898.اندكس ب سليم

Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 28 ديسمبر 2022

7 8. ج7وج8.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ


ج7وج8.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ

وَأَمَّا مَوْضِعُ الدِّيوَانِ فَلَا يَخْلُو أَيْضًا إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَلَا يَجُوزُ غَلْقُهُ وَلَا تَحْجِيرُهُ وَلَا جُلُوسُ أَهْلِ الدِّيوَانِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ الِاعْتِكَافُ ، إذْ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْمَسْجِدَ كَمَا تَقَدَّمَ .

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الزَّخْرَفَةِ فِي الْمِحْرَابِ وَغَيْرِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ .
وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَسَمِعْتُ مَالِكًا يَذْكُرُ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ وَمَا عُمِلَ مِنْ التَّزْوِيقِ فِي قِبْلَتِهِ فَقَالَ : كَرِهَ النَّاسُ ذَلِكَ حِينَ فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ .
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْمَسَاجِدِ هَلْ يُكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَتِهَا بِالصَّبْغِ مِثْلَ آيَةِ الْكُرْسِيِّ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَنَحْوِهَا فَقَالَ : أَكْرَهُ أَنْ يُكْتَبَ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّزْوِيقِ وَقَالَ : إنَّ ذَلِكَ يَشْغَلُ الْمُصَلِّيَ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ إلْصَاقِ الْعُمُدِ فِي جِدَارِ الْقِبْلَةِ وَفِي الْأَعْمِدَةِ ، أَوْ مَا يُلْصِقُونَهُ أَوْ يَكْتُبُونَهُ فِي الْجُدْرَانِ وَالْأَعْمِدَةِ .
وَكَذَلِكَ يُغَيِّرُ مَا يُعَلِّقُونَهُ مِنْ خِرَقِ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْمِحْرَابِ وَغَيْرِهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
وَأَمَّا التَّخْلِيقُ بِالزَّعْفَرَانِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَهُوَ جَائِزٌ إذْ إنَّهُ مِنْ الطِّيبِ لَكِنْ قَدْ قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الصَّدَقَةَ بِثَمَنِ ذَلِكَ أَفْضَلُ ، وَيَجُوزُ تَخْلِيقُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا مَنْ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ حَذَرًا مِنْ أَنْ تَدْخُلَهُ حَائِضٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، أَوْ امْرَأَةٌ طَاهِرَةٌ تُخَالِطُ النَّاسَ فِي مَوْضِعِ مُصَلَّاهُمْ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ .

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّأْزِيرِ فِي جُدَرَانِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الزَّخْرَفَةِ أَيْضًا ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِمَسَامِيرَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ أَوْتَادٍ وَغَيْرِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِثْلِ أَنْ يَكُونَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ فِيهِ سِبَاخٌ أَوْ شَيْءٌ يُلَوِّثُ ثِيَابَ الْمُصَلِّينَ فَيُغْتَفَرُ ذَلِكَ لِأَجْلِ هَذِهِ الضَّرُورَةِ .
وَمَنْعُ دَقِّ الْمَسَامِيرِ وَمَا تَقَدَّمَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَحْدَهُ ، بَلْ هُوَ حُكْمٌ شَائِعٌ فِي كُلِّ وَقْفٍ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إذَا دَخَلْتَ لِأَحَدِهِمْ بَيْتَهُ فِي الْمَدْرَسَةِ تَجِدُ كُلَّ مَا لَهُ مِنْ كُتُبٍ وَأَثَاثٍ بِالْأَرْضِ خَشْيَةً مِمَّا ذُكِرَ مِنْ تَسْمِيرِ مَسَامِيرَ يَضَعُ عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ عِمَامَةٍ أَوْ غَيْرِهَا .
وَكَذَلِكَ يَمْنَعُ مِمَّا ذُكِرَ مَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي مَوْضِعٍ وُقِفَ بِكِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ النَّاظِرُ فِي ذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ الْبَيْتُ مِلْكًا لِغَيْرِهِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِذْنِ فِيهِ مِنْ الْمَالِكِ ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لَمْ يَجُزْ .
( فَصْلٌ ) فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يُسَمَّرَ فِي الْمَسْجِدِ الْمَسَامِيرُ الْكِبَارُ وَالْأَوْتَادُ ، وَيَقْتَطِعُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوَاضِعَ يَمْنَعُونَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَيَسْكُنُونَ فِيهَا دَائِمًا ، وَيَنَامُونَ فِيهَا وَيَقُومُونَ ، وَقَدْ يَجْنُبُ أَحَدُهُمْ لَيْلًا فَلَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ ، وَلَا نَكِيرَ فِي ذَلِكَ وَلَا مَنْ يُغَيِّرُ بَعْضَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَفَاعِلُ مَا ذُكِرَ مُصِرٌّ عَلَى مَعْصِيَةٍ مُقِيمٌ عَلَيْهَا ، وَلَوْ تَابَ بِقَلْبِهِ وَلَفْظِهِ حَتَّى يُفَارِقَهَا ، فَكَيْفَ يُزَارُ أَوْ يُتَبَرَّكُ بِهِ مَعَ هَذِهِ الْجُرْحَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِمَوَاضِعِ

الْمُصَلِّينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا دَامَ مُقِيمًا عَلَى ذَلِكَ ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَقْصُورَةِ أَغْلَقَهَا عَلَى مَتَاعِهِ وَأَخَذَ الْمِفْتَاحَ مَعَهُ حَتَّى كَأَنَّهَا بَيْتُ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ .

وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَبِيتِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْغُرَبَاءِ إذَا اُضْطُرُّوا إلَيْهِ فَذَهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِي الْبَادِيَةِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْحَاضِرَةِ ، وَأَعْنِي بِالْبَادِيَةِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ يَأْوِي إلَيْهِ ، وَأَمَّا بِلَادُ الرِّيفِ فَإِنَّهُ يُوجَدُ فِيهَا مَوَاضِعُ غَيْرُ الْمَسْجِدِ فَلَمْ تَدْعُ الضَّرُورَةُ إلَى الْمَبِيتِ فِي الْمَسْجِدِ .
( فَصْلٌ ) فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْمَسْجِدَ لَا يَمْتَلِئُ بِالنَّاسِ حَتَّى يَحْتَاجُوا لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي أَحْدَثُوا فِيهَا مَا أَحْدَثُوا .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْمَسَاجِدِ الْمَهْجُورَةِ لَا يَجُوزُ سُكْنَاهَا وَلَا إجَارَتُهَا وَلَا احْتِكَارُهَا ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مِمَّا أَحْدَثُوهُ فِي سُطُوحِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْبُيُوتِ ، وَذَلِكَ غَصْبٌ لِمَوَاضِع الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَسْجِدِ وَاحْتِكَارٌ لَهَا وَإِحْدَاثٌ فِي الْوَقْفِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَمْرِ الْمُقِيمِينَ فِي الْمَسْجِدِ وَغَصْبِهِمْ لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي سَكَنُوهَا ، بَلْ هَذَا أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْبُيُوتَ الَّتِي فِي السُّطُوحِ مُؤَبَّدَةً لِلسُّكْنَى ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَفِيهِ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْإِقَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ يَكُونُ جُنُبًا كَمَا سَبَقَ فِي حَقِّ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْقُضَاةِ لَمَّا أَنْ تَوَلَّى وَهُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ بِنْتِ الْأَعَزِّ جَاءَ إلَى سُطُوحِ الْجَامِعِ بِمِصْرَ فِي جَمَاعَةٍ وَهَدَمَ الْبُيُوتَ الْمُحْدَثَةَ عَنْ آخِرِهَا ، وَلَمْ يَسْأَلْ لِمَنْ هَذَا الْبَيْتُ وَلَا لِمَنْ هَذِهِ الثِّيَابُ ، بَلْ أَخَذَ مَا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ وَغَيَّرَهُ وَرَمَاهُ فِي صَحْنِ الْجَامِعِ ، وَمَشَى الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ طَوِيلَةً ، ثُمَّ أَحْدَثُوهَا أَيْضًا لَمَّا لَمْ يَجِدُوا مَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَلَا مَنْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ .
وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا مِنْ سُطُوحِ الْمَسْجِدِ لَا تَصِحُّ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْجُمُعَةِ الْجَامِعَ الْمَسْقُوفَ ، وَمِنْ صِفَةِ الْمَسْجِدِ أَنْ يُدْخَلَ بِغَيْرِ إذْنٍ ، وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النَّاسِ فِيهِ سَوَاءً ، وَسُطُوحُ الْمَسْجِدِ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ ، وَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ فِيمَا هُوَ كَذَلِكَ كَمَا لَا تَصِحُّ فِي بَيْتِ الْقَنَادِيلِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي التَّحْجِيرِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ السُّطُوحَ لَيْسَتْ بِمَحْجُورَةٍ عَلَى أَحَدٍ فَالْحُكْمُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْغَالِبِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهَا مَحْجُورَةٌ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ بَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

( فَصْلٌ ) وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْوُضُوءَ فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَمَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي سُطُوحِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ كَمَا يُشَاهَدُ مِنْ عَوَائِدِهِمْ فِيهِ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا لَا يَتَوَضَّأُ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ سَطْحِهِ كَحُرْمَتِهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْخَطِيبِ إذَا أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ خُطْبَتِهِ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ ؟ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَتَوَضَّأَ فِي صَحْنَهِ وُضُوءَ طَاهِرٍ .
وَكَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَسْتٍ وَمَنْ يَتَوَضَّأُ فِي السُّطُوحِ أَوْ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي فِيهَا فَإِنَّمَا يَتَوَضَّأُ فِيمَا هُوَ دَاخِلُ الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَمْنُوعٌ .
وَقَدْ تَرَتَّبَتْ عَلَى بِنَاءِ الْبُيُوتِ فِي سُطُوحِ الْمَسْجِدِ مَفَاسِدُ جُمْلَةً .
فَمِنْهَا : أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ مِمَّنْ يَعْتَكِفُ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي فَوْقَ سُطُوحِ الْمَسْجِدِ تَجِدُهُمْ أَوَّلَ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ آخِرَ شَعْبَانَ يَتَقَدَّمُهُ الْفُرُشُ وَالْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَيْتِهِ مِمَّا يُمْنَعُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ .
وَقَدْ مَنَعَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ بِوِسَادَةٍ فِي الْمَسْجِدِ يَتَّكِئُ عَلَيْهَا أَوْ بِفَرْوَةٍ يَجْلِسُ عَلَيْهَا وَأَنْكَرَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : تُشَبِّهُ الْمَسَاجِدَ بِالْبُيُوتِ .

( فَصْلٌ ) وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الْمَرَاوِحَ إذْ إنَّ اتِّخَاذَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ الْيَوْمَ زِيَارَةُ الْمُعْتَكِفِ فِي مُعْتَكَفِهِ وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْجِدِ وَاللَّغَطُ فِيهِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ ذَلِكَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إذَا اعْتَكَفُوا لَا يَأْتِيهِمْ أَحَدٌ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ اعْتِكَافِهِمْ إذْ إنَّ حَالَ الْمُعْتَكِفِ يَدُورُ بَيْنَ صَلَاةٍ وَتِلَاوَةٍ وَفِكْرٍ وَذِكْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لَهُ كَالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ وَمُدَارَسَةِ الْعِلْمِ إنْ كَانَ يَمْشِي إلَيْهِ .
وَأَمَّا إنْ غَشِيَهُ فِي مَجْلِسِهِ وَهُوَ يَسْمَعُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ .
هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا النَّوْمُ الْخَفِيفُ فَهُوَ مُسْتَثْنًى ؛ لِضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مَا أَحْدَثُوهُ فِيمَا يَأْتُونَ بِهِ لِفُطُورِهِمْ ، فَتَجِدُ الرَّوَائِحَ الَّتِي لِأَطْعِمَتِهِمْ يَشُمُّهَا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ حِينَ يُؤْتُونَ بِهَا عِنْدَ الْغُرُوبِ ، وَالنَّاسُ إذْ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ ، فَتَبْقَى نُفُوسُهُمْ إذْ ذَاكَ مُشْتَهِيَةً لِذَلِكَ الطَّعَامِ وَأَعْيُنُهُمْ فِيهِ ، سِيَّمَا إذَا دَخَلُوا بِهِ مِنْ بَابِ السُّطُوحِ الَّذِي فِي الْقِبْلَةِ ؛ فَإِنَّهُ أَكْثَرُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فِي سُطُوحِ الْمَسْجِدِ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمُحْتَاجِينَ كَثِيرٌ وَيَتَأَذَّوْنَ بِتِلْكَ الرَّوَائِحِ كَثِيرًا وَيُخَافُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ إمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا ، وَالْمُعْتَكِفُ إنَّمَا دَخَلَ لِاعْتِكَافِهِ لِزِيَادَةِ الْفَضْلِ وَهَذَا ضِدُّهُ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، ثُمَّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى بَقِيَّةِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي بَعْضِ الْجَوَامِعِ ، فَمِنْ ذَلِكَ السُّبْحَةُ الَّتِي أَحْدَثُوهَا وَعَمِلُوا لَهَا صُنْدُوقًا تَكُونُ فِيهِ وَجَامِكِيَّةٌ لِقَيِّمِهَا وَحَامِلِهَا وَالذَّاكِرِينَ عَلَيْهَا ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ حَالِهِمْ فِي الذِّكْرِ كَيْفَ كَانَ .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ مَنْ اقْتَدَى بِمِنْ أَحْدَثَهَا زَادَ فِيهَا حَدَثًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ جَعَلَ لَهَا شَيْخًا يُعْرَفُ بِشَيْخِ السُّبْحَةِ وَخَادِمًا يُعْرَفُ بِخَادِمِ السُّبْحَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهِيَ بِدْعَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ فَيَنْبَغِي لِإِمَامِ الْمَسْجِدِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى إزَالَةِ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى قَدْرِ اسْتِطَاعَتِهِ مَعَ أَنَّ هَذَا مُتَعَيِّنٌ عَلَى سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ لَكِنْ فِي حَقِّ الْإِمَامِ آكَدُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

( فَصْلٌ ) وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ أَنَّهُ لَا يَجْلِسُ لِقَاصٍّ وَلَا لِسَمَاعِ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ الَّتِي تُقْرَأُ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْخٌ يُبَيِّنُ مَا يُشْكِلُ عَلَى السَّامِعِ مِنْهَا وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ بَيَانُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ عَنْهُ .
وَهَذَا فِي حَقِّ إمَامِ الْمَسْجِدِ آكَدُ إذْ إنَّهُ رَاعٍ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ، وَهُوَ أَنْ يَجْتَمِعَ إلَيْهِ النَّاسُ لِسَمَاعِ الْكُتُبِ فِيهِ ثُمَّ تَأْتِي النِّسَاءُ أَيْضًا لِسَمَاعِهَا فَيَقْعُدُ الرِّجَالُ بِمَكَانٍ وَالنِّسَاءُ بِمُقَابَلَتِهِمْ ، سِيَّمَا وَقَدْ حَدَثَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ بَعْضَ النِّسَاءِ يَأْخُذُهُنَّ الْحَالُ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ فَتَقُومُ الْمَرْأَةُ وَتَقْعُدُ وَتَصِيحُ بِصَوْتٍ نَدِيٍّ وَتَظْهَرُ مِنْهَا عَوْرَاتٌ ، لَوْ كَانَتْ فِي بَيْتِهَا لَمُنِعَتْ ، فَكَيْفَ بِهَا فِي الْجَامِعِ بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ فَنَشَأَ عَنْ هَذَا مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ وَتَشْوِيشَاتٌ لِقُلُوبِ بَعْضِ الْحَاضِرِينَ فَجَاءُوا لِيَرْبَحُوا فَعَادَ عَلَيْهِمْ بِالنَّقْصِ ، أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْمُصَافَحَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْوَقْتِ فِعْلَ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ ، وَمَوْضِعُ الْمُصَافَحَةِ فِي الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ لَا فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ فَحَيْثُ وَضَعَهَا الشَّرْعُ نَضَعُهَا فَيُنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيُزْجَرُ فَاعِلَهُ لِمَا أَتَى مِنْ خِلَاف السُّنَّةِ

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَدْخُلُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ إلَى الْمَسْجِدِ حِينَ إتْيَانِهِمْ بِالْمَيِّتِ إلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ وَالْمُكَبِّرِينَ وَالْمُرِيدِينَ ، إذْ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ ؛ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يُشَوِّشُ عَلَى الْمُتَنَفِّلِ وَالتَّالِي وَالذَّاكِرِ الْمُتَفَكِّرِ ، وَالْمَسْجِدُ إنَّمَا بُنِيَ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَقَدْ اُسْتُفْتِيَ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ : هَذِهِ الْقِرَاءَةُ الَّتِي يَقْرَؤُهَا بَعْضُ الْجُهَّالِ عَلَى الْجَنَائِزِ بِدِمَشْقَ بِالتَّمْطِيطِ الْفَاحِشِ وَالتَّغَنِّي الزَّائِدِ وَإِدْخَالِ حُرُوفٍ زَائِدَةٍ وَكَلِمَاتٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْهُمْ ، هَلْ هُوَ مَذْمُومٌ أَمْ لَا ؟ فَأَجَابَ بِمَا هَذَا لَفْظُهُ : هَذَا مُنْكَرٌ ظَاهِرٌ مَذْمُومٌ فَاحِشٌ ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ زَجْرُهُمْ عَنْهُ وَتَعْزِيرُهُمْ وَاسْتِتَابَتُهُمْ ، وَيَجِبُ إنْكَارُهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ تَمَكَّنَ مِنْ إنْكَارِهِ انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ مَنْعُ ذَلِكَ كُلِّهِ مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ تُمْنَعُ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ كَانَتْ سَالِمَةً لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ ، وَهَذَا الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد يُقَوِّيهِ عَمَلُ السَّلَفِ الْمُتَّصِلُ ، بَلْ لَوْ انْفَرَدَ الْعَمَلُ لَكَانَ كَافِيًا فِي مَنْعِهِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، ثُمَّ إنَّهُمْ يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ وَدَفْنَهُ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ وَصَلَاتِهِ إنْ كَانَ فِي الْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا فَيَنْتَظِرُونَ بِهِ انْقِضَاءَ تِلْكَ الصَّلَاةِ الَّتِي تَكُونُ ، وَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ أَنَّ { مِنْ

إكْرَامِ الْمَيِّتِ تَعْجِيلَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ } .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنْ كَانَ يُحَافِظُ عَلَى السُّنَّةِ إذَا جَاءُوا بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ ، صَلَّى عَلَيْهِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ، وَيَأْمُرُ أَهْلَهُ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَفْنِهِ وَيُعَلِّمَهُمْ أَنَّ الْجُمُعَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُمْ إنْ لَمْ يُدْرِكُوهَا بَعْدَ دَفْنِهِ فَجَزَاهُ اللَّهُ خَيْرًا عَنْ نَفْسِهِ عَلَى مُحَافَظَتِهِ عَلَى السُّنَّةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْبِدْعَةِ ، فَلَوْ كَانَ الْعُلَمَاءُ مَاشِينَ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ هَذَا السَّيِّدُ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ شَيْئًا سَكَتَ لَهُ عَلَيْهِ فَتَزَايَدَ الْأَمْرُ بِذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
ثُمَّ إنَّ مَعَ مَا ذُكِرَ تَرَتَّبَتْ مَفَاسِدُ عَلَى كَوْنِ الْمَيِّتِ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِهِمْ يَأْتُونَ بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ فِي زِحَامٍ مِنْ الْوَقْتِ فَيَجِدُونَ الْمَسْجِدَ قَدْ امْتَلَأَ بِالنَّاسِ ، فَيَدْخُلُ الْحَامِلُونَ لَهُ وَهُمْ حُفَاةٌ قَدْ مَشَوْا بِأَقْدَامِهِمْ عَلَى النَّجَاسَاتِ عَلَى مَا يُعْلَمُ فِي الطُّرُقَاتِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْسَحُوا أَقْدَامَهُمْ أَوْ يَحُكُّوهَا بِالْأَرْضِ فَيَتَخَطَّوْنَ رِقَابَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْأَقْدَامِ وَيَمْشُونَ بِهَا عَلَى ثِيَابِهِمْ ، وَقَدْ يَتَنَجَّسُ بَعْضُ الْمَسْجِدِ وَثِيَابُ مَنْ مَشَوْا عَلَيْهِ بِذَلِكَ .
وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فِي فَاعِلِ ذَلِكَ أَنَّهُ مُؤْذٍ ، { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِي تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ : اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ } هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَكُونُ قَدَمُهُ فِي حُجْزَتِهِ ، فَإِذَا تَحَرَّكَ تَحَرَّكَ الْقَدَمُ بِحَرَكَتِهِ وَيَنْحَكُّ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ ، فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ وَهُوَ الْغَالِبُ

وَقَعَتْ فِي الْمَسْجِدِ فَيُصَلِّي النَّاسُ عَلَيْهَا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ بِذَلِكَ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ مَوْضِعَ سَرِيرِ الْمَيِّتِ يَمْسِكُ مَوَاضِعَ لِلْمُصَلِّينَ ذَلِكَ غَصْبٌ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاضِعَ وَقْفٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ لَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِ كُلِّيَّةً إلَّا فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ سِيَّمَا إذَا كَانَتْ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ ، فَيَتَأَكَّدُ تَعْيِينُ الْغَصْبِ فِي ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِ الْمَوْتَى أَنْ يَبْقَى فِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ ، وَالْمَيِّتُ لَا يَمْسِكُ ذَلِكَ وَقَدْ تَخْرُجُ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّجَاسَةُ فِي الْمَسْجِدِ مَمْنُوعَةٌ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : رَفْعُ صَوْتِ الْحَامِلِينَ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُمْ عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَبَعْدَهَا حِينَ خُرُوجِهِمْ مِمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فَيَنْتَهِكُونَ بِذَلِكَ حُرْمَةَ الْمَسْجِدِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ ؛ لِأَنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ لَا تَأْتِي بِخَيْرٍ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الدَّقِيقِ وَالْجَلِيلِ .
وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْجَنَائِزِ يُؤَذَّنُ بِهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَكَرِهَ أَنْ يُصَاحَ خَلْفَهُ بِاسْتَغْفِرُوا لَهُ يَغْفِرْ اللَّهُ لَكُمْ وَأَفْتَوْا فِي ذَلِكَ بِالْكَرَاهَةِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ الْجِنَازَةِ يُؤَذَّنُ بِهَا فِي الْمَسْجِد بِصِيَاحٍ قَالَ : لَا خَيْرَ فِيهِ وَكَرِهَهُ وَقَالَ : لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يُدَارَ فِي الْحِلَقِ وَيُؤَذِّنُ النَّاسَ بِهَا وَلَا يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ : أَمَّا النِّدَاءُ بِالْجَنَائِزِ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ ، فَلَا يَنْبَغِي وَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ لِكَرَاهَةِ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ كُرِهَ ذَلِكَ حَتَّى فِي الْعِلْمِ .
وَأَمَّا النِّدَاءُ بِهَا عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَكَرِهَهُ مَالِكٌ وَرَآهُ مِنْ النَّعْيِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إيَّاكُمْ وَالنَّعْيَ فَإِنَّ النَّعْيَ مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ } ، وَالنَّعْيُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَلَا إنَّ فُلَانًا قَدْ مَاتَ فَاشْهَدُوا جِنَازَتَهُ ، وَأَمَّا الْإِيذَانُ بِهَا وَالْإِعْلَامُ مِنْ غَيْرِ نِدَاءٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِإِجْمَاعٍ .
وَقَدْ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تُوُفِّيَتْ لَيْلًا : أَفَلَا آذَنْتُمُونِي بِهَا } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تُؤَذِّنُوا بِي أَحَدًا إنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا ، وَقَدْ { سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ } وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ النَّجَاسَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ سَدِّ مَخَارِجِهِ وَإِرْسَالِ الْقُطْنِ مَعَهُ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ فِي فِعْلِ هَذَا مُحَرَّمَاتٍ أُخَرَ مِنْهَا هَتْكُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُرْسِلُونَ مَعَهُ الْقُطْنَ فِي فَمِهِ وَيُدْخِلُونَهُ إلَى حَلْقِهِ وَيُرْسِلُونَهُ مَعَهُ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَمْلَئُوا حَلْقَهُ بِالْقُطْنِ وَيَنْزِلَ ذَقَنُهُ إلَى أَسْفَلَ وَيَطْلُعَ أَنْفُهُ إلَى فَوْقَ ، وَيَمْلَئُونَ فَمَه وَشَدْقَيْهِ بِالْقُطْنِ فَيَبْقَى مُثْلَةً لِلنَّاظِرِ .
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي أَنْفِهِ فَيُرْسِلُونَ فِيهِ الْقُطْنَ حَتَّى يَتَعَاظَمَ أَنْفُهُ ثُمَّ يَفْعَلُونَ فِعْلًا قَبِيحًا فَيُرْسِلُونَ الْقُطْنَ فِي دُبُرِهِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا فِعْلٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَمَرَنَا بِغُسْلِ الْمَيِّتِ إكْرَامًا لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ فِي الْقَبْرِ وَهُمْ يَفْعَلُونَ بِهِ مَا ذُكِرَ ، فَإِذَا جَاءُوا بِهِ إلَى الْقَبْرِ أَخْرَجُوا ذَلِكَ مِنْهُ يَخْرُجُ الْقُطْنُ وَهُوَ مُلَوَّثٌ بِالْفَضَلَاتِ فِي

الْغَالِبِ وَيَبْقَى الْفَمُ مَفْتُوحًا لَا يُمْكِنُ غَلْقُهُ ، ثُمَّ إنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ وَالْمَلَائِكَةُ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ ، وَهُمْ يُبْقُونَ ذَلِكَ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ فِي الْغَالِبِ ، فَذَهَبَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أَمَرَنَا الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الْإِكْرَامُ بِغُسْلِهِ لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ .
ثُمَّ الْعَجَبُ فِي كَوْنِهِمْ يَأْتُونَ بِمَاءِ الْوَرْدِ فَيَسْكُبُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْقَبْرِ ، وَهَذِهِ أَيْضًا بِدْعَةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ إنَّمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بَعْدَ الْغُسْلِ لَا فِي الْقَبْرِ فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ طِيبٌ وَنَجَاسَةٌ .

( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَغَيْرِهَا فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ لِمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ ، وَجَمِّرُوهَا أَيَّامَ جُمَعِكُمْ وَاجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ ، } وَقَدْ كَثُرَ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ وَالْخُصُومَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى إنَّ الْخَطِيبَ لَا يُسْمَعُ مِنْهُ مَا يَقُولُ لِكَثْرَةِ غَوْغَائِهِمْ إذْ ذَاكَ .

وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ عَلَيْهِمْ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّصْفِيقِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ ، إذْ إنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ قَبِيحٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ ، } وَهَذَا كُلُّهُ سَبَبُهُ السُّكُوتُ عَمَّا أُحْدِثَ فِي الدِّينِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْضُرُ الْجُمُعَةَ ثَلَاثُ نَفَرٍ فَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِلَغْوٍ فَذَلِكَ حَظُّهُ مِنْهَا ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِدُعَاءٍ فَهُوَ رَجُلٌ دَعَا اللَّهَ إنْ شَاءَ أَعْطَاهُ وَإِنْ شَاءَ مَنَعَهُ ، وَرَجُلٌ حَضَرَهَا بِإِنْصَاتٍ وَسُكُوتٍ لَمْ يَتَخَطَّ رَقَبَةَ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُؤْذِ أَحَدًا فَهِيَ كَفَّارَةٌ إلَى الْجُمُعَةِ الَّتِي تَلِيهَا ، وَزِيَادَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } }

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ تَفْرِيقِ الرَّبْعَةِ حِينَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْأَذَانِ قَامَ الَّذِي فَرَّقَهَا لِيَجْمَعَ مَا فُرِّقَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ فَيَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ بِسَبَبِ أَخْذِهَا مِنْهُمْ ، وَهَذَا فِيهِ مَحْذُورَاتٌ جُمْلَةٌ مِنْهَا : أَنَّ ذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إذْ إنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ فِيهِ تَخَطِّيَ رِقَابَ النَّاسِ حِينَ ارْتِصَاصِهِمْ لِانْتِظَارِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّ فَاعِلَهُ مُؤْذٍ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ كُلَّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ يُعْطِي الْخَتْمَةَ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ أَنْ يَقْرَأَ فَقَدْ يَحْصُلُ لَهُ خَجَلٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ أَذِيَّةٌ وَصَلَتْ عَلَى يَدِهِ لِمُسْلِمٍ كَانَ عَنْهَا فِي غِنًى .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ يَنْسَى بَعْضَ الْأَجْزَاءِ فَلَا يَأْخُذُهُ فَيَضِيعُ عَلَى الْوَقْفِ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَيَكْتُمُهُ لِتَسَاهُلِهِمْ فِي الْوَقْفِ ، فَقَدْ يَخْفَى وَيَخْتَارُ أَنْ يَخْتَصَّ هُوَ بِمَنْفَعَتِهِ فِي بَيْتِهِ إمَّا لِنَفْسِهِ أَوْ لِوَلَدِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَذْهَبُ عَلَى الْوَقْفِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّهُ قَدْ يَأْتِي عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَنَّهُ يَكُونُ مَشْغُولًا فِي جَمْعِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ ، وَالْخَطِيبُ إذْ ذَاكَ يَخْطُبُ فَيَقَعُ الْكَلَامُ وَالْمُرَاجَعَةُ بِسَبَبِ جَمْعِهَا فِي حَالِ الْخُطْبَةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يَقِفُوا تَحْتَ اللَّوْحِ الْأَخْضَرِ لِلدُّعَاءِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذْ إنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ إرْسَالِ الْبُسُطِ وَالسَّجَّادَاتِ وَغَيْرِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَصْحَابُهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ وَمُخَالَفَةِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى مَنْ يَقْرَأُ الْأَعْشَارَ وَغَيْرَهَا بِالْجَهْرِ ، وَالنَّاسُ يَنْتَظِرُونَ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ الْفَرَائِضِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ النَّهْيِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ } وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا إنْكَارٌ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، بَلْ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَالتَّالِينَ وَالْمُتَفَكَّرِينَ وَكُلِّ مَنْ كَانَ فِي عِبَادَةٍ ، وَالْحَاصِلُ : أَنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ فِي الْمَسْجِدِ الْمَطْرُوقِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ وَمُعَرَّضٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودِ بِهَا .
وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ مَهْجُورٍ وَلَيْسَ فِيهِ غَيْرُ السَّامِعِينَ أَوْ فِي مَدْرَسَةٍ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ بَيْتٍ ، فَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِحَسَبِ الْحَالِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ ثَمَّ غَيْرُ السَّامِعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُمْ فَيُمْنَعُ ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ مَنْ يَدْرُسُ أَوْ يُطَالِعُ أَوْ يُصَلِّي أَوْ يَأْخُذُ رَاحَةً لِنَفْسِهِ ، فَيَقْطَعَ عَلَيْهِ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } انْتَهَى هَذَا إذَا سَلِمَ مِنْ الزِّيَادَةِ أَوْ النُّقْصَانِ مِثْلَ أَنْ يَمُدَّ الْمَقْصُورَ أَوْ يُقْصِرَ الْمَمْدُودَ أَوْ يُشَدِّدَ مَوْضِعَ التَّخْفِيفِ أَوْ عَكْسَهُ أَوْ يُظْهِرَ مَوْضِعَ الْإِدْغَامِ أَوْ عَكْسَهُ أَوْ يُظْهِرَ مَوْضِعَ الْإِخْفَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَنْ لَا يَصِلَ بِالْعَشْرِ آيَةً أُخْرَى غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلْقُرْآنِ فِي الظَّاهِرِ عَنْ نَظْمِهِ الَّذِي أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ قِرَاءَةِ الْأَسْبَاعِ سِيَّمَا الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَسْجِدَ إنَّمَا بُنِيَ لِلْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَقِرَاءَةِ الْأَسْبَاعِ فِي الْمَسْجِد مِمَّا يُشَوِّشُونَ بِهَا لِمَا وَرَدَ فِي

الْحَدِيثِ { : لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } فَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ فِيهِ تَشْوِيشٌ مُنِعَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى الْفُقَرَاءَ الذَّاكِرِينَ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ أَوْ بَعْدَهَا أَوْ فِي غَيْرِهِمَا مِنْ الْأَوْقَاتِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَنْعِ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَسْأَلُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ } وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : إذَا سَأَلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ أَنْ لَا يُعْطَى ، وَإِذَا سَأَلَ عَلَى الْقُرْآنِ فَلَا تُعْطُوهُ انْتَهَى .
وَالْمَسْجِدُ لَمْ يُبْنَ لِلسُّؤَالِ فِيهِ وَإِنَّمَا بُنِيَ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَالسُّؤَالُ يُشَوِّشُ عَلَى مَنْ يَتَعَبَّدُ فِيهِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْإِعْطَاءِ لِمَنْ يَسْأَلُ فِيهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاحْرِمُوهُ ؛ وَلِأَنَّ إعْطَاءَهُ ذَرِيعَةٌ إلَى سُؤَالِهِ فِي الْمَسْجِدِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ السَّقَّائِينَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَيُنَادُونَ فِيهِ عَلَى مَنْ يُسَبِّلُ لَهُمْ ، فَإِذَا سَبَّلَ لَهُمْ يُنَادُونَ غَفَرَ اللَّهُ لِمَنْ سَبَّلَ وَرَحِمَ مَنْ جَعَلَ الْمَاءَ لِلسَّبِيلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِهِمْ ، وَيَضْرِبُونَ مَعَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فِي أَيْدِيهِمْ لَهُ صَوْتٌ يُشْبِهُ صَوْتَ النَّاقُوسِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَمِمَّا يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ مِثْلِهِ .
وَفِي فِعْلِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ شَبَهِ النَّاقُوسِ .
وَمِنْهَا رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَمِنْهَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ وَبَعْضَهُمْ يَمْشِي يَخْتَرِقُ الصُّفُوفَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَمَنْ احْتَاجَ أَنْ يَشْرَبَ نَادَاهُ فَشَرِبَ وَأَعْطَاهُ الْعِوَضَ عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا بَيْعٌ بَيِّنٌ لَيْسَ فِيهِ وَاسِطَةُ تَسْبِيلٍ وَلَا غَيْرِهِ سِيَّمَا وَالْمُعَاطَاةُ بَيْعٌ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَبِعَهُ .
وَمِنْهَا تَخَطِّي رِقَابِ النَّاسِ فِي حَالِ انْتِظَارِهِمْ لِلصَّلَاةِ .
وَمِنْهَا تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مِنْ الْمَاءِ شَيْءٌ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا إلَّا أَنَّهُ يُمْنَعُ فِي الْمَسَاجِدِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَشْيُ بَعْضِهِمْ حُفَاةً وَدُخُولُهُمْ الْمَسْجِدَ بِتِلْكَ الْأَقْدَامِ النَّجِسَةِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَحْذُورِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَوُقُودِ الْقَنَادِيلِ وَغَيْرِهَا وَمَا فِي ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي .
وَكَذَلِكَ مَا يُفْعَلُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ فِي أَوَاخِرِ شَهْرِ رَمَضَانَ مَبْسُوطًا فِي مَوَاضِعِهِ فَلْيُلْتَمَسْ هُنَاكَ .
وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى لِجَهْلِ الْجَاهِلِ وَسُكُوتِ الْعَالِمِ ، حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ إلَى جَهْلِ الْحُكْمِ فِيهِ وَاسْتَحْكَمَتْ الْعَوَائِدُ حَتَّى أَنَّ أُمَّ

الْقُرَى مَكَّةَ الَّتِي لَهَا مِنْ الشَّرَفِ مَا لَهَا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي مَسْجِدِهَا ، وَالسَّمَاسِرَةُ يُنَادُونَ فِيهِ عَلَى السِّلَعِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَيُسْمَعُ لَهُمْ هُنَاكَ أَصْوَاتٌ عَالِيَةٌ مِنْ كَثْرَةِ اللَّغَطِ ، وَلَا يَتْرُكُونَ شَيْئًا إلَّا يَبِيعُونَهُ فِيهِ مِنْ قُمَاشٍ وَعَقِيقٍ وَدَقِيقٍ وَحِنْطَةٍ وَتِينٍ وَلَوْزٍ وَأُكُرٍ وَعُودِ أَرَاكٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَاكُ مَنْ لَهُ وَرَعٌ بِعُودِ الْأَرَاكِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَبِيعُونَهُ فِي الْمَسْجِدِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُعْلِمَهُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَيَسْتَاكَ بِهِ حِينَئِذٍ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ تَعْلِيقِ الْقَنَادِيلِ الْمُذَهَّبَةِ وَوُقُودِهَا وَالتَّزْيِينِ بِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ زَخْرَفَةِ الْمَسَاجِدِ وَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِيهِ السَّرَفُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ إذْ إنَّ الذَّهَبَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي تَحْلِيَةِ النِّسَاءِ وَفِي تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمِنْطَقَةِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ مَشْيِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَلَهُمْ طَرِيقٌ سِوَاهُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَبْعَدَ مِنْهُ ، وَاِتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَهَا هُوَ ذَا قَدْ شَاعَ وَكَثُرَ .
وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ جَامِعًا إلَّا وَقَدْ اتَّخَذُوهُ طَرِيقًا وَقَلَّ مَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا نَهَى عَنْهُ لَاسْتَحْمَقُوهُ ، وَقَدْ يَتَأَذَّى بِسَبَبِ ذَلِكَ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النِّسَاءَ اللَّاتِي يَدْخُلْنَ الْجَامِعَ وَيَجْلِسْنَ فِيهِ لِانْتِظَارِ بَيْعِ غَزْلِهِنَّ ، وَيَدْخُلُ الْمُنَادِي إلَيْهِنَّ وَمَعَهُ الْغَزْلُ فَيُكَلِّمُهُنَّ فِي الْجَامِعِ وَيُشَاوِرهُنَّ عَلَى ثَمَنِ ذَلِكَ ، فَمَنْ رَضِيَتْ مِنْهُنَّ تَقُولُ : قَدْ بِعْتُ ، وَذَلِكَ بَيْعٌ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ الْمُنَادِيَ صَارَ إذْ ذَاكَ كَالْوَكِيلِ وَيَقَعُ بِذَلِكَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَيَجِدُ السَّبِيلَ إلَى مَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ الْأَغْرَاضِ الْخَسِيسَةِ ، وَبَعْضُهُنَّ يَكُونُ مَعَهَا الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ ، وَقَدْ يَبُولُونَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ رُئِيَ ذَلِكَ عِيَانًا .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ النِّسَاءَ اللَّاتِي يَأْتِينَ لِلْمُحَاكَمَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَدْخُلْنَ إلَيْهِ لِانْتِظَارِ مَا يُرِيدُونَهُ وَيَدْخُلُ إلَيْهِنَّ الْوُكَلَاءُ وَالرِّجَالُ وَالْأَزْوَاجُ وَتَكْثُرُ الْخُصُومَاتُ وَتَرْتَفِعُ الْأَصْوَاتُ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، وَالْقَاضِي بِمَعْزِلٍ عَنْهُمْ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَيَمْنَعُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَفِي الْإِشَارَةِ مَا يُغْنِي عَنْ الْعِبَارَةِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ لِلْحَدِيثِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَمَا جَرَى لِفُلَانٍ وَمَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ أَكْلَ النَّارِ الْحَطَبَ فَيَنْهَاهُمْ وَيُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ الْمَسَاجِدَ يَقْعُدُونَ فِيهَا حِلَقًا حِلَقًا ، ذِكْرُهُمْ الدُّنْيَا وَحُبُّهُمْ الدُّنْيَا ، لَا تُجَالِسُوهُمْ فَلَيْسَ لِلَّهِ بِهِمْ مِنْ حَاجَةٍ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا أَتَى الرَّجُلُ الْمَسْجِدَ فَأَكْثَرَ مِنْ الْكَلَامِ تَقُولُ لَهُ الْمَلَائِكَةُ : اُسْكُتْ يَا وَلِيَّ اللَّهِ ، فَإِنْ زَادَ تَقُولُ : اُسْكُتْ يَا بَغِيضَ اللَّهِ ، فَإِنْ زَادَ تَقُولُ : اُسْكُتْ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ } وَإِنَّمَا يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّفَكُّرِ أَوْ تَدْرِيسِ الْعِلْمِ بِشَرْطِ عَدَمِ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَعَدَمِ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ .
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ جَمَاعَةً وَيَجُوزُ جَهْرًا بِشَرْطِ عَدَمِ التَّشْوِيشِ عَلَى غَيْرِهِ .
وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى حَتَّى فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ ، فَقَدْ كَثُرَ فِيهَا الْحَدِيثُ وَالْقِيلُ وَالْقَالُ وَرَفْعُ الْأَصْوَاتِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَتَجِدُ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ عِنْدَ قَبْرِ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَدِيثَ الْكَثِيرَ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى حِينَ أَوْقَاتِ الزِّيَارَةِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَكَذَلِكَ فِي قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ فِي الْحَجِّ تَجِدُ لَهُمْ غَوْغَاءَ حَتَّى كَأَنَّهُمْ قَطُّ مَا هُمْ فِي عِبَادَةٍ .
وَكَذَلِكَ تَجِدُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ عَوَائِدِهِمْ فِيهِ مِنْ الْوُقُوفِ

يَوْمَ عَرَفَةَ وَالنُّفُورِ عِنْدَ الْغُرُوبِ ، وَذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ لَمْ يَحُجَّ إلَيْهِ أَحَدٌ قَطُّ وَلَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِيهِ وَمَا كَانَ الْحَجُّ مِنْ عَهْدِ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا لِبَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَعَرَفَةَ وَمِنًى وَالْمَنَاسِكِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَّا الصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ ، فَهِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَتْ ثُمَّ حُوِّلَتْ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ .
فَالْوُقُوفُ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى لَيْسَ فِيهِ اقْتِدَاءٌ بِالْمَاضِينَ وَلَا بِالْمُتَأَخِّرِينَ لِمَا ذُكِرَ .
عَلَى أَنَّهُ لَوْ حَجَّ إلَيْهِ قَبْلَ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِيهِ الْيَوْمَ ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ إلَى الصَّخْرَةِ بَعْدَ نَسْخِهَا .
وَقَدْ شَذَّ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالَ بِجَوَازِ الْوُقُوفِ فِيهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُثَابٌ لَا أَنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ الْحَجِّ الْمَشْرُوعِ ، وَهُوَ قَوْلٌ لَا يُرْجَعُ إلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَافْهَمْهُ .
وَمِمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ مَا يَفْعَلُونَهُ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَأَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ فَيُسْمَعُ لَهُمْ صِيَاحٌ وَهَرَجٌ وَبِدَعٌ كَثِيرَةٌ حِينَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ، وَأَوَّلُ مَا حَدَثَتْ هَذِهِ الْبِدَعُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمِنْهُ شَاعَتْ فِي الْأَقَالِيمِ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحَوَادِثِ وَالْبِدَعِ لَهُ ، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ أَوْ يَتَكَلَّمُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَانْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ أَوْ بَعْضُهَا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْهَى مَنْ يَقْعُدُ فِي الْمَسْجِدِ لِتَفْلِيَةِ ثِيَابِهِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ الْبَرْدِ يَقْعُدُونَ فِي الشَّمْسِ وَيُفَلُّونَ ثِيَابَهُمْ وَهَذَا لَا يَحِلُّ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ جِلْدَةَ الْبُرْغُوثِ الَّذِي خَالَطَ الْإِنْسَانَ نَجِسَةٌ وَجِلْدَةَ الْقَمْلَةِ نَجِسَةٌ مُطْلَقًا ، وَهُمْ يُلْقُونَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ قَتْلِهِ ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ يَجْمَعُهُ وَيُلْقِيهِ خَارِجَ الْمَسْجِد فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ يُمْنَعُ وَإِنْ لَمْ يُلْقِهَا فِيهِ ، إذْ أَنَّهُ حَامِلٌ لِلنَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حِينِ قَتْلِهَا إلَى حِينِ إلْقَائِهَا خَارِجَ الْمَسْجِدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ : وَكَرِهَ مَالِكٌ قَتْلَ الْقَمْلَةِ وَرَمْيَهَا فِي الْمَسْجِدِ ، وَلَا يَطْرَحُهَا مِنْ ثَوْبِهِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَقْتُلُهَا بَيْنَ النَّعْلَيْنِ فِي الْمَسْجِدِ انْتَهَى .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُصَلِّي إذَا أَخَذَ قَمْلَةً وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلْقِيَهَا فِي الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ } وَإِذَا رَمَاهَا فِي الْمَسْجِدِ وَهِيَ بِالْحَيَاةِ فَإِمَّا أَنْ تَمُوتَ جُوعًا أَوْ تَضْعُفَ وَكِلَاهُمَا عَذَابٌ لَهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْقِتْلَةِ .
وَشَأْنُ مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَنْقُلَهَا لِمَكَانٍ آخَرَ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ يَرْبِطَهَا فِي طَرَفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
وَأَمَّا الْبُرْغُوثُ إذَا أَخَذَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهُ يُلْقِيهِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْتُلَهُ ؛ لِأَنَّ الْبُرْغُوثَ لَا يَقْعُدُ بِمَكَانٍ وَاحِدٍ بَلْ يَنْتَقِلُ فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ التُّرَابِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْهُ خُلِقَ وَيَعِيشُ فِيهِ بِخِلَافِ الْقَمْلَةِ ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ دَمِ الْإِنْسَانِ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ سَيِّدِي حَسَنٍ الزُّبَيْدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ

خَرَجَ يَوْمًا مَعَ أَصْحَابِهِ إلَى بُسْتَانِهِ ، فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَذْهَبُوا إلَى الْبُسْتَانِ فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ رُجُوعِهِ فَقَالَ : كَانَ عَلَيَّ قَمِيصٌ نَسِيتُهُ فِي الْبَيْتِ وَفِيهِ دَوَابُّ فَخِفْتُ أَنْ يَمُوتُوا جُوعًا فَرَجَعْتُ إمَّا أَنْ أَقْتُلَهُمْ وَإِمَّا أَنْ أَلْبَسَهُ .
وَهَذَا الْأَمْرُ قَدْ كَثُرَ وَفَشَا سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَتَرَى الْغُرَبَاءَ يَأْتُونَ إلَيْهِ بِدُلُوقٍ تَغْلِي قَمْلًا فَيُجَرِّدُونَهَا عَنْهُمْ وَيُلْقُونَهَا فِي الْمَسْجِدِ ، فَتَحُسُّ بِحَرَارَةِ الشَّمْسِ فَتَخْرُجُ مِنْ الثَّوْبِ وَتَمُوتُ بِحَرِّ الشَّمْسِ ، ثُمَّ يَنْفُضُ أَحَدُهُمْ دَلْقَهُ وَيَلْبَسُهُ وَتَبْقَى الدَّوَابُّ كُلُّهَا مَيِّتَةً فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا كَانَ إمَامُ الْمَسْجِدِ يَنْهَى عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ تَنَبَّهَ النَّاسُ إلَيْهِ وَتَرَكُوهُ وَغَيَّرُوهُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ الْمَطْبُوخِ بِالْبَصَلِ أَوْ الثُّومِ أَوْ الْكُرَّاثِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ نِيئًا فَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَالْأَكْلُ فِي الْمَسْجِدِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُسَامَحُ فِيهِ إلَّا الشَّيْءَ الْخَفِيفَ كَالسَّوِيقِ وَنَحْوِهِ .
وَمِنْ الطُّرْطُوشِيِّ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْأَكْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : أَمَّا الشَّيْءُ الْخَفِيفُ مِثْلَ السَّوِيقِ وَيَسِيرِ الطَّعَامِ فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا ، وَلَوْ خَرَجَ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ كَانَ أَعْجَبَ إلَيَّ وَأَمَّا الْكَثِيرُ فَلَا يُعْجِبُنِي وَلَا فِي رِحَابِهِ .
وَقَالَ فِي الَّذِي يَأْكُلُ اللَّحْمَ فِي الْمَسْجِدِ : أَلَيْسَ يَخْرُجُ لِغَسْلِ يَدِهِ ؟ قَالُوا : بَلَى قَالَ : فَلْيَخْرُجْ لِيَأْكُلْ انْتَهَى ، وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ الْكَلَامُ بِغَيْرِ لِسَانِ الْعَرَبِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : وَأَكْرَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِأَلْسِنَةِ الْعَجَمِ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ : وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا قِيلَ فِي أَلْسِنَةِ الْأَعَاجِمِ إنَّهَا خَبٌّ قَالَ : وَلَا يُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ شَيْءٌ مِنْ الْخَبِّ قَالَ : وَهُوَ لِمَنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَشَدُّ انْتَهَى .
وَهَذَا الْأَمْرُ الْيَوْمَ قَدْ كَثُرَ وَشَاعَ حَتَّى إنَّ الْقَوَمَةَ لَيُخْرِجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي كُلِّ يَوْمٍ صِحَافًا كَثِيرَةً وَأَوْرَاقًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ كَثْرَةِ مَا يُؤْكَلُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الذُّبَابُ وَالْخُشَاشُ وَيَكْثُرُ الْقِطَاطُ ، وَيَرَوْنَ أَنَّ إطْعَامَهُمْ الطَّعَامَ مِنْ بَابِ الْحَسَنَاتِ فَتَكْثُرُ الْقِطَاطُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا أَكَلَ أَحَدٌ فِي الْمَسْجِدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْقِطَاطُ فِي الْمَسْجِدِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَيَبُلْنَ فِيهِ وَبَوْلُهُنَّ نَجِسٌ ، وَقَدْ رَأَيْتُ ذَلِكَ عِيَانًا فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى صَلَاةِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَبُطْلَانِ صَلَاتِهِمْ بِذَلِكَ ، حَتَّى آلَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ مَنْ كَانَ

عِنْدَهُ هِرٌّ مُؤْذٍ أَرْسَلَهُ إلَى الْجَامِعِ ، فَكَانَ النَّاسُ يُوَقِّرُونَ بُيُوتَ رَبِّهِمْ يَحْتَرِمُونَهَا وَيُنَزِّهُونَهَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهَا ، وَكَانَتْ الْمَسَاجِدُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : { الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ } ، فَانْعَكَسَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ صَارَ الْمَسْجِدُ مَأْوًى لِلْقِطَاطِ الْمُؤْذِيَةِ ، وَالْأَكْلُ سَبَبُ ذَلِكَ سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، فَإِنَّهُ يَكْثُرُ وُرُودُ الْغُرَبَاءِ إلَيْهِ فَتَجِدُهُمْ يَأْكُلُونَ اللَّحْمَ وَيَرْمُونَ الْعِظَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَيَأْكُلُونَ الْبِطِّيخَ وَيَرْمُونَ قُشُورَهُ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ فَضَلَاتِ الْمَأْكُولِ وَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ يُلْقِي ذَلِكَ فِي خَارِجِ الْمَسْجِد ، بَلْ يَدْخُلُونَ فِيهِ بِالْحَمِيرِ بِسَبَبِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبُنْيَانِ وَالْعِمَارَةِ فَتَبُولُ الْحَمِيرُ فِيهِ وَتَرُوثُ كَأَنَّهُ عِنْدَهُمْ طَرِيقٌ مِنْ الطُّرُقِ الْمَسْلُوكَةِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِتَنْظِيفِ الطُّرُقِ ، فَكَيْفَ الْحَالُ فِي الْمَسَاجِدِ ؟ فَكَيْفَ الْحَالُ فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ مَا فِيهِ ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
فَإِذَا كَانَ إمَامُ الْمَسْجِدِ يَنْهَى عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهَا انْحَسَمَتْ الْمَادَّةُ ، فَإِنَّ الْخَيْرَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ النَّاسِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ وَاحِدٌ سَمِعَ آخَرُ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ } وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سَبَبٌ لِهِدَايَةِ بَعْضِ النَّاسِ .
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَحْتَجُّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ : إنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَعَنْ عَوَائِدِهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ، وَجَوَابُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ ؛ { لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا } إلَخْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَأْتِي النَّبِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَعَهُ الرَّجُلُ الْوَاحِدُ يَأْتِي النَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَالْخَيْرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يُعْدَمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إذْ إنَّ الْخَيْرَ فِيهَا كَامِنٌ فَمَنْ نُبِّهَ مِنْهُمْ تَنَبَّهَ وَرَجَعَ وَانْقَادَ وَاسْتَغْفَرَ ، وَكُنْتَ أَنْتَ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْجَمِيعِ بِمَنِّهِ .

وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ سِيَّمَا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ سِيَّمَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَتَجِدُ الْمَسْجِدَ قَدْ ارْتَصَّ بِالنَّاسِ فِي الْغَالِبِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { : إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ } .
وَالنَّائِمُ قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ خُرُوجِ الرِّيحِ مِنْهُ فَتَتَأَذَّى الْمَلَائِكَةُ بِهِ .
وَقَدْ نُهِينَا عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِرَائِحَةِ الثُّومِ أَوْ الْبَصَلِ ؛ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسَاجِدَنَا يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثُّومِ ، } فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الثُّومِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى الرِّيحُ الْخَارِجُ مِنْ الْمَخْرَجِ ، وَقَدْ يَحْتَلِمُ النَّائِمُ فَيَبْقَى جُنُبًا فِي الْمَسْجِدِ .
وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى ، وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ لَأَنْ تُسْرَقَ عِمَامَتُهُ أَوْ رِدَاؤُهُ ، وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا ، وَالْحَاصِلُ مِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَا كَرِهَهُ الشَّرْعُ تَجِدُ فِيهِ مَخَاوِفَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُهُ ، فَإِذَا عَلِمَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْ نَهْيِ الْإِمَامِ ارْتَدَعُوا عَنْهُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ خِيَاطَةِ قُلُوعِ الْمَرَاكِبِ فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّا قَدْ نُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ ، فَكَيْفَ بِالصَّنْعَةِ تُعْمَلُ فِيهِ ؟ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ نَسْخَ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ وَنَسْخَ الْقُرْآنِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّسَبُّبِ فِيهِ ، فَمَا بَالُكَ بِغَيْرِهِمَا فَيَمْنَعُ فَاعِلَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْهَى السَّقَّاءَ الَّذِي يَدْخُلُ بِالْجَمَلِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ بَوْلَهُ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ نَجِسٌ وَعَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ فَيُمْنَعُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يُنَزَّهُ عَمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ هَذَا وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْمَشْيِ فِي الْمَسْجِدِ بِالْغَنَمِ لِأَنَّهَا قَدْ تَبُولُ فِيهِ وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ عَلَى دُخُولِ السَّقَّاءِ بِالْجَمَلِ فِي الْمَسْجِدِ .

وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْهَى عَنْ دُخُولِ الشَّوَّاءِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَفَاسِدَ .
مِنْهَا أَنْ يَجْعَلَ الْمَسْجِدَ طَرِيقًا وَقَدْ قُدِّمَ مَا فِيهِ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ يَدْخُلُ بِالذَّفَرِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْمَسْجِدُ يُنَزَّهُ عَنْ أَقَلَّ مِنْ هَذَا .
الثَّالِثَةُ : أَنَّ رَائِحَتَهُ قَوِيَّةٌ فَقَدْ يَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمُتَوَجِّهِينَ مَنْ تَتَشَوَّقُ نَفْسُهُ لِذَلِكَ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ لِيَشْتَرِيَ بِهِ فَيَتَشَوَّشُ فِي عِبَادَتِهِ .
الرَّابِعَةُ : أَنَّ حَامِلَهُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ فِي مَوْضِعِ الذَّبْحِ وَهُوَ مَحَلُّ النَّجَاسَاتِ وَحَامِلُهَا حَافٍ هُنَاكَ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ .
الْخَامِسَةُ : أَنَّ الْحَامِلِينَ لَهُ الْغَالِبُ عَلَيْهِمْ كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِكَلَامٍ لَا يَنْبَغِي فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ .
السَّادِسَةُ مَا فِيهِ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْحُكْمِ بِأَنَّ الشِّوَاءَ طَاهِرٌ وَأَمَّا إذَا كَانَ مُتَنَجِّسًا فَلَا يَدْخُلُ بِالنَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ اتِّفَاقًا .

وَيَنْهَى عَنْ دُخُولِ الرُّهْبَانِ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ يَفْرِشُونَهُ بِالْحُصُرِ الْمَضْفُورَةِ الَّتِي يُضَفِّرُونَهَا فَإِنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنْعُ دُخُولِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى دُخُولِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَغْنَى بِالْمُسْلِمِينَ عَنْهُمْ إذْ إنَّ غَيْرَهُمْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي فَرْشِهَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .

وَيَنْهَى النَّاسَ عَنْ إتْيَانِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِأَوْلَادِهِمْ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ أَوْ يُنْهَوْنَ عَنْهُ إذْ إنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى التَّشْوِيشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ حِينَ صَلَاتِهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ فِي صَلَاتِهِمْ وَيَبْكِي الصَّبِيُّ فَيُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ فَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ .
وَهَذَا إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مَعَ أَبِيهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ .
فَأَمَّا إنْ كَانَ مَعَ أُمِّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْغَالِبَ فِي مَوْضِعِ النِّسَاءِ أَنْ يَكُونَ بِالْبُعْدِ بِحَيْثُ لَا يُشَوِّشُ ذَلِكَ عَلَى الرِّجَالِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَوْلَادِ إذَا كَانُوا مَعَ أُمَّهَاتِهِمْ قَلَّ أَنْ يَبْكُوا بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَهَذَا إذَا دَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى صَلَاةِ الْمَرْأَةِ فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ كَانَ النِّسَاءُ يَخْرُجْنَ إلَى الْمَسْجِدِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُصَلِّينَ مَعَهُ جَمَاعَةً .
وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُخَفِّفُ صَلَاتَهُ إذَا سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مَخَافَةَ أَنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ } .
فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { لَوْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحَدَثَ النِّسَاءُ لَمَنَعَهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَهُ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ } الثَّانِي أَنَّ الصَّلَاةَ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوَازِيهَا شَيْءٌ وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ فُقِدَ فَإِذَا لَمْ تَخْرُجْ الْأُمُّ لِلصَّلَاةِ فَالْإِتْيَانُ بِالْأَوْلَادِ لِلْمَسْجِدِ دُونَ أُمَّهَاتِهِمْ يُمْنَعُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ جَهْرًا فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ يُشَوِّشُ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَالذَّاكِرِينَ فَهَذَا مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَنْهَى عَنْهُ وَيَزْجُرَ فَاعِلَهُ .

وَيَنْهَى النَّاسَ عَنْ كَتْبِهِمْ الْحَفَائِظَ فِي آخِرِ جُمُعَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ اللَّفْظِ الْأَعْجَمِيِّ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْهُ وَمَا يَدْرِيك لَعَلَّهُ كُفْرٌ .
الثَّانِي : أَنَّ فِيهِ اللَّغْوَ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالْكُتُبِ عَنْ سَمَاعِ الْخُطْبَةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِبِدْعَةٍ وَيَتْرُكُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْإِصْغَاءِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ هَلْ هُوَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ .
الْخَامِسُ : مَا أَحْدَثُوهُ عَنْ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا فِي الْمَسْجِدِ فَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ .
وَبَعْضُ النَّاسِ يَكْتُبُهَا بَعْدَ صَلَاةِ عَصْرِ الْجُمُعَةِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ أَيْضًا لَكِنَّهَا أَخَفُّ مِنْ الْبِدْعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا إذْ إنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ خُطْبَةٌ يَشْتَغِلُ عَنْهَا وَلَوْ كَتَبَهَا وَأَسْقَطَ مِنْهَا اللَّفْظَ الْأَعْجَمِيَّ وَلَمْ يَتَّخِذْ لِكِتَابَتِهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَيَنْهَى النِّسَاءَ عَمَّا أَحْدَثْنَهُ وَسُكِتَ لَهُنَّ عَنْهُ مِنْ دُخُولِهِنَّ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي مُؤَخِّرِ الْجَامِعِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُنَّ مَقْصُورَةٌ مَعْلُومَةٌ لَكِنَّهَا كَالْعَدَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ إذْ إنَّهَا لَا تَسْتُرهُنَّ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِنَّ خُرُوجُهُنَّ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ التَّحَلِّي وَاللِّبَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَوْضِعَهُنَّ فِي الزِّيَارَةِ قَدْ اسْتَغْنَيْنَ بِهِ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْقُرْبِ مِنْ الرِّجَالِ فَهُوَ أَلْيَقُ بِهِنَّ مَا لَمْ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْخَمِيسِ وَالْجَنَائِزِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ الْأَلْيَقُ بِهِنَّ بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يَخْرُجْنَ وَلَا يُمَكَّنَّ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ قَالُوا إنَّ صَلَاةَ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا وَحْدَهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ وَصَلَاتَهَا فِي مَخْدَعٍ فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا فَكَيْفَمَا زَادَ سَتْرُهَا وَانْحِجَابُهَا كَانَ أَفْضَلَ لِصَلَاتِهَا .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُمْكِنُهَا أَنْ تُصَلِّيَ فِي بَيْتِهَا مَعَ جَمَاعَةٍ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُجَاوِرُهَا وَهِيَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فَذَلِكَ أَفْضَلُ لَهَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلِذَلِكَ كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّينَ فِي بُيُوتِهِنَّ بِصَلَاةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَسْجِدِ

وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ دُخُولِ بَعْضِهِمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهْرًا يَرْفَعُ بِذَلِكَ صَوْتَهُ حِينَ دُخُولِهِ وَحِينَ خُرُوجِهِ وَيُجِيبُهُ بَعْضُ مَنْ يَسْمَعُ صَوْتَهُ مِمَّنْ فِي الْمَسْجِدِ وَيُسْمَعُ لَهُمْ ضَجِيجٌ قَوِيٌّ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ تِلْكَ الزَّعَقَاتِ فِيهِ وَلَوْ فُعِلَ ذَلِكَ فِي السُّوقِ أَوْ الطَّرِيقِ لَكَانَ جَائِزًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِحَسَبِ الْحَالِ وَأَمَّا فِي الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْهَى عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ إدْخَالِ الْمِرْآةِ فِي الْمَسْجِدِ لِقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الشَّيْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ فِعْلِهِمْ وَهَذَا يُمْنَعُ مِنْهُ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَاجْعَلُوا مَطَاهِرَكُمْ عَلَى أَبْوَابِ مَسَاجِدِكُمْ } وَإِذَا كَانَ الطُّهُورُ فِي الْمَسْجِدِ مَمْنُوعًا فَكَيْفَ يُدْخَلُ بِالْفَضَلَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَيُعْمَلُ فِيهِ الصَّنْعَةُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ نَسْخِ الْخَتْمَةِ أَوْ الْعِلْمِ فِي الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّسَبُّبِ فَكَيْفَ بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا وَالشَّعْرُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ عَفَشٌ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهُ .
هَذَا إذَا كَانَ الشَّعْرُ مَقْصُوصًا .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا يَقُصُّ شَارِبَهُ وَإِنْ أَخَذَهُ فِي ثَوْبِهِ وَأَكْرَهُ أَنْ يَتَسَوَّكَ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ أَنَّ مَا يَخْرُجُ مِنْ السِّوَاكِ يُلْقِيهِ فِي الْمَسْجِدِ .
قَالَ وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ فِي الْمَسْجِدِ قَالَ وَلْيَخْرُجْ لِفِعْلِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الطُّرْطُوشِيُّ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الشَّعْرُ بِأَصْلِهِ مِثْلَ نَتْفِ الشَّيْبِ فَإِنَّ الْحَيَاةَ تَحُلُّ أَصْلَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ الشَّعْرَةِ نَجِسًا وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْ وُقُوعِ الْقَمْلِ فِي الْمَسْجِدِ إمَّا حَيًّا وَإِمَّا مَيِّتًا وَكِلَاهُمَا يُمْنَعُ فِيهِ وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي تَرِدُ إلَيْهِ الْخَلْقُ كَثِيرًا .
وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ وَالنُّسُكِ وَقَدْ سَبَّلَ نَفْسَهُ عَلَى هَذِهِ الْحَسَنَةِ عَلَى زَعْمِهِ فَهُوَ قَاعِدٌ عَلَى بَابِ الْمِيضَأَةِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَأَيُّ غَرِيبٍ جَاءَ قَصَّ لَهُ أَظَافِرَهُ أَوْ شَارِبَهُ وَأَزَالَ شَعْرَهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَيُلْقِي كُلَّ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَقَدْ مَنَعَ مَالِكٌ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُهُ

وَيُخْرِجُهُ مِنْهُ فَكَيْفَ بِإِلْقَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هَذَا الْحَدَثِ زَرَعَ دَالِيَةَ عِنَبٍ فِي الْمَسْجِدِ فَأَطْعَمَتْ وَأَثْمَرَتْ وَبَقِيَ إذَا وَرَدَ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا أَخَذَ مِنْ عِنَبِهَا أَوْ حِصْرِمِهَا وَأَهْدَاهُ إلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ الْبَرَكَةِ وَحَصَّلَ بِهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا وَهَذَا النَّوْعُ مِمَّا أَحْدَثُوهُ كَثِيرًا فِي الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَاِتَّخَذُوا فِيهِ دَوَالِيَ عِنَبٍ وَخَزَائِنَ لِلسُّكْنَى وَهُوَ مَسْجِدٌ وَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسَاجِدَ الْمَهْجُورَةَ لَا يَجُوزُ سُكْنَاهَا وَلَا أَنْ يُحْدَثَ فِيهَا حَدَثٌ غَيْرُ مَا بُنِيَتْ لَهُ .

وَيَنْهَى الْبَيَّاعِينَ لِلْقُضَامَةِ وَغَيْرِهَا فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَعَلَى أَبْوَابِهِ وَفِي الزِّيَادَةِ إذْ إنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُصَلِّيًا يُمْسِكُ بِهَا أَكْثَرَ مِنْ مَوْضِعَيْنِ فَيَكُونُ غَاصِبًا لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ حِينَ الصَّلَاةِ كَمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرُ الْمُصَلِّي مِنْهُمْ يَتَعَيَّنُ أَدَبُهُ وَزَجْرُهُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُضَيِّقُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَرِيقَهُمْ وَالثَّانِي أَنَّهُ تَارِكٌ لِلصَّلَاةِ وَتَارِكُ الصَّلَاة قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ هَلْ هُوَ مُرْتَدٌّ أَوْ مُرْتَكِبٌ كَبِيرَةً سِيَّمَا إنْ كَانَتْ صَلَاةَ جُمُعَةٍ فَذَلِكَ أَعْظَمُ .
وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ مِمَّنْ يَبِيعُ الْحَلَاوَةَ أَوْ اللَّحْمَ أَوْ الْمَشْمُومَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُضَيِّقُ بِهِ طَرِيقَ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ دُكَّانٍ لَهَا مَسْطَبَةٌ خَارِجَةٌ فِي شَارِعِ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يُمْنَعَ وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يَهْدِمَ الْمَسَاطِبَ الْمُلَاصِقَةَ لِجِدَارِ الْمَسَاجِدِ إذْ إنَّ ذَلِكَ طَرِيقٌ لِلْمُصَلِّينَ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .

( فَصْلٌ ) وَيَنْهَى الزَّبَّالِينَ أَنْ يَعْمَلُوا فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ سِيَّمَا وَقْتُ إتْيَانِ النَّاسِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِأَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ أَمَرَ بِالتَّنْظِيفِ لَهَا بِالْغُسْلِ وَلُبْسِ النَّظِيفِ مِنْ الثِّيَابِ وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا فَعَلَ الْمُكَلَّفُ مَا أَمَرَهُ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَخَرَجَ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ لَقِيَ الزَّبَّالِينَ فِي طَرِيقِهِ فَيُفْسِدُونَ عَلَيْهِ هَيْئَتَهُ لَهَا وَهَذَا ضَرَرٌ كَثِيرٌ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } فَيَنْهَى عَنْ ذَلِكَ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ لِأَنَّهُ مُؤْذٍ .
وَقَدْ وَرَدَ { كُلُّ مُؤْذٍ فِي النَّارِ }

وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ وُقُوفِ الدَّوَابِّ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ لِأَنَّهُمْ يُضَيِّقُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَرِيقَهُمْ إلَيْهِ وَيَرُوثُونَ بِهَا وَيَبُولُونَ عَلَى أَبْوَابِهِ وَيَمْشِي النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ بِأَقْدَامِهِمْ وَيَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ فَيُنَجِّسُونَ بِهَا مَا أَصَابَتْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ وَفِي وُقُوفِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ أَذِيَّةٌ كَثِيرَةٌ سِيَّمَا لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَالْأَعْمَى وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ الَّذِينَ هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْجُمُعَةِ بَلْ رُبَّمَا أُذُوا بِالرَّفْسِ وَالْكَدْمِ الْأَصِحَّاءَ فَكَيْفَ بِمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الشُّيُوخِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الضُّعَفَاءِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ لِوُقُوفِ الدَّوَابِّ سِيَّمَا لِأَجْلِ الْغِلْمَان الْمُمْسِكِينَ لِتِلْكَ الدَّوَابِّ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ مُعَدَّةٌ لِجَعْلِ الدَّوَابِّ فِيهَا كَالْفَنَادِقِ وَالْإِصْطَبْلَاتِ وَغَيْرِهَا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَوَاضِعُ لَكَانَ يَتَعَيَّنُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَنَّهُ إذَا أَتَى بِهَا إلَى الْمَسْجِدِ يُرْسِلُهَا إلَى مَوْضِعِهَا الَّتِي كَانَتْ فِيهِ وَيُخْبِرُ مَنْ يَأْتِيهِ بِهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَحْتَاجُهَا فِيهِ فَتَنْحَسِمُ مَادَّةُ الضَّرَرِ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْهَى الْبَيَّاعِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ وَالنَّاسُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي سَمَاعِ الْخَطِيبِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ إذْ إنَّهُ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ حُرِّمَ حِينَئِذٍ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ وَبَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَكُونُ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ إلَى انْقِضَاءِ الصَّلَاةِ وَهُمْ يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ وَلَا يَسْتَحْيُونَ .

وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ صَلَاتِهِمْ الْجُمُعَةَ فِي الدَّكَاكِينِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَصِحُّ عِنْدَهُ فِي مَوْضِعٍ مَحْجُورٍ .
وَإِنَّمَا تَصِحُّ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الطُّرُقِ الْمُتَّصِلَةِ بِهِ إنْ تَعَذَّرَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَبَعْضُهُمْ يَأْتِي إلَى الْجُمُعَةِ فَيَقْعُدُ فِي الدُّكَّانِ يَنْتَظِرُ إقَامَةَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْمَسْجِدُ بَعْدُ لَمْ يَمْتَلِئْ بِالنَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ .

وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْإِتْيَانِ لِلْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ وَلَا تَغْيِيرِ هَيْئَةٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ كَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُؤَكِّدَ الْأَمْرَ لِصَاحِبِهِ يَقُولُ لَهُ وَلَا تَكُنْ مِمَّنْ يَتْرُكُ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ وَكَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَتَسَابُّونَ فَيَقُولُونَ لَأَنْتَ شَرٌّ مِمَّنْ لَا يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ إنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ } وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ أَوْ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالُوا فِيمَنْ تَرَكَ الْوَتْرَ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ سُنَّةً وَلِلِاخْتِلَافِ فِيهِ أَيْضًا هَلْ هُوَ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ أَوْ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ وَمَا يُوجِبُ فِسْقَ تَارِكِهِ فَجَدِيرٌ أَنْ يُحَافَظَ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُتْرَكُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَبَعْضُ النَّاسِ قَدْ أَهْمَلُوا ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ بَيْنَهُمْ أَعْنِي عِنْدَ أَكْثَرِ الْعَامَّةِ ، وَعِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ حِكَايَةٌ تُحْكَى حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِالْغُسْلِ لَهَا .

وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا تَرَكُوهُ مِنْ لُبْسِ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ لَهَا وَاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ سُنَنِهَا الْمُؤَكَّدَةِ أَيْضًا .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَلْيَتَطَيَّبْ بِأَطْيَبِ طِيبِهِ مِمَّا ظَهَرَ رِيحُهُ وَخَفِيَ لَوْنُهُ فَذَلِكَ طِيبُ الرِّجَالِ وَطِيبُ النِّسَاءِ مَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَخَفِيَ رِيحُهُ انْتَهَى .
وَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَهُوَ عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ حَتَّى إنَّكَ لَتَجِدُ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ فِي الدَّرْسِ أَوْ فِي دُكَّانِهِ أَوْ حِينَ اجْتِمَاعِهِ بِأَحَدِ الْقُضَاةِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَرْبَابِ الْمَنَاصِبِ عَلَى هَيْئَةٍ مِنْ ثِيَابٍ وَرَائِحَةِ طِيبٍ وَغَيْرِهِمَا وَتَجِدُهُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ عَلَى هَيْئَةٍ دُونَهَا وَسَبَبُ هَذَا تَعْظِيمُ الدُّنْيَا فِي الْقُلُوبِ وَالتَّهَاوُنُ بِشَعَائِر الدِّينِ وَالْغَفْلَةُ بِسَبَبِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ .
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ لُبْسِ الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ هُوَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ ذَلِكَ عَلَى مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَكَانُوا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ أَثْمَانُ أَثْوَابِهِمْ الْقُمُصُ كَانَتْ مِنْ الْخَمْسَةِ إلَى الْعَشَرَةِ فَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْأَثْمَانِ وَكَانَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَخِيَارُ التَّابِعِينَ قِيمَةُ ثِيَابِهِمْ مَا بَيْنَ الْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ وَكَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَكْرَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ الثِّيَابِ مَا يُجَاوِزُ قِيمَتُهُ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إلَى الْمِائَةِ وَيَعُدُّهُ سَرَفًا فِيمَا جَاوَزَهَا انْتَهَى .
فَعَلَى هَذَا فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَهُمْ اللَّهُمَّ إلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ دَفْعِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ الْجَائِزِ أَوْ الْمَنْدُوبِ أَوْ الْوَاجِبِ بِحَسَبِ الْحَالِ .

فَإِذَا نَبَّهَ الْإِمَامُ عَلَى هَذَا وَحَضَّ عَلَى فِعْلِهِ وَقَبَّحَ تَرْكَهُ تَنَبَّهَ النَّاسُ لِمَا ارْتَكَبُوهُ فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا أَوْ بَعْضُهُمْ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الرُّكُوعِ بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ لِلْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
لِأَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَرْكَعُ حِينَ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَصْعَدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا جَلَسَ عَلَيْهِ قَطَعُوا تَنَفُّلَهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَرْكَعُ وَيَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ وَلَمْ يُحْدِثُوا رُكُوعًا بَعْدَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ وَلَا غَيْرِهِ فَلَا الْمُتَنَفِّلُ يَعِيبُ عَلَى الْجَالِسِ وَلَا الْجَالِسُ يَعِيبُ عَلَى الْمُتَنَفِّلِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا هُمْ الْيَوْمَ يَفْعَلُونَهُ فَإِنَّهُمْ يَجْلِسُونَ حَتَّى إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَامُوا لِلرُّكُوعِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَذَا وَقْتٌ يَجُوزُ فِيهِ الرُّكُوعُ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ قَالَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ لِمَنْ شَاءَ } .
فَالْجَوَابُ أَنَّ السَّلَفَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَفْقَهُ بِالْحَالِ وَأَعْرَفُ بِالْمَقَالِ فَمَا يَسَعُنَا إلَّا اتِّبَاعُهُمْ فِيمَا فَعَلُوهُ وَهَذَا عَلَى قَاعِدَةِ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ اتِّبَاعَ السَّلَفِ أَوْلَى ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ الرُّكُوعُ إنَّمَا هُوَ لِلْجُمُعَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي هَذَا مَا كَانَ السَّلَفُ يَفْعَلُونَهُ مِنْ رُكُوعِهِمْ الْمُتَقَدِّمُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ وَقْتَ الْجُمُعَةِ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ هَلْ هُوَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَوْ مِنْ الزَّوَالِ فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي جَمَاعَةٍ إلَى أَنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِذَا كَانَ الْخِلَافُ فِي وَقْتِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا تَأَكَّدَ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِ السَّلَفِ الْمُتَقَدِّمِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَعَلَى مَا قَرَّرْتُمُوهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ رَكَعَ وَجَلَسَ يَنْتَظِرُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَرْكَعُ وَهَذَا جَائِزٌ

فَكَيْفَ تَمْنَعُونَهُ .
فَالْجَوَابُ إنَّا لَا نَمْنَعُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتٌ يَجُوزُ فِيهِ الرُّكُوعُ لِمَنْ أَرَادَهُ وَإِنَّمَا الْمَنْعُ عَنْ اتِّخَاذِ ذَلِكَ عَادَةً بَعْدَ الْأَذَانِ لَا قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَذَانَ الْمَفْعُولَ الْيَوْمُ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَإِنَّمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَالْأَذَانُ الَّذِي فُعِلَ فِي السُّوقِ وَالرُّكُوعُ لِلْجُمُعَةِ لَا يَكُونُ فِي السُّوقِ وَمَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَسْمَعُهُ حَتَّى يَرْكَعَ عِنْدَهُ .
ثُمَّ إنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ هِشَامًا لَمَّا أَنْ نَقَلَهُ كَانُوا يَرْكَعُونَ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّا لَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّ فِعْلَ هِشَامٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .
فَإِنْ قَالَ الْإِمَامُ مَثَلًا إنَّ النَّاسَ لَا يَرْجِعُونَ إلَيْهِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ رِجَالٌ يَأْمُرُونَ وَيَنْهَوْنَ حَتَّى تُزَالَ بِهِمْ الْحُرْمَةُ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ هُمْ رِجَالُهُ وَجُنْدُهُ وَحِزْبُهُ { أَلَا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } فَإِنْ قَالَ مَثَلًا إنَّ النَّاسَ لَا يَرْجِعُونَ بِذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ إنَّهُمْ إنْ لَمْ يَرْجِعُوا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَصِّلَ كُلَّ ذَلِكَ لِلْمُحْتَسِبِ فَيَمْنَعُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ بِالْيَدِ الْقَوِيَّةِ ، فَإِنْ فَعَلَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ غَيْرِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْإِمَامِ وَأَمَّا قَبْلَ إيصَالِ ذَلِكَ فَإِنَّ الذِّمَّةَ لَا تَبْرَأُ لِأَجْلِ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَمَا حَوْلَهُ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ رَعِيَّةِ الْإِمَامِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَعِيَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا ذُكِرَ كُلِّهِ

بِشَرْطٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .

وَكَذَلِكَ يَنْظُرُ فِي أَمْرِ الْمُؤَذِّنِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَذَانُ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ } فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى فَضِيلَةِ الْمُؤَذِّنِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مِنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمُؤَذِّنُ وَالْإِمَامُ كُلُّ مَا ذُكِرَ فَهُوَ مِنْ رَعِيَّتِهِمَا مَعًا فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَقْوَى وَأَفْضَلَهُمْ وَأَوْرَعَهُمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ إنْ اجْتَمَعَتْ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اجْتِمَاعُهَا فَأَكْثَرُهَا فَيَتَّخِذُ مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ مُؤَذِّنًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شُرُوطُ الْمُؤَذِّنِ فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهَا لَكِنْ بَقِيَتْ الْأَوْصَافُ الْمَنْدُوبُ إلَيْهَا فِيهِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَيُكْرَهُ لَهُ التَّطْرِيبُ فِي الْأَذَانِ وَكَذَلِكَ التَّحْزِينُ وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ إمَالَةُ حُرُوفِهِ وَإِفْرَاطُ الْمَدِّ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ .

فَصْلٌ فِي مَوْضِعِ الْأَذَانِ وَمِنْ السُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ أَنْ يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى بَابِهِ .
وَكَانَ الْمَنَارُ عِنْدَ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِنَاءً يَبْنُونَهُ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ كَهَيْئَتِهِ الْيَوْمِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ أَحْدَثُوا فِيهِ أَنَّهُمْ عَمِلُوهُ مُرَبَّعًا عَلَى أَرْكَانٍ أَرْبَعَةٍ وَكَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مُدَوَّرًا وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ الْبُيُوتِ خِلَافًا لِمَا أَحْدَثُوهُ الْيَوْمَ مِنْ تَعْلِيَةِ الْمَنَارِ .
وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : مُخَالَفَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَكْشِفُ عَلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ صَوْتَهُ يَبْعُدُ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ وَنِدَاؤُهُ إنَّمَا هُوَ لَهُمْ وَقَدْ بَنَى بَعْضُ الْمُلُوكِ فِي الْمَغْرِبِ مَنَارًا زَادَ فِي عُلُوِّهِ فَبَقِيَ الْمُؤَذِّنُ إذَا أَذَّنَ لَا يَسْمَعُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَحْتَهُ صَوْتَهُ .
وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَنَارُ تَقَدَّمَ وُجُودُهُ بِنَاءَ الدَّارِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدُّورُ مَبْنِيَّةً ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ الْمَنَارَ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَكْشِفُ عَلَيْهِمْ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمَنَارِ وَالدُّورِ سِكَكٌ وَبُعْدٌ بِحَيْثُ إنَّهُ إذَا طَلَعَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْمَنَارِ وَرَأَى النَّاسَ عَلَى أَسْطِحَةِ بُيُوتِهِمْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا كَانَ الْمَنَارُ أَعْلَى مِنْ الْبُيُوتِ قَلِيلًا أَسْمَعَ النَّاسَ إذْ إنَّهُ يَعُمُّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُرْتَفِعًا كَثِيرًا وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْأَذَانِ أَنْ يُؤَذِّنَ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ ، فَإِنْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً فَيُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي أَوْقَاتُهَا مُمْتَدَّةٌ فَيُؤَذِّنُونَ فِي الظُّهْرِ مِنْ الْعَشَرَةِ إلَى الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَفِي الْعَصْرِ

مِنْ الثَّلَاثَةِ إلَى الْخَمْسَةِ وَفِي الْعِشَاءِ كَذَلِكَ وَالصُّبْحِ يُؤَذِّنُونَ لَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ سُدُسِ اللَّيْلِ الْآخِرِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي كُلِّ ذَلِكَ يُؤَذِّنُ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ وَالْمَغْرِبِ لَا يُؤَذِّنُ لَهَا إلَّا وَاحِدٌ لَيْسَ إلَّا .

فَصْلٌ فِي الْأَذَانِ جَمَاعَةً فَإِنْ كَثُرَ الْمُؤَذِّنُونَ فَزَادُوا عَلَى عَدَدِ مَا ذُكِرَ وَكَانُوا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ الثَّوَابَ وَخَافُوا أَنْ يَفُوتَهُمْ الْوَقْتُ وَلَمْ يَسَعْهُمْ الْجَمِيعُ إنْ أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَمَنْ سَبَقَ مِنْهُمْ كَانَ أَوْلَى ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِيهِ فَإِنَّهُمْ يُؤَذِّنُونَ الْجَمِيعَ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَمِنْ شَرْطِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الرَّوْضَةِ لَهُ فِي بَابِ الْأَذَانِ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِذَا تَرَتَّبَ لِلْأَذَانِ اثْنَانِ فَصَاعِدًا فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَتَرَاسَلُوا بَلْ إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ تَرَتَّبُوا فِيهِ ، فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي الِابْتِدَاءِ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ ضَاقَ الْوَقْتُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ كَبِيرًا أَذَّنُوا مُتَفَرِّقِينَ فِي أَقْطَارِهِ وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا وَقَفُوا مَعًا وَأَذَّنُوا وَهَذَا إنْ لَمْ يُؤَدِّ اخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ إلَى تَشْوِيشٍ ، فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِ لَمْ يُؤَذِّنْ إلَّا وَاحِدٌ ، فَإِنْ تَنَازَعُوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ انْتَهَى .
وَأَذَانُهُمْ جَمَاعَةً عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الْمُخَالِفَةِ لِسُنَّةِ الْمَاضِينَ وَالِاتِّبَاعُ فِي الْأَذَانِ وَغَيْرِهِ مُتَعَيِّنٌ وَفِي الْأَذَانِ آكَدُ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ أَعْلَامِ الدِّينِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ قَوْمًا أَمْهَلَ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ سَمِعَ الْأَذَانَ تَرَكَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ ؛ وَلِأَنَّ فِي الْأَذَانِ جَمَاعَةً جُمْلَةُ مَفَاسِدَ .
مِنْهَا : مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ .
الثَّانِي : أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ فِي الْأَذَانِ خَفِيَ أَمْرُهُ فَلَا يُسْمَعُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْجَمَاعَةِ إذَا

أَذَّنُوا عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ لَا يَفْهَمُ السَّامِعُ مَا يَقُولُونَ وَالْمُرَادُ بِالْأَذَانِ إنَّمَا هُوَ نِدَاءُ النَّاسِ إلَى الصَّلَاةِ فَذَهَبَتْ فَائِدَةُ مَعْنَى قَوْلِهِ : حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ بَعْضَهُمْ يَمْشِي عَلَى صَوْتِ بَعْضٍ وَالْمُرَادُ بِالْأَذَانِ أَنْ يَرْفَعَ الْإِنْسَانُ بِهِ صَوْتَهُ مَهْمَا أَمْكَنَهُ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُهُ فِي الْجَمَاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ لَا يَأْتِي بِالْأَذَانِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَنَفَّسَ فِي أَثْنَائِهِ فَيَجِدُ غَيْرَهُ قَدْ سَبَقَهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فَيَتْرُكُ مَا فَاتَهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُوَافِقُهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ قَدْ مَضَتْ عَادَةُ الْمُؤَذِّنِ عَلَى السُّنَّةِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ عَمِلَ الْحُسْنَ مِنْ تَنَحْنُحٍ أَوْ كَلَامٍ مَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُشْعِرُ بِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُؤَذِّنَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَشْرَعُ فِي الْأَذَانِ هَذَا وَهُوَ مُؤَذِّنٌ وَاحِدٌ فَكَيْفَ بِالْجَمَاعَةِ وَمَا ذَاكَ إلَّا خِيفَةَ أَنْ يُؤَذِّنَ وَمَنْ حَوْلَهُ عَلَى غَفْلَةٍ فَقَدْ يَحْصُلُ بِسَبَبِهِ لِبَعْضِهِمْ رَجْفَةٌ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ فَمَا بَالُكَ بِجَمَاعَةٍ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عَلَى بَغْتَةٍ .
وَقَدْ تَكُونُ حَامِلٌ فَتَأْخُذُهَا الرَّجْفَةُ بِذَلِكَ فَتُسْقِطَ وَتَرْتَجِفُ بِذَلِكَ الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ ثَابِتٌ وَتَشْوِيشُهُمْ كَثِيرٌ قَلَّ أَنْ يَنْحَصِرَ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ الْأَذَانَ جَمَاعَةً هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَجَعَلَ الْمُؤَذِّنِينَ الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ عَلَى الْمَنَارِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُؤَذِّنُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَمِيعًا إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَخَذَ الْأَذَانَ الَّذِي زَادَهُ

عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ كَثُرَ النَّاسُ وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَذِّنًا وَاحِدًا فَجَعَلَهُ عَلَى الْمَنَارِ فَهَذَا الَّذِي أَحْدَثَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ كَانُوا فِيمَنْ قَبْلَهُ يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ شَيْئًا ثُمَّ أَحْدَثُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى الثَّلَاثَةِ جَمْعًا كَثِيرًا كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ .
وَكَذَلِكَ زَادُوا عَلَى الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ عَلَى الْمَنَارِ فَجَعَلُوهُمْ جَمَاعَةً وَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَالثَّوَابُ لَا يَكُونُ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ لَا بِالِابْتِدَاعِ وَإِنْ كَانَ لِأَخْذِ الْجَامِكِيَّةِ فَالْجَامِكِيَّةُ لَا تُصْرَفُ فِي بِدْعَةٍ كَمَا أَنَّهُ يُكْرَهُ الْوَقْفُ عَلَيْهَا ابْتِدَاءً وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ فَمَفَاسِدُهُ لَا تَنْحَصِرُ فِي الْغَالِبِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ .

فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ بِالْأَلْحَانِ وَلْيَحْذَرْ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُؤَذِّنَ بِالْأَلْحَانِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَمَّا أَحْدَثُوا فِيهِ مِمَّا يُشْبِهُ الْغِنَاءَ وَهَذَا مَا لَمْ يَكُنْ فِي جَمَاعَةٍ يَطْرَبُونَ تَطْرِيبًا يُشْبِهُ الْغِنَاءَ حَتَّى لَا يُعْلَمُ مَا يَقُولُونَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْأَذَانِ إلَّا أَصْوَاتٌ تَرْتَفِعُ وَتَنْخَفِضُ وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ أَحْدَثَهَا بَعْضُ الْأُمَرَاءِ بِمَدْرَسَةٍ بَنَاهَا ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا وَهَذَا الْأَذَانُ هُوَ الْمَعْمُولُ بِهِ فِي الشَّامِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهِيَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ إذْ إنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ النِّدَاءُ إلَى الصَّلَاةِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْهِيمِ أَلْفَاظِهِ لِلسَّامِعِ وَهَذَا الْأَذَانُ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ شَيْءٌ لِمَا دَخَلَ أَلْفَاظَهُ مِنْ شِبْهِ الْهُنُوكِ وَالتَّغَنِّي .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ } وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ { كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُؤَذِّنٌ يُطْرِبُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ الْأَذَانَ سَهْلٌ سَمْحٌ ، فَإِنْ كَانَ أَذَانُكَ سَهْلًا سَمْحًا وَإِلَّا فَلَا تُؤَذِّنْ } أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ التَّلْحِينُ فِي الْأَذَانِ وَهُوَ مِنْ الْبَغْيِ فِيهِ وَالِاعْتِدَاءِ .
قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ لِابْنِ عُمَرَ إنِّي لَأُحِبّكَ فِي اللَّهِ فَقَالَ لَهُ لَكِنِّي أَبْغَضُكَ فِي اللَّهِ فَقَالَ وَلِمَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ لِأَنَّكَ تَبْغِي فِي أَذَانِكَ وَتَأْخُذُ عَلَيْهِ أُجْرَةً .
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْآجُرِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ خَرَجْتُ مِنْ بَغْدَادَ وَلَمْ يَحْلُ لِي الْمَقَامُ بِهَا قَدْ ابْتَدَعُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَفِي الْأَذَانِ يَعْنِي الْإِجَارَةَ وَالتَّلْحِينَ

انْتَهَى .
وَالْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ حَيْثُ يَرُدُّونَ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَوْنِهِ يَأْخُذُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالرُّجُوع إلَيْهِمْ ثُمَّ إنَّهُمْ يُسْتَدَلُّونَ عَلَى جَوَاز هَذَا الْأَذَانِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ مِمَّا مَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَى أَنَّ الْقَاعِدَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا حَدَثَ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلَا يُقْتَدَى بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيْطَانِ } وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ وَمَا حَدَثَ بِالشَّامِ إلَّا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْبِدْعَةِ إذَا حَدَثَتْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا بَلْ يَضُمُّ إلَيْهَا بِدَعًا أَوْ مُحَرَّمَاتٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَا أَنْ أَحْدَثُوا هَذَا الْأَذَانَ تَعَدَّتْ بِدْعَتُهُ إلَى مُحَرَّمٍ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ الْمَأْمُومِينَ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ بِتِلْكَ الْأَلْحَانِ وَذَلِكَ كَلَامٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ لَا لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ بِذَلِكَ وَإِذَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُمْ سَرَى ذَلِكَ إلَى فَسَادِ مَنْ ائْتَمَّ بِتَسْمِيعِهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاقْتِدَاءُ إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ عُدِمَتْ فَلَا ائْتِمَامَ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَنْ يَرَى أَفْعَالَ الْإِمَامِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَرُؤْيَةُ أَفْعَالِ الْمَأْمُومِينَ فَإِنْ تَعَذَّرَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِمْ وَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا فِي صَلَاةٍ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّسْمِيعِ جَمَاعَةً بِالْأَلْفَاظِ الْمَفْهُومَةِ فَإِنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى بِتَسْمِيعِهِمْ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي صَلَاتِهِمْ هَلْ هِيَ صَحِيحَةٌ أَوْ فَاسِدَةٌ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ

فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ الْأَذَانِ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ لِلْأَذَانِ ثَلَاثَةَ مَوَاضِعَ الْمَنَارُ وَعَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَعَلَى بَابِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَمْنَعُ مِنْ الْأَذَانِ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي جَوْفِهِ .
وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَلَا تَكُونُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا هُوَ نِدَاءٌ لِلنَّاسِ لِيَأْتُوا إلَى الْمَسْجِدِ وَمَنْ كَانَ فِيهِ فَلَا فَائِدَةَ لِنِدَائِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ وَمَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ غَالِبًا .
وَإِذَا كَانَ الْأَذَانُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا فَائِدَةَ لَهُ وَمَا لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ يُمْنَعُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْأَذَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِيهِ تَشْوِيشٌ عَلَى مَنْ هُوَ فِيهِ يَتَنَفَّلُ أَوْ يَذْكُرُ أَوْ يَفْعَلُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي بُنِيَ الْمَسْجِدُ لِأَجْلِهَا وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيُمْنَعُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ جَرَّتْ أَيْضًا إلَى بِدَعٍ أُخُرَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْ أَحْدَثُوا الْأَذَانَ فِي الْمَسْجِدِ اقْتَدَى الْعَوَامُّ بِهِمْ فَصَارَ كُلُّ مَنْ خَطَرَ لَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ قَامَ وَأَذَّنَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْغَالِبُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ أَنَّهُمْ لَا يُحْسِنُونَ النُّطْقَ بِأَلْفَاظِ الْأَذَانِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ وَيَنْقُصُونَ وَيَكْثُرُ التَّخْلِيطُ حَتَّى إنَّ بَعْضَ الصِّبْيَانِ الصِّغَارِ لَيُؤَذِّنُونَ فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ تَغْيِيرِ الْأَذَانِ وَبَيْنَ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُتَعَبِّدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَشَيْءٌ يَجْمَعُ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُجَنَّبَ بَيْتُ اللَّهِ مِنْهُ

فَصْلٌ فِي الطَّوَافِ بِالْمُؤَذِّنِ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذَا مَاتَ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الطَّوَافِ بِأَحَدِهِمْ فِي أَرْكَانِ الْمَسْجِدِ إذَا مَاتَ وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ بِتِلْكَ الْأَصْوَاتِ الْمُزْعِجَةِ حِينَ يَطُوفُونَ بِهِ فِيهِ .
وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ قَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ يُدْخَلُ بِالْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَمَا بَالُكَ بِمَا لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا سُنَّةٍ بَلْ لِلْعَبَثِ وَالْبِدْعَةِ وَإِقَامَتُهُ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَطُوفُونَ بِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ اتِّفَاقًا .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَمَّا أَنْ صُلِّيَ عَلَيْهِ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى إبْقَائِهِ فِي الْمَسْجِدِ ، الثَّالِثُ : أَنَّ فِيهِ تَأْخِيرَ دَفْنِهِ وَمِنْ إكْرَامِ الْمَيِّتِ الْإِسْرَاعُ بِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْمُتَّبِعِينَ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَتَوْا بِالْمَيِّتِ إلَى الْمَسْجِدِ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَدَأَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَقَالَ لِأَهْلِهِ : اذْهَبُوا إلَى دَفْنِهِ وَلَا جُمُعَةَ عَلَيْكُمْ إنْ لَمْ تُدْرِكُوهَا بَعْدَ ذَلِكَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْفَضَلَاتِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ الَّذِي يَطُوفُونَ بِهِ فِيهِ فَيَذْهَبُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ أُمِرْنَا بِغَسْلِهِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ فِيهِ تَشْوِيشًا عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذَا نَوْعٌ مِمَّا أَحْدَثَ بَعْضُ الشُّرَفَاءِ فِي الْحِجَازِ وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا مَاتَ لَهُمْ مَيِّتٌ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا فَيَدْخُلُونَ بِهِ الْمَسْجِدَ فَيَطُوفُونَ بِهِ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ سَبْعًا وَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ وَالْأُمُورِ الْحَادِثَةِ .
وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ أَجْلِ الطَّائِفِينَ بِالْبَيْتِ وَحُرْمَةِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ عَلَى غَيْرِهِ وَبُعْدِ الْمَسَافَةِ فِي الدُّخُولِ إلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .

فَصْلٌ فِي أَذَانِ الشَّابِّ عَلَى الْمَنَارِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ أَذَانِ الشَّابِّ عَلَى الْمَنَارِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوْصَافِ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَتْقَاهُمْ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فِي الشَّابِّ .
وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَذِّنِ الَّذِي يَصْعَدُ عَلَى الْمَنَارِ أَنْ يَكُونَ مُتَزَوِّجًا لِأَنَّهُ أَغَضُّ لِطَرْفِهِ وَالْغَالِبُ فِي الشَّابِّ عَدَمُ ذَلِكَ وَالْمَنَارُ لَا يَصْعَدُهُ إلَّا مَأْمُونُ الْغَائِلَةِ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ بِمَدِينَةِ فَاسَ وَكَانَ يَصْحَبُ إمَامَ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هُنَاكَ وَكَانَ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدٌ حَسَنُ الصَّوْتِ فَطَلَبَ مِنْ الْإِمَامِ أَنْ يَأْذَنَ لِوَلَدِهِ فِي الصُّعُودِ عَلَى الْمَنَارِ لِيُؤَذِّنَّ فِيهِ فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ وَلِمَ تَمْنَعُهُ قَالَ إنَّ الْمَنَارَ لَا يَصْعَدُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا إلَّا مَنْ شَابَ ذِرَاعَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الطَّعْنِ فِي السِّنِّ فَرَغَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَامْتَنَعَ مِنْهُ ، وَقَالَ أَتُرِيدُ أَنْ تُحْدِثَ الْفِتْنَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ تَرَاهُ امْرَأَةٌ فَتَشْغَفُ بِهِ وَكَذَلِكَ هُوَ أَيْضًا قَدْ يَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ الصَّبْرُ عَنْهُ فَتَقَعُ الْفِتَنُ أَقَلُّ مَا فِيهِ شَغْلُ الْقُلُوبِ بِشَيْءٍ كَانُوا عَنْهُ فِي غِنًى .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ كَيْفَ كَانَ تَحَرُّزُهُمْ فِي هَذَا الْعَهْدِ الْقَرِيبِ وَكَيْفَ هُوَ الْحَالُ الْيَوْمَ .
هَذَا وَهُمْ يُؤَذِّنُونَ الْأَذَانَ الشَّرْعِيَّ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا تَمْيِيلٍ وَلَا تَصَنُّعٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ إذَا كَانَ عَلَى الْمَنَارِ .
وَأَمَّا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ عَلَى سَطْحِهِ إنْ أَمِنَ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى أَحَدٍ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَمَّا أَحْدَثُوهُ بِاللَّيْلِ مِنْ غَيْرِ السُّنَّةِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْبِيحِ بِاللَّيْلِ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى حَسَنًا سِرًّا وَعَلَنًا لَكِنْ لَا فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي تَرَكَهَا الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا شَيْئًا مَعْلُومًا .
وَقَدْ رَتَّبَ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لِلصُّبْحِ أَذَانًا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَذَانًا عِنْدَ طُلُوعِهِ وَإِنْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يُؤَذِّنُونَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لَكِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْإِخْفَاءِ لِتَرْكِهِمْ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ حَتَّى لَا يُسْمَعَ .
وَهَذَا ضِدُّ مَا شُرِعَ الْأَذَانُ لَهُ لِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا شُرِعَ لِإِعْلَامِ النَّاسِ بِالْوَقْتِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ } وَقَدْ وَرَدَ أَذَانُ بِلَالٍ كَانَ يُنَوِّمُ الْيَقْظَانَ وَيُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ أَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ فَإِذَا سَمِعَ أَذَانَ بِلَالٍ نَامَ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ رَاحَةٌ وَنَشَاطٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ وَإِنْ كَانَ نَائِمًا فَإِذَا سَمِعَ أَذَانَ بِلَالٍ قَامَ وَتَطَهَّرَ وَأَدْرَكَ وِرْدَهُ مِنْ اللَّيْلِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَذَانِ لِلصُّبْحِ مَتَى يَكُونُ فَقِيلَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ الْأَوَّلِ وَقِيلَ مِنْ أَوَّلِ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ وَقِيلَ السُّدُسُ الْأَخِيرُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ كُلُّهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مَحَلًّا لِلْأَذَانِ فِيهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالُوا إنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يُرَتَّبُونَ فِي أَذَانِهِمْ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِ الْوَقْتِ الَّذِي هُمْ فِيهِ حَتَّى يَتَهَيَّئُوا لِلْعِبَادَةِ فَيُرَتَّبُ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى حَسَبِ مَا يَسَعُ الْوَقْتُ مِنْ عَدَدِهِمْ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ لِكَيْ يَكُونَ وَقْتُ أَذَانِ كُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مَعْلُومًا لَا

يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَّرُهُ فَيَكُونُ النَّاسُ يَعْرِفُونَ بِالْعَادَةِ الْأَوَّلَ وَالثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَهَكَذَا إلَى الْمُؤَذِّنِ الْآخِرِ الَّذِي يُؤَذِّنُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَهُوَ الرَّئِيسُ صَاحِبُ الْوَقْتِ فَيَنْضَبِطُ الْوَقْتُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَيَعْرِفُ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ كَمْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِمَّا يَسَعُ الْغُسْلَ أَوْ الْوُضُوءَ أَوْ الْوِرْدَ أَوْ الِاسْتِبْرَاءَ وَغَيْرَ ذَلِكَ فَيَتِمَّ النِّظَامُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ هُوَ أَضْبَطُ حَالًا وَأَكْثَرُ ثَوَابًا لِأَجْلِ الِاتِّبَاعِ بِخِلَافِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْبِيحِ وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ حَتَّى إنَّ بَعْضَهُمْ لَيَنْدُبُ الْأَطْلَالَ بِصَوْتٍ فِيهِ تَحْزِينٌ يَقْرُبُ مِنْ النَّوْحِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْيَانِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْرِفُ النَّاسُ فِي الْغَالِبِ أَيَّ وَقْتٍ هُمْ فِيهِ مِنْ اللَّيْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ سِيَّمَا وَهُمْ قَدْ أَحْدَثُوا زِيَادَةً عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّهُ إذَا قَرُبَ طُلُوعُ الْفَجْرِ سَكَتُوا سَكْتَةً طَوِيلَةً ثُمَّ يُؤَذِّنُونَ فَمَنْ أَفَاقَ فِي حَالِ سُكُوتِهِمْ فَقَدْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهُ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ بَعْدُ فَيَقَعُ بِذَلِكَ الْغَرَرُ لِبَعْضِ النَّاسِ .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْأَذَانِ الْأَوَّلِ لِلصُّبْحِ الَّذِي قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَيُخْفُونَ ذَلِكَ فَإِذَا فَرَغُوا مِنْهُ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِمَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْبِيحِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
السُّنَّةُ تَخْفَى وَغَيْرُ مَا شُرِعَ يَظْهَرُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا يُخْفُونَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لِلصُّبْحِ خِيفَةَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ عَلَيْهِ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَيَكُونُ صَلَاتُهُمْ بَاطِلَةً لِإِيقَاعِهَا قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُمْ لَوْ امْتَثَلُوا السُّنَّةَ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنْ تَرْتِيبِ الْمُؤَذِّنِينَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَأَنَّ الْأَوَّلَ مَعْرُوفٌ وَقْتُهُ وَكَذَلِكَ الثَّانِي إلَى الْمُؤَذِّنِ الَّذِي يُؤَذِّنُ عَلَى الْفَجْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لَمَا انْبَهَمَ الْوَقْتُ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ سَمِعَهُمْ وَكَانُوا

مُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ صِفَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْلَكَ بِهَا مَسْلَكَهَا فَلَا تُوضَعُ إلَّا فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي جُعِلَتْ لَهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ مِنْ أَعْظَمِ الْعِبَادَاتِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَقْرَأَهُ فِي الرُّكُوعِ وَلَا فِي السُّجُودِ وَلَا فِي الْجُلُوسِ أَعْنِي الْجُلُوسَ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلتِّلَاوَةِ فَالصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُوهَا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ لَمْ تَكُنْ تُفْعَلُ فِيهَا فِي عَهْدِ مَنْ مَضَى وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ أَنَّهَا قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ جِدًّا أَقْرَبَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيمَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ مِنْ التَّغَنِّي بِالْأَذَانِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَهِيَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ كُلِّ لَيْلَةٍ وَبَعْدَ أَذَانِ الْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَبَعْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيَرْقَى الْمِنْبَرَ وَعِنْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَيْهِ يُسَلِّمُونَ عِنْدَ كُلِّ دَرَجَةٍ يَصْعَدُهَا وَالْكُلُّ فِي الْإِحْدَاثِ قَرِيبٌ مِنْ قَرِيبٍ أَعْنِي فِي زَمَانِنَا هَذَا وَأَصْلُ إحْدَاثِهِ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ .
وَتَقَدَّمَ الْحَدِيثُ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ { الْفِتْنَةُ مِنْ هَاهُنَا وَأَشَارَ إلَى الْمَشْرِقِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ كَيْفَ كَانَ خَوْفُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ الْحَدَثِ فِي الدِّينِ وَمَا جَرَى لَهُمْ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ وَمَا جَرَى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَنْ رَأَى الطَّيْرَ الَّذِي هُنَاكَ وَقَعَ عَلَى الْقَذَرِ ثُمَّ ارْتَفَعَ عَنْهُ وَوَقَعَ عَلَى ثَوْبِهِ فَعَلِمَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ

عَلَى أَنَّهُ إذَا خَرَجَ يَغْسِلُهُ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى غَسْلِهِ قَالَ ، وَاَللَّهِ مَا أَكُونُ بِأَوَّلِ مَنْ أَحْدَثَ بِدْعَةً فِي الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةُ وَالتَّسْلِيمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَشُكُّ مُسْلِمٌ أَنَّهَا مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَأَجَلِّهَا وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَنًا سِرًّا وَعَلَنًا لَكِنْ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَضَعَ الْعِبَادَاتِ إلَّا فِي مَوَاضِعِهَا الَّتِي وَضَعَهَا الشَّارِعُ فِيهَا وَمَضَى عَلَيْهَا سَلَفُ الْأُمَّةِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ إلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ .
وَمِنْ كِتَابِ الْإِمَامِ أَبِي الْحَسَنِ رَزِينٍ قَالَ وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ عَطَسَ رَجُلٌ إلَى جَنْبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ الْحَمْدُ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَا أَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مَا هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَقُولَ إذَا عَطَسْنَا وَإِنَّمَا عَلَّمَنَا نَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ انْتَهَى .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ جَوَابٌ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ الصَّلَاةَ وَالتَّسْلِيمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُوعٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ .
قَدْ تَقَدَّمَ جَوَابُ مَنْ اتَّصَفَ بِالْإِنْصَافِ وَهُوَ مَعْدُومٌ فِي الْغَالِبِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ فِي زَمَانِنَا هَذَا أَقَلُّ مِنْ الْإِنْصَافِ فَإِذَا كَانَ الْحَالُ فِي زَمَانِ مَالِكٍ عَلَى مَا ذُكِرَ فَمَا بَالُكَ بِهِ الْيَوْمُ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ سَمِعَ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ دُبُرَ

كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَخَتَمَ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ } فَقَالَ هَذَا الْعَالِمُ أَنَا أَعْمَلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةً فَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ زَمَانًا فَرَأَى فِي مَنَامِهِ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَامَتْ وَحُشِرَ النَّاسُ إلَى الْمَحْشَرِ وَالنَّاسُ فِي أَمْرٍ مَهُولٍ وَإِذَا بِمُنَادٍ يُنَادِي أَيْنَ الذَّاكِرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فَقَامَ نَاسٌ مِنْ نَاسٍ قَالَ فَقُمْت مَعَهُمْ فَجِئْنَا إلَى مَوْضِعٍ فِيهِ مَلَائِكَةٌ يُعْطُونَ النَّاسَ ثَوَابَ ذَلِكَ وَكُنْتُ أُزَاحِمُ مَعَهُمْ وَيُعْطُونَهُمْ وَلَا يُعْطُونِي شَيْئًا فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ حَتَّى فَرَغَ الْجَمِيعُ فَجِئْتُ وَطَلَبْتُ مِنْهُمْ الثَّوَابَ فَقَالُوا لِي مَا لَكَ عِنْدَنَا شَيْءٌ فَقُلْتُ لَهُمْ وَلِمَ أَعْطَيْتُمْ أُولَئِكَ فَقَالُوا لِي هَؤُلَاءِ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ فَقُلْتُ لَهُمْ وَمَا كَانُوا يَذْكُرُونَ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَبِّحُونَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ إلَخْ فَقُلْتُ أَنَا وَاَللَّهِ كُنْتُ أَعْمَلُ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِائَةً فَقَالُوا مَا هَكَذَا أَمَرَ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ أَمَرَ بِثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ مَا لَكَ عِنْدَنَا شَيْءٌ قَالَ فَانْتَبَهْتُ مَرْعُوبًا فَتُبْتُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ لَا أَزِيدَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَأَكِّدَةٌ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ لَكِنَّ اتِّخَاذَهَا عَادَةً مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ عَلَى الْمَنَارِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوعًا وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَتَحَرَّى ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كَالزِّيَادَةِ عَلَى الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمَعَ مَا ذُكِرَ

مِنْ التَّعْلِيلِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مَفَاسِدُ .
مِنْهَا ارْتِكَابُ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ { لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ } فَإِذَا نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ الْجَهْرِ بِالْقُرْآنِ وَتِلَاوَتُهُ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا يَدْخُلُ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِمَّنْ يَتَعَبَّدُ إذَا جَهَرَ بِهِ فَمَا بَالُكَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ مِمَّا يُشْبِهُ الْغِنَاءَ فِي وَقْتٍ وَالنَّوْحَ فِي وَقْتٍ وَنَدْبَ الْأَطْلَالِ فِي وَقْتٍ وَيَنْشُدُونَ فِيهِ الْقَصَائِدَ وَفِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُتَهَجِّدِينَ مَا هُوَ مَعْلُومٌ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا وَقَدْ وَصَلَ لَهُ مِنْ التَّشْوِيشِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ فَيَتَفَرَّقُ أَمْرُهُمْ وَتَتَشَوَّشُ خَوَاطِرُهُمْ .
وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ الْمَسْجِدَ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَيُمْنَعُ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يَأْتِيَ النَّاسُ إلَيْهِ .
فَأَيْنَ هَذَا مِمَّا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ إذْ ذَاكَ خَلِيفَةً وَكَانَ حَسَنَ الصَّوْتِ فَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فَلَمَّا أَنْ سَمِعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لِخَادِمِهِ اذْهَبْ إلَى هَذَا الْمُصَلَّى فَقُلْ لَهُ إمَّا أَنْ تَخْفِضَ صَوْتَكَ وَإِمَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَجَاءَ الْخَادِمُ فَوَجَدَ الْمُصَلِّيَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَجَعَ وَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا فَلَمَّا أَنْ سَلَّمَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لِخَادِمِهِ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ تَنْهَى هَذَا الْمُصَلَّى عَمَّا هُوَ يَفْعَلُ فَقَالَ لَهُ هُوَ الْخَلِيفَةُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ اذْهَبْ إلَيْهِ وَقُلْ لَهُ مَا أَخْبَرْتُكَ بِهِ فَذَهَبَ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : إنَّ سَعِيدًا يَقُولُ لَكَ إمَّا أَنْ تَخْفِضَ صَوْتَكَ وَإِمَّا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَخَفَّفَ فِي

صَلَاتِهِ فَلَمَّا أَنْ سَلَّمَ مِنْهَا أَخَذَ نَعْلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا مِنْ تَوَاضُعِهِ فِي خِلَافَتِهِ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ بَعْضَ الْعَوَامّ يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِأَجْلِ سَمَاعِ التَّسْبِيحِ بِتِلْكَ الْأَلْحَانِ وَالنَّغَمَاتِ فَيَقَعُ مِنْهُمْ أَشْيَاءُ مِنْ الزَّعَقَاتِ وَمَا يُشْبِهُهَا مِمَّا يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهَا الثَّالِثُ مَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ مِنْ صُعُودِ الشُّبَّانِ إذْ ذَاكَ عَلَى الْمَنَارِ وَلَهُمْ أَصْوَاتٌ حَسَنَةٌ وَنَغَمَاتٌ تُشْبِهُ الْغِنَاءَ فَيَرْفَعُونَ عَقِيرَتَهُمْ بِذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ لَهُ غَرَضٌ خَسِيسٌ يَصْدُرُ مِنْهُ فِي وَقْتِ سَمَاعِهِ مَا لَا يَنْبَغِي كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى تَعَلُّقِ قَلْبِ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ بِالشَّابِّ الَّذِي يَسْمَعُونَهُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْفِتَنِ أَشْيَاءُ لَا تَنْحَصِرُ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ مِنْ أَنَّهُ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ الَّذِي يُؤَذِّنُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّرْتِيبِ اجْتَمَعَ الْمُؤَذِّنُونَ بِجَمْعِهِمْ وَنَادَوْا عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَيُكَرِّرُونَ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً مَعَ دَوَرَانِهِمْ عَلَى الْمَنَارِ وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لَا ضَرُورَةَ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ الَّذِي يُؤَذِّنُ عَلَى الْفَجْرِ يَكُونُ وَقْتُهُ مَعْلُومًا عِنْدَ السَّامِعِينَ فَمَنْ سَمِعَهُ مِنْهُمْ عَلِمَ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَا جَاءَ عَلَى خِلَافِ مَا أَحْكَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ فَمَفَاسِدُهُ عَدِيدَةٌ لَا تَنْحَصِرُ

فَصْلٌ فِي التَّسْحِيرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ التَّسْحِيرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَمَرَ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ سِيَّمَا وَهُمْ يَقُومُونَ إلَى التَّسْحِيرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لِأَنَّ السُّحُورَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْوَى بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى صَوْمِ النَّهَارِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا إذَا فُعِلَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِقَلِيلٍ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ { تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قُلْتُ : كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالسَّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً } فَإِذَا تَسَحَّرَ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجُوعُ إلَّا بَعْدَ الظُّهْرِ ، وَإِذَا جَاعَ ذَلِكَ الْوَقْتَ فَمَسَافَةُ الْفِطْرِ قَرِيبَةٌ فَتَسْهُلُ لِذَلِكَ الْعِبَادَةُ وَلِذَلِكَ سَمَّوْا السَّحُورَ الْغَدَاءَ الْمُبَارَكَ لِأَنَّ وَقْتَ السُّحُورِ قَرِيبٌ مِنْ وَقْتِ الْغَدَاءِ ، وَيَحْصُلُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَجْرُ الصِّيَامِ مَعَ نَشَاطِ بَدَنِهِ وَتَوْفِيرِ عُمْرِهِ لِقِيَامِ لَيْلِهِ لِأَنَّهُ إذَا تَسَحَّرَ فِي اللَّيْلِ حَصَلَ لَهُ الْكَسَلُ عَنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بِسَبَبِ الْبُخَارِ الَّذِي يَصْعَدُ إلَى دِمَاغِهِ فَيُدَخِّنُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبُهُ النَّوْمُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَسَحَّرَ قَرِيبًا مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْهُ اشْتَغَلَ بِالطَّهَارَةِ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي أَوْرَادِهِ وَاشْتَغَلَ بِهَا ثُمَّ تَصَرَّفَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مُهِمَّاتِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ التَّهَجُّدُ فِي لَيْلِهِ وَخِفَّةُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ فِي نَهَارِهِ وَيَنْضَبِطُ حَالُهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا يَتَسَحَّرُونَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ خِيفَةَ أَنْ يَبْقَى النَّاسُ لَا يَعْرِفُونَ الْوَقْتَ الَّذِي يَجُوزُ لَهُمْ الْأَكْلُ فِيهِ .
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ

الْمُؤَذِّنِينَ إذَا كَانُوا عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ عَلِمَ النَّاسُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي أَيِّ جُزْئِهِمْ مِنْ اللَّيْلِ وَهَلْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ أَمْ لَا ؟ كَمَا كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُونَ جَوَازَ الْأَكْلِ بِأَذَانِ بِلَالٍ وَمَنْعَهُ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّسْحِيرِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْمُتَهَجِّدِينَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ إنَّمَا يَنْضَبِطُ بِهِ حَالُ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَمَا حَوْلَهُ أَمَّا مَنْ بَعُدَ عَنْهُ فَلَا يَسْمَعُونَ الْمُؤَذِّنِينَ وَلَا يَعْلَمُونَ فِي أَيِّ جُزْئِهِمْ مِنْ اللَّيْلِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمَسَاجِدَ قَدْ كَثُرَتْ فَمَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَّا وَبِجَانِبِهِ مَسْجِدٌ أَوْ مَسَاجِدُ فَيُعْمَلُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ أَذَانَانِ بِشَرْطِ الْعِلْمِ بِصَوْتِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَيَكْفِيهِمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ وَالثَّانِي يَدُلَّ عَلَى مَنْعِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا تَابِعِينَ فِي أَذَانِهِمْ لِلْجَامِعِ أَوْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَوْقَاتِ وَالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مُؤَذِّنُونَ جُمْلَةً عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

فَصْلٌ فِي اخْتِلَافِ الْعَوَائِدِ فِي التَّسْحِيرِ اعْلَمْ أَنَّ التَّسْحِيرَ لَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عَوَائِدُ أَهْلِ الْأَقَالِيمِ فَلَوْ كَانَ مِنْ الشَّرْعِ مَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ عَوَائِدُهُمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ التَّسْحِيرَ فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْجَامِعِ يَقُولُ الْمُؤَذِّنُونَ تَسَحَّرُوا كُلُوا وَاشْرَبُوا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ أَقْوَالِهِمْ ؟ وَيَقْرَءُونَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَيُكَرِّرُونَ ذَلِكَ مِرَارًا عَدِيدَةً ثُمَّ يَسْقُونَ عَلَى زَعْمِهِمْ وَيَقْرَءُونَ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } مِنْ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ } إلَى قَوْلِهِ { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا } وَالْقُرْآنُ الْعَزِيزُ يَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ مَوْضِعِ بِدْعَةٍ أَوْ عَلَى مَوْضِعِ بِدْعَةٍ ، ثُمَّ يَقُولُونَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ إنْشَادِ الْقَصَائِدِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ، وَيُسَحِّرُونَ أَيْضًا بِالطَّبْلَةِ يَطُوفُ بِهَا أَصْحَابُ الْأَرْبَاعِ وَغَيْرُهُمْ عَلَى الْبُيُوتِ وَيَضْرِبُونَ عَلَيْهَا هَذَا الَّذِي مَضَتْ عَلَيْهِ عَادَتُهُمْ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ .
وَأَمَّا أَهْلُ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَأَهْلُ الْيَمَنِ وَبَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فَيُسَحِّرُونَ بِدَقِّ الْأَبْوَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْبُيُوتِ وَيُنَادُونَ عَلَيْهِمْ قُومُوا كُلُوا ، وَهَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ الْبِدَعِ نَحْوُ مَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا أَهْلُ الشَّامِ فَإِنَّهُمْ يُسَحِّرُونَ بِدَقِّ الطَّارِ وَضَرْبِ الشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ وَالْهُنُوكِ وَالرَّقْصِ وَاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَهَذَا شَنِيعٌ جِدًّا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي جَعَلَهُ الشَّارِعُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْقِيَامِ قَابَلُوهُ بِضِدِّ الْإِكْرَامِ

وَالِاحْتِرَامِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَأَمَّا بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ قَرِيبًا مِنْ فِعْلِ أَهْلِ الشَّامِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ وَقْتُ السُّحُورِ عِنْدَهُمْ يَضْرِبُونَ بِالنَّفِيرِ عَلَى الْمَنَارِ وَيُكَرِّرُونَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ بَعْدَهُ يَضْرِبُونَ بِالْأَبْوَاقِ سَبْعًا أَوْ خَمْسًا فَإِذَا قَطَعُوا حُرِّمَ الْأَكْلُ إذْ ذَاكَ عِنْدَهُمْ .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُمْ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَضْرِبُونَ بِالنَّفِيرِ وَالْأَبْوَاقِ فِي الْأَفْرَاحِ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَهُمْ وَيَمْشُونَ بِذَلِكَ فِي الطُّرُقَاتِ فَإِذَا مَرُّوا عَلَى بَابِ مَسْجِدٍ سَكَتُوا وَأَسْكَتُوا وَيُخَاطِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِقَوْلِهِمْ احْتَرِمُوا بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُفُّونَ حَتَّى يُجَاوِزُونَهُ فَيَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ ، ثُمَّ إذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي هُوَ شَهْرُ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ رَذِيلَةٍ يَأْخُذُونَ فِيهِ النَّفِيرَ وَالْأَبْوَاقَ وَيَصْعَدُونَ بِهَا عَلَى الْمَنَارِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ وَيُقَابِلُونَهُ بِضِدِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ فِعْلَ التَّسْحِيرِ بِدْعَةٌ بِلَا شَكٍّ وَلَا رَيْبٍ ، إذْ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَأْثُورَةً لَكَانَتْ عَلَى شَكْلٍ مَعْلُومٍ لَا يَخْتَلِفُ حَالُهَا فِي بَلْدَةٍ دُونَ أُخْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ قَدَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُمُومًا التَّغْيِيرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ خُصُوصًا كُلٌّ مِنْهُمْ يُغَيِّرُ مَا فِي إقْلِيمِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ بِشَرْطِهِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي بَلَدِهِ .
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَفِي مَسْجِدِهِ .
{ تَنْبِيهٌ } وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَغْتَرَّ أَوْ يَمِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْبِدَعِ بِسَبَبِ مَا مَضَتْ لَهُ مِنْ الْعَوَائِدِ وَتَرَبَّى عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ سُمٌّ وَقَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ آفَاتِهَا .
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمَغَارِبَةِ وَكَانَ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي يُسَحِّرُونَ فِيهِ بِالنَّفِيرِ وَالْأَبْوَاقِ لَمَّا

أَنْ سَمِعَ الْمُسَحِّرِينَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ يَقُولُونَ تَسَحَّرُوا كُلُوا وَاشْرَبُوا قَالَ مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ وَأَنْكَرَهَا لِاسْتِئْنَاسِهِ بِمَا تَرَبَّى عَلَيْهِ ، وَمَا تَرَبَّى عَلَيْهِ هُوَ أَكْثَرُ شَنَاعَةً وَقُبْحًا وَأَقْرَبُ إلَى الْمَنْعِ مِمَّا أَنْكَرَهُ هُنَا ، فَالْعَوَائِدُ قَلَّ أَنْ يَظْهَرَ الْحَقُّ مَعَهَا إلَّا بِتَأْبِيدٍ وَتَوْفِيقٍ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَلِأَجَلِ الْعَوَائِدِ وَمَا أَلِفَتْ النُّفُوسُ مِنْهَا أَنْكَرَتْ قُرَيْشٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيَانِ وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكُفْرِهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ وَعِنَادِهِمْ بِقَوْلِهِمْ { إنْ هَذَا إلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } { سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } { سِحْرٌ يُؤْثَرُ } .
{ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا } .
{ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ } .
{ إنْ هِيَ إلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي كَفَرُوا بِهَا بِسَبَبِ مَا تَرَبَّوْا عَلَيْهِ وَنَشَئُوا فِيهِ .
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ هَذَا السُّمِّ فَإِنَّهُ قَاتِلٌ وَمِلْ مَعَ الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَكُنْ مُتَيَقِّظًا لِخَلَاصِ مُهْجَتِكَ بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَاقْبَلْ نَصِيحَةَ أَخٍ مُشْفِقٍ ، فَإِنَّ الِاتِّبَاعَ أَفْضَلُ عَمَلٍ يَعْمَلُهُ الْمَرْءُ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُنَا وَإِيَّاكَ لِمَا يَرْضَاهُ بِمَنِّهِ فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِ .

سُؤَالٌ وَارِدٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ التَّسْحِيرَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَحَبَّاتِ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبِدَعَ قَدْ قَسَّمَهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : بِدْعَةٌ وَاجِبَةٌ وَهِيَ مِثْلُ كَتْبِ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى لِأَنَّ الْعِلْمَ كَانَ فِي صُدُورِهِمْ وَكَشَكْلِ الْمُصْحَفِ وَنَقْطِهِ .
الْبِدْعَةُ الثَّانِيَةُ : بِدْعَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ قَالُوا : مِثْلُ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَتَنْظِيفِ الطُّرُقِ لِسُلُوكِهَا وَتَهْيِئِ الْجُسُورِ وَبِنَاءِ الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
الْبِدْعَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ الْمُبَاحَةُ كَالْمُنْخُلِ وَالْأُشْنَانِ وَمَا شَاكَلَهُمَا .
الْبِدْعَةُ الرَّابِعَةُ : وَهِيَ الْمَكْرُوهَةُ مِثْلُ الْأَكْلُ عَلَى الْخُوَانِ وَمَا أَشْبَهَ .
الْبِدْعَةُ الْخَامِسَةُ : وَهِيَ الْمُحَرَّمَةُ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَنْحَصِرَ .
مِنْهَا مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ اللَّاتِي وَصَفَهُنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ { نِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُمِيلَاتٌ عَلَى رُءُوسِهِنَّ مِثْلُ أَسْنِمَةِ الْبُخْتِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا } وَمِمَّا يَقْرَبُ مِنْهُ اتِّخَاذُ الْمَسَاجِدِ طَرِيقًا وَمِنْهَا اتِّخَاذُهَا لِلدُّيُونِ وَكُلّ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمَسْأَلَةُ التَّسْحِيرِ لَمْ تَدْعُ ضَرُورَةٌ إلَى فِعْلِهَا إذْ إنَّ صَاحِبَ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ شَرَعَ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ لِلصُّبْحِ دَالًّا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالثَّانِي دَالًا عَلَى تَحْرِيمِهِمَا فَلَمْ يَبْقَ أَنْ يَكُونَ مَا يُعْمَلُ زِيَادَةً عَلَيْهِمَا إلَّا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ إذَا أَذَّنُوا مَرَّتَيْنِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ انْضَبَطَتْ الْأَوْقَاتُ وَعُلِمَتْ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى النَّاسُ عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنْ تَعْلِيقِ الْفَوَانِيسِ الَّتِي جَعَلُوهَا عَلَمًا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مَا دَامَتْ مُعَلَّقَةً مَوْقُودَةً وَعَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ إذَا أَنْزَلُوهَا ، وَذَلِكَ

يُمْنَعُ فِعْلُهُ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ ذَكَرُوا أَنْ يُعَلِّمُوا وَقْتَ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ يَعْرِفُونَهُ فَذَكَرُوا أَنْ يُوقِدُوا نَارًا أَوْ يَضْرِبُوا نَاقُوسًا كَالنَّصَارَى .
وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : اتَّخِذُوا قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَذَانِ بَدَلًا عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلُوا وَاحِدًا مِنْهَا إذْ إنَّهَا مِنْ خِصَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالنَّارُ يَعْبُدُهَا الْمَجُوسُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ فِي ذَلِكَ تَغْرِيرًا بِالصَّوْمِ إذْ إنَّهُ قَدْ تَنْطِفِي فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ فَيَظُنُّ مَنْ لَا يَرَاهَا مَوْقُودَةً أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَيَتْرُكُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَغَيْرَهُمَا وَقَدْ يَكُونُ مُضْطَرًّا إلَى ذَلِكَ فَيَتَضَرَّرُ فِي صَوْمِهِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ يَنْسَاهَا مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا مَوْقُودَةً أَوْ يَنَامُ عَنْهَا فَيَظُنُّ مَنْ يَرَاهَا كَذَلِكَ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَيَتَعَاطَى شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيُفْسِدُ بِهِ صَوْمَهُ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ تَشْتَبِكُ وَلَا يَقْدِرُ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا عَلَى خَلَاصِهَا فَحُكْمُهُ كَالْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى هِيَ أَكْبَرُ مِمَّا قَبْلَهَا وَهِيَ مُخَاطَرَةُ مَنْ هُوَ مُوَكَّلٌ بِهَا بِنَفْسِهِ إذَا اشْتَبَكَتْ وَكَانَتْ مَوْقُودَةً وَحَاوَلَ خَلَاصَهَا فَإِنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ فَيَمُوتُ ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ

فَصْلٌ فِي التَّذْكَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ التَّذْكَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَا أَمَرَ بِهِ وَلَا فَعَلَهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ بَلْ هُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْأُمَرَاءِ ، وَهُوَ الَّذِي أَحْدَثَ التَّغَنِّيَ بِالْأَذَانِ فِي الْمَدْرَسَةِ الَّتِي بَنَاهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَبِدْعَةُ هَذَا أَصْلُهَا يَتَعَيَّنُ تَرْكُهَا .
سُؤَالٌ وَارِدٌ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : النَّاسُ مُضْطَرُّونَ إلَى التَّذْكَارِ لِكَيْ يَقُومُوا مِنْ أَسْوَاقِهِمْ وَيَخْرُجُوا مِنْ بُيُوتِهِمْ فَيَأْتُوا إلَى الْمَسْجِدِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مَنْ يَأْتِي إلَى الْجُمُعَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بَعِيدًا أَوْ قَرِيبًا فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ فَالْأَذَانُ الْأَوَّلُ الَّذِي فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْفِيهِ سَمَاعُهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا فَهُوَ لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ الْأَوَّلَ الَّذِي لِلتَّذْكَارِ فَيَأْخُذُ لِنَفْسِهِ بِالِاحْتِيَاطِ ، أَلَّا تَرَى أَنَّ السَّعْيَ إلَى الْجُمُعَةِ يَجِبُ عَلَى النَّاسِ بِحَسَبِ قُرْبِ مَوَاضِعِهِمْ وَبُعْدِهَا ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَى بَعْضِهِمْ الْإِتْيَانُ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَعَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ الزَّوَالِ بِحَسَبِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى مَا أَحْدَثُوهُ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ الْمَفَاسِدُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا أَعْنِي مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الْجُمُعَةَ ، وَهُمْ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِمْ مِنْهُمْ الْمُصَلِّي وَمِنْهُمْ الذَّاكِرُ وَالتَّالِي وَالْمُتَفَكِّرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَهَذِهِ الْبِدْعَةُ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْأَقَالِيمِ لَكِنَّ كُلَّ أَهْلِ إقْلِيمٍ قَدْ اخْتَصُّوا بِعَوَائِدَ كَمَا مَضَى ذَلِكَ فِي التَّسْحِيرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّذْكَارَ فِي الدِّيَارِ

الْمِصْرِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ مُشَاهَدٌ وَفِي الْمَغْرِبِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَجْتَمِعُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ فَيَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ عَلَى الْمَنَارِ فَيَقُولُونَ الْوُضُوءَ لِلصَّلَاةِ وَيَدُورُونَ عَلَيْهِ مِرَارًا وَهُوَ بِدْعَةٌ أَيْضًا .
وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
الثَّانِي : أَنَّ الْعَامَّةَ تَسْمَعُهُمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَهَا ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ الْعُلَمَاءَ فَتَنْدَرِسُ هَذِهِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمْ وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُمْ يُنَادُونَ الْغُسْلَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَذَلِكَ يُمْنَعُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ لِلْجُمُعَةِ وَهُوَ الْغَالِبُ ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ لِجَهْلِهِ وَهُوَ لَا يَسْأَلُ وَيَسْمَعُ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَيَتْرُكَ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : مَا تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ التَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

{ فَصْلٌ } قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ لِلْفَجْرِ يَكُونُونَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ وَكَذَلِكَ يَكُونُونَ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ فَيُعْلَمُ الْمُؤَذِّنُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ وَهَكَذَا إلَى الْآخِرِ الَّذِي يُصَلِّي عَلَى آخِرِ أَذَانِهِ حَتَّى يَكُونَ النَّاسُ عَلَى عِلْمٍ مِنْ الْوَقْتِ فَيَتَأَهَّبُونَ لِلصَّلَاةِ بِإِيقَاعِ الطَّهَارَةِ وَالْجُلُوسِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ أَوْ الْجُلُوسِ فِي دَكَاكِينِهِمْ حَتَّى يَسْمَعُوا الْمُؤَذِّنَ الْآخِرَ فَيَتْرُكُوا إذْ ذَاكَ بَيْعَهُمْ وَشِرَاءَهُمْ وَيَهْرَعُونَ لِصَلَاتِهِمْ حَتَّى يَقْضُوهَا .
لَكِنْ زَادَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغْرِبِ هُنَا بِدْعَةً وَهِيَ أَنَّهُ إذَا فَرَغَ الْمُؤَذِّنُ الْآخِرُ الَّذِي يُصَلُّونَ عَلَى آخِرِ أَذَانِهِ يَجْتَمِعُ جَمَاعَةُ الْمُؤَذِّنِينَ فَيُنَادُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ رَحِمَكُمْ اللَّهُ وَيَدُورُونَ عَلَى الْمَنَارِ مِرَارًا ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْعَصْرِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ عَلَى الْفَجْرِ اجْتَمَعُوا بِجَمْعِهِمْ وَنَادَوْا أَصْبَحَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَيَدُورُونَ عَلَى الْمَنَارِ مِرَارًا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي الشَّرْعِ وَلَمْ تَدْعُ إلَيْهِ ضَرُورَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ يَتَرَتَّبُونَ جَمَاعَةً فِي الْعَصْرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ وَوَقْتُهَا ضَيِّقٌ لَا يَسَعُ الْمُؤَذِّنِينَ جَمَاعَةً وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَيُؤَذِّنُ لَهَا وَاحِدٌ لَيْسَ إلَّا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَذِّنِينَ إذَا تَزَاحَمُوا وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ وَلَمْ يَسْبِقْ أَحَدُهُمْ الْآخَرَ أَذَّنُوا جَمَاعَةَ كُلٌّ مِنْهُمْ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ رَفِيقِهِ وَيَتَرَتَّبُ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْعِشَاءِ كَمَا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ .

فَصْلٌ فِي حِكْمَةِ تَرْتِيبِ الْأَذَانِ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي الْأَذَانِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ كَيْفَ عَمَّتْ مَنْفَعَتُهُ لِلْأُمَّةِ إذْ إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَالَ { إذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ } وَأَخْبَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ مَنْ حَكَاهُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ فَلَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا لَيْسَ إلَّا لَفَاتَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ إذْ إنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْمُكَلَّفُ قَاعِدًا لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ أَوْ فِي سُوقِهِ مَشْغُولًا لَا يَسْمَعُهُ أَوْ فِي أَكْلِهِ أَوْ شُرْبِهِ أَوْ نَوْمِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ ، فَلَوْ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً يُؤَذِّنُونَ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ لَفَاتَتْهُمْ حِكَايَتُهُ ، فَإِذَا أَذَّنُوا عَلَى التَّرْتِيبِ السَّابِقِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَمَنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِ حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ الْأَوَّلِ أَدْرَكَ الثَّانِي ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَتَنَبَّهُ النَّائِمُ مِنْ نَوْمِهِ فَيَحْكِيهِ وَيَعْلَمُ فِي أَيِّ وَقْتٍ هُوَ مِنْ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فَتَعُمُّ الْمَنْفَعَةُ لِلْأُمَّةِ .
وَقَدْ وَرَدَ { أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ لَا يُرَدُّ فِيهَا الدُّعَاءُ عِنْدَ اصْطِفَافِ النَّاسِ إلَى الْجِهَادِ وَعِنْدَ اصْطِفَافِهِمْ إلَى الصَّلَاةِ وَعِنْدَ سَمَاعِ النِّدَاءِ وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ } فَإِذَا حَكَى الْمُكَلَّفُ الْمُؤَذِّنَ وَدَعَا بِمَا يَخْتَارُهُ اُسْتُجِيبَ لَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْوَعْدِ الْجَمِيلِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ الْعَجِيبَةِ الْمُبَارَكَةِ مَا نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا فَقَالَ : إنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ } ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ بَلْ قَالَ الْوَاصِفُ لِصَوْمِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ

إنَّهُ { كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ إنَّهُ لَا يُفْطِرُ وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ إنَّهُ لَا يَصُومُ ، وَمَا أَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رَمَضَانَ } .
وَذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَوْسِعَةٌ عَلَى الْأُمَّةِ وَأَخْذٌ مِنْهُ بِالْأَفْضَلِ وَالْأَعْلَى .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَامَ يَوْمًا وَأَفْطَرَ يَوْمًا لَفَاتَتْ تِلْكَ الْفَضِيلَةُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأُمَّةِ مِثْلِ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَالْحَائِضِ ، وَعَلَى مَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُدْرِكُ كُلٌّ مِنْهُمْ الْفَضِيلَةَ بِكَمَالِهَا وَذَلِكَ نِصْفُ الدَّهْرِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا مَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ صَلَاةِ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُد عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ بَلْ قَالَ الْوَاصِفُ لِقِيَامِهِ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهُ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ قَائِمًا إلَّا رَأَيْتَهُ نَائِمًا وَلَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهُ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ نَائِمًا إلَّا رَأَيْتَهُ قَائِمًا ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِرِفْقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأُمَّتِهِ حَتَّى لَا تَفُوتُهُمْ فَضِيلَةُ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَمَنْ نَامَ مِنْهُمْ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ أَدْرَكَ الْجُزْءَ الْآخَرَ فَسُبْحَانَ مَنْ أَهَّلَهُ لِلرِّفْقِ بِأُمَّتِهِ وَرَفْعِ الْمَشَاقِّ عَنْهُمْ وَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ ، كَيْفَ لَا وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَتِهِ مَعَهُمْ : بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أُمَّتِهِ بِحُرْمَتِهِ عِنْدَكَ لَا رَبَّ سِوَاكَ .

{ فَصْلٌ } وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ وُقُوفِهِمْ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَقَوْلِهِمْ الصَّلَاةَ رَحِمكُمْ اللَّهُ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الصَّلَاةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ قَدْ شَرَعَ لِلْمُكَلَّفِ حُضُورَ الصَّلَاةِ بِسَمَاعِهِ الْأَذَانَ فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بِدْعَةٌ .
هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَقِيَ الْأَذَانُ الشَّرْعِيُّ كَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ النَّاسَ إذَا عَهِدُوا ذَلِكَ يَتَّكِلُونَ عَلَى وُقُوفِ الْمُؤَذِّنِ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَعَلَى قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْغَالِبُ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ إذَا سَمِعُوا الْأَذَانَ الشَّرْعِيَّ لَمْ يَهْرَعُوا إلَى الْمَسْجِدِ لِاتِّكَالِهِمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْحَدِيثِ فِي الدِّينِ .
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَارًّا فِي طَرِيقٍ بِالْبَصْرَةِ فَسَمِعَ الْمُؤَذِّنَ فَدَخَلَ إلَى الْمَسْجِدِ يُصَلِّي فِيهِ الْفَرْضَ فَرَكَعَ فَبَيْنَمَا هُوَ فِي أَثْنَاءِ الرُّكُوعِ ، وَإِذَا بِالْمُؤَذِّنِ قَدْ وَقَفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ حَضَرَتْ الصَّلَاةُ رَحِمَكُمْ اللَّهُ ، فَفَرَغَ مِنْ رُكُوعِهِ وَأَخَذَ نَعْلَيْهِ وَخَرَجَ وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ فِيهِ بِدْعَةٌ .

{ فَصْلٌ } وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَةِ { إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } وقَوْله تَعَالَى { قُلْ اُدْعُوا اللَّهَ أَوْ اُدْعُوا الرَّحْمَنَ } عِنْدَ إرَادَتِهِمْ الْأَذَانَ لِلْفَجْرِ وَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ كُلُّهَا بَرَكَةً وَخَيْرًا لَكِنْ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَضَعَ الْعِبَادَاتِ إلَّا حَيْثُ وَضَعَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

فَصْلٌ فِي النَّهْيِ عَنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِمَا لَا يَنْبَغِي وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ النِّدَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي فِيهَا التَّزْكِيَةُ وَالتَّعْظِيمُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تُزَكُّوا عَلَى اللَّهِ أَحَدًا } وَالْمَيْتُ مُضْطَرٌّ إلَى الدُّعَاءِ وَالتَّزْكِيَةُ ضِدُّ مَا هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ مِنْ الدُّعَاءِ إذْ إنَّهَا قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِعَذَابِهِ أَوْ تَوْبِيخِهِ فَيُقَالُ لَهُ أَهَكَذَا كُنْت وَقَدْ وَقَعَ هَذَا مِنْهُمْ كَثِيرًا فِي مَنَامَاتٍ رُئِيَتْ لَهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ الصَّلَاةُ عَلَى الرَّجُلِ الْعَالِمِ الْعَامِلِ الصَّالِحِ الْعَابِدِ الْوَرِعِ الزَّاهِدِ النَّاسِكِ الْحَاجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الزَّائِرِ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُلَانِ الدِّينِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمَعْهُودَةِ مِنْهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازُ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّنَا لَا نُنْكِرُ مَذْهَبَهُ بَلْ نُنْكِرُ مَا أَنْكَرَهُ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ مِنْ التَّزْكِيَةِ الْمَذْكُورَةِ .
فَلَوْ قَالَ الْمُؤَذِّنُ مَثَلًا الصَّلَاةَ عَلَى الْعَبْدِ الْفَقِيرِ إلَى اللَّهِ النَّازِلِ بِفِنَائِهِ الْمُضْطَرِّ إلَى رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ فُلَانٍ بِاسْمِهِ الشَّرْعِيِّ وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَلْفَاظِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنْكَرُ وَلَا يُكْرَهُ ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ أَجَازَ الصَّلَاةَ عَلَى الْغَائِبِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يُخَافُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَعْيًا لِقَوْلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تُؤَذِّنُوا بِي أَحَدًا فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا وَقَدْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنْ النَّعْيِ .

فَصْلٌ فِي النَّهْي عَنْ مَشْيِ الْمُؤَذِّنِينَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَيَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ مَشْيِهِمْ أَمَامَ الْجَنَائِزِ وَرَفْعِهِمْ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ فَإِنَّ فِعْلَ ذَلِكَ أَمَامَ الْجَنَائِزِ بِدْعَةٌ قَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْحُدُوثِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا وَالٍ مِنْ الْوُلَاةِ قَرِيبُ الْعَهْدِ جِدًّا أَحْدَثَهَا عَلَى جِنَازَةٍ كَانَتْ لَهُ ، ثُمَّ سَرَى ذَلِكَ إلَى أَنْ فَعَلَهُ بَعْضُ مَنْ لَهُ الرِّيَاسَةُ فِي الدَّوْلَةِ ثُمَّ انْتَشَرَ ذَلِكَ وَشَاعَ حَتَّى صَارَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مَا قَامَ بِحَقِّ مَيِّتِهِ ، وَيَا لَيْتَهُ لَوْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْحَدِّ لَكِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ وَخَيْرٍ وَبَرَكَةٍ ، وَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى ضِدِّ مَا يَظُنُّونَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَكُونُ مُتَّصِفًا بِالدِّيَانَةِ وَالْأَمَانَةِ وَمَنْ اتَّصَفَ بِالْبِدْعَةِ فَقَدْ تَعَذَّرَ وَصْفُهُ بِذَلِكَ .

فَصْلٌ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْمَسْجِدِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَوْ الْمُؤَذِّنِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى نَهْيِ النَّاسِ عَمَّا أَحْدَثُوهُ حِينَ عَقْدِ الْأَنْكِحَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ إتْيَانِهِمْ بِالْمَبَاخِرِ الْمُفَضَّضَةِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي بَيْتٍ وَلَا غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ نَفْسُ الْبَخُورِ وَالطِّيبِ مَنْدُوبًا إلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ مَالِكٌ إنَّ الصَّدَقَةَ بِثَمَنِ ذَلِكَ أَفْضَلُ ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ لِأَجْلِ ظَرْفِهِ لِأَنَّهُ مُفَضَّضٌ .
وَأَمَّا فَرْشُ الْبُسُطِ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَلَوْ كَانَتْ فِي الْبُيُوتِ لَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُقْصَدَ بِفَرْشِهَا الْمُبَاهَاةُ وَمَا شَاكَلَهَا وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْجَهَالَةِ ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ الْفَاعِلُ لِهَذَا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِالْعِلْمِ وَلَا يَسْأَلُوا عَمَّا وَقَعَ لَهُمْ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْرَأُ الْعِلْمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْغَفْلَةِ عَنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَمَّا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ فِي دِينِهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّشَبُّهِ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالرُّعُونَةِ ، ثُمَّ يَنْضَمُّ إلَى مَا ذُكِرَ فِي الْمَسْجِدِ مَا يُنَزَّهْ عَنْهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَقْتَضِي التَّزْكِيَةَ وَالتَّعْظِيمَ لَوْ كَانَتْ فِي الشَّخْصِ أَوْ الْكَذِبِ إنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ وَكِلَاهُمَا لَا يَجُوزُ .
وَكَذَلِكَ مَا يَقَعُ مِنْهُمْ مِنْ التَّمَلُّقِ وَالْأَيْمَانِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْأَيْمَانَ إذَا كَثُرَتْ فَإِنَّ الْحِنْثَ فِيهَا وَاقِعٌ فَيَحْذَرُ مِنْ أَنْ يُسَامِحَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .

فَصْلٌ فِي تَهَيُّئِ الْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ خُصُوصًا الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ وَإِنْ كَانَ نَظِيفًا فِي نَفْسِهِ لِوُجُوهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْغُسْلَ لِلْجُمُعَةِ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ فَقَدْ يَرَاهُ أَحَدٌ حِينَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِالْوُضُوءِ وَحْدَهُ أَوْ يَسْمَعُ عَنْهُ ذَلِكَ فَيَقْتَدِي بِهِ فِي تَرْكِ هَذِهِ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْإِمَامَ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يَكُونَ أَكْمَلَهُمْ حَالًا وَمَنْ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِغَيْرِ غُسْلٍ فَهُوَ أَنْقُصُ حَالًا مِمَّنْ اغْتَسَلَ .

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَجَنَّبَهَا فِي نَفْسِهِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ أَحْسَنَ لِبَاسِ النَّاسِ الْبَيَاضُ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ لِبَاسِكُمْ الْبَيَاضُ } فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُبَادِرَ إلَيْهِ قَبْلَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُلْبَسُ الْبَيَاضُ ، وَلُبْسُ السَّوَادِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ الْفَضَائِلِ أَنْ يُنْظَرَ إلَى لَابِسِهِ انْتَهَى .
فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ جَدِيدًا فَلْيَمْتَثِلْ السُّنَّةَ حِينَ لُبْسِهِ بِأَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ يَقُولُ مَا وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ لُبْسِهِ الثَّوْبَ الْجَدِيدَ وَذَلِكَ أَنْ يَقُولَ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ هَذَا الثَّوْبِ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ } ثُمَّ يَقُولُ { اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لِي عَوْنًا عَلَى طَاعَتِك } وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ رَأَى الثَّوْبَ الْجَدِيدَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَقُولَ لَهُ تُبْلَى وَيُخْلِفُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ { تُبْلَى وَيُخْلِفُ اللَّهُ } .
وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ إمَّا قَمِيصًا أَوْ عِمَامَةً } زَادَ التِّرْمِذِيُّ { أَوْ رِدَاءً ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ كَسَوْتَنِيهِ أَسْأَلُك خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا صُنِعَ لَهُ } قَالَ أَبُو بَصْرَةَ وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَبِسَ أَحَدُهُمْ ثَوْبًا جَدِيدًا قِيلَ لَهُ تُبْلَى وَيُخْلِفُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنِي هَذَا الطَّعَامَ

وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَمَنْ لَبِسَ ثَوْبًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي كَسَانِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلَا قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ } وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَدِيدٍ فَالتَّسْمِيَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا عِنْدَ لُبْسِهِ وَعِنْدَ خَلْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ غَالِبُ لِبَاسِهِ الْبَيَاضَ سِيَّمَا لِلْخُطْبَةِ وَإِنْ كَانَ لُبْسُ السَّوَادِ جَائِزًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَهُ وَخَطَبَ فِيهِ لَكِنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى لُبْسِهِ لِلْإِمَامِ لِلْجُمُعَةِ دُونَ غَيْرِهِ بِدْعَةٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبِسَ الْبَيَاضَ وَلَوْ كَانَ يَوْمًا مَا حَتَّى يَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ مَا لَمْ يُؤَدِّ لُبْسُ الْبَيَاضِ إلَى تَوَقُّعِ فِتْنَةٍ أَوْ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ .
وَكَذَلِكَ الرَّئِيسُ يَتَجَنَّبُ مَا يَتَجَنَّبُهُ الْإِمَامُ .
وَكَذَلِكَ يَتَحَفَّظُ مِنْ غَرْزِ الْإِبَرِ فِيمَا يَتَطَيْلَسُ بِهِ أَوْ يَتَعَمَّمُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ اللِّبَاسِ .
وَكَذَلِكَ لَا يَلْبِسُ الْخُفَّيْنِ وَإِنْ كَانَ لُبْسُهُمَا جَائِزًا سَفَرًا وَحَضَرًا لَكِنَّ لُبْسَهُمَا لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ وَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِدْعَةٌ أَيْضًا .
وَكَذَلِكَ يُتَحَفَّظُ مِنْ جَعْلِ الْأَعْلَامِ السُّودِ عَلَى الْمِنْبَرِ حَالَ الْخُطْبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَوَقَّعَ الْفِتْنَةَ بِزَوَالِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْإِمَامِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ الْخُطَبَاءِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا خَرَجَ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَالسَّلَامُ مَشْرُوعٌ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَذَلِكَ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا مَشْهُورَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَكَيْفَ يَتْرُكُهَا الْإِمَامُ وَهُوَ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ فَيُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِ لِبَيْتِ رَبِّهِ وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا بِمَنْصِبِهِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي نَفْسِهِ حِينَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فَيَفْعَلُ الْآدَابَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَلَوْ فَعَلَ غَيْرَ ذَلِكَ مَرَّةً لَاقْتَدَى النَّاسُ بِهِ .

{ فَصْلٌ } وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ يَقُومُ الْمُؤَذِّنُونَ إذْ ذَاكَ وَيُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَرِّرُ مِنْ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى يَصِلُ إلَى الْمِنْبَرِ وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ .

فَصْلٌ فِي صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ أَوْ الْعَصَا أَوْ غَيْرَهُمَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى إذْ إنَّهَا السُّنَّةُ ، وَلِأَنَّ تَنَاوُلَ الطَّهَارَاتِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْيَمِينِ وَالْمُسْتَقْذِرَات بِالشِّمَالِ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ قَالَ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْيَسَارِ لِكَوْنِهِ أَيْسَرَ عَلَيْهِ فِي مُنَاوَلَتِهِ إذَا أَرَادَ أَحَدٌ اغْتِيَالَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْأُمَرَاءِ الَّذِينَ يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْغِيلَةَ وَهَذَا مَأْمُونٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْإِمَارَةِ فِي الْغَالِبِ حَتَّى يَغْتَالَهُ أَحَدٌ .

فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ صُعُودِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ الْمِنْبَرَ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى وَيُقَدِّمَ الْيَمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَحْذَرَ أَنْ يَضْرِبَ بِمَا فِي يَدِهِ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمِنْبَرَ وَقْفٌ وَالضَّرْبُ عَلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ مِمَّا يَضُرُّ بِهِ وَيَخْلُقُهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ بِجَوَازِهِ لَكِنَّهُ مَحْجُوجٌ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الِاتِّبَاعِ .
وَكَذَلِكَ يَنْهَى الْمُؤَذِّنِينَ عَنْ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عِنْدَ كُلِّ ضَرْبَةٍ يَضْرِبُهَا عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا وَلَا يُطَوِّلُ عَلَى النَّاسِ فِي رُقِيِّهِ الْمِنْبَرِ إلَّا لِضَرُورَةِ مِنْ كِبَرِ سِنٍّ أَوْ ضَعْفِ بَدَنٍ ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْطُبُ عَلَيْهِ أَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّاسِ وَجَلَسَ مِنْ غَيْرِ سَلَامٍ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ فِيهِ حَدِيثٌ لَكِنَّ الَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ تَرْكُهُ إذْ ذَاكَ وَبَعْضُهُمْ يُسَلِّمُ وَيَزِيدُ فِيهِ بِدْعَةً وَهُوَ أَنْ يُشِيرَ بِيَدِهِ إلَى النَّاسِ وَلَا يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ لِيَدْعُوَ إذْ ذَاكَ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ عَدُّوا ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ .

فَصْلٌ فِي فَرْشِ السَّجَّادَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْرِشَ السَّجَّادَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ إذْ إنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِدْعَةً وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَوْضِعِ صَلَاةٍ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَ مَا يُفْرَشُ عَلَى دَرَجِ الْمِنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّرَفُّهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى فَهُوَ بِدْعَةٌ أَيْضًا .

وَيَنْهَى الرَّئِيسَ عَمَّا أَحْدَثَهُ مِنْ نِدَائِهِ عِنْدَ إرَادَةِ الْخَطِيبِ الْخُطْبَةَ بِقَوْلِهِ لِلنَّاسِ أَيُّهَا النَّاسُ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا قُلْتَ لِصَاحِبِك وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ } أَنْصِتُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ انْتَهَى .
وَالْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخْذَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَسْتَحْسِنُونَ هَذَا الْفِعْلَ وَيَحْتَجُّونَ عَلَى صِحَّتِهِ بِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ وَعَادَتِهِمْ الْمُسْتَمِرَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ يَنْهَاهُمْ أَيْضًا عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ صُعُودِ الرَّئِيسِ عَلَى الْمِنْبَرِ مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ يَجْلِسُ دُونَهُ وَذَلِكَ يُمْنَعُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرَّئِيسَ بِهَذَا الْفِعْلِ يُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي اسْتِقْبَالِهِ لِلْخَطِيبِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَرَمَقِهِ بِعَيْنَيْهِ لِأَنَّهُ مُسْتَدْبِرٌ لَهُ إذْ ذَلِكَ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّ أَحَدًا مِمَّنْ مَضَى جَلَسَ مَعَ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ .
وَالْعَجَبُ مِنْهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِنَصِّ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ يَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَاتِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ أَنْصِتُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ ثُمَّ يَفْعَلُ ضِدَّ ذَلِكَ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَلَامِ فَيَتَكَلَّمُ وَيَسْتَدْعِي الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ آمِينَ اللَّهُمَّ آمِينَ غَفَرَ اللَّهُ لِمَنْ يَقُولُ آمِينَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ السَّامِعُ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ هُوَ أَنْ يُسْمِعَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ فِي جَهْرِهِمْ فِي مَوَاضِعِ الْجَهْرِ لَا عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ ،

وَحَالُ الْخُطْبَةِ حَالُ خُشُوعٍ وَحُضُورٍ إذْ إنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ فَلَا يَجُوزُ فِيهَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ أَعْنِي الْإِنْصَاتَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ أَوْ النَّارَ أَوْ ذَكَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ السَّامِعَ يَسْأَلُ وَيَسْتَعِيذُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سَمَاعِهِ لِذَلِكَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ .
زَادَ أَشْهَبُ أَنَّ الْإِنْصَاتَ أَفْضَلُ لَهُ فَإِنْ فَعَلَ فَسِرًّا فِي نَفْسِهِ وَلَوْ عَطَسَ فَيَحْمَدُ اللَّهَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ وَمَنْ سَمِعَهُ فَلَا يُشَمِّتْهُ ، فَإِنْ جَهِلَ فَشَمَّتَهُ فَلَا يَرُدَّ عَلَيْهِ ، وَالْإِنْصَاتُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ عَلَى مَنْ سَمِعَ الْخُطْبَةَ وَعَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا وَعَلَى مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ خَارِجَهُ مِمَّنْ يَنْتَظِرُ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِنْصَاتَ يَجِبُ عَلَى أَرْبَعِينَ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَالْإِنْصَاتُ مَنْدُوبٌ فِي حَقِّهِمْ وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَ الْمَنْدُوبِ فِي هَذَا الْوَقْتِ الْفَاضِلِ يَقْبَحُ سِيَّمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُطْبَةَ بَدَلٌ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ فِي الظُّهْرِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِعْلُ السَّلَفِ أَوْلَى مَا يُبَادَرُ إلَيْهِ كَانَ الْفِعْلُ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا وَقَدْ كَانُوا جَمِيعًا مُنْصِتِينَ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَى فِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ سَمِعَ رَجُلَيْنِ يَتَكَلَّمَانِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ فَحَصَبَهُمَا أَنْ اُصْمُتَا قَالَ لِأَنَّ حَصْبَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَهُمَا اُسْكُتَا فَإِذَا كَانَ عَمَلُ السَّلَفِ عَلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فَالْمُبَادَرَةُ إلَى اتِّبَاعِهِمْ أَفْضَلُ وَأَعْلَى كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُمْ عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ التَّقْعِيرَ فِي خُطْبَتِهِ

وَالتَّصَنُّعَ فِيهَا .

وَكَذَلِكَ يَجْتَنِبُ تَطْوِيلَ الْخُطْبَةِ وَتَقْصِيرَ الصَّلَاةِ لِمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { أَنْتُمْ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُرُوفُهُ قَلِيلٌ مَنْ يَسْأَلُ كَثِيرٌ مَنْ يُعْطِي يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ وَيُقَصِّرُونَ الْخُطْبَةَ يَبْدَءُونَ فِيهِ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ تُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ كَثِيرٌ مَنْ يَسْأَلُ قَلِيلٌ مَنْ يُعْطِي يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ وَيُقَصِّرُونَ فِيهِ الصَّلَاةَ يَبْدَءُونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ } فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا وَرَدَ أَنَّ طُولَ الصَّلَاةِ وَقِصَرَ الْخُطْبَةِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ فَلْيُتَحَفَّظْ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْأُصُولِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ .

وَأَمَّا تَرَضِّي الْخَطِيبِ فِي خُطْبَتِهِ عَنْ الْخُلَفَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَبَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ وَبَاقِي الصَّحَابَةِ وَأُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَعِتْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ لَا مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ وَلَا الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَكِنْ فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَمْرٍ كَانَ وَقَعَ قَبْلَهُ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا يَسُبُّونَ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ عَلَى الْمَنَابِرِ فِي خُطْبَتِهِمْ ، فَلَمَّا أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبْدَلَ مَكَانَ ذَلِكَ التَّرَضِّي عَنْهُمْ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَقِّهِ هُوَ إمَامُ هُدًى وَأَنَا أَقْتَدِي بِهِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى حَالِ خُشُوعٍ وَتَضَرُّعٍ لِأَنَّهُ يَعِظُ النَّاسَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمَوْعِظَةِ حُصُولُ الْخُشُوعِ وَالرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالْخَوْفِ مِمَّا أَوْعَدَ بِهِ وَقُوَّةِ الرَّجَاءِ فِيمَا وَعَدَ بِهِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَإِذَا كَانَ الْخَطِيبُ مُسْتَعْمِلًا فِي نَفْسِهِ مَا ذَكَرَ كَانَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى قَبُولِ مَا يُلْقِيهِ إلَى السَّامِعِينَ لِاتِّصَافِهِ بِمَا اتَّصَفَ بِهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْمُؤَذِّنِ إذَا أَذَّنَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ لِيُبَادِرَ لَفِعْلِ مَا نَادَى إلَيْهِ أَوَّلًا فَيَكُونَ أَدْعَى إلَى صَدْعِ الْقُلُوبِ لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا خَرَجَ مِنْ عَامِلٍ تَشَبَّثَ بِالْقُلُوبِ وَإِذَا خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ انْسَابَ عَنْ الْقُلُوبِ عَلَى مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَتَجَنَّبُ فِي خُطْبَتِهِ التَّصَنُّعَ لِأَنَّ التَّصَنُّعَ إذَا وَقَعَ فَهُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّهُ يُشْبِهُ النِّفَاقَ بَلْ هُوَ النِّفَاقُ بِعَيْنِهِ إذْ إنَّ مَعْنَى النِّفَاقِ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ وَجَوَارِحِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .

فَصْلٌ فِي إسْلَامِ الْكَافِرِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ وَهِيَ أَنَّ الْكَافِرَ يَأْتِي إلَى الْخَطِيبِ فَيُسْلِمُ عَلَى يَدَيْهِ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ ثُمَّ يَعُودُ وَيَأْتِي ثَانِيًا وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِالْإِسْلَامِ عَلَى رُءُوسِ النَّاسِ وَيَقْطَعُ الْخَطِيبُ الْخُطْبَةَ بِسَبَبِهِ وَتَقَعُ ضَجَّةٌ فِي الْمَسْجِدِ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْهَا وَهُوَ وَقَدْ كَانَ أَسْلَمَ قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ تَرْتِيبَ الْخُطْبَةِ لِأَجْلِ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا قَبْلُ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي أَنَّهُ يُجَدِّدُ الْإِسْلَامَ إذْ ذَاكَ لِيَشْتَهِرَ إسْلَامُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْرِفُوهُ بِذَلِكَ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ إسْلَامِهِ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ إسْلَامِهِ جَرَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ وَعَرَفَهُ مَنْ عَرَفَهُ مِنْهُمْ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ الْآنَ أَسْلَمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْخَطِيبِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ وَيَأْمُرَ مَنْ يَخْرُجُ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَغْتَسِلَ إنْ كَانَ جُنُبًا وَلَوْ لَمْ تَتَقَدَّمْ لَهُ جَنَابَةٌ فِي حَالِ كُفْرِهِ فَيَغْتَسِلُ لِلْإِسْلَامِ فَإِنْ تَرَكَ الْغُسْلَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ فَالْوُضُوءُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِيُصَلِّيَ بِهِ الْجُمُعَةَ .

{ فَصْلٌ } فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَدُعَائِهِ فِيهَا فَلْيَخْتِمْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ أَوْ بِقَوْلِهِ { اُذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ } أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ فَلْيُقِمْ الْمُؤَذِّنُ الصَّلَاةَ فَإِذَا دَخَلَ الْمِحْرَابَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَا هُنَاكَ مِنْ الْحَصِيرِ وَيَتْرُكَ السَّجَّادَةَ إذْ إنَّ اتِّخَاذَهَا لِلصَّلَاةِ بِدْعَةٌ إلَّا لِضَرُورَةِ التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ إنَّ الْمِحْرَابَ لَهُ هَيْبَةٌ وَلَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ فِي الْغَالِبِ سِيَّمَا الصِّبْيَانُ الصِّغَارُ وَمَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَحْوَالِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَ مَوْضِعَهُ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ مِنْ الطَّهَارَةِ وَالْإِمَامُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْقَوْمِ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يَسْجُدَ عَلَى حَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ السُّنَّةُ وَلَمَّا أَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى الْحُصُرِ الْمَفْرُوشَةِ هُنَاكَ فُعِلَتْ .
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُبَاشِرُ الْأَرْضَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ فِي سُجُودِهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ كَانَ حَالُ أَكْثَرِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَدْعُو ضَرُورَةٌ إلَى ذَلِكَ فَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ أُخَرُ وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ .
فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا فِي الْمِحْرَابِ فَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْ الْمَأْمُومِينَ .
وَقَدْ كَانَ الْأَمَامُ مِنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْرُبُ أَنْ تَمَسَّ ثِيَابُهُ ثِيَابَ الْمَأْمُومِينَ .
وَقَدْ قَالُوا إنَّ مِنْ فِقْهِ الْإِمَامِ قُرْبُهُ مِنْ الْمَأْمُومِينَ وَذَلِكَ لِفَوَائِدَ ذَكَرُوهَا .
مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ مَا يُوجِبُ خُرُوجَهُ مِنْهَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى كَلَامٍ وَلَا إلَى كَثِيرِ عَمَلٍ فِي

الِاسْتِخْلَافِ بَلْ يَمُدُّ يَدُهُ إلَى مَنْ يَسْتَخْلِفُهُ فَيُقَدِّمُهُ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَسْهُو فِي صَلَاتِهِ فَيُسَبِّحُونَ لَهُ فَلَا يَسْمَعُهُمْ فَإِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ فِي الْغَالِبِ وَتَدَارَكُوا مُلَاقَاةَ ذَلِكَ بِمَسِّهِمْ لَهُ وَتَنْبِيهِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ فَيَتَدَارَكُ إصْلَاحَ مَا أَخَلَّ بِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا فَإِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُمْ أَدْرَكُوهَا فَنَبَّهُوهُ عَلَيْهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .

وَلَمْ يَكُنْ لِلسَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِحْرَابٌ وَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ لَكِنَّهَا بِدْعَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ لَا يَعْرِفُونَ الْقِبْلَةَ إلَّا بِالْمِحْرَابِ فَصَارَتْ مُتَعَيِّنَةً .
لَكِنْ يَكُونُ الْمِحْرَابُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ وَهُمْ قَدْ زَادُوا فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً ، وَالْغَالِبُ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ دَاخِلَ الْمِحْرَابِ حَتَّى يَصِيرُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى بُعْدٍ مِنْ الْمَأْمُومِينَ وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ .
ثُمَّ إنَّهُ يُخْرِجُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ مِنْ الْفَضِيلَةِ الْكَامِلَةِ لِأَنَّ بَاقِيَ الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَالُوا فِيمَنْ اُضْطُرَّ إلَى النَّوْمِ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يَنَامُ فِي مِحْرَابِهِ لِأَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ بَاقِي الْمَسْجِدِ بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَسْجِدُ لَمْ يَضِقْ بِالنَّاسِ فَلَا يَدْخُلُ الْإِمَامُ إلَى الْمِحْرَابِ ، فَإِنْ ضَاقَ بِهِمْ فَلْيَدْخُلْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ يُمْسِكْ بِوُقُوفِهِ خَارِجًا عَنْهُ مَوْضِعَ صَفٍّ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ قَدْ يَسَعُ خَلْقًا كَثِيرًا .

وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَعْتَنُونَ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ يَلْتَفِتُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَقُولُ اسْتَوُوا يَرْحَمْكُمْ اللَّهُ ثُمَّ يَلْتَفِتُ عَنْ شِمَالِهِ وَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَقُولُ لَهُ الرَّئِيسُ أَوْ أَحَدُ الْمَأْمُومِينَ كَبِّرْ رَضِيَ اللَّهُ عَنَّا وَعَنْك هَذَا فِعْلُهُمْ سَوَاءٌ كَانَ فِي الصَّفِّ خَلَلٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ خَلَلٌ لَمْ يَسُدَّهُ أَحَدٌ بِقَوْلِهِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ كَانَ الْأَئِمَّةُ مِنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُوَكِّلُونَ الرِّجَالَ بِتَسْوِيَتِهَا .
مِنْهُمْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ لَا يُكَبِّرُونَ حَتَّى يَأْتِي مَنْ وَكَّلُوهُمْ بِذَلِكَ فَيُخْبِرُوهُمْ أَنَّهَا قَدْ اسْتَوَتْ فَيُكَبِّرُونَ إذْ ذَاكَ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } وَقَدْ نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَانَتْ تَنْقَطِعُ مِنْ جِهَةِ الْمَنَاكِبِ أَوَّلًا لِشِدَّةِ تَرَاصِّهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ وَهَذِهِ السَّجَّادَاتُ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ضَرُورَةً لِأَنَّهَا تُبْسَطُ عَلَى مَوْضِعٍ فِي الْمَسْجِدِ يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَاحِبُهَا فِي قِيَامِهِ وَسُجُودِهِ اللَّهُمَّ إلًّا أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ مَنْ بِجَانِبِهِ حَتَّى يُصَلِّيَ مَعَهُ عَلَيْهَا فَيَخْرُجُ عَنْ بَابِ الْكَرَاهَةِ لَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَنْ يُصَلِّي إلَى جَانِبِهِ مُتَوَرِّعًا أَوْ فِي كَسْبِ صَاحِبِهَا عِلَّةُ شُبْهَةٍ أَوْ حَرَامٌ ، وَقَدْ يَكُونُ كَسْبُهُ حَلَالًا لَكِنْ يَمْتَنِعُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ تَخْرِيجُهُ مِنْ دُخُولِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يُفْعَلُ لِأَنَّهُ يَأْتِي إلَى فِعْلٍ مَنْدُوبٍ وَهُوَ التَّرَاصُّ فِي الصَّفِّ فَيَقَعُ فِي مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ

فَصْلٌ فِي دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا اسْتَوَتْ الصُّفُوفُ فَلْيَنْوِ إذْ ذَاكَ الدُّخُولَ فِي الصَّلَاةِ بِقَلْبِهِ وَلَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ وَلَا يَجْهَرْ بِالنِّيَّةِ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِهَا مِنْ الْبِدَعِ .
وَاخْتُلِفَ فِي النُّطْقِ بِاللِّسَانِ هَلْ هُوَ بِدْعَةٌ أَوْ كَمَالٌ .
فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ كَمَالٌ لِأَنَّهُ أَتَى بِالنِّيَّةِ فِي مَحَلِّهَا وَهُوَ الْقَلْبُ وَنَطَقَ بِهَا اللِّسَانُ وَذَلِكَ زِيَادَةُ كَمَالٍ هَذَا مَا لَمْ يَجْهَرْ بِهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ النُّطْقَ بِاللِّسَانِ مَكْرُوهٌ وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْقَوْلِ يَرَى أَنَّ النُّطْقَ بِهَا بِدْعَةٌ إذْ لَمْ يَأْتِ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِمَا يُخْشَى أَنَّهُ إذَا نَطَقَ بِهَا بِلِسَانِهِ قَدْ يَسْهُو عَنْهَا بِقَلْبِهِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ أَتَى بِالنِّيَّةِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَحَّلَ الْقِرَاءَةِ النُّطْقُ بِاللِّسَانِ ، فَلَوْ قَرَأَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَا لِسَانُهُ لَمْ تُجْزِهِ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ تَلَفَّظَ بِالنِّيَّةِ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَنْوِهَا بِقَلْبِهِ .
وَمِنْ صِفَةِ النِّيَّةِ عَلَى الْكَمَالِ أَنْ يَنْوِيَ بِصَلَاتِهِ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا وَذَلِكَ يَحْتَوِي عَلَى خَمْسِ نِيَّاتٍ وَهِيَ نِيَّةُ الْأَدَاءِ وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَنِيَّةُ الْفَرْضِ وَتَعْيِينُ الصَّلَاةِ وَإِحْضَارُ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَهُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ الْأَيَّامِ وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ يَنْوِيَ الِائْتِمَامَ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُ مَأْمُومٌ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ بَطُلَتْ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ إلَّا فِي كُلِّ صَلَاةٍ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ وَهِيَ خَمْسٌ ، وَذَلِكَ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالثَّانِيَةُ

الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَالثَّالِثَةُ الْجَمْعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ وَالرَّابِعَةُ صَلَاةُ الْخَوْفِ وَالْخَامِسَةُ الْمَأْمُومُ الْمُسْتَخْلَفُ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ لَكِنْ إنْ نَوَاهَا كَانَ أَعْظَمَ أَجْرًا وَأَكْثَرَ ثَوَابًا مِمَّنْ لَمْ يَنْوِهَا .

ثُمَّ يَسْتَفْتِحُ الْقِرَاءَةَ فَيَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيهَا فَقِيلَ إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ .
وَقِيلَ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى .
وَقِيلَ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ .
وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْمَذْهَبُ فِي الْأُولَى أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِيهَا إلَّا سُورَةَ الْجُمُعَةِ وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا يَقْرَأُ الْمَسْبُوقُ بِرَكْعَةٍ فِي الْجُمُعَةِ فَقَالَ يَقْرَأُ مِثْلَ مَا قَرَأَ إمَامُهُ بِسُورَةِ الْجُمُعَةِ ، فَقِيلَ لَهُ أَقِرَاءَةُ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ قَالَ لَا أَدْرِي مَا هِيَ سُنَّةٌ وَلَكِنَّ مَنْ أَدْرَكْنَا كَانَ يَقْرَأُ بِهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ الْجُمُعَةِ انْتَهَى ، وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ بِ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى } وَفِي الثَّانِيَةِ بِ { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ } لَكِنَّ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى تَرْكِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ، وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَقْرَأُ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِآخِرِ سُورَةِ الْجُمُعَةِ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ } إلَى آخِرِهَا وَفِي الثَّانِيَةِ بِآخِرِ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } إلَى آخِرِهَا .
وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَإِطَالَةِ الْخُطْبَةِ وَمَا كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْرَءُونَ إلَّا سُورَةً كَامِلَةً بَعْدَ أُمِّ

الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ أَجَازَ الِاقْتِصَارَ عَلَى قِرَاءَةِ بَعْضَ السُّورَةِ فَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْجَوَازِ وَالْمَنْدُوبِ ، وَالْأَفْضَلُ وَالِاتِّبَاعُ قِرَاءَةُ سُورَةٍ كَامِلَةٍ

{ فَصْلٌ } وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يُجْهَرُ بِهَا فَهُوَ عَامٌّ فِي الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْفَذِّ فَالْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ إذْ إنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا الْخُلَفَاءَ وَلَا الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ جَهَرُوا بِهَا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَهْرُ بِهَا بِدْعَةٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى الْمَأْمُومِينَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ بِالْجَهْرِ بِإِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ حِينَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ إيَّاهَا فَيُحَذِّرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى عَنْ الْجَهْرِ خَلْفَهُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ السِّرِّ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافَ السُّنَّةِ وَفِيهِ التَّشْوِيشُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يَقْرَبُ مِنْهُ .
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ أَقَلَّ مِنْ هَذَا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ } وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُصَلِّي لِنَفْسِهِ وَهَذِهِ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَنْهَى عَنْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ جَهْرِيَّةً وَقَرَأَ الْمَأْمُومُ أُمَّ الْقُرْآنِ خَلْفَهُ فَلَا يَجْهَرْ بِهَا .
وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنِّي أَقُولُ مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِأَنَّ فِي الْجَهْرِ بِهَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَتْرُكُ سُنَّةَ الْإِسْرَارِ فِي الصَّلَاةِ .
وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسْمِعُهُمْ الْآيَةَ أَحْيَانَا إذْ إنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْإِمَامِ مَعَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِكَيْ يُعْلِمَ النَّاسَ الْحُكْمَ فِي صَلَاةِ السِّرِّ أَنَّهُ يُقْرَأُ فِيهَا بِسُورَةٍ بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ حَتَّى لَا يَجِدَ أَحَدٌ السَّبِيلَ إلَى أَنْ يَقُولَ كَانَ يُسَبِّحُ أَوْ يَدْعُو أَوْ يُفَكِّرُ فَكَانَ جَهْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْآيَةِ أَحْيَانَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَيَنْبَغِيَ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَجْهَرَ بِالتَّسْبِيحِ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ وَلَا يَجْهَرَ بِالدُّعَاءِ فِي مَوْضِعِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ عَقِبَهَا وَمَا يَفْعَلُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَحْمِلُ الْمَأْمُومِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ ، وَالْجَهْرُ بِذَلِكَ بِدْعَةٌ إذْ إنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً فَسَلَّمَ مِنْهَا وَبَسَطَ يَدَيْهِ وَدَعَا وَأَمَّنَ الْمَأْمُومُونَ عَلَى دُعَائِهِ .
وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَكَذَلِكَ بَاقِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَشَيْءٌ لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ تَرْكَهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ بَلْ هُوَ بِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ لَا يَمْسَحْ صَدْرَهُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَغَيْرِهَا مِمَّا شُرِعَ فِيهِ الْقُنُوتُ أَوْ الدُّعَاءُ لِمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ يَنْهَى غَيْرَهُ عَنْ فِعْلِ ذَلِكَ إذْ إنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَكَذَلِكَ يَنْهَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ إذْ إنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَكَذَلِكَ لَا يَجْهَرْ بِالدُّعَاءِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ التَّشَهُّدِ وَقَبْلَ السَّلَامِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَنْ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَالْأَصْلُ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ صَلَاتَهُ وَيُعْتَمَدُ عَلَيْهِ الْخُشُوعُ وَالْحُضُورُ فِيهَا فَيُمَثِّلُ نَفْسَهُ أَنَّهُ وَاقِفٌ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلِكِ الْجَلِيلِ يُخَاطِبُهُ وَيُنَاجِيهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْقِرَاءَةِ فَهُوَ يَسْمَعُ كَلَامَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا مِنْ دُعَاءٍ أَوْ ذِكْرٍ فَهُوَ يُنَاجِي مَوْلَاهُ بِدُعَائِهِ وَيَذْكُرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمَوْلَى الْعَلِيمُ يَسْمَعُهُ إذْ إنَّهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أَعْنِي بِالْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ فَتَخْشَعُ جَوَارِحُهُ كُلُّهَا انْقِيَادًا مِنْهَا لِمَا حَصَلَ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْخُشُوعِ ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ خُشُوعِ جَوَارِحِهِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْجَوَارِحِ

الْبَاطِنَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْخُطْبَةِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ أَوْلَى .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ تُرْفَعُ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّجُلُ هُوَ الْإِمَامُ إذْ إنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَهُمْ وَبِحُصُولِ هَذِهِ الصِّفَةِ تَزْكُو صَلَاتُهُ وَيَعُودُ مِنْ بَرَكَاتِهَا عَلَى الْحَاضِرِينَ مَعَهُ فَيَعْمَلُ عَلَى تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَنْ يَلِيَ الْإِمَامَ مِنْ النَّاسِ أَفْضَلُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى الْإِمَامِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِخْلَافَ لَوَجَدَ مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِذَلِكَ بِقُرْبِهِ مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ يَتَكَلَّفُهَا وَهَذِهِ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ عَلَى مَا كُنْت أَعْهَدُ أَنَّهُ لَا يَسْتُرُ الْإِمَامَ إلَّا مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ التَّقَدُّمِ لِلْإِمَامَةِ فِي الْغَالِبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَهَذِهِ خَصْلَةٌ دَائِرَةٌ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ يَسْتُرُ الْإِمَامَ وَتَجِدُ أَهْلَ الْفَضْلِ فِي الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ وَمُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ { لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } وَلِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَفِعْلِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَسْبِقُ إلَى الْمَسْجِدِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِيُحَصِّلَ هَذِهِ السُّنَّةَ وَيَخْمِدَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ وَيَقْتَدِي النَّاسُ بِهِ .
وَمَا زَالَ الْفُضَلَاءُ وَالْأَكَابِرُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْصَارِ هُمْ الَّذِينَ يُبَادِرُونَ إلَى الْمَسَاجِدِ فِي أَوَائِلِ الْأَوْقَاتِ أَوْ قَبْلِهَا .
حَتَّى إنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَوَجَدَ رَجُلَيْنِ قَدْ سَبَقَاهُ فَجَعَلَ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ أَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ أَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ، فَلَوْ جَاءَ الْإِمَامُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْفُضَلَاءِ إلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدُوا غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَيْسَ فِي مَنْزِلِهِمْ قَدْ سَبَقَهُمْ لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَعْهَدُونَ الصَّلَاةَ فِيهَا أَعْنِي مَنْ كَانَ يَسْتُرُ الْإِمَامَ أَوْ يَقْرَبُ مِنْهُ كَانَ مَنْ سَبَقَ لِتِلْكَ الْمَوَاضِعِ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُ

وَأَوْلَى ، وَلَا يُقَامُ مِنْهَا اتِّفَاقًا وَإِقَامَتُهُ ظُلْمٌ لَهُ وَبِدْعَةٌ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُؤْثِرَ السَّابِقُ بِهَذِهِ الْقُرْبَةِ غَيْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ فَذَلِكَ لَهُ بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } وَلِلْعَمَلِ الْمَاضِي الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ .
وَالثَّانِي مَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ ، فَإِذَا قَدَّمَهُ لِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِ السَّلَفِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي إلَى الْمَسْجِدِ أَوَّلَ الْوَقْتِ لَيُدْرِكَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَإِذَا امْتَلَأَ بِالنَّاسِ تَأَخَّرَ إلَى الثَّانِي وَآثَرَ بِمَكَانِهِ غَيْرَهُ وَهَكَذَا إلَى أَنْ يُصَلِّيَ فِي آخِرِ صَفٍّ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ أُبَكِّرُ لِأَحُوزَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَتَأَخَّرُ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ قَدْ صَلَّيْت خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ فَيُغْفَرُ لِي ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِيثَارِ بِالْقُرَبِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ تَرَكَ قُرْبَةً لَا بَدَلَ عَنْهَا .
أَمَّا مَنْ تَرَكَهَا لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا وَأَوْلَى فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ تَرْكِ قُرْبَةٍ لِمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ .

وَقَدْ عَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ تَرْكَ التَّبْكِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ الْبِدَعِ الْحَادِثَةِ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَذْهَبَيْنِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ التَّبْكِيرَ مِنْ غَدْوَةِ النَّهَارِ إلَيْهَا أَفْضَلُ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَعْنَاهُ التَّهْجِيرُ وَدَلِيلُهُ عَمَلُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِهِ مِنْ أَنَّ التَّبْكِيرَ إلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْ التَّهْجِيرِ بِأَنْ قَالَ أَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ تَرْكُ التَّبْكِيرِ إلَى الْجُمُعَةِ ، وَقَدْ كَانُوا يَأْتُونَهَا بِالْمَشَاعِلِ لَيْلًا ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَبِيتُ فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ .
وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّبْكِيرَ إلَيْهَا وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ قَالَ وَلَمْ يَكُونُوا يُبَكِّرُونَ هَذَا التَّبْكِيرَ وَأَخَافُ عَلَى فَاعِلِهِ أَنْ يَدْخُلَهُ شَيْءٌ ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي صِحَّةِ نَقْلِ مَالِكٍ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَيُؤَيِّدُهُ مَا جَرَى لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْطُبُ لِلْجُمُعَةِ فَلَوْ كَانَ التَّبْكِيرُ أَفْضَلَ لَمَا تَأَخَّرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتَغَلَ بِالسُّوقِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي أَتَى فِيهِ إلَى الْجُمُعَةِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَوْضِعِهِ ذَلِكَ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُغَيِّرُ هَيْئَتَهُ فِي جُلُوسِهِ فِي الصَّلَاةِ لِيُقْبِلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ لِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ } فَيَحْصُلُ لِفَاعِلِ ذَلِكَ امْتِثَالُ السُّنَّةِ وَاسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَخَرَجَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ اسْتِغْفَارَ الْمَلَائِكَةِ لَهُ ، هَذَا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي رَحْلِهِ فِي السَّفَرِ فَلَا بَأْسَ بِجُلُوسِهِ فِيهِ ، وَتَغْيِيرُهُ الْهَيْئَةَ أَوْلَى كَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ يَقْعُدُ فِي مُصَلَّاهُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ لِأَنَّهُ قَدْ يُخْلَطُ عَلَى الدَّاخِلِ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ تَعَالِيلَ أُخَرَ مَوْجُودَةً فِي كُتُبِهِمْ .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَأْمُومِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ هَيْئَةَ صَلَاتِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا شَرَعَ فِيهِ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ عَقِبَ صَلَاتِهِ ثُمَّ يَتَنَفَّلُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّ لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَتَنَفَّلَ بَعْدَ الصَّلَاةِ إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ مِمَّا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الْفَرِيضَةَ بَلْ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَيُصَلِّي فِيهَا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا حَرَجَ وَيُصَلِّيهَا فِي مَوْضِعِهِ .

وَالتَّنَفُّلُ فِي الْمَسَاجِدِ بِتَوَابِعِ الْفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْبُيُوتِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِتَأَكُّدِهَا فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْفَرَائِضِ دُونَهَا .
وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا عَدَا الرُّكُوعَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَبَعْدَ الْجُمُعَةِ .
أَمَّا الْمَغْرِبُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَعُ بَعْدَهَا فِي بَيْتِهِ .
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا عُلِمَ مِنْ عَادَتِهِ الْجَمِيلَةِ فِي رَحْمَتِهِ بِأُمَّتِهِ إذْ إنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ صَائِمًا وَرَكَعَ عَقِبَ الْمَغْرِبِ فِي الْمَسْجِدِ لَا يَنْتَظِرُهُ أَكْثَرُهُمْ حَتَّى يَنْصَرِفُوا بِانْصِرَافِهِ فَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ الْأَوْلَادُ وَالْعَائِلَةُ فَيَنْتَظِرُونَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ مَشَقَّةً فَأَزَالَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْهُمْ بِرُكُوعِهِ فِي بَيْتِهِ انْتَهَى ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَكَعَ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يُكْرَهْ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ خَشْيَةً مِنْ وُجُودِ الْمَشَقَّةِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَإِذَا أَمِنَ مِنْهَا جَازَ .
وَأَمَّا فِي الْجُمُعَةِ فَلَا يَتَنَفَّلْ عَقِبَهَا إمَامٌ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا فِي بَيْتِهِ ، بِذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَقَبْلَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ } .
وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا قَامَ يَتَنَفَّلُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَجَبَذَهُ وَأَقْعَدَهُ وَقَالَ لَهُ : اجْلِسْ تُشْبِهُ الْجُمُعَةَ بِمَنْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا } .
فَالتَّنَفُّلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِدْعَةٌ لِمَا ذُكِرَ حَتَّى يَنْصَرِفَ إلَى بَيْتِهِ فَيُصَلِّيَ

فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ غَرِيبًا أَوْ مِمَّنْ لَا بَيْتَ لَهُ أَوْ مِمَّنْ يُرِيدُ انْتِظَارَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَخْرُجُ مِنْ بَابٍ وَيَدْخَلُ مِنْ آخَرِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانِهِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيَرْكَعُ فِيهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إذَا طَالَ مَجْلِسُهُ أَوْ حَدِيثُهُ يَعْنِي مِمَّا يَسُوغُ الْكَلَامُ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْكَعَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ عَقِبَ الصَّلَاةِ .
وَمِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ أَنْ يُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ أَهْلُهُ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ أَوَّلًا وَلِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ إذَا كَانَ إمَامًا فِي الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ .
هَكَذَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ .
وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصَلِّينَ أَنْ يَدْعُوَ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إمَامٍ وَمَأْمُومٍ وَلْيَحْذَرُوا جَمِيعًا مِنْ الْجَهْرِ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَبَسْطِ الْأَيْدِي عِنْدَهُ أَعْنِي عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ إنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ بِذَلِكَ تَعْلِيمَ الْمَأْمُومِينَ بِأَنَّ الدُّعَاءَ مَشْرُوعٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَجْهَرُ بِذَلِكَ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ تَعَلَّمُوا أَمْسَكَ .
وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ أَقْبَلَ عَلَى الدُّعَاءِ يَجْهَرُ بِهِ قَبْلَ الذِّكْرِ الْمَشْرُوعِ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَيَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَهُ الْجَهْرُ فِيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ التَّعْلِيمِ ، وَذَلِكَ مِنْ بَابِ تَرْكِ الْأَفْضَلِ الَّذِي هُوَ الذِّكْرُ الْمَأْثُورُ ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَى بَعْضِ النَّاسِ بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الذِّكْرِ الْمَأْثُورِ عَقِبَ الصَّلَاةِ فَلْيُحَذِّرْ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ .

وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّهْيُ عَنْ الْقِرَاءَةِ جَمَاعَةً وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْهَى النَّاسَ عَمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جَمَاعَةً فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ اسْتِحْبَابُ قِرَاءَتِهَا كَامِلَةً فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ خُصُوصًا فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا عَلَى مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَيَقْرَأُهَا سِرًّا فِي نَفْسِهِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ جَهَرَا فِي غَيْرِهِ أَوْ فِيهِ إنْ كَانَ الْمَسْجِدُ مَهْجُورًا مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَنْ يَتَشَوَّشُ بِقِرَاءَتِهِ وَالسِّرُّ أَفْضَلُ ، وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمْ لِذَلِكَ فَبِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ

فَصْلٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ جَائِزَةٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْجِنَازَةِ وَلَا عَلَى الْإِمَامِ فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَأَمَّا مَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُكْرَهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ صَلَّى عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا شَيْءَ لَهُ } أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِلْعَمَلِ الْمُتَّصِلِ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُصَلُّونَ عَلَى مَيِّتٍ فِي الْمَسْجِدِ .
وَمَا وَرَدَ مِنْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ } فَلَمْ يَصْحَبْهُ الْعَمَلُ ، وَالْعَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْوَى لِأَنَّ الْحَدِيثَ يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَغَيْرَهُ ، وَالْعَمَلُ لَا يَحْتَمِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بَلْ هُوَ عَلَى جَادَّةِ الِاتِّبَاعِ ، وَالِاتِّبَاعُ أَوْلَى مَا يُبَادَرُ إلَيْهِ لِعَدَمِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ ، وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَقَدَّمَ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى الْجِنَازَةِ فَإِنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِمَا فَقَدْ ارْتَكَبَ ثَلَاثَ مَكْرُوهَاتٍ : أَحَدُهَا : الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فِي الْمَسْجِدِ .
الثَّانِي : التَّقَدُّمُ عَلَى الْإِمَامِ .
الثَّالِثَ : التَّقَدُّمُ عَلَى الْجِنَازَةِ وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَكْرُوهٍ فَكَيْفَ إذَا تَعَدَّدَ .
وَحَدُّ الْمَكْرُوهِ مَا تَرْكُهُ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهِ

{ تَنْبِيهٌ } وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا بُنِيَ أَوْ يُبْنَى إلَى جَانِبِ الْمَسْجِدِ مِنْ مِيضَأَةٍ أَوْ سَرَابٍ فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ يَصِلُ مِنْهُ نَدَاوَةٌ إلَى أَرْضِ الْمَسْجِدِ أَوْ جُدْرَانِهِ فَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُبْطِلُهُ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ مُحَرَّمٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا حَصِيرٌ لِأَنَّ الْأَرْضِ هِيَ الْمَسْجِدُ لَا الْحَصِيرُ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَصِيرَ إذَا بُسِطَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْضِ تَنَجَّسَ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْجُدْرَانُ لِأَنَّ الْمُصَلِّينَ يَسْتَنِدُونَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ إلَيْهَا فَتُنَجِّسُ ثِيَابَهُمْ ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ أَوْ مُؤَخَّرِهِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِتَحْصِيلِ الْحَسَنَةِ بِتَيْسِيرِ مَوْضِعِ الطَّهَارَةِ سِيَّمَا فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ مَنْ بَيْتُهُ بَعِيدٌ مِنْهُ ، فَيُقَرِّبُ عَلَى الْجَمِيعِ أَمْرَ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ فَيَقَعُ فِي مُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةً لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ الَّتِي تُوَصِّلُ إلَى السَّيِّئَةِ مَا هِيَ بِحَسَنَةٍ بَلْ هِيَ السَّيِّئَةُ نَفْسُهَا ، وَالْغَالِبُ عَلَى الشَّيْطَانِ أَنْ يَدُسَّ هَذَا الْمَعْنَى لِبَعْضِ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ وَصَلَاحٌ حَتَّى يُوقِعَهُ فِي السَّيِّئَةِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ فِي حَسَنَةٍ ، وَهَذَا مِنْ بَعْضِ مَكَائِدِ إبْلِيسَ اللَّعِينِ

فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْإِمَامِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَنْ تَكُونَ فِي الْمُصَلَّى لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْفَضِيلَةِ الْعَظِيمَةِ خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُصَلَّى وَتَرَكَهُ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى تَأَكُّدِ أَمْرِ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى لِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ فَهِيَ السُّنَّةُ وَصَلَاتُهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِدْعَةٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ ثَمَّ ضَرُورَةٌ دَاعِيَةٌ إلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ بِبِدْعَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ ، وَلِأَنَّهُ { عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ النِّسَاءَ أَنْ يَخْرُجْنَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَأَمَرَ الْحُيَّضَ وَرَبَّاتِ الْخُدُورِ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِمَا فَقَالَتْ إحْدَاهُنَّ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إحْدَانَا لَا يَكُونُ لَهَا جِلْبَابٌ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تُعِيرُهَا أُخْتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا لِتَشْهَدَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ } ، فَلَمَّا أَنْ شَرَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُنَّ الْخُرُوجَ شَرَعَ الصَّلَاةَ فِي الْبَرَاحِ لِإِظْهَارِ شَعِيرَةِ الْإِسْلَامِ ، وَلِيَحْصُلَ لَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا قَدْ أَمَرَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { بَاعِدُوا بَيْنَ أَنْفَاسِ النِّسَاءِ وَأَنْفَاسِ الرِّجَالِ } فَلَمَّا أَمَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَجَعَلَهُ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فَكَانَ النِّسَاءُ بَعِيدًا مِنْ الرِّجَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ وَصَلَاتِهِ جَاءَ إلَى النِّسَاءِ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ ، فَلَوْ كُنَّ قَرِيبًا لَسَمِعْنَ الْخُطْبَةَ وَلَمَا احْتَجْنَ إلَى تَذْكِيرِهِ لَهُنَّ بَعْدَ الْخُطْبَةِ هَذَا وَجْهٌ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَلَوْ

كَبُرَ فَهُمْ مَحْصُورُونَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ أَبْوَابِهِ الْمَعْلُومَةِ ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ عِنْدَ الدُّخُولِ فِيهَا وَالْخُرُوجِ مِنْهَا فَتُتَوَقَّعُ الْفِتَنُ فِي مَوْضِعِ الْعِبَادَاتِ ، وَالْبَرَاحُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِاتِّسَاعِ الْبَرِّيَّةِ فَلَا يَصِلُ فِيهَا أَحَدٌ لِأَحَدٍ فِي الْغَالِبِ ، وَهَذَا بِعَكْسِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْجِدَ عِنْدَهُمْ كَبِيرٌ وَلَهُ أَبْوَابٌ شَتَّى فَيَخْرُجُونَ مِنْهُ إلَى الْبَرَاحِ لِكَوْنِهِ أَوْسَعَ وَهُوَ السُّنَّةُ فَبَنَوْا فِي ذَلِكَ الْبَرَاحِ مَوْضِعًا يَكُونُ فِي الْغَالِبِ عَلَى قَدْرِ صَحْنِ الْجَامِعِ أَوْ أَصْغَرَ وَجَعَلُوا لَهُ بَابَيْنِ لَيْسَ إلَّا بَابًا لِلْجِهَةِ الْقِبْلِيَّةِ وَالْآخَرَ فِي مُقَابَلَتِهِ فَيَجْتَمِعُ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ فِي أَحَدِ الْبَابَيْنِ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ ، وَتَقِفُ الْخَيْلُ وَالدَّوَابُّ عَلَيْهِمَا فَإِذَا انْصَرَفُوا خَرَجُوا مِنْهُمَا كَذَلِكَ مُزْدَحِمِينَ .
وَالْغَالِبُ أَنَّ النِّسَاءَ إذَا خَرَجْنَ لِغَيْرِ الْعِيدِ يَلْبَسْنَ الْحَسَنَ مِنْ الثِّيَابِ وَيَسْتَعْمِلْنَ الطِّيبَ وَيَتَحَلَّيْنَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ مِنْ زِينَتِهِنَّ فَكَيْفَ بِهِنَّ فِي الْعِيدَيْنِ ، وَالرِّجَالُ أَيْضًا يَتَجَمَّلُونَ بِمَا لَا يَجُوزُ لَهُمْ فَتَقَعُ الْفِتَنُ وَتَتَلَوَّثُ الْقُلُوبُ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا لِقُرْبَةٍ فَآلَ الْأَمْرُ إلَى ضِدِّهَا ، وَفِي هَذَا الْبِنَاءِ أُمُورٌ أُخَرُ مِنْهَا أَنَّ الْبَابَيْنِ الْمَفْتُوحَيْنِ لَا بَابَ عَلَيْهِمَا فَيَبْقَى ذَلِكَ الْمَكَانُ مَأْوًى لِمَا لَا يَنْبَغِي مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَاللُّصُوصِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَفْعَلُ الْقَبَائِحَ الْمُتَوَقَّعَةَ فِيهَا .
وَقَدْ قِيلَ مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ فَإِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُوقِعُهَا مَعَهُ وَلَا يَجِدُ مَوْضِعًا فَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْعِصْمَةِ ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَوْضِعَ مُتَيَسِّرًا كَانَ ذَلِكَ تَيْسِيرًا لِلْمَعْصِيَةِ لِمَنْ أَرَادَهَا ، وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ عِبَادَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ هَذَا فَيُتْرَكُ مَكْشُوفًا لَا بِنَاءَ

فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إزَالَةَ مَا فِيهِ مِنْ الْبُنْيَانِ فَيَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيمَا حَوَاهُ الْبُنْيَانُ وَيُصَلِّي خَارِجًا عَنْهُ فِي الْبَرَاحِ فَهُوَ الْأَوْلَى ، وَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ بَلْ الْمُتَعَيِّنُ الْيَوْمَ لَكِنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يَنْصَرِفَ بَعْدَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَفْرُغَ الْإِمَامُ مِنْ خُطْبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْمَعُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْإِنْصَاتِ لِخُطْبَةِ الْجُمُعَةِ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مَكَائِدِ إبْلِيسَ يَأْتِي إلَى مَوَاضِعِ الْقُرَبِ فَيَدُسُّ فِيهَا دَسَائِسَ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الضِّدِّ مِنْ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .

فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ إلَى الْمُصَلَّى وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْمُصَلَّى إنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قُرْبَ طُلُوعِهَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَأَتَى إلَى الْمُصَلَّى لِأَجْلِ بُعْدِ مَنْزِلِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ تَكْبِيرٌ حَتَّى يَدْخُلَ الْوَقْتُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَشْهُورِ .
وَقِيلَ يُشْرَعُ لَهُ التَّكْبِيرُ مِنْ بَعْدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَبَعْدِ صَلَاةِ الصُّبْحِ إذَا خَرَجَ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ .
وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَنْ يَجْهَرَ بِالتَّكْبِيرِ فَيُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَعْقِرَ حَلْقَهُ مِنْ الْبِدَعِ إذْ إنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا ذُكِرَ ، وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ السَّمْتِ وَالْوَقَارِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ أَعْنِي فِي التَّكْبِيرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إمَامًا أَوْ مُؤَذِّنًا أَوْ غَيْرَهُمَا فَإِنَّ التَّكْبِيرَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ أَجْمَعِينَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ إلَّا النِّسَاءَ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُسْمِعُ نَفْسَهَا لَيْسَ إلَّا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ ، فَكَأَنَّ التَّكْبِيرَ إنَّمَا شُرِعَ فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ فَتَجِدُ الْمُؤَذِّنِينَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَسْتَمِعُونَ لَهُمْ وَلَا يُكَبِّرُونَ وَيَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ كَأَنَّ التَّكْبِيرَ مَا شُرِعَ إلَّا لَهُمْ ، وَهَذِهِ بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ ثُمَّ إنَّهُمْ يَمْشُونَ عَلَى صَوْتِ وَاحِدٍ وَذَلِكَ بِدْعَةٌ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ إنَّمَا هُوَ أَنْ يُكَبِّرَ كُلُّ إنْسَانٍ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ .
وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا وَقُودُهُمْ الْقَنَادِيلَ فِي طَرِيقِ الْإِمَامِ عِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْعِيدِ ، وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ أَيْضًا أَنَّهُمْ يَأْتُونَ إلَى بَابِ دَارِ الْإِمَامِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْعِيدِ ، فَإِذَا اجْتَمَعُوا وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ شَرَعُوا فِي التَّكْبِيرِ عَلَى مَا

وَصَفْنَا مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ الْخَارِجِ عَنْ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ فَيَمْشُونَ مَعَهُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى يَصِلُوا إلَى قُرْبِ الْمِحْرَابِ فَيَتَشَوَّشُ مَنْ فِي الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ وَحِينَئِذٍ يَقْطَعُونَ التَّكْبِيرَ وَيَأْخُذُونَ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ خَرَجُوا مَعَ إمَامِهِمْ بِالتَّكْبِيرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالنَّاسُ سُكُوتٌ لَا يُكَبِّرُونَ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ التَّكْبِيرُ سُنَّةً فَفِعْلُهُمْ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ مِنْ الْبِدَعِ .
وَكَذَلِكَ تَكْبِيرُهُمْ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ .
وَكَذَلِكَ سُكُوتُ النَّاسِ لِأَجْلِ اسْتِمَاعِهِمْ وَتَرْكِهِمْ التَّكْبِيرَ لِأَنْفُسِهِمْ فَهَذِهِ ثَلَاثُ بِدَعٍ مُعَارِضَةٌ لِسُنَّةِ التَّكْبِيرِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَنَّهُ يُكَبِّرُ كُلُّ مَنْ خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ الرِّجَالِ إمَامًا كَانَ أَوْ مُؤَذِّنًا أَوْ غَيْرَهُمَا يُسْمِعُ بِذَلِكَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ وَفَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يَعْقِرَ حَلْقَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحْدَثٌ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَحْسَنَ اللِّبَاسِ وَأَفْضَلَهُ الْبَيَاضُ فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْقَوْمِ حَتَّى فِي مَلْبَسِهِ وَزِيِّهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي اللِّبَاسِ فِي الْجُمُعَةِ بِشَرْطِهِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْدُمَ الصَّلَاةَ فَيُوقِعُهَا فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَبَعْضُ الْأَئِمَّةِ يَفْعَلُونَ هَذَا وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى تَرْتَفِعَ وَعِنْدَ الْغُرُوبِ حَتَّى تَغِيبَ ، فَيُوقِعُ بَعْضُهُمْ الصَّلَاةَ عِنْدَ بُزُوغِ الشَّمْسِ وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ فَيَخْرُجُ إلَى فِعْلِ بِرٍّ فَيَقَعُ فِي ضِدِّهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُونَ ضِدَّ هَذَا فَيُؤَخِّرُونَ صَلَاةَ الْعِيدِ حَتَّى تَسْخَنُ الشَّمْسُ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ فِي الْخَارِجِ إلَى الْمُصَلَّى أَنْ يُعَجِّلَ الْأَوْبَةَ إلَى أَهْلِهِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ فِي عِيدِ الْأَضْحَى فَيُضَحِّي لَهُمْ إنْ كَانَ مُمْنٍ يُضَحِّي حَتَّى يُفْطِرُوا عَلَى أُضْحِيَّتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِي عِيدِ الْفِطْرِ فَيَأْكُلُونَ مَعَهُ وَإِنْ كَانُوا قَدْ أَفْطَرُوا قَبْلَ خُرُوجِهِمْ إلَى الْمُصَلَّى عَلَى تَمَرَاتٍ أَوْ الْمَاءِ كَمَا وَرَدَتْ السُّنَّةُ ، وَالْغَالِبُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الْعِيَالُ وَالْأَوْلَادُ فَيَبْقَوْنَ مُتَشَوِّفِينَ مُنْتَظِرِينَ لَهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَهُوَ الْوَسَطُ فَالْمُخْتَارُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يُؤَخِّرَهَا حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ .

فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ إلَى الصَّحْرَاءِ وَخَطَبَ فَلْيَكُنْ بِالْأَرْضِ لَا عَلَى الْمِنْبَرِ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ رَوَيْنَا أَنَّ مَرْوَانَ لَمَّا أَحْدَثَ الْمِنْبَرَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ عِنْدَ الْمُصَلَّى قَامَ إلَيْهِ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ يَا مَرْوَانُ : مَا هَذِهِ الْبِدْعَةُ ؟ فَقَالَ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ هِيَ خَيْرٌ مِمَّا تَعْلَمُ إنَّ النَّاسَ قَدْ كَثُرُوا فَأَرَدْتُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ الصَّوْتُ .
فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَاَللَّهِ لَا تَأْتُونَ بِخَيْرٍ مِمَّا أَعْلَمُ أَبَدًا وَاَللَّهِ لَا صَلَّيْتُ وَرَاءَكَ الْيَوْمَ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُصَلِّ مَعَهُ صَلَاةَ الْعِيدِ انْتَهَى .
فَإِنْ فَعَلَ وَخَطَبَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ وَحْدَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَدْ أَحْدَثُوا فِي مِنْبَرِ الْعِيدِ الْيَوْمَ بِدْعَةً أَكْثَرَ مِنْ جُلُوسِ الرَّئِيسِ مَعَ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ زَادُوا أَنَّ الْخَطِيبَ إذَا خَطَبَ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ امْتَلَأَ الْمِنْبَرُ كُلُّهُ مِنْ الْمُؤَذِّنِينَ وَغَيْرِهِمْ يَرْتَصُّونَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِيمَا فَوْقَ الْمِنْبَرِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَطَبَ أَنْ يُوجِزَ فِي خُطْبَتِهِ وَلَا يُطِيلُهَا فَإِنَّ التَّطْوِيلَ هَاهُنَا أَشَدُّ كَرَاهَةً مِنْهُ فِي الْجُمُعَةِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ انْتِظَارِ الْأَهْلِ لَهُمْ فِي الْعِيدَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

فَصْلٌ فِي التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الْمُصَلَّى وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ يُصَلِّي فِي الْمُصَلَّى التَّحَفُّظُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَوْضِعٍ فِيهِ نَجَاسَةٌ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مِمَّا تَطَؤُهُ الْخَيْلُ وَالدَّوَابُّ فَلَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ سِيَّمَا وَإِيقَاعُ الصَّلَاةِ يَكُونُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الشَّمْسُ عَلَى الْأَرْضِ فَتُنَشِّفَ تِلْكَ الرُّطُوبَةَ ، فَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا تَنَجَّسَ مَا أُصِيبَ مِنْ بَدَنِهِ أَوْ ثِيَابِهِ ، وَإِنْ فَرَشَ عَلَيْهَا شَيْئًا يُصَلِّي عَلَيْهِ تَنَجَّسَ فَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَغْسِلَهُ .
وَقَدْ تَكُونُ الصَّلَاةُ عَلَى مَوْضِعِ قُبُورٍ .
وَقَدْ كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةَ عَلَيْهَا دُونَ حَائِلٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَقْبَرَةُ جَدِيدَةً لَمْ تُنْبَشْ بَعْدُ وَقِيلَ هِيَ مَكْرُوهَةٌ مُطْلَقًا فِي الْجَدِيدَةِ وَالْقَدِيمَةِ إلَّا عَلَى حَائِلٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكَ وَغَفَرَ لَنَا وَلَك عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : جَائِزٌ لِأَنَّهُ قَوْلٌ حَسَنٌ .
مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ .
مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ وَدُعَاءُ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ مُسْتَحَبٌّ .
الرَّابِعُ : لَا يَبْتَدِئُ بِهِ فَإِنْ قَالَ لَهُ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ .
وَإِذَا كَانَ اخْتِلَافُهُمْ فِي هَذَا الدُّعَاءِ الْحَسَنِ مَعَ تَقَدُّمِ حُدُوثِهِ فَمَا بَالُكَ بِقَوْلِ الْقَائِلِ عِيدٌ مُبَارَكٌ مُجَرَّدًا عَنْ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مَعَ أَنَّهُ مُتَأَخِّرُ الْحُدُوثِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَكْرَهُوهُ ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ يَوْمٌ مُبَارَكٌ وَلَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ وَصَبَّحَكَ اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَمَسَّاكَ بِالْخَيْرِ .
وَقَدْ كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كُلَّ ذَلِكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ .

وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ فَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ وَأَجَازَهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ أَعْنِي عِنْدَ اللِّقَاءِ مِنْ غَيْبَةٍ كَانَتْ .
وَأَمَّا فِي الْعِيدِ لِمَنْ هُوَ حَاضِرٌ مَعَكَ فَلَا .
وَأَمَّا الْمُصَافَحَةُ فَإِنَّهَا وُضِعَتْ فِي الشَّرْعِ عِنْدَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ .
وَأَمَّا فِي الْعِيدَيْنِ عَلَى مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَتَصَافَحُونَ فَلَا أَعْرِفُهُ .
لَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ النُّعْمَانِ : رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ أَدْرَكَ بِمَدِينَةِ فَاسَ وَالْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ بِهَا مُتَوَافِرُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ صَافَحَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِنْ كَانَ يُسَاعِدُهُ النَّقْلُ عَنْ السَّلَفِ فَيَا حَبَّذَا وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْ عَنْهُمْ فَتَرْكُهُ أَوْلَى

فَصْلٌ فِي خُرُوجِ النِّسَاءِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ قَدْ تَقَدَّمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ النِّسَاءَ بِالْخُرُوجِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمُصَلَّى حَتَّى الْحُيَّضَ وَرَبَّاتِ الْخُدُورِ } وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي وَقْتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ التَّسَتُّرِ وَتَرْكِ الزِّينَةِ وَالصِّيَانَةِ وَالتَّعَفُّفِ وَأَنَّ مُرُوطَهُنَّ تَنْجَرُّ خَلْفَهُنَّ مِنْ شِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ وَبُعْدِهِنَّ مِنْ الرِّجَالِ ، وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْ عَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدَهُ لَمَنَعْهُنَّ الْمَسَاجِدَ كَمَا مُنِعَهُ نِسَاءُ بَنِي إسْرَائِيلَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ مَنْعُهُنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِمَا فِي خُرُوجِهِنَّ مِنْ الْفِتَنِ الَّتِي لَا تَكَادُ تَخْفَى ، وَمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ ضِدِّ الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا .

فَصْلٌ فِي انْصِرَافِ النَّاسِ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْخُرُوجِ إلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ سُرْعَةُ الْأَوْبَةِ إلَى الْأَهْلِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَلَهُ أَنْ يَزُورَ إخْوَانَهُ مِنْ الْأَحْيَاءِ لَكِنْ إنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ فَلْيَبْدَأْ بِهِمْ وَيُزِيلُ تَشَوُّفَهُمْ إلَيْهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَمْضِي لِمَا يَخْتَارُهُ مِنْ زِيَارَةِ مَنْ ذُكِرَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ فَلْيَمْضِ إلَى إخْوَانِهِ وَمَعَارِفِهِ الْمُتَّقِينَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ لِلتَّبَرُّكِ بِرُؤْيَتِهِمْ وَالْتِمَاسِ الدُّعَاءِ مِنْهُمْ لَكِنْ يَتَحَرَّى وَقْتَ زِيَارَتِهِمْ إذْ إنَّ الْغَالِبَ مِنْ إخْوَانِهِ أَنَّهُمْ يُضَحُّونَ ، وَالسُّنَّةُ فِيهَا أَنْ يَتَوَلَّى الْمُكَلَّفُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا خَرَجَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ مُعَدٌّ لِلذَّبْحِ غَالِبًا فَلْيَمْشِ عَلَيْهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلَهُ أَنْ يَأْتِيَ إلَيْهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ لِعَدَمِ الْمَانِعِ .

فَصْلٌ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ فَإِنْ صُلِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ ضَرُورَةِ الْمَطَرِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ فَالسُّنَّةُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُصَلَّى لَكِنْ فِي الْمَسْجِدِ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْبَرِّيَّةِ تَنْزِيهًا لِلْمَسْجِدِ مِنْ رَفْعِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ النِّسَاءُ بِمَعْزِلٍ بَعِيدٍ عَنْ الرِّجَالِ بِخِلَافِ مَا هُنَّ الْيَوْمَ يَفْعَلْنَهُ لِأَنَّهُنَّ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ الْمَسْجِدَ غَالِبُهُ مَمْلُوءٌ يَوْمَ الْعِيدِ بِالنِّسَاءِ وَغَالِبُ خُرُوجِهِنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَلَوْ مُنِعْنَ الْخُرُوجَ لَكَانَ أَحْسَنَ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْوُعَّاظِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الْكَلَامِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُهُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَفِي حَقِّ النِّسَاءِ مِنْ بَابِ أَوْلَى إذْ إنَّ مَفَاسِدَهُنَّ تَزِيدُ عَلَى مَفَاسِدِ الرِّجَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ الْوُعَّاظِ مِنْ الْمَسْجِدِ مُطْلَقًا

فَصْلٌ فِي التَّكْبِيرِ إثْرَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَيَّامِ الْعِيدِ وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ يُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي أَيَّامِ إقَامَةِ الْحَجِّ بِمِنًى فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاةِ الْفَرْضِ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ كَبَّرَ تَكْبِيرًا يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ وَكَبَّرَ الْحَاضِرُونَ بِتَكْبِيرِهِ كُلُّ وَاحِدٍ يُكَبِّرُ لِنَفْسِهِ وَلَا يَمْشِي عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ عَلَى مَا وُصِفَ مِنْ أَنَّهُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه فَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ .
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ أَنَّهُ إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ كَبَّرَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِهِمْ فِي الْمَآذِنِ وَيُطِيلُونَ فِيهِ وَالنَّاسُ يَسْتَمِعُونَ إلَيْهِمْ وَلَا يُكَبِّرُونَ فِي الْغَالِبِ وَإِنْ كَبَّرَ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَصْوَاتِهِمْ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ إذْ إنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ بَعْدَهُ .
وَفِيهِ إخْرَاقُ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ وَالتَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ بِهِ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَالتَّالِينَ وَالذَّاكِرِينَ .

فَصْلٌ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ فِي الْمَسْجِدِ قَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمَّا أَنْ اجْتَمَعُوا جَلَسَ فِي الرَّابِعَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ إلَيْهِمْ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ عَرَفْت الَّذِي رَأَيْت مِنْ صَنِيعِكُمْ وَمَا مَنَعَنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ إلَّا خَشْيَةَ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ } فَلَمَّا أَنْ مَضَى لِسَبِيلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمِنَ مِمَّا ذَكَرَهُ مِنْ الْفَرْضِ عَلَى الْأُمَّةِ .
فَلَمَّا أَنْ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخِلَافَةَ وَتَفَرَّغَ لِلنَّظَرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَكَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَقُومُونَ فِي لَيَالِي رَمَضَانِ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ جَمَعْتُهُمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ لَكَانَ أَحْسَنَ فَجَمَعَهُمْ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْلَةً أُخْرَى وَهُمْ يُصَلُّونَ عَلَى مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ : نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ أَصْلِ فِعْلِهَا وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ بِدْعَةً .
وَإِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : جَمْعُهُمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ قِيَامَهُمْ أَوَّلَ اللَّيْلِ دُونَ آخِرِهِ وَأَمَّا الْفِعْلُ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ سُنَّةٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ .
وَمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّمَا هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِهِمْ لَا عَلَيْهِمْ إذْ إنَّهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ الْفَضِيلَتَيْنِ مِنْ قِيَامِ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا حَكَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُوَطَّئِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا انْصَرَفُوا مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ اسْتَعْجَلُوا الْخَدَمَ بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ الْفَجْرِ وَكَانُوا

يَعْتَمِدُونَ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَقَدْ حَازُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْفَضِيلَتَيْنِ مَعًا قِيَامَ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَآخِرِهِ فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت مُتَّبِعًا .
إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعٌ وَهُمْ سَادَتُنَا وَقُدْوَتُنَا إلَى رَبِّنَا فَيَنْبَغِي لَنَا الِاتِّبَاعُ لَهُمْ وَالِاقْتِفَاءُ لِآثَارِهِمْ الْمُبَارَكَةِ لَعَلَّ بَرَكَةَ ذَلِكَ تَعُودُ عَلَى الْمُتَّبِعِ لَهُمْ ، لَكِنْ هَذَا قَدْ تَعَذَّرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ أَعْنِي قِيَامَ اللَّيْلِ كُلِّهِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَا يَخْتَلِطُ بِهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْيَوْمَ أَنْ لَا يُخْلِيَ نَفْسَهُ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ أَلْبَتَّةَ بَلْ يَفْعَلُهَا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ النَّاسِ عَلَى مَا هُمْ يَفْعَلُونَ الْيَوْمَ مِنْ التَّخْفِيفِ فِيهَا فَإِذَا فَرَغُوا وَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغْتَنِمَ بَرَكَةَ اتِّبَاعِهِمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَيُصَلِّي فِي بَيْتِهِ بِمَنْ تَيَسَّرَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهِ أَوْ وَحْدَهُ فَتَحْصُلُ الْفَضِيلَةُ الْكَامِلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَكُونُ وَتْرُهُ آخِرَ تَنَفُّلِهِ اقْتِدَاءً بِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَكَانَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِسَلَامٍ ، أَمَّا أَنَا فَإِذَا أَوْتَرُوا خَرَجْت وَتَرَكْتُهُمْ فَلِلْإِنْسَانِ بِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أُسْوَةُ فِي تَرْكِ الْوِتْرِ مَعَهُمْ حَتَّى يُوتِرَ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ تَنَفُّلِهِ آخِرَ اللَّيْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى النَّوْمِ إذَا آتَى إلَى بَيْتِهِ ، وَيَخَافُ أَنْ يَسْتَغْرِقَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا يُغَرُّ وَيَتْرُكْ الْوِتْرَ بَعْدَ نَوْمِهِ وَلْيُوقِعْهُ قَبْلَهُ ، فَإِنْ أَدْرَكَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ شَيْئًا قَامَهُ وَلَمْ يُعِدْ وِتْرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْوِتْرُ فِي وَقْتِهِ وَلَا حَرَجَ

عَلَيْهِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ مَعَ النَّاسِ صَلَاةَ الْقِيَامِ وَيُوتِرُ مَعَهُمْ فَإِذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ صَلَّى مَا قُدِّرَ لَهُ وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ ، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ شَيْخَهُ سَيِّدِي الشَّيْخَ أَبَا الْحَسَنِ الزَّيَّاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ .
وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ يُعَجِّلُ فِطْرَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي بِحِزْبَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ أَكْثَرَ قَبْلَ الْعِشَاءِ ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُصَلِّي مَعَ النَّاسِ الْقِيَامَ وَيُوتِرُ مَعَهُمْ ثُمَّ إذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ صَلَّى لِنَفْسِهِ بِحِزْبَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ أَكْثَرَ فَيَجْتَمِعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ ثُمُنُ الْخَتْمَةِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْغَالِبِ ثُمَّ يَنَامُ مَا قُدِّرَ لَهُ ثُمَّ يَقُومُ لِتَهَجُّدِهِ فَيُصَلِّي مَا تَيَسَّرَ لَهُ مِمَّا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ اللَّيْلِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ قَرَّرْتُمْ أَنَّ قِيَامَ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ سُنَّةٌ فَمَا وَجْهُ تَرْكِ أَبِي بَكْرٍ لَهَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُشْتَغِلًا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَهَمُّ فِي الدِّينِ وَهُوَ قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَمَانِعِي الزَّكَاةِ ، وَبَعْثُ الْجُيُوشِ إلَى الشَّامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ وَغَيْرِهِ ، وَتَرَاكُمِ الْفِتَنِ عِنْدَ انْتِقَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ شُغْلِهِ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ وَتَدْوِينِهِ مَعَ قِصَرِ مُدَّتِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِمَا تَفَرَّغَ لَهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَانَ مَا ذُكِرَ وَاتَّضَحَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

فَصْلٌ فِي صِفَةِ الْإِمَامِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ وَالدِّيَانَةِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إنَّمَا يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لِحُسْنِ صَوْتِهِ لَا لِحُسْنِ دِينِهِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ يُقَدِّمُونَ الرَّجُلَ لِيُصَلِّيَ بِهِمْ لِحُسْنِ صَوْتِهِ إنَّمَا يُقَدِّمُوهُ لِيُغَنِّيَ لَهُمْ وَهَذَا إذَا كَانَ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ التَّطْرِيبِ فِي الْقِرَاءَةِ وَوَضْعِهَا عَلَى الطَّرَائِقِ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَيْهَا الَّتِي تُشْبِهُ الْهُنُوكَ وَأَمَّا لَوْ قَدَّمُوهُ لِدِينِهِ وَحُسْنِ صَوْتِهِ وَقِرَاءَتِهِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْمَشْرُوعِ فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَدَّمَ لِلْإِمَامَةِ إلَّا مَنْ تَطَوَّعَ بِهَا دُونَ مَنْ يَأْخُذُ عَلَيْهَا عِوَضًا ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا بِهِ فَقِيلَ تُبَاحُ وَقِيلَ تُكْرَهُ وَهِيَ فِي الْفَرِيضَةِ أَشَدُّ كَرَاهَةً .
وَأَجَازَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيِّ الصَّلَاةُ خَلْفَهُ بَاطِلَةٌ .
وَكَرِهَ ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ الْقَوْمِ وَمِنْ جُمْلَةِ فَضِيلَتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ لَا لِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ عَلَى صَلَاتِهِ ، فَإِنْ كَانَ ثَمَّ عِوَضٌ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَيْهِ وَأَنْ يُصَلِّيَ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِغَيْرِهِ وَيَتْرُكَ النَّظَرَ لِلْعِوَضِ ، فَإِنْ جَاءَهُ شَيْءٌ وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ قَبِلَهُ لِضَرُورَتِهِ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَأَخَذَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ بِجَامِعِ مِصْرَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فِيهِ وَكَانَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ مِنْ الْمَغَارِبَةِ يَجِيءُ الْمَسْجِدَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ مِنْ صَلَاتِهِ فَيُصَلِّي فِي آخِرِ الْمَسْجِدِ لِنَفْسِهِ فَيُصَلِّي بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ حَتَّى عَلِمَ

بِهِ النَّاسُ فَرَجَعَ أَكْثَرُهُمْ وَتَرَكُوا الصَّلَاةَ خَلْفَ الْإِمَامِ الْأَصْلِيِّ وَصَلُّوا خَلْفَ هَذَا لِاعْتِقَادِهِمْ فِيهِ فَتَشَوَّشَ الْإِمَامُ مِنْ ذَلِكَ لِقِلَّةِ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَهُ وَكَثْرَةِ مَنْ يُصَلِّي خَلْفَ الْآخَرِ فَاجْتَمَعَ بِهِ وَسَأَلَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ عَلَى صَلَاتِهِ أُجْرَةً فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ مَا أَكَلْت مِنْهَا شَيْئًا قَطُّ وَلَكِنِّي أَتَصَدَّقُ بِهَا فَقَالَ لَهُ الْآنَ أُصَلِّي خَلْفَك فَرَجَعَ فَصَلَّى خَلْفَهُ .
فَإِذَا أَخَذَ الْعِوَضَ لَا لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ وَاَلَّذِي يَتَبَيَّنُ بِهِ ذَلِكَ وَيَتَّضِحُ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ عَنْهُ الْعِوَضُ ، فَإِنْ تَبَرَّمَ وَتَضَجَّرَ أَوْ تَرَكَ الْإِمَامَةَ فَلَا شَكَّ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْمُلَازَمَةِ وَالسُّكُوتِ وَالرِّضَا فَلَا يَضُرُّهُ مَا أَخَذَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا مَا تَقَدَّمَ فِي حَالِ الْعَالِمِ فِي أَخْذِهِ الْجَامِكِيَّةَ عَلَى التَّدْرِيسِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ

فَصْلٌ فِي الذِّكْرِ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الذِّكْرِ بَعْدَ كُلِّ تَسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَمِنْ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ بِذَلِكَ وَالْمَشْيِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبِدَعِ وَكَذَلِكَ يَنْهَى عَنْ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ بَعْدَ ذِكْرِهِمْ بَعْدَ التَّسْلِيمَتَيْنِ مِنْ صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ : الصَّلَاةَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ فَإِنَّهُ مُحْدَثٌ أَيْضًا وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ثُمَّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَلَمْ يُذْكَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ فِعْلُ ذَلِكَ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ

فَصْلٌ فِيمَا يُفْعَلُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْخَتْمِ مِنْ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كُلِّهَا فِي الْغَالِبِ بِحِزْبَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا فَإِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْخَتْمِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِيهَا عَلَى الْقِيَامِ الْمَعْهُودِ لِفَضِيلَتِهَا فَيُصَلِّي بَعْضُهُمْ فِيهَا بِنِصْفِ حِزْبٍ لَيْسَ إلَّا وَهُوَ مِنْ سُورَةِ وَالضُّحَى إلَى آخِرِ الْخَتْمَةِ وَكَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَقُومُونَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ كُلَّهَا فَجَاءَ هَؤُلَاءِ فَفَعَلُوا الضِّدَّ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ

فَصْلٌ فِي صِفَةِ قِيَامِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي قِيَامِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ إذْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ طَوَى فِرَاشَهُ وَشَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَأَحْيَا اللَّيْلَ كُلَّهُ } .
وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يَقُومُونَ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ تَرَكُوهُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَخْتِمُونَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ لِلْقِيَامِ بَعْدَ خَتْمِهِمْ .
وَهَذِهِ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا وَهِيَ مُصَادِمَةٌ لِفِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَإِنْ قَامَ بَعْضُهُمْ فَبِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ مَعَ أَنَّهُ قَدْ أَحْيَا بَعْضُهُمْ هَذَا الْعَشْرَ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ وَهِيَ سُنَّةٌ حَسَنَةٌ لَوْ سَلِمَتْ مِمَّا طَرَأَ عَلَيْهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ فَمِنْهَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهَا عِوَضًا مَعْلُومًا الثَّانِي : أَنَّ الْمَسْجِدَ يَبْقَى فِي ظَلَامِ اللَّيْلِ مَفْتُوحَ الْأَبْوَابِ يَدْخُلُ إلَيْهِ مِنْهَا مَنْ يَقُومُ وَمَنْ لَا يَقُومُ وَظَلَامُ اللَّيْلِ يَسْتُرُهُمْ فَلَوْ كَانَ مَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَئِمَّةِ وَقَفَ عَلَى زَيْتٍ يَعُمُّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ بِضَوْئِهِ وَعَلَى رِجَالٍ يَطُوفُونَ بِالْمَسْجِدِ طُولَ لَيْلِهِمْ فَمَنْ رَأَوْهُ فِيهِ فِي غَيْرِ عِبَادَةٍ أَخْرَجُوهُ لَكَانَ ذَلِكَ حَسَنًا .
وَأَمَّا مَعَ عَدَمِ هَذَا فَمَفَاسِدُهُ كَثِيرَةٌ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ

فَصْلٌ فِي الْخُطْبَةِ عَقِبَ الْخَتْمِ وَالْخُطَبُ الشَّرْعِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهَا خُطْبَةٌ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ وَلَا غَيْرِهِ وَإِذَا لَمْ تُذْكَرْ فَهِيَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَوْضِعُ مَعْرُوفًا مَشْهُورًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدَ الْجَامِعَ أَوْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ مَنْسُوبًا إلَى عَالِمٍ أَوْ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ أَوْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى الْمَشْيَخَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَفِعْلُ ذَلِكَ فِيهِ أَشَدُّ كَرَاهَةً لِاقْتِدَاءِ كَثِيرٍ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا فِي حَقِّ الْمَسَاجِدِ كُلِّهَا لَكِنْ يَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ فِي حَقِّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ الْخَتْمِ مِنْ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الْأَصْوَاتِ وَالزَّعَقَاتِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يُعْرِضُونَ عَنْ التَّضَرُّعِ وَالْخُفْيَةِ بِالْعِيَاطِ وَالزَّعَقَاتِ وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَقَدْ سُئِلَ بَعْضُ السَّلَفِ عَنْ الدُّعَاءِ الَّذِي يَدْعُو بِهِ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ فَقَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ تِلَاوَتِي إيَّاهُ سَبْعِينَ مَرَّةً .
وَسُئِلَ غَيْرُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَمْقُتَنِي عَلَى تِلَاوَتِي وَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَمْ مِنْ قَارِئٍ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ يَقُولُ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَهُوَ ظَالِمٌ انْتَهَى .
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الظُّلْمَ إنَّمَا هُوَ فِي الدِّمَاءِ أَوْ الْأَعْرَاضِ أَوْ الْأَمْوَالِ بَلْ هُوَ عَامٌّ إذْ قَدْ يَكُونُ ظَالِمًا لِنَفْسِهِ فَيَدْخُلُ إذْ ذَاكَ تَحْتَ الْوَعِيدِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ خُشُوعٍ وَتَضَرُّعٍ وَابْتِهَالٍ وَرُجُوعٍ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالتَّوْبَةِ مِمَّا قَارَفَهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَالسَّهْوِ وَالْغَفَلَاتِ وَتَقْصِيرِ حَالِ الْبَشَرِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْذُلَ الْعَبْدُ جَهْدَهُ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَمَرْتَبَتِهِ .
وَمِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلُهُ { اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِك وَشُكْرِك وَحُسْنِ عِبَادَتِك } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي } وَمِنْ ذَلِكَ الدُّعَاءُ الَّذِي عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ لَهُ قُلْ اللَّهُمَّ تَمِّمْ عَلَيَّ النِّعْمَةَ حَتَّى تُهَنِّئَنِي الْمَعِيشَةُ وَحَسِّنْ لِي الْعَاقِبَةَ حَتَّى لَا تَضُرَّنِي ذُنُوبِي وَخَلِّصْنِي مِنْ شَبَائِكِ الدُّنْيَا وَكُلِّ هَوْلٍ فِي الْقِيَامَةِ حَتَّى

تُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَإِذَا أَرَدْت بِالنَّاسِ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إلَيْك غَيْرَ مَفْتُونٍ } .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْأَذْكَارِ وَالدَّعَوَاتِ مَرَّ بَعْضُ السَّلَفِ بِقَاصٍّ يَدْعُو بِسَجْعٍ فَقَالَ لَهُ أَعْلَى اللَّهِ تُبَالِغُ أَشْهَدُ لَقَدْ رَأَيْت حَبِيبًا الْعَجَمِيَّ يَدْعُو وَمَا يَزِيدُ عَلَى قَوْلِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا جَيِّدِينَ اللَّهُمَّ لَا تَفْضَحْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِلْخَيْرِ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَرَاءَهُ وَكَانَ يُعْرَفُ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ اُدْعُ اللَّهَ بِلِسَانِ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ لَا بِلِسَانِ الْفَصَاحَةِ وَالِانْطِلَاقِ .
وَقِيلَ إنَّ الْعُلَمَاءَ وَالْأَبْدَالَ لَا يَزِيدُ أَحَدُهُمْ فِي الدُّعَاءِ عَلَى سَبْعِ كَلِمَاتٍ فَمَا دُونَهَا .
وَيَشْهَدُ لَهُ آخِرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُخْبِرْ فِي مَوْضِعٍ مِنْ أَدْعِيَةِ عِبَادِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى .
هَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ فِي الْجَمَاعَاتِ أَوْ مَنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ مَوْضِعِ الْعِبَادَاتِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْإِنْسَانُ وَحْدَهُ أَوْ فِي جَمَاعَةٍ يُؤْثِرُونَ تَطْوِيلَ دُعَائِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْضِيَ فِيهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ } وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ وَيَجُوزُ فِي الْمَسْجِدِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَهْرُ وَالتَّطْوِيلُ بِالدُّعَاءِ عَادَةً .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنْ يَمْضِيَ فِيمَا فُتِحَ لَهُ فِيهِ فِي أَيِّ وُجْهَةٍ كَانَتْ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ تَضَرُّعٍ أَوْ ابْتِهَالٍ أَوْ خُشُوعٍ حَتَّى إنَّهُمْ قَدْ قَالُوا لَوْ أَخَذَهُ الْخُشُوعُ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ فَلْيَمْضِ فِي

ذَلِكَ وَلَوْ خَتَمَ الْخَتْمَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ الْخُشُوعَ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ يُكَرِّرُهَا مَا دَامَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الصَّبَاحِ وَلَا يَقْطَعُهَا إلَّا لِفَرْضٍ تَعَيَّنَ .
وَكَذَلِكَ إذَا فُتِحَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ فَالْمُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ أَنْ لَا يَقْطَعَهُ أَيْضًا فَمَنْ لَهُ عَقْلٌ فَلْيَرْجِعْ إلَى عَمَلِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَيَتْرُكْ الْحَدَثَ فِي الدِّينِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ قَالَ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الْفِهْرِيُّ الْمَشْهُورُ بِالطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَأْثَمُ فَاعِلُ ذَلِكَ .
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ السَّلَامَةِ مِنْ اللَّغَطِ وَلَمْ يَكُنْ إلَّا الرِّجَالُ أَوْ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ مُنْفَرِدِينَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ يَسْمَعُونَ الدُّعَاءَ فَهَذِهِ الْبِدْعَةُ الَّتِي كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجْرِي فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمُصَادَمَةِ أَجْسَادِهِمْ وَمُزَاحَمَةِ مَنْ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ مِنْ أَهْلِ الرَّيْبِ وَمُعَانَقَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ كَمَا حُكِيَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ رَجُلًا يَطَأُ امْرَأَةً وَهُمْ وُقُوفٌ فِي زِحَامِ النَّاسِ وَحَكَتْ لَنَا امْرَأَةٌ أَنَّ رَجُلًا وَاقَعَهَا فَمَا حَالَ بَيْنَهُمَا إلَّا الثِّيَابُ وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الْفِسْقِ وَاللَّغَطِ فَهَذَا فُسُوقٌ فَيَفْسُقُ الَّذِي كَانَ سَبَبًا فِي اجْتِمَاعِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ قَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ جَمَعَ أَهْلَهُ .
قُلْنَا فَهَذَا هُوَ الْحُجَّةُ عَلَيْكُمْ بِأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَيَجْمَعُ أَهْلَهُ فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَلْفِيقِ الْخَطْبِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ وَتَخْتَلِطُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالْغَوْغَاءُ وَتَكْثُرُ الزَّعَقَاتُ وَالصِّيَاحُ وَيَخْتَلِطُ الْأَمْرُ وَيَذْهَبُ بَهَاءُ الْإِسْلَامِ وَوَقَارُ الْإِيمَانِ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَا

رُوِيَ أَنَّهُ دَعَا وَإِنَّمَا جَمَعَ أَهْلَهُ فَحَسْبُ .
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ يَا حَبَّذَا صُفْرَةُ مَاءِ ذِرَاعَيْهَا لِمَاءٍ كَانَ قَدْ تَوَضَّأَتْ بِهِ امْرَأَةٌ فَبَقِيَ فِيهِ مِنْ أَثَرِ الزَّعْفَرَانِ فَعَلَاهُ بِالدِّرَّةِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ فِي مَجْلِسِ الْمَرْأَةِ عَقِبَ قِيَامِهَا وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِأَصْلِ الذَّرَائِعِ يَلْزَمُهُ الْقَوْلُ بِهَذَا الْفَرْعِ وَمَنْ أَبَى أَصْلَ الذَّرَائِعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَلْزَمُهُ إنْكَارُهُ لِمَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ اخْتِلَاطِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ انْتَهَى

فَصْلٌ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ الْخَتْمِ بِسَجَدَاتِ الْقُرْآنِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْبِدَعِ عِنْدَ الْخَتْمِ وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُومُونَ بِسَجَدَاتِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا فَيَسْجُدُونَهَا مُتَوَالِيَةً فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ رَكَعَاتٍ فَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ غَيْرَهُ إذْ إنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ بَعْدَ السَّلَفِ وَبَعْضُهُمْ يُبَدِّلُ مَكَانَ السَّجَدَاتِ قِرَاءَةَ التَّهْلِيلِ عَلَى التَّوَالِي فَكُلُّ آيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ قَرَأَهَا إلَى آخِرِ الْخَتْمَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَيْضًا

فَصْلٌ فِي قِيَامِ السَّنَةِ كُلِّهَا قَالَ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ إنَّ هَذَا الْقِيَامَ الَّذِي يَقُومُ النَّاسُ بِهِ فِي رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ هُوَ مَشْرُوعٌ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا يُوقِعُونَهُ فِي بُيُوتِهِمْ وَهُوَ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ الْقَارِئِ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ فِي رَمَضَانَ لِكَيْ يَحْصُلَ لِعَامَّةِ النَّاسِ فَضِيلَةُ الْقِيَامِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ وَسَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِمْ فِي أَفْضَلِ الشُّهُورِ انْتَهَى وَلِكَوْنِهِ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا وَلِكَوْنِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُدَارِسُ الْقُرْآنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ فَلِأَجَلْ هَذِهِ الْوُجُوهِ وَمَا شَابَهَهَا نَاسَبَ مُحَافَظَةَ جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى قِيَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَامُ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا مَشْرُوعًا لِمَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْهُ فَمَنْ حَفِظَهُ قَامَ بِهِ فِي بَيْتِهِ جَهْرًا وَلَا يَقُومُ بِهِ فِي الْمَسْجِدِ أَعْنِي فِي جَمَاعَةٍ كَمَا فِي رَمَضَانَ وَغَيْرُ الْحَافِظِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَدَدَ الرَّكَعَاتِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَبِمَا تَيَسَّرَ مَعَهَا مِنْ السُّوَرِ فِي بَيْتِهِ أَيْضًا هَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي الْأُمَّةِ خِلَافًا لِمَا فَعَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ جَعَلَ الْقِيَامَ الْمَعْهُودَ فِي رَمَضَانَ دَائِمًا فِي زَاوِيَتِهِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ ثُمَّ نُقِلَتْ عَنْهُ وَاشْتُهِرَتْ فَصَارَتْ تُعْمَلُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ وَكَذَلِكَ لَوْ تَوَاعَدُوا عَلَى أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْهُ ، فَإِنْ فَعَلُوا فَهِيَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهَا وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيمَا تَقَدَّمَ نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ يَعْنِي فِي جَمْعِهِمْ عَلَى قَارِئٍ وَاحِدٍ فِي رَمَضَانَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فَذِكْرُهُ رَضِيَ اللَّهُ

تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَهُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ

فَصْلٌ فِيمَا يَفْعَلُونَهُ بَعْدَ الْخَتْمِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدُّعَاءَ بَعْدَ الصَّلَاةِ يُسْتَحَبُّ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ وَعِنْدَ الْخَتْمِ مِثْلُهُ .
قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْأَمْرُ فِي رَمَضَانَ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ بِالْقَصَصِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ نَهَى مَالِكٌ أَنْ يَقُصَّ أَحَدٌ بِالدُّعَاءِ فِي رَمَضَانَ وَحَكَى أَنَّ الْأَمْرَ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي الْمَدِينَةِ الْقِرَاءَةُ مِنْ غَيْرِ قَصَصٍ وَلَا دُعَاءٍ .
وَمِنْ الْمُسْتَخْرَجَةِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَخْتِمُهُ ثُمَّ يَدْعُو قَالَ مَا سَمِعْت أَنَّهُ يَدْعُو عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ .
وَمِنْ مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ قَالَ مَالِكٌ لَا بَأْسَ أَنْ يَجْتَمِعَ الْقَوْمُ فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ مَنْ يُقْرِئُهُمْ أَوْ يَفْتَحُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا يَقْرَأُ قَالَ وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ .

وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَى رَجُلًا قَائِمًا يَدْعُو رَافِعًا يَدَيْهِ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ وَقَالَ لَا تُقَلِّصُوا تَقْلِيصَ الْيَهُودِ قَالَ مَالِكٌ التَّقْلِيصُ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ .

وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَمَّا يَعْمَلُ النَّاسُ بِهِ مِنْ الدُّعَاءِ حِينَ يَدْخُلُونَ الْمَسْجِدَ وَحِينَ يَخْرُجُونَ وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَالَ هَذَا مِنْ الْبِدَعِ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ إنْكَارًا شَدِيدًا .
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إنَّمَا عَنَى بِهَذَا الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ فَأَمَّا الدُّعَاءُ عِنْدَ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ مَاشِيًا فَإِنَّهُ جَائِزٌ وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ آثَارٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَدْعُو خَلْفَ الصَّلَاةِ قَائِمًا قَالَ لَيْسَ بِصَوَابٍ وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ عَقِبَ ذِكْرِهِ جُمَلًا مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُحْدَثَةِ قَالَ إنَّمَا كَرِهَهُ مَالِكٌ خِيفَةَ أَنْ يُلْحَقَ بِمَا يَجِبُ فِعْلُهُ حَتَّى يُتَّخَذَ أَمْرًا مَاضِيًا وَمَا لَنَا نُقَدِّرُ ذَلِكَ بَلْ قَدْ وَجَدْنَا مَا كُنَّا نَحْذَرُ فَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا شَرَعَ قِيَامَ رَمَضَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْمَعْ فِي رَمَضَانَ إلَّا لَيْلَتَيْنِ انْتَهَى .
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّ الْكَرَاهَةَ الْمَذْكُورَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْجَهْرِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ فِي جَمَاعَةٍ

وَأَمَّا الدُّعَاءُ فِي السِّرِّ فَهُوَ جَائِزٌ أَوْ مَنْدُوبٌ بِحَسْبِ الْحَالِ وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفِ وَالْخَلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا خُتِمَ عِنْدَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ لَمْ يَزِدْ عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْهُ خَلْفَ الْمَكْتُوبَةِ شَيْئًا وَكُنَّا لَا نَعْرِفُ دُعَاءَهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَّا حِينَ يَرْمُقُ السَّمَاءَ بِعَيْنَيْهِ وَهَذَا ضِدُّ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَقِبَ الْخَتْمِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقَصَائِدِ وَالْكَلَامِ الْمُسَجَّعِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُشْبِهُ الْغِنَاءَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّطْرِيبِ وَالْهُنُوكِ وَخُلُوِّهِ مِنْ الْخُشُوعِ وَالتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ لِلْمَوْلَى الْكَرِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ } وَلَمْ يَقُلْ أَمَّنْ يُجِيبُ الْقَوَّالَ .
وَقَدْ جَمَعَ ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ أَشْيَاءَ جُمْلَةً يَعْرِفُهَا مَنْ لَهُ اطِّلَاعٌ عَلَى فِعْلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ فَإِنَّ خَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ الْمَاضُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ بَعْدَ الْخَتْمِ وَمَا انْضَافَ إلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي .

فَمِنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعُ الْمُؤَذِّنِينَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْخَتْمِ فَيُكَبِّرُونَ جَمَاعَةً فِي حَالِ كَوْنِهِمْ فِي الصَّلَاةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى الْمُسْمِعِ الْوَاحِدِ فَضْلًا عَنْ جَمَاعَةٍ بَلْ بَعْضُهُمْ يُسْمِعُونَ وَلَيْسُوا فِي صَلَاةٍ وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالْمُخَالَفَةِ لِسُنَّةِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ وَيُؤَذِّنُونَ أَيْضًا كَذَلِكَ .
ثُمَّ إنَّهُمْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ إذَا خَرَجَ الْقَارِئُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ أَتَوْهُ بِبَغْلَةٍ أَوْ فَرَسٍ لِيَرْكَبَهَا ثُمَّ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِي صِفَةِ ذَهَابِهِ إلَى بَيْتِهِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا هُمْ يَفْعَلُونَهُ أَمَامَ جَنَائِزِهِمْ وَأَمَامَهُمْ الْمُدِيرُ عَلَى عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ وَالْمُؤَذِّنُونَ يُكَبِّرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ كَتَكْبِيرِ الْعِيدِ .

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَرِهَ مَالِكٌ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ : أَحَدُهَا : تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ وَتَعْظِيمُهُ مِنْ أَنْ يَقْرَأَهُ وَهُوَ مَاشٍ فِي الطُّرُقِ وَالْأَسْوَاقِ لِمَا قَدْ يَكُونُ فِيهَا مِنْ الْأَقْذَارِ وَالنَّجَاسَاتِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَتَدَبَّرْهُ حَقَّ التَّدَبُّرِ .
وَالثَّالِثُ لِمَا يُخْشَى أَنْ يَدْخُلَهُ ذَلِكَ فِيمَا يُفْسِدُ نِيَّتَهُ انْتَهَى .

وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ بِالْفُقَرَاءِ الذَّاكِرِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَغَانِي وَهُوَ أَشَدُّهَا وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا مَمْنُوعَةً .
وَبَعْضُهُمْ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ ضَرْبَ الطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالدُّفِّ وَبَعْضُهُمْ الطَّارُّ وَالشَّبَّابَةُ فِي بَيْتِهِ .
وَبَعْضُهُمْ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ أَكْثَرَهُ وَيَحْضُرُ إذْ ذَاكَ مِنْ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَا هُوَ ضِدُّ الْمَطْلُوبِ فِيهَا مِنْ الِاعْتِكَافِ عَلَى الْخَيْرِ وَتَرْكِ الشَّرِّ وَتَرْكِ الْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَاكَلَهُ .
ثُمَّ إنَّهُمْ يَعْمَلُونَ أَنْوَاعًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْحَلَاوَاتِ فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَضَرَّ الْبِدَعَ وَمَا أَكْثَرَ شُؤْمَهَا .
حَتَّى لَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْمَشَايِخِ عَمِلَ لِوَلَدِهِ خَتْمًا بِبَعْضِ مَا ذُكِرَ فَلَمَّا جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ سَأَلْته عَنْ وَلَدِهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ صَلَّى الْقِيَامَ فَقَالَ لِي أَنَا مَنَعْته مِنْ الْقِيَامِ فَقُلْت لَهُ وَلِمَ قَالَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْحَابَ وَالْإِخْوَانَ وَالْمَعَارِفَ يُطَالِبُونَنِي بِالْخَتْمِ فَأَحْتَاجُ إلَى كُلْفَةٍ كَثِيرَةٍ .
فَانْظُرْ إلَى شُؤْمِ الْبِدَعِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى تَرْكِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حِفْظِ الْخَتْمَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا كَانَ يُصَلِّي بِالْقُرْآنِ فِي كُلِّ سَنَةٍ بَقِيَتْ الْخَتْمَةُ مَحْفُوظَةً عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْسَهَا فِي الْغَالِبِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ إنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ } وَالْغَالِبُ فِي الصِّبْيَانِ أَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ فِي اللَّيْلِ فَإِذَا لَمْ يُصَلُّوا بِهِ فِي اللَّيْلِ وَلَمْ يَقُومُوا بِهِ فِي رَمَضَانَ وَالْغَالِبُ مِنْ حَالِهِمْ الِاشْتِغَالُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالْأَسْبَابِ الَّتِي تُعَوِّقُهُمْ عَنْ مُعَاهَدَةِ الْخَتْمَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِنِسْيَانِهَا لِأَكْثَرِهِمْ

فَصْلٌ فِي وُقُودِ الْقَنَادِيلِ لَيْلَةَ الْخَتْمِ وَيَنْبَغِي فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كُلِّهَا أَنْ يُزَادَ فِيهَا الْوُقُودُ قَلِيلًا زَائِدًا عَلَى الْعَادَةِ لِأَجْلِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ وَكَثْرَتِهِمْ فِيهِ دُونَ غَيْرِهِ فَيَرَوْنَ الْمَوَاضِعَ الَّتِي يَقْصِدُونَهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْضِعُ يَسَعُهُمْ أَمْ لَا وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي يَضَعُونَ فِيهَا أَقْدَامَهُمْ وَالْمَوَاضِعَ الَّتِي يَمْشُونَ فِيهَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَنَافِعِهِمْ .
وَلَا يُزَادُ فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ شَيْءٌ زَائِدٌ عَلَى مَا فُعِلَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى بِخِلَافِ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ مِنْ زِيَادَةِ وُقُودِ الْقَنَادِيلِ الْكَثِيرَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ الْحَدِّ الْمَشْرُوعِ لِمَا فِيهَا مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَالسَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ وُقُودِ الشَّمْعِ وَمَا يُرْكَزُ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ فَاسْتِعْمَالُهُ مُحَرَّمٌ لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِمَا فَهُوَ إضَاعَةُ مَالٍ وَسَرَفٌ وَخُيَلَاءُ .
وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُونَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُمْ يُعَلِّقُونَ خَتْمَةً عِنْدَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْتِمُونَ فِيهِ وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ فِيهَا فَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُهَا مِنْ الشُّقَقِ الْحَرِيرِ الْمُلَوَّنَةِ .
وَبَعْضُهُمْ مِنْ غَيْرِهَا لَكِنَّهَا تَكُونُ مُلَوَّنَةً أَيْضًا وَيُعَلِّقُونَ فِيهَا الْقَنَادِيلَ وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَسَرَفٌ وَخُيَلَاءُ وَإِضَاعَةُ مَالٍ وَاسْتِعْمَالٌ لِمَا لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ الْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْقَنَادِيلِ مُلَوَّنًا .
وَبَعْضُهُمْ يَضُمُّ إلَى ذَلِكَ الْقَنَادِيلَ الْمُذَهَّبَةَ أَوْ الْمُلَوَّنَةَ أَوْ هُمَا مَعًا وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَالْبِدْعَةِ وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَمَحَبَّةِ الظُّهُورِ وَالْقِيلِ وَالْقَالِ .
فَكَيْفَمَا زَادَتْ فَضِيلَةُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ قَابَلُوهَا بِضِدِّهَا .
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ .

وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُونَ فِعْلًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُمْ يَسْتَعِيرُونَ الْقَنَادِيلَ مِنْ مَسْجِدٍ آخَرَ وَهُوَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ قَنَادِيلَ هَذَا الْمَسْجِدِ وَقْفٌ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا مِنْهُ وَلَا اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَشَدُّ مِمَّا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فَرَحٌ فِي طُولِ السَّنَةِ اسْتَعَارَ الْقَنَادِيلَ مِنْ مَسْجِدٍ وَاسْتَعْمَلَهَا فِي بَيْتِهِ لِلسَّمَاعِ وَالرَّقْصِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَفْضَى مَا ذُكِرَ مِنْ الْوُقُودِ إلَى اجْتِمَاعِ أَهْلِ الرِّيَبِ وَالشَّكِّ وَالْفُسُوقِ وَمَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ حَتَّى جَرَّ ذَلِكَ إلَى اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مَعَ اخْتِلَاطِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ وَانْضَافَ إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْوُقُودِ اجْتِمَاعُ اللُّصُوصِ وَتَشْوِيشُهُمْ عَلَى بَعْضِ الْحَاضِرِينَ وَانْضَافَ إلَيْهِ أَيْضًا كَثْرَةُ اللَّغَطِ فِي الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ الْأَصْوَاتِ فِيهِ وَالْقِيلُ وَالْقَالُ إذْ إنَّهُ يَكُونُ الْإِمَامُ فِي الصَّلَاةِ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَحَدَّثُونَ وَيَخُوضُونَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ بَعْضِهَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فَكَيْفَ بِهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْعَظِيمِ فَكَيْفَ بِهَا فِي لَيْلَةِ الْخَتْمِ مِنْهُ فَلْيُتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَمَا شَاكَلَهُ جَهْدَهُ .
وَهَذَا إذَا كَانَ الزَّيْتُ مِنْ مَالِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ رِيعِ الْوَقْفِ فَلَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي مَنْعِهِ .
وَلَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ شَرْطُهُ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ } وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَهَذِهِ عَادَةٌ قَدْ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْفِ سِيَّمَا فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ سِيَّمَا فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِيهِ أَفْعَالًا لَا تَلِيقُ بِسَبَبِ سُكُوتِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْقِلَابِ

الْحَقَائِقِ .
إذْ إنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ سَرَفٌ وَبِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ لَرُجِيَتْ لَهُمْ التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَلَكِنْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا عِنْدَهُمْ فَلَا يَتُوبُ أَحَدٌ مِنْ إظْهَارِ الشَّعَائِرِ وَفِعْلِهَا فَمَنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْمَخُوفِ فَلْيُغَيِّرْ ذَلِكَ مَهْمَا اسْتَطَاعَ جَهْدَهُ ، فَإِنْ عَدِمَ الِاسْتِطَاعَةَ فَلَا يُصَلِّي فِيهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ؛ لِأَنَّ بِصَلَاتِهِ فِيهِ يَكْثُرُ سَوَادُ أَهْلِ الْبِدَعِ وَيَكُونُ حُجَّةً إنْ كَانَ قُدْوَةً لِلْقَوْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ قَدْ كَانَ سَيِّدِي فُلَانٌ يَحْضُرُهُ وَلَا يُغَيِّرُهُ فَلَوْ كَانَ بِدْعَةً لَمَا حَضَرَهُ وَلَا رَضِيَ بِهِ .
وَهَذَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُعْضِلَةٌ إذْ إنَّ إثْمَ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ أَوْ أَمَرَ بِهِ أَوْ اسْتَحْسَنَهُ أَوْ رَضِيَ بِهِ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مَا أَوْ قَدَرَ عَلَى تَغْيِيرِهِ بِشُرُوطِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ أُحْدِثَ فِي الدِّينِ فَلْيَجْتَنِبْ هَذَا جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ مُضْطَرٌّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ لِتَحْصِيلِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ إذْ إنَّ الْفَضِيلَةَ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إنْ كَانَ سَالِمًا مِمَّا ذُكِرَ وَيَتَأَكَّدُ التَّرْكُ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ قُدْوَةٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا حَضَرْت أَمْرًا لَيْسَ بِطَاعَةٍ لِلَّهِ وَلَا تَقْدِرُ أَنْ تَنْهَى عَنْهُ فَتَنَحَّ عَنْهُمْ وَاتْرُكْهُمْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ مَخَافَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ الْحَقَّ إذَا شَهِدَهُ أَوْ عَلِمَهُ } نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ فِي كِتَابِهِ
فَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَا يَجِدُ مَسْجِدًا سَالِمًا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلْيُصَلِّ فِي بَيْتِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَقْرَبُ إلَى رِضَاءِ رَبِّهِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ إذْ إنَّ

=================

ج8.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّأَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ
أَقْرَبَ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْمُتَقَرِّبُونَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْيَوْمَ بُغْضُ الْبِدَعِ وَمَحَبَّةُ السُّنَنِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا وَمَحَبَّةُ أَهْلِهَا وَمُوَالَاتُهَا إذْ إنَّ الْفَنَّ قَدْ انْدَرَسَ إلَّا عِنْدَ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ إحْضَارِهِمْ الْكِيزَانَ وَغَيْرَهَا مِنْ أَوَانِي الْمَاءِ فِي الْمَسْجِدِ حِينَ الْخَتْمِ فَإِذَا خَتَمَ الْقَارِئُ شَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ وَيَرْجِعُونَ بِهِ إلَى بُيُوتِهِمْ فَيُسْقُونَهُ لِأَهْلَيْهِمْ وَمَنْ شَاءُوا عَلَى سَبِيلِ التَّبَرُّكِ وَهَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ لَا يَخْتَصُّ بِلَيْلَةِ الْخَتْمِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فَعَلُوا ذَلِكَ فِيهَا مِثْلُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي لَيَالِي الْأَعْيَادِ وَالتَّهَالِيلِ وَالْمَآتِمِ وَلَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ وَأَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ وَآخِرِ أَرْبِعَاءَ مِنْ السَّنَةِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ فَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ فَاتَتْهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْهُمْ مِنْ صِفَةِ خُرُوجِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ تَوَقَّعَ شَيْئًا مِمَّا يُخَالِفُ السُّنَّةَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَصَلَاتُهُ فَذًّا فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ إذْ ذَاكَ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَغْيِيرِ مَا هُنَالِكَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ فِي تَوَاعُدِهِمْ لِلْخَتْمِ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ يَخْتِمُ فِي لَيْلَةِ كَذَا وَفُلَانٌ يَخْتِمُ فِي لَيْلَةِ كَذَا وَيَعْرِضُ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالنَّوْبَةِ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ وَلَائِمُ تُعْمَلُ وَشَعَائِرُ تُظْهَرُ فَلَا يَزَالُونَ كَذَلِكَ غَالِبًا مِنْ انْتِصَافِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَيَنْهَى غَيْرَهُ عَنْهُ إذْ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى أَعْنِي فِي مُوَاعَدَتِهِمْ فِي الْخَتْمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ إنْسَانٌ يُرِيدُ أَنْ يَخْتِمَ لِنَفْسِهِ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ مِنْ السَّنَةِ فَيَجْمَعُ أَهْلَهُ لِتَعُمَّهُمْ الرَّحْمَةُ ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِفِعْلِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهِ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
وَالثَّانِي : خِيفَةً مِمَّا قَدْ وَقَعَ وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِمْ فِي طُولِ السَّنَةِ لَكَانَ ذَلِكَ بِدْعَةً أَيْضًا إذْ إنَّ السُّنَّةَ الْمَاضِيَةَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ إخْفَاؤُهُ مَهْمَا أَمْكَنَ فَهَذَا ذِكْرُ بَعْضِ مَا أَحْدَثُوهُ فَقِسْ عَلَيْهِ كُلَّ مَا رَابَك مِمَّا لَمْ نَذْكُرْهُ تُصِبْ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُؤَدِّبِ اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْآدَابِ فِي حَقِّ مَنْ تَقَدَّمَ إنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ فَرْعٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ إذْ إنَّ أَصْلَ كُلِّ خَيْرٍ وَبَرَكَةٍ إنَّمَا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إذْ هُوَ مَعْدِنُ الْجَمِيعِ وَهُوَ يَنْبُوعُ كُلِّ عِلْمٍ نَافِعٍ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَامِلُهُ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي التَّعْظِيمِ لِشَعَائِرِهِ وَالْمَشْيِ عَلَى سُنَنِ مَنْ تَقَدَّمَهُ فِي تَعْظِيمِهِ ذَلِكَ وَإِكْرَامِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُضْطَرٌّ مُحْتَاجٌ إلَى تَحْسِينِ النِّيَّةِ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ } انْتَهَى وَمَعْلُومٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ أَصْلَ الْخَيْرِ إنَّمَا هُوَ الْقُرْآنُ فَهُوَ أَعْلَى أَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَيَحْفَظُ نَفْسَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ لِسَبَبِ الِاسْتِجْلَابِ لِلرِّزْقِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا فَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ إذْ إنَّ اسْتِجْلَابَ الرِّزْقِ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَإِنْ هُوَ جَلَسَ لَهُ فَهُوَ تَحْصِيلُ حَاصِلٍ إذْ إنَّ الرِّزْقَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ بِذَلِكَ وَقَدْ حَرَمَ نَفْسَهُ خَيْرًا عَظِيمًا وَثَوَابًا جَزِيلًا .
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ التَّرْكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِانْتِقَالِ عَمَّا هُوَ فِيهِ بَلْ يَسْتَصْحِبُ الْحَالَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَكِنْ بِبَذْلِ النِّيَّةِ يَسْتَقِيمُ الْحَالُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَنْوِيَ بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ الِامْتِثَالَ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرْشَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ } وَالْمُرَادُ

بِالْخَيْرِ هُنَا خَيْرُ الْآخِرَةِ أَيْ أَنَّ عُمَّالَ الْآخِرَةِ كُلَّهُمْ هَذَا هُوَ مَقْدِمُهُمْ إذْ إنَّ مِنْهُ انْفَتَحَ سُلُوكُ طَرِيقِ الْآخِرَةِ وَهُوَ الطَّرِيقُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ أَصْلَ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْخَطِّ وَالِاسْتِخْرَاجِ وَالْحِفْظِ وَالضَّبْطِ وَالْفَهْمِ لِلْمَسَائِلِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِفْتَاحُهُ الْمُؤَدِّبُ فَهُوَ أَوَّلُ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ التَّوْفِيقِ دَخَلَهُ الْمُكَلَّفُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَتْ مَزِيَّتُهُ وَكَيْفَ لَا وَهُوَ حَامِلٌ كَلَامَ اللَّهِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ .
وَقَدْ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ شِئْت أَنْ أُوَقِّرَ سَبْعِينَ بَعِيرًا مِنْ تَفْسِيرِ أُمِّ الْقُرْآنِ لَفَعَلْت وَهَذَا مِنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ تَلَفُّظُهُ بِالسَّبْعِينَ كِنَايَةً مِنْهُ عَمَّا لَا نِهَايَةَ لَهُ إذْ إنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تُطْلِقُ السَّبْعِينَ عَلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ نَزَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَمَلَ الْأَمْرَ عَلَى ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاَللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ مَا لَمْ أُنْهَ ، فَنَزَلَتْ { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيبِ ، وَإِلَّا فَالْأَمْرُ يَجِلُّ عَنْ أَنْ يَأْخُذَهُ حَصْرٌ أَوْ حَدٌّ .
وَانْظُرْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ } فَإِنَّك إذَا نَظَرْت إلَى هَذَا وَجَدْته مُشَاهَدًا مَرْئِيًّا بِالْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ إذْ إنَّ الْبِحَارَ كُلَّهَا عَلَى عِظَمِهَا وَكَثْرَتِهَا وَمَدَدِهَا الدَّائِمِ مُفْتَقِرَةٌ إلَى مَنْ يَمُدُّهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ نُقْطَةٍ مِنْهَا

مُحْتَاجَةٌ لِكَتْبِ مَا يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْكَامِ مِنْ حِينِ بُرُوزِهَا مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ وَمِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ بَرَزَتْ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَصْلُهَا وَعَلَى أَيِّ مَوْضِعٍ تُسْلَكُ وَمَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَعْرَاضِ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَسْتَقِرُّ فَهِيَ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا لِمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فَبَقِيَتْ الْعَوَالِمُ كُلُّهَا دُونَ شَيْءٍ تَكْتُبُ بِهِ وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِمَنْ لَهُ يَقَظَةٌ فَيَنْظُرُ وَيَعْتَبِرُ .

وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْمُؤَدِّبِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهُوَ الْغَالِبُ لِمَا وَرَدَ فِي الْأَثَرِ إخْبَارًا عَنْ { رَبِّ الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك } فَإِذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ بِجُلُوسِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لَأَنْ يُعَلِّمَ آيَةً لِجَاهِلٍ بِهَا وَلِكَيْ يَصِحَّ صَلَاةُ الْمُسْلِمِينَ بِتَعْلِيمِهِ أُمَّ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَفْعِهِ الْعَامِّ لِلصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فَهُوَ قَدْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ دُنْيَاهُ فَإِنَّهُ حَظُّهُ مِنْ آخِرَتِهِ وَلَمْ يَنَلْ مِنْ دُنْيَاهُ إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ بَدَأَ بِحَظِّهِ مِنْ آخِرَتِهِ نَالَ حَظَّهُ مِنْ آخِرَتِهِ وَلَمْ يَفُتْهُ مِنْ دُنْيَاهُ مَا قُسِمَ لَهُ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الدُّنْيَا تَجِيءُ رَاغِمَةً لِطُلَّابِ الْآخِرَةِ فَكَمْ مِنْ زَاهِدٍ فِيهَا وَمُتَوَرِّعٍ وَفَقِيرٍ وَمُتَوَجِّهٍ صَادِقٍ فِي تَنَزُّهِهِ وَتَوَجُّهِهِ وَعَالِمٍ صَادِقٍ فِي عِلْمِهِ وَطَالِبِ عِلْمٍ صَادِقٍ فِي تَعَلُّمِهِ وَعَارِفٍ وَمُبْتَدٍ وَمُنْتَهٍ أَتَتْهُمْ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ مَعَ فَرَاغِهِمْ لِمَا هُمْ بِصَدَدِهِ كُلُّ ذَلِكَ أَصْلُهُ مَا جَلَسَ هَذَا إلَيْهِ فَالْكُلُّ فَرْعٌ عَنْهُ وَرَاجِعٌ إلَيْهِ .
فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَظِّمَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ هَذَا الْمَجْلِسِ الشَّرِيفِ وَأَنْ لَا يَشِينَهُ بِشَيْنِ الْمُخَالَفَةِ وَالِاعْتِقَادِ الرَّدِيءِ وَالدَّسَائِسِ وَالنَّزَغَاتِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَهِيَ كَثِيرَةٌ .
وَدَوَاءُ ذَلِكَ إنْ وَقَعَ صِدْقُ الِافْتِقَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّةُ الثِّقَةِ بِمَضْمُونِهِ وَالنُّزُولُ بِسَاحَتِهِ وَالِاتِّصَافُ بِصِفَاتِ الْمُحْتَاجِينَ الْمُضْطَرِّينَ الَّذِينَ لَا أَرَبَ لَهُمْ وَلَا اخْتِيَارَ إلَّا مَوْلَاهُمْ فَهُوَ مَقْصُودُهُمْ وَمَطْلُوبُهُمْ الَّذِي عَلَيْهِ يُعَوِّلُونَ وَإِلَيْهِ يَلْجَئُونَ وَعَلَيْهِ يَتَوَكَّلُونَ إذْ إنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَرُدُّ قَاصِدَهُ

وَلَا يُخَيِّبُ مَنْ سَأَلَهُ وَهُوَ أَكْرَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ لَا يُعْطِيَ حَتَّى يُسْأَلَ فَكَيْفَ بِمَنْ نَزَلَ بِسَاحَتِهِ وَتَضَرَّعَ إلَيْهِ وَأَلْقَى كَتِفَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ عَادَتْ بَرَكَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ سِرًّا وَعَلَنًا إمَّا حِسًّا وَإِمَّا مَعْنًى أَوْ كِلَاهُمَا .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ لَهُ حَدِيثًا قَالَ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { خَيْرُ النَّاسِ وَخَيْرُ مَنْ يَمْشِي عَلَى جَدِيدِ الْأَرْضِ الْمُعَلِّمُونَ كُلَّمَا خَلِقَ الدِّينُ جَدَّدُوهُ أَعْطُوهُمْ وَلَا تَسْتَأْجِرُوهُمْ فَتُحْرِجُوهُمْ فَإِنَّ الْمُعَلِّمَ إذَا قَالَ لِلصَّبِيِّ قُلْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَقَالَ الصَّبِيُّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى بَرَاءَةً لِلْمُعَلِّمِ وَبَرَاءَةً لِلصَّبِيِّ وَبَرَاءَةً لِأَبَوَيْهِ مِنْ النَّارِ } انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْوِي فِي جُلُوسِهِ لِلتَّعْلِيمِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي حَقِّ الْعَالِمِ وَآدَابِهِ وَهَدْيِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا بِذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ كَمَا تَقَدَّمَ وَغَيْرُهُ فَرْعٌ عَنْهُ .
وَإِنَّمَا وَقَعَ تَأْخِيرُ ذِكْرِهِ إلَى هُنَا ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَصْلَ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا مَضَى أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ الْعَالِمَ نَفْعُهُ عَامٌّ لِأَجْلِ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الدِّينِ وَإِقَامَةِ مَنَارِ الْإِسْلَامِ وَفَتَاوِيه الَّتِي يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَلَا يُعْصَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنَّ نِيَّتَهُ تَكُونُ لِإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ اللَّازِمَةِ لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْمَعْلُومِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ ، فَإِنْ جَاءَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِيَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ وَكَذَلِكَ مَا هُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
فَيَرْكَبُ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى لَا شَرْقِيَّةً وَلَا غَرْبِيَّةً وَيَكُونُ

الصِّبْيَانُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُشَرِّفُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَابْنُ الْفَقِيرِ وَابْنُ صَاحِبِ الدُّنْيَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَاهُ وَمَنْ مَنَعَهُ إذْ بِهَذَا يَتَبَيَّنُ صِدْقُ حَالِهِ فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَنْ أَعْطَاهُ أَكْثَرَ مِمَّنْ لَمْ يُعْطِهِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي نِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمَعْلُومُ فَتَسَخَّطَ وَتَضَجَّرَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى فَسَادِ نِيَّتِهِ فَكَذَلِكَ مَا هُنَا بَلْ يَكُونُ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ أَرْجَى عِنْدَهُ مِمَّنْ يُعْطِيه ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ تَمَحَّصَ تَعْلِيمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَنْ أَعْطَاهُ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَشُوبًا بِدَسِيسَةٍ لَا تُعْلَمُ السَّلَامَةُ فِيهِ مَعَهَا وَالسَّلَامَةُ أَوْلَى مَا يَغْتَنِمُ الْمَرْءُ فَيَغْتَنِمُهَا الْعَاقِلُ .
فَإِذَا جَلَسَ لِمَا ذُكِرَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبُوحَ بِنِيَّتِهِ لِأَحَدٍ وَلَا يَذْكُرُهَا لَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ سِرًّا فِي نَفْسِهِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُطْلِعُ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا يُجْهَرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنْ جُهِرَ بِهَا فَقَوْلَانِ هَلْ تُكْرَهُ أَمْ لَا وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مَعَ كَثْرَةِ مَعْرِفَتِهِمْ لَا يُبَالُونَ أَيْنَ يَضَعُونَهُ فَكَيْفَ بِقَارِئِ الْقُرْآنِ فَكَيْفَ بِمَنْ انْقَطَعَ لِتَعْلِيمِهِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ عَلَى عَكْسِ حَالِ مَنْ تَقَدَّمَ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ أَنَّ الْمُعَلِّمَ يُعَلِّمُ كِتَابَ اللَّهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَلَّ مَنْ يُعْطِيه شَيْئًا فَيَجِيءُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُهُ إذَا وَجَدَ الْفَقِيرُ فِي هَذَا الزَّمَانِ قُوتَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَاجُ لِأَحَدٍ فَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَرَامَاتِ وَكَانَ يُعَلِّلُ ذَلِكَ

وَيَقُولُ إنَّ النَّاسَ قَدْ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ فِي الْغَالِبِ فَمِنْهُمْ مُعْتَقِدٌ وَمِنْهُمْ مُسِيءُ الظَّنِّ فَالْمُسِيءُ الظَّنِّ إنْ لَمْ يَضُرَّك لَا يَنْفَعُك وَالْمُحْسِنُ الظَّنِّ قَدْ خَرَجَ بِحُسْنِ ظَنِّهِ عَنْ الْحَدِّ فَيُعَدُّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تَأْكُلُ وَلَا تَشْرَبُ فَمَا يَصِلُك مِنْهُ نَفْعٌ أَصْلًا فَإِذَا وَجَدَ الْفَقِيرُ الْقُوتَ فِي زَمَانِ مَنْ هَذَا حَالُهُمْ كَانَ ذَلِكَ كَرَامَةً فِي حَقِّهِ إذْ إنَّ الْكَرَامَةَ إنَّمَا هِيَ خَرْقُ الْعَادَةِ وَمَا جَرَى لِهَذَا فَهُوَ خَرْقُ عَادَةٍ وَالْمُؤَدِّبُ مِثْلُهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَإِذَا شَعَرُوا مِنْهُ أَنَّهُ يُعَلِّمُ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْغَالِبُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهُ شَيْئًا لِعَدَمِ مُطَالَبَتِهِ إيَّاهُمْ هَذَا حَالُهُمْ فِي أُمُورِ آخِرَتِهِمْ بِخِلَافِ أَسْبَابِ دُنْيَاهُمْ عَكْسُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَحْوَالِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ وَلَدُهُ الْمَكْتَبَ وَقَرَأَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ جَاءَ إلَى وَالِدِهِ بِلَوْحِ الْإِصْرَافَةِ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دِينَارٍ يُعْطِيهَا لِلْفَقِيهِ فَلَمَّا أَنْ حَصَلَتْ عِنْدَ الْفَقِيهِ اجْتَمَعَ بِالشَّيْخِ وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدِي وَأَيُّ شَيْءٍ عَمِلْته حَتَّى تُقَابِلَنِي بِهَذَا الْعَطَاءِ فَقَالَ لَهُ وَاَللَّهِ لَا قَرَأَ عَلَيْك ابْنِي شَيْئًا بَعْدَ الْيَوْمِ فَقَالَ لَهُ وَلِمَ ذَلِكَ فَقَالَ ؛ لِأَنَّك اسْتَعْظَمْت مَا حَقَّرَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الدُّنْيَا وَاسْتَصْغَرْت مَا عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ الْيَوْمَ هَذَا الْحَالُ وَهُوَ اسْتِعْظَامُ الدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِمْ وَاسْتِصْغَارُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَلَا يُظْهِرُ الْمُؤَدِّبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُ جَلَسَ يُقْرِئُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ يُظْهِرُ أَنَّهُ جَلَسَ لِلْمَعْلُومِ وَنِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ

فَصْلٌ فِي ذِكْرِ أَسْبَابِ أَوْلِيَاءِ الصِّبْيَانِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ أَوْلَادِ مَنْ يَتَسَبَّبُ بِسَبَبٍ حَرَامٍ عَلَى أَنْوَاعِهِ مِنْ مَكْسٍ أَوْ ظُلْمٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَلَا يَأْخُذُ مِمَّا أَتَى بِهِ الصَّبِيُّ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ شَيْئًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَأْتِيه مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْجِهَاتِ الْمُحَذَّرِ مِنْهَا مِنْ جَانِبِ الشَّرْعِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مِثْلُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِشَيْءٍ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ وَجْهٍ مَسْتُورٍ بِالْعِلْمِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي إقْرَائِهِ لِلْوَلَدِ الَّذِي يَكُونُ مُتَّصِفًا وَلِيُّهُ بِمَا ذُكِرَ أَنْ لَا يُوَالِيَ وَالِدَ الصَّبِيِّ بِإِقْبَالٍ عَلَيْهِ وَلَا بِسَلَامٍ وَلَا بِكَلَامٍ وَلَا جَوَابٍ إذْ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَمْثَالِهِ بِشُرُوطِهِ فَإِذَا لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَرْجِعْ لَمْ يَبْقَ فِي حَقِّهِ مِنْ التَّغْيِيرِ إلَّا الْهِجْرَانُ لَهُ وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ هِجْرَانِهِ وَذَلِكَ حَرَامٌ .
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ مَنْ لَهُ تَحَرُّزٌ عِنْدَهُ وَلَدٌ لَهُ وَالِدٌ وَكِيلٌ عَلَى بَعْضِ الْجِهَاتِ الْمَمْنُوعَةِ شَرْعًا إذَا جَاءَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ سَلَامًا وَإِذَا كَلَّمَهُ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ جَوَابًا وَكَانَ لَا يَأْخُذُ مِنْ الصَّبِيِّ شَيْئًا إلَّا مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ هُوَ سَالِمٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ جِهَةُ الْحَلَالِ فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا وَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ إذْ إنَّهُمْ يَأْخُذُونَهُ مِنْ أَرْبَابِهِ بِالظُّلْمِ وَالْمُصَادَرَةِ وَالْقَهْرِ وَهُوَ يَأْخُذُهُ عَلَى ظَاهِرِ أَنَّهُ حَلَالٌ فِي زَعْمِهِ وَهَذَا أَعْظَمُ فِي التَّحْرِيمِ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ حَرَامًا وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ فِي نِيَّتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْأَوْلَى وَالْأَرْجَحِ .

وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقْرِئَ النَّاسَ الْقُرْآنَ بِعِوَضٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ } أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهُ أَحَلُّ شَيْءٍ يَكُونُ .
وَمِنْ كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ إجَارَةِ الْمُعَلِّمِينَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ يُعَلِّمُ النَّاسَ الْخَيْرَ فَيُعْطَى قِيلَ لَهُ إنَّهُ يُعَلِّمُ مُشَاهَرَةً وَيَطْلُبُ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ مَا زَالَ الْمُعَلِّمُونَ عِنْدَنَا بِالْمَدِينَةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ انْتَهَى .

لَكِنْ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوْلَى لِمَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَمِنْ أَكْبَرِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا خُلُوُّ الْقَلْبِ عَنْهَا وَتَرْكُ النَّظَرِ إلَيْهَا وَتَرْكُ السَّبَبِ } هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَالُ حَامِلِ الْقُرْآنِ إذْ إنَّهُ أَكْمَلُ الْأَحْوَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُهُ أَكْمَلَ الْأَحْوَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ نَفْسُهُ تَتَشَوَّفُ إلَى الْمَعْلُومِ فَالِاقْتِدَاءُ بِالْكِرَامِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ نِعْمَةٌ شَامِلَةٌ وَالْمَرْجُوُّ مِنْ الَّذِي أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَنْ يُتَمِّمَ نِعْمَتَهُ بِالِاتِّبَاعِ فِي الْبَاطِنِ وَمَنْ نَزَلَ سَاحَةَ الْكِرَامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْكَرِيمَ أَنْ يَحْمِلَنَا بِفَضْلِهِ وَيَحْمِلَ عَنَّا بِمَنِّهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ

فَصْلٌ فِي صِفَةِ تَوْفِيَتِهِ بِمَا نَوَاهُ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا نَوَى مَا ذُكِرَ فَلْيَجْتَهِدْ فِي التَّعْلِيمِ أَكْثَرَ مِنْ تَعْلِيمِ مَنْ يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُقْرِئُ بِغَيْرِ عِوَضٍ تَمَحَّصَ لِلَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَرْجَى فِي صِحَّةِ إخْلَاصِهِ وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ ضِدَّ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَتْ نِيَّتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِأَخْذِ عِوَضٍ بِفِعْلِ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِرَاحَةِ وَالْتَوَانِي إنْ تَفَرَّغَ لِذَلِكَ فَعَلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ مُحْتَجًّا بِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَرِئَتْ لِعَدَمِ أَخْذِ الْعِوَضِ عَلَيْهِ وَمَا يَشْعُرُ أَنَّهُ قَدْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِي أَمْرٍ خَطِرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ حِرْصُهُ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي نَوَاهُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يُوفِيَ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ مِثْلُ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَآخَرَ يُصَلِّي بِعِوَضٍ فَيَكُونُ الَّذِي يُصَلِّي بِلَا عِوَضٍ أَحْرَصَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ وَالْمُبَادَرَةِ مِنْ الَّذِي يُصَلِّي بِالْعِوَضِ بَلْ يَزِيدُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى حِرْصًا مِنْهُ عَلَى التَّوْفِيَةِ بِمَا الْتَزَمَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَوْ قَالَ نَوَيْت بِتَعْلِيمِي لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إنْ قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ فَعَلَهُ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا يَدْخُلُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِ الْبِرِّ الَّتِي يَفْعَلُهَا الْمُسْلِمُ فَلْيُحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ عَنْ التَّقْصِيرِ بِمَنِّهِ وَقَدْ يُضْطَرُّ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ إلَى أَخْذِ الْعِوَضِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ وَهُوَ أَحَلُّ مَا يَأْكُلُهُ الْمَرْءُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ } وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِذَا أَخَذَ الْعِوَضَ فَلْيَحْتَرِزْ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ جِهَةِ الصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْذَنَ وَلِيُّهُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ فَعَلَ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَأَكْلُهُ لِذَلِكَ سُحْتٌ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ

فَصْلٌ فِيمَا يَأْمُرُ بِهِ الْمُؤَدِّبُ الصَّبِيَّ مِنْ الْآدَابِ وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ يَأْتِي إلَى الْكُتَّابِ بِغِذَائِهِ وَلَا بِفِضَّةٍ مَعَهُ وَلَا فُلُوسٍ لِيَشْتَرِيَ شَيْئًا فِي الْمَكْتَبِ ؛ لِأَنَّ مِنْ هَذَا الْبَابِ تَتْلَفُ أَحْوَالُهُمْ وَيَنْكَسِرُ خَاطِرُ الصَّغِيرِ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ وَالضَّعِيفِ لِمَا يَرَى مِنْ جِدَةِ غَيْرِهِ فَيَدْخُلُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ ضَارَّ بِمُسْلِمٍ أَضَرَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ } انْتَهَى ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْفَقِيرِ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ مُنْكَسِرًا خَاطِرُهُ مُتَشَوِّشًا فِي نَفْسِهِ غَيْرَ رَاضٍ بِنَفَقَةِ وَالِدَيْهِ عَلَيْهِ لِمَا يَرَى مِنْ نَفَقَةِ مَنْ لَهُ اتِّسَاعٌ فِي الدُّنْيَا وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ جُمْلَةٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ وَفِيمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ كِفَايَةٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا مِنْ الْبَيَّاعِينَ يَقِفُ عَلَى الْمَكْتَبِ لِيَبِيعَ لِلصِّبْيَانِ إذْ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ إنْ اُشْتُرِيَ مِنْهُ .

وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ لَا يُكْثِرَ الْكَلَامَ مَعَ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ إخْوَانِهِ إذْ مَا هُوَ فِيهِ آكِدٌ عَلَيْهِ مِنْ الْحَدِيثِ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَغِلٌ بِأَكْبَرِ الطَّاعَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ فَرْضٌ أَوْ أَمْرٌ هُوَ أَهَمُّ فِي الْوَقْتِ مِمَّا هُوَ فِيهِ فَنَعَمْ .
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ تَجِدُهُمْ بِضِدِّ هَذَا الْحَالِ يَتَحَدَّثُونَ كَثِيرًا مَعَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَالصِّبْيَانُ يُبْطِلُونَ مَا هُمْ فِيهِ وَيَلْهُونَ عَنْهُ وَيَلْعَبُونَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا أَنْ يَقَعَ مِنْهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ الْكُتَّابِ بِالسُّوقِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَعَلَى شَوَارِعِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ فِي الدَّكَاكِينِ وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ بِمَسْلُوكٍ لِلنَّاسِ فَإِنَّ الصِّبْيَانَ يُسْرِعُ إلَيْهِمْ الْقِيلُ وَالْقَالُ فَإِذَا كَانَ بِالسُّوقِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ فِي الدَّكَاكِينِ ذَهَبَ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ وَهِيَ إظْهَارُ الشَّعَائِرِ ؛ لِأَنَّهُ أَجَلُّهَا كَذَلِكَ يَحْذَرُ أَنْ يَتَّخِذَ الْكُتَّابَ فِي الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ } انْتَهَى .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْتَبُ فِي مَوْضِعٍ يَخْفَى عَنْ أَعْيُنِ الْمَارِّينَ فِي الطَّرِيقِ إذْ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّبْيَانَ يَكُونُونَ عِنْدَهُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فَابْنُ الْفَقِيرِ وَابْنُ الْغَنِيِّ سَوَاءٌ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَتْرُكُ دَكَّةً تَدْخُلُ لَهُ الْكُتَّابَ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَرْفِيعًا لِابْنِ الْغَنِيِّ عَلَى غَيْرِهِ وَانْكِسَارًا لِخَاطِرِ الْفَقِيرِ وَالْيَتِيمِ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ جَبْرٍ لَا مَوْضِعُ كَسْرٍ إذْ اللَّائِقُ بِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ بِمَوْضِعٍ مِنْ الْعَدْلِ وَالتَّوَاضُعِ وَالْخَيْرِ فَتَكُونُ بِدَايَةُ أَمْرِ الصِّبْيَانِ عَلَى الْمَنْهَجِ الْأَقْوَمِ وَالطَّرِيقِ الْأَرْشَدِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَتَصَرَّفُ فِيهِ الصِّبْيَانُ فِيهِ لِضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ مَعْلُومًا إمَّا أَنْ يَكُونَ وَقْفًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِلْكًا أَبَاحَهُ صَاحِبُهُ وَيُؤْمَنُ عَلَى الصِّبْيَانِ فِيهِ ، فَإِنْ عُدِمَا مَعًا أَوْ عُدِمَ الْأَمْنُ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَمْضِي إلَى بَيْتِهِ لِيُزِيلَ ضَرُورَتَهُ ثُمَّ يَعُودَ وَإِذَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ الصِّبْيَانِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ فَلَا يَتْرُكُ غَيْرَهُ يَخْرُجُ حَتَّى يَأْتِيَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا خَرَجُوا جَمِيعًا يُخْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّعِبِ بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ وَقَدْ يُبْطِئُونَ فِي الرُّجُوعِ إلَى الْمَكْتَبِ وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى حَالِهِمْ .

وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا احْتَاجَ الصَّبِيُّ إلَى غِذَائِهِ أَنْ يَتْرُكَهُ يَمْضِي إلَى بَيْتِهِ لِغِذَائِهِ ثُمَّ يَعُودُ ؛ لِأَنَّهُ سِتْرٌ عَلَى الْفَقِيرِ وَفِيهِ أَيْضًا تَعْلِيمُ الْأَدَبِ لِلصِّبْيَانِ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ إلَّا بَيْنَ الْإِخْوَانِ وَالْمَعَارِفِ دُونَ الْأَجَانِبِ فَإِذَا نَشَأَ الصَّبِيُّ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُتَأَدِّبًا بِآدَابِ الشَّرِيعَةِ فَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ عَامَّةِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْأَكْلِ عَلَى الطَّرِيقِ وَفِي الْأَسْوَاقِ وَبِحَضْرَةِ مَنْ يَعْرِفُهُ وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ وَقَدْ قِيلَ لَا يَأْكُلُ عَلَى الطَّرِيقِ إلَّا كَرِيمٌ أَوْ لَئِيمٌ .
وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْ الْأَكْلِ وَالْعَيْنَانِ تَنْظُرَانِ .
فَإِذَا مَضَوْا إلَى ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ السَّطْوَةَ عَلَيْهِمْ إذَا غَابُوا أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى اجْتِمَاعِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وَوُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي مِنْهُمْ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَوَلَّى تَعْلِيمَ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ إنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَلْيَأْمُرْ بَعْضَهُمْ أَنْ يُقْرِئَ بَعْضًا وَذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يُخَلِّي نَظَرَهُ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَفَلَ قَدْ تَقَعُ مِنْهُمْ مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِي بَالٍ ؛ لِأَنَّ عُقُولَهُمْ لَمْ تَتِمَّ وَمَنْ لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ إذَا غَفَلْت عَنْهُ وَقْتًا مَا فَسَدَ أَمْرُهُ وَتَلِفَ حَالُهُ فِي الْغَالِبِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا وَكَّلَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ أَنْ لَا يَجْعَلَ صِبْيَانًا مَعْلُومِينَ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَلْ يُبَدِّلُ الصِّبْيَانَ فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى الْعُرَفَاءِ مَرَّةً يُعْطِي صِبْيَانَ هَذَا لِهَذَا وَصِبْيَانَ هَذَا لِهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ صِبْيَانٌ مَعْلُومُونَ فَقَدْ تَنْشَأُ بَيْنَهُمْ مَفَاسِدُ بِسَبَبِ الْوُدِّ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَإِذَا فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ وَيَفْعَلُ هُوَ فِي نَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَأْخُذُ صِبْيَانَهُمْ تَارَةً وَيَدْفَعُ لَهُمْ آخَرِينَ ، فَإِنْ كَانَ الصِّبْيَانُ كُلُّهُمْ صِغَارًا فَلَا بُدَّ مِنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ فَلْيَأْخُذْ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ الْمَأْمُونِينَ شَرْعًا بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الْإِقْرَاءِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّ السَّلَفَ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ إنَّمَا كَانُوا يُقْرِئُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي سَبْعِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ زَمَنٌ يُؤْمَرُ الْوَلِيُّ أَنْ يُكَلِّفَ الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ وَالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهِ فَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ السِّنِّ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى مَنْ يَأْتِي بِهِ إلَى الْمَكْتَبِ إنْ أَمِنَ عَلَيْهِ غَالِبًا ، فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ عَلَيْهِ فَلْيُرْسِلْ مَعَهُ وَلِيُّهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ فِي ذَهَابِهِ إلَى بَيْتِهِ لِضَرُورَتِهِ وَغِذَائِهِ وَمَنْ يَأْتِي بِهِ إلَى الْمَكْتَبِ فَهُوَ أَسْلَمُ عَاقِبَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ مِنْ الْمَكْتَبِ وَالْغَالِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ أَوْلَادَهُمْ الْمَكْتَبَ فِي حَالِ الصِّغَرِ بِحَيْثُ إنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى مَنْ يُرَبِّيهِمْ وَيَسُوقُهُمْ إلَى الْمَكْتَبِ وَيَرُدُّهُمْ إلَى بُيُوتِهِمْ بَلْ بَعْضُهُمْ يَكُونُ سِنُّهُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَمْسِكَ ضَرُورَةَ نَفْسِهِ بَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْمَكْتَبِ وَيُلَوِّثُ بِهِ ثِيَابَهُ وَمَكَانَهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يُقْرِئَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ إذْ لَا فَائِدَةَ فِي إقْرَائِهِ لَهُمْ إلَّا وُجُودُ التَّعَبِ غَالِبًا وَتَلْوِيثُ مَوْضِعِ الْقُرْآنِ وَتَنْزِيهُهُ عَنْ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ أَعْنِي بِالنِّسْبَةِ إلَى عَدَمِ انْتِفَاعِ الصِّبْيَانِ بِالْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ السِّنِّ غَالِبًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يُرْسِلُونَ أَوْلَادَهُمْ إلَى الْمَكْتَبِ فِي حَالِ صِغَرِهِمْ لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ تَعَبِهِمْ لَا لِأَجْلِ الْقِرَاءَةِ وَحَامِلُ الْقُرْآنِ يَجِلُّ مَنْصِبُهُ الرَّفِيعُ عَنْ تَرْبِيَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُمْ وَفِي إقْرَائِهِ لِغَيْرِهِمْ سَعَةٌ وَفَائِدَةٌ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَهُمْ آدَابَ الدِّينِ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ الْقُرْآنَ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا كُلَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِهِمَا إذْ ذَاكَ فَيُعَلِّمُهُمْ السُّنَّةَ فِي حِكَايَةِ الْمُؤَذِّنِ وَالدُّعَاءِ بَعْدَ الْأَذَانِ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ دُعَاءَهُمْ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ سِيَّمَا فِي هَذَا الْوَقْتِ الشَّرِيفِ ثُمَّ يُعَلِّمُهُمْ حُكْمَ الِاسْتِبْرَاءِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ وَالرُّكُوعُ بَعْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَتَوَابِعُهَا وَيَأْخُذُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا وَلَوْ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَشْتَغِلُونَ بَعْدَ الْأَذَانِ بِغَيْرِ أَسْبَابِ الصَّلَاةِ بَلْ يَتْرُكُونَ كُلَّ مَا هُمْ فِيهِ وَيَشْتَغِلُونَ بِذَلِكَ حَتَّى يُصَلُّوا فِي جَمَاعَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِمْ يَمْضُونَ إلَى مَوْضِعِ وَقْفٍ أَوْ مَوْضِعِ مِلْكٍ أُبِيحَ لَهُمْ أَوْ إلَى بُيُوتِهِمْ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَيُصَلُّونَ جَمِيعًا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ مُؤَدِّبُهُمْ ، فَإِنْ خَافَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللَّعِبِ أَوْ الْعَبَثِ فَيُصَلُّونَ فِي الْمَكْتَبِ جَمِيعًا وَيُقَدِّمُونَ أَكْبَرَهُمْ فِيهِ فَيُصَلِّي بِهِمْ جَمَاعَةً .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَوِّدَهُمْ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُسَامِحُهُمْ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَلَا يُعَوِّدَهُمْ الصَّلَاةَ أَفْذَاذًا ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مُخْتَلَفٌ فِيهَا أَعْنِي شُهُودَ الْجَمَاعَةِ هَلْ هِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ .
فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ الصَّلَاةِ وَتَوَابِعِهَا رَجَعُوا لِمَا بَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْوَظَائِفِ فِي الْمَكْتَبِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَقْتُ كَتْبِهِمْ الْأَلْوَاحَ مَعْلُومًا وَوَقْتُ تَصْوِيبِهَا مَعْلُومًا وَوَقْتُ عَرْضِهَا مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ الْأَحْزَابِ حَتَّى يَنْضَبِطَ الْحَالُ وَلَا يَخْتَلَّ النِّظَامُ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْهُمْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ قَابَلَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فَرُبَّ صَبِيٍّ يَكْفِيه عُبُوسَةُ وَجْهِهِ عَلَيْهِ وَآخَرَ لَا يَرْتَدِعُ إلَّا بِالْكَلَامِ الْغَلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ وَآخَرَ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِالضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .
وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُضْرَبُ عَلَيْهَا إلَّا لِعَشْرٍ فَمَا سِوَاهَا أَحْرَى فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ بِالرِّفْقِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ إذْ إنَّهُ لَا يَجِبُ ضَرْبُهُمْ فِي هَذَا السِّنِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي سِنِّ مَنْ يُضْرَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَاضْطُرَّ إلَى ضَرْبِهِ ضَرَبَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ شَيْئًا بِذَلِكَ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ فَلَهُ فِيمَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إلَى الْعَشَرَةِ سَعَةٌ .
لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْآلَةُ الَّتِي يَضْرِبُ بِهَا دُونَ الْآلَةِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي تُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ وَهِيَ مَا ذَكَرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ { رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ فَوْقَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ فَقَالَ دُونَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ } .
وَلَا يَكُونُ الْأَدَبُ بِأَكْثَرَ مِنْ الْعَشَرَةِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَطْرَأُ عَلَى الصَّبِيِّ إنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ .
وَلْيَحْذَرْ الْحَذَرَ الْكُلِّيَّ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّهُمْ

يَتَعَاطَوْنَ آلَةً اتَّخَذُوهَا لِضَرْبِ الصِّبْيَانِ مِثْلَ عَصَا اللَّوْزِ الْيَابِسِ وَالْجَرِيدِ الْمُشَرَّحِ وَالْأَسْوَاطِ النُّوبِيَّةِ وَالْفَلَقَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا أَحْدَثُوهُ وَهُوَ كَثِيرٌ وَلَا يَلِيقُ هَذَا بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى حَمْلِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ إذْ إنَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ فَكَأَنَّمَا أُدْرِجَتْ النُّبُوَّةُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَى إلَيْهِ }

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ الْخَطَّ وَالِاسْتِخْرَاجَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ حِفْظَ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى الْحِفْظِ وَالْفَهْمِ فَهُوَ أَكْبَرُ الْأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى مُطَالَعَةِ الْكُتُبِ وَفَهْمِ مَسَائِلِهَا .
وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ لِمَسْحِ الْأَلْوَاحِ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ مُصَانٌ نَظِيفٌ لَا يُمْشَى فِيهِ بِالْأَقْدَامِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَأْخُذُ الْمَاءَ الَّذِي يَجْتَمِعُ مِنْ الْمَسْحِ فَيَحْفِرُ لَهُ فِي مَكَان طَاهِرٍ مُصَانٍ عَنْ أَنْ يَطَأَهُ قَدَمٌ وَيُجْعَلُ فِيهِ أَوْ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ أَوْ الْبِئْرِ أَوْ يُجْعَلُ فِي إنَاءٍ طَاهِرٍ لِكَيْ يَسْتَشْفِيَ بِهِ مَنْ يَخْتَارُ ذَلِكَ الْمَاءَ وَكَذَلِكَ الَّذِي يَغْسِلُ بِهِ الْخِرَقَ بَعْدَ الْمَسْحِ يُجْعَلُ فِي مَوْضِعٍ بِحَيْثُ لَا يُمْتَهَنُ وَيُشْتَرَطُ فِي الْخِرَقِ الَّتِي يُمْسَحُ بِهَا الْأَلْوَاحُ أَنْ تَكُونَ طَاهِرَةً وَأَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي تُبَلُّ مِنْهُ حِينَ يُمْسَحُ بِهِ طَاهِرًا وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَكُونَ حُلْوًا فَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرَبُهُ لِلِاسْتِشْفَاءِ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ أُجَاجًا امْتَنَعَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ تَنَغَّصَ بِشُرْبِهِ كَمَا مَرَّ فِي الْآنِيَةِ إذَا غُسِلَتْ فِيهَا الْأَيْدِي بَعْدَ الْأَكْلِ أَنَّهُ لَا يُبْصَقُ فِيهَا وَلَا يُغْسَلُ فِيهَا بِأُشْنَانٍ وَلَا غَيْرِهِ خِيفَةَ أَنْ يَشْرَبَهُ مَنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَفِي الْمَاءِ الَّذِي تُمْسَحُ بِهِ الْأَلْوَاحُ مِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ الصِّبْيَانَ مِمَّا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَمْسَحُونَ الْأَلْوَاحَ أَوْ بَعْضَهَا بِبُصَاقِهِمْ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْبُصَاقَ مُسْتَقْذَرٌ وَفِيهِ امْتِهَانٌ وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ تَرْفِيعٍ وَتَعْظِيمٍ وَتَبْجِيلٍ فَيُجَلُّ عَنْ ذَلِكَ وَيُنَزَّهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُسَامِحَ الصِّبْيَانَ فِي دَقِّ الْمَسَامِيرِ فِي الْمَكْتَبِ إنْ كَانَ وَقْفًا ، وَإِنْ كَانَ مِلْكًا فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ إذْ إنَّهُمْ مَأْمُورُونَ أَنْ يَأْكُلُوا فِي بُيُوتِهِمْ لَا فِي الْمَكْتَبِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ بَيْتُهُ بَعِيدًا بِحَيْثُ يَشُقُّ عَلَيْهِ الذَّهَابُ وَالرُّجُوعُ فَيُكَلِّفُهُ الْمُؤَدِّبُ أَنْ يَمْضِيَ إلَى بَيْتِ أَحَدِ أَقَارِبِهِ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مَعَارِفِهِمَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَجْعَلْ وَقْتَ غِذَائِهِ حِينَ يَنْصَرِفُ الصِّبْيَانُ إلَى غِذَائِهِمْ وَقَبْلَ أَنْ يَرْجِعُوا .

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُؤَدِّبَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَيُعَلِّمُهُمْ أَحْكَامَ رَبِّهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ الْقُرْآنَ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لَا يُعَوِّدَهُمْ الْقِرَاءَةَ فِي جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا تَعَوَّدُوا ذَلِكَ فِي صِغَرِهِمْ يُخَافُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوهُ فِي كِبَرِهِمْ وَأَيْضًا فَإِنَّ حِفْظَهُمْ لَا يَتَأَتَّى بِذَلِكَ إذْ إنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ مِنْهُمْ لَا يَعْلَمُ إذَا كَانُوا عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ فِي الْغَالِبِ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَوْلَى بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ تَرْكُهُ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَقْضِيَ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ أَبَاهُ فِي ذَلِكَ وَيَأْذَنَ لَهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ وَلَا يَسْتَقْضِي الْيَتِيمَ مِنْهُمْ فِي حَاجَةٍ بِكُلِّ حَالٍ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْسِلَ إلَى بَيْتِهِ أَحَدًا مِنْ الصِّبْيَانِ الْبَالِغِينَ أَوْ الْمُرَاهِقِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ مَا لَا يَنْبَغِي أَوْ إلَى سُوءِ الظَّنِّ بِأَهْلِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَلْوَةَ الْأَجْنَبِيِّ بِالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ ، فَإِنْ سَلِمُوا مِنْهُ فَلَا يَخْلُو مِنْ الْوَقِيعَةِ فِي أَعْرَاضِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا وَمَا ذُكِرَ مِنْ اسْتِقْضَاءِ حَوَائِجِهِ لِبَعْضِ الصِّبْيَانِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْجَوَازِ وَإِلَّا فَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَقْضِيَ أَحَدًا مِنْهُمْ فِي حَاجَةٍ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَى تَعْلِيمِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا تَقَدَّمَ .
لَكِنْ قَدْ تَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَجَاءَهُ شَيْءٌ أَخَذَهُ عَلَى سَبِيلِ الْفُتُوحِ فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ غَيْرَ مُتَشَوِّفَةٍ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ } وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْمَكَانِ الَّذِي يَقْضِي الصِّبْيَانُ فِيهِ ضَرُورَةَ الْبَشَرِيَّةِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا مِثْلُ مَا يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّهُمْ يَقْضُونَ حَاجَتَهُمْ فِي جُدْرَانِ بُيُوتِ النَّاسِ وَطُرُقَاتِهِمْ فَيُنَجِّسُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَنْ جَلَسَ إلَى تِلْكَ الْجُدْرَانِ تَلَوَّثَ ثَوْبُهُ بِالنَّجَاسَةِ وَكَذَلِكَ الْمَاشِي قَدْ يُصِيبُهُ مِنْهَا أَذًى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَ } فَهَذَا مِنْ آكِدِهَا فَتَلْحَقُ الصِّبْيَانَ اللَّعْنَةُ .
وَهَذَا

كُلُّهُ فِي ذِمَّةِ مَنْ سَكَتَ لَهُمْ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فَيَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَزَوِّجًا ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ صَالِحًا فِي نَفْسِهِ فَالْغَالِبُ إسْرَاعُ سُوءِ الظَّنِّ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِمَنْ كَانَ غَيْرَ مُتَأَهِّلٍ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ وَالْبَنَاتِ فِي الظَّاهِرِ إلَّا عِنْدَ مَنْ يَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى فَيَسَرِي إلَيْهِ الْقِيلُ وَالْقَالُ فَإِذَا كَانَ مُتَأَهِّلًا انْسَدَّ بَابُ الْكَلَامِ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَضْحَكَ مَعَ الصِّبْيَانِ وَلَا يُبَاسِطُهُمْ لِئَلَّا يُفْضِيَ ذَلِكَ إلَى الْوُقُوعِ فِي عِرْضِهِ وَعِرْضِهِمْ وَإِلَى زَوَالِ حُرْمَتِهِ عِنْدَهُمْ إذْ إنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُؤَدِّبِ أَنْ تَكُونَ حُرْمَتُهُ قَائِمَةً عَلَى الصِّبْيَانِ بِذَلِكَ مَضَتْ عَادَةُ النَّاسِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ فَلْيَهْتَدِ بِهَدْيِهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصِّبْيَانَ يَمْضُونَ إلَى بُيُوتِهِمْ لِقَضَاءِ ضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَلِغِذَائِهِمْ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ الصِّبْيَانَ الَّذِينَ عِنْدَهُ إذَا أَتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغِذَائِهِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَيَتَسَلَّمُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَخْلِطُ جَمِيعَ ذَلِكَ ثُمَّ يُعْطِي مِنْهُ مَنْ يَخْطُرُ لَهُ فَتَجِدُ بَعْضَ الصِّبْيَانِ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ غِذَائِهِ فَيَحْرِمُهُ وَيُوَفِّرُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ يَخْتَارُ وَهَذَا حَرَامٌ سُحْتٌ وَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ وَيَتَعَيَّنُ إقَامَتُهُ مِنْ الْمَكْتَبِ إلَّا أَنْ يَتُوبَ بِشَرْطِ أَنْ تُعْلَمَ حَقِيقَةُ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ .
وَفِيهِ مِنْ الْمَحْذُورَاتِ عِدَّةٌ .
مِنْهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ غِذَاءَ هَذَا فَيُعْطِيه لِغَيْرِهِ فَيُدْخِلُ الْخَلَلَ فِي غِذَاءِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَالِدُ بَعْضِهِمْ صَالِحًا مُتَوَرِّعًا فِي كَسْبِهِ وَآخَرُ مَكَّاسًا ظَالِمًا وَقَدْ يَكُونُ غِذَاءُ بَعْضِهِمْ أَحْسَنَ مِنْ غِذَاءِ الْآخَرِ فِي الْمَطْعَمِ وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَوَلِيُّهُ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ سِيَّمَا إنْ كَانَ لِيَتِيمٍ فَلَا يَجُوزُ إبْدَالُهُ وَلَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَأْذَنَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ .
وَبَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا مُحَرَّمًا وَهُوَ أَنَّهُ يَأْكُلُ مَعَ الصِّبْيَانِ مِنْ أَغْذِيَتِهِمْ وَيُطْعِمُ مَنْ يَخْتَارُهُ وَمَنْ يَجْتَمِعُ بِهِ وَيُرْسِلُ مِنْهَا إلَى بَيْتِهِ مَا يَخْتَارُ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخُلْسَةِ .
وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ الصِّبْيَانَ بَقِيَ لَهُمْ غِذَاؤُهُمْ وَلَمْ يَمَسَّهُ غَيْرُهُمْ فَأَكَلُوا مِنْهُ مَا

شَاءُوا وَبَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ وَتَرَكُوهَا فِي الْمَكْتَبِ رَغْبَةً عَنْهَا لَجَازَ لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَأْخُذَهَا وَيَنْتَفِعَ بِهَا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْلِمَ أَوْلِيَاءَ الصِّبْيَانِ بِذَلِكَ إنْ كَانُوا جَمَاعَةً أَوْ وَاحِدًا إنْ انْفَرَدَ هَذَا مَا لَمْ يَكُنْ لِيَتِيمٍ كَمَا تَقَدَّمَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ لَمْ يَأْكُلْ شَيْئًا مِنْ غِذَائِهِ وَتَرَكَهُ كُلَّهُ فِي الْمَكْتَبِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى أَخْذِهِ إلَّا بِإِعْلَامِ وَالِدِ الصَّبِيِّ وَإِلَّا فَلَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهَا فَضَلَاتٌ عَنْ شِبَعِهِمْ .
وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُهُ الصِّبْيَانُ مِنْ الْمَاءِ لِلشُّرْبِ فَجَائِزٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ فَيَشْتَرِي بِهِ مَاعُونَ الْمَاءِ وَالْمَاءَ وَلَا يُمَكِّنُ الصِّبْيَانَ مِنْ الذَّهَابِ إلَى بُيُوتِهِمْ لِلشُّرْبِ وَإِنْ كَانَ بَيْتُ بَعْضِهِمْ قَرِيبًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ فِي الْغَالِبِ .
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي بَلْ يَتَعَيَّنُ أَنْ لَا يَشْرَبَ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فِي ذَلِكَ آبَاؤُهُمْ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ يَتِيمٌ فَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا لِثَمَنِ الْمَاءِ وَلَا غَيْرِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَذِنَ لَهُ فِي الشُّرْبِ وَيَسْتَحِقُّ ذَلِكَ فِي حَقِّ مُؤَدِّبِهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ سُكْنَى دُورِ الْقَرَافَةِ تُمْنَعُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَتَّخِذُ فِيهَا مَكْتَبًا لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى تَفْصِيلِهِ فَإِنَّ الْحُكْمَ فِيهِ مَعْلُومٌ لِمَنْ وُفِّقَ لَهُ

فَصْلٌ فِي انْصِرَافِ الصِّبْيَانِ مِنْ الْمَكْتَبِ وَانْصِرَافُ الصِّبْيَانِ وَاسْتِرَاحَتُهُمْ يَوْمَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ لَا بَأْسَ بِهِ وَكَذَلِكَ انْصِرَافُهُمْ قَبْلَ الْعِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَكَذَلِكَ بَعْدَهُ بَلْ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رَوِّحُوا الْقُلُوبَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ } فَإِذَا اسْتَرَاحُوا يَوْمَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ نَشَطُوا لِبَاقِيهَا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدَعَ أَحَدًا عِنْدَهُ مِنْ الصِّبْيَانِ مِمَّنْ فِيهِ رَائِحَةٌ مَا مِنْ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ إذْ إنَّ ذَلِكَ سَبِيلٌ لِلْوَقِيعَةِ فِي حَقِّ بَعْضِ مَنْ فِي الْمَكْتَبِ عِنْدَهُ وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ إلَى أَنْ يَشْتَهِرَ مَكْتَبُهُ بِمَا لَا يَنْبَغِي فَقَدْ يُنْسَبُ إلَى الْمُؤَدِّبِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ .
وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا إلَى عَدَمِ مَجِيءِ الصِّبْيَانِ إلَيْهِ أَوْ قِلَّتِهِمْ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ تَمْزِيقُ الْعِرْضِ وَقِلَّةُ الرِّزْقِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ ذَلِكَ جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُؤَدِّبِينَ مِنْ أَنَّهُ إذَا قَلَّ عِنْدَهُ الصِّبْيَانُ أَوْ فَتَحَ مَكْتَبًا وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ أَوْرَاقًا وَيُعَلِّقُهَا عَلَى بَابِ الْمَكْتَبِ لِيَكْثُرَ مَجِيءُ الصِّبْيَانِ إلَيْهِ وَهَذَا لَا يَفْعَلُهُ إلَّا سُفَهَاءُ النَّاسِ وَفِيهِ اسْتِشْرَافُ النَّفْسِ لِتَحْصِيلِ الدُّنْيَا وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَمَنْصِبُ الْمُؤَدِّبِ يَجِلُّ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ .

وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ مِنْ الصِّبْيَانِ شَيْئًا مِمَّنْ يَأْتِي بِهِ إلَيْهِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ الَّتِي يَعْمَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ فِي مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّ قَبُولَهُ لِذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِهِمْ وَفِي التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِهِمْ تَعْظِيمٌ لَهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ فِيهِ مَا فِيهِ .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ دِينَهُمْ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ غَيْرَهُ هُوَ الْبَاطِلُ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَفِيهِ عَدَمُ الْإِنْكَارِ وَالتَّغْيِيرِ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَتَاهُ بِهِ بَلْ يَرُدُّهُ عَلَيْهِ وَيَزْجُرُ فَاعِلَهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ وَبَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ فِي هَذَا الزَّمَانِ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَشْنَعُ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ يَطْلُبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ .
وَبَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ يَطْلُبُ مِنْ بَعْضِ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ عِنْدَهُ فُلُوسًا يَأْتُونَ بِهَا إلَيْهِ حَتَّى يَصْرِفَهُمْ فِي مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهَذَا أَشْنَعُ مِمَّا قَبْلَهُ وَبَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَطْلُبُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَطْعِمَتِهِمْ الَّتِي يَعْمَلُونَهَا فِي أَعْيَادِهِمْ وَمَوَاسِمِهِمْ وَهَذَا أَقْبَحُ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ فِعْلِ بَعْضِ الْمُؤَدِّبِينَ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الصِّبْيَانَ لِغِذَائِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَتْرُكَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَقْتًا يَسْتَرِيحُونَ فِيهِ فِي بُيُوتِهِمْ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُبِيحَ لَهُمْ فِعْلَ ذَلِكَ فِي الْمَكْتَبِ ؛ لِأَنَّ الصِّبْيَانَ إذَا خَرَجُوا عَمَّا بُنِيَ الْمَكْتَبُ لَهُ عَادَ ذَلِكَ بِالضَّرَرِ غَالِبًا عَلَيْهِمْ وَعَلَى غَيْرِهِمْ وَمَا بُنِيَ الْمَكْتَبُ إلَّا لِأَجْلِ الدَّرْسِ وَالْحِفْظِ وَالْعَرْضِ وَالْكِتَابَةِ ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ فِي بُيُوتِهِمْ وَلَا يَتْرُكُهُمْ يَنَامُونَ فِيهِ وَقْتًا مَا فِي الْحَرِّ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْمَنْعُ مِمَّا هُوَ أَخَفُّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّهُمْ يَمْضُونَ إلَى بُيُوتِهِمْ وَيَأْكُلُونَ فِيهَا وَلَا يَأْكُلُونَ فِي الْمَكْتَبِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا اشْتَكَى أَحَدٌ مِنْ الصِّبْيَانِ وَهُوَ فِي الْمَكْتَبِ بِوَجَعِ عَيْنَيْهِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ وَعَلِمَ صِدْقَهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى بَيْتِهِ وَلَا يَتْرُكُهُ يَقْعُدُ فِي الْمَكْتَبِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِبَطَالَةِ غَيْرِهِ فِي الْغَالِبِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ أَنْ لَا يَتْرُكَ أَحَدًا مِنْ صِبْيَانِ مَكْتَبِهِ يَحْمِلُهُ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى وَالْمَنْعُ فِي الْأُنْثَى أَشَدُّ وَلَا يَسْتَأْذِنُ فِي مِثْلِ هَذَا الْآبَاءَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي اسْتِقْضَائِهِمْ حَوَائِجَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَأْذِنُ الْآبَاءَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَغِيبَ عَنْ الْمَكْتَبِ أَصْلًا مَا دَامَ الصِّبْيَانُ فِيهِ إذْ إنَّهُمْ لَا عَقْلَ لَهُمْ يَمْنَعُهُمْ عَمَّا يَخْطُرُ لَهُمْ فِعْلُهُ فَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ رَاعٍ يَرْعَاهُمْ بِنَظَرِهِ وَيَسُوسُهُمْ بِعَقْلِهِ وَيُؤَدِّبُهُمْ بِكَلَامِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاعِيَ إذَا غَفَلَ عَنْ الْمَاشِيَةِ قَلِيلًا اخْتَلَّ نِظَامُهَا وَتَغَيَّرَ حَالُهَا فِي الْغَالِبِ وَرُبَّمَا تَلِفَ بَعْضُهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا لِعَدَمِ الْعَقْلِ عِنْدَهَا .
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصِّبْيَانَ مَعَ الْمَجَانِينِ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ

وَمَجَانِينَكُمْ } الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَغِيبَ الْغَيْبَةَ الْيَسِيرَةَ لِضَرُورَتِهِ وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِهَا عَنْهُ مِثْلُ خُبْزِهِ إذَا اخْتَمَرَ لَكِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَسْتَنِيبَ عَلَيْهِمْ أَكْبَرَهُمْ سِنًّا وَأَعْقَلَهُمْ بِشَرْطِ أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ لَا يَضْرِبَ أَحَدًا مِنْهُمْ فِي غَيْبَتِهِ وَلَا يَنْهَرَهُ إلَّا أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا كَتَبَ اسْمَهُ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُؤَدِّبُ فَيُعْلِمَهُ بِهِ فَيَرَى فِيهِ رَأْيَهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ مِنْ كَتْبِهِمْ أَوْرَاقَ الْمُسْتَأْذِنَاتِ لِلْأَفْرَاحِ فَيَكْتُبُ فِيهَا بِنَحْوِ قَوْلِهِ إلَى الْحِجَابِ الْمَنِيعِ وَالسِّتْرِ الرَّفِيعِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّزْكِيَةِ وَمَا شَاكَلَهَا وَالشِّعْرِ الَّذِي يُنَزَّهُ غَيْرُ الْمُؤَدِّبِ عَنْ الْكَلَامِ بِهِ فَكَيْفَ بِالْمُؤَدِّبِ .
وَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْحُرُوزَ لِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ وَلِكِبَارِهِمْ .
وَكَذَلِكَ الصَّحِيفَةُ فِيهَا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالرَّقْيُ بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ .

وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكْتُبَ شَيْئًا بِالْعِبْرَانِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَوْ قِيلَ إنَّ فِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ مَا لَا يُحْصَى فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّهُ كُفْرٌ .
وَيَنْبَغِي لِآبَاءِ الصِّبْيَانِ أَنْ يَتَخَيَّرُوا لِأَوْلَادِهِمْ أَفْضَلَ مَا يُمْكِنُهُمْ فِي وَقْتِهِمْ ذَلِكَ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعًا بَعِيدًا فَيَخْتَارُونَ لَهُمْ أَوَّلًا أَهْلَ الدِّينِ وَالتَّقْوَى ، فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ أَحْسَنُ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ بِالْفِقْهِ فَهُوَ أَوْلَى ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ بِكِبَرِ السِّنِّ فَهُوَ أَجَلُّ ، فَإِنْ زَادَ عَلَيْهِ بِوَرَعٍ وَزُهْدٍ فَهُوَ أَوْجَبُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ إذْ إنَّهُ كَيْفَمَا زَادَتْ الْخِصَالُ الْمَحْمُودَةُ فِي الْمُؤَدِّبِ زَادَ الصَّبِيُّ بِهِ تَجَمُّلًا وَرِفْعَةً وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ النَّظَرُ فِيمَا ذُكِرَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَيَنْبَغِي لِلْمُؤَدِّبِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ وَبَعْضُ مَشَايِخِ الْقُرْآنِ مِنْ الْقِرَاءَةِ عَلَيْهِمْ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى .
وَفِيهِ مَفَاسِدُ جُمْلَةٌ .
مِنْهَا وَطْءُ الْأَعْقَابِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ فِيهِ ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ انْتَهَى .
وَمِنْهَا أَنَّ السُّوقَ مَوْضِعُ اللَّغَطِ وَالْكَلَامِ وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ أَنْ يُقْرَأَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْقُرْآنَ إذَا تُلِيَ تَعَيَّنَ الْإِنْصَاتُ أَوْ يُنْدَبُ إلَيْهِ فَيَقَعُ مَنْ سَمِعَهُ مِمَّنْ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ الطُّرُقِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي وَالْمُسْلِمُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَا يَسْلَمُ الْقَارِئُ غَالِبًا مِنْ أَنْ يَقْرَأَ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ وَالْأَمَاكِنِ الَّتِي تُنَزَّهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَنْهَا .
وَمِنْهَا إذَا قَرَأَ الْقَارِئُ يَنْبَغِي لِقَارِئِهِ وَلِسَامِعِهِ أَنْ يَتَدَبَّرَهُ وَيَتَفَكَّرَ فِيهِ وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فِي الْأَسْوَاقِ وَالطُّرُقِ غَالِبًا وَلَهُ أَنْ يَقْرَأَ خَارِجَ الْبَلَدِ إذَا لَمْ تُعَايَنْ النَّجَاسَةُ وَفِي الِانْتِقَالِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ مَعَ عَدَمِ مُعَايَنَةِ النَّجَاسَةِ أَيْضًا وَلَا فَرْقَ فِيمَا ذُكِرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا إذْ الْمَعْنَى فِيهِمَا وَاحِدٌ .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ وَقْتُ الصَّلَاةِ يُؤَذِّنُونَ عَلَى بَابِ الْمَكْتَبِ أَوْ فَوْقَ سَطْحِهِ أَوْ فِيهِ وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَمْنُوعَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَذَانَ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي يَهْرَعُ النَّاسُ إلَيْهَا لِأَدَاءِ فَرْضِهِمْ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ وَالْمَكْتَبُ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ حَتَّى يَأْتِيَ النَّاسُ إلَيْهِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَمِثْلُهُ مَنْ يُؤَذِّنُ فِي بَيْتِهِ أَوْ بُسْتَانِهِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } ؛ لِأَنَّهُ يُنَادِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وَمَعْنَى ذَلِكَ هَلُمُّوا إلَى الصَّلَاةِ هَلُمُّوا إلَى الْفَلَاحِ ثُمَّ مَعَ هَذَا النِّدَاءِ يَغْلِقُ الْبَابَ دُونَهُمْ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ مَفَاسِدَ .
مِنْهَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْغِشِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْمَعُهُ مَنْ يَسْمَعُهُ فَيَأْتِي إلَى مَوْضِعِ الْأَذَانِ فَلَا يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى دُخُولِ الْمَكَانِ الَّذِي سَمِعَ فِيهِ الْأَذَانَ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ كَلَّفَهُمْ الْمَشْيَ بِإِذْنِهِ إلَى أَنْ أَتَوْا سِيَّمَا الْغَرِيبُ الَّذِي هُوَ عَابِرُ سَبِيلٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ لَوْ أُذِّنَ خَارِجَ الْبَلَدِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي بَرِّيَّةٍ فَمَنْ أَتَى إلَيْهِ صَلَّى مَعَهُ .
وَهَذَا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ مِنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِبَعْضِ مَنْ اعْتَنَى بِهِ { يَا بُنَيَّ إنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ فَإِذَا كُنْت فِي غَنَمِك أَوْ بَادِيَتِك فَأَذَّنْت بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } انْتَهَى .
وَالْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ

وَالْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا

وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَشْتِمَ مَنْ اسْتَحَقَّ الْأَدَبَ مِنْ الصِّبْيَانِ وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ بَعْضُ الْمُؤَدِّبِينَ هَذَا وَهُوَ حَرَامٌ وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لِلْمُؤَدِّبِ غَيْظٌ مَا عَلَى الصَّبِيِّ شَتَمَهُ وَتَعَدَّى بِذَلِكَ إلَى وَالِدَيْهِ وَرُبَّمَا حَصَلَ لِبَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَذْفٌ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ سِيَّمَا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي خُلُقِهِ حِدَّةٌ أَوْ فِيهِ غِلْظَةٌ وَفَظَاظَةٌ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إذَا أَدْرَكَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ لَا يُؤَدِّبَ الصَّبِيَّ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ بَلْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يَسْكُنَ غَيْظُهُ وَيَذْهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُهُ مِنْ الْحَنَقِ عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ يُؤَدِّبُهُ الْأَدَبَ الشَّرْعِيَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَدَّبَهُ فِي حَالِ غَيْظِهِ يَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَدَّى الْأَدَبَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهُ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَقْضِي الْقَاضِي حِينَ يَقْضِي وَهُوَ غَضْبَانُ } وَعَدَاهُ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إلَى كُلِّ مَا يُشَوِّشُ عَلَيْهِ كَحَقْنَةٍ بِبَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَاضِي وَالْمُؤَدِّبِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَحْكُمُ بَيْنَ الْكِبَارِ وَهَذَا يَحْكُمُ بَيْنَ الصِّغَارِ وَحَامِلُ الْقُرْآنِ يُنَزَّهُ عَنْ هَذَا كُلِّهِ فَيُقِيمُ الْأَدَبَ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَنَاوَلَ عِرْضَهُ وَلَا شَتَمَ أَبَوَيْهِ بَلْ يُؤَدِّبُهُ كَمَا يُؤَدِّبُهُ وَالِدَاهُ وَهُمَا يَرْحَمَانِهِ وَيُشْفِقَانِ عَلَيْهِ وَيَذُبَّانِ عَنْهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْآبَاءِ أَنْ يَنْظُرُوا لِأَوْلَادِهِمْ مِنْ الْمُؤَدِّبِينَ مَنْ هُوَ أَوْرَعُ وَأَزْهَدُ وَأَتْقَى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ رَضَاعٌ ثَانٍ لِلصَّبِيِّ بَعْدَ رَضَاعِ الْأُمِّ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ بِأَوْلَادِهِمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ الْمَكْتَبِ الَّذِي يَقْرَءُونَ فِيهِ كِتَابَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَيَتَعَلَّمُونَ فِيهِ شَرِيعَةَ نَبِيِّهِمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَذْهَبُونَ بِهِمْ إلَى كُتَّابِ النَّصَارَى لِتَعْلِيمِ الْحِسَابِ وَهَذَا رَضَاعٌ ثَالِثٌ بَعْدَ رَضَاعِ الْمُؤَدِّبِ .
وَقَدْ قِيلَ الرَّضَاعُ يُغَيِّرُ الطِّبَاعَ فَهَذَا أَمْرٌ شَنِيعٌ قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمْ تَحْصُلْ لَهُ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بَعْدُ وَلَمْ يَقْرَأْ الْعِلْمَ وَلَمْ يَعْرِفْ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ تَسْبِقُ إلَيْهِ الدَّسَائِسُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ الَّذِي يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْحِسَابَ أَوْ مِنْ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ عِنْدَهُ صِغَارًا كَانُوا أَوْ كِبَارًا ثُمَّ إنَّ النَّصْرَانِيَّ مَعَ ذَلِكَ يُؤَدِّبُهُ عَلَى مَا يَخْطُرُ لَهُ وَيَمُرُّ بِبَالِهِ مِنْ كُفْرِهِ وَطُغْيَانِهِ وَيَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ تَعْلِيمِهِ الْحِسَابَ وَهَذَا لَا يَرْضَى بِهِ عَاقِلٌ وَلَا مَنْ فِيهِ مُرُوءَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالصَّبِيُّ فِي هَذَا السِّنِّ قَابِلٌ لِكُلِّ مَا يُلْقَى إلَيْهِ مِثْلُ الشَّمْعِ أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْت عَلَيْهِ طُبِعَ فِيهِ فَيُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُ فَيَرْجِعُ مَكَانُ الصِّدْقِ كَذِبًا وَبُهْتَانًا وَمَوْضِعُ النَّصِيحَةِ غِشًّا وَخَدِيعَةً وَمَوْضِعُ الْأُلْفَةِ بِالْمُسْلِمِينَ انْقِطَاعًا وَوَحْشَةً وَمَكَانُ الِاسْتِسْلَامِ وَالِانْقِيَادِ خُبْثًا وَمُدَاهَنَةً إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَكْرِهِمْ وَخِصَالِهِمْ الرَّدِيئَةِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَرْكَنَ إلَى قَوْلِ النَّصْرَانِيِّ أَوْ إلَى شَيْءٍ مَا مِنْ اعْتِقَادِهِ أَوْ اسْتِحْسَانِ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ

رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُمَكِّنْ زَائِغَ الْقَلْبِ مِنْ أُذُنَيْك لَا تَدْرِي مَا يَعْلَقُكَ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَقَدْ سَمِعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ شَيْئًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْقَدَرِ فَعَلِقَ قَلْبُهُ بِهِ فَكَانَ يَأْتِي إخْوَانَهُ الَّذِينَ اسْتَصْحَبَهُمْ فَإِذَا نَهَوْهُ قَالَ كَيْفَ بِمَا عَلِقَ قَلْبِي لَوْ عَلِمْت أَنَّ اللَّهَ رَاضٍ أَنْ أُلْقِيَ نَفْسِي مِنْ فَوْقِ هَذِهِ الْمَنَارَةِ لَفَعَلْت .
وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا يُعْذَرُ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى بِدْعَةٍ ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ اجْتَهَدُوا فِي التَّأْوِيلِ فَلَمْ يُعْذَرُوا إذْ خَرَجُوا بِتَأْوِيلِهِمْ عَنْ الصَّحَابَةِ فَسَمَّاهُمْ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَارِقِينَ مِنْ الدِّينِ نَقَلَهُ ابْنُ يُونُسَ .
وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ( يَا مُوسَى لَا تُخَاصِمْ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ فَيُلْقُوا فِي قَلْبِك شَيْئًا فَيُرْدِيَك فَيَسْخَطَ اللَّهُ عَلَيْك ) وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ جَعَلَ دِينَهُ غَرَضًا لِلْخُصُومَاتِ فَقَدْ أَكْثَرَ الشُّغْلَ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إيَّاكُمْ وَالْخُصُومَاتِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهَا تُشْغِلُ الْقَلْبَ وَتُورِثُ النِّفَاقَ انْتَهَى .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتَحَفَّظُونَ عَلَى الرَّضَاعِ الثَّالِثِ أَكْثَرَ مِنْ الرَّضَّاعَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ وَهُمَا رَضَاعُ الْأُمِّ وَرَضَاعُ الْمُؤَدِّبِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ قَدْ رَجَعَ لَهُ عَقْلٌ وَمَعْرِفَةٌ بِالْأُمُورِ وَقَابِلِيَّةٌ لِقَبُولِ مَا سَمِعَهُ أَوْ رَآهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ رَضَاعِ الْمُؤَدِّبِ رَضَاعُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ الْمُتَّبِعِينَ لِسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُبَيِّنِينَ لَهَا الْكَاشِفِينَ عَنْ غَامِضِهَا وَالْمُخْرِجِينَ لِخَبَايَاهَا

فَإِذَا ارْتَضَعَ الصَّبِيُّ هَذَا الرَّضَاعَ الثَّالِثَ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ إنْ وَقَعَ لَهُ غَيْرُ مَا سَبَقَ إلَيْهِ سَارَعَ بِسَبَبِ عِلْمِهِ وَمَا انْطَبَعَ عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا تَحَصَّلَ عَنْهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَحَبَّتِهِمَا وَإِيثَارِهِمَا إلَى إنْكَارِهِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ لِذَلِكَ .
وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ النَّاسِ بِوَلَدِهِ إلَى بَعْضِ السَّلَفِ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُقْرِئَهُ فَقَالَ لَهُ أَقَرَأَ قَبْلَ هَذَا عِلْمًا غَيْرَ مَا نَحْنُ فِيهِ يَعْنِي مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ الْعَرَبِيَّةُ قَالَ لَهُ اذْهَبْ بِوَلَدِك فَإِنَّهُ لَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ قَالَ وَلِمَ قَالَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ تَغَزُّلَاتُ الْعَرَبِ وَأَشْعَارُهَا وَجُبِلَ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ صَلَاحُهُ فَلَمْ يُقْرِئْهُ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْعَرَبِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ فَهْمِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَفَهْمِ سُنَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنْ مَا وَقَعَ لَوْمُ هَذَا السَّيِّدِ لَهُ إلَّا لِمَا سَبَقَ لَهُ مِنْ تَغَزُّلَاتِ الْعَرَبِ وَأَشْعَارِهَا فَلَوْ سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَوْ بَعْضِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا يُسَنُّ وَمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ لَمَا عَذَلَهُ فَإِذَا كَانَ هَذَا تَحَفُّظَهُمْ عَلَى سَبْقِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ وُجُودِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا فِي الشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهَا .
وَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي حَقِّ الْمُؤَدِّبِ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ فَهُوَ أَحْسَنُ أَعْنِي أَنَّهُ يَكُونُ عَالِمًا بِالْعَوَامِلِ وَهُوَ لِمَ رُفِعَ هَذَا وَنُصِبَ هَذَا وَخُفِضَ هَذَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عُلُومَ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ .
أَحَدُهَا عِلْمُ الْعَوَامِلِ وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالثَّانِي عِلْمُ اللُّغَةِ وَالثَّالِثُ عِلْمُ الْأَدَبِ وَالرَّابِعُ عِلْمُ الْبَدِيعِ فَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُؤَدِّبُ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فِي الْغَالِبِ .
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى

تَمَامِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي فِي دُخُولِ الصَّبِيِّ لِكِتَابِ النَّصَارَى .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا فِي ظَاهِرِهِ مِنْ الذِّلَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ مَا فَعَلَ هَذَا بِوَلَدِهِ وَفِيهِ تَعْظِيمُ النَّصَارَى .
فَإِنَّهُمْ إذَا رَأَوْا أَوْلَادَ الْمُسْلِمِينَ يَأْتُونَ إلَيْهِمْ لِيَتَعَلَّمُوا هَذِهِ الْفَضِيلَةَ مِنْهُمْ رَأَوْا أَنَّ لَهُمْ رِفْعَةً وَسُوْدُدًا وَفَضِيلَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا كُلُّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا وَعَقْلًا فَيَا لَلَّهُ وَيَا لَلْعَجَبُ كَيْفَ يُتْرَكُ التَّعْلِيمُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ مُتَوَافِرُونَ فِي هَذَا الْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُؤْتَى إلَى نَصْرَانِيٍّ عَدُوٍّ لِلدِّينِ وَعَدُوٍّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ مُظْهِرٍ لِذَلِكَ مُعَانِدٍ لِلْمُسْلِمِينَ فَهَذَا مِنْ الْخَسْفِ الْبَاطِنِيِّ الَّذِي لَا يُرْتَابُ فِيهِ وَلَا يُشَكُّ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ النَّصَارَى فِي عِلْمِ الْحِسَابِ وَالطِّبِّ أَحْذَقُ وَأَعْرَفُ بِالتَّعْلِيمِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّبِيُّ عَلِمَ كُلَّ مَا عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ حَتَّى فَاقَ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ أَتَى بَعْدَ ذَلِكَ إلَى النَّصْرَانِيِّ لِزِيَادَةٍ عِنْدَهُ فِيهِ لَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ فِيهِ شَيْءٌ مَا مِنْ الْمَيْلِ إلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ وَالصَّبِيُّ بَعْدُ لَمْ يَلُمَّ بِشَيْءٍ مِنْ الْحِسَابِ وَلَا غَيْرِهِ وَلَوْ عَرَفَهُ لَكَانَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْرِفُ أَكْثَرَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَأَمْثَالِهِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى التَّعْلِيمِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ .
وَقَدْ أَقَامَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ قَدْ أَغْنَى اللَّهُ عَنْكُمْ بِالْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ نَهَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَّخِذَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَاتِبًا .
وَقَالَ جَوَابًا لِمَنْ أَثْنَى عَلَى نَصْرَانِيٍّ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْحِذْقِ فِي الْحِسَابِ مَاتَ النَّصْرَانِيُّ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ أَيْضًا لَا تُكْرِمُوهُمْ وَقَدْ

أَهَانَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَأْمَنُوهُمْ وَقَدْ خَوَّنَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَسْتَعْمِلُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ إلَّا الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى أَوْ كَمَا قَالَ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى اشْتِرَاطِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَشْيَةَ فِيمَنْ تَوَلَّى مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَمَا بَالُك فِي حَقِّ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَإِنَّمَا هِيَ حُجَجٌ شَيْطَانِيَّةٌ وَنَفْسَانِيَّةٌ وَرُكُوبٌ لِلْهَوَى وَرُكُونٌ لِلْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَتَرْكٌ لِلنَّظَرِ إلَى أَمْرِ الشَّرِيعَةِ وَمَا يُنْدَبُ إلَيْهِ مِنْ الْفَوَائِدِ الْجَمَّةِ الْعَظِيمَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَمِيلَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَفِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي يَأْبَاهَا الْإِسْلَامُ وَمَنْ فِيهِ عُذُوبَةُ طَبْعٍ وَانْقِيَادٌ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَهِيَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ النَّصْرَانِيَّ يَجْلِسُ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ وَأَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُ وَيُقَبِّلُونَ يَدَهُ أَوْ رُكْبَتَهُ حِينَ إتْيَانِهِمْ إلَيْهِ وَانْصِرَافِهِمْ وَيُقِيمُ السَّطْوَةَ عَلَيْهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ .
وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ الْوَلَدَ يَتَرَبَّى عَلَى تَرْكِ التَّحَفُّظِ مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ نَجَاسَةٌ فِيمَا يَعْتَقِدُونَهُ إلَّا دَمُ الْحَيْضِ لَيْسَ إلَّا وَأَبْوَالُهُمْ وَفَضَلَاتُهُمْ كُلُّهَا طَاهِرَةٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ يُسْقَوْنَ الْأَدْوِيَةَ بِالنَّجَاسَاتِ وَيَكْتُبُونَ مِنْهَا فَتُنَجَّسُ أَجْسَادُهُمْ وَأَثْوَابُهُمْ مِنْ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُعَلِّمَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ بِحَضْرَتِهِمْ وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَامِلَهَا وَحَاضِرَهَا فِي جُمْلَةِ مَنْ لَعَنَ بِسَبَبِهَا وَالْوَلَدُ الْمُسْلِمُ هُوَ حَاضِرُهَا وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَيَكُونُ حَامِلَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ بَالِغًا أَوْ مُرَاهِقًا فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ اللَّعْنَةِ ، وَإِنْ كَانَ صَبِيًّا صَغِيرًا فَاللَّعْنَةُ عَائِدَةٌ عَلَى وَالِدَيْهِ أَوْ وَلِيِّهِ أَوْ مَنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ

وَقَلَّ أَنْ يَسْلَمَ الْوَلَدُ مِنْ شُؤْمِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا غَيْرَ مُكَلَّفٍ وَرُبَّمَا أَمَرَهُمْ الْمُعَلِّمُ بِحَمْلِ الْخَمْرِ إلَيْهِ أَوْ إلَى بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَسْتَقْضِيَهُمْ فِي حَوَائِجِهِ وَضَرُورَاتِهِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ بِحَضْرَتِهِ وَيَمْنَعُهُمْ مِنْ الِانْصِرَافِ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ أَوْ هُمَا مَعًا وَقَدْ يُمَوِّهُ عَلَيْهِمْ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا أَوْ يَفُوتَهُ بَعْضُهَا .
وَمِنْهَا أَنَّ الْوَلَدَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ يَعِيبُونَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَيَضْحَكُونَ مِنْهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ .
وَمِنْهَا أَنَّهُمْ إذَا كَانَ صَوْمُهُمْ يَمْنَعُونَ الْمَاءَ أَنْ يُؤْتَى بِهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَبْقَى أَوْلَادُ الْمُسْلِمِينَ بِالْعَطَشِ غَالِبًا .
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ يَقَعَ فِي اعْتِقَادِهِمْ الْبَاطِلِ أَوْ فِي بَحْثِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ فِي أَلْوَاحِهِمْ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مَكْتُوبٌ بِالْعَرَبِيَّةِ وَيَتَكَلَّمُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ بِحَضْرَتِهِ فَقَدْ يَسْبِقُ إلَى الْوَلَدِ وَيَتَعَلَّقُ بِذِهْنِهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ ، فَإِنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى خَلَاصُهُ مِنْهُ غَالِبًا .
وَسَبَبُ وُقُوعِ هَذِهِ النَّازِلَةِ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ { حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ } فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْأَمْرِ الْمَخُوفِ وَهُوَ أَنَّهُ مَا كَانَ سَبَبُ إتْيَانِ الْوَلَدِ إلَى النَّصْرَانِيِّ لِتَعْلِيمِ الْحِسَابِ إلَّا حُبُّ الدُّنْيَا غَالِبًا لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ عُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ بِنَقِيضِهِ فَوَقَعُوا فِي الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ الظَّلَمَةِ مِنْ الْكَتَبَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَإِذَا تَرَبَّى الْوَلَدُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْحَالِ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَوَّلُهُمَا وَهُوَ أَشَدُّهُمَا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي اعْتِقَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَقِلَّ اهْتِبَالُهُ بِأَمْرِ

دِينِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ فَأَيُّ شَيْءٍ وَقَعَ مِنْهُ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَا يَكْتَرِثُ بِهِ وَلَا يَنْدَمُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يَغِيرُ عَلَى غَيْرِهِ وَهَذِهِ خَصْلَةٌ تُنَافِي أَخْلَاقَ الْمُسْلِمِينَ وَهَدْيَهُمْ وَآدَابَهُمْ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ لَهُ : وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ الْقُلُوبِ أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ وَأَرْجَى الْقُلُوبِ لِلْخَيْرِ مَا لَمْ يَسْبِقْ الشَّرُّ إلَيْهِ وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ وَرَغَّبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونَ إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَرْسُخَ فِيهَا وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ لِيُرَاضُوا عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنْ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ وَتَعْمَلَ بِهِ جَوَارِحُهُمْ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ لِكِتَابِ اللَّهِ يُطْفِئُ غَضَبَ اللَّهِ وَأَنَّ تَعْلِيمَ الشَّيْءِ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي يَدْخُلُ كُتَّابَ النَّصَارَى أَنْ يَنْتَقِشَ فِي قَلْبِهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضُهُ وَلَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَمِنْ أَقْبَحِ مَا فِيهِ وَأَهْجَنِهِ وَأَوْحَشِهِ أَنَّ الْوَلَدَ يَتَرَبَّى عَلَى تَعْظِيمِ النَّصَارَى وَالْقِيَامِ لَهُمْ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُهُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَدَمِ الِاسْتِيحَاشِ مِنْ عَوَائِدِهِمْ وَسَمَاعِ اعْتِقَادِ أَدْيَانِهِمْ الْبَاطِلَةِ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الصَّبِيُّ مِنْ مَكْتَبِهِمْ لَبَقِيَ عَلَى عَادَتِهِمْ .
فِي التَّعْظِيمِ لَهُمْ وَعَدَمِ الِاسْتِيحَاشِ مِنْهُمْ وَمِنْ أَدْيَانِهِمْ الْبَاطِلَةِ وَأَنَّهُ إذَا رَأَى مُعَلِّمَهُ الَّذِي عَلَّمَهُ الْحِسَابَ أَوْ الطِّبَّ قَامَ إلَيْهِ وَعَظَّمَهُ كَتَعْظِيمِ مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ بَعْضٍ أَوْ أَكْثَرَ غَالِبًا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ مَعَ كُلِّ مَنْ صَحِبَهُ فِي مَكْتَبِ مُعَلِّمِهِ

النَّصْرَانِيِّ مِنْ جَمَاعَةِ أَهْلِ دِينِهِ فَيَأْلَفُ هَذِهِ الْعَادَةَ الذَّمِيمَةَ الْمَسْخُوطَةَ شَرْعًا وَلَا يَرْضَى بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ مَنْ لَهُ عَقْلٌ أَوْ غَيْرَةٌ إسْلَامِيَّةٌ أَوْ الْتِفَاتٌ إلَى الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } .
وقَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَفِيمَا ذُكِرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا عَدَاهُ

فَصْلٌ فِي تَزْوِيقِ الْأَلْوَاحِ وَأَمَّا تَزْوِيقُ الْأَلْوَاحِ فِي الْإِصْرَافَاتِ وَالْأَعْيَادِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمُبَاحِ الْجَائِزِ وَفِيهِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِيهِ مِنْ الْأَجْرِ مَا قَدْ عُلِمَ وَفِيهِ التَّنْشِيطُ لِلصِّبْيَانِ عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْقِرَاءَةِ .
لَكِنْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ فِي الْإِصْرَافَاتِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَمِنْهَا تَزْيِينُ الْمَكْتَبِ فِي الْأَعْيَادِ وَالْإِصْرَافَاتِ بِالْحَرِيرِ وَغَيْرِهِ أَرْضًا وَحِيطَانًا وَسُقُفًا وَقَدْ تَقَدَّمَتْ شَنَاعَةُ ذَلِكَ وَقُبْحُهُ فِي زِينَةِ الْأَسْوَاقِ لِلْمَحْمَلِ أَوْ غَيْرِهِ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صُوَرٌ مِمَّا لَهَا رُوحٌ فَيَكُونُ فِي ارْتِكَابِ ذَلِكَ نَقِيضُ مَا جَلَسَ الْمُؤَدِّبُ إلَيْهِ فَإِذَا كَانَ السُّوقُ يُمْنَعُ فِيهِ ذَلِكَ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَوْضِعٌ يُتْلَى فِيهِ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَنْعُهُ فِيهِ أَوْجَبُ .
ثُمَّ بَقِيَتْ أَفْعَالٌ يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ فِي الْإِصْرَافَاتِ وَهِيَ قَبِيحَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ .
فَمِنْهَا أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَوْحَ الْإِصَْرافَةِ مُكَفَّتًا بِالْفِضَّةِ فِي خِرْقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ وَاسْتِعْمَالُ الْحَرِيرِ لَا يَجُوزُ إلَّا لِلنِّسَاءِ حَيْثُ أُجِيزَ لَهُنَّ ذَلِكَ .
وَأَمَّا تَكْفِيتُ اللَّوْحِ بِالْفِضَّةِ فَلَا يَجُوزُ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ .
وَالثَّانِي لِمَا فِيهِ مِنْ الْخُيَلَاءِ وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ } وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يَأْخُذُونَ الصَّبِيَّ الَّذِي لَهُ الْإِصْرَافَةُ فَيُزَيِّنُونَهُ كَمَا يُزَيِّنُونَ النِّسَاءَ فَيُحَفِّفُونَهُ وَيُخَطِّطُونَهُ وَيُلْبِسُونَهُ الْحَرِيرَ وَيُحَلُّونَهُ بِالْقَلَائِدِ مِنْ الذَّهَبِ وَغَيْرِهِ مَعَ قَلَائِدِ الْعَنْبَرِ كَأَنَّهُ عَرُوسٌ تُجْلَى وَيُرْكِبُونَهُ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بَغْلَةٍ مُزَيَّنَةٍ بِاللِّبَاسِ مِنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَغَيْرِهِمَا فَيَجْعَلُونَ

عَلَيْهَا كُنْبُوشًا مِنْ الْحَرِيرِ الْمُزَرْكَشِ بِالذَّهَبِ وَيُلْبِسُونَ وَجْهَهَا وَجْهًا مِنْ ذَهَبٍ .
ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَى ذَلِكَ أَشْيَاءَ رَذِيلَةً مِنْهَا أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ أَمَامَهُ أَطْبَاقًا فِيهَا ثِيَابٌ مِنْ حَرِيرٍ وَعَمَائِمَ مُعَمَّمَةٍ عَلَى صِفَةٍ ثُمَّ هُمْ يَخْتَلِفُونَ فِيمَا يَفْعَلُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ صِبْيَانُ الْمَكْتَبِ وَيُنْشِدُونَ فِي طَرِيقِهِ إلَى أَنْ يُوصِلُوهُ إلَى بَيْتِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ الْقُرَّاءَ يَقْرَءُونَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَزِيدُونَ فِيهِ وَيُنْقِصُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَنَائِزِ ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَيْهِ الْمُكَبِّرِينَ وَالْمُؤَذِّنِينَ عَلَى عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ فِي جَنَائِزِهِمْ .
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَلْقَاهُمْ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ أَوْ الْمَجْمُوعِ وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ عَمَّا ذُكِرَ بِمَا هُوَ أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ وَهُوَ أَنْ يُضْرَبَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِالطَّبْلِ وَالْبُوقِ .
وَبَعْضُهُمْ يُمْشُونَ الْفِيلَ وَالزَّرَافَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ رَمْيِ النُّقَطِ ، وَبَعْضُهُمْ يُمَشِّي بَيْنَ يَدَيْهِ الْمُغَنِّيَةَ وَطَائِفَتَهَا مَكْشُوفَةً عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ حَالِهَا مَعَ ضَرْبِ الطَّارِّ وَالشَّبَّابَةِ وَالْغِنَاءِ ، وَتَرْفَعُ عَقِيرَتَهَا عَلَى مَا يُعْهَدُ مِنْ فِتْنَتِهَا فَكَانَ الْأَمْرُ أَوَّلًا لِلْفَرَحِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَانُوا فِي قُرْبَةٍ فَعَكَسُوهُ بِمَا هُوَ ضِدُّهُ ، أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَلَوْ كُلِّفَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِبَعْضِ مَا صَرَفَهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ مِمَّا صَنَعَهُ فِي الْإِصْرَافَةِ لَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ طَاعَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى سِرًّا لَيْسَ فِيهِ لَهْوٌ وَلَا لَعِبٌ وَلَا رِيَاءٌ وَلَا سُمْعَةٌ ، وَذَلِكَ شَاقٌّ عَلَى النُّفُوسِ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّك ثُمَّ يُضِيفُونَ إلَى ذَلِكَ

فِعْلًا قَبِيحًا وَهُوَ أَنَّ بَعْضَ الْمُؤَدِّبِينَ يَدْخُلُونَ مَعَ صَاحِبِ الْإِصْرَافَةِ الْبَيْتَ وَيَجْلِسُونَ مَعَ النِّسَاءِ وَهُنَّ مُتَبَرِّجَاتٌ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ عَادَتِهِنَّ فِي بُيُوتِهِنَّ وَيُعْطِي اللَّوْحَ لِأُمِّ صَاحِبِ الْإِصْرَافَةِ أَوْ لِأُخْتِهِ أَوْ لِخَالَتِهِ أَوْ لِعَمَّتِهِ أَوْ لِجَارَتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِ الْوَلَدِ وَمَعَارِفِهِ حَتَّى تُنَقِّطَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ الْفِضَّةِ بِمَا أَمْكَنَهَا وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُنَّ فَلَا يَجُوزُ لَهُنَّ أَنْ يَظْهَرْنَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَهُنَّ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَالضَّرُورَةُ هُنَا مَعْدُومَةٌ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ .

وَيَنْبَغِي لِوَالِدِ الصَّبِيِّ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا ذَهَبَ أَكْثَرُ التَّعَبِ بِهِ وَقَرُبَ مِنْ أَنْ يَخْتِمَ الْقُرْآنَ نَقَلَهُ وَالِدُهُ إلَى كُتَّابٍ آخَرَ حَتَّى يُفَوِّتَ الْأَوَّلَ مَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْإِصْرَافَةِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّبِيِّ إذَا دَخَلَ سُورَةَ الْأَعْرَافِ عِنْدَ مُؤَدِّبٍ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ فَإِصْرَافَةُ الْبَقَرَةِ قَدْ اسْتَحَقَّهَا الْمُؤَدِّبُ الْأَوَّلُ وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَا إذَا دَخَلَ سُورَةَ يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلْ يَسْتَحِقُّهَا الْأَوَّلُ أَوْ الثَّانِي ؟ قَوْلَانِ ، وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِإِصْرَافَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ إصْرَافَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ قَرُبَ إلَيْهَا الصَّبِيُّ ، فَإِنَّ الْمُؤَدِّبَ الْأَوَّلَ يَسْتَحِقُّهَا .

وَمِنْ كِتَابِ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ تَعْلِيمِ أَوْلَادِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْكِتَابَةَ بِغَيْرِ قِرَاءَةِ قُرْآنٍ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ مَا أُحِبُّ ذَلِكَ يَصِيرُونَ إلَى أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ .
قَالَ : وَسَأَلْته عَنْ تَعْلِيمِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ النَّصْرَانِيِّ كِتَابَ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ كِتَابَ الْأَعْجَمِيَّةِ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ لَا أُحِبُّ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ .
قَالَ : وَلَا يَتَعَلَّمُ الْمُسْلِمُ عِنْدَ النَّصْرَانِيِّ وَلَا النَّصْرَانِيُّ عِنْدَ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَمَّا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِ أَبْنَاءَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ تَعْلِيمُهُمْ عِنْدَهُمْ فَالْكَرَاهَةُ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ حَبِيبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّ ذَلِكَ سَخْطَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ مُسْقِطَةٌ لِإِمَامَتِهِ وَشَهَادَتِهِ .
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي الْحَذَاقَةِ يَعْنِي الْإِصْرَافَةَ أَنَّهُ يُقْضَى بِهَا وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِحْضَارِ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْإِحْضَارِ فِي الْأَعْيَادِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا فِعْلُهُ فِي أَعْيَادِ الْمُسْلِمِينَ وَمَكْرُوهًا فِي أَعْيَادِ النَّصَارَى مِثْلِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَلَا يَجُوزُ لِمَنْ فَعَلَهُ وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ قَبِلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَعْظِيمِ الشِّرْكِ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُجَاهِدِ ، وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ ، وَهَدْيِهِ قَدْ تَقَدَّمَ - رَحِمَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ - آدَابُ الْعَالِمِ ، وَهَدْيُهُ ، وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ فَالْمُجَاهِدُ ، وَغَيْرُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا شَيْئًا قَلِيلًا اخْتَصَّ بِهِ الْعَالِمُ ، وَشَيْئًا قَلِيلًا اخْتَصَّ بِهِ الْمُجَاهِدُ يَقَعُ ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
، وَلْتَعْلَمْ أَنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ : جِهَادٌ أَصْغَرُ ، وَجِهَادٌ أَكْبَرُ ، فَالْجِهَادُ الْأَكْبَرُ هُوَ جِهَادُ النُّفُوسِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { هَبَطْتُمْ مِنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ } ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذِكْرِ آدَابِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ ، وَالْكَلَامُ هُنَا إنَّمَا هُوَ عَلَى الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ ، وَهُوَ : جِهَادُ أَهْلِ الْكُفْرِ ، وَالْعِنَادِ ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الطَّاعَاتِ ، وَأَعْظَمِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ طَلَبُ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَعْرِفُ الْمُجَاهِدُ فَضِيلَةَ الْجِهَادِ ، وَكَيْفَ يُجَاهِدُ ، وَبِمَاذَا يَصِحُّ لَهُ الْجِهَادُ ، وَبِمَاذَا يَفْسُدُ ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَكَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ ؛ لِمَا جَاءَ فِي تَفْضِيلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَالْحَدِيثُ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى أَحْوَالِ النَّاسِ فَرُبَّ شَخْصٍ لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِطَلَبِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْجِهَادِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ فَضْلِ الْقُوَّةِ ، وَالشَّجَاعَةِ ، وَالْإِقْدَامِ فَالْجِهَادُ فِي حَقِّ هَذَا يَتَأَكَّدُ أَمْرُهُ ، وَآخَرُ يَكُونُ فِيهِ ذَكَاءٌ ، وَفَهْمٌ ، وَحِفْظٌ ، وَتَحْصِيلٌ لِلْمَسَائِلِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الضَّرْبِ ، وَالطَّعْنِ فَطَلَبُ الْعِلْمِ لِمِثْلِ هَذَا يَتَعَيَّنُ ، وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِحَسَبِ حَالِ الْوَقْتِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْجِهَادُ فِيهِ فَضْلٌ كَبِيرٌ جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ ، وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ .
لَكِنْ

يَنْبَغِي لِلْمُجَاهِدِ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي الْجِهَادِ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ عَمَّا يَلْزَمُهُ فِي جِهَادِهِ إنْ لَمْ يَعْلَمْهُ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَاهُ : مَا وَجَبَ عَلَيْك عَمَلُهُ ، وَجَبَ عَلَيْك الْعِلْمُ بِهِ انْتَهَى .
فَيَعْرِفُ أَوَّلًا الْأَحْكَامَ اللَّازِمَةَ لَهُ ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِيهِ فَيَبْدَأُ بِمَا ذَكَرَهُ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مِنْ الْأَحْكَامِ اللَّازِمَةِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا : شَرْطُ وُجُوبِ الْجِهَادِ سَبْعَةٌ ، وَهِيَ : أَنْ يَكُونَ : مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا حُرًّا مُسْتَطِيعًا بِصِحَّةِ الْبَدَنِ ، وَالْمَالِ ، وَفَرَائِضُهُ سِتَّةٌ : النِّيَّةُ ، وَطَاعَةُ الْإِمَامِ ، وَتَرْكُ الْغُلُولِ ، وَالْوَفَاءُ بِالْأَمَانِ ، وَالثَّبَاتُ عِنْدَ الزَّحْفِ ، وَأَنْ لَا يَفِرَّ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ

فَصْلٌ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَالْغَنِيمَةُ يَسْتَحِقُّهَا مَنْ اتَّصَفَ بِعَشَرَةِ شُرُوطٍ السَّبْعَةُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا ، وَأَنْ يَكُونَ خَرَجَ لِلْجِهَادِ لَا لِلتِّجَارَةِ ، وَلَا لِلْإِجَارَةِ ، وَأَنْ تَكُونَ الْغَنِيمَةُ حَصَلَتْ بِالْقِتَالِ أَوْ مَا أُوجِفَ عَلَيْهِ بِالْخَيْلِ ، وَالرِّكَابِ

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْأَسَارَى .
وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي الْأَسَارَى بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : الْقَتْلُ ، وَالِاسْتِرْقَاقُ ، وَالْمَنُّ ، وَالْفِدَاءُ ، وَالْجِزْيَةُ

فَصْلٌ فِي الْأَوْصَافِ الْمُوجِبَةِ لِلْجِزْيَةِ الْجِزْيَةُ وَاجِبَةٌ بِعَشَرَةِ أَوْصَافٍ : الْكُفْرُ ، وَالْإِقَامَةُ عَلَيْهِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَأَنْ يَكُونَ عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا حُرًّا غَيْرَ مُعْتَقٍ لِمُسْلِمٍ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهَا ، وَلَا يَكُونَ قُرَشِيًّا ، وَلَا مُرْتَدًّا

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ دَارُ الْمُرْتَدِّينَ تُفَارِقُ دَارَ الْحَرْبِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَا يُهَادَنُونَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِبَلَدِهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ لَا يُصَالَحُونَ عَلَى مَالٍ يُقَرُّونَ بِهِ عَلَى رِدَّتِهِمْ .
الثَّالِثُ : لَا تُسْتَرَقُّ رِجَالُهُمْ ، وَلَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ .
الرَّابِعُ : لَا يَمْلِكُ الْغَانِمُونَ أَمْوَالَهُمْ ، وَهِيَ أَيْضًا تُفَارِقُ دَارَ الْإِسْلَامِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ ، وَمُدْبِرِينَ كَالْمُشْرِكِينَ .
الثَّانِي : إبَاحَةُ دِمَائِهِمْ أَسْرَى ، وَمُمْتَنِعِينَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ أَمْوَالَهُمْ تَصِيرُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ .
الرَّابِعُ : بُطْلَانُ مُنَاكَحَتِهِمْ

فَصْلٌ فِي قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ ، وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُ الْإِمَامَ ، وَرَأْيَ الْجَمَاعَةِ ، وَتَنْفَرِدُ بِمَذْهَبٍ مُبْتَدَعٍ ، وَتَنْعَزِلُ بِدَارٍ ، وَيُفَارِقُ قِتَالُهُمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَجْهًا : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ بِنِيَّةِ رَدْعِهِمْ ، وَلَا يُتَعَمَّدُ بِهِ قَتْلُهُمْ .
الثَّانِي : يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ ، وَيُكَفُّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ .
الثَّالِثُ : لَا يُجْهَزُ عَلَى جَرِيحِهِمْ .
الرَّابِعُ : لَا تُقْتَلُ أَسْرَاهُمْ .
الْخَامِسُ : لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ .
السَّادِسُ : لَا تُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ .
السَّابِعُ : لَا تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ .
الثَّامِنُ : لَا يُهَادَنُونَ عَلَى الْإِقَامَةِ بِبَلَدِهِمْ .
التَّاسِعُ : لَا يُصَالَحُونَ عَلَى مَالٍ يُقَرُّونَ بِهِ عَلَى بِدْعَتِهِمْ .
الْعَاشِرُ : لَا يُسْتَعَانُ عَلَى قِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : لَا يُنْصَبُ عَلَيْهِمْ الرَّعَّادَاتُ .
الثَّانِي عَشَرَ : لَا تُحَرَّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتُهُمْ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : لَا تُقْطَعُ أَشْجَارُهُمْ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الْمُحَارِبِينَ قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ كَقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ إلَّا فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ يُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا : أَحَدُهَا : : أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ .
الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يُتَعَمَّدَ فِي الْحَرْبِ قَتْلُهُمْ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُ أَسْرَاهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِمْ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ ضَامِنُونَ لِمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فِي الْحَرْبِ ، وَغَيْرِهِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بَعْدَ انْجِلَاءِ الْحَرْبِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ مَا أَخَذُوهُ مِنْ خَرَاجٍ ، وَصَدَقَاتٍ فَهُوَ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا فَعَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ غُرْمُهُ فَإِذَا تَحَصَّلَ عِنْدَهُ مَعْرِفَةُ مَا ذُكِرَ فَلْيَكُنْ عَالِمًا بِأَحْكَامِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي الْحَالَتَيْنِ مِنْ قِتَالٍ ، وَغَيْرِهِ ، وَكَيْفِيَّةِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَلْزَمُهُ ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَمَسَائِلُهُ .
، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا عِنْدَ ذِكْرِ غُسْلِ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا ، وَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَحْكَامَ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ ، وَفِي أَيِّ وَقْت يَقْصُرُ ، وَفِي أَيِّ وَقْت يُتِمُّ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ مُتَيَسَّرٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ لِمَنْ جَاءَ إلَيْهِمْ مُسْتَفْتِيًا ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ هِيَ عِمَادُ الدِّينِ ، وَبِهَا قِوَامُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُجَاهِدُ يُخِلُّ بِهَا أَوْ بِرُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا كَانَ تَرْكُهُ لِلْجِهَادِ أَوْلَى بِهِ بَلْ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ .
فَإِذَا تَعَيَّنَ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ كَانَ عَاصِيًا ، وَإِنْ كَانَ مُجَاهِدًا .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى ؛ لِأَنَّا نَرَى ، وَنُبَاشِرُ مَنْ يَخْرُجُ إلَى الْجِهَادِ ، وَغَالِبُ أَحْوَالِهِمْ عَدَمُ الْفِقْهِ ، وَعَدَمُ الْمَعْرِفَةِ بِكُلِّ مَا ذُكِرَ أَوْ بِأَكْثَرِهِ ، وَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ مِنْهُمْ يَجْتَمِعُ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَيَسْأَلُ عَمَّا

يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فِيمَا ذُكِرَ سِيَّمَا صَلَاةُ الْخَوْفِ الَّتِي مَا بَقِيَتْ تُعْرَفُ عَنْهُمْ فِي الْغَالِبِ ، وَلَا تُذْكَرُ إلَّا فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ كَأَنَّهَا حِكَايَةٌ تُحْكَى سِيَّمَا صَلَاةُ الْمُسَايَفَةِ فَإِنَّهَا كَادَتْ لَا تُعْرَفُ أَيْضًا لِعَدَمِ فَاعِلِهَا ، وَقِلَّةِ السُّؤَالِ عَنْهَا فَيَخْرُجُ الْمُجَاهِدُ ، وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ فِي طَاعَةٍ ، وَهُوَ يَقَعُ فِي مُخَالَفَاتٍ جُمْلَةً لِعَدَمِ التَّلَبُّسِ بِمَعْرِفَةِ مَا ذُكِرَ ، وَقَدْ يَكُونُ سَبَبًا إلَى وُقُوعِ الرُّعْبِ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْعَدُوِّ ، وَانْهِزَامِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَإِنَّ الْعَدُوَّ إنَّمَا يُسْتَعَدُّ لَهُ بِإِقَامَةِ هَذَا الدِّينِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - نَصْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ هُوَ اتِّبَاعُ أَمْرِهِ ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ سَبَبًا لِنُصْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ، وَأَمْنِهِ مِمَّا يَخَافُ سِيَّمَا ، وَالْمُجَاهِدُ إنَّمَا يُجَاهِدُ لِأَجْلِ الدِّينِ ، وَالصَّلَاةُ هِيَ عِمَادُهُ ، وَبِهَا قِوَامُهُ ، وَقَدْ ، وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَهُ كِتَابٌ مِنْ بَعْضِ جُيُوشِهِ بِالشَّامِ ، وَهُمْ يُخْبِرُونَهُ فِيهِ بِأَنَّهُمْ قَدْ افْتَتَحُوا الْبَلْدَةَ الَّتِي نَزَلُوا بِهَا ، وَكَانَ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ أَهْلِهَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إلَى الزَّوَالِ فَبَكَى حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ فَقِيلَ لَهُ : أَتَبْكِي ، وَالنَّصْرُ لَنَا ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا الْكُفْرُ يَقِفُ أَمَامَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَدْوَةٍ إلَى الزَّوَالِ إلَّا مِنْ أَمْرٍ أَحْدَثْتُمُوهُ أَنْتُمْ أَوْ أَنَا فَانْظُرْ إلَى مَا قَرَّرَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا نَظَرَ فِي النَّصْرِ ، وَعَدَمِهِ إلَّا بِصَلَاحِ الْحَالِ ، وَفَسَادِهِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ فَأَيْنَ هَذَا الْحَالُ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ حَالِ أَكْثَرِ النَّاسِ الْيَوْمَ ، وَفِي كَوْنِهِمْ يُخْرِجُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا ،

وَيَقْضُونَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْنِي جَوَازَ إخْرَاجِهَا عَنْ وَقْتِهَا عَمْدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ، وَالْعُذْرُ الشَّرْعِيُّ إنَّمَا هُوَ زَوَالُ الْعَقْلِ أَوْ اسْتِتَارُهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَايِفَ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ يُضَارِبُ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ إنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ يُصَلِّي ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ لِأَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ ، وَيُكَبِّرُ ، وَيَقْرَأُ ، وَكَذَلِكَ الْغَرِيقُ تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ فِي حَالِ غَرَقِهِ ، وَالْمَصْلُوبُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَكُلُّ هَؤُلَاءِ صَلَاتُهُمْ إنَّمَا هِيَ بِالْإِيمَاءِ ، وَاللِّسَانِ ، وَاغْتُفِرَ فِي حَقِّهِمْ ، وَمَنْ شَابَهَهُمْ تَرْكُ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ جُمْلَةً فِي حَالِ صَلَاتِهِمْ إذْ ذَاكَ خِيفَةً عَلَى الْوَقْتِ أَنْ يَخْرُجَ فَلَوْ تَرَكَ أَحَدُهُمْ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ كَانَ عَاصِيًا ، وَإِنْ قَضَاهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا .

؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - قَدْ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ أَخْرَجَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا مُتَعَمِّدًا هَلْ عَلَيْهِ قَضَاءٌ أَمْ لَا ؟ فَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَضَاءَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ آثِمٌ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ التَّأْخِيرِ ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ مُرْتَدٌّ ، وَحُكْمُهُ مَعْرُوفٌ .
وَمَا ذُكِرَ فِي حَقِّ الْمُجَاهِدِ مِنْ تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا هُوَ مَوْجُودٌ بِعَيْنِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْحُجَّاجِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ يُحَصِّلُونَ الزَّادَ ، وَالرَّاحِلَةَ ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِمْ بِخِلَافِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ دِينِهِمْ فَقَلَّ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ مَسَائِلِ التَّيَمُّمِ ، وَقَصْرِ الصَّلَاةِ ، وَإِتْمَامِهَا ، وَأَحْكَامِ الْحَجِّ ، وَمَنَاسِكِهِ ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فَالْغَالِبُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ يَعْتَنُونَ فِي الْمَنَاسِكِ بِأَدْعِيَةٍ مَعْلُومَةٍ عَلَى قَانُونٍ مَعْرُوفٍ فَيُعَوِّلُونَ عَلَيْهَا ، وَيَتْرُكُونَ ذِكْرَ الْأَحْكَامِ فِي الْغَالِبِ .
وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعْيِينَ الدُّعَاءِ لِبَعْضِ الْأَرْكَانِ ، وَقَالَ هَذِهِ بِدْعَةٌ إنَّمَا يَذْكُرُ اللَّهَ ، وَيَدْعُو بِمَا يَمُرُّ بِبَالِهِ أَوْ كَمَا قَالَ .

ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ فَمِنْ أَهَمِّ مَا يُقَدَّمُ فِيهِ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَيْهِ ، وَعِنْدَهُ حُسْنُ النِّيَّةِ ، وَاهْتِمَامُهُ بِهَا ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَيْهَا .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُهَا أَتَمَّ بَيَانٍ حِينَ جَاءَهُ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا ، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ ، وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ { مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَقَدْ اتَّضَحَ ، وَبَانَ مَا يَنْوِي الْمُجَاهِدُ حِينَ خُرُوجِهِ ، وَتَلَبُّسِهِ بِالْقِتَالِ .
وَأَمَّا مَا يَقَعُ لَهُ بَعْدَ تَصْحِيحِ نِيَّتِهِ فَغَيْرُ مَا نَوَاهُ لَا عِبْرَةَ بِهِ ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَعْرَابِيَّ قَالَ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا ، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَأَجَابَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إذَا نَوَى أَنْ يُقَاتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا لَا يَضُرُّهُ مَا اعْتَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِ غَضَبًا أَوْ حَمِيَّةً أَوْ مَا أَشْبَهَهُمَا ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ ، وَنَزَغَاتِهِ ، وَهَوَاجِسِ النُّفُوسِ الَّتِي لَا تُمْلَكُ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ رَفَعَ ذَلِكَ عَنَّا ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِتَرْكِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ بِبَرَكَةِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { ، وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } الْآيَةَ ضَجَّ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَتَوْا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلِّفْنَا الصَّلَاةَ ، وَالصَّوْمَ ، وَالزَّكَاةَ ، وَالْحَجَّ فَقَبِلْنَاهُ ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ فِي نُفُوسِنَا فَلَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ أَوْ كَمَا

قَالُوا فَعَلَّمَهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَدَبَ مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ قَالَ : أَتَقُولُونَ مِثْلَ مَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ سَمِعْنَا ، وَعَصَيْنَا ، ، وَلَكِنْ قُولُوا : سَمِعْنَا ، وَأَطَعْنَا فَقَالُوا : سَمِعْنَا ، وَأَطَعْنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِصْرَ عَنْهُمْ ، وَعَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْوَسَاوِسِ ، وَالْهَوَاجِس .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي نَحْنُ بِسَبِيلِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ { جَاءَهُ أَصْحَابُهُ يَشْكُونَ لَهُ مِمَّا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالُوا : إنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَجَدْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا } فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ يَعْنِي فِي دَفْعِهِ ، وَتَعَاظُمُ الْأَمْرِ عِنْدَهُمْ لَا فِي نَفْسِ وُقُوعِهِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا ، وَذَلِكَ أَنَّ إبْلِيسَ اللَّعِينَ لَمْ يَقْنَعْ مِنْهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى جَعَلَهُمْ يَنْشُرُونَ خَشَبًا ، وَيَنْحِتُونَ حِجَارَةً ، وَيَجْعَلُونَهَا صُوَرًا يَسْجُدُونَ لَهَا ، وَيَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُمْ قَدْ صَنَعُوهَا بِأَيْدِيهِمْ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ ، وَظَهَرَ أَمْرُهُ ، وَانْتَشَرَ أَيِسَ إبْلِيسُ اللَّعِينُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ حِيلَةٌ إلَّا الْوَسْوَاسُ ، وَالْهَوَاجِسُ الْمُشَوِّشَةُ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ لِهَذَا .
فَحَمِدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ عَلَى كَوْنِ اللَّعِينِ عَجَزَتْ قُدْرَتُهُ عَنْ جَمِيعِ الْحِيَلِ إذْ أَنَّ مَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الْحِيَلِ إلَّا الْوَسْوَاسُ ، وَالْهَوَاجِسُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ مَنْ وَقَعَ

لَهُ ، وَلَوْ وَقَفَ الْمُكَلَّفُ مَعَ مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ الْهَوَاجِسِ قَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ أَدَاءُ عِبَادَةٍ بِسَبَبِ تَسْلِيطِهِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُقَاتِلُ أَوَّلًا بِنِيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَنْ يَحْتَسِبَ نَفْسَهُ ، وَمَالَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ الصَّدَفِيُّ الْمَشْهُورُ بِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { عَبَّانَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَدْرٍ لَيْلًا } ، وَالتَّعْبِيَةُ هِيَ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ ، وَتَقْدِمَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ بَيْنَ يَدَيْ الْقِتَالِ مِنْ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لِيُرْجَى بِهِ الظَّفَرُ ، وَالنَّصْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ }

ثُمَّ الْإِدَارَةُ عَلَى الْعَدُوِّ ، وَالْخَدِيعَةُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ الظَّفَرِ .
أَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } ، وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ غَزْوًا وَرَّى عَنْهُ بِغَيْرِهِ } .
وَمِنْ الْخُدَعِ فِي الْحَرْبِ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْأَحْزَابِ .
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَانَ لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ ، وَكَانَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ عَامَ الْأَحْزَابِ ، وَكَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَوْمًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ مَالُوا عَلَيْك فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ فَأَتَى الرَّجُلُ أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ هَلْ عَلِمْت مُحَمَّدًا يَقُولُ مَا لَيْسَ هُوَ ، قَالَ : لَا ، قَالَ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ لَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ قَالَ سَنَنْظُرُ فَأَرْسَلَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ نُحِبُّ أَنْ تُعْطُونَا رَهَائِنَ ، وَوَافَقَ ذَلِكَ أَنْ كَانَ لَيْلَةَ السَّبْتِ لِلْقَدَرِ الْمَقْدُورِ فَقَالُوا : نَحْنُ فِي السَّبْتِ فَإِنْ انْقَضَى فَعَلْنَا فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ نَحْنُ فِي مَكْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَلْقَى اللَّهُ تَعَالَى فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا ، وَجُنُودًا لَمْ يَرَوْهَا { ، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ، وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } .
وَكَانَتْ هَذِهِ مِنْ الْخُدَعِ الَّتِي خَدَعَهُمْ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْهُ عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ سَمِعْته يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى الْأَحْزَابِ { اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ ، وَزَلْزِلْهُمْ } فَهَذَا الدُّعَاءُ يَنْبَغِي أَنْ يُدْعَى بِهِ

عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْهُ عَنْ الْمُهَلَّبِ بْنِ أَبِي صُفْرَةَ عَمَّنْ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنْ يَأْتِكُمْ الْعَدُوُّ فَقُولُوا حم لَا يُنْصَرُونَ } ، وَمِنْهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَ مَكَّةَ ، وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ } .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ فَإِنَّمَا تُرْزَقُونَ ، وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ } ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ أَيْ اُطْلُبُونِي أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ مَعَهُمْ .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى { أَنَا مَعَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي } فَإِذَا كَانَ اللَّهُ مَعَهُمْ فَهُمْ مَنْصُورُونَ ، وَيُرِيدُ بِالضُّعَفَاءِ ، - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ظُهُورٌ فِي الدُّنْيَا ، وَهُمْ طَالِبُونَ لَهَا ، وَهُمْ زَاهِدُونَ فِي دُنْيَاهُمْ رَاغِبُونَ فِي آخِرَتِهِمْ طَائِعُونَ لِلَّهِ تَعَالَى نَاصِرُونَ لِدِينِهِ فَهُمْ مَنْصُورُونَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، وَقَالَ { ، وَاَللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } أَيْ بِالنَّصْرِ ، وَالْمَعُونَةِ أَيْ مَعَ الصَّابِرِينَ عَنْ الْمُشْتَهَيَاتِ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَالصَّابِرِينَ عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَجِهَادِ الْكُفَّارِ فَاَللَّهُ نَاصِرُهُمْ ، وَمُعِينُهُمْ .
رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ بَعَثَهُ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ : احْرِصْ عَلَى الْمَوْتِ تُوهَبْ لَك الْحَيَاةُ .
وَوَجَّهَ أَبُو مُسْلِمٍ قَوْمًا إلَى الْغَزْوِ فَقَالَ : أَلْزِمُوا قُلُوبَكُمْ الصَّبْرَ فَإِنَّهُ سَيْفُ الظَّفَرِ ، وَاذْكُرُوا كَثْرَةَ الضَّغَائِنِ فَإِنَّهُمَا تَحُضُّ عَلَى الْإِقْدَامِ ، وَالْزَمُوا الطَّاعَةَ فَإِنَّهَا حِصْنُ الْمُحَارِبِ .

وَمِنْ الْحِكْمَةِ : قُوَّةُ النَّفْسِ فِي الْحَرْبِ عَلَامَةُ الظَّفَرِ .
وَمِنْهَا : تَقَحُّمُ الْحَرْبِ يُنْجِحُ الْقَلْبَ ، وَمِنْهَا : الْهَزِيمَةُ تَحِلُّ الْعَزِيمَةَ .
وَمِنْهَا : الْحِيَلُ أَبْلَغُ مِنْ الْعَمَلِ ، وَمِنْهَا : الرَّأْيُ السَّدِيدُ أَجْدَى مِنْ الْأَيْدِ الشَّدِيدِ .
وَمِنْهَا : شِدَّةُ الصَّبْرِ فَاتِحَةُ النَّصْرِ

، وَيَنْبَغِي الْمَشُورَةُ فِي الْقِتَالِ ، وَفِي كُلِّ أَمْرٍ يَعْرِضُ .
، وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { مَا رَأَيْت أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي مَشُورَةُ مَنْ لَهُ عَقْلٌ ، وَدِينٌ ، وَتَجَارِبُ .
مِنْ كَلَامِ الْحِكْمَةِ تَوَقَّ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ .
وَمِنْهَا : لَا تُشَاوِرُ مَنْ تَمِيلُ بِهِ رَغْبَتُهُ أَوْ رَهْبَتُهُ .
أَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ بِالْإِسْنَادِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ } ، وَمِنْهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا تُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } ، وَمِنْهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ } قَالَ الْبُخَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، - وَرَحِمَهُ - هَذِهِ الطَّائِفَةُ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ هُمْ أَهْلُ السُّنَّةِ ، وَالْجَمَاعَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ .

ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى ذِكْرِ بَعْضِ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَمِيدِ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ الصَّفْقَتَيْنِ جَمِيعًا .
بَيَانُهُ قَوْلُ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنْفُسًا هُوَ خَلَقَهَا ، وَأَمْوَالًا هُوَ رَزَقَهَا ، وَمَعَ ذَلِكَ أَقُولُ أَيْضًا هُوَ خَالِقُ فِعْلِ الْمُجَاهِدِ فِي قُدْرَتِهِ ، وَعَزْمِهِ عَلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ ، وَرَغْبَتِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ فَضْلُهُ ، وَنِعْمَتُهُ ، وَمِنَّتُهُ قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى يُسْدِي عَلَى أَيْدِينَا الْخَيْرَ ، وَيَمْنَحُ عَنْ أَيَادِيهِ الْجَزَاءَ ، وَرُوِيَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ { الْأَنْصَارَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرِطْ لِرَبِّك ، وَلِنَفْسِك مَا شِئْت قَالَ : أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ قَالُوا : فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ : لَكُمْ الْجَنَّةُ قَالُوا : رَبِحَ الْبَيْعُ قَالُوا لَا نَقِيلُ ، وَلَا نَسْتَقِيلُ } .
وَمَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ ، وَهُوَ يَقْرَأُ { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ } الْآيَةَ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ كَلَامُ مَنْ ؟ قَالَ : كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : بَيْعٌ ، وَاَللَّهِ صَرِيحٌ لَا نَقِيلُهُ ، وَلَا نَسْتَقِيلُهُ

فَخَرَجَ إلَى الْغَزْوِ فَاسْتُشْهِدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى { ، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا } قَالَ هَذَا وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدَهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ ، وَعْدٌ ثَابِتٌ ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ فِي التَّوْرَاةِ ، وَالْإِنْجِيلِ كَمَا أَثْبَتَهُ فِي الْقُرْآنِ .
وَعَنْ الْجَوْهَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَاهِيك مِنْ صَفْقَةٍ الْبَائِعُ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَالثَّمَنُ جَنَّةُ الْمَأْوَى ، وَالْوَاسِطَةُ مُحَمَّدٌ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي ذَلِكَ قِيلَ أَكْرِمْ بِهَا صَفْقَةً فَالرَّبُّ عَاقِدُهَا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ مِنْ مُضَرِ أَثْمَانُهَا جَنَّةٌ نَاهِيك مِنْ نُزُلٍ دَارٌ بِهَا نِعَمٌ تَخْفَى عَنْ الْبَشَرِ أَنْوَاعُ مَطْعَمِهَا مِنْ كُلِّ شَهْوَتِنَا شَرَابُهَا عَسَلٌ صَافٍ مِنْ الْكَدَرِ مِنْ كُلِّ مَا لَذَّةٍ طَابَتْ مَوَارِدُهَا ، وَحُورُهَا دُرَرٌ تَزْهُو عَلَى الْقَمَرِ أَنَّى لَهَا ثَمَنٌ دُنْيَا بِهَا مِحَنٌ لَمْ يَصْفُ مَشْرَبُهَا يَوْمًا لِمُعْتَبِرِ ثُمَّ قَالَ { ، وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ } ؛ لِأَنَّ إخْلَافَ الْوَعْدِ إنَّمَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ لِأَحَدِ أُمُورٍ أَوْ مَجْمُوعِهَا ، وَذَلِكَ : لِبُخْلٍ أَوْ شُحٍّ خَوْفَ الْفَقْرِ أَوْ مَحَبَّةَ الِازْدِيَادِ مِنْ الشَّهَوَاتِ أَوْ لِعَجْزٍ أَوْ لِنِسْيَانٍ ، وَذُهُولٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآفَاتِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ .
فَهَذِهِ الْآيَةُ إذَا فُهِمَتْ مَعَانِيهَا ، وَحَضَرْتَ بِخُلُوِّ الْقَلْبِ ، وَشُرُوطِ الِاسْتِمَاعِ لَتَالِيهَا لَا تَطْلَبُ فِي التَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ زِيَادَةً عَلَيْهَا ، وَلَا انْضِمَامَ شَيْءٍ مِنْ الْمُؤَكَّدَاتِ إلَيْهَا ، وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ عَنْ صَلَاةٍ ، وَلَا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ،

وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } فَهَذَا وَعْدٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ إذْ أَنَّ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِهِ أَوْ الْمَوْتَ مُقْتَرِنٌ بِهِمَا الْمَغْفِرَةُ ، وَالرَّحْمَةُ ، وَخَبَرُهُ تَعَالَى ، وَوَعْدُهُ حَقٌّ ، وَتَأْكِيدُهُ بِالْقَسَمِ لِلتَّرْغِيبِ فِي الْجِهَادِ ، وَتَحْقِيقٌ لِفَضْلِهِ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَضَمَّنَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ لَا يَخْرُجُ إلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي ، وَإِيمَانًا بِي ، وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ إنْ مَاتَ أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ كَلْمٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهِ حِينَ كُلِمَ لَوْنُهُ لَوْنُ دَمٍ ، وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْكٍ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْت خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلُهُمْ ، وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْت أَنِّي أَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ } قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُخْرِجُهُ إلَّا جِهَادًا فِي سَبِيلِي ، وَإِيمَانًا بِي وَتَصْدِيقًا بِرَسُولِي فِي هَذَا حَضٌّ عَلَى النِّيَّةِ ، وَتَخْلِيصِهَا مِنْ الشَّوَائِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ مِنْ النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَهِيَ الشَّهَادَتَانِ ، وَعُلُوُّ الْمُسْتَمْسِكِ بِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ إذَا عَلَا بِالضَّرُورَةِ تَكُونُ الشَّهَادَتَانِ ، وَشَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ السُّفْلَى فَيَقْصِدُ بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ هَذَا مُخْلِصًا ،

وَيَبِيعُ نَفْسَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجَنَّةِ الَّتِي وَعَدَهَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ ابْتِغَاءَ الْجَنَّةِ ، وَعُلُوَّ الْكَلِمَتَيْنِ فَإِذَا صَحَّ قَصْدُهُ نَالَ مِنْ اللَّهِ مَا وَعَدَهُ .
وَقَوْلُهُ فَهُوَ عَلَيَّ ضَامِنٌ قِيلَ مَعْنَاهُ مَضْمُونٌ .
وَقَوْلُهُ أَوْ أَرْجِعَهُ إلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ نَائِلًا مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ أَجْرٍ ، وَغَنِيمَةٍ .
، وَالْكَلْمُ الْجُرْحُ ، وَبِإِسْنَادِهِ إلَى مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } فِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى النِّيَّةِ .
وَمِنْهُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا } ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ { خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ .
} الْغَدْوَةُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ السَّيْرُ إلَى الزَّوَالِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَالرَّوْحَةُ السَّيْرُ مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ مَرَّةً وَاحِدَةً .
فَالْمَعْنَى أَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الْغَدْوَةِ ، وَالرَّوْحَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَفَضْلَهَا ، وَنَعِيمَهَا عَلَى قِلَّتِهَا ، وَيَسَارَتِهَا ، وَخِفَّتِهَا خَيْرٌ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا كُلِّهَا عَلَى كَثْرَتِهَا فَإِنَّ نِعَمَ الدُّنْيَا زَائِلَةٌ فَانِيَةٌ ، وَنِعَمَ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ بَاقِيَةٌ أَوْ الْمَعْنَى أَنَّ الدُّنْيَا لَوْ نَالَهَا مَلِكٌ بِأَسْرِهَا ، وَأَنْفَقَهَا لِثَوَابِ الْآخِرَةِ ، وَأَجْرِهَا لَكَانَ جَزَاءُ هَذِهِ الْغَدْوَةِ ، وَالرَّوْحَةِ أَكْثَرَ ، وَفَضْلُهَا أَعْظَمَ ، وَأَكْبَرَ .
وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِم مُتَّصِلًا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( يَا أَبَا سَعِيدٍ { مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا

وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفَعَلَ ثُمَّ قَالَ ، وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا الْعَبْدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ قَالَ ، وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الدَّرَجَاتُ : الْمَنَازِلُ فِي الْجَنَّةِ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ ، وَالسُّنَّةُ قَالَ تَعَالَى { لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ } ، وَمِنْهُ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ : مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَسْقِيَ الْحَاجَّ ، وَقَالَ آخَرُ مَا أُبَالِي أَنْ لَا أَعْمَلَ عَمَلًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ إلَّا أَنْ أَعْمُرَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، وَقَالَ آخَرُ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِمَّا قُلْتُمْ فَزَجَرَهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَالَ : لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَلَكِنْ إذَا صَلَّيْت الْجُمُعَةَ دَخَلْت لِأَسْتَفْتِيَهُ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ، وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ } الْآيَةَ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ ، وَنَفْسِهِ قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ } ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ لَهُمْ رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَطِيرُ عَلَى مَتْنِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً أَوْ فَزْعَةً طَارَ عَلَيْهِ يَبْتَغِي الْقَتْلَ ، وَالْمَوْتَ مَظَانَّهُ أَوْ رَجُلٌ فِي غَنِيمَةٍ فِي رَأْسِ شَعَفَةٍ مِنْ هَذِهِ الشَّعَفِ أَوْ بَطْنِ وَادٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ يُقِيمُ الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ يَعْبُدُ رَبَّهُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْيَقِينُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ إلَّا فِي خَيْرٍ } ) فَظَهَرَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَضْلُ الْجِهَادِ ، وَشَرَفُهُ ، وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ الِاكْتِسَابَ مِنْهُ خَيْرُ كَسْبٍ إذَا خُمِّسَ الْمَغْنَمُ ، وَلَمْ يَسْتَأْثِرْ عَلَى الْغَازِينَ بِشَيْءٍ إلَّا مَا الضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَيْهِ مِثْلُ الطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ ، وَشِبْهِهِمَا مِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي السُّنَنِ الْمَأْثُورَةِ ، وَالْكِتَابِ الْعَزِيزِ .
، وَالْهَيْعَةُ الصَّوْتُ الْمُفْزِعُ .
وَالطَّيَرَانُ هُوَ إغَاثَةُ الْمُسْتَغِيثِ بِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ فِي الْفِعْلِ الْمُسْرِعِ ، وَالشَّعَفُ رُءُوسُ الْجِبَالِ .
وَفِيهِ حَضٌّ عَلَى الِانْزِوَاءِ عَنْ النَّاسِ ، وَالِاعْتِزَالِ ؛ لِمَا فِي الْمُخَالَطَةِ مِنْ آفَاتِ الْقِيلِ ، وَالْقَالِ ، وَهَذَا الِانْزِوَاءُ ، وَالِاعْتِزَالُ إنَّمَا يُحْمَدُ إذَا لَمْ يَتَوَجَّهْ فَرْضُ الْجِهَادِ ، وَالْقِتَالِ أَوْ فَرْضٌ مِنْ الْفُرُوضِ عَلَى حَسَبِ الْأَحْوَالِ .
مِنْهُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت أَبِي ، وَهُوَ بِحَضْرَةِ الْعَدُوِّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ فَقَامَ رَجُلٌ رَثُّ الْهَيْئَةِ فَقَالَ يَا أَبَا مُوسَى أَأَنْت سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ هَذَا قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ فَرَجَعَ إلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ : أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ السَّلَامَ ثُمَّ كَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ ، وَأَلْقَاهُ ثُمَّ مَشَى بِسَيْفِهِ إلَى الْعَدُوِّ فَضَرَبَ بِهِ حَتَّى قُتِلَ } قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْنِي أَنَّ الْجِهَادَ ، وَحُضُورَ الْمَعَارِكِ سَبَبٌ

لِدُخُولِهَا ، وَمُقَرِّبٌ إلَيْهَا ، وَيَظْهَرُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ مَكَانَ الْمَعْرَكَةِ ، وَجِلَادَ الْكُفَّارِ مِنْهُ تُنْقَلُ رُوحُ الشَّهِيدِ حِينَ الشَّهَادَةِ ، وَتُدْخَلُ الْجَنَّةَ كَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ، وَصَحِيحِ الْأَخْبَارِ .
وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ قَالَ أَنَسٌ عَمِّي الَّذِي سُمِّيتُ بِهِ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا قَالَ فَشَقَّ عَلَيْهِ قَالَ : أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُيِّبْت عَنْهُ ، وَلَئِنْ أَشْهَدَنِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ قَالَ فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا قَالَ فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحُدًا قَالَ ، وَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ يَا أَبَا عَمْرٍو أَيْنَ ؟ قَالَ ، وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ قَالَ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ قَالَ فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ ، وَثَمَانُونَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ ، وَطَعْنَةٍ ، وَرَمْيَةٍ قَالَ : وَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ فَمَا عَرَفْت أَخِي إلَّا بِبَنَانِهِ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ، وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } قَالَ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ ، وَفِي أَصْحَابِهِ .
قَوْلُهُ ، وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ كَلِمَةُ تَلَهُّفٍ ، وَحُنَيْنٍ ، وَشَوْقٍ إلَى الْجَنَّةِ ، وَتَمَنٍّ لَا جَرَمَ لَمَّا صَدَقَ أُعْطِيَ سُؤْلَهُ ، وَبَلَغَ مِمَّا تَمَنَّى مَأْمُولَهُ ، وَأَوْجَدَهُ اللَّهُ رِيحَ الْجَنَّةِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ أَنَّهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ ، وَذَلِكَ تَشْرِيفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ السَّعَادَةِ ، وَتَكْرِمَةٌ لِمَنْ كُتِبَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ .
وَمِنْ مُسْنَدِ النَّسَائِيّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { أَنَا

زَعِيمٌ ، وَالزَّعِيمُ الْحَمِيلُ لِمَنْ آمَنَ ، وَأَسْلَمَ ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ ، وَبِبَيْتٍ فِي ، وَسَطِ الْجَنَّةِ ، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ الْجَنَّةِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لَهُ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا ، وَلَا مِنْ الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ يَمُوتُ } .
وَمِنْ مُسْنَدِ أَبِي دَاوُد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ قَالَ : إنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
، وَمِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَتْ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ } ، وَمِنْهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا } ، وَمِنْهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ : لَحِقَنِي عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ ، وَأَنَا مَاشٍ إلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ أَبْشِرْ فَإِنَّ خُطَاك هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَمِعْت أَبَا عَبْسٍ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ } انْتَهَى كَلَامُ الصَّدَفِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ أَبُو عَبْسٍ هَذَا اسْمُهُ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جَبْرٍ ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ هُوَ رَجُلٌ شَامِيٌّ رَوَى عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، وَيَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ غَيْرَ وَاحِدٍ .
ثُمَّ قَالَ الصَّدَفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَدُخَانُ جَهَنَّمَ }

فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ ، وَفَضِيلَتِهِ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ ، وَالرَّامِيَ بِهِ ، وَمُنْبِلَهُ } ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ { كُلُّ مَا يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتَهُ أَهْلَهُ } ، وَمِنْ مُسْنَدِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ لَهُ عَدْلُ مُحَرَّرٍ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ : مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ يَنْتَضِلُونَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا ، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ قَالَ : فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ ، قَالُوا : كَيْفَ نَرْمِي ، وَأَنْتَ مَعَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْمُوا ، وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ } .
وَمِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُونَ ، وَيَكْفِيكُمْ اللَّهُ فَلَا يَعْجِزُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ } ، وَمِنْهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ أَنَّ نُعَيْمًا اللَّخْمِيَّ قَالَ لَهُ لِعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ تَخْتَلِفُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْغَرَضَيْنِ ، وَأَنْتَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَلَيْك فَقَالَ : عُقْبَةُ لَوْلَا كَلَامٌ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ أُعَانِهِ فَقِيلَ لِابْنِ شِمَاسَةَ ، وَمَا ذَاكَ قَالَ : إنَّهُ قَالَ : { مَنْ عُلِّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا أَوْ قَدْ عَصَى } ، وَقَوْلُهُ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ لَيْسَ مُتَّبِعًا لَنَا ، وَلَا مُهْتَدِيًا بِهَدْيِنَا تَارِكُ الرَّمْيِ .
، وَكَتَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ حِمْصَ عَلِّمُوا أَوْلَادَكُمْ السِّبَاحَةَ ، وَالرِّمَايَةَ ، وَالْفُرُوسِيَّةَ ، وَالِاحْتِفَاءَ بَيْنَ الْأَغْرَاضِ ، وَقَالَ : احْتَفُوا ، وَتَجَرَّدُوا ، وَاخْشَوْشِنُوا ، وَتَمَعْدَدُوا ، وَاقْطَعُوا الرَّكْبَ ، وَانْزُوَا عَلَى الْخَيْلِ نَزْوًا ، وَارْمُوا الْأَغْرَاضَ إيَّاكُمْ وَلِبَاسَ الْعَجَمِ الْبَسُوا الْأُزُرَ وَالْأَرْدِيَةَ ، وَأَلْقُوا السَّرَاوِيلَاتِ ، وَاسْتَقْبِلُوا حَرَّ الشَّمْسِ بِوُجُوهِكُمْ فَإِنَّهَا شَامَاتُ الْعَرَبِ ، وَاطْرَحُوا الْخِفَافَ ، وَالْبَسُوا النِّعَالَ

فَصْلٌ فِي الرِّبَاطِ ، وَفَضْلِهِ ، وَذِكْرِ الْخَيْلِ ، وَفَضْلِهَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا ، وَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا ، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الَّذِي يَمُوتُ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ } .
أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ ، وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَيْلُ لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ : فَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيلَهَا ذَلِكَ فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا ، وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ فَهِيَ لَهُ أَجْرٌ ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا ، وَتَعَفُّفًا ، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا ، وَلَا ظُهُورِهَا فَهِيَ لِذَلِكَ سِتْرٌ ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا ، وَرِيَاءً ، وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ } ، وَمِنْهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَمِنْهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُئِيَ يَمْسَحُ ، وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إنِّي عُوتِبْت

اللَّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ } ، وَرَوَى الْعُتْبِيُّ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ ثَغْرِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة هَلْ الرُّجُوعُ لِثَغْرِهِمْ ، وَالْكَوْنُ فِيهِ لِلْحَرَسِ ، وَسَدُّهُ أَفْضَلُ أَمْ الْمَقَامُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ ، وَأَزْكَى التَّحِيَّاتِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ أَفْضَلُ ؟ فَرَجَّحَ لَهُمْ الرُّجُوعَ إلَى الْإِسْكَنْدَرِيَّة ، وَالْكَوْنَ فِيهَا عَلَى ذَلِكَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ الْحَرْسُ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ ؛ لِأَنَّ الْحَرْسَ فِيهِ حِفْظُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْغَزْوُ فِيهِ إرَاقَةُ دِمَاءِ الْمُشْرِكِينَ فَحِفْظُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَوْلَى .
أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { عَيْنَانِ لَا تَمَسَّهُمَا النَّارُ : عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَمِنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَقِيَ اللَّهَ بِغَيْرِ أَثَرٍ مِنْ جِهَادٍ لَقِيَ اللَّهَ ، وَفِيهِ ثُلْمَةٌ } ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت عُثْمَانَ ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ : إنِّي كَتَمْتُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرَاهِيَةَ نُفُورِكُمْ عَنِّي ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أُحَدِّثَكُمُوهُ لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ } قَالَ : أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ مِنْ قَطْرَتَيْنِ ، وَأَثَرَيْنِ قَطْرَةُ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهْرَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

تَعَالَى ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى } قَالَ : ابْنُ حَبِيبٍ الرِّبَاطُ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْجِهَادِ .
وَقِيلَ مَنْ رَابَطَ فَوَاقَ نَاقَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فَوَاقَ نَاقَةٍ قَدْرُ مَا تُحْلَبُ ، وَقَالَ غَيْرُهُ قَدْرُ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لَحَرْسُ لَيْلَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ صِيَامِ أَلْفِ يَوْمٍ أَصُومُهَا ، وَأَقُومُ لَيْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَعِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي لِكُلِّ قَوْمٍ أَنْ يُرَابِطُوا فِي نَاحِيَتِهِمْ ، وَأَنْ يُمْسِكُوا سَوَاحِلَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانًا مَخُوفًا يُخَافُ فِيهِ عَلَى الْعَامَّةِ يُرِيدُ فَلْيَذْهَبْ إلَيْهِ .
وَمِنْ الْحَرْسِ فِي الثُّغُورِ حَفْرُ الْخَنَادِقِ ، وَالِاحْتِسَابُ فِي حَفْرِهَا مُسْتَنِّينَ فِي ذَلِكَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَطْعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْحَجَرِ الَّذِي أَعْيَتْ الصَّحَابَةَ الْحِيلَةُ فِي كَسْرِهِ .
أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ : { لَمَّا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ عَرَضَ لَنَا حَجَرٌ لَا يَأْخُذُهُ الْمِعْوَلُ فَاشْتَكَيْنَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَلْقَى ثَوْبَهُ ، وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ ، وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَتْ ثُلُثَ الصَّخْرَةِ فَقَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ الشَّامِ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأُبْصِرُ إلَى قَصْرِهَا الْأَحْمَرِ الْآنَ مِنْ مَكَانِي هَذَا قَالَ : ثُمَّ ضَرَبَ أُخْرَى ، وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ فَارِسٍ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأُبْصِرُ خَضْرَاءَ الْمَدَائِنِ ، وَإِلَى الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ ، وَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرَ فَقَالَ : اللَّهُ

أَكْبَرُ أُعْطِيت مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأُبْصِرُ بَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي السَّاعَةَ }

فَصْلٌ فِي فَضْلِ الشَّهَادَةِ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ { ، وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } قَالَ : أَمَّا إنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : { أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ ثُمَّ تَأْوِي إلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ } ، وَمِنْهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا ، وَإِنَّ لَهُ بِهَا مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ غَيْرَ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ ؛ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ ) ، وَفِي رِوَايَةٍ ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ .
وَمِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ ، وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا } .
وَمِنْ الْمُوَطَّأِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْغَزْوُ غَزْوَانِ : فَغَزْوٌ تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ ، وَيُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ ، وَيُطَاعُ فِيهِ ذُو الْأَمْرِ ، وَيُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ فَذَلِكَ الْغَزْوُ خَيْرٌ كُلُّهُ ، وَغَزْوٌ لَا تُنْفَقُ فِيهِ الْكَرِيمَةُ ، وَلَا يُيَاسَرُ فِيهِ الشَّرِيكُ ، وَلَا يُطَاعُ فِيهِ ذُو الْأَمْرِ ، وَلَا يُجْتَنَبُ فِيهِ الْفَسَادُ فَذَلِكَ الْغَزْوُ يَرْجِعُ صَاحِبُهُ كَفَافًا .
وَمِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ ، وَرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ، وَآتَى الزَّكَاةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ قَالَ : إنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ كُلِّ

دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ ، وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ تَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ ، وَسَطُ الْجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } .
وَمِنْ صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ : يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ فِي أَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهِ ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا ، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ ، وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ } قَالَ : أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِعْبٍ فِيهِ عَيْنٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا فَقَالَ : لَوْ اعْتَزَلْت عَنْ النَّاسِ فَأَقَمْت فِي هَذَا الشِّعْبِ ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ ، فَإِنَّ مَقَامَ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ، وَيُدْخِلَكُمْ الْجَنَّةَ اُغْزُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ } ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ شَهِيدٌ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ، وَعَبْدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ } ، وَمِنْهُ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ يَقُولُ : سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ يَقُولُ ( { الشُّهَدَاءُ أَرْبَعَةٌ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ الَّذِي يَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ أَعْيُنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَكَذَا ، وَرَفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى وَقَعَتْ قَلَنْسُوَتُهُ قَالَ : فَمَا أَدْرِي أَقَلَنْسُوَةُ عُمَرَ أَرَادَ أَمْ قَلَنْسُوَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَيِّدُ الْإِيمَانِ لَقِيَ الْعَدُوَّ فَكَأَنَّمَا ضُرِبَ جِلْدُهُ بِشَوْكِ طَلْحٍ مِنْ الْجُبْنِ أَتَاهُ سَهْمٌ غَرْبٌ فَقَتَلَهُ فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا ، وَآخَرَ سَيِّئًا لَقِيَ الْعَدُوَّ فَصَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ، وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَسْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ لَقِيَ الْعَدُوَّ صَدَقَ اللَّهَ حَتَّى قُتِلَ فَذَاكَ فِي الدَّرَجَةِ الرَّابِعَةِ } ، وَفَضِيلَةُ الْجِهَادِ قَدْ جَاءَ فِيهَا مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .
وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذَّرٌ عَلَى الْمَرْءِ وَحْدَهُ إذْ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ جَمَاعَةٍ ، وَإِمَامٍ تَنْعَقِدُ كَلِمَتُهُمْ عَلَيْهِ ، وَلَا يُخَالِفُونَهُ .

، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ذَلِكَ ، وَشَرَطُوا لَهُ شُرُوطًا ، وَبَيَّنُوا حَالَ الْإِمَامِ ، وَحَالَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَكُونُ مَعَهُ ، وَصِفَةَ هَدْيِهِمْ ، وَطَرِيقَتَهُمْ ، وَآدَابَهُمْ ، وَمَا يَتَجَنَّبُونَ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَهَذَا النَّوْعُ كَثِيرٌ قَلَّ أَنْ يُحْصَرَ أَعْنِي مَا أُحْدِثَ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ شَرْقًا ، وَغَرْبًا فَمَنْ أَرَادَ الْجِهَادَ فَلْيَتَوَقَّفْ حَتَّى يَسْأَلَ أَهْلَ الْعِلْمِ ، وَالنُّهَى عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَمَا يُنْدَبُ لَهُ ، وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ أَوْ يُكْرَهُ ، وَمَا يَتَجَنَّبُ فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَقَالِيمِ ، وَالْأَئِمَّةِ ، وَالْجَمَاعَةِ ، وَالْعَصْرِ فَلَا يُمْكِنُ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنًى مِنْ مَعَانِيهَا لِكَثْرَتِهَا ، وَاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، وَالْأَزْمَانِ فَبِالسُّؤَالِ يَتَبَيَّنُ لَهُ مَا يَصْلُحُ بِهِ فَإِنْ رَأَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ خَلَلٍ يَرْتَكِبُهُ بِسَبَبِ جِهَادِهِ فَالتَّرْكُ لَهُ أَوْلَى اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ الْجِهَادُ فَلَا سُؤَالَ إذْ ذَاكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَظِرُ فِيهِ إذْنَ الْإِمَامِ ، وَلَا حُضُورَ الْجَمَاعَةِ ، وَلَا إذْنَ الْوَالِدِ ، وَلَا إذْنَ الْوَالِدَةِ ، وَلَا إذْنَ السَّيِّدِ إذْ أَنَّ النَّفِيرَ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَتْ لَهُ قُدْرَةٌ بِوَجْهٍ مَا

ثُمَّ الْأَصْلُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي جِهَادِهِ ، وَيَعْتَقِدُ النَّصْرَ مِنْ جِهَتِهِ هُوَ التَّعَلُّقُ بِجَنَابِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالرُّجُوعُ إلَيْهِمْ ، وَالصُّدُورُ عَنْ رَأْيِهِمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ لَمَّا أَنْ خَرَجَ لِبَعْضِ غَزَوَاتِهِ قَالَ : اُنْظُرُوا إلَى مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَذَهَبُوا إلَيْهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَقَالُوا ، وَجَدْنَاهُ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي فَقَالَ : اذْهَبُوا فَقَدْ نَصَرَنَا : سَبَّابَتُهُ فِي الْقِبْلَةِ عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ كَذَا وَكَذَا أَلْفِ فَارِسٍ فَمَضَوْا ؛ لِمَا كَانُوا بِسَبِيلِهِ فَنُصِرُوا ، وَغَنِمُوا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ابْغُونِي فِي ضُعَفَائِكُمْ } ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَمَنَّى الْمَرْءُ لِقَاءَ الْعَدُوِّ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ ، وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ } خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ ، وَغَيْرُهُ فَشَأْنُ الْمُكَلَّفِ امْتِثَالُ الْأَدَبِ بِتَرْكِ الدَّعَاوَى ، وَغَيْرِهَا حَتَّى إذَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ اسْتَعَانَ بِرَبِّهِ تَعَالَى ، وَامْتَثَلَ أَمْرَهُ مُبْتَغِيًا بِذَلِكَ مَرْضَاتَهُ ، وَمَا وَعَدَ عَلَيْهِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ لِفَاعِلِهِ .
وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ دَقِيقُهَا ، وَجَلِيلُهَا فَلْيَكُنْ الْمَرْءُ مُتَيَقِّظًا لَهَا فَإِنَّهُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ، وَالْجِهَادُ مَظِنَّةُ الْمَوْتِ غَالِبًا .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - مَعْنَاهُ أَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تُنْقَلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى الْجَنَّةِ ، وَالتَّعَلُّقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى هُوَ الْأَصْلُ لِهَذَا الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ، وَإِنَّمَا هِيَ أَسْبَابٌ ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا شَاءَ فَعَلَ

فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ الْقَادِرُ عَلَى النَّصْرِ بِسَبَبٍ ، وَبِغَيْرِ سَبَبٍ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { ، وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } فَنَفَى الرَّمْيَ عَنْ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ ، وَمَا رَمَيْت ثُمَّ أَثْبَتَهُ لَهُ بِقَوْلِهِ إذْ رَمَيْت فَإِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَمَعَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ ، وَالشَّرِيعَةِ .
أَمَّا الشَّرِيعَةُ فَلِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ ، وَرَمَى بِهِ فِي وُجُوهِهِمْ ، وَقَالَ : شَاهَتْ الْوُجُوهُ .
وَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِوُصُولِ ذَلِكَ التُّرَابِ لِعَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَدُوِّ حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَهُ لِمِلْئِهَا بِالتُّرَابِ ، وَهَذَا شَيْءٌ يَعْجَزُ الْبَشَرُ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ أَفْعَالُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ امْتِثَالِ الْحِكْمَةِ ثُمَّ يُظْهِرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قُدْرَتَهُ عِيَانًا لِلْخَلْقِ عَلَى يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَاءَ فِي نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَفْعَلْ ، وَلَمْ يَمُدَّ يَدَهُ دُونَ مَاءٍ بَلْ امْتَثَلَ الْحِكْمَةَ بِوَضْعِ يَدِهِ الْكَرِيمَةِ فِي إنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْقُوا ، وَيَشْرَبُوا ، وَيَمْلَئُوا ، وَالْمَاءُ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِجَمْعِ مَا بَقِيَ مَعَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْأَزْوَادِ حِينَ فَنِيَتْ فَجُمِعَتْ ، وَبَارَكَ فِيهَا فَأَكَلَ الْجَمِيعُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعُوا ، وَمِنْ ذَلِكَ فِعْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قِصَّةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدَّاجِنِ الَّذِي ذَبَحَهُ ، وَالْعَجِينِ الَّذِي خَبَزَهُ ، وَكَوْنُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَصَقَ فِيهِمَا ، وَبَارَكَ ثُمَّ أَذِنَ

لِعَشَرَةٍ فِي الْأَكْلِ ثُمَّ عَشَرَةٍ مِنْ بَعْدِهِمْ مِمَّنْ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْخَنْدَقِ حَتَّى أَكَلَ الْجَمِيعُ ، وَشَبِعُوا ، وَكَانُوا أَلْفًا ، وَالْبُرْمَةُ تَفُورُ كَمَا هِيَ ، وَالْعَجِينُ يُخْبَزُ كَمَا هُوَ .
وَمِنْ ذَلِكَ خُرُوجُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى الْجِهَادِ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَدُّ لِذَلِكَ بِجَمْعِ أَصْحَابِهِ ، وَبِاِتِّخَاذِ الْخَيْلِ ، وَالسِّلَاحِ ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْجِهَادِ ، وَالسَّفَرِ ثُمَّ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَخَلَّى مِنْ ذَلِكَ ، وَرَدَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِمَوْلَاهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا لِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ { آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ ، وَحْدَهُ } فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ ، وَحْدَهُ } فَنَفَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ ، وَفِعْلَهُ خَلْقٌ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى الَّذِي خَلَقَ ، وَدَبَّرَ ، وَأَعَانَ ، وَأَجْرَى الْأُمُورَ عَلَى يَدِ مَنْ شَاءَ ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ فَكُلٌّ مِنْهُ ، وَكُلٌّ إلَيْهِ رَاجِعٌ .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ أَنْ يُبِيدَ أَهْلَ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ لَفَعَلَ ، وَقَدْ نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ قَالَ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ ، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } فَيُثِيبُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى الصَّابِرِينَ ، وَيُجْزِلُ الثَّوَابَ لِلشَّاكِرِينَ ، وَقَالَ تَعَالَى { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } فَعَلَى الْمُكَلَّفِ الِامْتِثَالُ فِي الْحَالَيْنِ أَعْنِي فِي امْتِثَالِ الْحِكْمَةِ ، وَالرُّجُوعِ إلَى الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى ، وَالسُّكُونِ إلَيْهِ ، وَالنُّزُولِ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ ، وَيَكْشِفُ السُّوءَ ، وَيَجْعَلُكُمْ

خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ كَثِيرٌ فَتَجِدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَمْتَثِلُ الْحِكْمَةَ أَوَّلًا تَأَدُّبًا مَعَ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَتَشْرِيعًا لِأُمَّتِهِ ثُمَّ يُظْهِرُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْهِ قُدْرَتَهُ الْغَامِضَةَ الْمُخَبَّأَةَ الَّتِي ادَّخَرَهَا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَمَا جَرَى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ جَارٍ لِأُمَّتِهِ بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَثِيرًا مَا قَدْ ، وَقَعَ مِثْلُ هَذَا كَتَكْثِيرِ الْقَلِيلِ ، وَقَلْبِ الْأَعْيَانِ ، وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ ، وَمَا أَشْبَهِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ يَقْطَعُ الْعُذْرَ ، وَيُوجِبُ الْقَطْعَ بِوُجُودِهِ .
قَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كُلُّ كَرَامَةٍ ظَهَرَتْ لِوَلِيٍّ فَهِيَ مُعْجِزَةٌ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذْ أَنَّهُ مَا حَصَلَتْ لَهُ تِلْكَ الْكَرَامَةُ إلَّا بِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقِيَتْ هَذِهِ الْبَرَكَاتُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَا تَنْقَطِعُ ، وَكَيْفَ لَا ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ } ، وَهَذَا عَامٌّ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَفِي غَيْرِهِ

، وَيَنْبَغِي لِلْمُجَاهِدِ أَنْ لَا يُقَاتِلَ بِنِيَّةِ إرَاقَةِ دِمَاءِ الْكُفَّارِ لَيْسَ إلَّا بَلْ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ نِيَّةِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ ، وَإِظْهَارِهَا ، وَإِخْمَادِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ ، وَإِبْطَالِهَا .
وَيَنْبَغِي لِلْمُجَاهِدِينَ إذَا كَانُوا مَعَ الْإِمَامِ أَوْ فِي سَرِيَّةٍ ، وَأَدْرَبُوا بِلَادَ الْعَدُوِّ أَنَّهُمْ إذَا صَلُّوا الْخَمْسَ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ لِيُرْهِبُوا الْعَدُوَّ بِذَلِكَ ، وَلِيَقْتَدُوا فِيهِ بِالسَّلَفِ الْمَاضِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - ، وَفِعْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ بِدْعَةٌ .
، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَالنَّاصِرُ ، وَالْهَادِي لَا رَبَّ سِوَاهُ ، وَلَا مَرْجُوًّا إلَّا إيَّاهُ .

فَصْلٌ فِي آدَابِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ التَّارِكِ لِلْأَسْبَابِ ، وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ ، وَهَدْيِهِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ عَلَى قِسْمَيْنِ جِهَادٌ أَصْغَرُ ، وَجِهَادٌ أَكْبَرُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ النَّاسِ إلَّا أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْوَجُ النَّاسِ إلَيْهِ إذْ أَنَّهُ خَلَّفَ الدُّنْيَا ، وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَأَقْبَلَ عَلَى آخِرَتِهِ لِشُغْلِهِ بِرَبِّهِ ، وَإِقْبَالِهِ عَلَى إصْلَاحِ نَفْسِهِ وَتَنْظِيفِهَا مِنْ الْغَيْرِ فَكُلُّ قَلْبٍ فِيهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ فِي حَيِّزِ الْمَتْرُوكِ الْمَطْرُوحِ ، وَكُلُّ قَلْبٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى وَقَعَ لَهُ الْفَتْحُ ، وَالتَّجَلِّي ، وَالْمُخَاطَبَةُ فِي سِرِّهِ بِمَا يَلِيقُ بِحَالِهِ .
وَهَذَا مَقَامٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا أَهْلُهُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدُ إلَى مُجَاهَدَةٍ عَظِيمَةٍ لِكَيْ يَصْفُوَ قَلْبُهُ ، وَيَتَجَهَّزَ لِتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ الرَّبَّانِيَّةِ لَعَلَّهُ أَنْ يَظْفَرَ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي جُمْلَةِ السَّابِقِينَ ، وَقَاعِدَةُ الْفَقِيرِ أَبَدًا لَا يَزَالُ فِي جِهَادٍ .
فَأَوَّلُ جِهَادِهِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ ثُمَّ جِهَادُ نَفْسِهِ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - : إنَّ الْجِهَادَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ جِهَادٌ بِالْقَلْبِ ، وَجِهَادٌ بِاللِّسَانِ .
وَجِهَادٌ بِالْيَدِ ، وَجِهَادٌ بِالسَّيْفِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ ، وَبَقِيَ الْكَلَامُ هُنَا عَلَى بَاقِي أَقْسَامِ الْجِهَادِ .
فَالْجِهَادُ بِالْقَلْبِ جِهَادُ الشَّيْطَانِ ، وَجِهَادُ النَّفْسِ عَنْ الشَّهَوَاتِ ، وَالْمُحَرَّمَاتِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } ، وَجِهَادُ اللِّسَانِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهِ مِنْ جِهَادِ

الْمُنَافِقِينَ ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ ، وَالْمُنَافِقِينَ ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ، وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } فَجَاهَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ ، وَجَاهَدَ الْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ نَهَاهُ أَنْ يَعْمَلَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ فَيُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ جِهَادُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُشْرِكِينَ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِقِتَالِهِمْ بِالْقَوْلِ خَاصَّةً ، وَجِهَادُ الْيَدِ زَجْرُ ذَوِي الْأَمْرِ أَهْلَ الْمَنَاكِرِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَالْبَاطِلِ ، وَالْمَعَاصِي ، وَالْمُحَرَّمَاتِ ، وَعَنْ تَعْطِيلِ الْفَرَائِضِ الْوَاجِبَاتِ بِالْأَدَبِ ، وَالضَّرْبُ عَلَى مَا يُؤَدِّي إلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ ، وَمِنْ ذَلِكَ إقَامَتُهُمْ الْحُدُودَ عَلَى الْقَذَفَةِ الزُّنَاةِ ، وَشَرَبَةِ الْخَمْرِ ثُمَّ أَوَّلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مُجَاهَدَتِهِ الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ مَحَبَّتَهَا ، وَالْعَمَلَ عَلَى تَحْصِيلِهَا مَعَ وُجُودِ شَغَفِ الْقَلْبِ بِهَا يُعْمِي عَنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ ، وَيَطْمِسُ الْقَلْبَ ، وَيُكْثِرُ فِيهِ الْوَسَاوِسَ ، وَالنَّزَغَاتِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ ، وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى ذَلِكَ بِسَبَبِ مَا شَغَفَ قَلْبُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ .
وَقَدْ مَرَّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرَجُلٍ نَائِمٍ فِي السَّحَرِ فَوَكَزَهُ ، وَقَالَ لَهُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ قُمْ فَقَدْ سَبَقَكَ الْعَابِدُونَ فَقَالَ : يَا رُوحَ اللَّهِ دَعْنِي فَقَدْ عَبَدْتُهُ بِأَحَبِّ الْعِبَادَاتِ إلَيْهِ قَالَ لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمَا ذَاكَ قَالَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا قَالَ لَهُ عِيسَى نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ فِي خِدْرِهَا انْتَهَى ثُمَّ إنَّ الزُّهْدَ لَا يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ إلَّا بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ الْحَرَكَاتِ ، وَالسَّكَنَاتِ ، وَضَابِطُهُ : أَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ ، وَنَفَسٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ يَنْظُرُ فِيهِ فَمَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى فَلْيُمْضِهِ ، وَمَا كَانَ

لِغَيْرِهِ فَلْيَدَعْهُ .
وَقَدْ قَالُوا : الزُّهْدُ فِي فُضُولِ الْكَلَامِ أَفْضَلُ مِنْ الزُّهْدِ فِي غَيْرِهِ يَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَوَابًا لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا أَثْنَوْا عَلَى رَجُلٍ قَدْ مَاتَ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ أَوْ كَمَا قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَقَلُّ فَائِدَةٍ فِي السُّكُوتِ تَسْبِيحُ الْأَعْضَاءِ انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ أَقَلُّ فَوَائِدِهِ فَمَا بَالُك بِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا السَّلَامَةُ مِنْ عَثَرَاتِ اللِّسَانِ لَكَانَ غَنِيمَةً عَظِيمَةً .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ الْأَعْضَاءَ تُصْبِحُ فِي كُلِّ يَوْمٍ تُنَاشِدُ اللِّسَانَ أَنْ يُسْلِمَهَا مِنْ آفَاتِهِ لِأَنَّهُ إذَا عَطِبَ لَمْ يَعْطَبْ ، وَحْدَهُ بَلْ يَعْطَبُ كُلُّ الْأَعْضَاءِ بِسَبَبِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَجَدَهُ مُمْسِكًا لِسَانَهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا هَذَا قَالَ : هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ فَإِذَا كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مِثْلَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَمَا بَالُك بِغَيْرِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلْيُشَمِّرْ الْفَقِيرُ إلَى سُلُوكِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ لِيَقْطَعَهَا فَإِنَّهَا عَقَبَةٌ كَئُودٌ لَا يُجَاوِزُهَا إلَّا الْمُشَمِّرُونَ - أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مَنْ بَرَكَاتِهِمْ - .
ثُمَّ إنَّ الزُّهْدَ فِي الرِّيَاسَةِ أَعْظَمُ مِنْ الزُّهْدِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ ، وَالْمَالَ يُنْفَقَانِ فِي الرِّيَاسَةِ ، وَالرِّيَاسَةُ لَا تُنْفَقُ فِيهِمَا فَالزُّهْدُ فِيهَا مُتَعَيَّنٌ .
ثُمَّ لَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الرِّيَاسَةَ إنَّمَا هِيَ فِي رُتَبِ الدُّنْيَا لَيْسَ إلَّا بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي رُتَبِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَمَنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ

شَيْءٌ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ لَا شَيْءَ ، وَمِنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ لَا شَيْءَ فَهُوَ عِنْدَ رَبِّهِ شَيْءٌ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ - نَفَعَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - : مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَمَا قَالَهُ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلْبَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُقْطَعْ لَهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِإِحْدَى الدَّارَيْنِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْآدَمِيُّ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى حُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، - وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ - أَنَّهُ كَانَ جَائِعًا ، وَوَجَدَ فَضْلَةَ طَعَامٍ عَلَى مَزْبَلَةٍ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُ ، وَإِذَا بِكَلْبٍ قَدْ جَاءَ فَأَكَلَ مِنْ النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ نَبَحَ الْكَلْبُ عَلَى إبْرَاهِيمَ فَقَالَ إبْرَاهِيمُ : لَا تَنْبَحْ عَلَيَّ ، وَلَا أَنْبَحُ عَلَيْك كُلْ مِنْ جِهَتِك ، وَأَنَا آكُلُ مِنْ جِهَتِي إنْ دَخَلْت أَنَا الْجَنَّةَ فَأَنَا خَيْرٌ مِنْك ، وَإِنْ دَخَلْت النَّارَ فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنِّي تَصْرِيحًا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ كَانَتْ نَفْسُكَ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فَسِرُّك فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الثَّانِيَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الثَّالِثَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الرَّابِعَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ الْخَامِسَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ السَّادِسَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَسِرُّك فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَإِنْ نَزَلَتْ عَنْ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ إلَى ظَهْرِ

الثَّوْرِ الَّذِي عَلَيْهِ قَرَارُ الْأَرْضِينَ فَسِرُّك نَاظِرٌ إلَى الْعَرْشِ انْتَهَى فَقَرَّرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ بِسَبَبِ التَّوَاضُعِ ، وَعَلَى قَدْرِ نُزُولِ النَّفْسِ يَسْمُو أَمْرُهُ ، وَيَعْلُو قَدْرُهُ فَمَنْ أَرَادَ الْفَوْزَ فَلْيَعْمَلْ عَلَى إشَارَتِهِ يَحْظَ بِالسَّلَامَةِ .
وَأَعْنِي بِالزُّهْدِ فِي مَرَاتِبِ الْآخِرَةِ أَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ لَا لِعِوَضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } ، وَصَاحِبُ هَذَا الْحَالِ يَرَى نَفْسَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ أَهْلًا لِشَيْءٍ لِاسْتِحْقَارِهِ نَفْسَهُ ، وَتَرْكِ النَّظَرِ إلَيْهَا ، وَصَغَارَتِهَا عِنْدَهُ لِعَظِيمِ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ .
قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَابِدٌ مُجْتَهِدٌ ، وَكَانُوا يُفَضِّلُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَعْنِي مَنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ مِنْ الْعُبَّادِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ قُلْ لِفُلَانٍ يَعْبُدُنِي مَا شَاءَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَأَصْبَحَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَخْبَرَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِذَلِكَ فَتَعَجَّبُوا ، وَقَالُوا لَيْسَ فِينَا أَحَدٌ مِثْلَهُ فِي الْعِبَادَةِ ، وَالْخَيْرِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، وَإِذَا بِالرَّجُلِ قَدْ أَتَى فَسَلَّمَ ، وَجَلَسَ فَأَخْبَرَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا قَدْ وَقَعَ فَقَالَ : أَهْلًا بِقَضَاءِ رَبِّي ، وَمَضَى لِسَبِيلِهِ فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ تَطَهَّرَ ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي كُنْت أَعْبُدُك ، وَلَسْت عِنْدَ نَفْسِي أَهْلًا لِشَيْءٍ ، وَالْآنَ قَدْ مَنَنْت عَلَيَّ ، وَجَعَلْتنِي أَهْلًا لِنَارِك فَوَعِزَّتِك لَا زَالَ هَذَا مَقَامِي بَيْنَ يَدَيْك شُكْرًا لَك عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ حَتَّى أَلْقَاك فَلَمَّا أَصْبَحَ مِنْ الْغَدِ جَاءَ إلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْحَى إلَيَّ أَنْ قُلْ لِفُلَانٍ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِازْدِرَائِهِ بِنَفْسِهِ .
وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَدْهَمَ رَحِمَهُ

اللَّهُ ، - وَنَفَعَ بِهِ - عَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي كَوْنِهِ لَمْ يَجْلِسْ إلَيْهِمْ ، وَيُحَدِّثْهُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْهُ الْعِلْمَ ؛ لِأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ ، وَالْمُحَدِّثِينَ فَقَالَ : شَغَلَنِي أَرْبَعٌ لَوْ فَرَغْتُ مِنْهَا لَجَلَسْتُ إلَيْكُمْ وَحَدَّثْتُكُمْ فَقَالُوا لَهُ ، وَمَا هِيَ فَقَالَ : افْتَكَرْت فِي نُزُولِ الْمَلَكِ لِتَصْوِيرِي فِي الرَّحِمِ ، وَنِدَائِهِ يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ فَمَا أَعْرِفُ كَيْف خَرَجَ جَوَابِي .
الثَّانِيَةُ أَنِّي افْتَكَرْت فِي نُزُولِ مَلَكِ الْمَوْتِ لِقَبْضِ رُوحِي ، وَنِدَائِهِ يَا رَبِّ أَقْبِضُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ أَمْ عَلَى الْكُفْرِ فَمَا أَعْرِفُ كَيْف خَرَجَ جَوَابِي .
الثَّالِثَةُ أَنِّي افْتَكَرْت فِي قَوْله تَعَالَى { ، وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } فَمَا أَعْرِفُ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَمْتَازُ .
الرَّابِعَةُ أَنِّي افْتَكَرْت فِي الْمُنَادِي الَّذِي يُنَادِي حِينَ حُصُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ فِيهَا ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ لَا مَوْتَ فِيهَا فَمَا أَعْرِفُ فِي أَيِّ الدَّارَيْنِ أَكُونُ انْتَهَى .
فَمَنْ كَانَ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ كَيْفَ يَقَرُّ لَهُ قَرَارٌ أَوْ يَأْوِي إلَى عِمْرَان ، وَإِنَّمَا هِيَ غَفَلَاتٌ ، وَالْمُرِيدُ مُبَرَّأٌ مِنْ الْغَفَلَاتِ مُتَيَقِّظٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْقَاطِعَاتِ نَاظِرٌ لِلنَّاسِ نَظَرَ عُمُومٍ يَرَاهُمْ هَلْكَى فَيَرْحَمُهُمْ ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ قَدْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدِهِ خَوْفًا مِنْهُ أَنْ يَلْحَقَهُ مَا لَحِقَهُمْ إذْ أَنَّ الدُّنْيَا لَوْلَا الْحَمْقَى مَا عَمَرَتْ ، وَطُولُ الْأَمَلِ فِي الْإِنْسَانِ مِنْ أَكْبَرِ الْحُمْقِ ، وَالْمُرِيدُ نَاظِرٌ إلَى زَمَانِهِ ، وَهُوَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مَاضٍ ، وَمُسْتَقْبَلٍ ، وَحَالٍّ ، فَإِنْ نَظَرَ إلَى الْمَاضِي فَهُوَ كَنَدْبِ الْأَطْلَالِ ، بِطَالَةٌ لَا تُغْنِي ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهَا ، وَإِنْ نَظَرَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَالْقَدَرُ لَيْسَ بِيَدِهِ ، وَالْحَيَاةُ لَيْسَتْ بِحُكْمِهِ فَلَمْ

يَبْقَ إلَّا النَّظَرُ فِي الْحَالِّ ، وَالنَّظَرُ فِي الْحَالِّ هُوَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْفَقِيرُ ابْنُ وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ مُتَوَقَّعٌ مَعَ الْحَرَكَاتِ ، وَالسَّكَنَاتِ ، وَالْأَنْفَاسِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ نَفَسٌ فَقَدْ لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ ، وَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ فَقَدْ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ ارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْكُلَفُ ، وَالنَّظَرُ فِي الْمَلْبَسِ ، وَالْقُوتِ ، وَالْمَسْكَنِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ إذْ أَنَّ نَفَسًا ، وَاحِدًا لَا ثَمَنَ لَهُ ، وَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِي الْإِقَامَةِ فِي الدُّنْيَا إذْ أَنَّ مَنْ صَارَ حَالُهُ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَوْتَ نُصْبَ عَيْنَيْهِ فَقَدْ انْقَطَعَتْ فِكْرَتُهُ ، وَهُمُومُهُ ، وَحَسَرَاتُهُ فِي كَيْفِيَّةِ مَوْتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَفِي قَبْرِهِ ، وَوَحْشَتِهِ ، وَجَوَابِهِ حِينَ السُّؤَالِ فِيهِ ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَهْوَالِ الْعِظَامِ فَأَيُّ رَاحَةٍ تَبْقَى لِمَنْ هَذَا حَالُهُ ، وَفِكْرَتُهُ .
حُكِيَ أَنَّ إنْسَانًا جَاءَ لِبَعْضِ إخْوَانِهِ يَزُورُهُ فَوَجَدَهُ وَحْدَهُ ، وَهُوَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا ، وَشِمَالًا ، وَخَلْفًا ، وَأَمَامًا قَالَ لَهُ الزَّائِرُ : لِمَنْ تَلْتَفِتُ فَقَالَ : أَنْظُرْ لِمَلَكِ الْمَوْتِ مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يَأْتِينِي .
وَقَدْ جَاءَ بَعْضُهُمْ إلَى شَيْخٍ لَهُ لِيَزُورَهُ ، وَكَانَ قَدْ لَقِيَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ : إنِّي صَائِمٌ فَأَعْطَاهُ سَبْعَ تَمَرَاتٍ أَوْ لَوْزَاتٍ عَلَى أَنْ يُفْطِرَ عَلَيْهَا فَرَبَطَ ذَلِكَ فِي طَرَفِ كِسَائِهِ فَلَمَّا دَقَّ الْبَابَ خَرَجَ لَهُ شَيْخُهُ لِيُسَلِّمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ الشَّيْخُ : مَا هَذَا الَّذِي فِي طَرَفِ كِسَائِك فَأَخْبَرَهُ بِمَا جَرَى فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ ، وَأَنْتَ تَظُنُّ أَنَّك تَعِيشُ إلَى الْغُرُوبِ ، وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُك بَعْدَهَا أَبَدًا ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَنَفَعَ بِهِ - : عُمْرُك نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ أَنْ يَكُونَ لَك لَا عَلَيْك انْتَهَى .
وَهَا هُوَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ

فَمَنْ كَانَ حَالُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فَلَا رَاحَةَ لَهُ دُونَ لِقَاءِ رَبِّهِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ عَلَى مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ حَيْثُ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا رَاحَةَ لِلْمُؤْمِنِ دُونَ لِقَاءِ رَبِّهِ } ، وَمَعْنَى ذَلِكَ ، - وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - أَنَّ الْمُؤْمِنَ طَالَمَا هُوَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ لَا يَزَالُ فِي مُكَابَدَاتٍ ، وَأَهْوَالٍ ، وَأَخْطَارٍ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا فَيَلْقَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَرَى مَالَهُ عِنْدَهُ مِنْ الْكَرَامَاتِ فَحِينَئِذٍ تَحْصُلُ لَهُ الرَّاحَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الدَّائِمَةُ الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا .
، وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْقُدْوَةُ الْمُحَقِّقُ يُمْنُ بْنُ مَرْزُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَنَفَعَ بِهِ - فِي حَالِ الْفَقِيرِ ، وَزُهْدِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ : اعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي الزُّهْدِ عَلَى طَبَقَاتٍ فَمِنْهُمْ آخِذٌ ، وَهُوَ تَارِكٌ ، وَمِنْهُمْ تَارِكٌ ، وَهُوَ آخِذٌ ، وَإِنَّمَا يَحْمَدُ ، وَيَصِحُّ هَذَا الْأَمْرُ لِمَنْ تَرَكَ الدُّنْيَا ، وَزَهِدَ فِيهَا بَعْدَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ مُصَلِّيًا نَائِمًا ، وَآخَرُ نَائِمًا مُصَلِّيًا ، وَمُفْطِرًا صَائِمًا ، وَصَائِمًا مُفْطِرًا ، وَكَاسِيًا عَارِيًّا ، وَعَارِيًّا كَاسِيًا ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى تَصَرُّفِ إرَادَةِ الْقَلْبِ ، وَتَصْحِيحِ النِّيَّةِ ، وَفَسَادِ إرَادَةِ الْقَلْبِ ، وَفَسَادِ النِّيَّةِ ، وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْكَسْبِ الْخَبِيثِ ، وَالْقَوْلِ الْخَبِيثِ ، وَفِي هَذَا كَلَامٌ كَثِيرٌ إلَّا أَنَّ مَنْ صَدَقَ أَبْصَرَ ، وَتَحَقَّقَ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ بِاَللَّهِ وَبِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَنَهَاهُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَلَأَتْ قَلْبَهُ عَظَمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فَاشْتَغَلَ بِالْقِيَامِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ فُضُولِ الدُّنْيَا مِنْ الْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَاللِّبَاسِ ، وَالْبُنْيَانِ ، وَالْمَرْكَبِ ، وَالْأَزْوَاجِ ، وَالْأَوْلَادِ ، وَالْخَدَمِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَهُ الزَّوْجَةُ ،

وَالْوَلَدُ ، وَأَشْيَاءُ مِمَّا ذُكِرَ لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ عَلَى الرَّغْبَةِ ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ عَنْ فَهْمِ وَعْدِ الْقُرْآنِ ، وَوَعِيدِهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا وَصَلُوا إلَى مَا وَصَلُوا إلَيْهِ لَمْ يَغْتَرُّوا بِدَارِ الْغُرُورِ ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ رَغْبَةٌ إلَّا خَوْفَ فَوَاتِ مَا شَوَّقَ إلَيْهِ وَعْدُ الْقُرْآنِ وَوَعِيدُهُ مِنْ الْخُلُودِ فِي دَارِ النَّعِيمِ أَوْ دَارِ الْهَوَانِ { إنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ } إنَّمَا دَعَا إلَى دَارِ السَّلَامِ - مَنْ خَلَقَهَا ، وَزَيَّنَهَا ، وَجَلَّاهَا : فَخُضْ أَيُّهَا الْمُرِيدُ الْغَمَرَاتِ شَوْقًا إلَى نَعِيمِهَا ، وَأَجِبْ الدَّاعِيَ الصَّادِقَ الْوَفِيَّ إلَى مَا وَعَدَ ، وَدَعَاك إلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ حَذَّرَك نَفْسَك ، وَهَوَاك ، وَأَنْذَرَك حُلُولَ دَارِ سَخَطِهِ ، وَالتَّخَلُّصُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالْوُصُولُ إلَى نَعِيمِ دَارِ الْخُلُودِ رَفْضُ الْمَحْبُوبِ مِنْ اتِّبَاعِ الْهَوَى فَارْفُضْهُ ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ ضَجِيعَك ، وَالزُّهْدَ قَرِينَك ، وَالْجِدَّ سِلَاحَك ، وَالصِّدْقَ مَرْكَبَك ، وَالْإِخْلَاصَ زَادَك ، وَالْخَوْفَ مِنْ اللَّهِ عَلَى مُقَدِّمَتِكَ ، وَالشَّوْقَ إلَى الْجَنَّةِ صَاحِبَ لِوَائِك ، وَالْمَعْرِفَةَ عَلَى مَيْمَنَتِك ، وَالْيَقِينَ عَلَى مَيْسَرَتِك ، وَالثِّقَةَ عَلَى سَاقَتِك ، وَالصَّبْرَ أَمِيرَ جُنْدِكَ ، وَالرِّضَا ، وَزِيرَك ، وَالْعِلْمَ مُشِيرَك ، وَالتَّوَكُّلَ دِرْعَك ، وَالشُّكْرَ خَلِيلَك ثُمَّ انْفِرْ إلَى عَدُوِّك ، وَصَافِقْهُ بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْت لَك ، وَطِبْ نَفْسًا عَنْ دَارِ الْهُمُومِ ، وَالْأَحْزَانِ إلَى دَارِ الْبَقَاءِ ، وَالسُّرُورِ مَعَ الْخَيِّرَاتِ الْحِسَانِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

ثُمَّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ فَلْيَنْظُرْ الْعَبْدُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ مَنْ نَظَرَ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ بِأَمَلٍ رَجَاءَ مَنْفَعَتِهِ كَانَ عُزُوبًا لِقَلْبِهِ عَنْ اللَّهِ ، وَكَانَ مَنْقُوصًا عَنْ مَنْزِلَةِ الْوَاثِقِينَ الْمُؤَيَّدِينَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : يَا دَاوُد إنِّي قَدْ آلَيْتَ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أُثِيبَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي إلَّا عَبْدًا قَدْ عَلِمْت مِنْ طَلْبَتِهِ ، وَإِرَادَتِهِ ، وَإِلْقَاءِ كَنَفِهِ بَيْنَ يَدَيَّ أَنَّهُ لَا غِنَى لَهُ عَنِّي ، وَأَنَّهُ لَا يَطْمَئِنُّ إلَى نَفْسِهِ بِنَظَرِهَا ، وَفِعَالِهَا إلَّا ، وَكَّلْته إلَيْهَا أَضِفْ الْأَشْيَاءَ إلَيَّ فَإِنِّي أَنَا مَنَنْت بِهَا عَلَيْك } .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَ إنَّمَا تَفَاوَتُوا ، وَتَبَايَنُوا فَبِاخْتِيَارِهِمْ نَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى اخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ زَادَهُمْ ذَلِكَ سُرْعَةً ، وَقُرْبًا مِنْ مَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ ، وَصُنْعِهِ ، وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْهِمْ ، وَبِالسَّهْوِ عَنْهُ ، وَاخْتِيَارِهِمْ أَنْفُسَهُمْ عَلَى نَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى زَادَهُمْ ذَلِكَ بُطْئًا ، وَبُعْدًا مِنْ مَعُونَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُمْ ، وَصُنْعِهِ ، وَتَسْهِيلِهِ عَلَيْهِمْ فَكُنْ فِي نَظَرِك إلَى رَبِّك نَاظِرًا بِأَنْ لَا تُؤَمِّلْ غَيْرَ صُنْعِهِ ، وَلَا تَرْجُو غَيْرَ مَعُونَتِهِ ، وَاثِقًا بِاخْتِيَارِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ ، وَأَسْرَعُ فِي مَعُونَتِهِ لَك فَإِنَّ الَّذِينَ قَلَّدُوا أُمُورَهُمْ رَبَّهُمْ ، وَوَثِقُوا بِهِ ، وَلَجَأُوا إلَيْهِ قَدْ أَمَاتُوا مِنْ قُلُوبِهِمْ تَدْبِيرَ أَنْفُسِهِمْ ، وَجَعَلُوا الْأُمُورَ عِنْدَهُمْ أَسْبَابًا مَعَ قِيَامِهِمْ بِهَا ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا فَأُولَئِكَ ذَهَبُوا بِصَفْوِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ لِسُكُونِ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ فَوَجَدُوا بِذَلِكَ الرَّوْحَ ، وَالرَّاحَةَ فَهُمْ حُمَاةُ الدِّينِ ، وَالْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ قَدْ فَاقُوا عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ بِاطْمِئْنَانِهِمْ بِهِ ، وَسُكُونِهِمْ إلَيْهِ فَأَوْجَبَ لَهُمْ صُنْعَهُ ، وَأَقَامَ قُلُوبَهُمْ عَلَى مِنْهَاجِهِ فَمَا تَقَلَّبُوا فِيهِ

مِنْ الْأَمْرِ فَعَلَى الرِّضَا ، وَالطُّمَأْنِينَةِ ، وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْخَلْقِ فِي مُؤْنَةٍ ، وَتَعَبٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ حَيْثُ اخْتَارُوهَا ، وَتَوَكَّلُوا عَلَيْهَا فَأَوْرَثَتْهُمْ الْهَمَّ ، وَالْغُمُومَ ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَلَّدُوهُ أُمُورَهُمْ ، وَخَرَجُوا عَنْ طِبَاعِ الْعِبَادِ ؛ لِمَا تَبَيَّنَ لَهُمْ مِنْ خَطَأِ مَنْ اخْتَارَ نَفْسَهُ فَجَعَلُوا اخْتِيَارَهُمْ الرِّضَا بِمَا صَيَّرَهُمْ إلَيْهِ مَوْلَاهُمْ مِنْ أُمُورِهِمْ فَزَالَتْ الْغُمُومُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَأَوْجَبَ لَهُمْ الصُّنْعَ ، وَالتَّوْفِيقَ فِي أَحْوَالِهِمْ ، وَأَوْرَثَهُمْ الْغِنَى ، وَالْعِزَّ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَسَدَّ عَنْهُمْ أَبْوَابَ الْحَاجَاتِ إلَى الْمَخْلُوقِينَ ، وَأَتَتْهُمْ لَطَائِفُ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُونَ ، وَقَامَ لَهُمْ بِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ ، وَنَزَّهَ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ إكْرَامًا لَهُمْ عَنْ فُضُولِ الدُّنْيَا ، وَطَهَارَةً لِقُلُوبِهِمْ عَنْ التَّشَاغُلِ بِمَا أَغْنَاهُمْ عَنْهُ فَحَصَّنَهُمْ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ ، وَأَمْشَاهُمْ فِي طُرُقَاتِ الدُّنْيَا طَيِّبِينَ مُوَالِينَ لَهُ فَهُمْ فِي السَّمَوَاتِ أَشْهَرُ مِنْهُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَلِأَصْوَاتِهِمْ هُنَاكَ دَوِيٌّ ، وَنُورٌ يُعْرَفُونَ بِهِ ، وَيَحْيَوْنَ عَلَيْهِ قَدْ رَفَعَ أَبْصَارَ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ فَهِيَ نَاظِرَةٌ إلَيْهِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ عَنْهُ بِلَا إدْرَاكٍ مِنْهُمْ لِصِفَةٍ ، وَلَا صُورَةٍ ، وَلَا حَدٍّ ، وَلَا إحَاطَةٍ مِنْهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَكِنْ كَيْفَ شَاءَ لَهُمْ ذَلِكَ فَأَحَبَّهُمْ ، وَحَبَّبَهُمْ إلَى مَلَائِكَتِهِ ، وَسَائِرِ خَلْقِهِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى { يَا دَاوُد تَفَضَّلْ عَلَى عِبَادِي أَكْتُبْك مِنْ أَوْلِيَائِي ، وَأَحِبَّائِي ، وَأُبَاهِي بِك حَمَلَةَ عَرْشِي ، وَأَرْفَعُ الْحُجُبَ بَيْنِي ، وَبَيْنَك فَتَنْظُرُ إلَيَّ بِبَصَرِ قَلْبِك لَا أَحْجُبُك عَنْ ذَلِكَ مَا كُنْت مُسْتَمْسِكًا بِطَاعَتِي } ، وَذُكِرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ أَنَّهُ قَالَ : { قُلْ لِأَهْلِ مَحَبَّتِي يَشْتَغِلُوا بِي فَإِذَا

عَلِمْت أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ الِاشْتِغَالُ بِي ، وَالِانْقِطَاعُ إلَيَّ كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَ الْحُجُبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيَّ بِأَبْصَارِ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ يَتَنَعَّمُونَ بِذِكْرِي قَدْ أَغْنَاهُمْ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ نَعِيمٍ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ } فَهَؤُلَاءِ قَدْ مَلَأَ اللَّهُ أَسْمَاعَهُمْ ، وَأَبْصَارَهُمْ ، وَجَوَارِحَهُمْ مِنْ حُبِّهِ فَأَدَّبُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ لَهُ ، وَالدُّخُولِ فِي مَحَبَّتِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ تَأْدِيبَ الرَّجُلِ نَفْسَهُ فِي مَطْعَمِهِ ، وَمَشْرَبِهِ ، وَمَلْبَسِهِ يَزِيدُ فِي صَلَاحِ قَلْبِهِ ، وَتَنْقَادُ جَوَارِحُهُ لِقَلْبِهِ ، وَيَقْوَى عَزْمُهُ ، وَيَقْهَرُ هَوَاهُ فَيَقُومُ عِنْدَ ذَلِكَ مَقَامَ أَهْلِ الْقُوَّةِ إلَى أَنْ يَرْفَعَهُ اللَّهُ إلَى مَنْزِلَةٍ فَوْقَهَا حَتَّى يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْأَخْذُ ، وَالتَّرْكُ فَلَا يَأْسَفُوا عَلَى مَا فَاتَهُمْ ، وَلَا يَفْرَحُوا بِمَا آتَاهُمْ لِلْغِنَى الَّذِي وَقَرَ فِي قُلُوبِهِمْ يَزْدَادُونَ لَهُ مَحَبَّةً ، وَمَوَدَّةً ، وَشُكْرًا لَهُ فِي الْعِلْمِ بِهِ ، وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ رَقَّتْ قُلُوبُهُمْ ، وَانْقَادَتْ أَهْوَاؤُهُمْ إلَى مَا قَلَّ مِنْ الدُّنْيَا ، وَكَفَى فَهِيَ لَا تَطَّلِعُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ نَاظِرِينَ إلَى رَبِّهِمْ فِي أُمُورِهِمْ كُلِّهَا لَا إلَى الْأَسْبَابِ نَظَرُهُمْ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فِي إقَامَةِ الْأَسْبَابِ الْخَالِصَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَإِنْ لَبِسُوا خَشِنًا أَوْ لَيِّنًا أَوْ حَسَنًا أَوْ قَبِيحًا أَوْ أَكَلُوا طَيِّبًا أَوْ كَرِيهًا أَوْ حُلْوًا أَوْ مُرًّا أَوْ حَامِضًا أَوْ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا لَمْ يُغَيِّرْ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ عَنْ الْحَالِ الَّتِي هِيَ عَلَيْهَا مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ ، وَتَعْظِيمِهِ .
وَذَلِكَ أَنَّ قُلُوبَهُمْ عَامِرَةٌ مِنْ ذِكْرِ الْخَالِقِ ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ سِوَاهُ فِي قُلُوبِهِمْ ثُبُوتٌ إلَّا بِالْخَاطِرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْسَخَ أَوْ يَثْبُتَ فَلَمْ يَقُمْ النَّاسُ مَقَامًا أَشْرَفَ مِنْ أَنْ يُعَلِّقُوا قُلُوبَهُمْ بِرَبِّهِمْ ، وَلَا أَوْلَى بِهِمْ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ مُحَافَظَةً عَلَى

جَمْعِ هُمُومِهِمْ فِي صَلَاتِهِمْ ، وَجَمْعِ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ مِنْ رَبِّهِمْ إنْ قَامُوا عُرِفُوا بَيْنَ يَدَيْ مَنْ هُمْ قِيَامٌ لَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَكَعُوا أَوْ سَجَدُوا أَوْ تَلُوا الْقُرْآنَ أَوْ دَعَوْا رَبَّهُمْ لَا تَعْزُبُ قُلُوبُهُمْ عَنْ ذَلِكَ .
فِيهِ زَكَتْ أَعْمَالُهُمْ ، وَصُوِّبَتْ عُقُولُهُمْ فَهُوَ يَتَعَاهَدُهُمْ بِلُطْفِهِ ، وَيَسُوسُهُمْ بِتَوْفِيقِهِ فَقَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ خَطَؤُهُمْ ، وَكَثُرَ صَوَابُهُمْ فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي مَحَبَّةِ طَاعَةِ اللَّهِ فَلَا يَكُنْ لَهُ ثِقَةٌ إلَّا اللَّهَ ، وَلَا غِنًى إلَّا بِهِ ، وَلَا أَمَلٌ غَيْرَهُ يَرْجُوهُ ، وَيَتَّخِذُهُ ، وَكِيلًا فِي أُمُورِهِ كُلِّهَا رَاضِيًا بِقَضَائِهِ فِيمَا نَقَلَهُ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِ رَاضِيًا بِاخْتِيَارِ اللَّهِ لَهُ مُتَّهِمًا رَأْيَهُ ، وَلِمَا تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ مُسَلِّمًا رَاضِيًا عَنْ اللَّهِ غَيْرَ مُتَجَبِّرٍ ، وَلَا مُتَمَلِّكٍ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ مِنْ مَرَضٍ أَوْ صِحَّةٍ أَوْ رَخَاءٍ أَوْ شِدَّةٍ مِمَّا أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ ، وَلْيَكُنْ قَلْبُهُ بِذَلِكَ رَاضِيًا لِمَوْضِعِ الثِّقَةِ بِرَبِّهِ ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ .
فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ وَرِثَ قَلْبُهُ الْمَحَبَّةَ لَهُ ، وَالشَّوْقَ إلَيْهِ ، وَصَارَ إلَى مَنْزِلَةِ الرِّضَا بِمَا كَفَاهُ ، وَحَمَاهُ مِنْ الدُّنْيَا ، وَإِنْ قَلَّ ، وَأَخْرَجَ مِنْ قَلْبِهِ مَطَامِعَ الْمَخْلُوقِينَ فَاسْتَغْنَى بِاَللَّهِ فَجَعَلَهُ اللَّهُ مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ ثُمَّ أَلْهَمَهُ مَوْلَاهُ عِلْمًا مِنْ عِلْمِهِ فَعَرَّفَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْرِفْهُ ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمْ فَعَنْ اللَّهِ أَخَذَ عِلْمَهُ ، وَبِأَمْرِ اللَّهِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - تَأَدَّبَ فَطَهُرَتْ أَخْلَاقُهُ لَمَّا آثَرَ أَمْرَ اللَّهِ ، وَلَجَأَ إلَيْهِ فَتَمَّتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ الْمَحْبُوبُونَ فِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ الْمَعْرُوفُونَ فِيهَا خَفِيٌّ أَمْرُهُمْ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، وَظَهَرَ أَمْرُهُمْ لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ لِكَلَامِهِمْ هُنَاكَ دَوِيٌّ ، وَلِبُكَائِهِمْ حُنَيْنٌ تَقَعْقَعُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ مِنْ سُرْعَةِ فَتْحِهَا

إجَابَةً لِدُعَائِهِمْ فَأَعْظِمْ بِهِمْ مَا عِنْدَ اللَّهِ جَاهًا ، وَمَنْزِلَةً ، وَأَعْظِمْ بِهِمْ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ ، وَحُسْنَ ظَنٍّ بِهِ فَهُمْ مَسْرُورُونَ بِرَبِّهِمْ قَرِيرَةٌ أَعْيُنُهُمْ طَرِبَةٌ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِهِ مُشْتَاقَةٌ سَاكِنَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ إلَيْهِ تَقَدَّمُوا النَّاسَ ، وَانْقَطَعَ النَّاسُ عَنْهُمْ ، وَأَشْرَفُوا عَلَى النَّاسِ ، وَاشْتَغَلَ النَّاسُ عَنْهُمْ فَعَجِبُوا مِنْ النَّاسِ ، وَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهُمْ انْقَطَعُوا إلَى اللَّهِ بِهُمُومِهِمْ ، وَأَهْوَائِهِمْ ، وَعَلِقُوا بِهِ ، وَلَجَئُوا إلَى اللَّهِ لَجْأَ الْمُسْتَغِيثِينَ بِهِ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ قَدْ تَخَلَّصَتْ إلَيْهِ عُقُولُهُمْ بِالْمَوَدَّةِ فَأَنْزَلُوا نِسْيَانَهُ مَعْصِيَةً مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ فَقَبِلَهُمْ ، وَاجْتَبَاهُمْ ، وَنَعَّمَهُمْ ، وَخَصَّهُمْ ، وَكَفَاهُمْ ، وَآوَاهُمْ ، وَعَلَّمَهُمْ ، وَعَرَّفَهُمْ ، وَأَسْمَعَهُمْ ، وَبَصَّرَهُمْ ، وَحَجَبَهُمْ عَنْ الْآفَاتِ ، وَحَجَبَ الْآفَاتِ عَنْهُمْ ، وَأَقَامَهُمْ مَقَامَ الطَّهَارَةِ ، وَأَنْزَلَهُمْ مَنَازِلَ السَّلَامَةِ ، وَأَقَامَ قُلُوبَهُمْ بِذِكْرِهِ فَلَمْ يُرِيدُوا بِهِ بَدَلًا ، وَلَا عَنْهُ حِوَلًا صِيَانَةً لَدَيْهِ ، وَطَرَبًا ، وَاشْتِيَاقًا إلَيْهِ قَدْ أَذَاقَهُمْ مِنْ حَلَاوَةِ ذِكْرِهِ ، وَأَلْعَقَهُمْ مِنْ لَذَاذَةِ مُنَاجَاتِهِ ، وَسَقَاهُمْ بِكَأْسِهِ فَهُمْ وَالِهُونَ بِهِ لَيْسَ لَهُمْ مَسْكَنٌ غَيْرَهُ تَضْطَرِبُ قُلُوبُهُمْ عِنْدَ فَقْدِهِ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى مَوْضِعِ حَنِينِهَا يَحْتَمِلُونَ الْأَشْيَاءَ لَهُ ، وَلَا يَحْتَمِلُونَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْهُ هَدَايَا مُجَدَّدَةٌ فَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ تَعْظِيمُ رَبِّهِمْ ، وَجَلَالُهُ ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ قُدْرَتُهُ ، وَسُلْطَانُهُ ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ آلَاؤُهُ ، وَنَعْمَاؤُهُ ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ تَقْصِيرُهُمْ عَنْ وَاجِبِ حَقِّهِ ، وَتَارَةً يَغْلِبُ عَلَى قُلُوبِهِمْ رَأْفَتُهُ ، وَرَحْمَتُهُ ، وَتَارَةً يَصِيرُونَ إلَى حَنِينِهِ ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ تَارَةٍ دَمْعَةٌ ، وَلَذَّةٌ ، وَفِي كُلِّ دَمْعَةٍ

وَلَذَّةٍ فِكْرَةٌ ، وَعِبْرَةٌ ، وَقُلُوبُهُمْ فِي فِكْرَةٍ ، وَعِبْرَةٍ مُهْتَاجَةٌ طَرِبَةٌ هَائِمَةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ مُسْتَقِلَّةٌ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ فَهُمْ يُسْقَوْنَ مِنْ كُلِّ تَارَةٍ مَشْرَبًا سَائِغًا يُذِيقُهُمْ لَذَّتَهُ ، وَلَهُمْ فِي كُلِّ مَقَامٍ عِلْمُ زِيَادَةٍ يُعَرِّفُهُمْ مَا يَحْدُثُ لَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الزِّيَادَةِ فَلَوْ رَأَيْتَهُمْ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ آمَالُ الْخَلْقِ عَنْهُمْ ، وَأَفْضَوْا إلَى اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِجَمِيعِ رَغَبَاتِهِمْ ، وَانْزَاحَتْ الْأَشْيَاءُ الشَّاغِلَةُ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَصُمَّتْ عَنْهَا أَسْمَاعُهُمْ ، وَانْصَرَفَتْ أَبْصَارُ قُلُوبِهِمْ إلَيْهِ فَلَهَتْ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ حَتَّى إذَا جَنَّهُمْ اللَّيْلُ ، وَزَجَرَهُمْ الْقُرْآنُ بِعَجَائِبِهِ مِنْ وَعْدِهِ ، وَوَعِيدِهِ ، وَأَخْبَارِهِ ، وَأَمْثَالِهِ شَرِبُوا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ كَأْسًا مِنْ الزَّجْرِ ، وَالتَّحْذِيرِ ، وَالْأَخْبَارِ ، وَالْأَمْثَالِ ، وَالْوَعْدِ ، وَالْوَعِيدِ ، وَوَجَدُوا حَلَاوَةَ مَا شَرِبُوا حَتَّى إذَا صَفَا يَقِينُهُمْ ارْتَفَعُوا إلَى عَظَمَةِ سَيِّدِهِمْ ، وَجَلَالِ مَوْلَاهُمْ خَضَعَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمْ لِلَّهِ ، وَخَشَعَتْ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ لِسُكُونِهَا إلَيْهِ غَيْرَ مُنْتَشِرَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُومُهُمْ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ لَذَاذَةٌ لِاسْتِمَاعِهِ فَقَدْ كَشَفَ لَهُمْ الْقُرْآنُ عَنْ أُمُورِهِ ، وَكَشَفَ لَهُمْ عَنْ عَجَائِبِهِ ، وَدَلَّهُمْ عَلَى بَاطِنِ عِلْمِهِ فَيَفْهَمُونَهُ فَيَسْمُونَ بِهِ إلَى جَلَالِ سَيِّدِهِمْ وَوَقَارِهِ حَتَّى إذَا اتَّقَدَتْ الْأَنْوَارُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَتَمَكَّنَ الْيَقِينُ مِنْ أَجْوَافِهِمْ ، وَحَنَّتْ الْقُلُوبُ لِحَنِينِهَا ، وَضَاقَتْ عَنْ احْتِمَالِ مَا هَجَمَ عَلَيْهَا هَاجَ مِنْهُمْ مَا لَا يَمْلِكُونَ إمْسَاكَهُ فَلَمَّا بَلَغَ الْأَمْرُ مِنْهُمْ مَدَاهُ ، وَانْتَهَى كُلُّ شَيْءٍ مِنْهُمْ مُنْتَهَاهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ جَلَّ جَلَالُهُ بِالطُّمَأْنِينَةِ ، وَالسُّكُونِ فَلَوْلَا حُسْنُ سِيَاسَتِهِ لَهُمْ ، وَنَظَرُهُ ، وَلُطْفُهُ بِهِمْ مَا رَجَعَتْ إلَيْهِمْ عُقُولُهُمْ ، وَلَا أَثْبَتُوا مَعَارِفَهُمْ ، وَلَا سَكَنُوا مَنَازِلَهُمْ لِلَّذِي هَجَمَ عَلَى

أَبْصَارِ قُلُوبِهِمْ مِنْ عَظَمَةِ سَيِّدِهِمْ فَهُمْ يَزْدَادُونَ لَهُ ذِكْرًا ، وَمَوَدَّةً ، وَمَحَبَّةً فِي كُلِّ مَا امْتَحَنَهُمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ فَقَدْ أَعْرَضُوا عَنْ كُلِّ نَعِيمٍ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ ، وَاشْتَغَلُوا عَنْ النَّعِيمِ بِذِكْرِ مَوْلَاهُمْ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَّةٌ مِنْهُ ، وَتَفَضُّلٌ عَلَيْهِمْ فَهُمْ أَدِلَّاءٌ لِعِبَادِهِ ، وَأَعْلَامٌ فِي بِلَادِهِ ، وَحُجَّةٌ لَهُ عَلَى خَلْقِهِ ، وَخَلَفُ الْأَنْبِيَاءِ ، وَوَدَائِعُ عِلْمِهِ فَبِهِمْ يَنْزِلُ الْغَيْثُ ، وَبِهِمْ يُصْرَفُ الْعَذَابُ ، وَبِهِمْ يُنْصَرُ عَلَى الْعَدُوِّ فَهُمْ بَرَكَةٌ بَيْنَ ظَهْرَانِينَا يُحِبُّونَ اللَّهَ ، وَيُحِبُّونَ ذِكْرَهُ أَقَامُوا مَشِيئَتَهُمْ فِيمَا وَافَقَ مَحَبَّةَ رَبِّهِمْ يَغْضَبُونَ لِغَضَبِهِ ، وَيُحِبُّونَ لِمَحَبَّتِهِ فَهُوَ يَسُوسُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ ، وَيُوَفِّقُهُمْ بِتَوْفِيقِهِ يَأْتِيهِمْ الْعَوْنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ حَالٍ يَرْحَمُونَ الْخَلْقَ بِرَحْمَةِ رَبِّهِمْ ، وَيُؤَمِّلُونَ فَضْلَهُ قَدْ أَزَالَ عَنْ قُلُوبِهِمْ الْمَطَامِعَ ، وَأَسْكَنَهَا الْغِنَى فَاكْتَفَوْا بِمَا جَزَاهُمْ ، وَبَلَغُوا بِمَا بَلَّغَهُمْ فَهُمْ الْقَانِتُونَ الرَّاهِبُونَ السَّائِحُونَ الرَّاغِبُونَ الْمُحِبُّونَ لِلَّهِ الَّذِينَ فَكَّرُوا فِي قُدْرَتِهِ ، وَعَمِلُوا فِي مَحَبَّتِهِ حَتَّى وَرِثُوا الرَّهْبَةَ ثُمَّ وَرِثُوا الرَّغْبَةَ ثُمَّ وَرِثُوا الشَّوْقَ ثُمَّ رَفَعَهُمْ إلَى مَنْزِلَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهَا رَغْبَةٌ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا غَيْرُ رَبِّهِمْ هِمَّةٌ غَلَبَتْ الْمَحَبَّةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَى عُقُولِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ فَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ أَعْمَالَهُمْ ، وَصَيَّرُوا فِيهِ جَمِيعَ رَغَبَاتِهِمْ ثُمَّ رَفَعَهُمْ إلَى مَزِيدِ فَوَائِدِهِ فَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ حَقًّا مِنْهُمْ الْمُرْسَلُونَ ، وَالنَّبِيُّونَ ، وَالصِّدِّيقُونَ ، وَالشُّهَدَاءُ ، وَالصَّالِحُونَ فَاقُوا أَهْلَ السَّمَاءِ ، وَأَهْلَ الْأَرْضِ لِشِدَّةِ حُبِّهِمْ لِرَبِّهِمْ فَمَا أَصَابُوا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يُصِيبُوهُ عَلَى جِهَةِ مَا يُصِيبُهُ أَهْلُ الدُّنْيَا مِنْ التَّلَذُّذِ ، وَالطَّرَبِ إلَيْهِ ،

وَالِاشْتِغَالِ بِهِ ، وَالتَّفَكُّهِ إنَّمَا يُصِيبُونَهُ عَلَى مَوْضِعِ التَّقْوِيَةِ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ ، وَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ أَكَلُوا مِنْ الدُّنْيَا أَكْلَةً وَاحِدَةً تَكُونُ آخِرَ زَادِهِمْ مِنْهَا لَاكْتَفَوْا بِمَا قَلَّ فَلَمَّا أَعْطَوْا اللَّهَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ ضَيَّقَ أَمْعَاءَهُمْ ، وَأَسْقَطَ عَنْهُمْ شَهَوَاتِهِمْ ، وَاكْتَفَوْا بِالْيَسِيرِ مِنْ الْمَطْعَمِ فَعِنْدَ ذَلِكَ خَفَّتْ عَلَيْهِمْ مُؤْنَةُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُنَافِسُوا فِيهَا أَحَدًا فَتِلْكَ حَالَاتُهُمْ فِي الْمَطْعَمِ ، وَالْمَلْبَسِ مَا تَهَيَّأَ أَكَلُوهُ ، وَلَبِسُوهُ لَيْسَ لَهُمْ تَخْيِيرٌ ، وَلَا تَلَذُّذٌ فِي أَخْذٍ ، وَلَا تَرْكٍ خَوْفَ الشَّهَوَاتِ ، وَالِاشْتِغَالُ عَمَّا هُمْ فِيهِ فَأَسْكَنَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ ، وَحُبِّهِ مَا أَذَابَ كُلَّ مَوَدَّةٍ لِأَهْلٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ مَالٍ فَإِنْ عَرَضَ مِنْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ عَارِضٌ فَخَاطِرٌ مِنْ غَيْرِ ثُبُوتٍ فِيهَا وَرِثُوا نُورَ الْهُدَى فَأَبْصَرُوا مَوَاضِعَ حِيَلِ إبْلِيسَ ، وَمَكْرِهِ فَكَسَرُوا عَلَيْهِ كَيْدَهُ ، وَلَبَّسُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، وَدَلُّوا النَّاسَ عَلَى مَوَاضِعِ مَكْرِهِ فَهُمْ نُصَحَاءُ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ ، وَأُمَنَاؤُهُ فِي بِلَادِهِ ثُمَّ أَسْكَنَ مَحَبَّتَهُمْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ فِي عِلِّيِّينَ فَأَحَبَّهُمْ ، وَحَبَّبَهُمْ إلَى مَلَائِكَتِهِ .
فَأَحْيُوا قُلُوبَكُمْ أَيُّهَا الْمُرِيدُونَ بِالذِّكْرِ ، وَأَمِيتُوهَا بِالْخَشْيَةِ ، وَنَوِّرُوهَا بِحُبِّ لِقَاءِ اللَّهِ ، وَفَرِّحُوهَا بِالشَّوْقِ إلَيْهِ ، وَاقْمَعُوهَا بِالْمُنَاصَحَةِ .
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِالْمَحَبَّةِ تَرْتَفِعُونَ ، وَبِالْمَعْرِفَةِ تَرْهَبُونَ ، وَبِالشَّوْقِ تَرْغَبُونَ ، وَبِحُسْنِ النِّيَّةِ تَقْهَرُونَ الْهَوَى ، وَبِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ تَصْفُو لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ، وَتُؤْثِرُونَ رَبَّكُمْ وَحْدَهُ حَتَّى يُؤْثِرَكُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاءِ فِي عِلِّيِّينَ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُرِيدًا لِلرَّاحَةِ فَلْيَعْمَلْ فِي مَنَازِلِ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ بِعَزْمٍ ، وَإِرَادَةِ قُوَّةٍ وَهِيَ الدَّرَجَاتُ السَّبْعُ الَّتِي تَتَنَقَّلَ فِيهَا بَنُو آدَمَ

حَتَّى يَصِيرُوا إلَى الْمَعْرِفَةِ ، وَالْعِلْمِ ، وَهِيَ الدَّرَجَاتُ الَّتِي أَرْسَلَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَيْهَا الرُّسُلَ ثُمَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ الْوَحْيُ مَعَ جِبْرِيلَ ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْعَوَائِدِ ، وَإِنَّمَا وَرِثَ ذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ الَّذِينَ خَصَّهُمْ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ ثُمَّ وَرِثَ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ الصِّدِّيقُونَ فَاقْتَدُوا بِهِمْ وَجِدُّوا فِي آثَارِهِمْ فَإِنَّهُ لَمْ يُحْكِمْ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ السَّبْعِ إلَّا رَسُولٌ أَوْ نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ الْأَبْدَالِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَوْتَادَ الْأَرْضِ فَسَقَى بِهِمْ الْغَيْثَ ، وَأَنْزَلَ عَلَى الْعِبَادِ بِدُعَائِهِمْ الرَّحْمَةَ ، وَصَرَفَ عَنْهُمْ بِهِمْ السُّوءَ فَمَنْ كَانَ مُرِيدًا لِلْعَمَلِ فِي هَذِهِ الدَّرَجَاتِ ، وَالِاقْتِدَاءِ بِالْمُرْسَلِينَ ، وَالنَّبِيِّينَ ، وَالصِّدِّيقِينَ فِي سَيْرِهِمْ فَلْيَرْفُضْ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهِ مِنْهَا عَلَاقَةٌ تَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ فَإِنَّهُ مَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ مِنْهَا شَغَلَهُ حَتَّى تَغْلِبَ عَلَيْهِ فَلْيَبْدَأْ بِرَفْضِ الدُّنْيَا ، وَطَرْحِهَا مِنْ قَلْبِهِ حَتَّى لَا تَعْدِلَ عِنْدَهُ قَدْرَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ فَإِنَّهَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ ذِكْرُهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ ، وَأَصْغَرَ

قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ ، وَيَتَنَاوَلُ مِنْ الدَّرَجَاتِ السَّبْعِ دَرَجَةَ الْمَعْرِفَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ رَبَّهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ حَيْثُ تَعَرَّفَ إلَيْهِ رَبُّهُ فَقَدْ تَعَرَّفَ إلَى خَلْقِهِ بِخَلْقِهِ إيَّاهُمْ ، وَتَدْبِيرِهِ فِيهِمْ ، وَبِصِفَتِهِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ أَنَابَ إلَيْهِ ، وَطَلَبَ رِضَاهُ ، وَأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ لِمَنْ كَذَّبَ بِهِ ، وَكَذَبَ عَلَيْهِ ، وَكَذَّبَ رُسُلَهُ ، وَعَصَاهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ لَمْ يُحْكِمْ أَمْرَ الْمَعْرِفَةِ لَمْ يُدْرِكْ مَا سِوَاهَا مِنْ الْعِلْمِ ، وَالْعَمَلِ ، وَلَا مِنْ الدَّرَجَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، وَلَا تَكُنْ الْمَعْرِفَةُ حَتَّى تَثْبُتَ فِي الْقَلْبِ بِالْيَقِينِ الرَّاسِخِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَتْ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ عَلَى قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ فَإِنْ قَصَّرَ فِي الْمَعْرِفَةِ كَانَ فِي الْعَمَلِ أَشَدَّ تَقْصِيرًا ، وَضَعْفًا لِنِيَّتِهِ ، وَلَمْ يَجِدْ السَّبِيلَ إلَى بُلُوغِ تِلْكَ الدَّرَجَاتِ .
، وَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى قَلْبِهِ بِمَا كَسَبَ ، وَأَنَّهُ مَعَهُ يَرَاهُ ، وَيَنْظُرُهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ رِضَاهُ ، وَلِقَائِهِ ، وَلَا أَبْغَضَ إلَيْهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَبَقَائِهِ ، وَإِنْ أَحَبَّ الْبَقَاءَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُحِبَّهُ إلَّا لِلْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ ، وَلْيَنْظُرْ الْمُرِيدُ لِلْمَعْرِفَةِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ ، وَيَتَدَبَّرْهَا حَتَّى يَعْرِفَهُ بِهَا ، وَيَدْخُلَ ذَلِكَ قَلْبَهُ فَإِنَّهُ يُوَرِّثُ قَلْبَهُ بِذَلِكَ الْعِلْمَ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ .
فَإِذَا كَانَ عَالِمًا بِهِ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ إلَّا مَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَنَهَاهُ عَنْهُ ، وَعَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ يُنَشِّطُهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ .
ثُمَّ يُوَرِّثُ قَلْبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَشْيَةَ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ دَرَجَةُ التَّقْوَى لِلَّهِ لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ، وَهِيَ مُرَاقَبَتُهُ فِي

السِّرِّ ، وَالْعَلَانِيَةِ فَإِذَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ اسْتَقَلَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ لِلَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَأْلُو جَهْدًا ، وَلَا اجْتِهَادًا ، وَلَا يَمَلُّ فَإِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ إلَى ذَلِكَ ، وَدَأَبَ عَلَى عَمَلِهِ فِيمَا يُرْضِي رَبَّهُ نَظَرَ اللَّهُ إلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُوَرِّثُ قَلْبَهُ الْحُبَّ لَهُ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الرَّابِعَةُ فَإِذَا صَارَ إلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ آثَرَ حُبَّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ حُبِّ خَلْقِهِ ، وَأَحَبَّ اللَّهَ ، وَحَبَّبَهُ إلَى مَلَائِكَتِهِ الَّذِينَ حَوْلَ عَرْشِهِ ، وَإِلَى مَلَائِكَةِ السَّمَوَاتِ كُلِّهَا ، وَأَهْلِ الْأَرْضِ ، وَمَنْ فِيهَا ، وَبَسَطَ حُبَّهُ عَلَى الْمَاءِ فَلَا يَشْرَبْهُ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ إلَّا أَحَبَّهُ ، وَلَا يَزْدَادُ فِي عَمَلِهِ إلَّا جِدًّا ، وَاجْتِهَادًا فَوُرِّثَ قَلْبُهُ بَعْدَ هَذَا الشَّوْقَ إلَيْهِ ، وَالْحُبَّ لِلِقَائِهِ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ الْخَامِسَةُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاشِقِ قَدْ غَلَبَ عَلَى قَلْبِهِ الذِّكْرُ لِلَّهِ ، وَشُغِلَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْعَمَلِ مَا خَلَا الْفَرَائِضَ ، وَاجْتِنَابَ الْمَحَارِمِ ، وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْحَالِ أَقْوَى مِنْ كُلِّ عَامِلٍ فِي الدُّنْيَا ، وَأَرْفَعَ مَنْزِلَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَفَرَّغْ قَلْبُهُ مِنْ ذِكْرِ رَبِّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ لَا نَائِمًا ، وَلَا قَائِمًا ، وَلَا آكِلًا ، وَلَا شَارِبًا ، وَاَللَّهُ لَا يَنْسَى مَنْ ذَكَرَهُ فَلَوْ تَرَكَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، وَلَمَا انْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُوتَ تَشَوُّقًا إلَى اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا رَآهُ اللَّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ مَنَّ عَلَيْهِ بِالطُّمَأْنِينَةِ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ السَّادِسَةُ فَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ حَتَّى يَكُونَ كَأَنَّهُ مُعَايِنٌ لَهُ ، وَكَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَوْدِعُهُ ، وَأَنِيسُهُ ، وَسَائِسُهُ ، وَدَلِيلُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُوَرَّثُ قَلْبُهُ الْغِنَى ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُعْظَمُ دُعَائِهِ لِلْخَلْقِ بِالصَّلَاحِ ، وَصَرْفِ السُّوءِ عَنْهُمْ

حَتَّى يَصِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَسْقُطُ لَهُ دَعْوَةٌ ، وَهِيَ الدَّرَجَةُ السَّابِعَةُ .
فَإِذَا صَارَ إلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَتَفَوَّهْ بِشَيْءٍ مِنْ حَوَائِجِهِ إذَا خَطَرَتْ بِبَالِهِ تَصِيرُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَمَا أَرَادَ مِنْهَا يَأْتِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْعُوَ بِشَيْءٍ خَطَرَ عَلَى بَالِهِ لُطْفًا مِنْ اللَّهِ ، وَتَعَاهُدًا مِنْهُ حَتَّى يَعْجَبَ مِنْ لُطْفِهِ ، وَنَظَرِهِ ، وَصُنْعِهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ عَدْلًا ، وَفِعْلُهُ رِضًا فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنْ وَالَاهُ نِعَمَهُ ، وَأَغْنَاهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

فَصْلٌ فِي الرِّيَاءِ وَاعْلَمْ - وَفَّقَنَا اللَّهُ - ، وَإِيَّاكَ أَنَّ آكَدَ مَا عَلَى الْمُرِيدِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ التَّحَفُّظُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالتَّحَرُّزُ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِيمَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ أَنَّ الْعَوَائِقَ كَثِيرَةٌ ظَاهِرًا ، وَبَاطِنًا فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَنْعِ الْوُصُولِ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَيَأْخُذُ نَفْسَهُ أَوَّلًا بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي التَّحَرُّزِ مِمَّا ذُكِرَ لِيَسْلَمَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ : فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَتَّقِيَ الرِّيَاءَ ، وَالْعُجْبَ ، وَالشُّهْرَةَ ، وَالْكِبْرَ ؛ لِأَنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ أَدْنَى الْأَشْيَاءِ مِنْهُ يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا ، وَقَدْ يَخْفَى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ كَمَا وَرَدَ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ أَمْرُهُ .
وَتَظْهَرُ آفَاتُهُ بِمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ أَنْ قَالَ : أَصْلُ الْعَبْدِ لَمْ يَزَلْ مُذْ نَشَأَ مُرَائِيًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ، وَذَلِكَ لِمَيْلِهِ إلَى الدُّنْيَا ، وَإِيثَارِهِ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ ، وَإِهْمَالِهِ نَفْسَهُ ، وَإِرْسَالِهِ نِيَّتَهُ فَلَمَّا أَهْمَلَ نَفْسَهُ ، وَقَلَّتْ مُحَاسَبَتَهُ لَهَا لَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ الرِّيَاءِ فَعَمِلَ لِلدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ أَصْلِ نِيَّةٍ ثَابِتَةٍ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ إهْمَالِ النَّفْسِ ، وَتَضْيِيعِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ، وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } فَنَهَاهُمْ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ إضَاعَةِ الْأَعْمَالِ فَلَا يَكُونُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا عَنْ إرَادَةٍ ، وَلَا تَكُونُ الْإِرَادَةُ إلَّا عَنْ نِيَّةٍ ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْ إضَاعَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَيُّ عَمَلٍ أَكْبَرُ مِنْ الْإِرَادَةِ ، وَالنِّيَّةِ ، وَقَدْ وَجَدْنَا الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ سُكُونٍ ، وَالْحَرَكَةُ ، وَالسُّكُونُ جَمِيعُهَا عَمَلٌ ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ تَضْيِيعِ الْعَمَلِ فَلَمَّا تَرَكَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ إخْلَاصِ

الْعَمَلِ لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ الرِّيَاءِ ، وَغَيْرِهِ ، وَأَمْرَجَ نَفْسَهُ فَعَمِلَ عَلَى مَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ، وَجَمِيعُ مَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ رِيَاءٌ مَحْضٌ ظَاهِرٌ لَا يَعْرِفُهُ هُوَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيَعْرِفُهُ مِنْهُ مَنْ نَوَّرَ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فِي قَلْبِهِ فَهُمْ يَرَوْنَ فِعْلَهُمْ فِعْلَ أَهْلِ الرِّيَاءِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُمْسِكُ عَنْ صَاحِبِهِ لِمَعْرِفَتِهِ بِهِ ، وَلَوْ أَنَّهُ أَبْدَى إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ عُيُوبِهِ لَنَفَرَ مِنْهُ ، وَذَبَّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَبْطَلَ مَا نَسَبَهُ إلَيْهِ فَصَارَ عَدُوًّا مُشَاحِنًا ، وَأَقَلُّ مَا يَقُولُ لِلْعَارِفِ بِعُيُوبِهِ : حَسَدْتنِي فَلَمَّا عَلِمَ الْحَكِيمُ أَهْلَ زَمَانِهِ ، وَأَنَّ زَمَانَهُ زَمَانُ غَلَبَةِ الْهَوَى ، وَإِعْجَابُ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ اعْتَزَلَ بِنَفْسِهِ ، وَنَفَرَ عَنْ الْعَامَّةِ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ زَمَانٌ قَدْ صَارَ الْمَعْرُوفُ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِهِ مُنْكَرًا ، وَأَنَّ الشَّرَّ قَدْ أَحَاطَ بِالْخَيْرِ ، وَاعْتَزَلَ أَهْلَ زَمَانِهِ بِصِدْقِ الْإِرَادَةِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الصِّدْقُ ، وَمَا فِيهِ ، وَأَنَّ الْعَمَلَ لَا يَصْفُو إلَّا بِالصِّدْقِ اتَّقِي الْكَذِبَ ، وَفُنُونَهُ كُلَّهَا ، وَتَشَوَّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ نَفْسُهُ إلَى الْكَذِبِ ، وَالرِّيَاءِ لِحَلَاوَةِ فُنُونِهِ عِنْدَهَا فَأَخَذَهَا بِالْجِدِّ ، وَالِاجْتِهَادِ فِي تَرْكِ ذَلِكَ فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ مِنْهُ رَجَعَتْ مُنْقَادَةً فَلَمَّا صَارَتْ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَرَأَى الْعَبْدُ ذَلِكَ مِنْهَا ازْدَادَ إلَى الصِّدْقِ تَشَوُّقًا ، وَازْدَادَ لِلْكَذِبِ مَقْتًا .
وَإِنَّمَا كَانَ يَنْفِرُ الصِّدْقُ ، وَفُنُونُهُ مِنْ قَلْبِهِ لِغَلَبَةِ الْكَذِبِ ، وَفُنُونِهِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الرِّيَاءُ ، وَالْعُجْبُ ، وَحُبُّ الرِّيَاسَةِ ، وَاِتِّخَاذُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْمَخْلُوقِينَ ، وَالْمَحْمَدَةُ ، وَالْعِزَّةُ ، وَالتَّعْظِيمُ ، وَالتَّخْيِيرُ فِي الْأَعْمَالِ الْكَاذِبَةِ فَمَنْ عَمِلَ بِالصِّدْقِ ، وَاتَّقَى الْكَذِبَ بَرِئَ مِنْ الرِّيَاءِ ، وَالْعُجْبِ ، وَدَوَاعِي الشَّرِّ كُلِّهِ فَإِذَا خَلَا مِنْ ذَلِكَ ثَبَتَ الصِّدْقُ ، وَفُنُونُهُ فِي قَلْبِهِ .
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنَّ

الشَّيْطَانَ يَأْتِي ابْنَ آدَمَ مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ أَتَاهُ مِنْ وَجْهِ النَّصِيحَةِ لِيَسْتَدْرِجَهُ فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يُلْقِيَهُ فِي بِدْعَةٍ فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ جِهَةِ الْحَرَجِ ، وَالشِّدَّةِ لِيُحَرِّمَ حَلَالًا أَوْ يُحِلَّ حَرَامًا فَإِنْ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ الْوُضُوءِ فَيُشَكِّكُهُ فِي وُضُوئِهِ ، وَصَلَاتِهِ ، وَصِيَامِهِ حَتَّى يَعْتَقِدَ بِهَوَاهُ أَمْرًا يَضِلُّ بِهِ عَنْ السَّبِيلِ ، وَيَدْعُ الْعِلْمَ فَإِذَا قَدَرَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ خَلَّى بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ ، وَالزُّهْدِ ، وَقِيَامِ اللَّيْلِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَكُلِّ أَعْمَالِ الْبِرِّ ، وَيُخَفِّفُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَرُبَّمَا كَايَدَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَرَدَةِ فَيَقُولُ لَهُ إبْلِيسُ : دَعْهُ لَا تَصُدَّهُ عَمَّا يُرِيدُ فَإِنَّمَا بِأَمْرِي يَعْمَلُ فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِ النَّاسُ فِي عِبَادَتِهِ ، وَزُهْدِهِ ، وَصَبْرِهِ ، وَرِضَاهُ بِالذُّلِّ قَالَتْ الْعَامَّةُ ، وَمَنْ لَا عِلْمَ لَهُ : هَذَا عَالِمٌ مُصِيبٌ صَابِرٌ فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى ضَلَالَتِهِ ، وَيَمُدُّ لَهُ إبْلِيسُ الصَّوْتَ فَيُعْجَبُ بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ فِتْنَةً لِكُلِّ مَفْتُونٍ .
وَعَلَامَتُهُ الْإِعْجَابُ بِرَأْيِهِ ، وَالْإِزْرَاءُ عَلَى مَنْ لَا يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ ، وَيَكُونُ نَظَرُهُ لِلنَّاسِ بِالِاحْتِقَارِ لَهُمْ ، وَيَتَغَضَّبُ عَلَيْهِمْ فِي التَّقْصِيرِ بِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي الْعِلْمِ : احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَابِدِ الْجَاهِلِ ، وَالْعَالِمِ الْفَاسِقِ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ .
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ بِالرِّفْقِ قَالَ لَهُ الْعَدُوُّ : إنَّ الْعَمَلَ بِالْخَيْرِ لَا يَنْفَعُك حَتَّى تَدَعَ الشَّرَّ كُلَّهُ ، وَتَزْهَدَ فِي الدُّنْيَا ، وَتَعْتَزِلَ عَنْ النَّاسِ فَاعْرِفْ نَفْسَك ، وَأَصْلِحْ عُيُوبَك ، وَاَلَّذِي عِنْدَك أَكْثَرُ ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُصْلَحَ هَكَذَا سَرِيعًا ، وَيُعَظِّمُ عَلَيْهِ الْأَمْرَ حَتَّى يَكَادَ يَقْنَطُ ، وَيَنْقَطِعُ عَنْ الْعَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ دُنْيَا عَرَضَ لَهُ بِحُسْنِ

الظَّنِّ ، وَالرَّجَاءِ ، وَالتَّسْوِيفِ ، وَطُولِ الْأَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ إلَى هَذَا الْبَابِ قَطَعَهُ عَنْ الْبِرِّ ، وَشَغَلَهُ بِالدُّنْيَا ، وَشَهَوَاتِهَا ، وَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : التَّوْبَةُ ، قَالَ : صَدَقْت لَعَمْرِي لَقَدْ فَرَّطْت ، وَأَخَاف أَنْ يُدْرِكَك الْمَوْتُ فَعَلَيْك بِالْجِدِّ ، وَالِاجْتِهَادِ ، وَلَا تُرِيدُ أَنْ تُقَصِّرَ فَيُلْزِمُهُ أَشَدَّ الْعِبَادَةِ فَيَثْبُتُ أَوْ يَنْقَطِعُ أَوْ يَذْهَبُ عَقْلُهُ فَإِنْ اشْتَهَرَ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ أَلْقَى إلَيْهِ طُولَ الْأَمَلِ ، وَخَوَّفَهُ قِلَّةَ الصَّبْرِ ، وَيَقُولُ لَهُ : لَك بِالنَّاسِ أُسْوَةٌ فَيُبَغِّضُ إلَيْهِ الْعِبَادَةَ ، وَيُثَقِّلُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ : إنَّ النَّاسَ قَدْ عَرَفُوك بِالْعَمَلِ فَلَا تُبْدِ لَهُمْ التَّقْصِيرَ ، وَدَعْ نَفْسَك فِي السِّرِّ ، وَيَعْرِضُ لَهُ بِغِذَائِهِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهَوَاتِ الَّتِي كَانَ يُصِيبُهَا فَيَمِيلُ إلَيْهَا ، وَيَرْجِعُ إلَى حَالَتِهِ الْأُولَى ، وَصَارَ عَمَلُهُ عَلَانِيَةً رِيَاءً لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ يَسْتَحْلِيَ الْكَلَامَ فِي الزُّهْدِ ، وَمَا يُزَيِّنُهُ عِنْدَ النَّاسِ ، وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ مُجَالَسَةَ النَّاسِ فَتَصِيرُ عِبَادَتُهُ ، وَزُهْدُهُ كُلُّهُ بِالْكَلَامِ .
فَالْعَالِمُ عَرَفَ ضَعْفَ نَفْسِهِ ، وَعَرَفَ زَمَانَهُ ، وَقِلَّةَ الْأَعْوَانِ فِيهِ عَلَى الْخَيْرِ ، وَكَثْرَةَ الْأَعْدَاءِ فَأَخَذَ الْأَمْرَ بِالرِّفْقِ ، وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ ، وَطَلَبَ صَفَاءَ الْأَعْمَالِ ، وَالْإِخْلَاصِ فِيهَا ، وَإِنْ قَلَّتْ الْأَعْمَالُ ، وَطَلَبَ مُخَالَفَةَ الْهَوَى ، وَنَقَلَ الطِّبَاعَ بِالرِّفْقِ ، وَمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ ، وَأَخْرَجَ النَّاسَ مِنْ قَلْبِهِ ، وَقَصَدَ جِهَادَ نَفْسِهِ ، وَمُحَارَبَةَ الشَّيْطَانِ ، وَالْمُعَانَدَةَ لِلْهَوَى بِالْخِلَافِ ؛ لِمَا يُلْقُونَ إلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مَكِيدَةٍ مِنْ مَكَائِدِ الشَّيْطَانِ سِلَاحًا يَدْفَعُ بِهِ تِلْكَ الْمَكِيدَاتِ وَيَنْبَغِي لِلْعَابِدِ أَنْ يَعْرِفَ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ مِنْ أَيْنَ تَأْتِيهِ ، وَمَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَصِلُ

إلَى الْعَبْدِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ قِبَلِ مُوَافَقَةِ الْهَوَى فَإِذَا بَدَأَ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ ، وَمُحَارَبَتِهَا ، وَبِهَوَاهُ فَأَمَاتَهُ هَانَ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ .
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَإِنْ أَنْتَ وَغِلْت فِيهِ بِالرِّفْقِ أَمْكَنَك ، وَشَرُّ السَّيْرِ الْحَقْحَقَةُ ، وَقَلِيلٌ تَدُومُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ اجْتِهَادٍ يَقْطَعُك فَإِنَّك لَمْ تَرَ شَيْئًا أَشَدَّ تَوَلِّيًا مِنْ الْقَارِئِ إذَا تَوَلَّى ، وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ } ، وَكَانُوا يُحِبُّونَ الزِّيَادَةَ ، وَيَكْرَهُونَ النُّقْصَانَ .
وَيَنْبَغِي لِلْعَابِدِ أَنْ يَكُونَ حَذِرًا مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ فَإِنَّ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ خَالَفَ الْحَقَّ ، وَمَنْ خَالَفَ الْحَقَّ هَلَكَ .
فَائْتِ الْعُلَمَاءَ ، وَالْزَمْ أَدَبَهُمْ فَإِنْ رَأَيْتهمْ يُقَصِّرُونَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُونَ فَلَا تَزْهَدْ فِيهِمْ ، وَاقْتَدِ بِذِي الْبَصِيرَةِ مِنْهُمْ ، وَالْبَصَرِ ، وَمَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُرْوَى عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ أَنَّهُ قَالَ : عُقُولُ الرِّجَالِ عَلَى قَدْرِ أَزْمِنَتِهِمْ فَإِذَا نَقَصَ الْعَقْلُ نَقَصَ الْبِرُّ كُلُّهُ فَاعْرِفْ نَفْسَك فِي زَمَانِك وَاعْلَمْ أَنَّ الزُّهْدَ ، وَالْعِبَادَةَ ، وَالْعِلْمَ الْمَعْمُولَ بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ قَلِيلٌ ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالْعُلَمَاءِ لَا يَصْبِرُ عَلَى نُزُولِ الْمِحَنِ فَكَيْفَ يَصْبِرُ الْجَاهِلُ عَلَى نُزُولِهَا ، وَإِذَا كَانَ مَنْ يَتَشَبَّهُ بِالزُّهَّادِ لَا يَصْبِرُ فَكَيْفَ يَصْبِرُ الرَّاغِبُ فِي الدُّنْيَا ، وَالْعَالِمُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مِنْ شِدَّةِ الصَّبْرِ خَرَجَ ، وَالْجَاهِلُ مِنْ شِدَّةِ الصَّبْرِ حَرَجَ ، وَأَمَّا الْعَالِمُ الصَّادِقُ الَّذِي اسْتَوْجَبَ اسْمَ الْعِلْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ مِنْ عِلْمِهِ بِاَللَّهِ أَنْ يُظْهِرَ بِلِسَانِهِ أَوْ بِيَدِهِ أَوْ بِجَوَارِحِهِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ فَيَمْقُتُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يَرَهُ اللَّهُ يُؤْثِرُ

دُنْيَاهُ عَلَى آخِرَتِهِ فَصَبَرَ عَلَى الدُّنْيَا ، وَصَبَرَ عَلَى الذَّمِّ ، وَالتَّقْصِيرِ ، وَالتَّقَلُّلِ ، وَكَرِهَ الْمَدْحَ ، وَالتَّوَسُّعَ مِنْ الدُّنْيَا ، وَالْجَاهِلُ الَّذِي يَعْمَلُ بِجَهْلٍ جَزَعَ مِنْ الذَّمِّ ، وَفَرِحَ بِالْمَدْحِ ، وَالتَّوَسُّعِ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى صَبَرَ عَلَى الدُّنْيَا مِنْ الْجَزَعِ فَاحْذَرْ أَنْ تَصْبِرَ صَبْرَ الْجَاهِلِ ، وَلِذَلِكَ ثَقُلَ الْعَمَلُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِاَللَّهِ ، وَخَفَّ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ ، وَنَوْمُ الْعَالِمِ أَفْضَلُ مِنْ اجْتِهَادِ الْجَاهِلِ ، وَضَحِكُ الْعَالِمِ بِاَللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ بُكَاءِ الْجَاهِلِ فَاحْذَرْ إبْلِيسَ عَلَى أَفْعَالِك ، وَاحْذَرْ نَفْسَك ، وَهَوَاك ، وَاحْذَرْ أَهْلَ زَمَانِك ، وَلَا تَأْمَنْ أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى دِينِك .
وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ قَدْ نَصَبَ لَك حَبَائِلَهُ ، وَأَقْعَدَ لَك الرَّصَدَةَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ ، وَقَدْ سُلِّطَ أَنْ يَجْرِيَ مِنْك مَجْرَى الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ ، وَيَرَاك هُوَ ، وَأَعْوَانُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَاهُمْ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَأْتِيك مِنْ قِبَلِ الرِّيَاءِ ، وَالْعُجْبِ ، وَالْكِبْرِ ، وَالشَّكِّ ، وَالْإِيَاسِ ، وَالْأَمْنِ مِنْ الْمَكْرِ ، وَالِاسْتِدْرَاجِ ، وَتَرْكِ الْإِشْفَاقِ فَإِنْ تَابَعْته فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَأَنْتَ عَلَى سَبِيلِ هَلَكَةٍ فَحِينَئِذٍ يُخَلِّي بَيْنَك ، وَبَيْنَ مَا شِئْت مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ الدُّنْيَا لِيَسْتَوْلِيَ الْهَوَى عَلَى قَلْبِك فَيَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ الَّذِي يُرِيدُ مِنْك فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ الْمَعَاصِي فَإِنْ خَالَفْته أَتَاك مِنْ قِبَلِ النَّصِيحَةِ .
وَهَذِهِ الْخِصَالُ الَّتِي ، وَصَفْت لَك كُلُّهَا أَشَدُّ مِنْ الْمَعَاصِي ، وَصَاحِبُهَا لَا يَكَادُ يَثُوبُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا ، وَرُبَّمَا انْتَبَهَ الْعَبْدُ فَتَابَ مِنْهَا فَإِنْ ظَفَرَ مِنْ الْعَبْدِ بِالْعُجْبِ قَالَ لَهُ : إنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِك فَاعْمَلْ ، وَأَعْلِنْ عَمَلَك فَيَتَأَسَّى النَّاسُ بِك ، وَيَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِك ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِك ؛ لِأَنَّهُ مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ

فَإِذَا ظَهَرَ عَمَلُهُ فَرِحَ بِهِ فَصَارَ مُعْجَبًا ، وَحَمِدَ نَفْسَهُ فَنَسِيَ النِّعْمَةَ عَلَيْهِ فَإِذَا نَظَرَ إلَى عَمَلِهِ حَبَّبَ إلَيْهِ حَمْدَهُمْ ، وَاِتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُمْ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَارَ مُرَائِيًا مُفَاخِرًا ، فَاتَّهِمْ فَرَحَ الْقَلْبِ بِالْعَمَلِ فَإِنَّ الْفَرَحَ إلَى الْقَلْبِ الْفَرِحِ أَقْرَبُ ، وَأَسْرَعُ مِنْهُ إلَى الْقَلْبِ الْحَزِينِ ، وَأَقْلِلْ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَأْتِيك مَا تَكْرَهُ إلَّا مِمَّنْ تَعْرِفُ فَإِنْ كَانَ لَا يَأْتِيك مَا تَكْرَهُ إلَّا مِنْ قِبَلِهِمْ فَكُلَّمَا قَلُّوا كَانَ خَيْرًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ فِي السِّرِّ فَلَا يَزَالُ بِهِ إبْلِيسُ يَقُولُ أَظْهِرْهُ لِيَقْتَدِيَ بِك النَّاسُ فِيهِ ، وَتُنَشِّطَهُمْ عَلَى طَاعَةِ رَبِّك فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يُظْهِرَ فَإِذَا أَظْهَرَهُ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الْعَلَانِيَةِ فَلَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَفْتَخِرَ بِهِ فَإِذَا افْتَخَرَ بِهِ كُتِبَ فِي دِيوَانِ الرِّيَاءِ فَعَلَيْك بِعَمَلِ السِّرِّ ، وَكِتْمَانِهِ ، وَخُمُولِ النَّفْسِ وَإِسْقَاطِ الْمَنْزِلَةِ ، وَاكْتُمْ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَكْتُمُ السَّيِّئَاتِ ، وَخَفْ مِنْ فَضِيحَةِ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَخَافُ مِنْ فَضِيحَةِ السَّيِّئَاتِ فَإِنَّ الْمُفْتَضِحَ بِالسَّيِّئَاتِ لَيْسَ يَفْتَضِحُ عِنْدَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ إنَّمَا يَفْتَضِحُ عِنْدَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ ، وَالْمُفْتَضِحُ بِالْحَسَنَاتِ إذَا دَخَلَهَا الرِّيَاءُ افْتَضَحَ عِنْدَ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ فَاحْذَرْ ، وَاسْتَحِ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَرَاك تَعْمَلُ لِغَيْرِهِ ، وَتَطْلُبُ الثَّوَابَ مِنْهُ ، وَأَخْلِصْ الْعَمَلَ لِلَّهِ ، وَاصْدُقْ فِيهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَخْلِيصَ الْعَمَلِ فِي الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ حَتَّى يَتَخَلَّصَ ، وَالِاتِّقَاءُ مِنْ الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْعَمَلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلًا مِنْ مُرَاءٍ ، وَلَا مِنْ مُسْمِعٍ ، وَلَا مِنْ دَاعٍ إلَّا بِثُبُوتٍ مِنْ قَلْبِهِ ، وَاحْذَرْ الرِّيَاءَ كُلَّهُ فَإِنَّ أَوَّلَهُ ، وَآخِرَهُ بَاطِلٌ ، وَكُنْ فِي الْعَمَلِ مُتَأَنِّيًا ، وَقَّافًا فَإِذَا هَمَمْت

بِعَمَلٍ فَقِفْ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ خَالِصًا فَاحْمَدْ اللَّهَ ، وَامْضِ فِيهِ ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَى إخْلَاصِهِ ، وَأَكْلِفْ مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُ ، وَتُحِبُّ أَنْ تَزْدَادَ مِنْهُ ، وَدُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا ، وَإِنْ قَلَّ فَاعْمَلْ بِمَا يَتَبَيَّنُ لَك أَنَّهُ حَقٌّ وَاضِحٌ فَإِذَا أَشْكَلَ عَلَيْك فَقِفْ ، وَلَا تَقْتَحِمْ ، وَنَاظِرِ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِعِلْمِهِمْ فَهُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا إلَى اللَّهِ ، وَهُمْ الدُّعَاةُ إلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ الْأَدِلَّاءُ عَلَى اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ ، وَقَّافٌ عِنْدَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ كَحَاطِبِ اللَّيْلِ فَنَاظِرِ الْعُلَمَاءَ فِيمَا الْتَبَسَ عَلَيْك فَمَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ فَخُذْ بِهِ ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فَخُذْ أَنْتَ فِيهِ بِالثِّقَةِ ، وَالِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ الْإِثْمَ حَوَّازُ الْقُلُوبِ .

، وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ رُبَّمَا قَالَ لِلْعَبْدِ : قَدْ سَبَقَك النَّاسُ إلَى اللَّهِ مَتَى تَلْحَقُ بِهِمْ ؟ فَلْيَقُلْ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ : قَدْ عَرَفْتُك أَنَا فِي الطَّلَبِ إنْ رَفَقْت لَحِقْت ، وَإِنْ لَمْ أُرْفِقْ لَمْ أَلْحَقْ إنْ صَبَرْت عَلَى الْقَلِيلِ نِلْت الْكَثِيرَ ، وَإِنْ عَجَزْت عَنْ الْقَلِيلِ فَأَنَا عَنْ الْكَثِيرِ أَعْجَزُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ ، وَجَلَّ { ، وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } فَالزِّينَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَالنُّورُ مِنْ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا عَمِلَ الْعَبْدُ عَمَلًا فَرَأَى الشَّيْطَانُ مَعَهُ نُورًا كَانَتْ هِمَّةُ الْخَبِيثِ أَنْ يُطْفِئَ ذَلِكَ النُّورَ فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ عَمَلَ السِّرِّ أَخْرَجَهُ إلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ بِحِيلَتِهِ ، وَمَكِيدَتِهِ فَإِنْ عَمِلَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِصِدْقٍ ، وَإِخْلَاصٍ فَرَأَى فِي عَمَلِهِ الْعَلَانِيَةِ نُورًا ، وَصَبْرًا أَمَرَهُ بِمُخَالَفَةِ النَّاسِ لِيُؤْذَى فَلَا يَحْتَمِلُ فَإِنْ خَالَطَهُمْ فَأُوذِيَ ، وَاحْتَمَلَ الْأَذَى أَمَرَهُ بِالْعُزْلَةِ ، وَالرَّاحَةِ مِنْ النَّاسِ لِيُعْجَبَ بِمَا يَعْمَلُ ، وَيَضْجَرَ مِنْ الْعَمَلِ فَإِنْ اعْتَزَلَ ، وَصَبَرَ ، وَأَخْلَصَ قَالَ لَهُ : الرِّفْقُ خَيْرٌ لَك فَيَصُدُّهُ عَنْ الْعِبَادَةِ ، وَإِنَّمَا يَلْتَمِسُ مِنْ الْأَشْيَاءِ غَفْلَتَهُ فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ غَافِلٍ عَنْهُ ، وَلْيَسْتَعِنْ بِاَللَّهِ عَلَيْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْإِخْلَاصِ خَائِفٌ ، وَجِلٌ حَزِينٌ مُتَوَاضِعٌ مُنْتَظِرٌ لِلْفَرَجِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَوَدُّ أَنَّهُ نَجَا كَفَافًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ، وَالْجَاهِلُ فَرِحٌ فَخُورٌ مُتَكَبِّرٌ مُدْلٍ بِعَمَلِهِ ، وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ : إنِّي لَأَعْرِفُ مِائَةَ بَابٍ مِنْ الْخَيْرِ ، وَلَيْسَ عِنْدِي مِنْهَا شَيْءٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ الصَّادِقَ الْمُخْلِصَ الْعَارِفَ الْخَائِفَ الْمُشْتَاقَ الرَّاضِيَ الْمُسَلِّمَ الْمُوَفَّقَ الْوَاثِقَ الْمُتَوَكِّلَ الْمُحِبَّ لِرَبِّهِ يُحِبُّ أَنْ لَا يُرَى شَخْصُهُ ، وَلَا يُحْكَى قَوْلُهُ ، وَيَوَدُّ أَنَّهُ أَفْلَتَ كَفَافًا فَمَعْرِفَتُهُ

بِنَفْسِهِ بَلَغَتْ بِهِ هَذِهِ الدَّرَجَاتِ ، وَتَمَسُّكُهُ بِهَذِهِ الْعَزَائِمِ أَوْصَلَهُ إلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ .
وَالْجَاهِلُ الْمِسْكِينُ يُحِبُّ أَنْ يُعْرَفَ بِالْخَيْرِ ، وَيَنْتَشِرَ عَنْهُ ، وَيُنْشَرَ ذِكْرُهُ ، وَلَا يُحِبُّ أَنْ يُزْرَى عَلَيْهِ فِي قَوْلٍ ، وَلَا فِعْلٍ بَلْ يُحِبُّ أَنْ يُحْمَدَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَيُوَطَّأُ عَقِبُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُزْرِ لَهُمْ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا شِدَّةُ حُبِّهِ لِذَلِكَ لِحَلَاوَةِ الثَّنَاءِ ، وَالْحُبِّ لِإِقَامَةِ الْمَنْزِلَةِ ، وَالْفِتْنَةُ فِي هَذَا عَظِيمَةٌ ، وَالْمُؤْنَةُ عَلَيْهِ شَدِيدَةٌ ، وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ الْهَوَى يَتَلَاعَبُ بِهِ الشَّيْطَانُ كُلَّ التَّلَاعُبِ تَنْقَضِي أَيَّامُهُ ، وَيَفْنَى عُمْرُهُ عَلَى هَذَا الْحَالِ أَسِيرًا لِلشَّيْطَانِ ، وَعَبْدًا لِلْهَوَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ إذَا نَظَرَ إلَى الْعَبْدِ مُرِيدًا صَادِقًا مُخْلِصًا مُدَاوِمًا عَارِفًا بِنَفْسِهِ عَارِفًا بِهَوَاهُ مُعَانِدًا لَهُمَا حَذِرًا مُسْتَعِدًّا عَارِفًا بِفَقْرِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ لَهُ : إنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِالْأَعْوَانِ عَلَيْهِ ، وَالشَّيْطَانُ عَلَى الْوَاحِدِ أَقْوَى ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ فَجَالِسْ إخْوَانَكَ ، وَذَاكِرْهُمْ ، وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَنُوبُك فِي عَمَلِك مِنْ نَفْسِكَ ، وَهَوَاكَ ، وَمِنْ عَدُوِّكَ فَإِنَّهُمْ يَدُلُّونَكَ ، وَيُعِينُونَك يُرِيدُ بِذَلِكَ ذَهَابَ حُزْنِ الْخَلَوَاتِ ، وَإِطْفَاءَ نُورِ الْعُزْلَةِ ، وَقَطْعَ سَبِيلِ النَّجَاةِ ، وَفَتْحَ طَرِيقِ الْفُضُولِ ، وَالشُّغْلِ بِغَيْرِ اللَّهِ ، وَإِخْرَاجَهُ مِنْ عَمَلِ السِّرِّ إلَى عَمَلِ الْعَلَانِيَةِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ إطْفَاءَ مَا قَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ مِنْ نُورِ فِكْرِ الْخَلَوَاتِ فَإِنْ قُلْتَ هَذَا إنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك : أَجَلْ إنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ تَعْلِيمُك النَّاسِ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِك فَلَوْ أَخْبَرْت النَّاسَ بِذَلِكَ لَكَانَ خَيْرًا لَك لِيَعْلَمُوا مِنْ آفَاتِ الْأَعْمَالِ مَا تَعْلَمُ فَتُؤْجَرُ فِيهِمْ فَإِنْ قُلْت أَيْضًا هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك :

لَوْلَا عِلْمُك لَمْ تَعْلَمْ بِهَذِهِ الْآفَاتِ لِتُعْجَبَ بِنَفْسِك ، وَتَنْسَى النِّعْمَةَ عَلَيْك فِي الْعَمَلِ فَتُخْمِدَ النَّفْسَ فَلَا يُجَاوِزُ عَمَلُك رَأْسَك فَاحْذَرْ هَذَا الْبَابَ فَإِنَّ فِيهِ شَهَوَاتٍ خَفِيَّةً ، وَمِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ أَنْ يُخْفِي الْعَبْدُ عَمَلَهُ ، وَيُحِبَّ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ بِهِ ، وَيُحِبَّ أَنْ يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَالْعَمَلُ خَفِيَ فِي السِّرِّ إلَّا أَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ ذَلِكَ الْعَمَلِ عَلَيْهِ إمَّا مِنْ عَلَامَةِ عَطَشٍ إنْ كَانَ صَائِمًا أَوْ عَلَامَةِ سَهَرٍ فِي الْوَجْهِ إنْ كَانَ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إنْ قَالَ أَنَا أَعْمَلُ لِلَّهِ لَا لِلنَّاسِ قَالَ لَهُ : صَدَقْتَ أَخْلِصْ عَمَلَك لِلَّهِ فَإِنَّ الْمُخْلِصَ يُحَبِّبُهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ ، وَيُعَرِّفُهُمْ فَضْلَهُ فَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ : وَمَا حَاجَتِي إلَى النَّاسِ قَالَ : فَأَنْتَ الْآنَ الْمُخْلِصُ الَّذِي قَدْ أَخْرَجْتَ النَّاسَ مِنْ قَلْبِك ، وَعَرَفْت مَكِيدَةَ إبْلِيسَ ، وَقَدْ نَجَوْت ، وَأَنْتَ مَعْصُومٌ فَإِنْ عَقَلَ الْعَبْدُ ، وَقَالَ لَهُ : وَمَنْ أَنَا ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ مَنٌّ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ ، وَلَهَا شُكْرٌ ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْجَزَاءِ لِمَنْ أَخْلَصَ ، وَلَمْ يُعْجَبْ بِعَمَلِهِ ، وَلَمْ يَنْسِبْ إلَى نَفْسِهِ نِعْمَةً هِيَ مِنْ اللَّهِ قَدْ وَجَبَ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ الشُّكْرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لِلْعَبْدِ عِنْدَ ذَلِكَ : الْآنَ نَجَوْت حِينَ اعْتَرَفْت لِلَّهِ بِذَلِكَ ، وَقُمْت بِشُكْرِ النِّعْمَةِ ، وَتَوَاضَعْت لِرَبِّك ، وَبَرَّأْت نَفْسَك مِنْ الْعَمَلِ ، وَنَسَبْته إلَى الَّذِي هُوَ مِنْهُ فَإِنْ قَبِلْت ذَلِكَ مِنْهُ هَلَكْت ، وَلَكِنْ قُلْ أَنَا أَرْجُو ، وَأَخَافُ ، وَلَيْسَ إلَيَّ مِنْ النَّجَاةِ شَيْءٌ ، وَلَسْت أَدْرِي بِمَا يُخْتَمُ لِي عَمَلِي .
وَإِيَّاكَ ثُمَّ إيَّاكَ ، وَالتَّزَيُّنَ بِتَرْكِ التَّزَيُّنِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُبَّمَا تَزَيَّنَ الرَّجُلُ بِالرِّقَاعِ ، وَالْخِرَقِ ، وَالشُّعْثِ ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ التَّزَيُّنَ

فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ نَزَلْت بِمَحَلَّةِ خُشُوعِ النِّفَاقِ ، وَإِنْ عَرَفْت نَفْسَك بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَمْ تُسَارِعْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْهُ خِفْت أَنْ يَلْحَقَك الْخِذْلَانُ ، وَالْمَقْتُ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي جَمِيعِ أُمُورِك ، وَاعْمَلْ لَهُ كَأَنَّك تَرَاهُ .
فَإِنْ قَالَ لَك الْخَبِيثُ : الْآنَ نَجَوْت حِينَ عَرَفْت نَفْسَك ، وَأَنْزَلْتهَا هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ ، وَحَذِرْت هَوَاك ، وَعَدُوَّك فَقُلْ : الْآنَ هَلَكْتُ حِينَ أَمِنْت الْعِقَابَ فَإِنْ قَالَ لَك : الْآنَ نَجَوْت حِينَ خِفْت أَنْ تَكُونَ قَدْ أَمِنْت الْعِقَابَ فَقُلْ : الْآنَ هَلَكْت لَوْ كُنْت صَادِقًا لَصَدَّقَ قَوْلِي فِعْلِي ، وَلَزِدْتُ خَوْفًا ، وَحَيَاءً مِنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ ، وَلَوْ كُنْت كَذَلِكَ الْحَالُ بَيْنِي ، وَبَيْنَك ، وَجَعَلَنِي فِي حِرْزِهِ ، وَحِصْنِهِ مِنْ عِبَادِهِ الَّذِينَ قَالَ : فِيهِمْ { إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَك عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } ، وَلَمْ تَكُنْ أَنْتَ تَدْخُلُ عَلَيَّ فِي عَمَلِي فَإِنْ قَالَ لَك : جَاهِدْ نَفْسَك فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْعَمَلِ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ شَغَلَهُمْ أَمْرُ غَيْرِهِمْ ، وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ، وَأَنْتَ بَيْنَهُمْ غَرِيبٌ ، وَأَنْتَ كَالشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ بَيْنَ الشَّجَرِ الْيَابِسِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ } ، وَأَنْتَ الْمَعْرُوفُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ ، وَالْمَجْهُولُ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ فَإِنْ قَبِلْتَ ذَلِكَ هَلَكْتَ ، وَإِنْ قُلْتَ هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ قَالَ لَك : صَدَقْت هَذَا مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَقَدْ كَثُرَتْ عَلَيْك مَكَائِدُهُ ، وَمُجَاهَدَةُ نَفْسِك ، وَهَوَاك فَكَمْ تُعَذِّبُ نَفْسَك إنْ كُنْت شَقِيًّا لَمْ تَسْعَدْ أَبَدًا ، وَإِنْ كُنْت سَعِيدًا لَمْ تَشْقَ أَبَدًا ، وَلَا يَضُرُّك تَرْكُ الْعَمَلِ إنْ كُنْت سَعِيدًا ، وَلَا يَنْفَعُك الْعَمَلُ الْكَثِيرُ إنْ كُنْت شَقِيًّا فَإِنْ قَبِلْت الْقُنُوطَ الَّذِي أَلْقَاهُ إلَيْك هَلَكْت ، وَإِنْ تَرَكْت الْعَمَلَ ، وَنِلْت مِنْ الشَّهَوَاتِ عَلَى الْغُرُورِ ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِزَعْمِك ، وَالِاتِّكَالِ عَلَى الرَّجَاءِ الْكَاذِبِ ، وَالطَّمَعِ الْكَاذِبِ ،

وَالْأَمَانِيِّ الْكَاذِبَةِ ، وَرَجَوْت الْجَنَّةَ بِالْغُرُورِ ، وَطَلَبْتهَا طَلَبَ الْمُتَعَبِّدِينَ بِالرَّاحَةِ عَطِبْتَ ، وَإِنْ امْتَنَعْت قَالَ لَك : أَحْسِنْ ظَنَّك بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } ، وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْيُسْرَ ، وَالدِّينُ وَاسِعٌ ، وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَاعْرِفْ نَفْسَك عِنْدَ ذَلِكَ ، وَاعْتَصِمْ بِاَللَّهِ { ، وَكَفَى بِاَللَّهِ حَسِيبًا } ، وَاعْلَمْ أَنَّك كُنْت فِي بَلَدٍ ، وَأَنْتَ فِيهِ سَالِمٌ ، وَأَمْرُك فِيهِ مُسْتَقِيمٌ ، وَالنُّورُ مَعَك فِي فِعْلِك ، وَقَوْلِك قَالَ لَك : عَلَيْك بِالثُّغُورِ ، وَعَلَيْك بِمَكَّةَ ، وَعَلَيْك بِكَذَا فَإِنْ قَبِلْت ذَلِكَ رَأَيْت فَتْرَةً فِي عَاجِلِ عَمَلِك ، وَقَسَاوَةً فِي قَلْبِك ، وَوَقَعْت فِي الْمَشُورَةِ يُرِيدُ بِذَلِكَ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ السَّفَرِ ، وَالشُّغْلَ بِهِ عَنْ الدَّأَبِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَالنَّشَاطِ الَّذِي كَانَ مَعَك فَإِنْ صِرْتَ إلَى بَلَدٍ أَنْتَ فِيهِ مَسْرُورٌ ، وَقَلْبُك رَيِّحٌ قَالَ لَك : مَوْضِعُك كَانَ أَصْلَحَ لِقَلْبِك ، وَأَجْمَعَ لِهِمَّتِك فَارْجِعْ إلَى مَوْضِعِك فَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا مَعَ مَعْرِفَةِ النَّفْسِ ، وَالْفَقْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ لِلدَّأَبِ ثَوَابًا ، وَلِلصَّبْرِ ثَوَابًا { إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ، وَاَلَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَنْجُو بِالْأَعْمَالِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَهْلِكُ بِهَا ، وَكُلُّ عَبْدٍ مُيَسَّرٌ ؛ لِمَا خُلِقَ لَهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ يَهْلِكُ بِالتَّفْرِيطِ ، وَالتَّضْيِيعِ أَكْثَرُ ، وَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ رَاغِبًا رَاهِبًا لَا يَأْمَنُ ، وَلَا يَيْأَسُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَأْتِيك مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ لَا يَغْفُلُ ، وَلَا يَأْلُوك خَبَالًا إنْ كُنْت مُقِلًّا ، عِنْدَك مِنْ الدُّنْيَا شَيْءٌ يَسِيرٌ تُرِيدُ أَنْ تَقُوتَهُ نَفْسَك ، أَمَرَك بِالصَّدَقَةِ ، وَرَغَّبَك فِيهَا لِتُخْرِجَ مَا فِي يَدَيْك ، وَتَحْتَاجَ رَجَاءَ أَنْ يَظْفَرَ بِك فِي حَالِ الْغَفْلَةِ ، وَإِنْ كُنْت غَنِيًّا أَمَرَك بِالْإِمْسَاكِ ، وَرَغَّبَك فِيهِ ، وَخَوَّفَك الْفَقْرَ ، وَالْحَاجَةَ ، وَقَالَ لَك :

ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ ، وَلَعَلَّك تَكْبَرُ ، وَتَضْعُفُ ، وَيَطُولُ عُمْرُك يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تَصِيرَ إلَى حَالِ الْبُخْلِ فَيَظْفَرَ بِك ، وَإِنْ كُنْت تَصُومُ ، وَقَدْ عُرِفْت بِالصَّوْمِ ، وَأَحْبَبْت أَنْ تُرِيحَ نَفْسَك قَالَ لَك : قَدْ عُرِفْت بِالصَّوْمِ لَا تُفْطِرْ فَيَضَعُ النَّاسُ أَمْرَك عَلَى أَنَّك قَدْ كَبِرْتَ ، وَتَغَيَّرْتَ ، وَفَتَرْتَ ، وَعَجَزْتَ فَإِنْ قُلْتَ مَالِي ، وَلِلنَّاسِ قَالَ لَك : صَدَقْت أَفْطِرْ فَإِنَّ الْمُحْسِنَ مُعَانٌ سَيَضَعُونَ أَمْرَك عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ فَإِنْ قَبِلْتَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَأَفْطَرْتَ عَلَى أَنَّ النَّاسَ سَيَضَعُونَ أَمْرَك عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ ، وَالْمَنْزِلَةُ لَا تَسْقُطُ عِنْدَهُمْ بِإِفْطَارِك فَقَدْ عَطِبْتَ ، وَإِنْ أَنْتَ نَفَيْت ذَلِكَ ، نَصَبَ لَك بَابًا آخَرَ فَقَالَ لَك : عَلَيْك بِالتَّوَاضُعِ لِيُشْهِرَك عِنْدَ النَّاسِ ، وَكُلَّمَا ازْدَدْت تَوَاضُعًا عَلَى قَبُولِهِ مِنْهُ لِلشَّهْوَةِ ، وَالشُّهْرَةِ ازْدَادَ كَلَبًا عَلَيْك فَاتَّقِ مَا وَصَفْتَ لَك ، وَالْجَأْ إلَى اللَّهِ فِي أُمُورِك كُلِّهَا ، وَاتْرُكْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا لِعَمَلِ الْآخِرَةِ رَغْبَةً مِنْك فِي الْآخِرَةِ ، وَحُبًّا لَهَا ، وَإِيثَارًا لَهَا عَلَى الدُّنْيَا فَبِحُبِّك إيَّاهَا تَصِلُ إلَيْهَا ، وَبِقَدْرِ حُبِّك لَهَا تَعْمَلُ لَهَا ، وَأَقِلَّ الدُّنْيَا ، وَأَبْغِضْهَا فَبِقَدْرِ بُغْضِك لَهَا تَزْهَدُ فِيهَا ، وَانْظُرْ إنْ كُنْتَ ذَا عِلْمٍ فَخِفْ أَنْ تُوقَفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَك : بُعْدًا ، وَسُحْقًا بَعْدَ الْعِلْمِ ، وَالتَّبَصُّرِ مِلْتَ إلَى الدُّنْيَا ، وَتَرَكْتَ الْعِلْمَ ، وَالْعَمَلَ ، وَاخْتَرْتَ مَا أَسْخَطَ اللَّهَ مَا غَرَّك بِرَبِّك الْكَرِيمِ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ فَلْيَعْبُدْ اللَّهَ الْعَالِمُ بِطَاعَةِ الْعِلْمِ ، وَلْيَتْرُكْ طَاعَةَ الْجَهْلِ ، وَلْيَتْرُكْ الِاغْتِرَارَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَتَبَرَّأُ مِنْ جَمِيعِ مَنْ أَطَاعَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَهُوَ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَنْجُو مِنِّي بِحِيلَةٍ فَفِي حِبَالِي وَقَعَ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى { إنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ

، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ } ، وَقَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ ، وَاَللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } فَافْهَمْ ، وَاحْذَرْ ، وَافْطَنْ ، وَانْظُرْ ، وَحَارِبْ ، وَاسْتَعِدَّ ، وَكَابِدْ ، وَجَاهِدْ ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ يُرِيدُ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ ، وَحْدَهُ فَ { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ ، وَعَمِلَ صَالِحًا ، وَلَا يُلَقَّاهَا إلَّا الصَّابِرُونَ } ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا ثَوَابَ اللَّهِ ، وَحَمْدَ غَيْرِهِ هَلَكَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْعَبْدِ أَنْ يُخْلِصَ عَمَلَهُ كُلَّهُ لِلَّهِ ، وَالْكَلَامُ فِيهِ كَثِيرٌ غَيْرَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي إخْلَاصِ الْعَمَلِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ الْعَمَلَ كُلَّهُ يُرِيدُ بِهِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ فَإِنْ اطَّلَعَ أَحَدٌ عَلَى عَمَلِهِ كَرِهَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ ، وَلَمْ يُسَرَّ بِذَلِكَ فَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يَحْمَدَهُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَمَلِهِ ، وَلَمْ يَتَّخِذْ بِهِ مَنْزِلَةً عِنْدَهُمْ فَهَذَا أَصْلُ إخْلَاصِ الْعَمَلِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَأَمَّا الرِّيَاءُ فَهُوَ أَنْ تُحِبَّ أَنْ يَحْمَدَك النَّاسُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عَمَلِك أَوْ تَقُومَ لَك بِهِ مَنْزِلَةٌ عِنْدَهُمْ ، وَمَنْ أَرَادَ الْعَمَلَ اقْتَصَرَ عَلَى الْقَلِيلِ ، وَمَنْ لَمْ يُرِدْ الْعَمَلَ لَمْ يَكْتَفِ بِالْكَثِيرِ .

، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ فِي الْعَمَلِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ : صِنْفٌ أَهْمَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْبِرِّ فَعَمِلُوا لِيُعْرَفُوا بِالْخَيْرِ فَهُمْ الْهَالِكُونَ ، وَصِنْفٌ أَهْلُ رَهْبَةٍ مِنْ اللَّهِ ، وَرَغْبَةٍ فِيمَا عِنْدَهُ يُكَابِدُونَ الْأَعْمَالَ بِالصِّدْقِ ، وَالْإِخْلَاصِ ، وَيَتَّقُونَ فَسَادَ الْأَعْمَالِ ، وَلَا يُحِبُّونَ الْمَحْمَدَةَ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَلَا الْمَنْزِلَةَ عِنْدَهُمْ ، وَلَا يَعْمَلُونَ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ لِلنَّاسِ ، وَلَا يَتْرُكُونَ مِنْ أَجْلِهِمْ شَيْئًا ، وَأَحْيَانَا تَعْرِضُ لَهُمْ الْعَوَارِضُ ، وَأَحْيَانَا يَسْلَمُونَ مِنْهَا ، وَصِنْفٌ قَوِيَ إخْلَاصُهُمْ ، وَاسْتَقَامَتْ سَرِيرَتُهُمْ ، وَعَلَانِيَتُهُمْ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ ، وَتَرَكُوا الدُّنْيَا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ بِهَا ، وَنَظَرُوا إلَيْهَا بِالْعَيْنِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ بِهَا إلَيْهَا فَرَأَوْا عُيُوبَهَا فَمَقَتُوهَا ، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِي مَقْتِهِمْ لَهَا ، وَتَرَكُوهَا زُهْدًا فِيهَا ، وَصَدَقُوا اللَّهَ فِي ذَلِكَ فَمَاتَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ ، وَذَابَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا فِي قُلُوبِهِمْ قَرَارٌ لِقُوَّةِ التَّعْظِيمِ لِلَّهِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَمَّا اسْتَوْلَتْ الْعَظَمَةُ عَلَى قُلُوبِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِدُنْيَا ، وَلَا لِأَهْلِهَا فِي قُلُوبِهِمْ مُسْتَقَرٌّ ، وَلَا قَرَارٌ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْمَنِّ ، وَالْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
، وَمِنْ الرِّيَاءِ أَنَّ الْعَبْدَ يُرَائِي أَهْلَ الدُّنْيَا بِالدُّنْيَا فِي لِبَاسِهِ ، وَمَرْكُوبِهِ ، وَمَسْكَنِهِ ، وَفُرُشِهِ ، وَطَعَامِهِ ، وَشَرَابِهِ ، وَخَدَمِهِ حَتَّى الدُّهْنَ ، وَالْكُحْلَ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهَا صِيَانَةَ نَفْسِهِ ، وَهُوَ رِيَاءٌ ، وَلَيْسَ كَالرِّيَاءِ بِالْأَعْمَالِ الَّتِي يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَائِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّارِ لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ { ، وَلَكِنَّك فَعَلْت لِيُقَالَ : فُلَانٌ كَذَا كَذَا فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ } .
وَهَذَا الَّذِي رَاءَى بِالتَّكَاثُرِ ، وَالتَّفَاخُرِ ، وَطَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُكَاثِرًا مُفَاخِرًا مُرَائِيًا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ

الْقِيَامَةِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْفَسَادِ أَهْوَنُ مِنْ الْبَابِ الْآخَرِ ، وَكِلَاهُمَا شَدِيدٌ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُفَاخِرَ إنَّمَا يُرِيدُ إقَامَةَ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ فَلَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا كُلُّهَا لَاحْتَاجَ إلَيْهَا ؛ لِمَا مَعَهُ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ أَنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَنْ طَلَبِ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ مَعَ هَذَا خَائِفٌ وَجِلٌ مِنْ أَنْ تَنْزِلَ بِهِ نَازِلَةٌ تُغَيِّرُ فَيَتَغَيَّرُ مَنْ كَانَ لَهُ مُطِيعًا فَمَا أَشَدَّ مَضَرَّةَ هَذَا الْبَابِ .

، وَعَلَامَةُ الْمُرِيدِ النَّظَرُ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الرِّزْقِ ، وَإِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فِي الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ ، وَيَتَوَاضَعُ ، وَلَا يُنَافِسُ أَهْلَ الْكِبْرِ ، وَالْفَخْرِ ، وَالرِّيَاءِ ، وَالتَّكَاثُرِ ، وَلَا يَأْخُذُ مَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَتْرُكُ مَا تَرَكَ لِنَفْسِهِ ، وَمَا أَخَذَهُ فَإِنَّمَا نِيَّتُهُ فِيهِ الْقُوَّةُ عَلَى دِينِهِ ، وَإِقَامَةُ فَرَائِضِهِ ، وَالِاسْتِغْنَاءُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَيَدَعُ جَمِيعَ مَا كَانَ لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الْعُجْبُ فَأَصْلُهُ حَمْدُ النَّفْسِ ، وَنِسْيَانُ النِّعْمَةِ ، وَهُوَ نَظَرُ الْعَبْدِ إلَى نَفْسِهِ ، وَأَفْعَالِهِ ، وَيَنْسَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنَّةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَيُحْسِنُ حَالَ نَفْسِهِ عِنْدَهُ ، وَيَقِلُّ شُكْرَهُ ، وَيَنْسِبُ إلَى نَفْسِهِ شَيْئًا هُوَ مِنْ غَيْرِهَا ، وَهِيَ مَطْبُوعَةٌ عَلَى خِلَافِهِ فَإِنْ غَفَلَ هَلَكَ ، وَاسْتُدْرِجَ ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِعِبَادَتِهِ مُزْرِيًا عَلَى مَنْ لَمْ يَعْمَلْ عَمَلَهُ قَدْ عَمِيَ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُسْتَكْثِرًا لِعَمَلِهِ مَسْرُورًا بِهِ رَاضِيًا عَنْ نَفْسِهِ فَرِحًا بِهَا يَسْعَى فِي هَوَاهَا غَضَبُهُ لَهَا ، وَرِضَاهُ لَهَا ، وَلَا يَخْلُو الْمُعْجَبُ بِعَمَلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا ؛ لِأَنَّهُمَا قَرِينَانِ لَا يَفْتَرِقَانِ ، وَلَا يَكُونُ الْمُعْجَبُ مَحْزُونًا ، وَلَا خَائِفًا أَبَدًا ؛ لِأَنَّ الْعُجْبَ يَنْفِي الْخَوْفَ .
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ النَّاظِرَ إلَى اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ قَدْ نَفَى الْعُجْبَ عَنْهُ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْعَمَلَ إنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ قَائِمٌ بِالشُّكْرِ لَهُ مُسْتَعِينٌ بِاَللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ عَلَى حَالٍ مُتَّهِمٌ لِنَفْسِهِ قَدْ نَفَى الْأَعْمَالَ كُلَّهَا عَنْهَا فَلَيْسَ لَهَا عِنْدَهُ فِيهَا حَظٌّ ، وَلَا نَصِيبٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ صِنْفَانِ : صِنْفٌ عُلَمَاءُ أَقْوِيَاءُ فَهُمْ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا يَعْمَلُونَ فَحَمِدُوا اللَّهَ عَلَى مَا وَهَبَ لَهُمْ مِنْ قَلِيلِهِ ، وَكَثِيرِهِ ، وَصِنْفٌ نَظَرُوا إلَى السَّبَبِ الَّذِي أَعْطَاهُمْ اللَّهُ فَاشْتَغَلُوا بِشُكْرِ السَّبَبِ

، وَالصِّنْفُ الْأَوَّلُ أَقْوَى مِنْ هَؤُلَاءِ أُولَئِكَ لَا يَعْرِضُ لَهُمْ الْعُجْبُ لِعِلْمِهِمْ بِهِ ، وَهَؤُلَاءِ رُبَّمَا أُعْجِبُوا بِالسَّبَبِ ، وَرُبَّمَا انْتَفَى عَنْهُمْ فَهُمْ مُكَابِدُونَ لَهُ فَإِنْ قَامُوا بِشُكْرِ ذَلِكَ فَحَالَتُهُمْ حَسَنَةٌ ، وَهُمْ دُونَ أُولَئِكَ ، وَإِنْ رَكَنُوا إلَى مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعُجْبِ فَقَدْ هَلَكُوا إلَّا أَنْ يُنَبِّهَ اللَّهُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ فَيَتُوبَ عَلَيْهِ ، وَالْعُجْبُ كَثِيرٌ ، وَهُوَ آفَةُ الْمُتَعَبِّدِينَ مِنْ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخِرِينَ ، وَهُوَ مِنْ الْكِبْرِ ، وَالْكِبْرُ آفَةُ إبْلِيسَ الَّتِي أَهْلَكَهُ اللَّهُ بِهَا .

، وَأَمَّا الشُّهْرَةُ ، وَإِشَارَةُ النَّاسِ إلَى الْعَبْدِ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّ إلَّا مَنْ أَرَادَهَا ، وَالْمَرْءُ مُلَبَّسٌ زِيَّ عَمَلِهِ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ .
فَكَمْ مِنْ مُسْتَتِرٍ بِعَمَلِهِ قَدْ شَهَرَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَكَمْ مِنْ مُتَزَيِّنٍ بِعَمَلِهِ يُرِيدُ بِهِ الِاسْمَ ، وَاِتِّخَاذَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّاسِ قَدْ شَانَهُ اللَّهُ بِهِ ، وَإِنَّمَا يُصْلِحُ ذَلِكَ ، وَيُفْسِدُهُ الضَّمِيرُ فَإِنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ جَمَعَ الشُّهْرَةَ ، وَالرِّيَاءَ ، وَالْعُجْبَ جَمِيعًا ، وَإِنْ أَرَادَ اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَكَانَ مُخْلِصًا لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ عُرِفَ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ ، وَرُبَّمَا لَحِقَهُ حُبُّ مَعْرِفَتِهِمْ إيَّاهُ بِالْعَمَلِ فَيَخْرُجُ بِهِ إلَى الْبَابِ الَّذِي يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ .
وَمِنْ ذَلِكَ حُبُّ مَعْرِفَتِهِمْ إيَّاهُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَالْغَضَبِ لِلَّهِ ، وَفِي اللَّهِ فَإِنْ قَامَ بِذَلِكَ ، وَنَفَى مَا يُحِبُّهُ ، وَكَانَتْ نَصِيحَتُهُ لِلَّهِ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَنَجَاةِ نَفْسِهِ نَجَا ، وَإِنْ اعْتَقَدَ شَيْئًا مِنْ اتِّخَاذِ الْمَنْزِلَةِ أَوْ حُبِّ الثَّنَاءِ أَوْ طَلَبِ رِيَاسَةٍ أَوْ لِيُقْبَلَ قَوْلُهُ فَقَدْ شَرِبَ السُّمَّ الَّذِي لَا يُبْقِي ، وَلَا يَذَرُ ، وَلَا عَاصِمَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا اللَّهُ .
وَالرِّيَاءُ ، وَالْعُجْبُ ، وَالْكِبْرُ ، وَالشُّهْرَةُ إنَّمَا هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ فَتَوَسَّلْ يَا أَخِي إلَى اللَّهِ فِي إصْلَاحِ قَلْبِك فَإِنْ سَلِمَ قَلْبُك ، وَعَلِمَ اللَّهُ مِنْ إرَادَتِك أَنَّهَا لَهُ خَالِصَةٌ خَلَّصَك اللَّهُ مِنْ كُلِّ آفَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْك ، وَاَللَّهُ يُقَسِّمُ الثَّنَاءَ كَمَا يُقَسِّمُ الرِّزْقَ ، وَمَنْ خَافَ اللَّهَ خَوَّفَ اللَّهُ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ ، وَمَنْ لَمْ يَخَفْ اللَّهَ أَخَافَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَاَللَّهُ مُسَبِّبُ الْعِبَادَةِ ، وَإِنَّمَا تَصْحِيحُ الْعَمَلِ بِالْحَوَادِثِ عَلَى قَدْرِ صِحَّةِ الْقَلْبِ ، وَمَعَ صِحَّةِ الْقَلْبِ دَلَالَةُ الْعَقْلِ ، وَسِيَاسَةُ الْعِلْمِ ، وَسَابِقَةُ الْخَوْفِ فَإِذَا أَرَدْت عَمَلًا فَابْتَغِ

بِذَلِكَ ثَوَابَ اللَّهِ ، وَأَكْثِرْ مَا تُؤَمِّلْ مِنْ اللَّهِ النَّجَاةَ مِنْ النَّارِ ، وَالْوُصُولَ إلَى نَعِيمِ الْجَنَّةِ يُهَوِّنْ عَلَيْك الْعَمَلَ ، وَيُخَلِّصْهُ اللَّهُ مِنْ الْآفَاتِ ، وَيُقَوِّيك عَلَيْهِ فَإِذَا عَمِلْت فَاشْكُرْ ، وَانْظُرْ هَلْ يَنْقُصُ مِنْ بَدَنِك شَيْءٌ فِي لَيْلِك ، وَنَهَارِك لِتَعْقِدَ النِّيَّةَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ، وَانْظُرْ إذَا أَصْبَحْتَ كَيْفَ مَضَتْ عَلَيْك لَيْلَتُك بِتَعَبِهَا ، وَنَصَبِهَا ، وَبَقِيَ لَك ثَوَابُهَا ، وَسُرُورُهَا يَكُنْ ذَلِكَ قُوَّةً لَك عَلَى مَا تَسْتَقْبِلُ فَالْحَسَنَةُ لَهَا نُورٌ فِي الْقَلْبِ ، وَسُرُورٌ يَجِدُ الْعَبْدُ حَلَاوَةَ ذَلِكَ السُّرُورِ ، وَضِيَاءَ ذَلِكَ النُّورِ ، وَلَمْ يَدَعْ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ الْمُطِيعِينَ حَتَّى جَعَلَ لَهُمْ بِالطَّاعَةِ اللَّذَّةَ ، وَالنَّشَاطَ ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ ، وَحَلَاوَةَ الْقُرْبِ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَدَعْهُمْ حَتَّى حَبَّبَهُمْ إلَى النَّاسِ ، وَحَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِمْ بِالْهَيْبَةِ لَهُمْ ، وَالْإِجْلَالِ مَعَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ التَّوَاضُعِ ، وَالْخَوْفِ لِلَّهِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ النَّاسُ ، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ بِهِمْ كَانُوا أَرْفَعَ خَلْقِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا ، وَمَنْ كَانَ بِالطَّاعَةِ عَامِلًا كَانَ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ عِنْدَ النَّاسِ ، وَأَغْنَاهُمْ بِاَللَّهِ ، وَمَنْ هَابَ اللَّهَ فِي السَّرِيرَةِ هَابَهُ النَّاسُ فِي الْعَلَانِيَةِ ، وَبِقَدْرِ مَا يَسْتَحْيِ الْعَبْدُ مِنْ اللَّهِ فِي الْخَلْوَةِ يَسْتَحِي النَّاسُ مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ ، وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ تَكُونَ مَحَبَّتُهُ فِي الْعَمَلِ بِالْحَسَنَاتِ سَتْرُهَا ، وَنِسْيَانُهَا فَإِنَّهُ سَيَحْفَظُهَا لَهُ مَنْ لَا يَنْسَاهَا وَيُحْصِي لَهُ مَثَاقِيلَ الذَّرِّ مِنْ عَمَلِهِ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ الْحَسَنَاتُ فَلْيَعْرِفْ نَفْسَهُ ، وَلَا يَغُرَّنَّهُ ثَنَاءُ مَنْ جَهِلَهُ فَفَكِّرْ أَيُّهَا الْعَامِلُ فِي الْعَوَاقِبِ فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ يُحِبَّك النَّاسُ أَوْ يَفْطِنُوا بِحَسَنَاتِك إذَا عَمِلْتهَا لِيُكْرِمُوك ، وَيُجِلُّوك فَقَدْ تَعَرَّضْت لِمَقْتِ اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ لَك .
وَيْحَك إنَّك إنْ أَسْقَطَكَ اللَّهُ سَقَطْت

فَلَا تَغْتَرَّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِنْ سَلِمَتْ لَك آخِرَتُك سَلِمَتْ لَك دُنْيَاك ، وَإِنَّ خُسْرَانَ الْآخِرَةِ خُسْرَانُ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ جَمِيعًا ، وَمَنْ رَبِحَ الْآخِرَةَ رَبِحَهُمَا جَمِيعًا .
وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ غَضِبْت عَلَى النَّاسِ فِي شَيْءٍ هُوَ لِنَفْسِك فَأَبْدَيْته لَهُمْ أَوْ لَمْ تُبْدِهِ لَهُمْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِك فَقَدْ تَعَرَّضْت لِغَضَبِهِ إذَا أَظْهَرْت أَنَّك إنَّمَا غَضِبْت لِنَفْسِك .
، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِك خَافِيَةٌ ، وَلَيْسَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَضَبِك عَلَيْهِمْ ، وَبَيْنَ سُرُورِكَ بِهِمْ ، وَفَرَحِكَ بِثَنَائِهِمْ عَلَيْك بِحَسَنَاتِك ، وَأَنْتَ تُرِيدُ ثَوَابَهَا مِنْ رَبِّك لَقَدْ اُبْتُلِيَتْ أَيُّهَا الْعَبْدُ بِحَسَنَاتِك ، وَعَظُمَ فِيهَا بَلَاؤُك ، وَلَعَلَّهَا أَضَرُّ عَلَيْك مِنْ بَعْضِ سَيِّئَاتِك فَإِنْ بَلَغَ بِك الْبَلَاءُ أَنْ تَفْرَحَ إذَا مَدَحُوكَ بِغَيْرِ عَمَلِك أَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِك فَقَبِلَهُ قَلْبُك أَحْبَطَ اللَّهُ عَمَلَك ثُمَّ تَصِيرُ إلَى حَالِ حُبِّ مَجِيءِ الْإِخْوَانِ إلَيْك فِي أَوْقَاتِ الْأَعْمَالِ فَتَفْرَحُ ، وَإِنْ أَتَوْك فِي وَقْتِ فَرَاغِك غَمَّك ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ سَائِلُك عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَتُظْهِرُ مِنْك الْحُزْنَ ، وَتُوهِمُ النَّاسَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْك تَصَنُّعٌ تُحِبُّ أَنْ يَحْمَدُوك عَلَى ذَلِكَ فَأَنْتَ إذَنْ قَدْ هَلَكْت مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَخَفْ اللَّهَ فِي سَرَّاءِ نَفْسِك ، وَعَلَانِيَتِهَا ، وَاحْتَقِرْ حَسَنَاتِك جَهْدَك ، وَاسْتَكْثِرْ مِنْهَا مَا اسْتَطَعْت حَتَّى يَعْظُمَ قَدْرُكَ عِنْدَ اللَّهِ ، وَتَعْظُمَ حَسَنَاتُك ، وَاسْتَكْبِرْ صَغِيرَ ذَنْبِك حَتَّى يَصْغُرَ عِنْدَ اللَّهِ ، وَخَفْ مِنْ صَغِيرِ ذُنُوبِك أَنْ يُحْبِطَ اللَّهُ بِهِ عَمَلَك كُلَّهُ ، وَارْجُ بِحَسَنَاتِك أَنْ يَمْحُو اللَّهُ بِهَا عَنْك كُلَّ سَيِّئَةٍ عَمِلْتهَا فَارْجُ حَسَنَاتِك ، وَخَفْ سَيِّئَاتِك { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }

، وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْرِفَ عَجْزَهُ ، وَضَعْفَهُ فَيَقْطَعُ سَبَبَهُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيَرْجِعُ إلَى الْعِزِّ ، وَالْمَنْعَةِ ، وَيَتَوَجَّهُ إلَى الْمَلِكِ الْقَادِرِ عَلَى مَا يُرِيدُ بِالِاعْتِصَامِ ، وَالتَّوَكُّلِ ، وَالِاسْتِصْغَارِ ، وَالِانْتِصَارِ بِهِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فَيَجِدُ عِنْدَ ذَلِكَ الْعِزَّ ، وَالرَّوْحَ ، وَالْفَرَجَ وَالْمَنْعَةَ ، وَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ إلَى الْمَلِكِ الْجَبَّارِ فَمَا اخْتَارَ لَهُ مِنْ شَيْءٍ رَضِيَ بِهِ ، وَسَلَّمَ فَإِنْ عَرَضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ غَمٌّ أَوْ رَوْعٌ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ بَلْوَى مِنْ اللَّهِ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ بِالِانْكِسَارِ ، وَالِافْتِقَارِ إلَيْهِ ؛ لِمَا فَرَّطَ مِنْهُ ، وَيَطْلُبُ الرَّوْحَ ، وَالْفَرَجَ بِالتَّقْوَى ، وَهُوَ اسْتِمَاعُ الْعَبْدِ إلَى قَوْلِ رَبِّهِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَعَلَهُ ، وَمَا نَهَاهُ عَنْهُ تَرَكَهُ حَتَّى تَكُونَ كُلُّهَا مَجْمُوعَةً لَهُ فِي رَوْضَةٍ وَاحِدَةٍ .
فَانْظُرْ يَا أَخِي ، وَلَا تَدَعْ مَا فِيهِ الْمَخْرَجُ إلَّا خَرَجْت مِنْهُ ، وَمَا كَانَ مِمَّا فَرَطَ مِنْك مِمَّا لَا حِيلَةَ فِيهِ إلَّا النَّدَمُ ، وَالِاسْتِغْفَارُ فَانْدَمْ عَلَيْهِ نَدَمًا صَحِيحًا بِالْقَلَقِ مِنْك ، وَالِاضْطِرَابِ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ ، وَالِاجْتِهَادِ قَبْلَ فَوَاتِ الْأَيَّامِ ، وَهُجُومِ الْمَوْتِ عَلَيْك ، وَأَكْثِرْ مَعَ النَّدَمِ الصَّحِيحِ ذِكْرَ مَا نَدِمْتَ عَلَيْهِ ، وَلَا تَفْتُرْ عَمَّا أَمْكَنَك مِنْ الِاسْتِغْفَارِ ثُمَّ عَلَيْك بَعْدُ بِالتَّخَلُّصِ مِنْ الْعَائِقِ الَّذِي يَشْتَغِلُ عَنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ حَتَّى تَكُونَ مُؤْثِرًا لِلَّهِ عَلَى مَا سِوَاهُ ، وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ إلَى سَبِيلِ النَّجَاةِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ دَلَالَاتِ الْعُقُولِ ، وَالْعُلُومِ تَأْسِيسَ التَّقْوَى فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ صَارَ الْعَبْدُ حَيَّ الْقَلْبِ قَابِلًا لِلْمَوْعِظَةِ مُعَظِّمًا ؛ لِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مُصَغِّرًا ؛ لِمَا صَغَّرَ اللَّهُ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ أَحْيَا قَلْبَهُ بِالْعِلْمِ ، وَالْعَمَلِ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَحْيَا قَلْبَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَلْفَ مَرَّةٍ ، وَيَكُونُ بَيْنَ الْحَيَاةِ ،

وَالْحَيَاةِ مَوْتَةٌ لَخِفْتُ عَلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ حَيَاتُهُ دَائِمَةً تَمُوتُ بِهِ خَوَاطِرُ نَفْسٍ لَيْسَ لَهَا قَرَارٌ ، وَالْخَاطِرُ إذَا صُرِمَ أَصْلُهُ ، وَقُطِعَ دَخَلَ عَلَيْهِ الْحُزْنُ ، وَالْبُكَاءُ فَلَا يَكُونُ مَسْرُورًا بِالْعَارِضِ ، وَلَا مَشْغُولًا بِالنِّعْمَةِ عَنْ الْمُنْعِمِ فَهَذَا سَبِيلُ النَّجَاةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْعَبْدِ رَوْعٌ ، وَغَمٌّ عِنْدَ الْخَاطِرِ فَهُوَ مَيِّتٌ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَرْجِعْ إلَى التَّقْوَى ، وَالْإِخْلَاصِ ، وَالصِّدْقِ ، وَالتَّخَلُّصِ مِمَّا يَكْرَهُ الرَّبُّ ، وَالْحَيَاءُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَفْهُومِ فَإِذَا عَلِمَ ، وَفَهِمَ الْعِلْمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ قَبِلَ الْمَوْعِظَةَ لِنُصْحِهِ بِتَعْظِيمِهِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ ، الْقَلْبُ الْحَيُّ تَكْفِيهِ غَمْزَةٌ فَيَنْتَبِهُ ، وَالْقَلْبُ الْمَيِّتُ لَوْ قُرِضَ بِالْمَقَارِيضِ لَمْ يَنْتَبِهْ ، وَلَمْ يَحْيَى ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ ، وَجَلَّ يَقُولُ { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } ، وَذَلِكَ لِمَنْ قَبِلَ ، وَأَجَابَ الدَّاعِيَ ، وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْمَوْعِظَةَ ، وَلَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ عَزَّ ، وَجَلَّ { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ، وَمَا يَشْعُرُونَ } ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَيِّتٌ فَقَدْ حَيِيَ بِعِلْمِهِ أَنَّهُ مَيِّتٌ ، وَلَا يَنْفَعُهُ الْعِلْمُ إلَّا بِالْقَبُولِ ، وَإِيثَارِ الرَّبِّ عَلَى هَوَاهُ فَمَنْ كَانَ مُقِرًّا بِأَنَّهُ عَاصٍ ، وَلَيْسَ يَتَحَوَّلُ ، وَلَيْسَ مَعَهُ الرَّوْعُ ، وَالْغَمُّ الشَّدِيدُ ، وَهُوَ عَلَى حَالَتِهِ الَّتِي لَيْسَ يَرْضَاهَا ، وَلَا يُبَادِرُ بِالتَّوْبَةِ ، وَالتَّطْهِيرِ فَهُوَ مَيِّتٌ ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَيَحْيَا بِالتَّوْبَةِ ، وَيَرْجِعُ إلَى الرَّغْبَةِ ، وَالرَّهْبَةِ ، وَالطَّاعَةِ .
وَمَنْ أَرَادَهُ اللَّهُ وَفَّقَهُ ، وَنَبَّهَهُ مِنْ الزَّلَّةِ ، وَأَيْقَظَهُ مِنْ الْغَفْلَةِ ، وَإِنَّمَا هَذِهِ كُلُّهَا مَوَارِيثُ حُبِّ الدُّنْيَا ، وَاتِّبَاعُ الْهَوَى ، وَطُولُ الْأَمَلِ .
وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ يَبْتَغِي

لِنَفْسِهِ طَاعَةَ رَبِّهِ أَنْ يَرْجُوَ مَا ثَقُلَ عَلَيْهِ مِنْ الْبِرِّ ، وَيَتَّهِمَ مَا خَفَّ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَلِيلَ الصِّدْقِ يُثْقِلُ خَفِيفَ الْعَمَلِ ، وَالْكَذِبُ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْعَمَلِ يُخَفِّفُ ثَقِيلَ الْعَمَلِ ، وَقَلِيلُ الصِّدْقِ أَوْزَنُ ، وَأَرْجَحُ مِنْ كَثِيرِ الْكَذِبِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ إرَادَتَك الْعَمَلَ عَمَلٌ فَانْظُرْ فِي إرَادَتِك حَتَّى يَصِحَّ لَك عَمَلُك ، وَيَرَاك اللَّهُ لِنِيَّتِك طَالِبًا ، وَلَهَا مُصَحِّحًا كَمَا يَرَاك فِي عَمَلِك مُخْلِصًا فَإِنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ .
وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ ظَفِرْت بِتَصْحِيحِ النِّيَّةِ مَعَ قَلِيلِ الْعَمَلِ رَبِحْت عَمَلَك ، وَظَفِرْت بِأَكْثَرَ مِنْ عَمَلِك ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَدُوَّك يَنْظُرُ إلَى ابْتِدَاءِ نِيَّتِك ، وَابْتِدَاءِ عَمَلِك ، وَقَدْ يَخْفَى عَلَيْك سَقَمُ نِيَّتِك كَمَا يَخْفَى عَلَيْك سَقَمُ غَيْرِك فَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُك سَقِيمَةً فَقُمْ عَلَى تَصْحِيحِهَا فَإِنَّ الْعَمَلَ تَابِعٌ لِلنِّيَّةِ إنْ صَحَّتْ صَحَّ ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدُوَّ إذَا رَأَى فِي نِيَّتِك سَقَمًا رَغَّبَك فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَلَمْ يُثْقِلْهُ عَلَيْك بَلْ يُخَفِّفْهُ عَلَيْك مَخَافَةَ أَنْ يُقْنِطَك بِالسَّقَمِ ، وَوَدَّ حِينَئِذٍ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَحَبُّوك فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَمَدَحُوك إذَا ظَفِرَ مِنْك بِسَقَمِ النِّيَّةِ ، وَيَزِيدُك قُوَّةً ، وَنَشَاطًا فِي عَمَلِك ، وَيُحَسِّنُهُ عِنْدَك ، وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ ، وَيُحَبِّبُهُمْ إلَيْك فَكُلَّمَا أَثْنَوْا عَلَيْك اسْتَحْلَيْت عَمَلَك ، وَخَفَّ عَلَيْك ، وَقَدْ سَتَرَ عَنْك دَاءَ الْحَسَنَاتِ ، وَدَاءَ السَّيِّئَاتِ ، وَمِنْ دَاءِ الْحَسَنَاتِ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُك مِنْ تَرْكِهَا إلَّا مَخَافَةَ أَنْ تَسْقُطَ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ رِبْحَهُ مِنْك إذَا سَقِمَتْ نِيَّتُك أَكْثَرُ مِنْ رِبْحِهِ مِنْك إذَا أَحْبَبْت الدُّنْيَا ، وَاتَّسَعْتَ مِنْهَا ، وَمِنْ دَاءِ السَّيِّئَاتِ سَقَمُ نِيَّتِك ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَسَنَاتِ أَوَّلًا بِسَقَمِ النِّيَّةِ ، وَرُبَّمَا أَفْسَدَهَا آخِرًا بِتَعْظِيمِ النَّاسِ لَك فَإِذَا

عَلِمَ أَنَّك لَا تُحِبُّ ذَلِكَ ، وَلَمْ تُجِبْهُ إلَى مَعْصِيَةٍ خَلَّاك ، وَذَاكَ فَاحْذَرْ عَلَى عَمَلِك كُلِّهِ مِنْ حِيلَةِ الْخَبِيثِ ، وَإِذَا رَأَيْت الْعَمَلَ قَدْ خَفَّ فَكُنْ أَشَدَّ مَا تَكُونُ لَهُ حَذَرًا إذَا خَفَّ عَلَى نَفْسِك الْعَمَلُ فَهُوَ أَفْسَدُ مَا يَكُونُ إذَا صَحَّ عِنْدَك .
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَعْرَفُ بِك ، وَبِمَا تَهْوَاهُ نَفْسُك مِنْك ، وَلَا تَدَعْ الْعَمَلَ مِنْ أَجْلِ آفَتِهِ ، وَلَكِنْ اعْمَلْ بِنِيَّةٍ ، وَصِحَّةٍ ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ ، وَكُنْ حَذِرًا طَالِبًا لِلْخَلَاصِ كَارِهًا مُعَانِدًا لِفَسَادِ الْعَمَلِ لَا تُرِيدُ الثَّوَابَ إلَّا مِنْ اللَّهِ ، وَحْدَهُ ، وَطَلَبِ الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَلَا تَعْمَلْ لِيُعْطِيَك فِي الدُّنْيَا ثَوَابًا فَإِنَّ الَّذِي قَدَّرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصِلَ إلَيْك مِنْ رِزْقٍ أَوْ أَجْرٍ أَوْ ثَنَاءٍ فَإِنَّهُ صَائِرٌ إلَيْك فَعَلَيْك بِالصِّدْقِ ، وَاِتَّخِذْهُ ذُخْرًا لِيَوْمٍ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ .
وَانْظُرْ إذَا صَحَّ عَمَلُك عِنْدَك فَكُنْ أَخْوَفَ مَا يَكُونُ مِنْ فَسَادِهِ ، وَلَا تَأْمَنْ عَلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ فَتُفْسِدُهُ فَإِنَّ آفَةَ الْعَمَلِ الْأَمْنُ عَلَيْهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْنَ عَلَى الْحَسَنَاتِ أَضَرُّ عَلَيْهَا مِنْ السَّيِّئَاتِ ، وَالْأَمْنَ عَلَى السَّيِّئَاتِ أَضَرُّ عَلَيْك مِنْ السَّيِّئَاتِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْنَك عَلَى الْحَسَنَةِ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ السَّيِّئَةِ ، وَقُنُوطَك بَعْدَ السَّيِّئَةِ أَحَبُّ إلَى إبْلِيسَ مِنْ السَّيِّئَةِ ، وَاسْتِصْغَارَك لِسَيِّئَةٍ كَبِيرَةٍ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ سَيِّئَةٍ بَعْدَ سَيِّئَةٍ ، وَاسْتِصْغَارَك لِسَيِّئَةٍ أَرَدْتَهَا ثُمَّ تَرَكْتهَا أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ كَبِيرَةٍ عَمِلْتهَا ثُمَّ اسْتَغْفَرْت مِنْهَا لِعِظَمِهَا عِنْدَك فَافْهَمْ مَا أُلْقِيَ إلَيْك مِنْ هَذَا الْبَابِ ، وَاحْذَرْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ إبْلِيسَ الْخَبِيثَ يُجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ مَدْحَ الصَّادِقِ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ صِدْقَهُ ، وَيَزِيدُ الْكَاذِبَ فِي عَمَلِهِ قُوَّةً حَتَّى يُسَوِّي بَيْنَ الصَّادِقِ ، وَالْكَاذِبِ فَاحْذَرْ تَجْدِيدَ الْقُوَّةِ فِي الْعَمَلِ عِنْدَ تَجْدِيدِ الْمَدْحِ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ايميل دار نشر الجامعة بالامارات

ايميلات دور النشر في الامارات Post category: مواضيع عامة / تعليم تتميز الامارات بتواجد العديد من دور النشر المشهورة في الوطن العربي والتي...