُ فِرَارًا بِدِينِهِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى بَيْتِ رَبِّهِ وَمِنْ بَيْتِ رَبِّهِ إلَى بَيْتِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَفِرُّوا إلَى اللَّهِ } ، وَالْفِرَارُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْمُبَادَرَةُ إلَى اتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ فَلَا يَتْرُك الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ مَا حَدَثَ مِنْ الْبِدَعِ ، إذْ أَنَّ الصَّلَوَاتِ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ مَعَالِمِ الدِّينِ وَمِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَوَّلُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَبَدَانِ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ صَلَاتِهِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ، بَلْ حَيْثُمَا قَلَّتْ الْبِدَعُ مِنْ الْمَسْجِدِ كَانَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ أَوْلَى وَأَفْضَلَ مِنْ  غَيْرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَسْجِدًا سَالِمًا مِمَّا ذُكِرَ وَقَلَّ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فَلْيَنْظُرْ إلَى أَقَلِّ الْمَسَاجِدِ بِدَعًا فَلْيُصَلِّ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ بِدْعَةٌ وَاحِدَةٌ أَشَدَّ مِنْ بِدَعٍ جُمْلَةٍ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ وَلْيُصَلِّ فِيمَا عَدَاهُ ، وَإِذَا صَلَّى مَعَ ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ جَهْدَهُ وَيُغَيِّرْ مَا اسْتَطَاعَ بِشَرْطِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ أَدْنَى مَرَاتِبِ التَّغْيِيرِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَيْلَةٌ تَزِيدُ فِيهَا الْبِدَعُ وَتَكْثُرُ فَتَرْكُ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَوْلَى وَأَفْضَلُ ، إذْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَلَكِنْ تَكْثِيرُ سَوَادِ أَهْلِ الْبِدَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَتَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاجِبٌ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ مُتَعَيِّنٌ فَيَتْرُكُ الْمَنْدُوبَ لَهُ وَهُوَ الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مُشَارِكًا لِلْحَاضِرِينَ فِي أَمَاكِنِ الْبِدَعِ فِي الْإِثْمِ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ يَأْنَسُ قَلْبَهُ بِتِلْكَ الْبِدَعِ فَيَئُولُ إلَى تَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَدْنَى رُتَبِ التَّغْيِيرِ لِمَا وَرَدَ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ يُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَحْسِنَ شَيْئًا مِمَّا يَرَاهُ ، أَوْ يَسْمَعَ بِهِ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَحْسِنُ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ وَنَهَى عَنْهُ وَهُوَ الْإِحْدَاثُ فِي الدِّينِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } .
يَعْنِي مَرْدُودٌ عَلَيْهِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ عَمَلَ امْرِئٍ حَتَّى يُتْقِنَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَا إتْقَانُهُ قَالَ : يُخَلِّصُهُ مِنْ الرِّيَاءِ ، وَالْبِدْعَةِ } ، وَقَدْ وَرَدَ { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ

أَحْدَثَ فِي الدِّينِ حَدَثًا : هَبْ أَنِّي أَغْفِرُ لَك مَا بَيْنِي وَبَيْنَك فَاَلَّذِي أَضْلَلْتهمْ مِنْ النَّاسِ } انْتَهَى .
فَإِذَا وَقَعَ اسْتِحْسَانُ شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ كَائِنًا مَا كَانَ كَانَ دَاخِلًا فِي عُمُومِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ وَكَرْمِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذُكِرَ قَلَّ أَنْ يَقَعَ أَعْنِي أَنْ تَعُمَّ تِلْكَ الْبِدَعُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ جَمِيعَ مَسَاجِدِ الْبَلَدِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَمَالُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ حَاصِلٌ لَهُ أَعْنِي الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ تِلْكَ الْبِدَعِ ، أَوْ مِنْ أَكْثَرِهَا ، وَلَوْ امْتَنَعَ بَعْضُ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِيهَا الْبِدَعُ لَانْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ وَزَالَتْ الْبِدَعُ كُلُّهَا ، أَوْ أَكْثَرُهَا ، أَوْ بَعْضُهَا لَكِنْ جَرَتْ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ عَلَى تَعَاطِي ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ، بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَعْضُ أَكَابِرِهِمْ إذَا خَتَمَ وَلَدُهُ الْقُرْآنَ ، أَوْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ .
وَسَنُبَيِّنُ مَا فِي ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ وَقَعَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُمْ أَوْقَدُوا جَامِعَهَا الْأَعْظَمَ فَزَادُوا فِي الْوَقُودِ الزِّيَادَةَ الْكَثِيرَةَ فَجَاءَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْقَشْتَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ عَلَى عَادَتِهِ فَرَأَى ذَلِكَ فَوَقَفَ وَلَمْ يَدْخُلْ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَدْخُلُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْمَسْجِدِ إلَّا ثَلَاثَةُ قَنَادِيلَ ، أَوْ خَمْسَةٌ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَامْتَثَلُوا إذْ ذَاكَ قَوْلَهُ ، وَحِينَئِذٍ دَخَلَ فَوَقَعَ هَذَا الْخَيْرُ الْعَظِيمُ بِتَغْيِيرِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْ الشُّيُوخِ فَكَيْفَ بِهِ لَوْ كَانَ زِيَادَةً عَلَى الْوَاحِدِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى التَّسَامُحِ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى جَرَّ الْأَمْرُ إلَى اعْتِيَادِ الْبِدَعِ وَيَنْسُبُهَا أَكْثَرُ الْعَوَامّ إلَى الشَّرْعِ بِسَبَبِ حُضُورِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِمْ فَظَنَّ أَكْثَرُ الْعَوَامّ أَنَّ

ذَلِكَ مِنْ الْمَشْرُوعِ ، وَهَذَا أَعْظَمُ خَطَرًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ ، إذْ ذَاكَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ السَّالِمِ مِنْ الْبِدَعِ مَنْ يُصَلِّي فِيهِ فَتَتَأَكَّدُ الصَّلَاةُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ وَحْدَهُ إحْيَاءُ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، وَالسَّعَادَةِ مَا فِيهِ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ مِنْ { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الَّذِي يُصَلِّي فِي الْبَرِّيَّةِ وَحْدَهُ إنَّهُ يُصَلِّي عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ يَسَارِهِ مَلَكٌ ، فَإِذَا أَذَّنَ لَهَا وَأَقَامَ صَلَّى خَلْفَهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَمْثَالُ الْجِبَالِ } .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ تَعْدِلُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ صَلَاةً ، فَإِذَا صَلَّاهَا فِي فَلَاةٍ فَأَتَمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ خَمْسِينَ } ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْمَسْجِدَ إذَا لَمْ يَمْتَلِئْ بِالنَّاسِ كُمِّلَ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ ، فَإِذَا صَلَّى وَحْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي بِصَلَاتِهِ ، وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَحْضُرُ مَوْضِعًا إلَّا وَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي قَبُولِ مَا يُعْمَلُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ إذَا حَضَرَ مَوْضِعًا ، وَمَنْ هَرَبَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَأَوَى إلَى السُّنَّةِ فِي غَالِبِ أَمْرِهِ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ فِي وِلَايَتِهِ ، إذْ أَنَّهُ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ .
وَالتَّشَبُّهُ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ إمَامَ الْمَسْجِدِ إذَا صَلَّى فِيهِ وَحْدَهُ قَامَ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ ، فَإِذَا جَاءَتْ جَمَاعَةٌ بَعْدَهُ فَلَا يَجْمَعُونَ فِيهِ وَيُصَلُّونَ أَفْذَاذًا ، وَالْإِمَامُ لَا يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَتَى إلَى الْمَسْجِدِ ذَاتَ لَيْلَةٍ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ ، وَكَانَ

فِيهَا بَعْضُ طِينٍ وَظَلَامٍ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ هُوَ وَخَادِمُهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا ، فَحَصَلَ لَهُ سُرُورٌ فَسَأَلَهُ خَادِمُهُ مَا سَبَبُ سُرُورِهِ فَقَالَ لَهُ : أَلَا تَرَى مَا حَصَلَ لَنَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَمَا خَصَّصَنَا بِهِ مِنْ إحْيَاءِ بَيْتِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحْدَنَا وَلَمْ يُشَارِكْنَا فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَهَذَا فَرَحُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَسْجِدٌ سَالِمٌ مِنْ الْبِدَعِ فَكَيْفَ بِالْهَارِبِ مِنْ مَوَاضِعِ الْبِدَعِ إلَى مَوَاضِعَ تَحْصُلُ فِيهَا السَّلَامَةُ ، وَالْخَيْرُ ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي إحْيَاءِ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى

وَإِنَّمَا طَالَ الْكَلَامُ فِي ذِكْرِ مَا يُعْمَلُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَعْنِي لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لِأَجْلِ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ أَعْنِي فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِيهَا لَكِنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ زَادَتْ فَضِيلَتُهَا وَمُقْتَضَى زِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ زِيَادَةُ الشُّكْرِ اللَّائِقِ بِهَا مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَأَنْوَاعِهَا فَبَدَّلَ بَعْضُهُمْ مَكَانَ الشُّكْرِ زِيَادَةَ الْبِدَعِ فِيهَا عَكْسُ مُقَابَلَةِ ذَلِكَ بِالشُّكْرِ لِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ ضِدَّ شُكْرِ النِّعَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ زِيَادَةِ الْوَقُودِ الْخَارِجِ الْخَارِقِ حَتَّى لَا يَبْقَى فِي الْجَامِعِ قِنْدِيلٌ وَلَا شَيْءٌ مِمَّا يُوقَدُ إلَّا أَوْقَدُوهُ حَتَّى إنَّهُمْ جَعَلُوا الْحِبَالَ فِي الْأَعْمِدَةِ ، وَالشُّرَافَاتِ وَعَلَّقُوا فِيهَا الْقَنَادِيلَ وَأَوْقَدُوهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّعْلِيلُ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَرِهَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى التَّمَسُّحَ بِالْمُصْحَفِ ، وَالْمِنْبَرِ ، وَالْجُدَرَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ السَّبَبَ فِي ابْتِدَاءِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَزِيَادَةِ الْوَقُودِ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِعَبَدَةِ النَّارِ فِي الظَّاهِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدُوا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَبَدَةَ النَّارِ يُوقِدُونَهَا حَتَّى إذَا كَانَتْ فِي قُوَّتِهَا وَشَعْشَعَتِهَا اجْتَمَعُوا إلَيْهَا بِنِيَّةِ عِبَادَتِهَا ، وَقَدْ حَثَّ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلَى تَرْكِ تَشَبُّهِ الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ حَتَّى فِي زِيِّهِمْ الْمُخْتَصِّ بِهِمْ وَانْضَمَّ إلَى ذَلِكَ اجْتِمَاعُ كَثِيرٍ مِنْ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ ، وَالْوِلْدَانِ الصِّغَارِ الَّذِينَ يَتَنَجَّسُ الْجَامِعُ بِفَضَلَاتِهِمْ غَالِبًا وَكَثْرَةِ اللَّغَطِ ، وَاللَّغْوِ الْكَثِيرِ مِمَّا هُوَ أَشَدُّ وَأَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ لَيْلَةِ السَّابِعِ ، وَالْعِشْرِينَ مِنْ رَجَبٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَفِي هَذِهِ

اللَّيْلَةِ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ وَأَكْبَرُ ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْوَقُودِ فِيهَا فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدَعِ كَيْفَ يَجُرُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَامِعَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ رَجَعَ كَأَنَّهُ دَارُ شُرْطَةٍ لِمَجِيءِ الْوَالِي ، وَالْمُقَدَّمِينَ ، وَالْأَعْوَانِ وَفَرْشِ الْبُسُطِ وَنَصَبِ الْكُرْسِيِّ لِلْوَالِي لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ فِي مَكَان مَعْلُومٍ وَتُوقَدُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَشَاعِلُ الْكَثِيرَةُ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ وَيَقَعُ مِنْهَا بَعْضُ الرَّمَادِ فِيهِ وَرُبَّمَا وَقَعَ الضَّرْبُ بِالْعَصَا ، وَالْبَطْحُ لِمَنْ يَشْتَكِي فِي الْجَامِعِ ، أَوْ تَأْتِيهِ الْخُصُومُ مِنْ خَارِجِ الْجَامِعِ وَهُوَ فِيهِ ، هَذَا كُلُّهُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ .
وَإِذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْجَامِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ مِنْ الْخُصُومِ ، وَالْجَنَادِرَةِ وَغَيْرِهِمْ ، بَلْ اللَّغَطُ وَاقِعٌ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَمَّ إلَى الشَّكَاوَى وَأَحْكَامِ الْوَالِي يَا لَيْتَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَيْهِ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إقَامَةُ حُرْمَةٍ لِتِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلِبَيْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُمْ أَتَوْهُ لِيُعَظِّمُوهُ ، وَبَعْضُهُمْ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْقُرَبِ ، وَهَذَا أَمْرٌ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ، إذْ أَنَّهُمْ لَوْ اعْتَقَدُوا أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مَكْرُوهٌ لَرُجِيَ لَهُمْ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ وَلَكِنْ زَعَمُوا أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَلَا يَتُوبُ أَحَدٌ مِنْ الْقُرَبِ ، وَمَا اعْتَقَدُوهُ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تُرْفَعُ أَيْ تُغْلَقُ وَلَا تُفْتَحُ إلَّا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ تَرْفِيعَهَا إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَحْكَامَ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ،

وَذَلِكَ يَتَلَقَّى عَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْآخِذِينَ عَنْهُ ، وَتَعْظِيمُهُمْ لَهَا إنَّمَا كَانَ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَمُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا يَعُمُّ جَعْفَرًا يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ وَمَا يَخُصُّهُ يَخُصُّنَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } أَيْ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ .
وَقَدْ بَنَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَحْبَةً خَارِجَ الْمَسْجِدِ تُسَمَّى الْبَطْحَاءُ ، وَقَالَ : مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُنْشِدَ شِعْرًا ، أَوْ يَنْشُدَ ضَالَّةً فَلْيَخْرُجْ إلَى هَذِهِ الرَّحْبَةِ فَإِنَّمَا الْمَسَاجِدُ لِمَا بُنِيَتْ لَهُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَشَدَ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك } .
وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ } ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَسْجِدُنَا هَذَا لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ مَجَانِينَكُمْ وَصِبْيَانَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ ، وَاجْعَلُوا وُضُوءَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ } انْتَهَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ ، وَصَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِمَا فِيهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِعْلَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي جَمَاعَةٍ بِدْعَةٌ ، وَلَوْ صَلَّاهَا إنْسَانٌ وَحْدَهُ سِرًّا لَجَازَ ذَلِكَ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ فِي كَرَاهِيَتِهِ تَكْرَارِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لِاتِّبَاعِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ

يَا لَيْتَهُمْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ لَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَشْنَعُ وَهُوَ خُرُوجُ الْحَرِيمِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ ، وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ فِيهَا زِيَادَةٌ كَثِيرَةٌ عَلَى غَيْرِهَا أَعْنِي كَثْرَةَ خُرُوجِهِنَّ إلَى الْقُبُورِ ، وَمَعَ بَعْضِهِنَّ الدُّفُّ يَضْرِبْنَ بِهِ وَبَعْضُهُنَّ يُغَنِّينَ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ وَرُؤْيَتِهِمْ لَهُنَّ مُتَجَاهَرِينَ بِذَلِكَ لِقِلَّةِ حَيَائِهِنَّ وَقِلَّةِ مَنْ يُنْكِرُ عَلَيْهِنَّ ، وَيَزْعُمْنَ أَنَّهُنَّ خَرَجْنَ لِلْعِبَادَةِ وَهِيَ زِيَارَةُ قُبُورِ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالْعُلَمَاءِ ، وَالصُّلَحَاءِ ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْضُ مَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ مِنْ الشُّبَّانِ ، وَالرِّجَالِ فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي وَأَكْثَرُهُمْ مُخْتَلِطُونَ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضِ نِسَاءٌ وَشُبَّانٌ وَرِجَالٌ قَدْ رَفَعُوا جِلْبَابَ الْحَيَاءِ ، وَالْوَقَارِ عَنْهُمْ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ كَأَنَّهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ ، إذْ لَا فَرْقَ عِنْدَهُمْ فِي الْقُبُورِ بَيْنَ النِّسَاءِ ، وَالرِّجَالِ أَعْنِي فِي كَشْفِ الْوُجُوهِ ، وَالْأَطْرَافِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ فَيَا لِلْعَجَبِ فِي انْكِشَافِهِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُ الِاعْتِبَارِ ، وَالتِّذْكَارِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا رَجَعْنَ إلَى الْبَلَدِ يَرْجِعْنَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مِنْ كَشْفِ السُّتْرَةِ عَنْهُنَّ ، فَإِذَا وَصَلْنَ إلَى الْبَلَدِ تَنَقَّبْنَ ، إذْ ذَاكَ وَاسْتَتَرْنَ ، ثُمَّ صَارَتْ هَذِهِ الْعَادَةُ بَيْنَهُنَّ شَعِيرَةً يَتَدَيَّنُ بِهَا أَعْنِي فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَتِرُ فِي الْبَلَدِ ، وَفِي الْقُبُورِ ، وَالطَّرِيقِ إلَيْهَا مَكْشُوفَةُ الْوَجْهِ لَا تَسْتَتِرُ مِنْ أَحَدٍ ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ مِنْهَا اجْتِمَاعُهُمْ كَمَا سَبَقَ .
الثَّانِي : انْتِهَاكُ حُرْمَةِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ الْمُعَظَّمَةِ ، وَهَذَا الْيَوْمُ الْعَظِيمِ ، وَهَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ أَعْظَمُوا

الْمَعْصِيَةَ بِفِعْلِهَا عَلَى الْقُبُورِ ؛ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ الْخَشْيَةِ ، وَالْفَزَعِ ، وَالِاعْتِبَارِ ، وَالْحَثِّ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ لِهَذَا الْمَصْرَعِ الْعَظِيمِ الْمَهُولِ أَمْرُهُ ، فَرَدُّوا ذَلِكَ لِلنَّقِيضِ ، وَجَعَلُوهُ فِي مَوْضِعِ فَرَحٍ وَمَعَاصٍ كَحَالِ الْمُسْتَهْزِئِينَ .
الرَّابِعُ : أَذِيَّةُ الْمَوْتَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
الْخَامِسُ : قِلَّةُ احْتِرَامِهِمْ لِتَعْظِيمِ جَنَابِ الْعُلَمَاءِ ، وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَالصُّلَحَاءِ ؛ لِأَنَّهُمْ عَلَى زَعْمِهِمْ يَمْضُونَ لِلتَّبَرُّكِ بِهِمْ وَيَفْعَلُونَ عِنْدَهُمْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُمْ اتَّصَفُوا بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ بِصِفَةِ النِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ النِّفَاقَ صِفَتُهُ قَصْدُ الْمَعْصِيَةِ وَإِظْهَارُهَا فِي الصُّورَةِ أَنَّهَا طَاعَةٌ فَيَا لِلْعَجَبِ كَيْفَ يَقْدِرُ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ أَنْ يَسْمَعَ بِهَذِهِ الْمُنَاكِرِ وَلَا يَتَنَغَّصُ لَهَا وَلَا يَتَشَوَّشُ مِنْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْحَدِيثِ فِيمَنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ } .
فَكَيْفَ يَتْرُكُ حَرِيمَهُ ، أَوْ أَقَارِبَهُ ، أَوْ مَنْ يَلُوذُ بِهِ يَخْرُجْنَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ رُكُوبِهِنَّ الدَّوَابَّ مَعَ الْمُكَارِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّسَاءَ لَيْسَ لَهُنَّ نَصِيبٌ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجَنَائِزِ وَلَا الْقُبُورِ وَأَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا ثَلَاثُ خَرَجَاتٍ عَلَى مَا سَبَقَ وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ فِي الْقُبُورِ حَتَّى صَارَ أَمْرُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَقُومُ إنْسَانٌ بِشَيْءٍ يَحْمِلُهُ كَالْقُبَّةِ عَلَى عَمُودٍ حَوْلَهَا قَنَادِيلُ كَثِيرَةٌ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النِّسَاءِ ، وَالشُّبَّانِ ، وَالرِّجَالِ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ يَتَزَاوَرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَجْرِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُنَّ مِنْ الْآفَاتِ فِي الدِّينِ ، وَالدُّنْيَا مَا لَا يُحْصَى كَثْرَةً ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يُقِيمُونَ خَشَبَةً عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ ، أَوْ

الْمَيِّتَةِ وَيَكْسُونَ ذَلِكَ الْعَمُودَ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَلِيقُ بِهِ عِنْدَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، أَوْ الصُّلَحَاءِ جَعَلُوا يَشْكُونَ لَهُ مَا نَزَلَ بِهِمْ وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ مَا يُؤَمِّلُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَهْلِ ، وَالْأَقَارِبِ ، وَالْمَعَارِفِ فَعَلُوا مِثْلَ ذَلِكَ وَجَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ مَعَهُ وَيَذْكُرُونَ لَهُ مَا حَدَثَ لَهُمْ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ عَرُوسًا ، أَوْ عَرُوسَةً كَسَوْا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا كَانَ يَلْبَسُهُ فِي حَالِ فَرَحِهِ فَيَكْسُونَ الْمَرْأَةَ ثِيَابَ الْحَرِيرِ وَيُحَلُّونَهَا بِالذَّهَبِ وَيَجْلِسُونَ يَبْكُونَ وَيَتَبَاكَوْنَ وَيَتَأَسَّفُونَ ، وَهَذِهِ أَشْيَاءُ مُتَنَاقِضَةٌ كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا سَوَّلَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ ، وَهَذَا الَّذِي يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ عَلَى الْخَشَبَةِ فِيهِ تَشَبُّهٌ فِي الظَّاهِرِ بِالنَّصَارَى فِي كِسْوَتِهِمْ لِأَصْنَامِهِمْ ، وَالصُّوَرِ الَّتِي يُعَظِّمُونَهَا اخْتِلَاقًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فِي مَوَاسِمِهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي التَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ مِنْ الْخَطَرِ ، وَفِي ذَلِكَ مَقْنَعٌ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ مِمَّنْ يُنْسَبُ فِي الظَّاهِرِ إلَى الْمَشْيَخَةِ ، وَالْهِدَايَةِ وَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا وَفَعَلَ فِي زَاوِيَتِهِ بِالْمَقَابِرِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْوَقُودِ بِالْجَامِعِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ الشَّرِيفَةِ حَتَّى صَارَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ إلَى ذَلِكَ قَصْدًا وَيَتْرُكُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْوَقُودِ فِي الْبَلَدِ لِاشْتِمَالِ مَا عِنْدَهُ مِنْ الزِّيَادَاتِ عَلَى مَا فِي الْجَامِعِ لِتَحْصِيلِ أَغْرَاضِهِمْ الْخَسِيسَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمْ تَنَاوُلُ تِلْكَ الْأَغْرَاضِ فِي الْبَلَدِ وَسَمَّى هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيْلَةَ الْمَحْيَا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الِاسْمُ يَلِيقُ بِهَا لَكِنْ فِي الْعِبَادَةِ ، وَالْخَيْرِ ، وَالتَّضَرُّعِ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَطَلَبِ الْفَوْزِ بِطَاعَتِهِ ، وَالنَّجَاةِ بِفَضْلِهِ مِنْ

مُخَالَفَتِهِ وَمَعَاصِيهِ لَا بِمَا يَفْعَلُهُ هُوَ وَمَنْ يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ وَأَمْثَالُهُمْ ، وَصَارَ الرِّجَالُ ، وَالنِّسَاءُ يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهُ وَتَمَادَى ذَلِكَ وَاشْتَهَرَ حَتَّى صَارَ عَادَةً لَهُمْ فَبَقِيَ النَّاسُ يَهْرَعُونَ لِذَلِكَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا وَنَصَبُوا الْخِيَامَ خَارِجَ الزَّاوِيَةِ لِكَثْرَةِ الْخَلْقِ وَزَادَتْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ بِذَلِكَ وَكَثُرَتْ الْبِدَعُ وَوَقَعَ الضَّرَرُ لِمَنْ حَضَرَ ذَلِكَ الْمَوْطِنَ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَلِمَنْ فِيهِ مِنْ الْأَمْوَاتِ فَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلْأَحْيَاءِ بِحُضُورِ ذَلِكَ وَاسْتِحْسَانِهِ .
وَحُصُولُ الضَّرَرِ لِلْأَمْوَاتِ بِمَا يُشَاهِدُونَهُ مِنْ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ ، إذْ أَنَّهُمْ فِي دَارِ الْحَقِّ وَيَعْظُمُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَحْيَاءِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمَقَابِرِ وَتَأَوَّلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْجُلُوسِ لِقَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ، وَهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا فِي تِلْكَ الْمَوْضِعِ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقَابِرِ فَيَقَعُونَ فِي النَّهْيِ الصَّرِيحِ فَلَمَّا أَنْ مَضَى لِسَبِيلِهِ وَتَوَلَّى ذَلِكَ مَنْ تَوَلَّى قَامَ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ فَفَعَلُوا ذَلِكَ كَعَادَةِ شَيْخِهِمْ وَاسْتَأْكَلُوا بِذَلِكَ بَعْضَ الْحُطَامِ الَّذِي فِي أَيْدِي بَعْضِ مَعَارِفِهِمْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ مِنْ الذَّمِّ وَصَارَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ قَلَّمَا يَفُوتُهُمْ الْخُرُوجُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شُهُودِ ذَلِكَ ، فَأَيْنَ الشَّفَقَةُ ، وَالرَّحْمَةُ لِلْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصِيحَةِ لِنَفْسِهِ ، وَلِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ أَيْنَ شِعَارُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ أَهْلِ الْإِيمَانِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْعُلَمَاءِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْأَوْلِيَاءِ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الْمُتَّقِينَ ؟ أَيْنَ شِعَارُ الصَّالِحِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَزُورُونَهُمْ وَيَتَبَرَّكُونَ

بِهِمْ ؟ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ ، إذْ أَنَّ تَعْظِيمَهُمْ وَحُصُولَ بَرَكَتِهِمْ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ وَاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ لَا بِالْمُخَالَفَةِ وَاقْتِرَافِ الذُّنُوبِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ خَسْفِ الْقُلُوبِ وَانْقِلَابِ الْحَقَائِقِ بِمَنِّهِ وَفَضْلِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ .

فَصْلٌ فِي الْمَوْلِدِ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ مَوْلِدٍ وَقَدْ احْتَوَى عَلَى بِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةٍ .
فَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ الْمَغَانِي وَمَعَهُمْ آلَاتُ الطَّرَبِ مِنْ الطَّارِ الْمُصَرْصَرِ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ آلَةً لِلسَّمَاعِ وَمَضَوْا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ فِي كَوْنِهِمْ يَشْتَغِلُونَ فِي أَكْثَرِ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَظَّمَهَا بِبِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ السَّمَاعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ فِيهِ مَا فِيهِ .
فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَمَّ إلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفَضَّلَنَا فِيهِ بِهَذَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ آلَاتِ الطَّرَبِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الطَّارَ الَّذِي فِيهِ الصَّرَاصِرُ مُحَرَّمٌ وَكَذَلِكَ الشَّبَّابَةُ وَيَجُوزُ الْغِرْبَالُ لِإِظْهَارِ النِّكَاحِ .
فَآلَةُ الطَّرَبِ وَالسَّمَاعِ أَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ تَعْظِيمِ هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ الَّذِي مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فِيهِ بِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ .
فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْخَيْرِ شُكْرًا لِلْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مَا أَوْلَانَا مِنْ هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزِدْ فِيهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ شَيْئًا مِنْ الْعِبَادَاتِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِرَحْمَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ وَرِفْقِهِ بِهِمْ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَتْرُكُ الْعَمَلَ خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أُمَّتِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ كَمَا وَصَفَهُ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي

كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
لَكِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى فَضِيلَةِ هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ { بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ } فَتَشْرِيفُ هَذَا الْيَوْمِ مُتَضَمِّنٌ لِتَشْرِيفِ هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ .
فَيَنْبَغِي أَنْ نَحْتَرِمَهُ حَقَّ الِاحْتِرَامِ وَنُفَضِّلَهُ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ الْأَشْهُرَ الْفَاضِلَةَ وَهَذَا مِنْهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي } انْتَهَى .
وَفَضِيلَةُ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ بِمَا خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهَا لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْأَمْكِنَةَ وَالْأَزْمِنَةَ لَا تَتَشَرَّفُ لِذَاتِهَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهَا التَّشْرِيفُ بِمَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ الْمَعَانِي .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ هَذَا الشَّهْرَ الشَّرِيفَ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ فِيهِ فَضْلٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ فِيهِ .
فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الْكَرِيمُ أَنْ يُكَرَّمَ وَيُعَظَّمَ وَيُحْتَرَمَ الِاحْتِرَامَ اللَّائِقَ بِهِ وَذَلِكَ بِالِاتِّبَاعِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَخُصُّ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ بِزِيَادَةِ فِعْلِ الْبِرِّ فِيهَا وَكَثْرَةِ الْخَيْرَاتِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ } فَنَمْتَثِلُ تَعْظِيمَ الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ بِمَا امْتَثَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِنَا ( فَصْلٌ ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ الْتَزَمَ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا الْتَزَمَهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ مِمَّا قَدْ عُلِمَ وَلَمْ يَلْتَزِمْ فِي هَذَا الشَّهْرِ مَا الْتَزَمَهُ فِي غَيْرِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَمْ يَلْتَزِمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَيْئًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ إنَّمَا هُوَ مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُرِيدُ التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ وَالرَّحْمَةَ لَهُمْ سِيَّمَا فِيمَا كَانَ يَخُصُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ حَرَمِ الْمَدِينَةِ { اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَأَنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ } ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَشْرَعْ فِي قَتْلِ صَيْدِهِ وَلَا فِي قَطْعِ شَجَرِهِ الْجَزَاءَ تَخْفِيفًا عَلَى أُمَّتِهِ وَرَحْمَةً لَهُمْ فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنْظُرُ إلَى مَا هُوَ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ كَانَ فَاضِلًا فِي نَفْسِهِ يَتْرُكُهُ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ فَمَا أَكْثَرَ شَفَقَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُمَّتِهِ جَزَاهُ اللَّهُ عَنَّا خَيْرًا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا عَنْ أُمَّتِهِ هَذَا وَجْهٌ .

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِيهِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا شَرَعَهَا الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْيَمِينِ الَّذِي أَجَازَ الْحَلِفَ بِهَا وَأَمَّا مَنْ يَتَعَمَّدُ الْيَمِينَ الْكَاذِبَةَ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ إنَّمَا سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِانْغِمَاسِ صَاحِبِهَا فِي النَّارِ وَلَمْ تَرِدْ فِيهَا كَفَّارَةٌ وَنَحْنُ مُتَّبِعُونَ لَا مُشَرِّعُونَ .
فَكَذَلِكَ قَتْلُ الصَّيْدِ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ إذْ أَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنَعَ مِنْ الصَّيْدِ فِيهِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِيهِ جَزَاءً عَلَى مَنْ قَتَلَهُ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عَلَى قَاتِلِهِ الْجَزَاءَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرَمِ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ وَعَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ يَتَحَصَّلُ مِنْهُ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ فَعَلَى هَذَا فَتَعْظِيمُ هَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ إنَّمَا يَكُونُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الزَّاكِيَاتِ فِيهِ وَالصَّدَقَاتِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرُبَاتِ فَمَنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَيُكْرَهُ لَهُ تَعْظِيمًا لِهَذَا الشَّهْرِ الشَّرِيفِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَكْثَرُ احْتِرَامًا كَمَا يَتَأَكَّدُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَيَتْرُكُ الْحَدَثَ فِي الدِّينِ وَيَجْتَنِبُ مَوَاضِعَ الْبِدَعِ وَمَا لَا يَنْبَغِي .
وَقَدْ ارْتَكَبَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ضِدَّ هَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ هَذَا الشَّهْرُ الشَّرِيفُ تَسَارَعُوا فِيهِ إلَى اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ بِالدُّفِّ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا تَقَدَّمَ .
فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْإِسْلَامِ وَغُرْبَتِهِ وَغُرْبَةِ أَهْلِهِ وَالْعَامِلِينَ بِالسُّنَّةِ .
وَيَا

لَيْتَهُمْ لَوْ عَمِلُوا الْمَغَانِيَ لَيْسَ إلَّا بَلْ يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ فَيَبْدَأُ الْمَوْلِدَ بِقِرَاءَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَيَنْظُرُونَ إلَى مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مَعْرِفَةً بِالْهُنُوكِ وَالطُّرُقِ الْمُهَيِّجَةِ لِطَرِبِ النُّفُوسِ فَيَقْرَأُ عَشْرًا .
وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ وُجُوهٌ .
مِنْهَا مَا يَفْعَلُهُ الْقَارِئُ فِي قِرَاءَتِهِ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا وَالتَّرْجِيعُ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .
الثَّانِي أَنَّ فِيهِ قِلَّةَ أَدَبٍ وَقِلَّةَ احْتِرَامٍ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ يَقْطَعُونَ قِرَاءَةَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْبِلُونَ عَلَى شَهَوَاتِ نُفُوسِهِمْ مِنْ سَمَاعِ اللَّهْوِ بِضَرْبِ الطَّارِ وَالشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ وَالتَّكْسِيرِ الَّذِي يَفْعَلُهُ الْمُغَنِّي وَغَيْرِ ذَلِكَ .
الرَّابِعُ أَنَّهُمْ يُظْهِرُونَ غَيْرَ مَا فِي بَوَاطِنِهِمْ وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ صِفَةُ النِّفَاقِ وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الْمَرْءُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا وَهُوَ يُرِيدُ غَيْرَهُ اللَّهُمَّ إلَّا فِيمَا اُسْتُثْنِيَ شَرْعًا .
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَبْتَدِئُونَ الْقِرَاءَةَ وَقَصْدُ بَعْضِهِمْ وَتَعَلُّقُ خَوَاطِرِهِمْ بِالْمَغَانِي .
الْخَامِسُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يُقَلِّلُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِقُوَّةِ الْبَاعِثِ عَلَى لَهْوِهِ بِمَا بَعْدَهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ .
السَّادِسُ أَنَّ بَعْضَ السَّامِعِينَ إذَا طَوَّلَ الْقَارِئُ الْقِرَاءَةَ يَتَقَلْقَلُونَ مِنْهُ لِكَوْنِهِ طَوَّلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَسْكُتْ حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِمَا يُحِبُّونَهُ مِنْ اللَّهْوِ .
وَهَذَا غَيْرُ مُقْتَضَى مَا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَهْلَ الْخَشْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُمْ يُحِبُّونَ سَمَاعَ كَلَامِ مَوْلَاهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَدْحِهِمْ { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } فَوَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ بِمَا ذُكِرَ وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَسْتَعْمِلُونَ الضِّدَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِذَا سَمِعُوا

كَلَامَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ قَامُوا بَعْدَهُ إلَى الرَّقْصِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَالطَّرَبِ بِمَا لَا يَنْبَغِي فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِحْيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ يَعْمَلُونَ أَعْمَالَ الشَّيْطَانِ وَيَطْلُبُونَ الْأَجْرَ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ فِي تَعَبُّدٍ وَخَيْرٍ وَيَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ يَفْعَلُهُ سَفَلَةُ النَّاسِ وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى فَتَجِدُ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ أَوْ الْعَمَلِ يَفْعَلُهُ وَكَذَلِكَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ أَعْنِي فِي تَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ وَكُلُّ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ فِيمَا ذُكِرَ .
ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْمَكِيدَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالدَّسِيسَةُ مِنْ اللَّعِينِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ شَارِبَ الْخَمْرِ إذَا شَرِبَهُ أَوَّلَ مَا تَدِبُّ فِيهِ الْخَمْرَةُ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ فَإِذَا قَوِيَتْ عَلَيْهِ ذَهَبَ حَيَاؤُهُ وَوَقَارُهُ لِمَنْ حَضَرَهُ وَانْكَشَفَ مَا كَانَ يُرِيدُ سَتْرَهُ عَنْ جُلَسَائِهِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْمُغَنِّي إذَا غَنَّى تَجِدْ مَنْ لَهُ الْهَيْبَةُ وَالْوَقَارُ وَحُسْنُ الْهَيْئَةِ وَالسَّمْتِ وَيَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ الْإِشَارَاتِ وَالْعِبَارَاتِ وَالْعُلُومِ وَالْخَيْرَاتِ يَسْكُتُ لَهُ وَيُنْصِتُ فَإِذَا دَبَّ مَعَهُ الطَّرَبُ قَلِيلًا حَرَّكَ رَأْسَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْخَمْرَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ إذَا تَمَكَّنَ الطَّرَبُ مِنْهُ ذَهَبَ حَيَاؤُهُ وَوَقَارُهُ كَمَا سَبَقَ فِي الْخَمْرَةِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَيَقُومُ وَيَرْقُصُ وَيُعَيِّطُ وَيُنَادِي وَيَبْكِي وَيَتَبَاكَى وَيَتَخَشَّعُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ كَأَنَّهُ جَاءَهُ الْمَدَدُ مِنْهَا وَيُخْرِجُ الرَّغْوَةَ أَيْ الزَّبَدَ مِنْ فِيهِ وَرُبَّمَا مَزَّقَ بَعْضَ ثِيَابِهِ وَعَبِثَ بِلِحْيَتِهِ .
وَهَذَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَمْزِيقَ الثِّيَابِ مِنْ ذَلِكَ

هَذَا وَجْهٌ .
الثَّانِي أَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الْعُقَلَاءِ إذْ أَنَّهُ صَدَرَ مِنْهُ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْمَجَانِينِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ .

الثَّالِثُ أَنَّهُ أَلْحَقَ نَفْسَهُ بِالْبَهَائِمِ إذْ التَّكْلِيفُ إنَّمَا خُوطِبَ بِهِ الْعُقَلَاءُ .
وَهَذَا يَزْعُمُ أَنَّهُ سُلِبَ عَقْلُهُ وَلَوْ صَدَقَ فِي دَعْوَاهُ لَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مُدَّةً وَلَكِنَّا نَرَاهُ عِنْدَ سُكُوتِ الْمُغَنِّي يَسْكُنُ إذْ ذَاكَ وَيَرْجِعُ إلَى هَيْئَتِهِ وَيَلْبَسُ ثِيَابَهُ وَيَلُومُ الْمُغَنِّيَ عَلَى سُكُوتِهِ وَلَوْمُهُ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ بَاقٍ مَعَ حُظُوظِ نَفْسِهِ سَامِعٌ لِقَوْلِ الْمُغَنِّي إذْ لَوْ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ وَهُوَ عِنْدَ رَبِّهِ كَمَا يَزْعُمُ لَمَا أَحَسَّ بِالْمُغَنِّي وَلَا غَيْرِهِ إنْ تَكَلَّمُوا أَوْ سَكَتُوا .
يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الدَّاءَ الْعُضَالَ وَهُوَ الْكَذِبُ الْمَحْضُ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ عَاقِلٌ وَأَنَّهُمْ يُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِهَا فِي سِرِّهِمْ فَإِنْ يَكُنْ مَا قَالُوهُ حَقًّا وَهُوَ أَنَّهُمْ خُوطِبُوا بِمَا ذَكَرُوا فَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى الشَّيْطَانِ إذْ أَنَّ نُفُوسَهُمْ أَغْنَتْ الشَّيْطَانَ عَنْ تَكَلُّفِ أَمْرِهِمْ فَهِيَ تُحَدِّثُهُمْ وَتُسَوِّلُ لَهُمْ فَيَتَحَدَّثُونَ فِي سِرِّهِمْ بِمَا يَخْطُرُ لِنُفُوسِهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ خُوطِبْنَا بِكَذَا وَكَذَا .
وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُطْلِعَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِهِ مَنْ هُوَ مُخَالِفٌ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِكِتَابِهِ وَلِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ ذُكِرَ لَهُ بِالْوِلَايَةِ فَقَصَدَهُ فَرَآهُ يَتَنَخَّمُ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يَلْقَاهُ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ وَقَالَ هَذَا غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ فَكَيْفَ يَكُونُ أَمِينًا عَلَى أَسْرَارِ الْحَقِّ .
وَقَدْ وَعَظَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا مَنْ حَضَرَهُ فَقَامَ رَجُلٌ فَصَاحَ وَمَزَّقَ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ قُلْ لَهُ يُمَزِّقُ لِي عَنْ قَلْبِهِ لَا عَنْ جَيْبِهِ انْتَهَى .

ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ ضَمَّ بَعْضُهُمْ إلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْخَطَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُغَنِّي شَابًّا نَظِيفَ الصُّورَةِ حَسَنَ الْكِسْوَةِ وَالْهَيْئَةِ أَوْ أَحَدًا مِنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ يَتَصَنَّعُونَ فِي رَقْصِهِمْ بَلْ يَخْطُبُونَهُمْ لِلْحُضُورِ فَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ رُبَّمَا عَادُوهُ وَوَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَيْهِ وَحُضُورِهِ فِتْنَةً كَمَا تَقَدَّمَ سِيَّمَا وَهُمْ يَأْتُونَ إلَى ذَلِكَ شَبَهَ الْعَرُوسِ الَّتِي تَجَلَّى لَكِنَّ الْعَرُوسَ أَقَلُّ فِتْنَةً لِأَنَّهَا سَاكِنَةٌ حَيِيَّةٌ وَهَؤُلَاءِ عَلَيْهِمْ الْعَنْبَرُ وَالطِّيبُ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ بَيْنَ أَثْوَابِهِمْ وَيَتَكَسَّرُونَ مَعَ ذَلِكَ فِي مَشْيِهِمْ إذْ ذَاكَ وَكَلَامِهِمْ وَرَقْصِهِمْ وَيَتَعَانَقُونَ فَتَأْخُذُهُمْ إذْ ذَاكَ أَحْوَالُ النُّفُوسِ الرَّدِيئَةِ مِنْ الْعِشْقِ وَالِاشْتِيَاقِ إلَى التَّمَتُّعِ بِمَا يَرَوْنَهُ مِنْ الشُّبَّانِ وَيَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ الشَّيْطَانُ وَتَقْوَى عَلَيْهِمْ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ وَيَنْسَدُّ عَلَيْهِمْ بَابُ الْخَيْرِ سَدًّا .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لَأَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى سَبْعِينَ عَذْرَاءَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى شَابٍّ .
وَقَوْلُهُ هَذَا ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لِأَنَّ الْعَذْرَاءَ تَمْتَنِعُ النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ ابْتِدَاءً مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا بِخِلَافِ الشَّابِّ .
لِمَا وَرَدَ أَنَّ النَّظْرَةَ الْأُولَى سُمٌّ وَالشَّابُّ لَا يَتَنَقَّبُ وَلَا يَخْتَفِي بِخِلَافِ الْعَذْرَاءِ .
وَالشَّيْطَانُ مِنْ دَأْبِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ كُبْرَى أَجْلَبَ عَلَيْهَا بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ وَبِعَمَلِ الْحِيَلِ الْكَثِيرَةِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَعَلَّقَ خَاطِرُ النَّاظِرِ بِالْعَذْرَاءِ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الشَّابِّ .
هَذَا فِي حُضُورِ الشَّابِّ لَيْسَ إلَّا .
فَكَيْفَ إذَا كَانَ مُغَنِّيًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَالصُّورَةِ وَيَنْشُدُ التَّغَزُّلَ وَيَتَكَسَّرُ فِي صَوْتِهِ وَحَرَكَاتِهِ فَيُفْتَنُ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ الرِّجَالِ .
وَبَعْضُ النِّسْوَةِ يُعَايِنُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ

نَظَرِهِنَّ مِنْ السُّطُوحِ وَالطَّاقَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَيَرَيْنَهُ وَيَسْمَعْنَهُ وَهُنَّ أَرَقُّ قُلُوبًا وَأَقَلُّ عُقُولًا فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ فِي الْفَرِيقَيْنِ .
وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ لَدَيْهِ بَعْضُ عِلْمٍ أَوْ هُمَا مَعًا وَلَهُ غَيْرَةٌ إسْلَامِيَّةٌ كَيْفَ يَهُونُ عَلَيْهِ أَنْ يَصِفَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ الشُّبَّانِ لِزَوْجَتِهِ أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ .
فَإِنَّ سَمَاعَ مِثْلِ ذَلِكَ لَهُنَّ يُهَيِّجُ قُلُوبَهُنَّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِقَّتِهِنَّ وَقِلَّةِ عُقُولِهِنَّ مِنْ الْمَيْلِ إلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ .
فَكَيْفَ يَتَسَبَّبُ فِي حُضُورِهِنَّ حَتَّى يُعَايِنَّ مَا يَفْتِنُهُنَّ وَيُغَيِّرُهُنَّ عَنْ وُدِّهِ .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى قَطْعِ الْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا .
وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَى الْفِرَاقِ فَيَفْسُدُ حَالُ الزَّوْجِ وَحَالُ الزَّوْجَةِ جَزَاءً وِفَاقًا ارْتَكَبُوا مَا نُهُوا عَنْهُ فَجَوَّزُوا عَلَيْهِ بِالنَّكِدِ الْعَاجِلِ إذْ أَنَّ الْغَالِبَ إذَا حَصَلَ ذَلِكَ دَخَلَ الْأَقَارِبُ وَالْجِيرَانُ وَالْجَنَادِرَةُ وَالْقَاضِي بَيْنَهُمْ وَتَشَتَّتَتْ أَحْوَالُهُمْ بَعْدَ جَمْعِهِمْ وَصَارُوا فِرَقًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ يَا عُصْبَةً مَا ضَرَّ أُمَّةَ أَحْمَدَ وَسَعَى عَلَى إفْسَادِهَا إلَّا هِيَ طَارٌ وَمِزْمَارٌ وَنَغْمَةُ شَادِنٍ أَرَأَيْت قَطُّ عِبَادَةً بِمَلَاهِي وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ اللُّوطِيَّةُ عَلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ طَائِفَةٌ تَتَمَتَّعُ بِالنَّظَرِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِأَنَّ النَّظْرَةَ إلَى الْأَمْرَدِ بِشَهْوَةٍ حَرَامٌ إجْمَاعًا .
بَلْ صَحَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ .
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ يَتَمَتَّعُونَ بِالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاسَطَةِ وَالْمُعَانَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ عَدَا فِعْلِ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى .
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النَّظَرِ وَالْمُلَاعَبَةِ وَالْمُبَاسَطَةِ وَالْمُعَانَقَةِ أَقَلُّ رُتْبَةً مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ بَلْ الدَّوَامُ عَلَيْهِ يُلْحِقُهُ بِهَا لِأَنَّهُمْ قَالُوا لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ وَإِذَا دَاوَمَ

عَلَى الصَّغَائِرِ صَارَتْ كَبَائِرَ هَذَا الْكَلَامُ فِيمَنْ دَاوَمَ عَلَى الصَّغَائِرِ وَصَارَتْ بِدَوَامِهِ عَلَيْهَا كَبَائِرَ .
وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَالْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفَاسِدَ جُمْلَةٍ مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِمَا لَا يَحِلُّ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ .
وَيُقَالُ إنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ وَيَغْضَبُ الرَّبُّ تَعَالَى لِثَلَاثَةِ أَعْمَالٍ لِقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ وَإِتْيَانِ الذَّكَرِ لِلذَّكَرِ .
وَرُكُوبِ الْأُنْثَى الْأُنْثَى .
وَفِي الْخَبَرِ { لَوْ اغْتَسَلَ اللُّوطِيُّ بِالْبِحَارِ لَمْ يُطَهِّرْهُ إلَّا التَّوْبَةُ } وَقَدْ قَالَ بَعْضُ صُوفِيَّةُ الشَّامِ نَظَرْت إلَى غُلَامٍ نَصْرَانِيٍّ حَسَنِ الْوَجْهِ فَوَقَفْت أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَرَّ بِي ابْنُ الْجَلَاءِ الدِّمَشْقِيُّ وَأَخَذَ بِيَدِي فَاسْتَحَيْتُ مِنْهُ فَقُلْت يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ تَعَجَّبْت مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الْحَسَنَةِ وَهَذِهِ الصَّنْعَةِ الْمُحْكَمَةِ كَيْفَ خُلِقَتْ لِلنَّارِ فَغَمَزَ يَدِي وَقَالَ لَتَجِدَنَّ عُقُوبَتَهَا بَعْدَ حِينٍ فَعُوقِبْت بِتِلْكَ النَّظْرَةِ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً .
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْأَشْيَاخِ عَنْ مَنْصُورٍ الْفَقِيهِ .
قَالَ رَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ السُّكَّرِيِّ فِي النَّوْمِ فَقُلْت لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ .
فَقَالَ أَوْقَفَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ فِي الْعَرَقِ حَتَّى سَقَطَ لَحْمُ وَجْهِي .
قُلْت وَلِمَ ذَلِكَ .
قَالَ نَظَرْت إلَى غُلَامٍ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا .
وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي وَضَعَهُ فِي إنْكَارِ الْغِنَاءِ وَالسَّمَاعِ مُطْلَقًا مَعَ سَلَامَتِهِ مِمَّا ذُكِرَ .
وَأَعْظَمَ الْقَوْلَ فِيهِ فَكَيْفَ بِهِ إذَا انْضَافَ إلَيْهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
قَالَ الْإِمَامُ السُّهْرَوَرْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا مَعْنَاهُ .
وَلَا شَكَّ أَنَّك لَوْ مَثَّلْت

بَيْنَ عَيْنَيْك جُلُوسَ هَؤُلَاءِ الْمُغَنِّينَ وَتَزَيُّنَهُمْ .
وَهَذِهِ الْآلَاتِ وَهَيْئَتَهَا وَمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ السَّمَاعُ الْيَوْمَ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَوَجَدْت نَفْسَكَ تُنَزِّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حُضُورِ هَذِهِ الْمَجَالِسِ وَرُؤْيَتِهَا فَكَيْفَ يَفْعَلُهَا مَنْ يَنْتَمِي إلَى طَرِيقِ الصُّوفِيَّةِ وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .
لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ الصَّادِقِينَ شِعَارُهُمْ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ وَهُوَ مَشْيُهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرْكِ اللَّعِبِ وَالْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ وَالْخُلْطَةِ وَالْجُمُوعِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ هَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَوْمِ الصَّادِقِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا وَمَا أَقْبَحَهَا وَكَيْفَ تَجُرُّ إلَى الْمُحَرَّمَاتِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ خَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ وَفَعَلُوا الْمَوْلِدَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى فِعْلِهِ بَلْ زَادُوا عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَبَاطِيلِ الْمُتَعَدِّدَةِ فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَى ذَلِكَ وَهِيَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنَّا إذْ هُمْ أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ وَأَفْقَهُ بِالْحَالِ .
وَكَذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَلْيَحْذَرْ مِنْ عَوَائِدِ أَهْلِ الْوَقْتِ وَمِمَّنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَوْلِدِ إذَا عَمِلَ بِالسَّمَاعِ فَإِنْ خَلَا مِنْهُ وَعَمِلَ طَعَامًا فَقَطْ وَنَوَى بِهِ الْمَوْلِدَ وَدَعَا إلَيْهِ الْإِخْوَانَ وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ إذْ أَنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ

الْمَاضِينَ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ نِيَّةً مُخَالِفَةً لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمًا لَهُ وَلِسُنَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَهُمْ قَدَمُ السَّبْقِ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ وَنَحْنُ لَهُمْ تَبَعٌ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ .
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ فِي الْمَصَادِرِ وَالْمَوَارِدِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا } انْتَهَى .
وَقَدْ وَقَعَ مَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ وَمَنْ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ بَخِيلٌ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَقَالَ أَيْضًا وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاء كَلَامًا مَنْظُومًا فِي وَصْفِ زَمَانِنَا هَذَا كَأَنَّهُ شَاهَدَهُ ذَهَبَ الرِّجَالُ الْمُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ وَالْمُنْكِرُونَ لِكُلِّ أَمْرٍ مُنْكَرِ وَبَقِيت فِي خُلْفٍ يُزَكِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِيَدْفَعَ مُعْوَرٌ عَنْ مُعْوَرِ أَبُنَيَّ إنَّ مِنْ الرِّجَالِ بَهِيمَةً فِي صُورَةِ الرَّجُلِ السَّمِيعِ الْمُبْصِرِ فَطِنٍ بِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ فَإِذَا أُصِيبَ بِدِينِهِ لَمْ يَشْعُرْ فَسَلْ الْفَقِيهَ تَكُنْ فَقِيهًا مِثْلَهُ مَنْ يَسْعَ فِي عِلْمٍ بِلُبٍّ يَظْفَرْ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا ابْتَدَعُوا فِعْلَ الْمَوْلِدِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَشَوَّفَتْ نُفُوسُ النِّسَاءِ لِفِعْلِ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ مِنْ الْبِدَعِ وَالْمُخَالَفَةِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَكَيْفَ إذَا فَعَلَهُ النِّسَاءُ لَا جَرَمَ أَنَّهُنَّ لَمَّا فَعَلْنَهُ ظَهَرَتْ فِيهِ

عَوْرَاتٌ جُمْلَةٌ وَمَفَاسِدُ عَدِيدَةٌ فَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ مِنْ أَنَّهُ يَكُونُ بَعْضُ النِّسَاءِ يَنْظُرُ إلَى الرِّجَالِ فَيَقَعُ مَا يَقَعُ مِنْ التَّشْوِيشِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَفِي الْمَوْلِدِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَدْهَى لِأَنَّ بَعْضَ الرِّجَالِ يَتَطَلَّعُ عَلَيْهِنَّ مِنْ بَعْضِ الطَّاقَاتِ وَمِنْ السُّطُوحِ وَرُبَّمَا عَرَفَ الرِّجَالُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بَعْضَ النِّسْوَةِ الْحَاضِرَاتِ فَيَقُولُونَ هَذِهِ زَوْجَةُ فُلَانٍ وَهَذِهِ بِنْتُ فُلَانٍ وَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ نُفُوسُ بَعْضِ الرِّجَالِ بِبَعْضِ مَنْ يَرَوْنَ .
وَكَذَلِكَ بَعْضُ النِّسْوَةِ رُبَّمَا تَعَلَّقَ خَاطِرُهَا بِمَنْ رَأَتْهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا مِنْ الرِّجَالِ وَالشُّبَّانِ .
فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الْفِتْنَةِ الْكُبْرَى وَالْمَفْسَدَةِ الْعُظْمَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ بَلْ هُوَ أَشَدُّ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُنَّ اقْتَدَيْنَ بِالرِّجَالِ فِي الذِّكْرِ جَمَاعَةً بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِنَّ كَمَا يَفْعَلُ الرِّجَالُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ بِأَدِلَّتِهِ سِيَّمَا وَأَصْوَاتُ النِّسَاءِ فِيهَا مِنْ التَّرْخِيمِ وَالنَّدَاوَةِ مَا هُوَ فِتْنَةٌ فِي الْغَالِبِ فِي الْوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ فَتَكْثُرُ الْفِتْنَةُ فِي قُلُوبِ مَنْ يَسْمَعُهُنَّ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الشُّبَّانِ وَأَصْوَاتُهُنَّ عَوْرَةٌ فَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ الَّذِي يُعْمَلُ فِيهِ الْمَوْلِدُ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى السُّوقِ زَادَتْ الْفِتْنَةُ وَعَمَّتْ الْبَلْوَى لِكَثْرَةِ مَنْ يَسْمَعُ أَوْ يَرَى ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ تَصْفِيقَهُنَّ بِالْأَكُفِّ فِيهِ فِتْنَةٌ وَزِيَادَةٌ فِي إظْهَارِ الْعَوْرَاتِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا نَابَهَا شَيْءٌ فِي صَلَاتِهَا وَاضْطُرَّتْ إلَى التَّصْفِيقِ أَنَّهَا تُصَفِّقُ بِبَعْضِ أَصَابِعِهَا عَلَى ظَهْرِ يَدِهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا خِيفَةَ صَوْتِ بَاطِنِ كَفَّيْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ .

الرَّابِعُ : أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَرْقُصْنَ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي رَقْصِ الشُّبَّانِ وَالرِّجَالِ مِنْ الْعَوْرَاتِ وَالْمَفَاسِدِ وَفِي رَقْصِهِنَّ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ .
وَلِذَلِكَ أُمِرْنَ بِالسِّتْرِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَحْوَالِ النِّسْوَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فِي الْغَالِبِ حَتَّى تَلْبَسُ أَحْسَنَ ثِيَابِهَا وَتَتَطَيَّبُ وَتَتَزَيَّنُ ثُمَّ تُفْرِغُ عَلَيْهَا مِنْ الْحُلِيِّ مَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ فَإِذَا رَقَصَتْ وَهِيَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ زَادَتْ خَشْخَشَةُ الْحُلِيِّ فَقَدْ تُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ فَتَزِيدُ الْفِتْنَةُ بِحَسَبِ ذَلِكَ إذْ لَا يَخْلُو أَمْرُهُنَّ فِي الْغَالِبِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الرِّجَالِ يَسْتَمِعُونَ وَبَعْضُهُمْ يَنْظُرُونَ فَتَكْثُرُ الْفِتَنُ وَتَفْسُدُ الْقُلُوبُ وَتَتَشَوَّشُ .
فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَطَرَأَ عَلَيْهِ سَمَاعُ شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ أَوْ رُؤْيَتُهُ تَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ لَوْ سَلِمَ بَاطِنُهُ مِنْ الْفِتْنَةِ الْمَعْهُودَةِ لَوَقَعَ لَهُ التَّشْوِيشُ مِنْ جِهَةِ مَا يَرَى أَوْ يَسْمَعُ مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ فَإِنْ كَانَ التَّشْوِيشُ الْوَاقِعُ فِي بَاطِنِهِ مِنْ جِهَةِ مَا يَجِدُهُ الْبَشَرُ غَالِبًا فَقَدْ يُؤَوَّلُ ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ يَتَذَكَّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ تَعَبُّدِهِ وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَيَخَافُ أَنْ يُصِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْعُقُوبَةِ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا لِأَجْلِ فَسَادِ حَالِهِ مَعَ رَبِّهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ الْمَرْأَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَخُرُوجُهَا لِلْمَوْلِدِ لَيْسَ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ بَلْ لِلْبِدَعِ وَالْمَنَاكِيرِ وَالْمُحَرَّمَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
ثُمَّ إنَّهُنَّ لَا يَجْتَمِعْنَ لِلْمَوْلِدِ الَّذِي احْتَوَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ إلَّا بِحُضُورِ مَنْ يَزْعُمْنَ أَنَّهَا شَيْخَةٌ

عَلَى عُرْفِهِنَّ وَقَدْ تَكُونُ وَهُوَ الْغَالِبُ مِمَّنْ تُدْخِلُ نَفْسَهَا فِي التَّفْسِيرِ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَتُفَسِّرُ وَتَحْكِي قَصَصَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَتَزِيدُ وَتُنْقِصُ وَرُبَّمَا وَقَعَتْ فِي الْكُفْرِ الصَّرِيحِ وَهِيَ لَا تَشْعُرُ بِنَفْسِهَا وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَرُدُّهَا وَيُرْشِدُهَا .
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي بَيْتِ شَيْخٍ مِنْ الشُّيُوخِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي الْوَقْتِ وَلَا غَيَّرَ عَلَيْهَا أَحَدٌ بَلْ أَكْرَمُوهَا وَأَعْطَوْهَا .
وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْجُلُوسَ إلَى الْقُصَّاصِ مِنْ الرِّجَالِ أَعْنِي الْوُعَّاظَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ كَانُوا يَرَوْنَ الْقِصَصَ بِدْعَةً وَيَقُولُونَ لَمْ يُقَصُّ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى ظَهَرَتْ الْفِتْنَةُ فَلَمَّا وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ ظَهَرَ الْقُصَّاصُ .
وَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَجْلِسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَوَجَدَ قَاصًّا يَقُصُّ فَوَجَّهَ إلَى صَاحِبَ الشُّرْطَةِ أَنْ أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَهُ فَلَوْ كَانَتْ الْقِصَصُ مِنْ مَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالْقُصَّاصُ عُلَمَاءَ لَمَا أَخْرَجَهُمْ ابْنُ عُمَرَ مِنْ الْمَسْجِدِ هَذَا مَعَ وَرَعِهِ وَزُهْدِهِ .
وَرَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ الْقَصَصُ بِدْعَةٌ .
وَرَوَيْنَا عَنْ عَوْنِ بْنِ مُوسَى عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ قَالَ سَأَلْت الْحَسَنَ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قُلْت أَعُودُ مَرِيضًا أَحَبُّ إلَيْكَ أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ عُدْ مَرِيضَكَ قُلْت أُشَيِّعُ جِنَازَةً أَحَبُّ إلَيْك أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ شَيِّعْ جِنَازَتَكَ قُلْت إنْ اسْتَعَانَ بِي رَجُلٌ فِي حَاجَتِهِ أُعِينُهُ أَوْ أَجْلِسُ إلَى قَاصٍّ قَالَ اذْهَبْ فِي حَاجَتِك .
وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ

الْمَسْجِدِ وَقَالَ مَا أَخْرَجَنِي مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا الْقَاصُّ وَلَوْلَاهُ مَا خَرَجْت .
وَقَالَ ضَمْرَةُ قُلْت لِلثَّوْرِيِّ نَسْتَقْبِلُ الْقَاصَّ بِوُجُوهِنَا فَقَالَ وَلُّوا الْبِدَعَ ظُهُورَكُمْ .
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ دَخَلْت عَلَى ابْنِ سِيرِينَ فَقَالَ مَا كَانَ الْيَوْمَ مِنْ خَبَرٍ فَقُلْت نَهَى الْأَمِيرُ الْقُصَّاصَ أَنْ يَقُصُّوا .
وَقَدْ قَسَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَكَلِّمِينَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامِ فَوَصَفَهُمْ بِأَمَاكِنِهِمْ فَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ ثَلَاثَةٌ أَصْحَابُ الْكَرَاسِيِّ وَهُمْ الْقُصَّاصُ وَأَصْحَابُ الْأَسَاطِينِ وَهُمْ الْمَفْتُون وَأَصْحَابُ الزَّوَايَا وَهُمْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ انْتَهَى .
وَقَدْ مَنَعَ عَلِيُّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ مَنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِي جَامِعِ الْبَصْرَةِ حِينَ مَشَى عَلَيْهِمْ وَسَمِعَ كَلَامَهُمْ مَا خَلَا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَإِنَّهُ لَمَّا أَنْ سَمِعَ كَلَامَهُ وَسَأَلَهُ فَأَجَابَهُ بِمَا يَنْبَغِي أَبْقَاهُ وَحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ مِثْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ لَمْ يَتْرُكْهُ حَتَّى امْتَحَنَهُ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي زَمَانِنَا هَذَا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَقَامَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَعْلَمُ وَأَفْضَلُ وَأَدْيَنُ وَأَوْرَعُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ زَمَانِنَا هَذَا وَصُلَحَائِهِمْ إذْ أَنَّهُمْ فِي خَيْرِ الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَنَحْنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ فِيهِمْ بِضِدِّ حَالِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِ مَا لَمْ نَذْكُرْهُ وَصِفَةُ مَا يُفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَسَبَبُ الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَ الْقِصَّةَ عَلَى مَا نُقِلَ فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْحِكَايَاتِ الضَّعِيفَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ أَنْ تُنْسَبَ لِمَنْصِبِ مَنْ نُسِبَتْ إلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنْ قَالَ عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ عَصَى أَوْ خَالَفَ فَقَدْ كَفَرَ نَعُوذُ

بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الرِّجَالِ مِمَّنْ يُطَالِعُ الْكُتُبَ وَيَعْرِفُ الصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْمُخَاصَمَةِ فَكَيْفَ بِالْمَرْأَةِ الَّتِي هِيَ مُعْوَجَّةٌ أَصْلًا وَفَرْعًا ثُمَّ إنَّهَا مَعَ اعْوِجَاجِهَا قَلِيلَةُ الْمُطَالَعَةِ وَإِنْ طَالَعَتْ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَسْتَوِي عِنْدَهَا الصَّحِيحُ وَالسَّقِيمُ وَالْغَالِبُ فِي الْقَصَصِ وَالْحِكَايَاتِ الضَّعْفُ وَالْكَذِبُ فَتَنْقُلُهُ إنْ كَانَتْ ثِقَةً عَلَى مَا رَأَتْهُ فَيَقَعُ الْخَطَأُ فَكَيْفَ بِهَا إذَا حَرَّفَتْهُ فَزَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ فِيهِ فَتَضِلَّ وَتُضِلَّ فَيَدْخُلْنَ النِّسْوَةُ فِي الْغَالِبِ وَهُنَّ مُؤْمِنَاتٌ فَيَخْرُجْنَ وَهُنَّ مُفْتَتَنَاتٌ فِي الِاعْتِقَادِ أَوْ فُرُوعِ الدِّينِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْد اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } الْآيَةَ فِي سُورَةِ طَه قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنَّا الْيَوْمَ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْ آدَمَ إلَّا إذَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَثْنَاءِ قَوْله تَعَالَى عَنْهُ أَوْ قَوْلِ نَبِيِّهِ فَأَمَّا أَنْ نَبْتَدِئَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِنَا فَلَيْسَ بِجَائِزٍ لَنَا فِي آبَائِنَا الْأَدْنَيْنَ إلَيْنَا الْمُمَاثِلِينَ لَنَا فَكَيْفَ بِأَبِينَا الْأَقْدَمِ الْأَعْظَمِ الْأَكْبَرِ لِلنَّبِيِّ الْمُقَدَّمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ انْتَهَى .
ثُمَّ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ الْمَوْلِدَ بِالْمَغَانِي وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ انْتَقَلَ إلَى كَرَامَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفُجِعَتْ الْأُمَّةُ فِيهِ وَأُصِيبَتْ بِمُصَابٍ عَظِيمٍ لَا يَعْدِلُ ذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الْمَصَائِبِ أَبَدًا فَعَلَى هَذَا كَانَ يَتَعَيَّنُ

الْبُكَاءُ وَالْحُزْنُ الْكَثِيرُ وَانْفِرَادُ كُلِّ إنْسَانٍ بِنَفْسِهِ لِمَا أُصِيبَ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَصَائِبِهِمْ الْمُصِيبَةُ بِي } انْتَهَى فَلَمَّا ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُصِيبَةَ بِهِ ذَهَبَتْ كُلُّ الْمَصَائِبِ الَّتِي تُصِيبُ الْمَرْءَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ وَبَقِيَتْ لَا خَطَرَ لَهَا .
وَلَقَدْ أَحْسَنَ حَسَّانُ حِينَ رَثَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ كُنْتَ السَّوَادَ لِنَاظِرِي فَعَمَى عَلَيْكَ النَّاظِرُ مَنْ شَاءَ بَعْدَكَ فَلْيَمُتْ فَعَلَيْكَ كُنْتُ أُحَاذِرُ فَانْظُرْ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَيْفَ يَلْعَبُونَ فِيهِ وَيَرْقُصُونَ وَلَا يَبْكُونَ وَلَا يَحْزَنُونَ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْحَالِ لِأَجْلِ اقْتِرَافِ الذُّنُوبِ وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ مِنْ أَجْلِ فَقْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ذَلِكَ مُذْهِبًا لِلذُّنُوبِ وَمُمْحِيًا لِآثَارِهَا مَعَ أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَالْتَزَمُوهُ لَكَانَ أَيْضًا بِدْعَةً وَإِنْ كَانَ الْحُزْنُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ دَائِمًا لَكِنْ لَا يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاجْتِمَاعِ لِذَلِكَ وَالتَّبَاكِي وَإِظْهَارِ التَّحَزُّنِ بَلْ ذَلِكَ أَعْنِي الْحُزْنَ فِي الْقُلُوبِ فَإِنْ دَمَعَتْ الْعَيْنُ فَيَا حَبَّذَا وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ إذَا كَانَ الْقَلْبُ عَامِرًا بِالْحُزْنِ وَالتَّأَسُّفِ إذْ هُوَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَإِنَّمَا وَقَعَ الذِّكْرُ لِهَذَا الْفَصْلِ لِكَوْنِهِمْ فَعَلُوا الطَّرَبَ الَّذِي لِلنُّفُوسِ فِيهِ رَاحَةٌ وَهُوَ اللَّعِبُ وَالرَّقْصُ وَالدُّفُّ وَالشَّبَّابَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ الْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلنَّفْسِ فِيهِ رَاحَةٌ بَلْ الْكَمَدُ وَحَبْسُ النُّفُوسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا وَمَلَاذِّهَا .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا أَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِلْفَرَحِ وَالسُّرُورِ لِوِلَادَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعْمَلُ يَوْمًا آخَرَ لِلْمَأْتَمِ وَالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ

قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ طَعَامًا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ لَيْسَ إلَّا وَجَمَعَ لَهُ الْإِخْوَانَ فَإِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ .
هَذَا وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ ظَاهِرُهُ الْبِرُّ وَالتَّقَرُّبُ لَيْسَ إلَّا فَكَيْفَ بِهَذَا الَّذِي جَمَعَ بِدَعًا جُمْلَةً فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ .
فَكَيْفَ إذَا كَرَّرَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْفَرَحِ وَمَرَّةً لِلْحُزْنِ فَتَزِيدُ الْبِدَعُ وَيَكْثُرُ اللَّوْمُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كَيْفَ زَادَتْ عَلَى مَا فِي مَوْلِدِ الرِّجَالِ فَتَعَدَّتْ فِتْنَةُ الرِّجَالِ إلَى النِّسَاءِ ثُمَّ تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ آلَ أَمْرُهُمْ إلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمَقَابِرِ وَهَتْكِ الْحَرِيمِ هُنَاكَ بِسَبَبِ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالشُّبَّانِ مُخْتَلَطِينَ عَلَى الْوَاعِظِ أَوْ الْوَاعِظَةِ وَتُنْصَبُ لَهُمْ الْمَنَابِرُ وَيَصْعَدُونَ عَلَيْهَا يَعِظُونَ وَيَزِيدُونَ وَيَنْقُصُونَ وَيَتَمَايَلُونَ كَمَا قَدْ عُلِمَ مِنْ أَفْعَالِ الْوُعَّاظِ وَزَعَقَاتِهِمْ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمْ وَالْهُنُوكُ الْمَذْمُومَةُ شَرْعًا الَّتِي لَا تَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ مَفْتُونَةً قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ مَنْ أَعْجَبَهُمْ شَأْنُهُمْ وَيَتَمَايَلُونَ مَعَ كُلِّ صَوْتٍ وَيَرْجِعُونَ بِحَسَبِ حَالِ ذَلِكَ الصَّوْتِ مَعَ التَّكْسِيرِ وَالضَّرْبِ بِأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْكُرْسِيِّ وَإِظْهَارِ التَّحَزُّنِ وَالْبُكَاءِ وَهُوَ خَالٍ مِنْ الْبُكَاءِ وَالْخَشْيَةِ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ عَرِيٍّ عَنْ التَّوْفِيقِ فِيهِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ { إذَا اسْتَكْمَلَ نِفَاقُ الْمَرْءِ كَانَتْ عَيْنَاهُ بِحُكْمِ يَدِهِ يُرْسِلُهُمَا مَتَى شَاءَ } انْتَهَى وَهَذَا نُشَاهِدُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فَتَجِدُ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمَكَّاسِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الظَّلَمَةِ تُذَكِّرُهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَوَاعِظِ أَوْ التَّخْوِيفِ فَيُرْسِلُونَ دُمُوعَهُمْ إذْ ذَاكَ وَيَتَخَشَّعُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ ثُمَّ يَبْقَوْنَ عَلَى حَالِهِمْ لَا يُقْلِعُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَفِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى الْقُبُورِ مِنْ الْكَشَفَةِ مَا قَدْ تَقَدَّمَ وَإِنَّ النِّسَاءَ كَأَنَّهُنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ لَا يَحْتَجِبْنَ فَكَأَنَّ الرِّجَالَ فِي الْقُبُورِ صَارُوا نِسَاءً فَإِذَا دَخَلُوا الْبَلَدَ رَجَعُوا رِجَالًا يُسْتَحْيَا مِنْهُمْ فِيهَا ( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى نِكَايَةِ هَذَا الْعَدُوِّ اللَّعِينِ بَلْ بَعْضُهُمْ لَا يَفْتَقِرُ إلَى

وَسْوَسَتِهِ إذْ أَنَّهُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَقَدْ قَرَّرُوا وَأَصَّلُوا أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ فَاضِلٍ يَشْغَلُونَهُ فِي الْغَالِبِ بِارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ أَلَا تَرَى أَنَّ خُرُوجَ النِّسَاءِ إلَى الْقُبُورِ فِيهِ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ مِمَّا يَعُمُّ وُجُودُهُ مِنْهُنَّ غَالِبًا وَلَا يَفْعَلْنَ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا فِي الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي الشَّرِيفَةِ كَلَيَالِي الْجُمَعِ سِيَّمَا الْمُقْمِرَةُ مِنْهَا فَإِنَّ الْفِتْنَةَ فِيهَا تَكْثُرُ فَعَامَلُوهَا بِالنَّقِيضِ عَلَى عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ إذْ أَنَّ اللَّيَالِيَ الْمُقْمِرَةَ هِيَ لَيَالِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مِنْ اللَّيَالِيِ الْمَعْلُومِ فَضْلُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى فَإِنْ اجْتَمَعَ إلَى الْأَيَّامِ الْبِيضِ وَلَيَالِيِهَا شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَشْهُرِ أَوْ الْأَيَّامِ أَوْ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ فَتَزِيدُ الْفَضَائِلُ إلَى فَضَائِلَ أُخَرَ فَتَتَأَكَّدُ الْحُرْمَةُ وَيَقَعُ تَعْظِيمُ الثَّوَابِ وَالْخَيْرَاتِ لِمَنْ قَامَ بِحُرْمَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .
فَلَمَّا أَنْ زَادَتْ هَذِهِ الْفَضَائِلُ قَابَلْنَهَا بِضِدِّ مَا يُرَادُ مِنْهُنَّ عَلَى عَوَائِدِهِنَّ الذَّمِيمَةِ وَإِنْ كُنَّ لَمْ يَقْصِدْنَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْوَاقِعَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ بِالنَّقِيضِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَيَنْهَتِكْنَ فِي الْغَالِبِ فِي الْجُمُعَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَوْمِ الْخَمِيسِ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْقُبُورِ وَالْجُمُعَةِ فِي إقَامَتِهِنَّ فِيهَا وَالسَّبْتِ فِي رُجُوعِهِنَّ إلَى بُيُوتِهِنَّ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَكَذَلِكَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَالْعِيدَيْنِ وَلَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَكِنْ زَادَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِسَبَبِ الْوُقُودِ فِي الزَّاوِيَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْكَثِيرَةِ بِسَبَبِ الْوَقُودِ فِيهَا وَفِي الْقُبُورِ أَشْنَعُ إذْ فِيهِ تَفَاؤُلٌ لِمَنْ هُنَاكَ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ نَهَى

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ فَكَيْفَ يُفْعَلُ ذَلِكَ عَلَى قَبْرِهِ وَأَعْظَمُ فِتْنَةٍ فِيهَا اجْتِمَاعُ النِّسَاءِ وَالشُّبَّانِ وَالرِّجَالِ مُخْتَلَطِينَ وَاجْتِمَاعُهُمْ فِتْنَةٌ حَيْثُ وُجِدُوا لَكِنْ فِي الْقُبُورِ أَشَدُّ وَأَعْظَمُ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ إنَّهُمْ ضَمُّوا لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ الْمَذْكُورَةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِزِيَارَةِ السَّيِّدِ الْحُسَيْنِ وَحُضُورِ بَعْضِهِنَّ سُوقَ الْقَاهِرَةِ لِمَا يَقْصِدْنَ فِيهِ مِنْ الْأَغْرَاضِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا .
وَجَعَلْنَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ لِزِيَارَةِ السِّتِّ نَفِيسَةَ أَوْ حُضُورِ سُوقِ مِصْرَ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِنَّ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ .
وَيَوْمَ الْأَحَدِ لِحُضُورِ سُوقِ مِصْرَ أَيْضًا فَلَمْ يَتْرُكْنَ الْإِقَامَةَ فِي الْغَالِبِ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا وَهُوَ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ إنْ سَلِمْنَ فِيهِ مِنْ الزِّيَارَةِ لِمَنْ يَخْتَرْنَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ خُرُوجَ النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَأَيْنَ الضَّرُورَةُ الشَّرْعِيَّةُ .
وَلَوْ حُكِيَ هَذَا عَنْ الرِّجَالِ لَكَانَ فِيهِ شَنَاعَةٌ وَقُبْحٌ فَكَيْفَ بِهِ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ

( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ فَإِنَّهَا لَا تَأْتِي إلَّا بِالشَّرِّ .
وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فَتَاوَى الْعُلَمَاءِ قَدْ وَقَعَتْ بِهَدْمِ بُنْيَانِ الْبُيُوتِ الَّتِي فِي الْقُبُورِ عَلَى مَا سَبَقَ فَلَوْ امْتَثَلْنَا أَمْرَ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الْمَثَالِمُ كُلُّهَا وَكُفِيَ النَّاسُ أَمْرَهَا فَبِسَبَبِ مَا هُنَاكَ مِنْ الْبُنْيَانِ وَالْمَسَاكِنِ وَجَدَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ السَّبِيلَ إلَى حُصُولِ أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا قَدْ قِيلَ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ فَإِذَا هَمَّ الْإِنْسَانُ بِالْمَعْصِيَةِ وَأَرَادَهَا وَعَمِلَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَفْعَلُهَا أَوْ وَجَدَهُ وَلَكِنْ لَا يَجِدُ مَكَانًا لِلِاجْتِمَاعِ فِيهِ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْعِصْمَةِ .
فَكَانَ الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ فِيهِ مَفَاسِدُ .
مِنْهَا هَتْكُ الْحَرِيمِ بِخُرُوجِهِنَّ إلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ فَيَجِدْنَ أَيْنَ يُقِمْنَ أَغْرَاضَهُنَّ هَذَا وَجْهٌ .
الثَّانِي تَيْسِيرُ الْأَمَاكِنِ لِاجْتِمَاعِ الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ فَتَيْسِيرُ الْمَسَاكِنِ هُنَاكَ سَبَبٌ وَتَسْهِيلٌ لِوُقُوعِ الْمَعَاصِي هُنَاكَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْنِي الْبَيْتَ مُجَاوِرًا لِلتُّرْبَةِ الَّتِي تَكُونُ لَهُ ثُمَّ يَمُوتُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَمَعَارِفُهُ وَتَنْقَطِعُ آثَارُهُمْ وَتَبْقَى الدِّيَارُ خَالِيَةً فَيَجِدُ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ السَّبِيلَ إلَى مُرَادِهِ وَقَدْ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ حَيَاةِ صَاحِبِهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ .
وَقَدْ يَنْقَلِعُ بَابُهَا فَتَبْقَى مَأْوَى لِلْفَسَقَةِ وَاللُّصُوصِ .
الثَّالِثُ : وَهُوَ أَكْبَرُ وَأَشْنَعُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي دُفِنَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَقْفٌ عَلَيْهِ مَا دَامَ مِنْهُ شَيْءٌ مَا مَوْجُودًا فِيهِ حَتَّى يَفْنَى فَإِذَا فَنِيَ حِينَئِذٍ يُدْفَنُ غَيْرُهُ فِيهِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مَا مِنْ عِظَامِهِ

فَالْحُرْمَةُ قَائِمَةٌ كَجَمِيعِهِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْفَرَ عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَلَا يُكْشَفَ عَنْهُ اتِّفَاقًا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ قَبْرِهِ قَدْ غُصِبَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَلْحَدَ مَيِّتًا وَأُهِيلَ عَلَيْهِ بَعْضُ التُّرَابِ ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّ يَاقُوتَةً وَقَعَتْ فِي الْقَبْرِ لَهَا قِيمَةٌ أَوْ نَفَقَةٌ كَثِيرَةٌ فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُزَالَ مَا أُهِيلَ عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ لِأَخْذِ مَا وَقَعَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ أَوْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَجْلِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ فَلَا يَجُوزُ الْكَشْفُ بَعْدَ إهَالَةِ شَيْءٍ مِنْ التُّرَابِ عَلَيْهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَالْحِكْمَةُ فِي مَنْعِ الْكَشْفِ عَنْهُ خَشْيَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَغَيَّرَ حَالُ الْمَيِّتِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فَمَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ بَابِ السَّتْرِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ امْتَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } فَالسَّتْرُ فِي الْحَيَاةِ سَتْرُ الْعَوْرَاتِ وَفِي الْمَمَاتِ سَتْرُ جِيَفِ الْأَجْسَادِ وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهَا فَكَانَ الْبُنْيَانُ فِي الْقُبُورِ سَبَبًا إلَى خَرْقِ هَذَا الْإِجْمَاعِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فِي حَفْرِ قُبُورِهِمْ وَالْكَشْفِ عَنْهُمْ بَلْ يَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا مِنْ الْأَمْوَاتِ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ قِدَمٍ أَوْ طَرَاوَةٍ فِي الْقِفَافِ فَيَرْمُونَ ذَلِكَ فِي الْمَزَابِلِ أَوْ يَدْفِنُونَهُ بَعْضَ دَفْنٍ وَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ فَيَعْمَلُونَ فِي مَوَاضِعِ الْقُبُورِ الْبُيُوتَ الْعَالِيَةَ وَالْمَرَاحِيضَ وَالسَّرَابَاتِ وَيَنْقُلُونَ الْمَوْتَى وَفِيهِمْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ وَالْأَشْرَافُ وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ كَانَ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّهُمْ مَاتُوا بِمِصْرَ فَيَعْمَلُونَ فِي مَوَاضِعِهِمْ السَّرَابَاتِ الَّتِي لِلْمَرَاحِيضِ فَتَعُمُّ الْأَذِيَّةُ لِمَنْ نُقِلَ

مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ لَمْ يُنْقَلْ لِقُوَّةِ سَرَيَانِ النَّجَاسَةِ الْمُنْبَعِثَةِ إلَيْهِمْ فِي قُبُورِهِمْ .
وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مَنْ لَا شَوْكَةَ لَهُ وَيَسْكُتُ لَهُ لِلْعَادَةِ الذَّمِيمَةِ الْجَارِيَةِ فِيهِمْ وَبَيْنَهُمْ .
وَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ عِيَانًا حَفَرَ بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا شَوْكَةَ لَهُ مَوْضِعَ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ فَرَأَيْت الْفَعَلَةَ وَهُمْ يَنْقُلُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى مِنْ قُبُورِهِمْ فَيَرْمُونَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ حَتَّى بَنَى دَارًا عَظِيمَةً عَلَى زَعْمِهِمْ وَحَمَّامًا وَإِصْطَبْلًا وَبِئْرًا وَحَوْضًا لِلسَّبِيلِ عَلَى زَعْمِهِ بَلْ ارْتَكَبَ بَعْضُ مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ أَمْرًا عَظِيمًا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَنْ يُبَاشِرُ نَبْشَ أَمْوَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ الْأُسَارَى مِنْ كُفَّارِ الْإِفْرِنْجِ وَغَيْرِهِمْ فَيَأْخُذُونَ عِظَامَ الْمَوْتَى فِي الْقُفَفِ بَعْدَ حَفْرِهِمْ عَلَيْهِمْ أَذِيَّةً وَنِكَايَةً وَحَسِيفَةً فَيَكْسِرُونَ الْعِظَامَ وَيَخْرِقُونَ حُرْمَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَسْرُ عَظْمِ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا } انْتَهَى ثُمَّ إذَا أَخْرَجُوا الْعِظَامَ فِي الْقُفَفِ لِيَرْمُوهَا يَتَضَاحَكُونَ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَهْزِئُونَ وَقَدْ يُنَادِي بَعْضُ الْأُسَارَى عَلَى الْقُفَّةِ الَّتِي مَعَهُ فِيهَا عِظَامُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَأَنَّهُ يَبِيعُ شَيْئًا يَقُولُ قُفَّةٌ بِرُبْعٍ قُفَّةٌ بِأَرْبَعِ فُلُوسٍ قُفَّةٌ بِفَلْسَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ اسْتِهْزَائِهِمْ .
وَكَيْفَ لَا وَهُمْ أَعْدَاءُ الدِّينِ وَقَدْ وَجَدُوا السَّبِيلَ إلَى الْجِهَادِ عَلَى زَعْمِهِمْ فَانْتَهَكُوا ذَلِكَ وَطَابَتْ خَوَاطِرُهُمْ بِمَا نَالُوا مِنْهُ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ مَا أَعْظَمَ قُبْحَهَا وَمَا أَشْنَعَهَا وَارْتِكَابِ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ فِيهَا كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ تَسَامُحُ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْوَقْتِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْبُنْيَانِ فِي الْقُبُورِ وَوَقَعَ ذَلِكَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ بَلْ بَعْضِ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ

مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ وَالْوُصُولِ إلَى أَرْبَابِ الْأُمُورِ تَجِدْ لَهُمْ فِيهَا مَوَاضِعَ عَالِيَةً عَظِيمَةً عِنْدَهُمْ وَتَشَبَّهُوا فِي ذَلِكَ بِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بَلْ يَقِفُ بَعْضُ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى عَلَى تُرَبِهِمْ الْأَوْقَافَ عَلَى الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَالذَّاكِرِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ حَالِهِمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ تِلْكَ الطُّرُقِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَقِفُونَ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَالْبَوَّابِ وَالْقَيِّمِ وَالْمُؤَذِّنِ وَعَلَى الزَّيْتِ لِوَقُودِ الْمَكَانِ وَيُمْنَعُ الْوُقُودُ هُنَاكَ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : مُخَالَفَةُ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : مَا فِيهِ مِنْ التَّفَاؤُلِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَنْ يُتْبَعَ الْمَيِّتُ بِنَارٍ فَكَيْفَ بِهِ أَنْ يُفْعَلَ ذَلِكَ عَلَى قَبْرِهِ .
وَالثَّالِثُ : إضَاعَةُ الْمَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَالْعَجَبُ الْعَجِيبُ مِنْ كَوْنِهِمْ يُفْتُونَ فِي مَجَالِسِ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْبَشَ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ وَلَا أَنْ يُتَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَرَاحِيضِ وَالْفَسَاقِي الْمَمْلُوءَةِ بِالْمَاءِ لِلِاسْتِعْمَالِ ثُمَّ يَقِفُونَ عَلَى ذَلِكَ وَقْفًا فَيَكُونُ الْوَقْفُ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى مَنْ يَبُولُ عَلَيْهِمْ وَيُنَجِّسُهُمْ فَتَجِدُ أَكْثَرَ دُورِهِمْ أَكْثَرَ تَنْجِيسًا لِزِيَادَةِ الِاجْتِمَاعِ عِنْدَهُ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ وَقَوْمَةِ الْمَكَانِ وَمَنْ كَانَ يَأْتِي إلَيْهِمْ وَإِلَى زِيَارَتِهِمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
فَإِذَا عُلِمَ مَا ذُكِرَ وَتَحَقَّقَ بِمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا بَطَلَ إذْ ذَاكَ الْوَقْفُ ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ ، وَهَذَا كَمَا تَرَاهُ مُنَافٍ لِلْقُرْبَةِ قَطْعًا فَأَيْنَ الْقُرْبَةُ وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ يَتَفَاخَرُونَ فِي ذَلِكَ حَتَّى فِي صِفَةِ الرُّخَامِ الَّذِي يَفْرِشُونَهُ حَوْلَ الْقَبْرِ

وَعَلَيْهِ .
وَأَمَّا بُنْيَانُ الْقَبْرِ وَالْأَعْمِدَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالسُّقُوفِ الْمُذَهَّبَةِ وَالتَّصَاوِيرِ الَّتِي فِي بَعْضِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ كَيْفَ يَنْعَكِسُ مُرَادُ مَنْ خَالَفَهُ إلَى ضِدِّهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا وَقَفُوا الْأَوْقَافَ عَلَى مَنْ ذُكِرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَمَا قَصَدُوا بِالْأَوْقَافِ إلَّا كَثْرَةَ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ فَلَمَّا أَنْ جَعَلُوهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ انْعَكَسَ عَلَيْهِمْ الْأَمْرُ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِعَدَمِ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ وَالدُّعَاءِ لَهُمْ مِمَّنْ يَأْتِي لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ ، أَوْ يَمُرُّ بِهَا إذْ أَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِتِلْكَ الْقُصُورِ وَالْأَبْوَابِ وَالْحُجَّابِ مِنْ الطَّوَّاشِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ كَأَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى حَالِ رِيَاسَتِهِمْ وَمُفَاخَرَتِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاسْتَصْحَبُوا ذَلِكَ حَتَّى فِي الْقُبُورِ ( فَصْلٌ ) ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ غَابَ عَنْهُمْ أَصْلُ الشَّرِيعَةِ وَعُمْدَتُهَا إذْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّرْعِ الْوَرَعُ وَكُلُّ أَحَدٍ فِيهِ عَلَى مَرْتَبَتِهِ وَالْوَرَعُ بِالْمَرْءِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ مَوْتِهِ ، أَوْلَى بِهِ بَلْ أَوْجَبُ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فِي حَيَاتِهِ إذْ أَنَّهُ مَا بَقِيَ لَهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا إقَامَةٌ إلَّا أَنْفَاسٌ يَسِيرَةٌ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِلِقَاءِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْوَرَعِ لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَوْ قُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْحَنَايَا وَصُمْتُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَالْأَوْتَارِ وَلَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَرَعٌ حَاجِزٌ لَمْ يَمْنَعْكُمْ ذَلِكَ مِنْ النَّارِ } انْتَهَى .
فَعَكَسَ هَؤُلَاءِ الْأَمْرَ وَجَمَعُوا الْمَالَ مِنْ وَجْهِهِ وَمِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ وَغَصَبُوا مَوَاضِعَ قُبُورِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ رَاحِلُونَ لِأَوَّلِ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ وَبَنَوْا وَشَيَّدُوا الدِّيَارَ

وَغَيْرَهَا مِنْ مَالٍ جُمِعَ مِنْ الشُّبُهَاتِ ، أَوْ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ هُمَا مَعًا عَكْسُ خِصَالِ الْمُتَّقِينَ بَلْ الْمُسْلِمِينَ وَالْغَصْبُ مِنْ الْكَبَائِرِ فِيمَا هُوَ لِلْأَحْيَاءِ فَكَيْفَ بِمَا هُوَ لِلْمَوْتَى خُصُوصًا فَغَصَبُوا حُقُوقَ الْمَوْتَى وَبَنَوْا فِيهَا بِتِلْكَ الْأَمْوَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ } انْتَهَى .
ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا مِنْ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا أَوْقَافًا عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمَغْصُوبَةِ وَتَسَبَّبُوا بِذَلِكَ حَتَّى وَقَفُوا عَلَى انْبِعَاثِ النَّجَاسَاتِ عَلَى قُبُورِ أَنْفُسِهِمْ وَقُبُورِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
ثُمَّ الْعَجَبُ فِي حُكْمِهِمْ بِصِحَّةِ هَذَا الْوَقْفِ كَيْفَ يُمْكِنُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَاقِفُ لِلْوَقْفِ مَصْرِفًا غَيْرَ مَا وَقَفَهُ عَلَيْهِ فَلِمَنْ يَرْجِعُ ذَلِكَ مَعَ الْحُكْمِ بِبُطْلَانِهِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ ( فَصْلٌ ) فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَعُلِمَ فَلَا يَنْبَغِي الدُّخُولُ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ لِلتَّرَحُّمِ وَلَا لِحُضُورِ دَفْنِ الْجِنَازَةِ هُنَاكَ وَلَا لِغَيْرِهِمَا إذْ أَنَّ تِلْكَ الْمَوَاضِعَ مَغْصُوبَةٌ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَنْبَغِي وَمَعَ ذَلِكَ يَخْرُجُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ لِنَصِّ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ انْتَهَى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الْإِنْكَارُ هَاهُنَا لَا مَحَلَّ لَهُ إذْ أَنَّ مَنْ يُنْكَرُ عَلَيْهِ قَدْ مَاتَ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ فِي تَرْكِ الدُّخُولِ فِيهِ فَائِدَةً كُبْرَى إذْ أَنَّ فِيهِ رَدْعًا وَزَجْرًا لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِ مِنْ الْأَحْيَاءِ ، ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ كَيْفِيَّةَ تَتَبُّعِ اللَّعِينِ إبْلِيسَ

السُّنَنَ الشَّرِيفَةَ لَا يَجِدُ سُنَّةً إلَّا وَيَعْمَلُ عَلَى تَرْكِهَا بِكَيْدِهِ وَتَسْوِيلِهِ وَتَزْيِينِهِ ثُمَّ يُبَدِّلُهَا بِضِدِّهَا أَلَا تَرَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي النِّسَاءِ فِي حَالِ حَيَاتِهِنَّ الِاخْتِفَاءُ وَالْحِجَابُ الْمَنِيعُ وَمَهْمَا أَمْكَنَ كَانَ أَوْلَى وَأَوْجَبَ وَفِي حَالِ الْمَمَاتِ لَمْ تُفَرِّقْ السُّنَّةُ بَيْنَ قُبُورِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ أَعْنِي فِي كَيْفِيَّةِ الْقُبُورِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمَا زِيٌّ يَخْتَصُّ بِهِ .
وَأَنْتَ تَرَى حَالَ بَعْضِ النِّسْوَةِ الْيَوْمَ عَلَى النَّقِيضِ مِنْ ذَلِكَ فَتَرَاهُنَّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ يَتَبَرَّجْنَ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا وَغَيْرِهَا ثُمَّ إنَّهُنَّ إذَا مُتْنَ يَجْعَلْنَ عَلَى قُبُورِهِنَّ أَعْنِي مَنْ قَدَرَ مِنْهُنَّ فَيَجْعَلْنَ فِي التُّرَبِ الْحُجَّابَ مِنْ الطَّوَّاشِيَّةِ وَالْبَوَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِمَّنْ لَمْ يَرْضَوْهُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ فَعَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُنَّ فِي قُبُورِهِنَّ عَكْسُ الْحَيَاةِ فَانْتَهَى الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهِنَّ شَيْءٌ مِنْ بَرَكَةِ مَنْ يَزُورُ الْقُبُورَ ، أَوْ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَمُرُّ بِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ مَنْ يُبَكِّرُ مِنْ الرِّجَالِ وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَزْعُمُونَ ؛ لِأَنَّ الْمَلِكَ لَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ إلَّا بِالشَّيْءِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ أَعْنِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَتَّصِفُ بِهِ وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ غَنِيٌّ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ ، وَإِنَّمَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالذُّلِّ وَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ وَالتَّصَاغُرِ فَهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا أَشْبَهَهَا هِيَ الَّتِي تَنَزَّهَ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ شَرَفٌ وَلَا تَقَرُّبٌ إلَّا بِهَا فَإِنْ انْخَرَمَ شَيْءٌ مِنْهَا نَقَصَ مِنْ حَالِهِ مَعَ رَبِّهِ تَعَالَى بِقَدْرِ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى عَكْسِ الْحَالِ .
كَانَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِالْعُلَمَاءِ فَصَارَ الْيَوْمَ الْأَمْرُ

بِالْعَكْسِ ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَرْتَكِبُ مَا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَأْتِي الْعَالِمُ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي ذَلِكَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ فَعَمَّتْ الْفِتْنَةُ وَاسْتَحْكَمَتْ هَذِهِ الْبَلِيَّةُ فَلَا تَجِدُ فِي الْغَالِبِ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُعِينُ عَلَى زَوَالِهِ ، أَوْ يُشِيرُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، أَوْ مُحَرَّمٌ .
فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَنْ تَرَحَّمَ عَلَى الْقُبُورِ اشْتَرَكَ الْجَمِيعُ فِي تَرَحُّمِهِ مَنْ كَانَ خَلْفَ بُنْيَانٍ ، أَوْ غَيْرِهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ قَصْدَ الزَّائِرِ أَوْ الْمَارِّ التَّرَحُّمُ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ وَمَنْ رَآهُمْ مِنْ الْقُبُورِ .
وَأَمَّا مَنْ هُوَ خَلْفَ حِجَابٍ وَلَمْ يَقْصِدْهُ فَلَا يَصِلُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ تَرَحُّمِهِ لِانْعِزَالِ الْمَدْفُونِ بِحِجَابِ مَا بِالتُّرْبَةِ الْمُشَيَّدَةِ وَغَيْرِهَا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعُمَّ بِدُعَائِهِ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمَنْ فَعَلَ هَذَا الْفِعْلَ فَيَدْخُلُ فِيهِمْ هُوَ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ مَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مَأْمُورٌ بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ بِالْقَلْبِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ بِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّى الدُّعَاءَ وَالتَّرَحُّمَ لِمَنْ قَبْرُهُ عَلَى مَا وُصِفَ ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِهِ مَا بَنَوْهُ وَشَيَّدُوهُ وَغَصَبُوهُ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَوَاضِعِ دَفْنِهِمْ وَمَنْ دَعَا لَهُمْ أَوْ تَرَحَّمَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ تَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِمْ إذَا اتَّصَفُوا بِمَا ذُكِرَ لَامْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُمِرْنَا بِهِجْرَانِ مَنْ أُمِرْنَا بِهِجْرَانِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ ، وَأَمَّا الْأَمْوَاتُ فَلَا فَائِدَةَ فِي هِجْرَانِهِمْ بِتَرْكِ الدُّعَاءِ لَهُمْ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ

الْمُكَلَّفَ الْعَالِمَ بِلِسَانِ الْعِلْمِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ ، وَهُوَ الْإِنْكَارُ بِالْقَلْبِ وَذَلِكَ عَامٌّ فِي حَقِّ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ مِنْهُمْ فَلَا يَدْعُو لَهُمْ .
وَفِي عَدَمِ التَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ أَيْضًا فَائِدَةٌ كُبْرَى ، وَهُوَ الرَّدْعُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُمْ وَيَحْذُوَ حَذْوَهُمْ وَلَوْ فِي بَعْضِ النَّاسِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ الْيَوْمَ عَلَى هَذَا الْحَالِ لَعَلَّهُ يَحْصُلُ لَهُ عِوَضًا مِنْ ذَلِكَ ثَوَابُ التَّأَسُّفِ وَالتَّحَسُّرِ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يُكْتَبُ مِنْ حِزْبِهِمْ إذْ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا كَمَا يَنْبَغِي شَرْعًا أُلْحِقَ بِهِمْ .
وَلَمْ تَزَلْ الْأَكَابِرُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُوصُونَ عِنْدَ مَوْتِهِمْ بِأَنْ يُدْفَنُوا عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِكَيْ يَصِلَ إلَيْهِمْ بَرَكَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَتَرَحَّمُ ، أَوْ يَسْتَغْفِرُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَقَدْ خَرَجْنَا عَمَّا كُنَّا بِصَدَدِهِ مِنْ فِعْلِ الْمَوْلِدِ بِالْقُبُورِ وَوَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلِهَا .
ثُمَّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْمَوْلِدِ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنْ فِعْلِ الْمَوْلِدِ بِالْمَغَانِي الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَيُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ الْقُرَّاءَ وَالْفُقَرَاءَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ مُجْتَمَعِينَ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالْهُنُوكِ كَمَا عُلِمَ مِنْ عَادَةِ الْقُرَّاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَكَذَلِكَ الْفُقَرَاءُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْع ذَلِكَ فِي غَيْرِ الْمَوْلِدِ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَوْلِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَطْعَمَ الْإِخْوَانَ لَيْسَ إلَّا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ أَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ فَكَيْفَ بِهِ هُنَا فَمِنْ بَابِ أَحْرَى الْمَنْعُ مِنْهُ .
وَقَدْ يَحْصُلُ فِي هَذَا مِنْ الْمَفَاسِدِ بَعْضُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَوْ أَكْثَرُ ، أَوْ مِثْلُهُ .
وَبَعْضُهُمْ يَتَوَرَّعُ عَنْ هَذَا وَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ

بِقِرَاءَةِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْحَدِيثِ فِي نَفْسِهَا مِنْ أَكْبَرِ الْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ وَفِيهَا الْبَرَكَةُ الْعَظِيمَةُ وَالْخَيْرُ الْكَثِيرُ لَكِنْ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ اللَّائِقِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ كَمَا يَنْبَغِي لَا بِنِيَّةِ الْمَوْلِدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ ذَلِكَ فَلَوْ فَعَلَهَا إنْسَانٌ فِي غَيْرِ الْوَقْتِ الْمُشْرَعِ لَهَا لَكَانَ مَذْمُومًا مُخَالِفًا فَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا بَالَك بِغَيْرِهَا

( فَصْلٌ ) وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ الْمَوْلِدَ لَا لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ وَلَكِنْ لَهُ فِضَّةٌ عِنْدَ النَّاسِ مُتَفَرِّقَةٌ كَانَ قَدْ أَعْطَاهَا فِي بَعْضِ الْأَفْرَاحِ وَالْمَوَاسِمِ وَيُرِيدُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا وَيَسْتَحْيِ أَنْ يَطْلُبَهَا بُدَاءَةً فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَخْذِ مَا اجْتَمَعَ لَهُ عِنْدَ النَّاسِ ، وَهَذَا فِيهِ وُجُوهٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ : أَحَدُهَا : وَهُوَ أَشَدُّهَا أَنَّهُ يَتَّصِفُ بِصِفَةِ النِّفَاقِ ، وَهُوَ أَنَّهُ يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ إذْ ظَاهِرُ حَالِهِ أَنَّهُ عَمِلَ الْمَوْلِدَ يَبْتَغِي بِهِ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَبَاطِنُهُ أَنَّهُ يَجْمَعُ بِهِ فِضَّتَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ جَمْعِ الدَّرَاهِمِ وَهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ وَكُلُّ قِسْمٍ مِنْهُمَا عَلَى قِسْمَيْنِ ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَنْ تَكُونَ لَهُ دُنْيَا وَيَتَظَاهَرُ بِأَنَّهُ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ لِتَزِيدَ دُنْيَاهُ بِمُسَاعَدَةِ النَّاسِ لَهُ فَيَزْدَادَ هَذَا فَسَادًا عَلَى الْمَفَاسِدِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَهُوَ أَشْبَهُ مِنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَطْلُبُ بِذَلِكَ ثَنَاءَ النَّاسِ عَلَيْهِ وَالنَّفْسُ تُحِبُّ الْمَحَامِدَ كَثِيرًا ، وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْهُ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ إلَّا أَنَّهُ مِمَّنْ يَخَافُ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَشَرِّهِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يُسَاعِدَهُ النَّاسُ تَقِيَّةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ فَيَزْدَادَ مِنْ الْحُطَامِ بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنْ الْخِصَالِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا ، وَهَذَا أَمْرٌ خَطِرٌ ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى الْأَوَّلِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْ شَرِّهِ فَهُوَ مَعْدُودٌ بِفِعْلِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ .
الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ضَعِيفَ الْحَالِ فَيُرِيدَ أَنْ يَتَّسِعَ حَالُهُ فَيَعْمَلَ الْمَوْلِدَ لِأَجْلِ ذَلِكَ .
الثَّانِي مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْفُقَرَاءِ لَكِنْ لَهُ لِسَانٌ يُخَافُ مِنْهُ وَيُتَّقَى لِأَجْلِهِ فَيَعْمَلُ الْمَوْلِدَ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مِنْ الدُّنْيَا مِمَّنْ

يَخْشَاهُ وَيَتَّقِيهِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ مِنْ حُضُورِ الْمَوْلِدِ الَّذِي يَفْعَلُهُ أَحَدٌ مِنْ مَعَارِفِهِ لَحَلَّ بِهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا يَتَشَوَّشُ بِهِ وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى الْعَدَاوَةِ ، أَوْ الْوُقُوعِ فِي حَقِّهِ فِي مَحَافِلِ بَعْضِ وُلَاةِ الْأُمُورِ قَاصِدًا بِذَلِكَ حَطَّ رُتْبَتِهِ بِالْوَقِيعَةِ فِيهِ ، أَوْ نَقْصَ مَالِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَقْصِدُهُ مَنْ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ اتَّقَاهُ النَّاسُ لِشَرِّهِ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَتَشَوَّفُ نَفْسُهُ إلَى الثَّنَاءِ وَالْمِدْحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمَفَاسِدِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الدَّسَائِسِ وَدُخُولِ وَسَاوِسِ النُّفُوسِ وَشَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ مِمَّا يَتَعَذَّرُ حَصْرُهُ .
فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ أَعْطَى قِيَادَهُ لِلِاتِّبَاعِ وَتَرَكَ الِابْتِدَاعَ .
وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ بِمَنِّهِ

( فَصْلٌ ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ مَا الْحِكْمَةُ فِي كَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خُصَّ مَوْلِدُهُ الْكَرِيمُ بِشَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَبِيَوْمِ الِاثْنَيْنِ مِنْهُ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَشْهُورِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وَفِيهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَاخْتُصَّ بِفَضَائِلَ عَدِيدَةٍ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَهَا الْحُرْمَةَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَلَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَا فِي لَيْلَتِهَا .
فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ انْتَهَى .
وَفِي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ ، وَهُوَ أَنَّ خَلْقَ الْأَقْوَاتِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْفَوَاكِهِ وَالْخَيْرَاتِ الَّتِي يَتَغَذَّى بِهَا بَنُو آدَمَ وَيَحْيَوْنَ وَيَتَدَاوَوْنَ وَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ لِرُؤْيَتِهَا وَتَطِيبُ بِهَا نُفُوسُهُمْ وَتَسْكُنُ بِهَا خَوَاطِرُهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا لِاطْمِئْنَانِ نُفُوسِهِمْ بِتَحْصِيلِ مَا يُبْقِي حَيَاتَهُمْ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ حِكْمَةِ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَوُجُودُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الشَّهْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ قُرَّةُ عَيْنٍ بِسَبَبِ مَا وُجِدَ مِنْ الْخَيْرِ الْعَظِيمِ وَالْبَرَكَةِ الشَّامِلَةِ لِأُمَّتِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ ظُهُورَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ فِيهِ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ لِمَنْ تَفَطَّنَ إلَيْهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى اشْتِقَاقِ لَفْظَةِ رَبِيعٍ إذْ أَنَّ فِيهِ تَفَاؤُلًا حَسَنًا بِبِشَارَتِهِ لِأُمَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالتَّفَاؤُلُ لَهُ أَصْلٌ أَشَارَ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْ اسْمِهِ نَصِيبٌ هَذَا فِي الْأَشْخَاصِ وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهَا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَفَصْلُ الرَّبِيعِ فِيهِ

تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَمَّا فِي بَاطِنِهَا مِنْ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَرْزَاقِهِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْعِبَادِ وَحَيَاتُهُمْ وَمَعَايِشُهُمْ وَصَلَاحُ أَحْوَالِهِمْ فَيَنْفَلِقُ الْحَبُّ وَالنَّوَى وَأَنْوَاعُ النَّبَاتِ وَالْأَقْوَاتِ الْمُقَدَّرَةِ فِيهَا فَيَبْتَهِجُ النَّاظِرُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا وَتُبَشِّرُهُ بِلِسَانِ حَالِهَا بِقُدُومِ رَبِيعِهَا وَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ عَظِيمَةٌ إلَى الِاسْتِبْشَارِ بِابْتِدَاءِ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
أَلَا تَرَى أَنَّكَ إذَا دَخَلْت بُسْتَانًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ تَنْظُرُ إلَيْهِ كَأَنَّهُ يَضْحَكُ لَك وَتَجِدُ زَهْرَهُ كَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِ يُخْبِرُكَ بِمَا لَكَ مِنْ الْأَرْزَاقِ الْمُدَّخَرَةِ وَالْفَوَاكِهِ .
وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ إذَا ابْتَهَجَ نَوَارُهَا كَأَنَّهُ يُحَدِّثُكَ بِلِسَانِ حَالِهِ كَذَلِكَ أَيْضًا .
فَمَوْلِدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ فِيهِ مِنْ الْإِشَارَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِهِ وَذَلِكَ إشَارَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى التَّنْوِيهِ بِعَظِيمِ قَدْرِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَحِمَايَةٌ لَهُمْ مِنْ الْمَهَالِكِ وَالْمَخَاوِفِ فِي الدِّينِ وَحِمَايَةٌ لِلْكَافِرِينَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لِأَجْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } وَكَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَإِدْرَارُ نِعَمِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا يَكْثُرُ عِنْدَ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِهِ وَاتِّبَاعِ سُنَنِ أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَمُخَالَفَةِ الْعَدُوِّ اللَّعِينِ وَجُنُودِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ خُرُوجِهِ إلَى هَذَا الْوُجُودِ لَمْ يَقْدِرْ اللَّعِينُ إبْلِيسُ وَجُنُودُهُ عَلَى الْقَرَارِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَلَا فِي الثَّانِيَةِ وَلَا فِي الثَّالِثَةِ إلَى أَنْ نَزَلُوا إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَخَلَتْ

الْأَرْضُ مِنْهُمْ بِبَرَكَةِ وُجُودِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى خُلُوِّ الْأَرْضِ مِنْ هَذَا اللَّعِينِ وَجُنُودِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أَنَّهُمْ يُقَيَّدُونَ فَأَيْنَ التَّقْيِيدُ مِنْ نَفْيِهِمْ بِالْكُلِّيَّةِ إلَى تُخُومِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ .
وَفِي هَذَا إشَارَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى كَرَامَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ رَبِّهِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهِ وَبِمَنْ تَبِعَهُ .
فَإِنْ قِيلَ إنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ تُقَيَّدُ الشَّيَاطِينُ فِي جَمِيعِهِ .
فَلَا شَكَّ أَنَّ نَفْيَهُمْ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى فِي يَوْمِ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْظَمُ مِنْ تَقْيِيدِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلِّهِ إذْ فِيهِ ظُهُورُ مَزِيَّةِ الْوَقْتِ الَّذِي خَلَتْ الْأَرْضُ مِنْ الْعَدُوِّ وَجُنُودِهِ فِيهِ فَلْيَفْهَمْ مَنْ يَفْهَمُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَوَقَعَتْ الْبَرَكَاتُ وَإِدْرَارُ الْأَرْزَاقِ وَمِنْ أَعْظَمِهَا مِنَّةُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ بِهِدَايَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُمْ إلَى صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَرِّفَنَا بَرَكَةَ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَيَرْزُقَنَا اتِّبَاعَهُ دِينًا وَدُنْيَا وَآخِرَةً بِفَضْلِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ آمِينَ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : مَا فِي شَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ شَبَهِ الْحَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فَصْلَ الرَّبِيعِ أَعْدَلُ الْفُصُولِ وَأَحْسَنُهَا إذْ لَيْسَ فِيهِ بَرْدٌ مُزْعِجٌ وَلَا حَرٌّ مُقْلِقٌ وَلَيْسَ فِي لَيْلِهِ وَنَهَارِهِ طُولٌ خَارِقٌ بَلْ كُلُّهُ مُعْتَدِلٌ وَفَصْلُهُ سَالِمٌ مِنْ الْعِلَلِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْعَوَارِضِ الَّتِي يَتَوَقَّعُهَا النَّاسُ فِي أَبْدَانِهِمْ فِي زَمَانِ الْخَرِيفِ بَلْ النَّاسُ تَنْتَعِشُ فِيهِ قُوَاهُمْ وَتَصْلُحُ أَمْزِجَتُهُمْ وَتَنْشَرِحُ صُدُورُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْأَبْدَانَ يُدْرِكُهَا فِيهِ مِنْ إمْدَادِ الْقُوَّةِ مَا يُدْرِكُ النَّبَاتَ حِينَ خُرُوجِهِ إذْ مِنْهَا خُلِقُوا فَيَطِيبُ لَيْلُهُمْ لِلْقِيَامِ وَنَهَارُهُمْ لِلصِّيَامِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ اعْتِدَالِهِ فِي الطُّولِ

وَالْقِصَرِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ شَبَهَ الْحَالِ بِالشَّرِيعَةِ السَّمْحَةِ الَّتِي جَاءَ بِهَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مِنْ رَفْعِ الْإِصْرِ وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ شَاءَ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَتَشَرَّفُ بِهِ الْأَزْمِنَةُ وَالْأَمَاكِنُ لَا هُوَ يَتَشَرَّفُ بِهَا بَلْ يَحْصُلُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يُبَاشِرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى وَالْمَزِيَّةُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ جِنْسِهِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ زِيَادَةِ الْأَعْمَالِ فِيهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَلَوْ وُلِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا لَكَانَ ظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّهُ يَتَشَرَّفُ بِهَا فَجَعَلَ الْحَكِيمُ جَلَّ جَلَالُهُ مَوْلِدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِهَا لِيَظْهَرَ عَظِيمُ عِنَايَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ وَكَرَامَتُهُ عَلَيْهِ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي { قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّائِلِ الَّذِي سَأَلَهُ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ وَلَمَّا أَنْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ ذَلِكَ يَوْمٌ وُلِدْت فِيهِ } عُلِمَ بِذَلِكَ مَا اخْتَصَّ بِهِ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَكَذَلِكَ الشَّهْرُ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ كَانَ { يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ } وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مُعْظَمُ الْعُلَمَاءِ وَالْأَخْيَارِ أَنَّهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقَوَّى رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ بِحَدِيثٍ قَالَ فِي كِتَابِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ وَذَكَرَ فِيهِ { أَنَّ آدَمَ خُلِقَ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إلَى اللَّيْلِ انْتَهَى } ؛ لِأَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهُوَ سَاكِنُ الدَّارِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ إذْ أَنَّ الدَّارَ لَا تُرَادُ لِنَفْسِهَا بَلْ لِسَاكِنِهَا .
قَالَ وَقَدْ كَانَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إذَا صَلَّتْ الْعَصْرَ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَتُقْبِلُ عَلَى الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَلَا تُكَلِّمُ أَحَدًا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ وَتَقُولُ إنَّ السَّاعَةَ الْمَذْكُورَةَ هِيَ فِي ذَلِكَ الْوَقْت وَتُؤْثِرُ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِذَا كَانَتْ تِلْكَ السَّاعَةَ الَّتِي وُجِدَ فِيهَا آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ صَادَفَ السَّاعَةَ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْوُجُودِ ، وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا أَنَّهُ قَدْ نَجَحَ سَعْيُهُ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ .

إذْ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي فَضَّلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ تِلْكَ السَّاعَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ هُوَ خَلْقُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَا بَالُكَ بِالسَّاعَةِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { آدَم وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي } انْتَهَى .
وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ أُهْبِطَ آدَم وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ .
وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ خَيْرٌ كُلُّهُ وَأَمْنٌ كُلُّهُ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ خُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْخُطْبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا يَخُصُّهُ فِي نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ يُخَفِّفُ فِيهِ الْأَمْرَ عَنْ أُمَّتِهِ فَلَا يُكَلِّفُهُمْ فِيهِ زِيَادَةَ عَمَلٍ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا أَنْ أَخْرَجَهُ إلَى الْوُجُودِ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ لَمْ يُكَلِّفْ الْأُمَّةَ فِيهِ زِيَادَةَ عَمَلٍ إكْرَامًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ بِسَبَبِ عِنَايَةِ وُجُودِهِ فِيهِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ عُمُومًا وَلِأُمَّتِهِ خُصُوصًا .
وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ عَدَمُ التَّكْلِيفِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الدَّلَالَاتِ لَهُ مَا هَذَا لَفْظُهُ .
إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ نَبِيِّهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ النَّبِيِّينَ بَعْدَهُ ثُمَّ الصِّدِّيقِينَ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُخْتَارِينَ .
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ نُورَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَجَعَلَهُ فِي عَمُودٍ أَمَامَ عَرْشِهِ يُسَبِّحُ اللَّهَ وَيُقَدِّسُهُ ثُمَّ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلِقَ نُورُ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مِنْ نُورِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ انْتَهَى .
وَقَدْ أَشَارَ الْفَقِيهُ الْخَطِيبُ أَبُو الرَّبِيعِ فِي كِتَابِ شِفَاءِ الصُّدُورِ لَهُ أَشْيَاءُ جَلِيلَةٌ عَظِيمَةٌ .
فَمِنْهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا شَاءَ الْحَكِيمُ خَلْقَ ذَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَارَكَةِ الْمُطَهَّرَةِ أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ وَأَنْ يَأْتِيَهُ بِالطِّينَةِ الَّتِي هِيَ قَلْبُ الْأَرْضِ وَبَهَاؤُهَا وَنُورُهَا .
قَالَ فَهَبَطَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَلَائِكَةُ الْفِرْدَوْسِ وَمَلَائِكَةُ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ مَوْضِعِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بَيْضَاءُ مُنِيرَةٌ فَعُجِنَتْ بِمَاءِ التَّسْنِيمِ وَغُمِسَتْ فِي مَعِينِ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ حَتَّى صَارَتْ كَالدُّرَّةِ الْبَيْضَاءِ وَلَهَا نُورٌ وَشُعَاعٌ عَظِيمٌ حَتَّى طَافَتْ بِهَا الْمَلَائِكَةُ حَوْلَ الْعَرْشِ وَحَوْلَ الْكُرْسِيِّ وَفِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِي الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ فَعَرَفَتْ الْمَلَائِكَةُ وَجَمِيعُ الْخَلْقِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلَهُ قَبْلَ أَنْ تَعْرِفَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَضَعَ فِي ظَهْرِهِ قَبْضَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَسَمِعَ آدَم فِي ظَهْرِهِ نَشِيشًا كَنَشِيشِ الطَّيْرِ .
فَقَالَ آدَم يَا رَبِّ مَا هَذَا النَّشِيشُ .
قَالَ هَذَا تَسْبِيحُ نُورِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي أُخْرِجُهُ مِنْ ظَهْرِكَ فَخُذْهُ بِعَهْدِي وَمِيثَاقِي وَلَا تُودِعْهُ إلَّا فِي الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ .
فَقَالَ آدَم يَا رَبِّ قَدْ أَخَذْتُهُ بِعَهْدِكَ وَمِيثَاقِكَ وَلَا أُودِعُهُ إلَّا فِي

الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالْمُحْصَنَاتِ مِنْ النِّسَاءِ .
فَكَانَ نُورُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَأْلَأُ فِي ظَهْرِ آدَمَ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَقِفُ خَلْفَهُ صُفُوفًا يَنْظُرُونَ إلَى نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ اسْتِحْسَانًا لِمَا يَرَوْنَ .
فَلَمَّا رَأَى آدَم ذَلِكَ .
قَالَ أَيْ رَبِّ مَا بَالُ هَؤُلَاءِ يَقِفُونَ خَلْفِي صُفُوفًا .
فَقَالَ الْجَلِيلُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُ يَا آدَم يَنْظُرُونَ إلَى نُورِ خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِي أُخْرِجُهُ مِنْ ظَهْرِكَ فَقَالَ أَيْ رَبِّ أَرِنِيهِ فَأَرَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ فَآمَنَ بِهِ وَصَلَّى عَلَيْهِ مُشِيرًا بِأُصْبُعِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِالْإِصْبَعِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ .
فَقَالَ آدَم رَبِّ اجْعَلْ هَذَا النُّورَ فِي مُقَدَّمِي كَيْ تَسْتَقْبِلَنِي الْمَلَائِكَةُ وَلَا تَسْتَدْبِرَنِي فَجَعَلَ ذَلِكَ النُّورَ فِي جَبْهَتِهِ فَكَانَ يُرَى فِي غُرَّةِ آدَمَ دَائِرَةٌ كَدَائِرَةِ الشَّمْسِ فِي دَوَرَانِ فَلَكِهَا أَوْ كَالْبَدْرِ فِي تَمَامِهِ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَقِفُ أَمَامَهُ صُفُوفًا يَنْظُرُونَ إلَى ذَلِكَ النُّورِ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّنَا اسْتِحْسَانًا لِمَا يَرَوْنَ .
ثُمَّ إنَّ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ يَا رَبِّ اجْعَلْ هَذَا النُّورَ فِي مَوْضِعٍ أَرَاهُ فَجَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ النُّورَ فِي سَبَّابَتِهِ فَكَانَ آدَم يَنْظُرُ إلَى ذَلِكَ النُّورِ .
ثُمَّ إنَّ آدَمَ قَالَ يَا رَبِّ هَلْ بَقِيَ مِنْ هَذَا النُّورِ شَيْءٌ فِي ظَهْرِي .
فَقَالَ نَعَمْ بَقِيَ نُورُ أَصْحَابِهِ .
فَقَالَ أَيْ رَبِّ اجْعَلْهُ فِي بَقِيَّةِ أَصَابِعِي فَجَعَلَ نُورَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْوُسْطَى وَنُورَ عُمَرَ فِي الْبِنْصِرِ وَنُورَ عُثْمَانَ فِي الْخِنْصَرِ وَنُورَ عَلِيٍّ فِي الْإِبْهَامِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْأَنْوَارُ تَتَلَأْلَأُ فِي أَصَابِعِ آدَمَ مَا دَامَ فِي الْجَنَّةِ .
فَلَمَّا صَارَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ انْتَقَلَتْ الْأَنْوَارُ مِنْ أَصَابِعِهِ إلَى ظَهْرِهِ انْتَهَى .
وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ نُورُ مُحَمَّدٍ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ ذَلِكَ النُّورُ يَتَرَدَّدُ وَيَسْجُدُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَسَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ .
فَخَلَقَ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَرْشَ .
وَمِنْ الثَّانِي الْقَلَمَ .
وَمِنْ الثَّالِثِ اللَّوْحَ ثُمَّ قَالَ لِلْقَلَمِ اجْرِ وَاكْتُبْ .
فَقَالَ : يَا رَبِّ مَا أَكْتُبُ .
قَالَ مَا أَنَا خَالِقُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
فَجَرَى الْقَلَمُ عَلَى اللَّوْحِ وَكَتَبَ حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ .
وَأَقْبَلَ الْجُزْءُ الرَّابِعُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَسَمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ فَخَلَقَ مِنْ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ الْعَقْلَ وَمِنْ الثَّانِي الْمَعْرِفَةَ وَأَسْكَنَهَا فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ وَمِنْ الْجُزْءِ الثَّالِثِ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَنُورَ الْأَبْصَارِ وَالْجُزْءُ الرَّابِعُ جَعَلَهُ اللَّهُ حَوْلَ الْعَرْشِ حَتَّى خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَسْكَنَ ذَلِكَ النُّورَ فِيهِ ، فَنُورُ الْعَرْشِ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ الْقَلَمِ مِنْ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ اللَّوْحِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ النَّهَارِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ الْعَقْلِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُورُ الْمَعْرِفَةِ وَنُورُ الشَّمْسِ وَنُورُ الْقَمَرِ وَنُورُ الْأَبْصَارِ مِنْ نُورِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى .
وَقَدْ وَرَدَ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الشِّفَاءِ لِأَبِي الرَّبِيعِ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا نُقِلَ يَا أَبَا مَعْنَايَ وَيَا ابْنَ صُورَتِي .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ قَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ } انْتَهَى .
فَلَئِنْ

كَانَ شَهْرُ رَمَضَانَ اُخْتُصَّ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ وَعَظِيمِ قَدْرِهَا الْمَشْهُورِ الْمَعْرُوفِ ، وَأَنَّ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ عَلَى الرَّاجِحِ ، وَأَنَّ قِيَامَهَا يَعْدِلُ عِبَادَةَ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي أَشَقِّ الْعِبَادَاتِ ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَعِلْمُ ذَلِكَ كُلِّهِ حَصَلَ لَنَا بِإِخْبَارِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفَضِيلَةُ الْأَوْقَاتِ تَلَقَّيْنَاهَا مِنْهُ وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

وَشَهْرُ رَبِيعٍ وَيَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَلَيْلَتُهُ عَلِمْنَا فَضْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِظُهُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُطْبُ دَائِرَةِ الْكَوْنِ وَاَلَّذِي خُلِقَ الْوُجُودُ لِأَجْلِهِ وَاَلَّذِي فُضِّلَتْ الْأَوْقَاتُ بِبَرَكَتِهِ وَاَلَّذِي خُصَّتْ أُمَّتُهُ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ أَجْلِهِ وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مَا وَرَدَ مِنْ مُنَاظَرَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْن عَيَّاشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ يَقُولُ لَهُ أَأَنْت الْقَائِلُ مَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هِيَ حَرَمُ اللَّهِ وَأَمْنُهُ وَفِيهَا بَيْتُهُ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا أَقُولُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَلَا فِي بَيْتِهِ شَيْئًا أَأَنْت الْقَائِلُ إلَى آخِرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَمِنْ الْمُنْتَقَى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ لَضَرَبَهُ يُرِيدُ لِأَدَبِهِ عَلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ لِاعْتِقَادِهِ تَفْضِيلَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ ، أَوْ هُوَ يَرَى تَرْكَ الْأَخْذِ فِي تَفْضِيلِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى إلَّا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ لِمَا شُهِرَ مِنْ أَخْذِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ دُونَ نَكِيرٍ .
فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ .
وَمِنْ كِتَابِ مُسْنَدِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لِأَبِي الْقَاسِمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْغَافِقِيِّ الْجَوْهَرِيِّ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { اُفْتُتِحَتْ الْقُرَى بِالسَّيْفِ وَافْتُتِحَتْ الْمَدِينَةُ بِالْقُرْآنِ } وَمِنْهُ بِإِسْنَادِهِ إلَى عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ تَكَلَّمَ مَرْوَانُ يَوْمًا عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ مَكَّةَ وَأَطْنَبَ فِي ذِكْرِهَا وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَدِينَةَ فَقَامَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ فَقَالَ مَالَك يَا هَذَا ذَكَرْت مَكَّةَ فَأَطْنَبْت فِي ذِكْرِهَا وَلَمْ

تَذْكُرْ الْمَدِينَةَ وَأَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } انْتَهَى .
مَعَ أَنَّهُ قَدْ خَصَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عُمُومَ هَذَا الْحَدِيثِ وَمَا أَشْبَهَهُ فَقَالَ إنَّهَا خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ فِي كَثْرَةِ الرِّزْقِ وَبَرَكَةِ الثِّمَارِ ، وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا ، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَمَعْنَى لَأْوَائِهَا هُوَ الْجُوعُ وَالشِّدَّةُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَبَعِيدٌ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى كَثْرَةِ الثِّمَارِ إذْ هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُشَرِّعُ وَالْمُبَيِّنُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى مُرَادَهُ وَمَا هُوَ الْأَفْضَلُ عِنْدَ رَبِّهِ وَالْأَعْلَى وَالْأَخَصُّ .
وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُخَصَّصَ عُمُومُ الْحَدِيثِ وَالْمَدِينَةُ قَدْ اشْتَمَلَتْ وَاخْتَصَّتْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا وَمَيِّتًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَامُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ الْكُتُبَ الصِّحَاحَ وَذَكَرَ فِي بَابِ فَضْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ مَا هَذَا لَفْظُهُ ( عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا وَقَبْرٌ يُحْفَرُ بِالْمَدِينَةِ فَاطَّلَعَ رَجُلٌ فِي الْقَبْرِ فَقَالَ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِئْسَمَا قُلْت .
فَقَالَ الرَّجُلُ إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا إنَّمَا أَرَدْت الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِثْلُ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثًا } انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى

مَا احْتَوَى عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ وَالْأَسْرَارِ الْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ بِحُلُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا حَصَلَتْ لَهَا هَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ الْعُظْمَى .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَابَ قَوْلَ الْقَائِلِ بِئْسَ مَضْجَعُ الْمُؤْمِنِ .
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِئْسَمَا قُلْت فَمَفْهُومُهُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرُ مَضْجَعِ الْمُؤْمِنِ .
ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِجَوَابِهِ حِينَ قَالَ الرَّجُلُ إنَّمَا أَرَدْت الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَلَا مِثْلَ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .

وَقَدْ جَاءَ فِي الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ } الْآيَةَ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَدِدْت أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ } وَفَضَائِلُهُ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ مَشْهُورَةٌ .
ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَضَّلَ الدَّفْنَ فِيهَا لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ وَلِغَيْرِهِ عَلَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا فِيهِ مِنْ الْفَضَائِلِ وَالْخُصُوصِيَّةِ الْعُظْمَى .
هَذَا ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ظَهْرِهَا فَكَيْفَ بَعْدَ أَنْ حَلَّ فِي جَوْفِهَا { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُحْصَرَ فَضِيلَةُ ذَلِكَ وَلَا يُقَدَّرُ قَدْرُهَا .
وَمِنْ الْمُوَطَّأِ أَنَّ مَوْلَاةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَتْهُ فِي الْفِتْنَةِ فَقَالَتْ إنِّي أَرَدْت الْخُرُوجَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ اشْتَدَّ عَلَيْنَا الزَّمَانُ فَقَالَ لَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ اُقْعُدِي لَكَاعِ فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا ، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } انْتَهَى .
قَالَ الْبَاجِيُّ قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ هُوَ شَكٌّ مِنْ الْمُحَدِّثِ وَلَأْوَاؤُهَا هُوَ الْجُوعُ وَالشِّدَّةُ وَتَعَذُّرُ الْكَسْبِ وَالشِّدَّةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا اللَّأْوَاءَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا كُلَّ مَا يَشْتَدُّ بِسَاكِنِهَا وَتَعْظُمُ مَضَرَّتُهُ وَقَوْلُهُ شَفِيعًا الشَّفَاعَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَهِيَ شَفَاعَةٌ فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ لِمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَشَفَاعَةٌ فِي الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ خَاصَّةً وَقَوْلُهُ ، أَوْ شَهِيدًا يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ شَهِيدٌ لَهُ بِالْمَقَامِ الَّذِي فِيهِ الْأَجْرُ

وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّ لِشَهَادَتِهِ فَضْلًا فِي الْأَجْرِ وَإِحْبَاطًا لِلْوِزْرِ فَإِنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ سُكْنَاهُ فِي الْمَدِينَةِ وَالْبَقَاءَ بِهَا يَثْبُتُ لَهُ وَيُوجَدُ ثَابِتًا فِي جُمْلَةِ حَسَنَاتِهِ إلَّا أَنَّ شَهَادَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ .
وَكَذَلِكَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ فَضِيلَةَ اسْتِيطَانِ الْمَدِينَةِ وَالْبَقَاءِ بِهَا بَاقِيَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَرِيبٌ مِمَّا جَاءَ فِي الصَّائِمِ مِنْ قَوْله تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ } وَإِذَا كَانَ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَهُوَ الْمُجَازِي عَلَيْهِ فَلَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ وَفِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ شَبَهٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِحُلُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَلَدِ عَمَّتْ بَرَكَتُهُ لِجَمِيعِ مَنْ دُفِنَ فِيهَا وَمَنْ لَمْ يُدْفَنْ فَبَرَكَتُهُ لِلْأَحْيَاءِ مَعْلُومَةٌ وَكَذَلِكَ لِلْأَمْوَاتِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا } فَلَمْ يَكْتَفِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي فَضِيلَتِهَا بِمَا بَيَّنَهُ وَصَرَّحَ بِهِ أَوَّلَ الْحَدِيثِ حَتَّى قَالَ { مَا عَلَى الْأَرْضِ بُقْعَةٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَبْرِي بِهَا مِنْهَا ثَلَاثًا } انْتَهَى .
وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي الْمَدِينَةِ كُلِّهَا .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَعْضِ سِرِّ تَكْرَارِهِ ذَلِكَ ثَلَاثًا إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ الْكَرِيمَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَلْقَى أَمْرًا لَهُ خَطَرٌ وَبَالٌ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْمَدِينَةِ وَمَا قَارَبَهَا وَمَا

خَصَّهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْفَضَائِلِ الْعَمِيمَةِ وَالْبَرَكَاتِ الشَّامِلَةِ الْعَظِيمَةِ إذْ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعُزَيْرِ حَاكِيًا عَنْ حَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } فَمَا يَفْضُلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَعْظُمُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَأَيُّ بَلَدٍ وَأَيُّ بُقْعَةٍ تَصِلُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ .
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَالتَّقْرِيبِ فِيهِ وَالْقَاضِي فِي الْمَعُونَةِ وَتَدَاخُلُ كَلَامِهِمَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ يَحْرُسُونَهَا لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ } وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا } وَلَمْ يَأْتِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَكَّةَ .
وَأَوْضَحُهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَأَنَا أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاك إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ } وَدُعَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ دُعَاءِ إبْرَاهِيمَ ؛ لِأَنَّ فَضْلَ الدُّعَاءِ عَلَى قَدْرِ فَضْلِ الدَّاعِي .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ وَصَحِّحْهَا لَنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مُدِّهَا وَصَاعِهَا وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُحَبِّبَ إلَيْهِ الْأَدْوَنَ عَلَى الْأَعْلَى .
وَمِنْهَا مَا اسْتَقَرَّ عِنْدَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى قَالَ عُمَرُ مُنْكِرًا عَلَى مَنْ يُخَاطِبُهُ أَأَنْت الْقَائِلُ مَكَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَدِينَةِ ثَلَاثًا وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ { لَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إلَّا أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ } وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُمِرْت بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ الْقُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ } وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ تَأْكُلُ الْقُرَى إلَّا رُجْحَانُ فَضْلِهَا عَلَيْهَا وَزِيَادَتُهَا عَلَى غَيْرِهَا .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إلَى جُحْرِهَا } وَتَخْصِيصُهُ إيَّاهَا بِذَلِكَ لِفَضْلِهَا عَلَى جَمِيعِ الْبِقَاعِ الَّتِي لَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِيهَا وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْلُوقٌ مِنْهَا ، وَهُوَ خَيْرُ الْبَشَرِ فَتُرْبَتُهُ أَفْضَلُ التُّرَبِ وَلِأَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ إلَيْهَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمُقَامِ بِهَا طَاعَةً وَقُرْبَةً وَالْمُقَامُ بِغَيْرِهَا ذَنْبًا وَمَعْصِيَةً وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى سَائِرِ الْبِقَاعِ انْتَهَى كَلَامُهُمَا .
فَلَمَّا أَنْ عُلِمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَى رَبِّهِ هَذِهِ الْبُقْعَةُ أَحَبَّ أَنْ يُدْفَنَ فِيهَا إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ شَيْءٌ قَطُّ يُفَضِّلُهُ لِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بَلْ بِحَسَبِ مَا فَضَّلَهُ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَوَابًا لِنِسَائِهِ حِينَ تَكَلَّمْنَ مَعَهُ فِي تَفْضِيلِهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَيْهِنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ فَأَجَابَهُنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ { إنَّهُ لَمْ يُوحَ إلَيَّ فِي فِرَاشِ إحْدَاكُنَّ إلَّا فِي فِرَاشِهَا } .
فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُفَضِّلُ الْأَشْيَاءَ بِحَسَبِ مَا فَضَّلَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا التَّنْبِيهُ كَافٍ .
وَمَذْهَبُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ { ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ

مَكَّةَ بِدُونِ الْأَلْفِ ، وَأَنَّهَا تَفْضُلُ غَيْرَهَا مِنْ الْمَسَاجِدِ بِالْأَلْفِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ } لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ .
وَبِقَوْلِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ وَإِنْ كَانَتْ مَكَّةُ شَرَّفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فَاضِلَةً فِي نَفْسِهَا فَإِذَنْ فَضَلَتْهَا الْمَدِينَةُ .
وَقَدْ جَاءَ فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ وَكَفَى بِهَا مِنْ الْفَضِيلَةِ أَنَّهَا مَطْلَعُ شَمْسِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِيهَا نُبِّئَ وَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ وَمِنْهَا أُسْرِيَ بِهِ إلَى قَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ فَحَصَلَتْ لَهَا الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
لَكِنْ جَرَتْ حِكْمَةُ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ جَعَلَ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَتْبُوعًا ، وَأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَتَشَرَّفُ بِهِ وَيَعْلُو قَدْرُهَا وَفَضْلُهَا بِسَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَوْ أَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ وَظَهَرَ أَمْرُهُ بِهَا حَتَّى انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى رَبِّهِ لَكَانَ قَدْ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ تَشَرَّفَ بِمَكَّةَ فَكَانَ انْتِقَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَخُصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِبَلَدٍ وَحْدَهُ وَحَرَمٍ أَوْ مَسْجِدٍ وَرَوْضَةٍ وَوُفُودٍ تَسِيرُ إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا يَتِمُّ الْإِسْلَامُ إلَّا بِهِ ، وَهُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَوْ اقْتَصَرَ أَحَدٌ عَلَى الشَّهَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَلَمْ يُقِرَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ إسْلَامٌ وَلَا إيمَانٌ فَلَمْ يَصِحَّ التَّوْحِيدُ إلَّا مَعَ الْإِقْرَارِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ

وَالسَّلَامُ بِالرِّسَالَةِ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَنْسُوبَةِ إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَفَضَّلَهَا بِذَلِكَ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَابِلَتَهَا فَالْوُفُودُ تَسِيرُ مِنْ كُلِّ الْآفَاقِ إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَكَذَلِكَ تَسِيرُ إلَى زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمَّا أَنْ جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ حَرَمًا جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَمًا يُقَابِلُهُ .
وَلَمَّا أَنْ جَعَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لَهُ فَضِيلَةً فِي الصَّلَاةِ فِيهِ جَعَلَ مَسْجِدَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ فِي تَضْعِيفِ الْأُجُورِ وَلَمَّا أَنْ كَانَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ يَشْهَدُ لِلَامِسِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِذَا شَهِدَ لِلَامِسِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مُقَابَلَتِهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْمَعُونَةِ لَهُ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ خَصَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فِيهَا لِفَضْلِهِ عَلَى بَقِيَّتِهَا فَكَانَ بِأَنْ يَدُلَّ عَلَى فَضْلِهَا عَلَى سِوَاهَا أَوْلَى انْتَهَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَلْ هِيَ بِنَفْسِهَا فِي الْجَنَّةِ أَوْ الْعَمَلُ فِيهَا يُوجِبُ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ خَرَّجَ الْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ أَلْفِ صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِي أَلْفُ صَلَاةٍ وَفِي مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَمْسُمِائَةِ صَلَاةٍ } قَالَ وَلَا نَعْلَمُ هَذَا الْحَدِيثَ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ فَالْجَوَابُ أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَعَالَى قَاعِدَةُ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَإِنْ عَارَضَهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ايميل دار نشر الجامعة بالامارات

ايميلات دور النشر في الامارات Post category: مواضيع عامة / تعليم تتميز الامارات بتواجد العديد من دور النشر المشهورة في الوطن العربي والتي...