ج5وج6.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ
تَقَدَّمَ قَوْلُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ ؛
لِأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِالْحَدِيثِ إلَّا لِأَمْرٍ أَوْجَبَ
ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَكَانَ الْعَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْوَى ؛
لِأَنَّهُ عِنْدَهُ كَالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يُخْرِجْهُ مَنْ
اشْتَرَطَ الصِّحَّةَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالرُّجُوعُ إلَى الْعَمَلِ أَرْجَحُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ شَرَعَ الْجَزَاءَ فِي
الصَّيْدِ فِي حَرَمِ مَكَّةَ وَلَمْ يَشْرَعْ ذَلِكَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي
ذَلِكَ .
فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ
فَلَا فَرْقَ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي بِعَدَمِ الْجَزَاءِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَخْبَرَهُمْ بِمَا يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَلَمْ
يُكَلِّفْهُمْ عَمَلًا ؛ لِأَنَّ تَكْلِيفَ الْعَمَلِ قَدْ يَقَعُ بَعْضُهُمْ ،
أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي تَرْكِهِ فَيَئُولُ أَمْرُهُمْ إلَى الْخُسْرَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ
مِنْ ذَلِكَ فَرَفَعَ عَنْهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا يَقَعُ مِنْ
بَعْضِهِمْ مِنْ التَّقْصِيرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَمْ يَزَلْ يَسْأَلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ
حَتَّى رَدَّ الْخَمْسِينَ إلَى خَمْسٍ بِبَرَكَةِ شَفَاعَتِهِ وَشَفَقَتِهِ وَرَحْمَتِهِ
وَسُؤَالِهِ فِي الرِّفْقِ بِهِمْ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَالْوُفُودُ تَسِيرُ
إلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ بِخِلَافِ زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَنْظُرُ أَبَدًا مَا فِيهِ الْأَفْضَلُ لِأُمَّتِهِ
فَيُرْشِدُهُمْ إلَيْهِ وَمَا كَانَ فِيهِ تَكْلِيفٌ يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ مُكْتَفِيًا
بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَتَجِدُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي كُلِّ
مَا يَخُصُّ نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ يُخَفِّفُهُ عَنْ أُمَّتِهِ .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ
بَرَكَاتِ هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ عَلَى رَبِّهِ وَشُمُولِ عِنَايَتِهِ
إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ .
وَمِمَّا
يُؤَيِّدُ مَا ذُكِرَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الْأُولَى } فَكُلُّ
مَقَامٍ ، أَوْ مَكَان أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ أُقِيمَ فِيهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ
فِي الْفَضِيلَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ
لَهُ وَلَا يَشُكُّ وَلَا يُرْتَابُ أَنَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ
انْتِقَالِهِ إلَى رَبِّهِ مِنْ أَعْلَى مَقَامَاتِهِ وَأَتَمِّهَا إذْ هُوَ
الْخِتَامُ وَالْخِتَامُ يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا قَبْلَهُ وَأَعْظَمَ مِنْهُ
فَلَئِنْ كَانَتْ مَكَّةُ مَوْضِعَ شَمْسٍ مَشْرِقِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَالْمَدِينَةُ مَوْضِعُ شَمْسِ مَغْرِبِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَفِيهَا حَلَّ وَأَقَامَ
.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { الْإِيمَانُ يَأْرِزُ مَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ }
يُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا بَيْنَ مَطْلِعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَمَغْرِبِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ
مِثْلُهُ أَعْنِي بِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ
النُّصُوصِ الْكَثِيرَةِ وَمَا وَقَعَ فِي شَهْرِ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ مِنْ ظُهُورِ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ الْبَيِّنَةِ
مِنْ إخْمَادِ نَارِ فَارِسَ وَانْشِقَاقِ إيوَانِ كِسْرَى وَمَنْعِ الشَّيَاطِينِ
مِنْ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ وَنُزُولِ إبْلِيسَ وَجُنُودِهِ إلَى الْأَرْضِ
السَّابِعَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ
لَاكْتَفَى فِي فَضِيلَتِهِ بِوُجُودِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وَمَعْنَى لَعَمْرُكَ لَحَيَاتُكَ فَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بِحَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِهَذَا قَالَ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ بِمَخْلُوقٍ
إلَّا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ تَعَالَى {
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا
الْبَلَدِ } قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لَا بِمَعْنَى التَّأْكِيدِ .
وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّمَا تَكُونُ لَا لِلتَّأْكِيدِ إذَا
عُدِمَتْ الْفَائِدَةُ الَّتِي يُحْمَلُ عَلَيْهَا لَفْظَةُ لَا وَالْفَائِدَةُ مَوْجُودَةٌ
وَذَلِكَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ } مَعْنَاهُ
أَيُّ قَدْرٍ وَأَيُّ خَطَرٍ لِهَذَا الْبَلَدِ حَتَّى يُقْسَمَ بِهِ وَأَنْتَ
حِلٌّ بِهِ ، وَإِنَّمَا الْقَدْرُ وَالْخَطَرُ لَكَ فَأَنْتَ الَّذِي يُقْسَمُ
بِكَ لِعَظِيمِ جَاهِكَ وَحُرْمَتِكَ عِنْدَنَا .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى سِرِّ
هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إذْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَلَدِ فِي الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ مَكَّةُ اتِّفَاقًا ، وَمَكَّةُ قَدْ تَظَافَرَتْ النُّصُوصُ عَلَى
تَفْضِيلِهَا .
فَإِذَا كَانَتْ مَكَّةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ مِنْ
الْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقْسِمُ بِهَا مَعَ وُجُودِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ كَالشَّمْسِ لَا تَظْهَرُ الْكَوَاكِبُ مَعَهَا بَلْ هُوَ الَّذِي
كُسِيَتْ الْأَكْوَانُ مِنْ بِهَاءِ نُورِهِ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
وَالسَّلَامِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ مَنْ مَدَحَهُ بِبَعْضِ
صِفَاتِهِ الْجَمِيلَةِ حَيْثُ يَقُولُ إلَى الْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ أَحْمَدُ
قَدْ دَنَا وَنُورُهُمَا مِنْ نُورِهِ يَتَلَأْلَأُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَمَوْضِعُ مَقَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَائِمًا لَا يُوَازِيهِ
غَيْرُهُ وَإِنْ شَهِدَتْ لَهُ الْأَدِلَّةُ بِالْفَضِيلَةِ الْعُظْمَى عَلَى مَا
تَقَدَّمَ .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى وَمَا شَابَهَهُ يُعْلَمُ
الْفَرْقُ بَيْنَ مَا هُوَ فَاضِلٌ وَبَيْنَ مَا هُوَ أَفْضَلُ فَإِنَّك إذَا
قُلْت مَثَلًا الشَّمْسُ أَكْثَرُ ضَوْءًا مِنْ الْبَدْرِ السَّالِمِ مِنْ كُلِّ
مَا يَعْتَرِيهِ فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ إذْ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ شَارَكَهَا
الْبَدْرُ فِي بَعْضِ الضِّيَاءِ لَكِنْ لِلشَّمْسِ زِيَادَةُ ضِيَاءٍ أَضْعَافُ
ذَلِكَ فَظَهَرَتْ فَضِيلَةُ الشَّمْسِ عَلَى الْبَدْرِ
بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ وَإِذَا فَضَلَتْ عَلَى الْبَدْرِ فَعَلَى غَيْرِهِ مِنْ
بَابِ أَوْلَى وَالْبَدْرُ يَفْضُلُ عَلَى مَا دُونَهُ فِي الضِّيَاءِ وَالْجُرْمِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْمَدِينَةُ الَّتِي
هِيَ مَوْضِعُ مُقَامِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيًّا وَمَيِّتًا
الَّتِي قَدْ خُصَّتْ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْرَمُ مِنْ
غَيْرِهَا بِوُجُودِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَكَّةَ مَعَ عَظِيمِ قَدْرِهَا لَمْ
يُقْسِمْ بِهَا لِأَجْلِ حُلُولِهِ إذْ ذَاكَ بِهَا فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ
تَفْضُلَ مَوْضِعًا حَلَّ فِيهِ وَأَقَامَ بِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا فَكَيْفَ
يَفْضُلُهُ غَيْرُهُ وَكُلُّ مَا ذُكِرَ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ فِي وُجُودِ الْفَضِيلَةِ
إذْ لَا فَرْقَ فِي الِاحْتِرَامِ لِرَفِيعِ جَنَابِهِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ بَيْنَ حَيَاتِهِ وَمَوْتِهِ .
وَقَدْ رَأَيْت لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ
مِنْ فَضَائِلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَا
مِنْ نَبِيٍّ دُفِنَ إلَّا وَقَدْ رُفِعَ بَعْدَ ثَلَاثٍ غَيْرِي فَإِنِّي سَأَلْت
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَذَلِكَ
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ }
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ مَاتَ بِأَحَدِ الْحَرَمَيْنِ كُنْت لَهُ شَفِيعًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَسَوَّى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيْنَهُمَا فِي
الشَّفَاعَةِ لَهُمْ ثُمَّ لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خَصَّصَ الْمَدِينَةَ بِالذِّكْرِ وَحَضَّ عَلَى مُحَاوَلَةِ
ذَلِكَ بِالِاسْتِطَاعَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ اسْتَطَاعَ
أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ مَاتَ
بِهَا } وَالِاسْتِطَاعَةُ هِيَ بَذْلُ الْمَجْهُودِ فِي ذَلِكَ فَزِيَادَةُ
عِنَايَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِفْرَادِ الْمَدِينَةِ
بِالذِّكْرِ دَلِيلٌ عَلَى تَمْيِيزِهَا
.
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ } فَجَعَلَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ كِلَيْهِمَا سِيَّانِ فِي
الْفَضِيلَةِ فِي تَعَدِّي نَفْعِهِ وَبَرَكَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِأُمَّتِهِ أَوَّلِهَا وَوَسَطِهَا وَآخِرِهَا فَنَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عَلَى عُمُومِ نَفْعِهِ فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا .
كَيْفَ لَا ، وَهُوَ سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ وَسَيِّدُ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى وَكَانَ مِنْ رَبِّهِ فِي الْقُرْبِ
وَالتَّدَانِي مَعَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ كَقَابَ قَوْسَيْنِ ، أَوْ
أَدْنَى .
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَعْنَى كَلَامِ سَيِّدِي الشَّيْخِ
الْجَلِيلِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ ثُمَّ
أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِأُمَّتِهِ
فَقَالَ تَعَالَى { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } ؛ لِأَنَّ الْوَالِدَ فِي حَقِيقَةِ
الْمَعْنَى هُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُمَّتُهُ أَوْلَادُهُ .
إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ
سَبَبًا لِلْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ بِالْحَيَاةِ السَّرْمَدِيَّةِ وَالْخُلُودِ فِي
جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَسَلَامَتِهِمْ مِمَّا كَانُوا فِيهِ مِنْ الْخَطَرِ
الْعَظِيمِ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ
قَالَ { إنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَثَابَةِ الْوَالِدِ } انْتَهَى ، وَهَذَا
ظَاهِرٌ قَالَ تَعَالَى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ
أُمَّهَاتُهُمْ } فَحَقُّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَعْظَمُ مِنْ
حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ابْدَأْ
بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ
} فَقَدَّمَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَاَللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ قَدْ قَدَّمَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَفْسِ كُلِّ مُؤْمِنٍ .
وَمَعْنَى ذَلِكَ إذَا تَعَارَضَ لَهُ حَقَّانِ حَقٌّ
لِنَفْسِهِ وَحَقٌّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآكَدُهُمَا
عَلَيْهِ وَأَوْجَبُ .
حَقُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ يَجْعَلُ حَقَّ نَفْسِهِ تَبَعًا لِلْحَقِّ
الْأَوَّلِ ثُمَّ كَذَلِكَ فِي تَتَبُّعِ الْحَرَكَاتِ
وَالسَّكَنَاتِ .
وَإِذَا تَأَمَّلْت الْأَمْرَ فِي الشَّاهِدِ وَجَدْت
نَفْعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَك أَعْظَمَ مِنْ الْآبَاءِ
وَالْأُمَّهَاتِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ إذْ أَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ وَجَدَك غَرِيقًا فِي بِحَارِ
الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا الْمُوجِبَةِ لِغَضَبِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فَأَنْقَذَك وَأَنْقَذَ آبَاءَك وَأَبْنَاءَك وَمَنْ مَشَى عَلَى
مَشْيِك ، وَغَايَةُ أَمْرِ أَبَوَيْك أَنَّهُمَا أَوْجَدَاك فِي الْحِسِّ
فَكَانَا سَبَبًا لِإِخْرَاجِك إلَى دَارِ التَّكْلِيفِ وَمَحَلِّ الْبَلَايَا وَالْمِحَنِ
فَأَوَّلُ ذَنْبٍ يُوقِعُهُ الْمَرْءُ فِيهَا اسْتَحَقَّ بِهِ النَّارَ وَبَقِيَ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَشِيئَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَخَذَ
بِالْعَدْلِ وَإِنْ شَاءَ عَفَا بِالْفَضْلِ .
فَبِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ أَنْقَذَك اللَّهُ الْكَرِيمُ مِمَّا قَدْ كَانَ حَلَّ بِك
وَنَزَلَ بِسَاحَتِك مِمَّا لَا طَاقَةَ لَك بِهِ فَتَنَبَّهْ لِعَظِيمِ قَدْرِهِ وَرَفِيعِ
مِقْدَارِهِ عِنْدَ رَبِّهِ وَعَظِيمِ إحْسَانِهِ وَجُودِهِ عَلَيْك قَالَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي صِفَتِهِ : { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ
رَءُوفٌ رَحِيمٌ } أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَمَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ } انْتَهَى فَخَيْرُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ بَيِّنٌ جِدًّا .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ رَآهُ ، أَوْ أَدْرَكَهُ ،
وَهُوَ مُؤْمِنٌ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ أَبَدًا فِي فَضِيلَةِ مَزِيَّةِ رُؤْيَتِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَوُقُوعِ ذَلِكَ النَّظَرِ الْكَرِيمِ عَلَيْهِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَوْتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلِأَنَّ
أَعْمَالَ أُمَّتِهِ تُعْرَضُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَذَلِكَ عَلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَقَارِبِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ
فَمَا رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَعْمَالِ حَسَنًا سُرَّ
بِهِ وَدَعَا لِصَاحِبِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ
غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَغْفَرَ لِصَاحِبِهِ ، وَهَذَا مِنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زِيَادَةٌ فِي التَّلَطُّفِ بِك وَالْإِحْسَانِ
إلَيْك بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ فَإِنَّهُمْ يُسَرُّونَ ، أَوْ يَحْزَنُونَ
لَيْسَ إلَّا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
اللَّهُمَّ بِحُرْمَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عِنْدَك عَرِّفْنَا قَدْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي مَنَنْت
عَلَيْنَا بِدَوَامِهَا وَلَا تُعَرِّفْهَا لَنَا بِزَوَالِهَا عَنَّا إنَّك
وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ آمِينَ .
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو يَعْقُوبَ
يُوسُفُ ابْنُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ ابْنِ الشَّيْخِ أَبِي مَرْوَانَ
عَبْدِ الْمَلِكِ الْبَكْرِيِّ عُرِفَ بِابْنِ السَّمَّاطِ ، وَهُوَ أَخُو
الشَّيْخِ الْأَجَلِّ أَبِي عَلِيِّ بْنِ السِّمَاطِ شَيْخِ سَيِّدِي أَبِي
مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ فِي وَقْتِهِ مِنْ
الْأَكَابِرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ أَعَلِمْت أَنَّك يَا رَبِيعَ
الْأَوَّلِ تَاجٌ عَلَى هَامِ الزَّمَانِ مُكَلَّلُ مُسْتَعْذَبُ الْإِلْمَامِ
مُرْتَقَبُ اللِّقَا كُلُّ الْفَضَائِلِ حِينَ تُقْبِلُ تُقْبِلُ مَا عُدْت إلَّا
كُنْت عِيدًا ثَالِثًا بَلْ أَنْتَ أَحْلَى فِي الْعُيُونِ وَأَجْمَلُ شَرَفًا بِمَوْلِدِ
مُصْطَفًى لَمَّا بَدَا أَخْفَى الْأَهِلَّةَ وَجْهُهُ الْمُتَهَلِّلُ وَحَوَيْت
مَنْ أَصْبَحْت ظَرْفَ زَمَانِهِ ظَرْفًا بِهِ فِي بُرْدِ حُسْنِك تَرْفُلُ
وَمَلَكْت أَنْفُسَهَا بِلُطْفِ شَمَائِلَ بِنَسِيمِهَا نَفْسُ الْعَلِيلِ
تُعَلَّلُ وَإِذَا حَدَا الْحَادِي بِمَنْزِلَةِ الْحِمَى فَالْقَصْدُ سُكَّانُ
الْحِمَى لَا الْمَنْزِلُ فَضْلُ الشُّهُورِ عَلَا فَفَاخَرَهَا فَإِنْ فَخَرْت
بِأَطْوَلِهَا فَأَنْتَ الْأَطْوَلُ وَاسْتَثْنِ مِنْهَا لَيْلَةَ الْقَدْرِ
الَّتِي أَثْنَاءَهَا نَزَلَ الْكِتَابُ الْمُنْزَلُ وَاصْغَ لِقَوْلِ اللَّهِ فِيهَا
إنَّهَا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فِي الْإِبَانَةِ أَفْضَلُ وَاسْتَكْمِلْ الْبُشْرَى
فَإِنَّك لَمْ تَزَلْ لَك فِي الْقُلُوبِ مَكَانَةٌ لَا تُجْهَلُ لِمَ لَا
وَعَشْرُك وَاثْنَتَاك أَرَيْنَنَا قَمَرًا بِهِ شَمْسُ الضُّحَى لَا تُعْدَلُ
وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّ بَدْرًا يَسْتَوِي لِتَمَامِ عَشْرٍ وَاثْنَتَيْنِ
وَيَكْمُلُ وَيَفُوقُ أَقْمَارَ السَّمَاءِ لِأَنَّهَا لِلنَّقْصِ مِنْ بَعْدِ
الزِّيَادَةِ تُنْقَلُ وَكَمَالُ هَذَا الْبَدْرِ لَا يُعْزَى إلَى نَقْصٍ وَلَا
عَنْ حَالِهِ يَتَحَوَّلُ بَلْ نُورُهُ يَزْدَادُ ضَعْفًا كُلَّمَا طَفِقَ الْمَحَاقُ
سَنَا الْبُدُورِ
يُبَدَّلُ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَهَذَا الشَّهْرُ لَمْ
نَجِدْ فِيهِ زِيَادَةً فِي الْأَعْمَالِ كَمَا نَجِدُ فِي غَيْرِهِ مِنْ
الشُّهُورِ وَاللَّيَالِيِ وَالْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ تِلْكَ الْأَزْمِنَةَ حَصَلَتْ لَهَا
الْفَضِيلَةُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ الْفَاضِلَةِ فِيهَا ، وَهَذَا الشَّهْرُ
حَصَلَ لَهُ التَّشْرِيفُ بِظُهُورِ مَنْ جَاءَتْ الْأَعْمَالُ وَالْخَيْرَاتُ
الَّتِي حَصَلَتْ بِهَا الْفَضِيلَةُ لَتِلْكَ الْأَوْقَاتِ عَلَى يَدَيْهِ
وَبِسَبَبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا وَجْهٌ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ لَا
يَرْتَابُ فِيهِ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
حَيْثُ يَقُولُ فِي صِفَتِهِ { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } فَكَانَ
دَأْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَبَ التَّخْفِيفِ عَنْ أُمَّتِهِ مَهْمَا
قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَوَجَدَ السَّبِيلَ إلَيْهِ فَعَلَهُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ
هَذَا الشَّهْرُ اُخْتُصَّ بِظُهُورِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ
لَمْ يُكَلِّفْ أُمَّتَهُ زِيَادَةَ عَمَلٍ فِيهِ بَلْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ
بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ أَهْلَ الْآفَاقِ قَدْ
حَرُمَ عَلَيْهِمْ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَمَا ذَلِكَ إلَّا
أَنَّ الْحَاجَّ ضَيْفُ اللَّهِ تَعَالَى فَوَقَعَتْ الضِّيَافَةُ لِأَهْلِ
الْأَقَالِيمِ كُلِّهَا كَرَامَةً لَهُمْ فَكَيْفَ بِالزَّمَنِ الَّذِي ظَهَرَ
فِيهِ مَنْ شُرِعَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ يُخَاطِبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْلَا
أَنْتَ مَا صُمْنَا وَلَا صَلَّيْنَا وَلَا حَجَجْنَا بَيْتَ رَبِّنَا انْتَهَى فَكَانَ
عَدَمُ تَكْلِيفِ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ غَالِبًا وَعَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلَى
الْمُعْتَادِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ؛ لِأَنَّ أُمَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الشَّهْرِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ فِي ضِيَافَةِ وُجُودِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَمَّا أَنْ كَانَ تَحْرِيمُ الصَّوْمِ عَلَى أَهْلِ
الْآفَاقِ كَرَامَةً
لِلْحُجَّاجِ الَّذِينَ هُمْ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ الْخَلِيلِ وَوَلَدِهِ الْكَرِيمِ إسْمَاعِيلَ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ وَالضِّيَافَةُ ثَلَاثٌ كَمَا هُوَ
مَعْلُومٌ وَلَمَّا أَنْ كَانَ شَهْرُ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الَّذِي ظَهَرَ فِيهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْوُجُودِ
.
كَانَتْ الضِّيَافَةُ الشَّهْرَ كُلَّهُ لَكِنْ تَرَكَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمَّتَهُ رَحْمَةً بِهِمْ فِي عَدَمِ
التَّكْلِيفِ لَهُمْ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ وَالْفِطْرِ ؛ لِأَنَّهُ
رَحْمَةٌ لِلْعَالَمِينَ خُصُوصًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا سَبَقَ وَشَأْنُ
الرَّحْمَةِ التَّوَسُّعَةُ أَلَا تَرَى إلَى عَدَمِ وُجُوبِ جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْمَدِينَةِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ فَلْيَفْهَمْ مَنْ يَفْهَمُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
( فَصَلِّ ) فِي ذِكْر بَعْض مَوَاسِم أَهْل الْكتاب فَهَذَا
بَعْضُ الْكَلَامِ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي يَنْسُبُونَهَا إلَى الشَّرْعِ
وَلَيْسَتْ مِنْهُ وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْمَوَاسِمِ الَّتِي اعْتَادَهَا
أَكْثَرُهُمْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مَوَاسِمُ مُخْتَصَّةٌ بِأَهْلِ
الْكِتَابِ فَتَشَبَّهَ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ بِهِمْ فِيهَا وَشَارَكُوهُمْ فِي
تَعْظِيمِهَا يَا لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ خُصُوصًا وَلَكِنَّك
تَرَى بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي بَيْتِهِ
وَيُعِينُهُمْ عَلَيْهِ وَيُعْجِبُهُ مِنْهُمْ وَيُدْخِلُ السُّرُورَ عَلَى مَنْ
عِنْدَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ بِتَوْسِعَةِ النَّفَقَةِ
وَالْكِسْوَةِ عَلَى زَعْمِهِ بَلْ زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ يُهَادُونَ بَعْضَ
أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ وَيُرْسِلُونَ إلَيْهِمْ مَا يَحْتَاجُونَهُ لِمَوَاسِمِهِمْ
فَيَسْتَعِينُونَ بِذَلِكَ عَلَى زِيَادَةِ كُفْرِهِمْ وَيُرْسِلُ بَعْضُهُمْ
الْخِرْفَانَ وَبَعْضُهُمْ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ وَبَعْضُهُمْ الْبَلَحَ
وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ فِي وَقْتِهِمْ وَقَدْ يَجْمَعُ ذَلِكَ
أَكْثَرُهُمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ أَشْهَبُ قِيلَ لِمَالِكٍ
أَتَرَى بَأْسًا أَنْ يُهْدِيَ الرَّجُلُ لِجَارِهِ النَّصْرَانِيِّ مُكَافَأَةً
لَهُ عَلَى هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ قَالَ مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } الْآيَةَ قَالَ
ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ مُكَافَأَةً لَهُ عَلَى
هَدِيَّةٍ أَهْدَاهَا إلَيْهِ إذْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ
هَدِيَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهَدَايَا التَّوَدُّدُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ
الشَّحْنَاءُ } ، فَإِنْ أَخْطَأَ وَقَبِلَ مِنْهُ هَدِيَّتَهُ وَفَاتَتْ عِنْدَهُ
فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ فَضْلٌ
فِي مَعْرُوفٍ صَنَعَهُ مَعَهُ
.
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ
اللَّهُ عَنْ مُؤَاكَلَةِ النَّصْرَانِيِّ فِي إنَاءٍ
وَاحِدٍ قَالَ تَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ وَلَا يُصَادِقُ نَصْرَانِيًّا قَالَ ابْنُ
رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْوَجْهُ فِي كَرَاهَةِ مُصَادَقَةِ النَّصْرَانِيِّ
بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ { لَا تَجِدُ قَوْمًا
يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
} الْآيَةَ .
فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُبْغِضَ فِي
اللَّهِ مَنْ يَكْفُرُ بِهِ وَيَجْعَلُ مَعَهُ إلَهًا غَيْرَهُ وَيُكَذِّبُ
رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمُؤَاكَلَتُهُ فِي إنَاءٍ
وَاحِدٍ تَقْتَضِي الْأُلْفَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمَوَدَّةَ فَهِيَ تُكْرَهُ مِنْ
هَذَا الْوَجْهِ وَإِنْ عَلِمْت طَهَارَةَ يَدِهِ .
وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ سُئِلَ ابْنُ الْقَاسِمِ
عَنْ الرُّكُوبِ فِي السُّفُنِ الَّتِي يَرْكَبُ فِيهَا النَّصَارَى
لِأَعْيَادِهِمْ فَكَرِهَ ذَلِكَ مَخَافَةَ نُزُولِ السُّخْطِ عَلَيْهِمْ
لِكُفْرِهِمْ الَّذِي اجْتَمَعُوا لَهُ
.
قَالَ وَكَرِهَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْمُسْلِمِ أَنْ
يُهْدِيَ إلَى النَّصْرَانِيِّ فِي عِيدِهِ مُكَافَأَةً لَهُ .
وَرَآهُ مِنْ تَعْظِيمِ عِيدِهِ وَعَوْنًا لَهُ عَلَى
مَصْلَحَةِ كُفْرِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ
يَبِيعُوا لِلنَّصَارَى شَيْئًا مِنْ مَصْلَحَةِ عِيدِهِمْ لَا لَحْمًا وَلَا
إدَامًا وَلَا ثَوْبًا وَلَا يُعَارُونَ دَابَّةً وَلَا يُعَانُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
دِينِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّعْظِيمِ لِشِرْكِهِمْ وَعَوْنِهِمْ عَلَى
كُفْرِهِمْ وَيَنْبَغِي لِلسَّلَاطِينِ أَنْ يَنْهَوْا الْمُسْلِمِينَ عَنْ ذَلِكَ
، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ لَمْ أَعْلَمْ أَحَدًا اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ
انْتَهَى .
وَيُمْنَعُ التَّشَبُّهُ بِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَمَعْنَى
ذَلِكَ تَنْفِيرُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُوَافَقَةِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَا
اخْتَصُّوا بِهِ .
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَكْرَهُ
مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ حَتَّى قَالَتْ الْيَهُودُ
إنَّ مُحَمَّدًا يُرِيدُ أَنْ لَا يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا
إلَّا خَالَفَنَا فِيهِ .
وَقَدْ جَمَعَ هَؤُلَاءِ بَيْنَ التَّشَبُّهِ بِهِمْ
فِيمَا ذُكِرَ وَالْإِعَانَةِ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِهِ
طُغْيَانًا إذْ أَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ يُوَافِقُونَهُمْ أَوْ
يُسَاعِدُونَهُمْ ، أَوْ هُمَا مَعًا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِغِبْطَتِهِمْ
بِدِينِهِمْ وَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ وَكَثُرَ هَذَا بَيْنَهُمْ .
أَعْنِي الْمُهَادَاةَ حَتَّى إنَّ بَعْضَ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَيُهَادُونَ بِبَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي مَوَاسِمِهِمْ لِبَعْضِ
مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ
وَيَشْكُرُونَهُمْ وَيُكَافِئُونَهُمْ
.
وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْكِتَابِ يَغْتَبِطُونَ بِدِينِهِمْ
وَيُسَرُّونَ عِنْدَ قَبُولِ الْمُسْلِمِ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ
صُوَرٍ وَزَخَارِفَ فَيَظُنُّونَ أَنَّ أَرْبَابَ الرِّيَاسَةِ فِي الدُّنْيَا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ وَالْمُشَارُ إلَيْهِمْ فِي
الدِّينِ وَتَعَدَّى هَذَا السُّمُّ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَسَرَى فِيهِمْ
فَعَظَّمُوا مَوَاسِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَكَلَّفُوا فِيهَا النَّفَقَةَ .
وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُمْ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى
النَّفَقَةِ فَيُكَلِّفُهُ أَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ ذَلِكَ حَتَّى يَتَدَايَنَ
لِفِعْلِهِ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَفْعَلُ إلَّا ضَحِيَّةً لِجَهْلِهِ وَجَهْلِ
أَهْلِهِ بِفَضِيلَتِهَا ، أَوْ قِلَّةِ مَا بِيَدِهِ فَلَا يَتَكَلَّفُ هُوَ
وَلَا هُمْ يُكَلِّفُونَهُ ذَلِكَ
.
مَعَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
قَالُوا يَتَدَايَنُ لِلْأُضْحِيَّةِ حَتَّى إنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ
بَاعَ أَحَدَهُمَا وَأَخَذَ بِهِ الْأُضْحِيَّةَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُضْطَرًّا
إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ لِتَأْكِيدِ أَمْرِهَا فِي الشَّرْعِ .
فَأَوَّلُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ اتَّخَذُوا
طَعَامًا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْيَوْمِ فَتَشَبَّهُوا بِهِمْ فِي فِعْلِ
النَّيْرُوزِ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْهُمْ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِ
التَّشْوِيشِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَأَهْلِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
مِنْ الزَّلَابِيَةِ وَالْهَرِيسَةِ وَغَيْرِهِمَا كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .
فَمِنْهُمْ
مَنْ يَأْتِي بِالصَّانِعِ يَبِيتُ عِنْدَهُ
فَيَقْلِيهَا لَيْلًا حَتَّى لَا تَطْلُعَ الشَّمْسُ إلَّا وَهِيَ مُتَيَسِّرَةٌ
فَيُرْسِلُونَ مِنْهَا لِمَنْ يَخْتَارُونَ وَيَجْمَعُونَ الْأَقَارِبَ
وَالْأَصْحَابَ وَغَيْرَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ عِيدٌ بَيْنَهُمْ .
ثُمَّ يَأْكُلُونَ فِيهِ الْبِطِّيخَ الْأَخْضَرَ
وَالْخَوْخَ وَالْبَلَحَ إذَا وَجَدُوهُ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُلْزِمُهُ
النِّسَاءُ لِأَزْوَاجِهِنَّ حَتَّى صَارَ ذَلِكَ كَأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَيْهِنَّ ؛
لِأَنَّهُنَّ اكْتَسَبْنَ ذَلِكَ مِنْ مُجَاوَرَةِ الْقِبْطِ وَمُخَالَطَتِهِنَّ
بِهِمْ فَأَنِسْنَ بِعَوَائِدِهِمْ الرَّدِيئَةِ .
ثُمَّ إنَّهُمْ يَفْعَلُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
أَفْعَالًا قَبِيحَةً مُسْتَهْجَنَةً شَرْعًا وَطَبْعًا .
فَمِنْ ذَلِكَ مُضَارَبَتُهُمْ بِالْجُلُودِ وَغَيْرِهَا
بَعْدَ أَكْلِهِمْ كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ .
فَبَعْضُ مَنْ لَهُ رِيَاسَةٌ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ
كُلَّهُ فِي بُيُوتِهِمْ ، أَوْ فِي بَسَاتِينِهِمْ .
وَبَعْضُ مَنْ لَا يَسْتَحْيِ ، أَوْ لَيْسَ لَهُ
رِيَاسَةٌ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ وَالْأَسْوَاقِ
وَعَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ بِمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ
الْمُرُورِ فِيهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَلْ صَارَ ذَلِكَ أَمْرًا مَعْمُولًا
بِهِ عِنْدَهُمْ حَتَّى إنَّ الْوَالِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يَحْكُمُ لِأَحَدٍ
مِمَّنْ زَهَقَتْ نَفْسُهُ بِضَرْبِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، أَوْ سُلِبَ مَا
مَعَهُ كَأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُمْ فِيهِ نَهَبُ الْمُسْلِمِينَ وَاسْتِبَاحَةُ
دِمَائِهِمْ أَعْنِي مَنْ وَجَدُوهُ فِي غَيْرِ بَيْتِهِ .
وَهَذَا الْيَوْمُ شَبِيهٌ بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِي يَوْمِ
كَسْرِ الْخَلِيجِ وَهُمَا خَصْلَتَانِ مِنْ خِصَالِ فِرْعَوْنَ بَقِيَتَا فِي
آلِهِ وَهُمْ الْقِبْطُ فَسَرَى ذَلِكَ مِنْهُمْ إلَى الْمُسْلِمِينَ .
ثُمَّ جَرَّ ذَلِكَ إلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ ، وَهُوَ أَنَّ
بَعْضَ السَّفَلَةِ إذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يُخَبِّئُ لَهُ ذَلِكَ لِأَحَدِ
الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فَيَأْخُذُ جِلْدَةً ، أَوْ غَيْرَهَا فَيَجْعَلُ
فِيهَا حَجَرًا ، أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُمْكِنُ الْقَتْلُ بِهِ فَيَضْرِبُ بِهِ
عَدُوَّهُ عَلَى جِهَةِ اللَّعِبِ فَيَهْلِكُ فَيَذْهَبُ
دَمُهُ هَدَرًا لَا يُؤْخَذُ لَهُ بِثَأْرٍ لِأَجْلِ
هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْفِرْعَوْنِيَّةِ وَلَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَامَّةِ
النَّاسِ بَلْ سَرَى ذَلِكَ إلَى بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَتَرَى
الْمَدَارِسَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا تُؤْخَذُ فِيهَا الدُّرُوسُ أَلْبَتَّةَ .
وَلَا يَتَكَلَّمُونَ فِي مَسْأَلَةٍ بَلْ تَجِدُ بَعْضَ
الْمَدَارِسِ مُغْلَقَةً فَيَلْعَبُونَ فِيهَا حَتَّى لَوْ جَاءَهُمْ الْمُدَرِّسُ
، أَوْ غَيْرُهُ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَأَسَاءُوا الْأَدَبَ فِي حَقِّهِ وَرُبَّمَا
أَخْرَقُوا الْحُرْمَةَ وَأَلْقَوْهُ فِي الْفَسْقِيَّةِ أَوْ قَارَبُوا ذَلِكَ ،
أَوْ صَالَحَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْإِخْرَاقِ بِهِ بِدَرَاهِمَ يَأْخُذُونَهَا
مِنْهُ تَقْرُبُ مِنْ الْغَصْبِ الَّذِي يَبْحَثُونَ فِيهِ فِي مَجَالِسِهِمْ أَنَّهُ
مُحَرَّمٌ إجْمَاعًا فَيَأْكُلُونَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ تِلْقَاءِ
أَنْفُسِهِمْ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَرْعَ ، وَهَذِهِ خِصَالٌ مُسْتَهْجَنَةٌ
مِنْ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يَفْعَلُهَا مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ ، أَوْ مَنْ
يَزْعُمُ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ
وَالْعِلْمِ وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمُشَارَ إلَيْهِ حَصَلَتْ لَهُ غَيْرَةُ أَهْلِ
الدِّينِ كَمَا يَزْعُمُ لَغَيَّرَ عَلَيْهِمْ مَا فَعَلُوهُ مِنْ ذَلِكَ
وَزَجَرَهُمْ عَنْهُ إذْ هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ مَا فَلَوْ
قَالَ امْنَعُوا هَذَا أَنْ يَدْخُلَ الْمَدْرَسَةَ ، أَوْ أَخْرِجُوهُ مِنْهَا ،
أَوْ لَا يَحْضُرُ فِي مَجْلِسِي ، أَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمْ مَا كُنْت أَظُنُّ
أَنَّ فِيك قِلَّةَ هَذَا الْأَدَبِ ، أَوْ أَنْتُمْ لَا تَتَأَدَّبُونَ بِآدَابِ أَهْلِ
الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْمُرُوءَةِ مِنْ الْعَوَامّ ، أَوْ مَنْ لَهُ حَسَبٌ
وَنَسَبٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ ، أَوْ مِثْلُكُمْ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ
طَلَبَةِ الْعِلْمِ ، أَوْ لَا كَثَّرَ اللَّهُ مِنْكُمْ ، أَوْ أَدَّبَ بَعْضَ
أَكَابِرِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَانْزَجَرَ مَنْ دُونَهُ عَنْ
تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَرَى أَنَّ
ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَحُسْنِ التَّأَنِّي وَالتَّوَاضُعِ فِي
الْعِشْرَةِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الرِّيَاسَةِ
وَيَحْصُلُ بِذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ هَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ لَيْسَتْ الرِّيَاسَةُ بِمَا تُسَوِّلُ النُّفُوسُ ، وَإِنَّمَا هِيَ
بِالِاتِّبَاعِ لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ وَآدَابِهَا الْحَسَنَةِ
وَأَخْلَاقِهَا الْجَمِيلَةِ .
وَلَوْ تَأَمَّلَ هَذَا مَنْ وَقَعَ فِيهِ لَحَقَّ لَهُ
الْبُكَاءُ عَلَى مَا أَتَى بِهِ مِنْ قَبِيحِ فِعْلِهِ إذْ أَنَّهُ خَرَجَ
بِذَلِكَ عَنْ أَقَلِّ مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ وَالتَّغْيِيرِ ، وَهُوَ
التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ
التَّغْيِيرَ بِالْيَدِ لِلْأُمَرَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَبِاللِّسَانِ
لِلْعُلَمَاءِ وَمَنْ شَابَهَهُمْ وَبِالْقَلْبِ لِلْعَوَامِّ .
وَهَذَا قَدْ نَزَلَ عَنْ رُتْبَتِهِ الَّتِي هِيَ
التَّغْيِيرُ بِاللِّسَانِ بَلْ تَرَكَ رُتْبَةَ الْعَوَامّ الَّتِي هِيَ
التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ
إيمَانٍ } انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
بَلِيَّةِ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَقُوَّةِ سَرَيَانِ سُمِّهَا فِي
الْقُلُوبِ كَيْفَ أَوْقَعَتْ هَذَا الْعَالِمَ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ
الْعَظِيمَةِ فَتَرَكَ التَّغْيِيرَ وَكَانَ سَهْلًا عَلَيْهِ بِأَدْنَى إشَارَةٍ
كَمَا تَقَدَّمَ وَهَذِهِ خِصَالٌ ذَمِيمَةٌ كَمَا تَرَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { لَعِبُ الْمُؤْمِنِ فِي ثَلَاثٍ } ، وَهَذَا عَرِيَ عَنْهَا
كُلِّهَا .
ثُمَّ إنَّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَامّ
جَمَعُوا فِيمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ مَفَاسِدَ جُمْلَةً مُسْتَهْجَنَةً .
فَمِنْهَا إخْرَاقُ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ بِإِدْخَالِ التَّشْوِيشِ عَلَيْهِمْ وَوُقُوعِ الضَّرَرِ بِهِمْ وَمَنْعِهِمْ
مِنْ قَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ سِيَّمَا إنْ كَانَ عِنْدَ
أَحَدِهِمْ مَرِيضٌ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ يُلَاطِفُهُ بِهِ ، أَوْ مَيِّتٌ
يَحْتَاجُ إلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى تَجْهِيزِهِ ، أَوْ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُ
عَادَتَهُمْ الذَّمِيمَةَ ، أَوْ نَاسٍ لِمَا يُفْعَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَمَا
شَعَرَ بِنَفْسِهِ حَتَّى حَصَلَ بَيْنَهُمْ فَأَوْقَعُوا
بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ الْقَبِيحَةِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى الْخِصَالِ
الْفِرْعَوْنِيَّةِ لَا يُنْتَجُ مِنْهَا إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْقَبَائِحِ .
ثُمَّ انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ مَفْسَدَتَانِ عَظِيمَتَانِ يَأْبَاهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُسْلِمُونَ إحْدَاهُمَا شُرْبُ الْخَمْرِ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ لِلنَّصَارَى لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُهُ جِهَارًا
وَتَعَدَّى ذَلِكَ لِبَعْضِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَبَعْضُهُمْ لَا يَسْتَحْيُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّسَاءِ
يَلْعَبْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ مُخْتَلَطِينَ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا
وَبَنَاتٍ أَبْكَارًا وَيَبُلُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَإِذَا ابْتَلَّ ثَوْبُ
أَحَدِهِمْ بَقِيَ بَدَنُهُ مُتَّصِفًا يَحْكِي النَّاظِرُ أَكْثَرَهُ فَيَقَعُ
بِسَبَبِ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى وَلَا يُعَدُّ مِنْ الْقَبَائِحِ الرَّدِيئَةِ .
وَهَذَا وَمَا شَاكَلَهُ أَعْظَمُ فَسَادًا وَفِتْنَةً
مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِي الْمَوْلِدِ مِمَّا ذُكِرَ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي
الْمَوْلِدِ يَخْتَلِطُونَ لَكِنْ بِثِيَابِهِمْ مُسْتَتِرِينَ بِخِلَافِ
فِعْلِهِمْ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ فَإِنَّهُمْ فِيهِ مُنْهَتِكُونَ ؛
لِأَنَّهُمْ نَزَعُوا فِيهِ ثِيَابَهُمْ وَخَلَعُوا فِيهِ جِلْبَابَ الْحَيَاءِ
عَنْهُمْ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ عُرْيَانًا عَدَا الْمِئْزَرِ وَآخَرَ عَلَيْهِ
خِلْقَةٌ أَوْ قَمِيصٌ رَفِيعٌ لِلْمُحْتَشِمِ أَوْ الْمُحْتَشِمَةِ مِنْهُمْ
فَإِذَا أَتَى عَلَيْهِ الْمَاءُ صَارَ كَأَنَّهُ عُرْيَانًا وَالْغَالِبُ مِنْ
عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ أَنَّ الْجَارَةَ لَا تَسْتَحِي مِنْ الْجَارِ ، وَأَنَّ
الشَّابَّ إذَا تَرَبَّى بَيْنَهُنَّ لَا يَسْتَحْيِينَ مِنْهُ وَإِنْ صَارَ
رَجُلًا وَلَا يَسْتَحْيِينَ مِنْ ابْنِ الْعَمِّ وَلَا مِمَّنْ شَابَهَهُ مِنْ
الْأَقَارِبِ وَكَذَلِكَ أَصْدِقَاءُ الزَّوْجِ وَأَصْدِقَاءُ الْأَبِ
وَالْأَصْهَارُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَتِهِمْ
الذَّمِيمَةِ هَذِهِ أَحْوَالُهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ وَزَادُوا فِي
هَذَا الْيَوْمِ مِنْ رَفْعِ بُرْقُعِ الْحَيَاءِ عَنْهُمْ مَا هُوَ شَنِيعٌ فِي
ذِكْرِهِ
فَكَيْفَ بِرُؤْيَتِهِ فَكَيْفَ بِفِعْلِهِ ، وَهُوَ
أَنَّ ثِيَابَهُمْ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَمْنَعُ النَّظَرَ
لِأَكْثَرِ الْبَدَنِ وَلَا تَمْنَعُ نُعُومَةَ الْبَدَنِ ثُمَّ يَأْخُذُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى جِهَةِ أَنَّهُ يَلْعَبُ مَعَهُ وَيُبَاسِطُهُ فِي هَذَا
الْيَوْمِ فَيَسْتَمْتِعُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَيَتَلَذَّذُونَ بِذَلِكَ
كَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلَّهُمْ نِسَاءٌ لِعَدَمِ حَيَاءِ بَعْضِهِمْ
مِنْ بَعْضٍ وَيَتَصَارَعُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَشْنَعَهُ
عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُ الْإِسْلَامَ وَيَدِينُ بِهِ كَائِنًا مَا كَانَ فَمَنْ
كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى غُرْبَةِ الْإِسْلَامِ وَغُرْبَةِ أَهْلِهِ
وَدُثُورِ أَكْثَرِ مَعَالِمِهِ
.
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عِنْدَ
بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ أَوْ الدِّينِ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْغَالِبِ
إلَّا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا هِيَ
أَسْمَاءٌ وُضِعَتْ عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ .
فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ (
فَصْلٌ ) وَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا الْفِعْلِ
الْقَبِيحِ الَّذِي يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ مِنْ
أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ إنْسَانًا مِنْهُمْ فَيُخَالِفُونَ فِيهِ السُّنَّةَ
أَعْنِي فِي تَغْيِيرِ ظَاهِرِ صُورَتِهِ وَخِلْقَتِهِ فَيَدْخُلُونَ بِذَلِكَ فِي
عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ
الْمُغَيِّرَاتِ وَالْمُغَيِّرِينَ لِخَلْقِ اللَّهِ } ، أَوْ كَمَا قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَيُغَيِّرُونَ وَجْهَهُ بِجِيرٍ ، أَوْ دَقِيقٍ
ثُمَّ يَجْعَلُونَ لَهُ لَحَيَّةً مِنْ فَرْوَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا وَيُلْبِسُونَهُ
ثَوْبًا أَحْمَرَ ، أَوْ أَصْفَرَ لِيُشْهِرُوهُ بِذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ
شُهْرَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبَ ذُلٍّ وَصَغَارٍ ثُمَّ
أَشْعَلَهُ عَلَيْهِ نَارًا } انْتَهَى ثُمَّ يَجْعَلُونَ عَلَى رَأْسِهِ
طُرْطُورًا طَوِيلًا ثُمَّ يُرَكِّبُونَهُ عَلَى حِمَارٍ دَمِيمٍ فِي نَفْسِهِ وَيَجْعَلُونَ
حَوْلَهُ الْجَرِيدَ الْأَخْضَرَ وَشَمَارِيخَ الْبَلَحِ
وَيَجْعَلُونَ فِي يَدِهِ شَيْئًا يُشْبِهُ الدَّفْتَرَ
كَأَنَّهُ يُحَاسِبُ النَّاسَ عَلَى مَا يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُمْ مِنْ
السُّحْتِ وَالْحَرَامِ فَيَطُوفُونَ بِهِ فِي أَزِقَّةِ الْبَلَدِ وَشَوَارِعِهَا
عَلَى الْأَبْوَابِ وَفِي الْأَسْوَاقِ عَلَى أَكْثَرِ الدَّكَاكِينِ وَالْبُيُوتِ
فَيَأْخُذُونَ مِنْهُمْ مَا يَأْخُذُونَ عَلَى شَبَهِ الظُّلْمِ وَالْغَصْبِ
وَالتَّعَسُّفِ وَيَأْكُلُونَهُ وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ آذَوْهُ بِصَبِّ
الْمَاءِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا كَانَ فِيهِ التُّرَابُ فَيُهِينُونَهُ بِالضَّرْبِ
وَالْكَلَامِ الْفَاحِشِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا وَإِنْ رَضِيَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى
سَبِيلِ الْبَسْطِ وَالْمِزَاحِ فَهُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا .
إذْ شَرْطُ الْمِزَاحِ وَالْبَسْطِ أَنْ يَكُونَ حَقًّا
وَمِزَاحُهُمْ قَلَّمَا يَسْلَمُ مِنْ الْكَذِبِ وَذِكْرِ الْفَوَاحِشِ وَمَنْ
تَحَصَّنَ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتِ فَأَغْلَقَ بَابَهُ عَلَيْهِ لِيَسْلَمَ مِنْ
أَذَاهُمْ عَظُمَتْ بَلِيَّتُهُمْ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا كَسَرُوا بَعْضَ
الْأَبْوَابِ الضَّعِيفَةِ وَرُبَّمَا صَبُّوا الْمِيَاهَ الْكَثِيرَةَ فِي
الْبَابِ حَتَّى قَدْ يُمْنَعُ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ وَرُبَّمَا أَخْرَجُوا صَاحِبَ
الْبَيْتِ ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ لَهُمْ مَا يَخْتَارُونَهُ وَإِلَّا أَخْرَقُوا
حُرْمَتَهُ وَزَادُوا فِي أَذِيَّتِهِ وَيَحْتَجُّونَ بِالنَّيْرُوزِ وَيَقُولُونَ
لَيْسَ فِيهِ حَرَجٌ وَلَا أَحْكَامٌ تَقَعُ ، وَأَمَّا الْمُشَالِقُونَ
فَأَكْثَرُ قُبْحًا وَشَنَاعَةً مِنْ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ فَلَا حَاجَةَ
لِذِكْرِهِ لِشُهْرَتِهِ وَمُعَايَنَةِ مَا فِيهِ مِنْ الْمَثَالِبِ
وَالْمَفَاسِدِ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيهِ مِنْ الرَّذَائِلِ وَالْأَفْعَالِ
الْخَسِيسَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِذَوِي الْعُقُولِ فَكَيْفَ بِأَهْلِ الشَّرِيعَةِ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ : وَكُلُّ هَذَا فِي ذِمَّةِ الْعَالِمِ إذَا لَمْ يُنَبِّهْ
عَلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَيَنْهَ عَنْهَا وَيُقَبِّحْهَا وَيُكْثِرْ
التَّشْنِيعَ عَلَى فَاعِلِهَا وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِالْعَالِمِ وَحْدَهُ بَلْ
فِي أَرْبَابِ الْأُمُورِ أَشَدُّ كَالْمُحْتَسِبِ وَالْحَاكِمِ وَمَنْ لَهُ أَمْرٌ
نَافِذٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ رَأَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعَجَزَ
عَنْ التَّغْيِيرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ
ذَلِكَ لِوُلَاةِ الْأُمُورِ ، فَإِنْ غَيَّرُوا وَقَامُوا بِالْوَاجِبِ
عَلَيْهِمْ أُجِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ أَثِمُوا وَقَدْ بَرِئَتْ
ذِمَّةُ مَنْ بَلَّغَهُمْ وَذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ تَغْيِيرَ غَيْرِ
الْحَاكِمِ إنَّمَا هُوَ بِالْكَلَامِ الْحَسَنِ وَالرَّدْعِ الْجَمِيلِ ، أَوْ يُوصَلَ
ذَلِكَ إلَيْهِمْ أَعْنِي وُلَاةَ الْأُمُورِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَوْسِمُ الَّذِي تَشَبَّهُوا فِيهِ بِأَهْلِ
الْكِتَابِ مِنْ الْقَبَائِحِ الْمُسْتَهْجَنَةِ وَالرَّذَائِلِ الْفَظِيعَةِ لَوْ
لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ
وَنَهْبِ الْأَمْوَالِ لَكَانَ فِيهِ مَا فِيهِ فَكَيْفَ وَالْأَمْرُ عَلَى مَا تَرَى
، وَمَا بَقِيَ أَكْثَرُ مِمَّا وُصِفَ فَلَوْ كَانَ مَنْ مَعَهُ عِلْمٌ
يَتَكَلَّمُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَتَحَفَّظُ مِنْهُ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ
الْمَثَالِمُ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى اشْتَهَى عَلَيْهِ بَعْضُ أَوْلَادِهِ شَهْوَةً وَكَانَتْ تِلْكَ
الشَّهْوَةُ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْمَوَاسِمِ الَّتِي لِأَهْلِ الْكِتَابِ
فَامْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ .
وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ لَا
يَأْكُلَ إلَّا بِشَهْوَتِهِمْ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ } وَذَلِكَ
مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَجُوزُ شَرْعًا أَعْنِي بِذَلِكَ أَنْ يُتَحَرَّزَ مِنْ
عَوَائِدِ الْوَقْتِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُمَاكَسَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَجُوزُ
بَيْعُهُ شَرْعًا وَذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ
مَوْسِمَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا مَا يُفْعَلُ فِيهِ فَلَمْ يُجِبْهُمْ فِي
ذَلِكَ لِمَا أَرَادُوهُ فَعَزَمُوا عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَتَرَكَ
إجَابَتَهُمْ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مُوَاقَفَةُ أَهْلِ
الْكِتَابِ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ .
وَالثَّانِي : رُبَّمَا يَرَاهُ أَحَدٌ فَيَقْتَدِي بِهِ
فِي فِعْلِهِ فَحُسِمَ الْبَابُ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ .
فَلَوْ كَانَ
مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ يَمْشُونَ عَلَى هَذَا
الْأُسْلُوبِ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ إلَّا نَادِرًا إذْ أَنَّ
الْعَالِمَ هُوَ الْقُدْوَةُ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ جَيِّدُهُمْ وَرَدِيئُهُمْ
رَاجِعُونَ إلَيْهِ إمَّا بِالطَّوَاعِيَةِ ، أَوْ بِالْجَبْرِ وَفَّقَنَا اللَّهُ
تَعَالَى لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ
فَصْلٌ فِي خَمِيسِ الْعَدَسِ ، وَهُوَ الْمَوْسِمُ
الثَّانِي مِنْ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي شَارَكَهُمْ فِيهَا بَعْضُ
الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ اُتُّخِذَتْ فِيهِ أَشْيَاءُ لَا تَنْبَغِي .
فَمِنْهَا خُرُوجُ النِّسَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
لِشِرَاءِ الْبَخُورِ وَالْخَوَاتِمِ وَغَيْرِهِمَا فَتَجِدُهُنَّ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ فَمَنْ يَمُرُّ بِالسُّوقِ
مِنْ الرِّجَالِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْي فِيهِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ لِزَحْمَةِ
النِّسَاءِ وَقَدْ يُزَاحِمُهُنَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مَا فِي
خُرُوجِهِنَّ وَاجْتِمَاعِهِنَّ بِالرِّجَالِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا
دَوَاءَ لَهَا فِي الْغَالِبِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَنَعَ أَهْلَهُ مِنْ الْخُرُوجِ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوَقَعَ التَّشْوِيشُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ
إلَى الْفِرَاقِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي
أَنْ يُرْفَعَ إلَى السُّلْطَانِ أَمْرُ مَا أَحْدَثَهُ النِّسَاءُ مِنْ
جُلُوسِهِنَّ عِنْدَ الصَّوَّاغِينَ حَتَّى يَمْتَنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى
وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الصَّوَّاغِينَ
دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ
يَفْعَلْنَ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الصَّوَّاغِينَ مَعَ أَنَّهُنَّ كُنَّ فِي ذَلِكَ
الزَّمَانِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ السِّتْرِ الشَّرْعِيِّ وَالدِّينِ
الْمَتِينِ وَكَذَلِكَ الصَّوَّاغُونَ إذْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي خَيْرِ
الْقُرُونِ الْمَشْهُودِ لَهُمْ بِالْخَيْرِيَّةِ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ
الشَّرِيفِ وَنَحْنُ الْيَوْمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِضِدِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
الصَّوَّاغِينَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْبَيَّاعِينَ فِي كُلِّ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ الْغَالِبُ
أَنَّ النِّسَاءَ هُنَّ اللَّاتِي يُبَاشِرْنَ ذَلِكَ كُلَّهُ بَلْ تَجِدُ
الْمَرْأَةَ فِي الْغَالِبِ تَشْتَرِي لِزَوْجِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ
لِبَاسِهِ لِنَفْسِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ
يَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ لِأَرْبَابِ الْأُمُورِ حَتَّى يَمْنَعُوهُنَّ مِنْ ذَلِكَ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَمَا أَحْدَثُوهُ فِيهِ
اسْتِعْمَالُ الْبَخُورِ لَهُنَّ وَلِغَيْرِهِنَّ مِنْ
الرِّجَالِ فَيُبَخِّرُونَ بِهِ ثُمَّ يَتَخَطَّوْنَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ
يَنْفُضُونَ عَلَيْهِ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يَصْرِفُ عَنْهُمْ الْعَيْنَ وَالْكَسَلَ
وَالْوَعْكَةَ مِنْ الْجَسَدِ وَيَتَكَلَّمُ مِنْ يَرْقِي الْبَخُورَ بِكَلَامٍ
لَا يُعْرَفُ وَلَعَلَّهُ كُفْرٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ فِيهِ الْعَدَسَ
الْمُصَفَّى وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَالْبِدْعَةُ تَحَرِّيهِمْ لَهُ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ الْمُعَيَّنِ مُوَافَقَةً لِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَوَاسِمِهِمْ فَمَنْ
لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْهُمْ تَشَوَّشَ هُوَ وَأَهْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ ذَلِكَ صَبْغُهُمْ فِيهِ الْبَيْضَ أَلْوَانًا
لِأَوْلَادِهِمْ وَغَيْرِهِمْ وَتَعَدَّى ذَلِكَ فِي الْكَثْرَةِ إلَى أَنْ صَارَ
الْمُقَامِرُونَ وَغَيْرُهُمْ يَلْعَبُونَ بِهِ جِهَارًا وَلَا أَحَدَ فِيمَا
أَعْلَمُ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ .
وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاؤُهُمْ فِيهِ السَّلَاحِفَ
وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَطْرُدُ الشَّيْطَانَ مِنْ الْبَيْتِ الَّذِي تَكُونُ
فِيهِ وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ الشَّيْطَانُ لَا يُطْرَدُ بِالِابْتِدَاعِ ،
وَإِنَّمَا يُطْرَدُ بِالِاتِّبَاعِ فَكُلُّ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ ذَلِكَ ،
وَمَا أَشْبَهَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُسْتَهْجَنَةِ وَالْعَوَائِدِ الذَّمِيمَةِ
وَفِيهِ تَعْظِيمُ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَغْبِيطُهُمْ بِدِينِهِمْ
الْبَاطِلِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا رَأَوْا الْمُسْلِمِينَ يَتَشَبَّهُونَ بِهِمْ
أَعْنِي فِي تَعْظِيمِ مَوَاسِمِهِمْ يَقْوَى ظَنُّهُمْ بِأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ
هُوَ الْحَقُّ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
هَذِهِ الثُّلْمَةِ مَا أَشَدَّ قُبْحَهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قُبْحُ مَا أَحْدَثُوهُ فِي
النَّيْرُوزِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ مِثْلِهِ هُنَا إذْ الْمَعْنَى فِيهِمَا
وَاحِدٌ ، وَهُوَ تَعْظِيمُ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَارْتِكَابِ الْبِدَعِ وَمُخَالَفَةِ
السُّنَنِ .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الْيَوْمِ الَّذِي يَزْعُمُونَ
أَنَّهُ سَبْتُ النُّورِ .
وَهُوَ لَعَمْرُ اللَّهِ بِضِدِّ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ
أَلْيَقُ لَيْتَ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي عَوَامِّ النَّاسِ لَكِنْ تَجِدُ بَعْضَ
الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى طَرَفِ عِلْمٍ ، أَوْ صَلَاحٍ ، أَوْ هُمَا
مَعًا يُسَمُّونَهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ وَذَلِكَ تَعْظِيمٌ مِنْهُمْ لَهُ فِي الظَّاهِرِ
وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ الذَّمِيمَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا
وَفِي تَشَبُّهِهِمْ بِهِمْ فِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لِمَوَاسِمِهِمْ وَتَغْبِيطٌ
لَهُمْ بِدِينِهِمْ فَيَظُنُّونَ أَنَّهُمْ عَلَى حَقٍّ بِسَبَبِ تَعْظِيمِ
الْمُسْلِمِينَ لِمَوَاسِمِهِمْ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ
لَهُمْ فِي أَفْعَالِهِمْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ
، وَمَا فِيهِ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالرَّذَائِلِ الْمُتَعَدِّدَةِ وَفِي ذَلِكَ
غُنْيَةٌ عَنْ إعَادَةِ مِثْلِهِ هُنَا
.
لَكِنْ نُشِيرُ إلَى بَعْضِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا
الْيَوْمِ الْخَاصِّ ، وَمَا يُظْهِرُونَ فِيهِ مِنْ الْعَوْرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلشَّرْعِ
الشَّرِيفِ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي سَحَرِ ذَلِكَ
الْيَوْمِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَجْمَعُونَ فِي أَمْسِهِ وَرَقَ الشَّجَرِ عَلَى
أَنْوَاعِهَا حَتَّى الرَّيْحَانَ وَغَيْرَهُ فَيُبِيتُونَهُ فِي إنَاءٍ فِيهِ
مَاءٌ وَيَغْتَسِلُونَ بِهِ ثُمَّ يَأْخُذُونَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ غَسْلِهِمْ
وَيُلْقُونَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَفِي مَفْرِقِ الطَّرِيقِ
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ عَنْهُمْ الْأَمْرَاضَ وَالْأَسْقَامَ
وَالْكَسَلَ وَالْعَيْنَ وَالسِّحْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ مَنْ يَمُرُّ بِهِ
تُصِيبُهُ تِلْكَ الْعِلَلُ وَيَنْتَقِلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ إلَى مَنْ تَخَطَّاهُ
مِنْ الْمَارِّينَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ .
وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ قَصْدُهُمْ
لِذَلِكَ مُحَرَّمًا إذْ فِيهِ قَصْدُ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ
لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ
الْمُؤْمِنِ حُفْرَةً أَوْقَعَهُ اللَّهُ فِيهَا } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } انْتَهَى فَأَوَّلُ مَا يَفْعَلُونَهُ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ قَصْدُهُمْ الْمُحَرَّمُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } انْتَهَى
وَهَؤُلَاءِ قَدْ قَصَدُوا الضَّرَرَ لِلْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ
يَمُرُّ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ أَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّ فِي ذَلِكَ
أَذًى وَمَعَ ذَلِكَ يَرْمُونَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لِيُصِيبَهُمْ وَقَدْ
رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ { سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النُّشْرَةِ فَقَالَ هُوَ
مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } انْتَهَى عَلَى أَنَّهُ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ الرُّخْصَةُ فِي النُّشْرَةِ بِوَرَقِ الْأَشْجَارِ لَمَّا أَنْ سُئِلَ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا بَأْسَ بِهِ فَمَعْنَاهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَرَقَ فِي
مَاءٍ يَغْمُرُهُ فَإِذَا أَصْبَحَ أَخَذَهُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَبَلَّ
يَدَهُ مِنْهُ وَمَشَّاهَا عَلَى بَدَنِهِ هَذَا هُوَ النُّشْرَةُ الْمَعْرُوفَةُ
عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَأَمَّا الْغُسْلُ بِهِ فَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا أَضَافُوا
إلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا وَهِيَ
لَا تَجُوزُ فِي الشَّرْعِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْمُرُوءَاتِ وَمِنْ ذَلِكَ
اكْتِحَالُهُمْ فِي صَبِيحَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِالسَّذَابِ أَوْ الْكُحْلِ
الْأَسْوَدِ ، أَوْ غَيْرِهِمَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ اكْتَحَلَ مِنْ ذَلِكَ
يَكْتَسِبُ نُورًا زَائِدًا فِي بَصَرِهِ يَرَى بِهِ الْخِشَاش فِي طُولِ سَنَتِهِ
وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَذَلِكَ تَحَكُّمٌ مِنْهُمْ وَالشَّاهِدُ
يُكَذِّبُ ذَلِكَ حِسًّا وَمَعْنًى
.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ شُرْبِ الدَّوَاءِ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ شُرْبَ الدَّوَاءِ فِيهِ لَيْسَ كَغَيْرِهِ
مِنْ الْأَيَّامِ وَفِي ذَلِكَ تَعْظِيمٌ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ
ذَلِكَ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَشْتَكِي بِحَكَّةٍ
فَإِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ عَلَى
شَاطِئِ النِّيلِ وَيَفْعَلُونَ أَفْعَالًا قَبِيحَةً يَسْتَحْيِ مِنْ فِعْلِهَا
أَهْلُ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ وَيَعِيبُونَ عَلَى فَاعِلِهَا وَيَنْسُبُونَهُ إلَى
عَدَمِ الْحَيَاءِ وَالْغَيْرَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ
يَتَعَرَّيْنَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ حَتَّى إنَّهُنَّ لَا يُبْقِينَ عَلَيْهِنَّ
مِنْ السُّتْرَة بِالثِّيَابِ شَيْئًا لَا مِئْزَرًا وَلَا سَرَاوِيلَ ثُمَّ
يَدَّهِنَّ بِالْكِبْرِيتِ وَيَقْعُدْنَ فِي الشَّمْسِ أَكْثَرَ يَوْمِهِنَّ عَلَى
تِلْكَ الْحَالِ وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِنَّ بَرًّا وَبَحْرًا وَلَا
يَسْتَحِينَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بَعْضُ الرِّجَالِ أَيْضًا بِمَكَانٍ آخَرَ ،
فَإِنْ كَانَ آخِرُ النَّهَارِ دَخَلُوا فِي الْبَحْرِ وَاغْتَسَلُوا فِيهِ ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ يَلْبَسُونَ ثِيَابَهُمْ وَيَسْتَتِرُونَ كَأَنَّ كَشْفَ الْعَوْرَةِ
وَالنَّظَرَ إلَيْهَا مِنْ كِلَيْهِمَا مُبَاحٌ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَنْ
يَخْرُجُ إلَى ظَاهِرِ الْبَلَدِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ دَخَلَ الْحَمَّامَ فِي
الْغَالِبِ فَاغْتَسَلَ فِيهِ ، أَوْ اغْتَسَلَ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ
يَزْعُمُونَ أَنَّ الْغُسْلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نُشْرَةٌ حَيْثُ كَانَ وَكُلُّ
مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ مَوَاسِمِهِمْ الْمُسْتَهْجَنَةِ لَيْسَ فِيهَا
أَقْبَحُ وَلَا أَشْنَعُ مِنْ هَذَا الْمَوْسِمِ الْمَذْكُورِ إذْ كُلُّ مَا
ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَلَا عَدَمُ الْحَيَاءِ مِنْ النَّظَرِ
إلَيْهَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ جَرَى فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ مَا جَرَى لَكِنْ
عَلَى عَوْرَاتِهِمْ شَيْءٌ مِنْ السُّتْرَةِ بِخِلَافِ كَشْفِهِمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ .
وَقَرِيبٌ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ
مَا يَفْعَلُونَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي الْمَنَاشِرِ أَعْنِي الْمَوَاضِعَ الَّتِي
يَغْسِلُونَ فِيهَا الثِّيَابَ فَيَجْتَمِعُ فِيهَا نِسَاءٌ وَرِجَالٌ وَأَجَانِبُ .
وَالنِّسَاءُ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ قِصَرِ الثِّيَابِ
فَكَأَنَّ الْمَرْأَةَ هُنَاكَ مَعَ زَوْجِهَا بَلْ هَذَا أَشَدُّ مِمَّا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُفْعَلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ
، وَمَا
تَقَدَّمَ يُفْعَلُ مَرَّةً فِي السَّنَةِ .
وَأَمَّا اجْتِمَاعُهُمْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي
يُسَمُّونَهُ بِالطَّمِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ حَالِهَا وَتَفْصِيلِ
أَمْرِهَا إذْ أَنَّ الْأَقْلَامَ تُنَزَّهُ عَنْ كَتْبِ ذَلِكَ .
وَيُنَزَّهُ أَهْلُ الْعِلْمِ عَنْ ذِكْرِ مَا يُفْعَلُ
فِيهَا بَيْنَهُمْ .
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ تَعَدَّدَتْ مَوَاضِعُهَا وَكَثُرَتْ .
وَقَلَّ مَنْ تَحْصُلُ لَهُ حَمِيَّةُ الْإِسْلَامِ
فَيُغَيِّرُ لِمَا تَدَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَوْ بِالْكَلَامِ
وَإِشَاعَةِ مَا فِيهَا مِنْ الْقُبْحِ وَالرَّذَائِلِ لَعَلَّ أَنْ يَتَنَبَّهَ
لِذَلِكَ بَعْضُ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيُغَيِّرُونَ ذَلِكَ
أَوْ بَعْضَهُ إلَّا أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ كَأَنَّ الْجَمِيعَ
شَرِبُوا مِنْ مَنْهَلٍ وَاحِدٍ
.
فَمَنْ كَانَ بَاكِيًا فَلْيَبْكِ عَلَى ذَهَابِ
أَكْثَرِ أَعْلَامِ الْإِسْلَامِ لِكَثْرَةِ مَا يَحْدُثُ فِيهِ وَمَنْ يَسْكُتُ
عَمَّا أُحْدِثَ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
فَصْلٌ فِي مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ فِي مُوَافَقَةِ النَّصَارَى فِي
مَوْلِدِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ أَنَّهُ أَخَفُّ مِمَّا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
لَكِنَّ اتِّخَاذَ ذَلِكَ عَادَةً بِدْعَةٌ ، وَهُوَ
أَنَّهُنَّ يَعْمَلْنَ صَبِيحَةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَصِيدَةً لَا بُدَّ مِنْ
فِعْلِهَا لِكَثِيرٍ مِنْهُنَّ وَيَزْعُمْنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا ، أَوْ
يَأْكُلْ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ الْبَرْدُ فِي سَنَتِهِ
تِلْكَ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا دِفْءٌ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ
مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ وَمَعَ كَوْنِ فِعْلِهَا بِدْعَةً فَالشَّاهِدُ يُكَذِّبُ
مَا افْتَرَيْنَهُ مِنْ قَوْلِهِنَّ الْبَاطِلَ وَالزُّورَ فَكَأَنَّهُنَّ
يَشْرَعْنَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِنَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ
فَصْلٌ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا
يَفْعَلُونَهُ فِي مَوْسِمِ الْغِطَاسِ
.
وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي تَزْعُمُ النَّصَارَى أَنَّ
مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ اغْتَسَلَتْ فِيهِ مِنْ النِّفَاسِ .
فَاِتَّخَذَ النَّصَارَى ذَلِكَ سُنَّةً لَهُمْ فِي
كَوْنِهِمْ يَغْتَسِلُونَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ وَذَكَرُهُمْ
وَأُنْثَاهُمْ حَتَّى الرَّضِيعُ فَتَشَبَّهَ بِهِمْ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي
كَوْنِهِمْ يَتَّخِذُونَ ذَلِكَ مَوْسِمًا .
أَعْنِي أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ فِيهِ النَّفَقَةَ
وَيُدْخِلُونَ فِيهِ السُّرُورَ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بِأَشْيَاءَ يَفْعَلُونَهَا
فِيهِ .
، وَهَذَا
فِيهِ مِنْ التَّعْظِيمِ لِمَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا سَبَقَ فِي غَيْرِهِ
فَأَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ وَبَعْضُ مَنْ انْغَمَسَ فِي الْجَهْلِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ يَغْطِسُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ كَمَا يَغْطِسُونَ .
وَمِنْ أَشْنَعِ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ يَزِفُّونَ فِيهِ بَعْضَ
عِيدَانِ الْقَصَبِ وَعَلَيْهَا الشُّمُوعُ الْمَوْقُودَةُ وَالْفَاكِهَةُ
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ
.
وَبَعْضُهُمْ يُهْدِي ذَلِكَ لِلْقَابِلَةِ
وَيَتَهَادَوْنَ فِيهِ بِأَطْنَانِ الْقَصَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَصْلٌ فِي عِيدِ الزَّيْتُونَةِ وَمِنْ ذَلِكَ بَعْضُ
مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ فِي أَحَدِ أَعْيَادِ الْقِبْطِ الَّذِي
يُسَمُّونَهُ عِيدَ الزَّيْتُونَةِ فَتَخْرُجُ النَّصَارَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
فِي مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ الْمَطَرِيَّةُ إلَى بِئْرٍ هُنَاكَ تُسَمَّى بِئْرَ الْبَلْسَمِ
وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ
.
فَيَجْتَمِعُ إلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي
الْغَالِبِ جَمْعٌ كَثِيرٌ مِنْ الْقِبْطِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بِلَادٍ كَثِيرَةٍ
يَأْتُونَ إلَيْهَا لِلْغُسْلِ مِنْ مَائِهَا .
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَيُهْرَعُونَ
إلَيْهِ كَمَا تَفْعَلُ النَّصَارَى وَيَغْتَسِلُونَ كَغُسْلِهِمْ وَيَنْكَشِفُونَ
لِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .
وَهَذَا فِيهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ كَشْفِ
الْعَوْرَاتِ وَتَعْظِيمِ مَوَاسِمِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَزِيدُ هَذَا أَنَّهُمْ يُسَافِرُونَ إلَيْهَا مِنْ
الْمَوَاضِعِ الْبَعِيدَةِ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا وَيَجْتَمِعُونَ
هُنَاكَ وَيَنْهَتِكُونَ فِيهِ كَغَيْرِهِ .
وَفِي اجْتِمَاعِهِمْ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ .
لَكِنْ فِي هَذَا زِيَادَةُ مَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ
نَظَرُ الذِّمِّيَّةِ إلَى جَسَدِ الْمُسْلِمَةِ ، وَهُوَ حَرَامٌ وَقَدْ مَنَعَهُ
الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
هَذَا وَإِنْ كَانَ الْغُسْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ
مُبَاحًا فِعْلُهُ لَكِنْ فِي غَيْرِ وَقْتِ اجْتِمَاعِهِمْ وَفِي التَّلْوِيحِ
مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ
.
فَصْل فِي بَعْضِ عَوَائِدَ اتَّخَذَهَا بَعْضُ
النِّسَاءِ الْمُسْلِمَاتِ آلَ الْأَمْرُ فِيهَا إلَى الْإِخْلَالِ بِبَعْضِ الْفَرَائِضِ
فَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ إفْطَارِهِنَّ فِي شَهْرِ
رَمَضَانَ الْمُعَظَّمِ قَدْرُهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَتْ مُبْدِنَةً وَتَخَافُ
أَنَّهَا إنْ صَامَتْ اخْتَلَّ عَلَيْهَا حَالُ سِمَنِهَا فَتَفْطُرُ لِأَجْلِ
ذَلِكَ وَكَذَلِكَ بَعْضُ الْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ يُفْطِرُهُنَّ أَهْلُهُنَّ
خِيفَةً عَلَى تَغَيُّرِ أَجْسَامِهِنَّ عَنْ الْحُسْنِ وَالسِّمَنِ وَكَذَلِكَ
مَنْ كَانَتْ مِنْهُنَّ قَدْ عَقَدَ عَلَيْهَا زَوْجُهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا
بَعْدُ فَتَتْرُكُ الصَّوْمَ خِيفَةً عَلَى بَدَنِهَا أَنْ يَنْقُصَ وَكُلُّ هَذَا
مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ وَعَلَى مَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ لِكُلِّ يَوْمٍ
أَفْطَرَهُ وَالْإِثْمُ وَالْكَفَّارَةُ فِي ذَلِكَ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
وَهَذَا الْفَعْلُ الْقَبِيحُ مَشْهُورٌ بَيْنَهُنَّ لَا
جَرَمَ أَنَّهُنَّ لَمَّا خَالَفْنَ الشَّرْعَ وَارْتَكَبْنَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ بَيْنَهُمْ تَوْفِيقًا فِي
الْغَالِبِ إذْ التَّوْفِيقُ إنَّمَا يَنْتُجُ عَنْ الِامْتِثَالِ وَذَلِكَ
بَعِيدٌ مِنْهُنَّ فِي الْغَالِبِ فَتَجِدُ أَكْثَرَهُنَّ يَشْتَكِينَ وَيَبْكِينَ
وَيُكَابِدْنَ الْهُمُومَ وَكَذَلِكَ أَزْوَاجُهُنَّ وَيَأْكُلْنَ بِالْفَرْضِ
بَعْدَ الْمُشَاجَرَةِ أَوْ الْوُقُوفِ إلَى الْحُكَّامِ أَوْ هُمَا مَعًا
وَكَشْفُ السِّتْرِ عَنْهُنَّ بِدُخُولِ الْأَجَانِبِ بَيْنَهُمَا مِنْ جِنْدَارٍ
وَوَكِيلٍ وَأَبٍ وَقَرِيبٍ وَجَارٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ الْغَالِبَ مِنْهُنَّ
يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا إلَى مُنْتَهَاهُ ثُمَّ يَتَعَلَّقُ خَاطِرُ كُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَفْعَلُونَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ الْيَوْمَ
بَيْنَهُمْ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ الْمُحَرَّمِ الْبَيِّنِ التَّحْرِيمِ الَّذِي
يَسْتَحِي الْمَرْءُ أَنْ يَحْكِيَهُ فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ الْمُسْلِمُونَ ثُمَّ
يَرُدُّهَا إلَى الْعِصْمَةِ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ
ثُمَّ يَرْجِعْنَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا اعْتَدْنَهُ مِنْ الْمُضَارَرَةِ
وَالْمُضَارَبَةِ وَسُوءِ الْعِشْرَةِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ
ذَلِكَ لَا يُحِلُّهَا لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَهُمَا آثِمَانِ مَا دَامَا عَلَى
تِلْكَ الْحَالِ وَكَذَلِكَ مَنْ عَقَدَ لَهُمَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ انْتَهَى
كَلَامُهُ بَعْضُهُ بِاللَّفْظِ وَبَعْضُهُ بِالْمَعْنَى جَزَاءً وِفَاقًا وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ وَالرَّذَالَةِ إلَّا شَيْءٌ وَاحِدٌ لَكَانَ
يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَهْرُبَ مِنْهُ إذْ أَنَّ ذَلِكَ عُقُوبَةٌ
مُعَجَّلَةٌ لَا مُؤَخَّرَةٌ وَهُوَ أَنَّ التَّجْرِبَةَ قَدْ مَضَتْ عَلَى أَنَّ
كُلَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ سُلِّطَ عَلَيْهِ الْفَقْرُ الْمُدْقِعُ فِي الْوَقْتِ
وَفِي ذَلِكَ مَقْنَعٌ لِمَنْ خَافَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا وَأَمَّا خَوْفُ
الْآخِرَةِ فَذَلِكَ لِلْمُفْلِحِينَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْمَفَاسِدِ
الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تَحِلُّ بِذَلِكَ إجْمَاعًا وَذَلِكَ أَنَّ
الْغَالِبَ عِنْدَهُنَّ أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَتَحَلَّلْنَ بِهِ رَجُلٌ
مَعْلُومٌ فَتَجِيءُ الْمَرْأَةُ تَتَحَلَّلُ بِهِ ثُمَّ تَأْتِي ابْنَتَهَا
تَتَحَلَّلُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ أُمُّهَا وَجَدَّتُهَا وَهِيَ لَا تَحِلُّ بِذَلِكَ
إجْمَاعًا وَلَا يَحِلُّ لِلْمُحَلِّلِ وَطْءُ ابْنَةِ مَنْ تَحَلَّلَتْ بِهِ
وَلَا أُمِّهَا وَلَا جَدَّتِهَا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ .
فَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا
الْمَعْنَى وَمَا أَشْبَهَهُ وَيُشَنِّعُ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ وَيُقَبِّحُ
فِعْلَهُ وَيُشَنِّعُ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَأْمُرُ مَنْ حَضَرَهُ
بِإِشَاعَتِهَا لَانْحَسَمَتْ هَذِهِ الْمَادَّةُ وَقَلَّ فَاعِلُهَا
فَصْلٌ فِي صَوْمِ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا
اتَّخَذَهُ بَعْضُهُنَّ مِنْ أَنَّهَا إذَا حَاضَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَصُومُ
وَلَا تُفْطِرُ ثُمَّ لَا تَقْضِي تِلْكَ الْأَيَّامَ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا
حَائِضًا وَيُعَلِّلُ بَعْضُهُنَّ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّوْمَ يَصْعُبُ عَلَيْهِنَّ
فِي حَالِ كَوْنِ النَّاسِ مُفْطِرِينَ
.
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهَا
آثِمَةٌ وَأَنَّ قَضَاءَ مُدَّةِ الْحَيْضِ عَلَيْهَا وَاجِبَةٌ وَأَنَّ
التَّوْبَةَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا
.
وَمِنْهُنَّ مَنْ تُفْطِرُ إذَا جَاءَهَا الْحَيْضُ
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَتَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ وُجُودِ تَمَادِي الدَّمِ بِهَا
وَيَزْعُمْنَ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي لَا يُصَامُ فِيهِ إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثَةُ
الْأَيَّامُ الْأُوَلُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَالصِّيَامُ فِيهِ وَاجِبٌ وَيُجْزِئُ .
وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ
مُحَرَّمٌ وَأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهَا وَاجِبٌ وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ .
وَمِنْهُنَّ مَنْ تَصُومُ مُدَّةَ الْحَيْضِ
وَتَقْضِيهَا بَعْدَهُ وَفَاعِلَةُ ذَلِكَ مِنْهُنَّ آثِمَةٌ فِي صَوْمِهَا فِي
أَيَّامِ حَيْضِهَا مُصِيبَةٌ فِي الْقَضَاءِ بَعْدَهُ وَمِنْهُنَّ مَنْ تُفْطِرُ فِي
أَيَّامِ الْحَيْضِ لَكِنَّهُنَّ يُجَوِّعْنَ أَنْفُسَهُنَّ فِيهِ فَتُفْطِرُ
إحْدَاهُنَّ عَلَى التَّمْرَةِ وَنَحْوِهَا وَيَزْعُمْنَ أَنَّ لَهُنَّ فِي ذَلِكَ
الثَّوَابَ ، وَهَذَا بِدْعَةٌ وَهِيَ آثِمَةٌ فِي التَّدَيُّنِ بِذَلِكَ
وَإِنَّمَا حَالُهَا فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا فِي رَمَضَانَ كَحَالِهَا فِي
غَيْرِهِ مِنْ الشُّهُورِ وَالْعَجَبُ الْعَجِيبُ فِي صَوْمِ بَعْضِهِنَّ فِي
أَيَّامِ حَيْضَتِهَا مُحَافَظَةً مِنْهَا عَلَى صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى
زَعْمِهِنَّ ثُمَّ إنَّ بَعْضَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ مِنْهُنَّ
يَتْرُكُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ إلَّا أَنَّهُنَّ
اتَّخَذْنَ ذَلِكَ عَادَةً حَتَّى لَوْ أَمَرْت إحْدَاهُنَّ بِالصَّلَاةِ يَعِزُّ
عَلَيْهَا ذَلِكَ وَتَقُولُ أَعَجُوزًا رَأَيْتنِي فَكَأَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ
عَلَى الشَّابَّةِ وَالْفَرْضُ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ طَعَنَ مِنْهُنَّ
فِي السِّنِّ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى
وَإِيَّاكَ أَيَّ نِسْبَةٍ بَيْنَ الِاحْتِيَاطِ فِي
الصَّوْمِ حَتَّى صَامَتْ أَيَّامَ حَيْضَتِهَا وَبَيْنَ تَرْكِ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَبِهَا قِوَامُهُ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَوْضِعُ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ } وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ مُتَعَمِّدًا وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذَلِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
فَصْلٌ فِي الْوَطْءِ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ وَمِنْهُنَّ
مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي يَمْنَعُ الرَّجُلَ مِنْ الْوَطْءِ مَعَهُ
إنَّمَا هُوَ الثَّلَاثَةُ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَجَائِزٌ لَهُ
أَنْ يَطَأَ فِيهِ .
وَهَذَا افْتِرَاءٌ وَكَذِبٌ عَلَى الشَّرِيعَةِ
الْمُطَهَّرَةِ .
وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ الصُّفْرَةَ
وَالْكُدْرَةَ وَالْغَبَرَةَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي تِلْكَ
الْحَالِ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ أَيْضًا .
وَمِنْهُنَّ مَنْ يَزْعُمُ جَوَازَ وَطْءِ الْمَرْأَةِ
إذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ وَقَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ ، وَهَذَا شَنِيعٌ
مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْغُسْلِ وَهِيَ
قَوْله تَعَالَى { حَتَّى يَطْهُرْنَ } أَيْ يَنْقَطِعُ عَنْهُنَّ الدَّمُ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ أَيْ اغْتَسَلْنَ بِالْمَاءِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَبَاحَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ وَطْأَهَا فَقَالَ تَعَالَى { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ
اللَّهُ }
فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ النِّسْوَةِ مِنْ
أَسْبَابِ السِّمَنِ وَمِنْهُنَّ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا مُسْتَهْجَنًا قَبِيحًا جَمَعَ
بَيْنَ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الرَّذَائِلِ : أَحَدُهُمَا : مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
الثَّانِي : إضَاعَةُ الْمَالِ .
الثَّالِثُ : الصَّلَاةُ بِالنَّجَاسَةِ .
الرَّابِعُ : كَشْفُ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ
شَرْعِيَّةٍ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ اتَّخَذَ عَادَةً مَذْمُومَةً وَهِيَ
أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أَتَتْ إلَى فِرَاشِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تَعَشَّتْ
وَمَلَأَتْ جَوْفَهَا فَتَأْخُذُ عِنْدَ دُخُولِهَا الْفِرَاشَ لُبَابَ الْخُبْزِ فَتُفَتِّتُهُ
مَعَ جُمْلَةِ حَوَائِجَ أُخَرَ فَتَبْتَلِعُ ذَلِكَ بِالْمَاءِ إذْ أَنَّهَا لَا
تَقْدِرُ عَلَى أَكْلِهِ لِكَثْرَةِ شِبَعِهَا الْمُتَقَدِّمِ وَرُبَّمَا تُعِيدُ
ذَلِكَ بَعْدَ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقَدْ وَقَعَ النَّهْيُ
عَنْ الزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَرْءُ وَهِيَ
قَدْ زَادَتْ فِي عَشَائِهَا حَتَّى لَمْ تَتْرُكْ مَوْضِعًا لِسُلُوكِ الْمَاءِ
فِي الْغَالِبِ مِمَّنْ يُرِيدُ السِّمَنَ مِنْهُنَّ ، وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى زِيَادَةٍ .
وَذَلِكَ مِمَّا يُحْدِثُ الْأَمْرَاضَ وَالْعِلَلَ
وَالْأَسْقَامَ ضِدَّ مُرَادِهَا
.
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ وَلَدَهُ أَكَلَ وَزَادَ عَلَى أَكْلِهِ الْمُعْتَادِ فَمَرِضَ
لِأَجْلِ ذَلِكَ فَقَالَ وَالِدُهُ لَوْ مَاتَ مَا صَلَّيْت عَلَيْهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا
أَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ قَدْ تَسَبَّبَ فِي قَتْلِ نَفْسِهِ وَمَنْ لَهُ فَضْلٌ
وَدِينٌ لَا يُصَلِّي عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَهَذَانِ وَجْهَانِ أَعْنِي
فِيمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُخَالَفَةَ الشَّرْعِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ، أَمَّا
مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ فَلِمَا خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ
عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الَّذِي بُعِثْت فِيهِ
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لَا ثُمَّ يَظْهَرُ فِيهِمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا
يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ
وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ } انْتَهَى .
وَأَمَّا إضَاعَةُ الْمَالِ فَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ
أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الشِّبَعِ مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ إذْ أَنَّهُ يُفْعَلُ
لِغَيْرِ فَائِدَةٍ شَرْعِيَّةٍ
.
وَقَدْ أَدَّى الْأَمْرُ بِسَبَبِ تَعَاطِي السِّمَنِ
إلَى أَمْرٍ شَنِيعٍ فَظِيعٍ وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَأْكُلْنَ مَرَارَةَ
الْآدَمِيِّ لِأَجْلِ أَنَّ مَنْ اسْتَعْمَلَهَا مِنْهُنَّ يُكْثِرُ أَكْلَهَا
وَقَلَّ أَنْ تَشْبَعَ فَتَسْمَنُ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى زَعْمِهِنَّ .
وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَخْتَلِفُ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ
فِي تَحْرِيمِهِ أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ بَعْضَهُنَّ يَعْبِلْنَ بِكَثْرَةِ
السَّمْنِ وَالشَّحْمِ حَتَّى أَنَّ يَدَهَا لَتَقْصُرُ عَنْ الْوُصُولِ لِغَسْلِ
مَا عَلَى الْمَحَلِّ مِنْ النَّجَاسَةِ لِأَجْلِ مَا تَسَبَّبَتْ فِيهِ مِنْ عَبَالَةِ
الْبَدَنِ وَهُنَّ فِي ذَلِكَ عَلَى قِسْمَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنْ تَكُونَ فَقِيرَةً لَا تَقْدِرُ
عَلَى شِرَاءِ مَنْ يُزِيلُ ذَلِكَ عَنْهَا فَتُصَلِّي بِالنَّجَاسَةِ إذْ
أَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى زَوَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ الْوَجْهُ الرَّابِعُ أَنْ
تَقْدِرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ مِنْهَا وَيُزِيلُهُ عَنْهَا
فَتَقَعُ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَقَدْ لَا تَكْفِيهَا الْجَارِيَةُ الْوَاحِدَةُ فَتَحْتَاجُ
إلَى زِيَادَةٍ فَتَزِيدُ الْمُحَرَّمَاتُ بِكَثْرَةِ مَنْ يَكْشِفُ عَوْرَتَهَا
لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهِيَ لَوْ صَلَّتْ وَالنَّجَاسَةُ مَعَهَا
لَكَانَ أَخَفَّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَتِهَا ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ
مُخْتَلَفٌ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ مُؤَكَّدٌ أَمْرُهُ
ثُمَّ إنَّهُنَّ يَرْتَكِبْنَ مَعَ ذَلِكَ أَمْرًا قَبِيحًا مُحَرَّمًا أَقْبَحَ
وَأَشْنَعَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ اعْتَدْنَ عَلَى مَا يَزْعُمْنَ
أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَنَظَّفُ مِنْ النَّجَاسَةِ حَتَّى تُدْخِلَ يَدَهَا فِي
فَرْجِهَا فَتُنَظِّفُ مَا تَصِلُ إلَيْهِ بِالْمَاءِ مَعَ يَدِهَا
وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا ثُمَّ أَنَّهَا إنْ
عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ لِقِصَرِ يَدِهَا كَمَا سَبَقَ وَتَوَلَّى غَيْرُهَا مِنْهَا
ذَلِكَ احْتَاجَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي دَاخِلِ فَرْجِهَا لِيَغْسِلَ لَهَا مَا
هُنَاكَ مِنْ الْأَذَى ، وَهَذَا قُبْحٌ عَلَى قُبْحٍ وَذَمٌّ عَلَى مَذْمُومَاتٍ
وَهُوَ مِنْ فِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ وَهُوَ اشْتِغَالُ النِّسَاءِ بِالنِّسَاءِ وَلَوْ
كَانَتْ صَائِمَةً أَفْطَرَتْ بِذَلِكَ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا بِنَفْسِهَا أَوْ مِنْ
فِعْلِ غَيْرِهَا بِهَا .
الْخَامِسُ : وَهُوَ أَشَدُّ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
وَذَلِكَ أَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي إسْقَاطِ فَرْضٍ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ
وَهُوَ الْقِيَامُ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُنَّ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ فِي
الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ الرُّكُوعُ فِي الْغَالِبِ فَتُصَلِّي جَالِسَةً وَهِيَ
الَّتِي أَدْخَلَتْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهَا .
اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
شَنَاعَةِ مَا أَحْدَثْنَهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ
مَنْ زَادَ فِي أَكْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ
وَالِدُهُ لَوْ مَاتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ هَذَا حَالُهُ وَلَمْ يَتَعَمَّدْ
ذَلِكَ وَلَمْ يَفْعَلْهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ
الْحَالُ فِيمَنْ اتَّخَذَ ذَلِكَ عَادَةً مُسْتَمِرَّةً حَتَّى وَصَلَ بِهِ
السِّمَنُ إلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ سِيَّمَا وَهِيَ إذَا وَقَعَ لَهَا مَرَضٌ
أَوْ مَوْتٌ فَالْغَالِبُ أَنَّهَا هِيَ الْمُتَسَبِّبَةُ فِي جَلْبِ ذَلِكَ لِنَفْسِهَا
بِسَبَبِ زِيَادَةِ الْأَكْلِ الْكَثِيرِ عَلَى مَا مَضَى بَيَانُهُ وَلِأَنَّهُ
قَدْ يَبْلُغُ بِهَا السِّمَنُ إلَى أَنْ يَصِلَ الشَّحْمُ إلَى قَلْبِهَا
فَيُطْغِيَهَا فَتَمُوتَ بِهِ وَقَدْ يَصْعَدُ إلَى دِمَاغِهَا فَيُشَوِّشُ عَلَى
الدِّمَاغِ فَيَذْهَبَ عَقْلُهَا وَقَدْ يَصْعَدُ إلَى عَيْنِهَا فَيُعْمِيهَا
فَتَكُونُ هِيَ الْمُتَسَبِّبَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ
كَثِيرًا .
وَقَدْ وَرَدَ { مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ
عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
} وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا تَعَاطِي مَا ذُكِرَ مِنْ
بَعْضِ الرِّجَالِ إذْ هُوَ
عَرَى مِنْ الْمَقَاصِدِ جُمْلَةً إذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ
تَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَزِيدَ حُسْنُهَا فِي زَعْمِهَا وَيَغْتَبِطُ الرَّجُلُ بِهَا
بِخِلَافِ الرَّجُلِ فَإِنَّ السِّمَنَ فِيهِ يَقْبُحُ وَتَعَاطِي ذَلِكَ
بِأَسْبَابِهِ مِنْ الرِّجَالِ أَقْبَحُ وَأَقْبَحُ .
وَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَءُوا إنْ
شِئْتُمْ { فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } } انْتَهَى .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ السِّمَنُ فِيهِ خِلْقَةً
لَمْ يَتَسَبَّبْ فِيهِ فَلَا حَرَجَ إذًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ
عَلَى ذَلِكَ وَلَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ فِي شَيْءٍ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
مُوَافَقَةِ الشَّرْعِ مَا أَكْثَرَ بَرَكَتَهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْءَ إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ
الْغِذَاءِ الشَّرْعِيِّ الَّذِي لَا يَقُومُ الْبَدَنُ بِدُونِهِ إلَّا
وَيَتَضَرَّرُ وَيَضْعُفُ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَادَ عَلَى الْغِذَاءِ الشَّرْعِيِّ
زِيَادَةً بَيِّنَةً فَإِنَّ الْقُوَّةَ تَضْعُفُ بِحَسَبِ مَا زَادَ ، وَهَذَا
مُشَاهَدٌ مُجَرَّبٌ فَالْخَيْرُ لِلْقَالَبِ وَالْقَلْبِ وَلِلدِّينِ
وَلِلْمُرُوءَةِ وَلِلْعَقْلِ وَلِلرُّوحِ وَلِلسِّرِّ إنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ
كُلُّهُ بِاتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمُوَافَقَةِ سُنَّتِهِ
وَضِدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ أَعْنِي مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الشِّبَعِ وَالنَّقْصِ
مِنْهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ يُحْدِثُ ضِدَّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحُسْنِ وَهُوَ
الْقُبْحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُ هَذَا الْمَعْنَى فِيمَا مَضَى .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْهُنَّ فِي ارْتِكَابِهِنَّ
لِلزِّيَادَةِ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُنَّ
أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ فِي الْحُسْنِ وَتَغْتَبِطُ الرِّجَالُ بِهِنَّ ثُمَّ
يَفْعَلْنَ مَا يَحْدُثُ لَهُنَّ ضِدَّ ذَلِكَ وَهُوَ أَكْلُهُنَّ لِلطَّفْلِ
وَالطِّينِ وَذَلِكَ يُحْدِثُ عِلَلًا فِي الْبَدَنِ مِنْهَا صُفْرَةُ الْوَجْهِ
وَتَفَتُّحُ الْفُؤَادِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْعِلَلِ الَّتِي يَطُولُ تَتَبُّعُهَا وَهُوَ مِمَّا يُذْهِبُ لَوْنَ الْبَدَنِ
وَعَافِيَتَهُ وَيُضْطَرُّ مَعَهَا إلَى أَخْذِ الْأَدْوِيَةِ مَعَ أَنَّهُ
اُخْتُلِفَ فِي أَكْلِهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
فَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ إنَّهُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ
الْمَعْرُوفُ وَالْمَشْهُورُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَكْرُوهٌ وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ إنَّهُ مُبَاحٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْإِبَاحَةِ يَحْدُثُ مَا ذُكِرَ .
وَمَنْ لَهُ عَقْلٌ لَا يَتَسَبَّبُ فِيمَا يَضُرُّ
بَدَنَهُ أَوْ عَقْلَهُ نَقَلَ مَعْنَاهُ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ أَعْنِي فِي تَحْلِيلِ ذَلِكَ وَكَرَاهَتِهِ .
وَنَقَلَ ابْنُ بَشِيرٍ وَغَيْرُهُ التَّحْرِيمَ وَهُوَ
الْمَشْهُورُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ
إفْطَارِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ جِهَارًا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ
مِثْلَ بَعْضِ التَّرَّاسِينَ وَغَيْرِهِمْ وَلَا أَحَدَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ فِي
ذَلِكَ فَيَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ
عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } وَالنَّهْيُ عَنْ هَذَا آكَدُ وَأَوْجَبُ مِنْ
النَّهْيِ عَنْ تَرْكِ الصَّلَاةِ إذْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْغَالِبِ لَا
يَتَحَقَّقُ تَرْكُهَا إلَّا بِإِقْرَارٍ مِنْ فَاعِلِ ذَلِكَ بِخِلَافِ
الْإِفْطَارِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ بَيِّنٌ لَيْسَ
فِيهِ تَأْوِيلٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ ، إمَّا مَرَضٌ
أَوْ سَفَرٌ وَهَؤُلَاءِ يُفْطِرُونَ وَلَيْسُوا بِمَرْضَى وَلَا مُسَافِرِينَ
وَمِنْ ذَلِكَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ أَلَمٌ لَا
يَقْدِرُ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَهُ أَوْ يَتَوَضَّأَ تَرَكُوا الصَّلَاةَ لِأَجْلِ
ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً وَلَا قَائِلَ بِهِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ إذَا كَانَ فِي عُضْوَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ
وَكَانَ الْوَاجِبُ الْغُسْلَ أَوْ الْوُضُوءَ مَسَحَ مَا تَعَذَّرَ غَسْلُهُ
بِالْمَاءِ ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا
يُعْرَفُ فِي مَذْهَبِهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ وَأَمَّا عَلَى
مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيُجْمَعُ بَيْنَ غَسْلِ مَا صَحَّ
وَالتَّيَمُّمِ عَلَى مَا تَعَذَّرَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَبْقَ إلَّا عُضْوٌ
وَاحِدٌ أَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ أَلْبَتَّةَ
فَيَتَيَمَّمُ وَهُمْ يَتْرُكُونَ التَّيَمُّمَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ
لِقِلَّةِ إشَاعَةِ ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ وَمَا ذَاكَ إلَّا ؛ لِأَنَّ
الْمُعَلِّمَ فِي الْغَالِبِ مَحْجُوبٌ عَنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ
بِالْبَوَّابِينَ وَالنُّقَبَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمِمَّا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَا يَفْعَلُهُ
بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ تَنْظِيفَ الْبَيْتِ وَكَنْسَهُ عَقِيبَ
سَفَرِ مَنْ سَافَرَ مِنْ أَهْلِهِ وَيَتَشَاءَمُونَ بِفِعْلِ ذَلِكَ
بَعْدَ خُرُوجِهِ وَيَقُولُونَ إنَّ ذَلِكَ إنْ فُعِلَ
لَا يَرْجِعْ الْمُسَافِرُ .
وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ حِينَ خُرُوجِهِمْ مَعَهُ
إلَى تَوْدِيعِهِ فَيُؤَذِّنُونَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ
ذَلِكَ يَرُدُّهُ إلَيْهِمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ
وَمِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي أَحْدَثَتْ بَعْدَهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ تُوجَدُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ
الَّتِي يَذْكُرُ النَّاسُ أَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ أَوْ لَمْ تُفْعَلْ يَجْرِي
فِيهَا مِنْ الْأُمُورِ مَا يُكْرَهُ وُقُوعُهُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا وَقَعَ لِأَجْلِ
شُؤْمِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالتَّدَيُّنِ بِالْبِدْعَةِ فَعُومِلُوا
بِالضَّرَرِ الَّذِي هُمْ يَتَوَقَّعُونَهُ وَقَدْ شَاءَ الْحَكِيمُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَنَّ الْمَكْرُوهَاتِ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِالِامْتِثَالِ فَكَانَ
وُقُوعُ ذَلِكَ لَهُمْ بِسَبَبِ مُخَالَفَتِهِمْ لِمَا أُمِرُوا بِهِ جَزَاءً
وِفَاقًا .
وَمِمَّا أَحْدَثَهُ بَعْضُ النِّسَاءِ أَنَّ
الْمَرْأَةَ مِنْهُنَّ إذَا كَانَتْ حَائِضًا لَا تَكْتَالُ الْقَمْحَ وَلَا
غَيْرَهُ مِنْ الطَّعَامِ وَلَا تَحْضُرُ مَوْضِعَهُ لِأَجْلِ حَيْضِهَا ، وَهَذَا
مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الدَّوَاءَ لَا
يَغْسِلُ الْآنِيَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا الدَّوَاءُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ ، وَهَذَا
كُلُّهُ مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَبِدَعٌ أَخْتَرَعْنَهَا مِنْ
قِبَلِ أَنْفُسِهِنَّ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ
فَصْلٌ فِي خُرُوجِ الْعَالِمِ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي
السُّوقِ وَاسْتِنَابَتِهِ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ نَرْجِعُ لِذِكْرِ مَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْعَالِمُ فِي تَصَرُّفِهِ ، فَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ أَنْ
يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتَى بِالسُّنَّةِ
عَلَى وَجْهِهَا وَبَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ فِي حَمْلِ سِلْعَتِهِ بِيَدِهِ إنْ
قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ عَاقَهُ عَنْ ذَلِكَ عَائِقٌ شَرْعِيٌّ فَلَهُ أَنْ
يَسْتَنِيبَ فِي ذَلِكَ مَنْ لَهُ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ فِيمَا يَتَعَاطَاهُ
مِنْ ذَلِكَ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ
الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ فَتَجِدُ
بَعْضَهُمْ يَبْحَثُ فِي مَسَائِلِ الْبُيُوعِ وَالْأَحْكَامِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ فِي الدُّرُوسِ وَيَسْتَدِلُّ وَيُجِيزُ وَيَمْنَعُ وَيَكْرَهُ
فَإِذَا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ أَرْسَلَ إلَى السُّوقِ مَنْ يَقْضِي لَهُ
الْحَاجَةَ صَبِيًّا صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا أَوْ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً
أَوْ عَجُوزًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالْأَحْكَامِ
الشَّرْعِيَّةِ .
وَفِي السُّوقِ الْيَوْمَ مَا قَدْ عُهِدَ وَعُلِمَ مِنْ
جَهْلِ أَكْثَرِ الْبَيَّاعِينَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا
يُحَاوِلُونَهُ فِي سِلَعِهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَفِي الْأَسْوَاقِ
مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا جُمْلَةً .
فَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ الكشكاك وَالْمُحَبَّبَةِ ؛
لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوهًا مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ .
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي فِيهِمَا إنْ
كَانَ لَحْمُ الْبَقَرِ الْيَوْمَ فَهُوَ مُمَكَّسٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ
عَلَى شِرَائِهِ إلَّا مِنْ الْمَكَّاسِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِإِعَانَةِ الْمَكَّاسِ
بِالشِّرَاءِ مِنْهُ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ شَرْعًا إذْ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ
النَّاسُ مِنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ ضَمِنَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ
يَتَحَرَّى ذَلِكَ لَاقْتَدَى بِهِ غَيْرُهُ وَفَسَدَ عَلَى الْمَكَّاسِ مُرَادُهُ .
هَذَا إنْ كَانَ شِرَاؤُهُ فِي غَيْرِ النَّيْرُوزِ .
وَأَمَّا فِي النَّيْرُوزِ فَيَتَأَكَّدُ الْمَنْعُ
لِشِرَاءِ لَحْمِ الْبَقَرِ مُطْلَقًا لِزِيَادَةِ تَعْظِيمِ شَعِيرَةٍ مِنْ
شَعَائِرِ الْكُفَّارِ عَلَى زَعْمِهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ فِي فِعْلِهِمْ فِي
النَّيْرُوزِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي مَا يَدْخُلُ عَلَى الْبَائِعِ
وَالْمُشْتَرِي مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْمُغَابَنَةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ
يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ اللَّحْمَ وَالدُّهْنَ أَكْثَرَ مِنْ الْقَمْحِ
وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ الْقَمْحَ أَكْثَرَ مِنْ اللَّحْمِ
وَالدُّهْنِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَدْ دَخَلَ عَلَى
وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَالْجَهَالَةُ فِي ذَلِكَ حَاصِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي
كَمْ وَزْنُ اللَّحْمِ وَالدُّهْنِ وَلَا كَمْ وَزْنُ الْقَمْحِ لِإِمْكَانِ
إعْطَاءِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْهَرِيسَةِ فَإِنَّ
ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِيهَا إذْ أَنَّ اللَّحْمَ وَالْقَمْحَ صَارَا مَعًا كَالشَّيْءِ
الْوَاحِدِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْطَى أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ وَلَا
أَقَلَّ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَكِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ جِهَةِ اللَّحْمِ ؛
لِأَنَّهُ مُمَكَّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ فَإِنْ سَلِمَ اللَّحْمُ مِنْ
الْمَكْسِ فَهِيَ جَائِزَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
فِي يَوْمِ النَّيْرُوزِ فَيُمْنَعُ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالنَّصَارَى
فَيُحَذِّرُ الْعَالِمُ مِنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ
مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا ذُكِرَ الْعَالِمُ دُونَ غَيْرِهِ وَإِنْ
كَانَ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ كَمَا
تَقَدَّمَ .
وَقَدْ صَارَ هَذَا الْأَمْرُ الْيَوْمَ بَيْنَ النَّاسِ
كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فَتَرَاهُمْ يَوْمَ النَّيْرُوزِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
مِنْهُمْ بِالزُّبْدِيَّةِ فِي يَدِهِ لِشِرَاءِ الْهَرِيسَةِ وَمِنْ فَاتَتْهُ
فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَكَأَنَّهُ فَاتَهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي
ذَلِكَ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ أَنَا أَشْتَرِي الكشكاك
وَالْمُحَبَّبَةَ عَلَى الْوَصْفِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِذَا حَصَلَ فِي الْوِعَاءِ
وَعَايَنْته أَخَذْته مِنْهُ جِزَافًا إذْ أَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْجِزَافَ أَنْ يَكُونَ
مَجْهُولَ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي وَلَمَّا أَنْ
دَخَلَهُ الْوَزْنُ قَبْلَ شِرَائِهِ مِنْهُ جِزَافًا انْتَفَتْ الْجَهَالَةُ
لِعِلْمِهِمَا بِحَمْلَتِهِ وَزْنًا وَبَقِيَتْ الْجَهَالَةُ وَالْمُغَابَنَةُ فِي
كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ فَيُمْنَعُ شِرَاؤُهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لَوْ قَدَّرْنَا
أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً فَيُمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ
عَالِمٌ بِذَلِكَ فِي الْغَالِبِ وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمِغْرَفَةَ
الَّتِي بِيَدِهِ يَعْلَمُ بِهَا مِقْدَارَهُ وَزْنًا فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ
شِرَاؤُهُ جِزَافًا ابْتِدَاءً اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَغْرِفَ لَهُ بِغَيْرِهَا
مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَهُ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَمِنْ ذَلِكَ بَيْعُ لَحْمِ السَّمِيطِ نِيئًا
وَمَطْبُوخًا وَالشِّوَاءُ وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {
قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا
أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ
أَوْ فِسْقًا } قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَالَ { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي
الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَلَقَدْ كُنَّا نَطْبُخُ الْبُرْمَةَ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ الصُّفْرَةَ
لَتَعْلُوَهَا مِنْ الدَّمِ انْتَهَى
.
تَعْنِي بِتِلْكَ الصُّفْرَةِ فَضْلَةَ مَا فِي
الْعُرُوقِ مِنْ الدَّمِ وَهُوَ غَيْرُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ وَهُمْ الْيَوْمَ
يَذْبَحُونَ فَيَخْرُجُ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ فَتَتَخَبَّطُ الذَّبِيحَةُ فِيهِ وَيَمْتَلِئُ
رَأْسُهَا وَبَعْضُ جِلْدِهَا .
فَإِذَا اجْتَمَعَتْ لَهُمْ ذَبَائِحُ جُمْلَةٌ
أَلْقَوْا ذَلِكَ فِي دَسْتٍ وَاحِدٍ فِيهِ مَاءٌ يَغْلِي فَيَحِلُّ الدَّمُ
الْمَسْفُوحُ فِيهِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ كُلَّهُ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ وَهُمْ
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لَكَيْ يُنْتَفَ لَهُمْ الصُّوفُ وَهُوَ لَا يَزُولُ إلَّا
بَعْدَ أَنْ تَمْتَلِئَ الْأَعْضَاءُ الْبَاطِنَةُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَتَسْرِي
النَّجَاسَةُ إلَى بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ مَعَ أَنَّ حَلْقَهَا مَفْتُوحٌ
وَدُبُرَهَا فَتَدْخُلُ النَّجَاسَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَتَخْرُجُ مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا
أَخَذُوا الصُّوفَ وَعَلَّقُوا الذَّبِيحَةَ فِي مَوْضِعٍ وَقَدْ تَمَكَّنَتْ
النَّجَاسَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا مِنْهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا
فَيُطَهِّرُونَهَا عَلَى زَعْمِهِمْ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتُمَسُّ النَّجَاسَةُ
بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَتَجْمُدُ فِي بَاطِنِ الذَّبِيحَةِ وَالْمَسَامِّ فَيَبْقَى
مُتَنَجِّسًا فِي الشَّاهِدِ الضَّرُورِيِّ الَّذِي لَا مَحِيصَ عَنْهُ ثُمَّ
يُخْرِجُونَ ذَلِكَ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ فَيَبِيعُونَهُ فِيهِ بِنَاءً
مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ قَدْ طَهُرَ مِنْ تِلْكَ النَّجَاسَاتِ وَلَوْ كَانَ
الْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ بِهِ مَاءً قَرَاحًا لَكَانَ فِيهِ شَبَهُ مَا فِي
التَّطْهِيرِ فَكَيْفَ وَالْمَاءُ الَّذِي يَغْسِلُونَهُ
بِهِ فِي الْغَالِبِ تَرَاهُ مُتَغَيِّرًا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الدِّمَاءِ
وَغَيْرِهَا .
وَالشِّوَاءُ مِثْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ سَمِيطٌ
فَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ ذَلِكَ أَوْ يَبِيعَهُ فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
.
عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ عَوَامُّ النَّاسِ
لَكَانَ مَذْمُومًا وَلَكِنْ قَدْ عَمَّتْ الْبَلْوَى حَتَّى إنَّ بَعْضَ مَنْ
يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْخَيْرِ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ وَيُرْسِلُ مَنْ
يَشْتَرِي لَهُ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ الْفَظِيعِ بَلْ يُبَاشِرُ
بَعْضُهُمْ شِرَاءَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَلَوْ وَقَعَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مَعَ
مَنْ لَهُ أَمْرٌ لَكَانَ يُغَيِّرُهُ بِأَيْسَرَ شَيْءٍ إذْ أَنَّهُمْ لَيْسَ
عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ فِي أَنْ يَغْسِلُوا الْمَنْحَرَ وَغَيْرَهُ مِمَّا أَصَابَهُ
مِنْ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُدْلُونَهُ
فِي الدَّسْتِ ، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ مَشَقَّةٍ مَعَ أَنَّهُ لَوْ
كَانَتْ الْمَشَقَّةُ مَوْجُودَةً لَوَجَبَ فِعْلُهَا لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ
الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ فَكَيْفَ وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو
إلَى التَّسَاهُلِ فِي ارْتِكَابِ مَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَرْكُهُ
إلَّا أَنَّهَا عَادَةٌ اُتُّخِذَتْ وَوَقَعَ التَّسَامُحُ فِيهَا لِغَفْلَةِ
بَعْضِ مَنْ غَفَلَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ لَهُمْ فِي هَذِهِ
النَّازِلَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ
إلَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ
.
وَهَذَا بَعِيدٌ لِقَوْلِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ الْبَيْضَ
الْكَثِيرَ إذَا صُلِقَ وَوُجِدَتْ فِيهِ بَيْضَةٌ فِيهَا فَرْخٌ فَإِنَّ
الْبَيْضَ كُلَّهُ يَتَنَجَّسُ وَلَا يُؤْكَلُ إذْ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
تَطْهِيرُهُ مَعَ أَنَّ قِشْرَةَ الْبَيْضِ لَيْسَ لَهَا مَسَامُّ حَتَّى يَدْخُلَ
مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فِيهَا شَيْءٌ أَوْ يَخْرُجَ فَمَا بَالُك بِاللَّحْمِ
الَّذِي بَاشَرَ الدَّمَ الْعَبِيطَ
.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صِفَةِ غَسْلِهِمْ لَهُ أَنَّهُمْ
يَغْسِلُونَهُ بِالْمَاءِ الْمُتَغَيِّرِ وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ
أُخْرَى وَهِيَ مِمَّا تَعُمُّ فِي الْغَالِبِ وَذَلِكَ
أَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَذْبَحُونَ فِيهِ مُسْتَدْبَرٌ فَالْقَلِيلُ مِنْهُمْ
الَّذِي يَكُونُ ذَبْحُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَمِنْ تَعَمَّدَ الذَّبْحَ إلَى
غَيْرِهَا فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً يُكْرَهُ أَكْلُ الْمَذْبُوحِ
بِسَبَبِ تَرْكِهَا ، وَسَبَبُ وُجُودِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا تَرْكُ السُّؤَالِ
مِنْ الْعَامَّةِ وَتَرْكُ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلَى هَذِهِ
الْمَفَاسِدِ عِنْدَ مَبْدَأِ أَمْرِهَا فَاسْتَحْكَمَتْ الْمَفَاسِدُ وَمَضَتْ
عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ الرَّدِيئَةُ فَيُطْعِمُونَ النَّاسَ الطَّعَامَ
الْمُتَنَجِّسَ وَأَجَازُوا بَيْعَهُ بَيْنَهُمْ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ وَالسُّكُوتِ عَنْ عِلْمِ ذَلِكَ وَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ
مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ .
أَمَّا الْعَامَّةُ فَبِالسُّؤَالِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَبِالْكَلَامِ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ وَلَيْسَ فِي هَذَا كَبِيرُ أَمْرٍ .
وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ خُصُوصًا عَلَى أَرْبَاب
الْأُمُورِ وَعَلَى مَنْ لَهُ شَوْكَةٌ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ بِحَسَبِ
اسْتِطَاعَتِهِ .
ثُمَّ إنَّهُمْ يَزِيدُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
أَنَّهُمْ يَعْجِنُونَ التُّرَابَ الَّذِي يَسُدُّونَ بِهِ التَّنُّورَ الَّذِي
فِيهِ الذَّبَائِحُ بِالْمَاءِ الَّذِي صَارَ كَأَنَّهُ دَمٌ عَبِيطٌ فَيَتَنَجَّسُ
التُّرَابُ بِهِ إنْ كَانَ طَاهِرًا وَإِنْ كَانَ نَجِسًا فَيُضِيفُونَ نَجَاسَةً
إلَى مِثْلِهَا فَإِذَا أَحَسَّ بِحَرَارَةِ النَّارِ عَرِقَ وَقَطَرَ مِنْهُ
عَلَى الشِّوَاءِ وَغَيْرِهِ مَا يُنَجِّسُهُ ظَاهِرًا أَنْ لَوْ كَانَ طَاهِرًا
فَكَيْف وَبَاطِنُهُ مُتَنَجِّسٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَكَذَلِكَ يَقْطُرُ فِي نَفْسِهِ هُوَ وَالشِّوَاءُ
عَلَى الْجَذَّابَةِ الَّتِي تَحْتَهُ فَتَتَنَجَّسُ بِذَلِكَ فَيَصِيرُ
الْجَمِيعُ مُتَنَجِّسًا ، وَهَذَا مُشَاهَدٌ مَحْسُوسٌ مَرْئِيٌّ ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ يُخْرِجُونَهُ إلَى سُوقِ الْمُسْلِمِينَ يَبِيعُونَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ .
وَكَذَلِكَ تَعَدَّتْ هَذِهِ النَّجَاسَةُ إلَى أَمْرٍ
آخَرَ وَهُوَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَذْبَحُونَ الدَّجَاجَ وَغَيْرَهُ
وَيَأْتُونَ بِهِ إلَى الْمَسْمَطِ
فَيُدْلُونَهَا فِي الْمَاءِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
فَيَتَنَجَّسُ كُلُّ ذَلِكَ .
وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ انْضَمَّ
إلَيْهِ مُحَرَّمٌ آخَرُ اتِّفَاقًا وَهُوَ إضَاعَةُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مَا
تَنَجَّسَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ ، وَكَذَلِكَ
كُلُّ مَا عُمِلَ بِتِلْكَ الدَّجَاجَةِ الْمَسْمُوطَةِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَغَيْرِهَا
مِنْ السَّمِيطِ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ فِي الْبُيُوتِ أَوْ عِنْدَ
الشَّرَائِحِيِّ أَوْ عِنْدَ الطَّبَّاخِينَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ كُلُّهُ
مُتَنَجِّسًا لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَيَجِبُ
غَسْلُ الْأَوْعِيَةِ الَّتِي جُعِلَ فِيهَا نِيئًا كَانَ أَوْ مَطْبُوخًا
وَيَغْسِلُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ مِنْ بَدَنٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ مَكَان أَوْ وِعَاءٍ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ النَّجَاسَةُ
مِثْلُ السُّمِّ يَعْنِي فِي سُرْعَةِ سَرَيَانِهَا وَأَنْتَ تَرَى ذَلِكَ فِيمَا
نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَسْتَبِيحَ شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بَعْدَ تَطْهِيرِهِ ، وَاللَّحْمُ
وَالْأَطْعِمَةُ لَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهَا فَلَا يَجُوزُ أَكْلُهَا وَلَا
بَيْعُهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ اللَّحْمَ بَعْدَ خُرُوجِ
الرُّوحِ مِنْهُ لَا يَقْبَلُ شَيْئًا عُمِلَ فِيهِ وَلَا تَسْرِي النَّجَاسَةُ
إلَى بَاطِنِهِ فَجَوَابُهُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ يَرُدُّهُ الشَّاهِدُ ؛ لِأَنَّك
إذَا عَمِلْت اللَّحْمَ فِي مَاءٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مِلْحٍ أَوْ غَيْرِهِ
بَقِيَ عَلَى حَالِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَاءِ مِلْحٌ أَوْ زَعْفَرَانٌ أَوْ
فُلْفُلٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ تَجِدُ طَعْمَهُ فِي اللَّحْمِ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي
قَلْبِ الْقِطْعَةِ مِنْ اللَّحْمِ
.
فَإِنْ قِيلَ إنَّ طَعْمَ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا
بَعْدَ النُّضْجِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ دُخُولَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي
اللَّحْمِ لَمْ يَكُنْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا
وَهُوَ إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ يَغْلِي فَقَدْ سَرَى إلَى
بَاطِنِهِ شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ سَوَاءٌ فَهَذَا
دَلِيلٌ وَاضِحٌ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ
عَلَى أَنَّهُ يَقْبَلُ مَا أُلْقِيَ فِيهِ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ قَدْ وَقَعَتْ
النَّجَاسَةُ فِيهِ بَعْدَ نُضْجِهِ وَطَبْخِهِ فَيَكْفِي فِيهِ التَّطْهِيرُ
بِالْمَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْمَسَامِّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ
قِيَاسًا عَلَى مَا قَالَهُ سَحْنُونَ فِي زَيْتُونِ مِلْحٍ ثُمَّ وَقَعَتْ فِيهِ
نَجَاسَةٌ فَإِنْ كَانَ قَدْ نَضِجَ فِي الْمِلْحِ فَيَطْهُرُ بِالْغَسْلِ وَإِنْ
كَانَ لَمْ يَنْضَجْ بَعْدُ فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ لَا يَطْهُرُ بِالْغُسْلِ وَلَا
يُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَا وَقَعَ فِيهِ قَبْلَ نُضْجِهِ ، وَكَذَلِكَ
هُوَ فِي اللَّحْمِ سَوَاءٌ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَدَّعِي الِاضْطِرَارَ إلَى
اسْتِعْمَالِ السَّمِيطِ وَالشِّوَاءِ لِوَصْفِ طَبِيبٍ لِمَرِيضٍ أَوْ غَيْرِهِ
إذْ أَنَّ لَحْمَ الْمَاعِزِ مَوْجُودٌ لِلْأَصِحَّاءِ نِيئًا وَمَشْوِيًّا ؛ لِأَنَّهُمْ
يَعْمَلُونَهُ سَلِيخًا لَا سَمِيطًا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ مِنْ
السَّمِيطِ إنْ جُعِلَ مَعَهُ فِي التَّنُّورِ أَوْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ
التُّرَابِ أَوْ الطِّينِ الْمُتَنَجِّسِ الَّذِي يُسَدُّ بِهِ التَّنُّورُ كَمَا
تَقَدَّمَ مَعَ أَنَّ لَحْمَ الضَّأْنِ الصَّغِيرِ السَّلِيخِ مَوْجُودٌ أَيْضًا .
وَأَمَّا لَحْمُ السَّمِيطِ الطَّاهِرِ فَمَوْجُودٌ
لِلْمَرْضَى وَلِمَنْ احْتَاجَهُ مِنْ الْأَصِحَّاءِ فَمَنْ أَرَادَ ذَلِكَ
وَجَدَهُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ فَإِنَّهُمْ يَعْمَلُونَ
الشِّوَاءَ سَالِمًا مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ مِمَّا يَعْتَرِي الْمُسْلِمِينَ فِي
سِمْطِ ذَلِكَ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ أَجْدَرَ وَأَوْلَى
فَمَا أَقْبَحَ هَذَا وَأَشْنَعَهُ أَنْ يَمْتَازَ الْيَهُودُ بِتَطْهِيرِ ذَلِكَ
عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلرَّشَادِ بِمَنِّهِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ فَلَا يُقْتَصَرُ
بِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ بَلْ هُوَ يَتَعَدَّى إلَى كُلِّ مَنْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ
فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا تَنَاوَلَهُ بِهِ مِثْلُ الْجَزَّارِ
يَكُونُ عِنْدَهُ سَلِيخٌ أَوْ سَمِيطٌ فَإِنَّهُ إذَا مَسَّ السَّمِيطَ بِيَدِهِ أَوْ
سِكِّينِهِ تَنَجَّسَ مَا أَصَابَهُ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ الْمَوْضِعُ
الَّذِي يَكُونُ فِيهِ وَاللَّحْمُ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ
أَوْ سِكِّينُهُ الَّتِي يَقْطَعُ بِهَا مِنْ السَّمِيطِ وَبَعْضُ مَنْ يَحْتَرِزُ
مِنْ أَكْلِ لَحْمِ السَّمِيطِ قَدْ يَقَعُ فِي هَذَا وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ثُمَّ
تَعَدَّى ذَلِكَ إلَى تَنْجِيسِ الْوِعَاءِ الَّذِي يُحْمَلُ فِيهِ إلَى
الْبُيُوتِ وَغَيْرِهَا ، وَكَذَلِكَ يَتَنَجَّسُ مَا يُطْبَخُ فِيهَا أَوْ
يُؤْكَلُ فِيهَا فَظَهَرَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ النَّجَاسَةَ
كَالسُّمِّ لِسُرْعَةِ سَرَيَانِهَا
.
وَأَمَّا الرُّءُوسُ فَهِيَ جَائِزَةٌ إذَا سَلِمَتْ مِنْ
كُلِّ مَا ذُكِرَ فِي السَّمِيطِ وَقَدْ جُمِعَتْ الْمَفَاسِدُ الَّتِي فِي
السَّمِيطِ وَزَادَتْ عَلَيْهِ الْمَكْسُ الَّذِي اُخْتُصَّتْ بِهِ دُونَ
السَّمِيطِ إذْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شِرَائِهَا مِنْ غَيْرِ
الْمُكَّاسِ وَالْأَكَارِعُ كَذَلِكَ تَنْجِيسُهَا وَمَكْسُهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا النَّقَانِقُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا
شِرَاؤُهَا لِلْجَهَالَةِ بِمَا فِي بَاطِنِهَا .
هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى إلَّا أَنْ يَشُقَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ وَيَرَى دَاخِلَهَا كُلَّهَا وَعَلَى
مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ إذَا رَأَى وَاحِدَةً مِنْهَا
وَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهَا وَأَخَذَ الْبَاقِيَ عَلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْخُشْكِنَانِ .
هَذَا لَوْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ وَهِيَ الْآنَ
مُمَكَّسَةٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا شِرَاؤُهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي
غَيْرِهَا ، وَهَذَا إنْ كَانَ بَيْعُهَا بَعْدَ نُضْجِهَا ، وَأَمَّا إنْ كَانَ
يَبِيعُهَا نِيئَةً وَيَزِنُهَا لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَأْخُذُهَا بَعْدَ ذَلِكَ
مِنْهُ وَيَقْلِيهَا لَهُ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي السَّمَكِ ؛ لِأَنَّ
الْمُشْتَرِيَ يَشْتَرِيهِ مِنْهُ وَزْنًا مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ مَقْلُوًّا
بَعْضَ قَلْيٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ نِيئًا ؛ لِأَنَّهُ
لَا يُؤْكَلُ كَذَلِكَ فَفِيهِمَا وُجُوهٌ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ ؛
لِأَنَّهُ إذَا قَلَاهُ لَهُ بَعْدَ وَزْنِهِ كَمَا تَقَدَّمَ لَا يَعْرِفُ كَمْ
وَزْنُهُ بَعْدَ الْقَلْيِ فَهُوَ مَجْهُولٌ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى مِنْهُ
الدُّهْنَ الَّذِي قَلَاهُ لَهُ بِهِ وَهُوَ مَجْهُولٌ .
الثَّالِثُ : مَا أَوْقَدَ بِهِ تَحْتَهُ كَذَلِكَ
مَجْهُولٌ .
الرَّابِعُ : أُجْرَةُ قَلْيِهِ مَجْهُولَةٌ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مَجْهُولٌ فِي الْأَصْلِ ؛
لِأَنَّهُمْ إنْ عَمِلُوا عَلَيْهِ الدَّقِيقَ كَثِيرًا لَمْ يُعْلَمْ كَمْ وَزْنُ
الدَّقِيقِ وَلَا كَمْ وَزْنُ السَّمَكِ الَّذِي يُؤْخَذُ فَعَلَى هَذَا لَا
يَجُوزُ شِرَاؤُهُ وَلَوْ قَلَاهُ لَهُ قَبْلَ الْوَزْنِ إذْ أَنَّ الْجَهَالَةَ مَوْجُودَةٌ
فِيهِ قَبْلَ الْقَلْيِ وَبَعْدَهُ فَهَذِهِ خَمْسَةُ وُجُوهٍ مِنْ الْمَوَانِعِ
فَكَيْفَ يُرْتَكَبُ ذَلِكَ .
وَالتَّوَصُّلُ إلَى أَكْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ
الْجَائِزِ شَرْعًا سَهْلٌ يَسِيرٌ بِأَنْ يُنْضِجَهُ الْبَائِعُ بِالْقَلْيِ
وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ ثُمَّ يَبِيعَهُ لِلْمُشْتَرِي وَزْنًا أَوْ جِزَافًا
بِشَرْطِ أَنْ
يَكُونَ الدَّقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ يَسِيرًا مُحْتَاجًا
إلَيْهِ .
وَأَمَّا الْكُبُودُ فَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ الْمَكْسِ
لَكَانَتْ جَائِزَةً وَهِيَ الْآنَ مُمَكَّسَةٌ فَيُمْنَعُ شِرَاؤُهَا .
وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ كُلُّ مَا هُوَ مُمَكَّسٌ
وَيُسْتَغْنَى بِغَيْرِهِ عَنْهُ مِثْلَ النَّشَا وَالسِّمْسِمِ الْمَقْشُورِ
وَلَحْمِ الْجَمَلِ وَلَحْمِ النَّعَامِ وَأَمَّا اللِّسَانُ الْبَلَدِيُّ
وَالْقُدُورُ الْبَلَدِيَّةُ وَالْكِيزَانُ الْبِيضُ أَيْضًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا قَدْ عُلِمَ فَكَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الشِّرَاءَ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ
عَلَى الْمُحَرَّمِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى
مِنْهُمْ فَقَدْ اتَّصَفَ بِتَرْكِ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ ذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْقُلُ عَنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ صُورَةَ الْمَكْسِ
أَنْ يَحْتَكِرَ شَخْصٌ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهُ سِلْعَةً أَوْ سِلَعًا لَا يَبِيعُهَا
أَحَدٌ غَيْرُهُ أَوْ غَيْرُهُمْ أَوْ مَنْ يَخْتَارُهُ أَوْ يَخْتَارُونَهُ
وَإِنْ كَثُرُوا بِشَرْطِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا السِّلْعَةَ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ
فَهَذَا هُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ مِنْهُ ، وَالظُّلْمُ هُوَ الَّذِي
تَقَرَّرَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَ
فَعَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا فَهَذَا لَا يُمْتَنَعُ مِنْ شِرَائِهِ وَلَا بَيْعِهِ ،
إذْ لَيْسَ فِيهِ إعَانَةٌ انْتَهَى
.
وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا يُرْضِيهِ بِمَنِّهِ
لَا رَبَّ سِوَاهُ .
وَأَمَّا الْمَنْفُوشُ فَبَيْعُهُ جَائِزٌ إذَا اشْتَرَى
الْفَطِيرَ عَلَى حِدَةٍ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَاللَّطُوخُ مِثْلُهُ .
وَأَمَّا إنْ اشْتَرَاهُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ
فَيُمْنَعُ لِمَا يَدْخُلُهُ مِنْ الْجَهَالَةِ ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُشْتَرِي
وَالْبَائِعِ مُخْتَلِفَانِ فِي ذَلِكَ فَالْمُشْتَرِي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ
اللَّطُوخِ أَكْثَرَ مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ وَالْبَائِعُ يُرِيدُ أَنْ يُعْطِيَ
مِنْ فَطِيرِ الْمَنْفُوشِ أَكْثَرَ مِنْ اللَّطُوخِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ بَيْعِ
الْمُغَابَنَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْجَهَالَةِ بِالْوَزْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُعْرَفُ كَمْ وَزْنُ الْفَطِيرِ وَلَا كَمْ وَزْنُ اللَّطُوخِ .
وَالْبِيَاعَاتُ تَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ :
مَكِيلٌ وَمَوْزُونٌ وَجُزَافٌ ، وَهَذَا غَيْرُ مَكِيلٍ وَقَدْ اشْتَرَاهُ عَلَى
الْوَزْنِ وَأَخَذَهُ مَجْهُولًا وَلَوْ أَخَذَهُ جُزَافًا مِنْ غَيْرِ وَزْنٍ
بَعْدَ تَعْيِينِ ذَلِكَ لَهُ لَمُنِعَ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ
يَعْرِفُ مِقْدَارَ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ اللَّطُوخِ غَالِبًا وَإِنْ لَمْ يَزِنْهُ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَيْعِ الْمُحَبَّبَة وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَأَمَّا بَيْعُ الْفُقَّاعِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا
وَذَلِكَ إذَا صَبَّ مَا فِي الْكُوزِ فِي وِعَاءٍ وَعَايَنَهُ الْمُشْتَرِي
وَعَلِمَ قَدْرَهُ وَصِفَتَهُ .
وَأَمَّا عَلَى مَا يَبِيعُونَهُ الْيَوْمَ فَهُوَ
غَيْرُ جَائِزٍ لِوُجُوهٍ .
الْأَوَّلِ أَنَّ كُوزَ الْفُقَّاعِ مِنْ الْأَوَانِي
الَّتِي نُهِيَ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِيهَا مِثْلُ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ
وَالْحَنْتَمِ وَالنَّقِيرِ لِسُرْعَةِ التَّخْمِيرِ الَّذِي يَسْرِي إلَيْهَا
بِسَبَبِ سَدِّ مَسَامِّهَا وَكُوزُ الْفُقَّاعِ كَذَلِكَ وَقَدْ يَبِيتُ مِنْهَا شَيْءٌ
عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَبِيعُهُ لِلنَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَفَقَّدُهُ
وَقَدْ يُسْرِعُ إلَيْهِ التَّخْمِيرُ فَيَشْتَرِيهَا الْمُشْتَرِي وَقَدْ صَارَتْ
خَمْرًا هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَذَلِكَ
أَنَّهُ يَسُدُّ فَمَ الْكُوزِ بِعُودٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَضَعُهُ عَلَى فَمِهِ
فَقَدْ يَكُونُ فَمُهُ لَمْ يُسَدَّ كُلُّهُ فَيَنْزِلُ مَا فِي الْكُوزِ أَوْ
بَعْضُهُ فَإِنْ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ مَا فِيهِ
فَيَظُنُّهُ مَلْآنًا وَقَدْ يَكُونُ بَعْضُهُ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا بَعْدَ الْإِيجَابِ
وَالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي الْمُحَقَّرَاتِ ، وَهَذَا مِنْهَا
فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ بِعْتُك وَالْمُشْتَرِي
قَدْ اشْتَرَيْت أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ مِمَّا نَقَلُوهُ وَذَلِكَ
مَفْقُودٌ بَيْنَهُمَا .
وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
فَيَجُوزُ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ فِي بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ إذَا فَرَغَ مَا فِي
الْكُوزِ وَعَايَنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ
.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ مَوْضِعِ
سُؤْرِ الْكُفَّارِ مَكْرُوهٌ وَالْفُقَّاعُ يَشْرَبُهُ النَّصْرَانِيُّ
وَغَيْرُهُ مِمَّنْ يَكُونُ فَمُهُ مُتَنَجِّسًا فَيُنَجِّسُهُ وَقَدْ لَا
يَغْسِلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْغُسْلَ الشَّرْعِيَّ قَبْلَ مَلْئِهِ ثَانِيًا ثُمَّ
يَأْتِي الْمُسْلِمُ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ النَّصْرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ
لَا يَتَحَرَّزُ مِنْ النَّجَاسَةِ
.
وَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ خَاصًّا بِالْفُقَّاعِ
وَحْدَهُ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يُشْبِهُهُ ، مِثْلُ السِّقَاءِ
وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْهُودَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ يَسْقُونَ مَنْ لَا
يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَمَنْ تَعَافُهُ النُّفُوسُ ، مِثْلُ الصَّبِيِّ
الصَّغِيرِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْذُومِ وَالْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ثُمَّ
يَأْتِي غَيْرُهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَصِحَّاءِ فَيَضَعُ فَاهُ مَوْضِعَ فَمِ
مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ مَا فِيهِ ثُمَّ مَعَ
هَذَا فَقَدْ عَرِيَ عَنْ أَقْسَامِ الْبِيَاعَاتِ الثَّلَاثِ الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ
وَلَا جُزَافٍ إذْ أَنَّ الْجُزَافَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَرْئِيًّا
مَحْزُورًا يُحِيطُ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي بِقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ ، وَهَذَا
غَائِبٌ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا صِفَتُهُ وَلَا يَأْخُذُهُ حَزْرٌ فَهَذِهِ
وُجُوهٌ عَدِيدَةٌ تَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ وَلَا عُذْرَ لِمَنْ يَقُولُ إنَّهُ
مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُحَقَّرَاتِ
وَغَيْرَهَا فِي شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَفَسَادِهِ سَوَاءٌ إلَّا مَا
اُغْتُفِرَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرْطِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ
فِيهَا وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ الْمَيْلِ إلَى فَتْوَى مُفْتٍ يَطْرَأُ عَلَيْهِ
مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ فَيَأْنَسُ بِالْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ
فَيَخْرُجُ بِسَبَبِهَا عَنْ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِ بِسَبَبِ اسْتِمْرَارِ تِلْكَ
الْعَوَائِدِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
.
وَمِنْ ذَلِكَ شِرَاءُ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ وَقَدْ
تَقَدَّمَ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ أَنَّ الْبِيَاعَاتِ تَنْقَسِمُ
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فَشِرَاءُ الْخُبْزِ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ
وَزْنًا أَوْ جُزَافًا .
وَكِلَاهُمَا جَائِزٌ وَأَنْتَ تَرَى بَعْضَهُمْ
يُخْرِجُ ذَلِكَ عَنْهُمَا بِسَبَبِ أَنَّهُ يَزِنُ الْخُبْزَ فَيَجِدُهُ يَشِحُّ عَنْ
الْوَزْنِ فَيُخْرِجُهُ مِنْ كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَيُعْطِيهِ لِلْمُشْتَرِي
وَيَدْفَع لَهُ عِوَضًا عَمَّا نَقَصَ مِنْ وَزْنِهِ كِسْرَةً جُزَافًا فَقَدْ
خَرَجَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَنْ الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ وَزْنِ
الْأَوَّلِ الَّذِي دَفَعَهُ إلَيْهِ نَاقِصًا وَلَا قَدْرَ الْكِسْرَةِ الَّتِي
دَفَعَهَا إلَيْهِ جُزَافًا فَقَدْ دَخَلَ عَلَى وَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَخَذَ
مَجْهُولًا وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ فَلَوْ زَادَ الْكِسْرَةَ أَوْ الْخُبْزَ فِي
كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى حَقَّقَ كَمَالَ الْوَزْنِ لَكَانَ
جَائِزًا وَإِنْ رَجَحَ ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ هِبَةٌ مَجْهُولَةٌ وَهِيَ جَائِزَةٌ
فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَفَّى لَهُ الْوَزْنَ
وَدَفَعَ لَهُ الْكِسْرَةَ جُزَافًا لَجَازَ وَلَيْسَ مَا ذُكِرَ فِي وَزْنِ
الْخُبْزِ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِمَّا يَصِيرُ بِهِ مَجْهُولًا خَاصًّا بِهِ بَلْ
ذَلِكَ عَامٌّ فِي أَكْثَرِ الْبِيَاعَاتِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّحْمِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُفْعَلُ فِيهِ مَا يُفْعَلُ فِي الْخُبْزِ مِنْ
الْمَحْذُورِ فَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكْتَسِبُ
الْإِنْسَانُ الثَّمَنَ مِنْ حِلِّهِ وَيَأْكُلُهُ حَرَامًا بِتَصَرُّفِهِ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ النَّصْرَانِيِّ
وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ شِرَاءِ
الْمَائِعَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى
يَتَدَيَّنُونَ بِأَنَّ النَّجَاسَةَ إنَّمَا هِيَ دَمُ الْحَيْضِ وَحْدَهُ
وَكُلُّ مَا عَدَاهُ طَاهِرٌ عَلَى زَعْمِهِمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ يَبُولُ فِي دُكَّانِهِ
وَيَتَنَاوَلُ الْمَائِعَ وَغَيْرَهُ بِيَدِهِ وَلَا يُطَهِّرُهَا ، وَكَذَلِكَ
الْجُبْنُ الْمَقْلُوُّ وَغَيْرُهُ مِمَّا يُكْثِرُ مُبَاشَرَتَهُ لَهُ حَتَّى
قَدْ يَصِلُ ذَلِكَ إلَى تَعْيِينِ النَّجَاسَةِ يَقِينًا فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ
عَلَى هَذَا مَكْرُوهٌ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَا يَأْكُلُهُ حَتَّى يَغْسِلَهُ
إنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ غَسْلُهُ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ شِرَاءَهُ مِنْ أَهْلِ
الذِّمَّةِ مَكْرُوهٌ لَوْ كَانَ طَاهِرًا بِلَا شَكٍّ ؛ لِأَنَّ فِي الشِّرَاءِ
مِنْهُمْ مَنْفَعَةً لَهُمْ ، وَالْمُسْلِمُونَ أَحَقُّ بِالنَّفْعِ مِنْهُمْ ؛
لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُورٌ بِإِعَانَةِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَهْمَا
أَمْكَنَهُ .
وَمِنْ مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ أَنَّ مَالِكًا ذَكَرَ
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْبُلْدَانِ يَنْهَاهُمْ عَنْ
أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي أَسْوَاقِهِمْ صَيَارِفَةً وَجَزَّارِينَ
أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَرَ أَنْ يُخْرَجُوا مِنْ
أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَرَى لِلْوُلَاةِ
أَنْ يَفْعَلُوا فِي ذَلِكَ فِعْلَ عُمَرَ .
قَالَ : وَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْصِبَ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى لِأَنْفُسِهِمْ وَلِأَهْلِ دِينِهِمْ مَجْزَرَةً عَلَى حِدَةٍ
وَيُنْهَوْنَ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَيُنْهَى الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَشْتَرُوا
مِنْهُمْ وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ رَجُلُ سَوْءٍ لَا يُفْسَخُ شِرَاؤُهُ وَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ الْيَهُودِيِّ مِثْلَ
الطَّرِيفَةِ وَشِبْهِهَا مِمَّا لَا يَأْكُلُونَهُ فَيُفْسَخُ عَلَى كُلِّ حَالٍ
انْتَهَى .
وَالطَّرِيفَةُ هِيَ مَا يُوجَدُ مِنْ الرِّئَةِ
مَلْصُوقَةً بِالشَّحْمِ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي
تَذْكِيَتِهِمْ لِهَذِهِ وَكُلِّ ذِي ظُفُرٍ
وَالشُّحُومِ الَّتِي حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ .
فَحَكَى اللَّخْمِيُّ فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا : قَوْلٌ
بِالْجَوَازِ وَقَوْلٌ بِالْمَنْعِ وَقَوْلٌ بِالْكَرَاهَةِ وَقَوْلٌ بِالْفَرْقِ
بَيْنَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ فَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا
حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَمَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَقِيلَ لَا
يُؤْكَلَانِ وَقِيلَ يُؤْكَلُ مَا حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا يُؤْكَلُ
مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ انْتَهَى .
فَإِذَا تَرَكَ أَهْلَ الذِّمَّةِ وَاشْتَرَى مِنْ
الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الشِّرَاءِ مِمَّنْ لَا
يَتَحَفَّظُ مِنْهُمْ مِنْ النَّجَاسَةِ ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَشْتَرُونَ
الْخِرَقَ مِمَّنْ يَجْمَعُهَا مِنْ الطُّرُقِ وَالْكِيمَانِ وَغَيْرِهَا مِنْ
الْمَوَاضِعِ الْمُسْتَقْذَرَةِ بِالنَّجَاسَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ
أَثَرِ الْحَيْضِ أَوْ مِنْ أَثَرِ مَنْ يُعَافُ أَثَرُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَاءِ
فَيَمْسَحُونَ بِهَا أَيْدِيَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ الْأَوْعِيَةِ وَذَلِكَ
حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُسْلِمِينَ .
وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ سِيَّمَا الصَّلَاحِ فَإِنْ
عَجَزَ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فَإِنْ عَجَزَ
عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَيَخْتَارُ مَنْ هُوَ أَنْظَفُ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ
النَّظَافَةَ وَالْوَضَاءَةَ غَالِبًا لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْوُضُوءِ
بِخِلَافِ غَيْرِ الْوَضِيءِ فَالْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَمِنْ ذَلِكَ الشِّرَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الطَّبْلِيَّاتِ
وَالدِّكَكِ الْمُسْتَدِيمَةِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ يَقْعُدُ فِي
طَرِيقِهِمْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لِطَرِيقِ
الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنْ يَمُرَّ
فِي حَاجَتِهِ أَوْ يَقِفَ قَدْرَ ضَرُورَتِهِ وَلَا يَجْعَلُهُ كَأَنَّهُ
دُكَّانٌ يَبِيعُ فِيهِ وَيَشْتَرِي ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَضْيِيقًا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقَاتِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ مُتَّسِعَةً فَذَلِكَ لَا
يَجُوزُ لَا سِيَّمَا وَالطُّرُقُ فِي هَذَا الْوَقْتِ قَدْ ضَاقَتْ عَنْ
الطَّرِيقِ الَّتِي شُرِعَتْ لِلنَّاسِ وَذَلِكَ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ
أَنْ يَمُرَّ جَمَلَانِ مَعًا مُحَمَّلَانِ تِبْنًا فِي الطَّرِيقِ لَا يَمَسُّ أَحَدُهُمَا
الْآخَرَ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
حَدِّ الطَّرِيقِ الْمَشْرُوعِ وَإِلَى مَا عَلَيْهِ الطَّرِيقُ الْيَوْمَ
فَكَيْفَ يَجُوزُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَا
سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ فِي
وَقْتِ مُنْصَرَفِ النَّاسِ إلَى الْخَمْسِ صَلَوَاتٍ أَوْ إلَى تَفَقُّدِ
أَحْوَالِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَا
يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْجُلُوسِ بِالطَّبْلِيَّاتِ عَلَى أَبْوَابِ
الْجَوَامِعِ فَيُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَهُمْ إلَى بَيْتِ رَبِّهِمْ
فَهُمْ غَاصِبُونَ لِذَلِكَ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَكُلُّ مَنْ اشْتَرَى مِنْهُمْ فَقَدْ أَعَانَهُمْ
عَلَى مَا فَعَلُوهُ مِنْ الْغَصْبِ فَهُوَ شَرِيكٌ مَعَهُمْ فِي الْإِثْمِ
سِيَّمَا إنْ كَانَ فِيهَا الشَّيْءُ الَّذِي يُسَمُّونَهُ بِالْحَبْلَقَةِ
فَإِنَّهُ يَنْضَافُ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ مَفْسَدَةٌ أَكْبَرُ مِنْهَا
تَقَدَّمَ مِثْلُهَا فِي السِّقَاءِ وَالْفُقَّاعِ وَهِيَ أَنَّ تِلْكَ
الْمِلْعَقَةَ الَّتِي يَغِطُّهَا لِلنَّاسِ لَا يَرُدُّ عَنْهَا أَحَدًا مِمَّنْ
كَانَ كَالْأَجْذَمِ وَالْأَبْرَصِ وَالصَّبِيِّ وَالصَّغِيرِ وَالنَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ اللِّفْتَ وَاللُّوبِيَاءَ ؛ لِأَنَّهُمْ
يَعْمَلُونَ فِيهِمَا النَّشَادِرَ
حَتَّى يَخْضَرَّا بِذَلِكَ وَهُوَ نَجِسٌ عَلَى مَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ
غَيْرُهُمَا مِنْ الْمَائِعَاتِ فَكُلُّ مَا يُبَاشِرُهُ مِنْهَا تَنَجَّسَ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي السَّمِيطِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ سِيَّمَا إنْ كَانَ الْبَائِعُ نَصْرَانِيًّا
فَمِنْ بَابٍ أَحْرَى إذْ أَنَّهُ لَا يُتَحَرَّزُ مِنْ بَوْلِ نَفْسِهِ فِي
طَعَامِهِ فَضْلًا عَمَّا يَعْمَلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَرِيَ مِمَّنْ يَجْلِسُ فِي
الْمَقَاعِدِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ لَهَا
كَمَا تَقَدَّمَ وَقَدْ فَشَا هَذَا الْأَمْرُ وَاسْتَمَرَّ الْحَالُ عَلَيْهِ حَتَّى
قَدْ رَجَعَ بَعْضُهُمْ يُكْرِي تِلْكَ الْمَقَاعِدَ الَّتِي تَلِي بَيْتَهُ أَوْ
مِلْكَهُ أَوْ مَا هُوَ حَاكِمٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ أُجْرَةَ ذَلِكَ
حَتَّى كَأَنَّهُ مَشْرُوعٌ بَيْنَهُمْ فَلَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ،
وَذَلِكَ حَرَامٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَضِيَا مَعًا بِذَلِكَ فَالشَّرْعُ
يَأْبَى ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا
بِالْمَقَاعِدِ لَيْسَ إلَّا بَلْ كُلُّ مَنْ غَصَبَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ فَلَا
يَنْبَغِي مُعَامَلَتُهُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ
يُوجَدْ مِنْهُ بُدٌّ كَهَذِهِ الدَّكَاكِينِ الَّتِي يَعْمَلُونَ بِهَا مَسَاطِبَ
يَقْطَعُونَهَا مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ خَارِجَةً عَنْ حَوَانِيتِهِمْ قَدْ
ضَاقَ الطَّرِيقُ بِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ عَدَمُ
النَّظَرِ إلَى مَا كُلِّفَهُ الْمَرْءُ مِنْ مُرَاعَاةِ الشَّرْعِ وَغَفْلَةُ
مَنْ غَفَلَ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَتَرْكُ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ
.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ مُنِعَ
الشِّرَاءُ مِنْ الْمُكَّاسِ مَوْجُودٌ فِي الشِّرَاءِ مِمَّنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ
مِمَّا ذُكِرَ إذْ أَنَّهُ لَوْ تَحَامَى الْمُسْلِمُونَ الشِّرَاءَ مِنْهُ
لِأَجْلِ مَا اتَّصَفَ بِهِ مِنْ غَصْبِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ لَنَزَعَ عَنْ
ذَلِكَ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشِّرَاءُ مِنْهُمْ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى
مَا يَفْعَلُونَهُ ،
وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَصِيرُ
شَرِيكًا لَهُمْ فِي إثْمِ غَصْبِهِمْ لِطَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ
الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ
بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ شَيْخٌ مِنْ الصُّلَحَاءِ
يَحْضُرُ مَجْلِسَهُ وَكَانَ الْإِمَامُ يُعَظِّمُهُ لِخَيْرِهِ وَبَرَكَتِهِ
ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّ الشَّيْخَ لَيَّسَ جِدَارَ بَيْتِهِ بِالطِّينِ مِنْ
الْخَارِجِ فَتَرَكَهُ الْإِمَامُ وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا جَاءَ
إلَيْهِ أَجْلَسَهُ إلَى جَانِبِهِ وَرَحَّبَ بِهِ فَلَمَّا أَنْ بَلَغَهُ عَنْهُ
ذَلِكَ تَرَكَهُ وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَيْهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ فَبَقِيَ كَذَلِكَ
أَيَّامًا فَسَأَلَ الشَّيْخُ أَصْحَابَ الْإِمَامِ عَنْ سَبَبِ إعْرَاضِهِ عَنْهُ
فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّك لَيَّسْت جِدَارَ بَيْتِك بِالطِّينِ مِنْ
خَارِجِ فَجَاءَ الشَّيْخُ إلَى الْإِمَامِ فَسَأَلَهُ عَنْ مُوجِبِ هِجْرَانِهِ
لَهُ فَأَخْبَرَهُ الْإِمَامُ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ لِي ضَرُورَةٌ فِي
تَلْيِيسِ الْجِدَارِ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ أَمْرٍ فِي حَقِّ الْمَارِّينَ ،
فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ : ذَلِكَ غَصْبٌ فِي طَرِيقِهِمْ ، فَقَالَ لَهُ
الشَّيْخُ : هُوَ نَزْرٌ يَسِيرٌ ، فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ الْيَسِيرُ
وَالْكَثِيرُ سَوَاءٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَفْعَلُ ،
فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ تُزِيلَ التَّلْيِيسَ
وَإِمَّا أَنْ تُنْقِصَ الْجِدَارَ وَتُدْخِلَهُ فِي مِلْكِك قَدْرَ التَّلْيِيسِ
فَتَبْنِيهِ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ تُلَيِّسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ الْإِمَامُ
حَتَّى امْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ مِنْ
الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ مَرَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِجَانِبِ قَمْحٍ قَدْ
سَنْبَلَ فَجَعَلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ يَدَهُ عَلَى السُّنْبُلِ ثُمَّ نَزَعَهَا
فِي الْوَقْتِ فَرَآهُ الشَّيْخُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ صَاحِبِ الْقَمْحِ
وَيَسْتَحِلَّ مِنْهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ الْفَقِيرُ : يَا سَيِّدِي أَلَيْسَ
السُّنْبُلُ قَدْ وَقَفَ
كَمَا هُوَ وَمَا ضَرَّهُ مَا فَعَلْت بِهِ ، فَقَالَ
لَهُ الشَّيْخُ أَرَأَيْت لَوْ مَرَّ بِهِ أَلْفُ رَجُلٍ أَوْ أَكْثَرُ فَفَعَلُوا
مَا فَعَلْت أَكَانَ يَرْقُدُ قَالَ نَعَمْ ، فَقَالَ لَهُ لَك فِي ذَلِكَ حِصَّةٌ
مِنْ الظُّلْمِ فَلَمْ يُكَلِّمْهُ ، وَلَمْ يَصْحَبْهُ حَتَّى اسْتَحَلَّ مِنْهُ
، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى بَرَكَةِ تَفَقُّدِ الْعُلَمَاءِ
لِلْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي زَمَانِهِمْ كَيْفَ يَتَلَقَّوْنَهَا بِهَذَا
التَّلَقِّي الْحَسَنِ الْجَمِيلِ
.
فَلَوْ بَقِيَ الْعُلَمَاءُ عَلَى طَرَفٍ مِنْ ذَلِكَ
لَكَانَتْ هَذِهِ الْمَوَادُّ تَنْحَسِمُ أَوْ يَقِلُّ فَاعِلُهَا وَلَكِنَّ
السُّكُوتَ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَعَدَمَ السُّؤَالِ مِنْ الْعَامَّةِ لَهُمْ
أَوْجَبَ ذَلِكَ وَصَارَ مُتَزَايِدًا وَفَّقَنَا اللَّهُ لِمَرْضَاتِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ
اللَّخْمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي تَبْصِرَتِهِ : وَأَمَّا مَا يَكُونُ
بَيْنَ الدِّيَارِ مِنْ الرِّحَابِ وَالشَّوَارِعِ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ مِنْهَا إلَى دَارِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ
وَبِأَهْلِ الْمَوَاضِعِ مُنِعَ ، وَإِنْ فَعَلَ هُدِمَ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ إذَا
كَانَ لَا يَضُرُّ .
فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ الْجَوَازُ وَالْكَرَاهَةُ وَاحْتَجَّ
مَنْ قَالَ يُهْدَمُ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ { مَنْ اقْتَطَعَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَفْنِيَتِهِمْ قِيدَ
شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ طُوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ }
وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرَّ بِكِيرِ حَدَّادٍ
بِالسُّوقِ فَأَمَرَ بِهَدْمِهِ وَقَالَ تُضَيِّقُونَ عَلَى النَّاسِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا تَشَاحُّوا فِي الطَّرِيقِ فَسَبْعَةُ أَذْرُعٍ }
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ انْتَهَى
.
فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ مَا فِي الْأَسْوَاقِ
مِنْ الْمَفَاسِدِ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى
الْعَالِمِ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِنَفْسِهِ فِي قَضَاءِ مَآرِبِهِ إنْ قَدَرَ خِيفَةً
مِنْ الْمَفَاسِدِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَيْهِ وَلِوُجُوهٍ أُخْرَى نَذْكُرُ بَعْضَهَا
، وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةً جَلِيَّةً لِغَيْرِ الْعَالِمِ فَكَيْفَ لِلْعَالِمِ .
فَمِنْهَا إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لِشَيْءٍ مِمَّا
ذُكِرَ فَيَنْوِي بِذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ فِي الْخُرُوجِ إلَى السُّوقِ ،
وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ فِي قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ
ثُمَّ يُضِيفُ إلَى ذَلِكَ نِيَّةَ التَّوَاضُعِ مَعَ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ
وَنِيَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ وَتَعْلِيمِهِمْ وَتَهْذِيبِهِمْ
وَدَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِمْ
إذْ أَنَّ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فِي جُلِّ بِيَاعَاتِهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَفَ لِجَرِّ الْمَنْفَعَةِ
غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنْتَ تَرَى كَثْرَةَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ فَتَجِدُ أَحَدَهُمْ
يُعَامِلُ الْآخَرَ فَيَشْتَرِي مِنْهُ السِّلَعَ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ ثُمَّ
إنْ أَعْوَزَهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ ثَمَنَ ذَلِكَ ،
وَذَلِكَ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ
يُعَامِلْهُ مَا أَقْرَضَهُ حَتَّى إنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ
غَيْرِهِ السِّلْعَةَ الَّتِي هِيَ عِنْدَهُ لَتَشَوَّشَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ لَا يُقْرِضُهُ
ثَمَنَ ذَلِكَ إلَّا بِكُرْهٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً .
وَكَذَلِكَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَفَاسِدِ
مِثْلُ عَدَمِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ
دُخُولِ الْبَيْعِ وَالصَّرْفِ عَلَيْهِمْ وَالسَّلَفِ وَالصَّرْفِ وَغَيْرِهِمَا
، وَهَذِهِ الْمَعَانِي وَغَيْرُهَا كَثِيرَةٌ بَيْنَهُمْ فَإِذَا كَانَ
الْعَالِمُ يُبَاشِرُهُمْ فِي ذَلِكَ انْحَسَمَتْ مَادَّةُ الْمَفَاسِدِ وَقَلَّ
وُقُوعُهَا بِبَرَكَةِ الْعِلْمِ الَّذِي يَدُورُ بَيْنَهُمْ وَيَنْوِي مَعَ
ذَلِكَ تَرْكَ
التَّكَبُّرِ وَتَرْكَ التَّجَبُّرِ وَتَرْكَ الْفَخْرِ
وَالْخُيَلَاءِ إذْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ الْأَسْوَاقَ وَحَمَلَ سِلْعَتَهُ بِيَدِهِ
فَقَدْ بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ إلَى السُّوقِ فِي خِلَافَتِهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ فِي الْغَالِبِ
إلَّا النَّبَطَ فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ اجْتَمَعَ النَّاسُ بِهِ
أَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ وَعَذَلَهُمْ فِي تَرْكِهِمْ السُّوقَ ، فَقَالَ لَهُ إنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَغْنَانَا عَنْ الْأَسْوَاقِ بِمَا فَتَحَ بِهِ
عَلَيْنَا ، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ
لَيَحْتَاجَنَّ رِجَالُكُمْ إلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُكُمْ إلَى نِسَائِهِمْ
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا رَأَى النَّبَطَ يَقْرَءُونَ
الْعِلْمَ يَبْكِي إذْ ذَاكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْعِلْمَ إذَا وَقَعَ
لِغَيْرِ أَهْلِهِ يَدْخُلُ مِنْ الْمَفَاسِدِ مَا أَنْتَ تَرَاهُ وَاَللَّهُ يُرْشِدُنَا
لِمَا فِيهِ السَّدَادُ بِمَنِّهِ
.
وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ مِنْ إرْشَادِ
الضَّالِّ وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَالسَّلَامِ عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ وَرَدِّ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي
السُّوقِ إنْ شَاءَ سِرًّا ، وَإِنْ شَاءَ جَهْرًا فَالسِّرُّ فِيهِ فَائِدَةٌ
كُبْرَى وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعِ الْغَفْلَةِ وَالْجَهْرُ
فِيهِ ذَلِكَ وَزِيَادَةُ تَنْبِيهٍ لِلنَّاسِ عَلَى ذِكْرِ رَبِّهِمْ وَحَدُّ
الْجَهْرِ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمِنْ يَلِيهِ وَفَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلًا وَلَا
يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِحَيْثُ إنَّهُ يَعْقِرُ حَلْقَهُ كَمَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ
وَيُضِيفُونَ إلَيْهِ التَّلْحِينَ وَالتَّرْجِيعَ ، وَذَلِكَ مِنْ مُحْدَثَاتِ
الْأُمُورِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
وَحَدُّ السِّرِّ تَحْرِيكُ اللِّسَانِ بِمَا يُرِيدُهُ وَهُوَ أَنْ يَتَشَهَّدَ
فَيَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ
وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
ثُمَّ يُصَلِّي
عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الصَّلَاةَ التَّامَّةَ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ خَيْرِ
هَذَا السُّوقِ وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ بِذَلِكَ وَرَدَ
الْحَدِيثُ فَيَغْتَنِمُ بَرَكَةَ الِامْتِثَالِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَعْتَبِرُ فِيهِ ، وَقَدْ كَانَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ
وَلَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ اللَّهَ تَعَالَى فِيهِ وَيُسَلِّمَ
عَلَى إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا .
وَالْخُرُوجُ إلَى السُّوقِ مِنْ شِعَارِ الصُّلَحَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ
وَالْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ ذَلِكَ
مِنْ شَأْنِ النَّاسِ يَخْرُجُونَ إلَى السُّوقِ وَيَقْعُدُونَ فِيهِ انْتَهَى .
وَمَا سُمِّيَ السُّوقُ سُوقًا إلَّا لِنَفَاقِ
السِّلَعِ فِيهِ فِي الْغَالِبِ وَأَكْبَرُ سِلَعِ الْمُؤْمِنِ الَّتِي يَطْلُبُ
رِبْحَهَا تَعَلُّمُهُ وَتَعْلِيمُهُ وَإِرْشَادُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ ،
وَذَلِكَ فِي الْغَالِب مَوْجُودٌ فِي الْأَسْوَاقِ لِكَثْرَةِ وُجُودِ إخْوَانِهِ
فِيهَا وَفِيهِمْ الْعَالِمُ بِمَا يُحَاوِلُهُ وَالْجَاهِلُ بِذَلِكَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا فِي الْأَسْوَاقِ يَتَّجِرُونَ وَفِي
حَوَائِطِهِمْ يَعْمَلُونَ وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ
وَسَلَفُهَا ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ كَيْفَ يُمْكِنُ تَعْلِيمُ الْعِلْمِ فِي
الْأَسْوَاقِ ، وَذَلِكَ امْتِهَانٌ لِحَقِّ الْعِلْمِ وَنَقْصٌ لِحُرْمَةِ
الْعَالِمِ وَاسْتِهَانَةٌ بِقَدْرِهِمَا وَأَهْلُ الْأَسْوَاقِ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْأَلُونَ
فِي الْغَالِبِ وَبَذْلُ الْعِلْمِ إنَّمَا يَجِبُ إذَا سُئِلَ عَنْهُ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْعَالِمَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ تَرْكَ
السُّؤَالِ وَتَرْكَ التَّعْلِيمِ مِنْ الْمُنْكَرِ الْبَيِّنِ
فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْعَالِمِ أَنْ يَنْهَى عَنْ
ذَلِكَ وَأَنْ يَنْصَحَ إخْوَانَهُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّلَطُّفِ لَهُمْ
وَامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ تَعْلِيمُ
جَاهِلِهِمْ ، وَالتَّعْلِيمُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ بَيَانًا مِنْ غَيْرِهَا
لِوُجُودِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ مَعًا ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ
الْبَائِعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ فِي السِّلَعِ الَّتِي فِي دُكَّانِهِ
وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَنْسَاهُ فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِحَدِيثِ
الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِ { ارْجِعْ
فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } وَكَرَّرَ ذَلِكَ ثَلَاثًا حَتَّى قَالَ لَهُ الْأَعْرَابِيُّ
وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أُحْسِنُ غَيْرَهُ فَعَلِّمْنِي فَعَلَّمَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَالِمَ لَا يَجِبْ
عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ حَتَّى يُسْأَلَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلٌ لِمَا
قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ
؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَوَّلًا
بِقَوْلِهِ { ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ } ؛ لِأَنَّ صَلَاتَهُ تِلْكَ
لَا تَجُوزُ فَغَيَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى
الْعَالِمِ أَنَّ يُغَيِّرَ عَلَى النَّاسِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ
السُّنَّةِ فَإِذَا غَيَّرَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ سَأَلُوهُ فَأَجَابَهُمْ وَإِنَّمَا
فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مَعَ
الْأَعْرَابِيِّ ثَلَاثًا لِوَجْهَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : أَنْ يَسْأَلَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ الْعِلْمُ ؛ لِأَنَّهُ
إذَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ مِرَارًا قَبْلَ الْإِلْقَاءِ ثَبَتَ الْعِلْمُ بَعْدَهُ
كَمَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَا
مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ يَا مُعَاذُ ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ لَهُ
فِي الثَّالِثَةِ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ فَأَلْقَى إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ } .
وَحِكْمَةُ تَنْبِيهِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثَيْنِ ثَلَاثًا أَعْنِي حَدِيثَ الْأَعْرَابِيِّ وَحَدِيثَ
مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
كَانَ إذَا وَقَعَ لَهُ أَمْرٌ لَهُ قَدْرٌ وَبَالٌ كَرَّرَهُ ثَلَاثًا وَلَمَّا
كَانَ حَدِيثُ مُعَاذٍ فِي الِاعْتِقَادِ وَحَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فِي
الصَّلَاةِ وَمَحَلُّ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَحَلُّ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ
كَرَّرَهُمَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثًا ، وَكَذَلِكَ كَرَّرَ
مَا نَاسَبَهُمَا وَمَا لَمْ يَتَأَكَّدْ أَمْرُهُ يَكْتَفِي فِيهِ مِنْ
التَّنْبِيهِ مَرَّةً وَاحِدَةً لِمَنْ عَقَلَ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ يَزِيدُ لَهُ
فِي التَّنْبِيهِ حَتَّى يَعْقِلَ
.
وَلَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا شَأْنُ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ
إذْ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
وَالْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ
.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
مَا أَكَّدَ هَذَا الْأَمْرَ وَبَيَّنَهُ وَأَثْبَتَهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ
كَالْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى بَعْضُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى
} وَعَلَى هَذَا اسْتَمَرَّتْ الْأُمَّةُ إلَى هَلُمَّ جَرًّا .
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِلْإِمَامِ الطُّرْطُوشِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَمَّا أَنْ وَرَدَ
الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ لِيَحُجَّ فَلَمَّا أَنْ حَجّ وَرَجَعَ وَجَدَ
الدِّيَارَ الْمِصْرِيَّةَ شَاغِرَةً مِنْ الْعِلْمِ وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فِي
مَسْأَلَةٍ جِهَارًا وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يُمْسِكَ فِي يَدِهِ كِتَابًا لِغَلَبَةِ
الْأَمْرِ مِنْ السَّلْطَنَةِ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ لِبِدْعَةٍ كَانَتْ فِيهِمْ
تَدَيَّنُوا بِهَا فَلَمَّا أَنْ رَأَى الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
هَذَا الْحَالَ وَدَّعَ رَفِيقَهُ مِنْ الْإِسْكَنْدَرِيَّة وَأَرْسَلَ السَّلَامَ
إلَى وَلَدِهِ بِالْمَغْرِبِ ، وَقَالَ : هَذِهِ بِلَادٌ لَا يَحِلُّ لِي أَنْ
أَخْرُجَ مِنْهَا لِمَا غَلَبَ فِيهَا مِنْ
الْجَهْلِ فَجَعَلَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْعُدُ عَلَى
دُكَّانِ بَيَّاعٍ فَيُعَلِّمُهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عَقِيدَتِهِ
وَفَرَائِضِ وُضُوئِهِ وَسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ ، وَكَذَلِكَ تَيَمُّمُهُ
وَغُسْلُهُ وَصَلَاتُهُ ثُمَّ يَنْظُرُ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ السِّلَعِ
فَيُعَلِّمُهُ مَا فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَكَيْفِيَّةَ
تَعَاطِيهِ بَيْعَهَا وَشِرَاءَهَا وَكَيْفِيَّةَ دُخُولِ الرِّبَا عَلَيْهِ
وَالسَّلَامَةَ مِنْهُ إنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ
يَقُولُ لَهُ عَلِّمْ جَارَك ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى دُكَّانٍ آخَرَ حَتَّى قَامَ
الْعِلْمُ عَلَى مَنَارِهِ وَزَالَ الْجَهْلُ فِي حِكَايَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا ،
وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا فَكَانَ السَّبَبَ لِانْتِشَارِ الْعِلْمِ
وَظُهُورِهِ فِي الْأَسْوَاقِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَعَدَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى
يُطْلَبَ مِنْهُ التَّعْلِيمُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ أَحَدٌ مِمَّنْ فِي
الْأَسْوَاقِ وَلَا غَيْرِهَا ، وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْخَيْرُ الْعَظِيمُ
بِبَرَكَةِ التَّوَاضُعِ وَامْتِثَالِ السُّنَّةِ وَسُلُوكِ طَرِيقِ السَّلَفِ فِي
دُخُولِ الْأَسْوَاقِ وَمُرَاجَعَةِ الْعَوَامّ فِيمَا يُحَاوِلُونَهُ مِمَّا لَا
يَنْبَغِي .
فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَوْ يَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ أَعْرَضُوا عَنْ الْعِلْمِ عَرَضَ
نَفْسَهُ عَلَيْهِمْ لِتَعْلِيمِهِمْ وَإِرْشَادِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا
مُعْرِضِينَ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ كَانَ النَّاسُ مُعْرِضِينَ كَانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ
الْمُكَرَّمَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ لِيَتَّبِعُوهُ وَيَنْصُرُوهُ إذْ أَنَّ
الْغَنِيمَةَ عِنْدَهُمْ إرْشَادُ شَارِدٍ عَنْ بَابِ رَبِّهِ أَوْ ضَالٍّ لَا
يَعْرِفُ الطَّرِيقَ فَيَرُدُّونَهُمْ إلَى بَابِ مَوْلَاهُمْ وَيُوقِفُونَهُمْ
عَلَى بِسَاطِ كَرَامَتِهِ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي حَسَنٌ الزُّبَيْدِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ إنِّي لَا أُرِيدُ أَحَدًا مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَا مِنْ
الْعُلَمَاءِ يَأْتِينِي إذْ لَا
حَاجَةَ لَهُمْ بِي وَلَا حَاجَةَ لِي بِهِمْ وَإِنَّمَا
أُرِيدُ مَنْ هُوَ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَأَرُدَّهُ إلَيْهِ أَوْ كَلَامًا
هَذَا مَعْنَاهُ وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَنْ قَعَدَ فِي السُّوقِ ، وَلَمْ يَأْتِ
الْعُلَمَاءَ وَالصُّلَحَاءَ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَرَضِيَ لِنَفْسِهِ
بِتِلْكَ الْحَالِ أَنَّهُ شَارِدٌ عَنْ بَابِ رَبِّهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى
الْعَالِمِ سِيَاسَةُ مَنْ هَذَا حَالُهُ حَتَّى يُوقِفَهُ بِبَابِ رَبِّهِ كَمَا
تَقَدَّمَ ، فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى نِيَّةِ
الْعُلَمَاءِ إذَا صَلُحَتْ كَيْفَ يَبْذُلُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي الْأَسْوَاقِ
وَالْجُلُوسِ فِيهَا مَعَ الْبَاعَةِ وَمَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِالْبُعْدِ
وَالْجَهْلِ فَيَرُدُّونَهُمْ بِالْعِلْمِ إلَى أَسْنَى الْأَحْوَالِ
وَأَرْفَعِهَا لَا جَرَمَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا
الْأُسْلُوبِ الْمُبَارَكِ انْتَفَعُوا وَنَفَعُوا وَعَمَّتْ بَرَكَتُهُمْ
لِأَهْلِ الْأَسْوَاقِ وَغَيْرِهِمْ بِخِلَافِ مَا يُعْهَدُ مِنْ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ
مَعَ أَنَّهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يَعْدَمْ ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ إذْ أَنَّ
عُلَمَاءَ الْمَغْرِبِ أَكْثَرُهُمْ عَلَى مَا وَصَفْنَا لَمْ يُغَيِّرُ عَلَيْهِمْ
بُعْدُ الزَّمَانِ وَلَا مُخَالَطَةُ غَيْرِ الْجِنْسِ مِنْ الْأَعَاجِمِ
وَغَيْرِهِمْ فَانْتَفَعُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِمْ وَعَمَّتْ
بَرَكَتُهُمْ عَلَى النَّاسِ كَافَّةَ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ
وَصُلَحَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَعَامَّتِهِمْ .
وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةً
عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ
اللَّهِ } وَفِي رِوَايَةٍ تَعْيِينُ جِهَتِهِمْ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { طَائِفَةٌ بِالْمَغْرِبِ } .
وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ { لَا يَزَالُ أَهْلُ الْمَغْرِبِ
} فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَقِيَ الْخَيْرُ مُتَّصِلًا وَبِسَبَبِ
وُجُودِهِمْ وَتَصَرُّفِهِمْ بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ ارْتَدَعَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَلَّ ظُهُورُهَا وَأَهْلُهَا
وَنَزَلَتْ
الْبَرَكَاتُ وَجَاءَتْ الْخَيْرَاتُ وَبَقِيَ النَّاسُ
فِي خَفَارَتِهِمْ مَحْمُولِينَ فِي أَرْغَدِ عَيْشٍ عَكْسُ مَا هُوَ عَلَيْهِ
الْحَالُ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ فِي الْوَقْتِ فَتَجِدُ بَعْضَ
الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ يَتَشَبَّهُ بِالْمُلُوكِ فِي الْبَوَّابِينَ
وَالْحُجَّابِ وَمَنْ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الطَّرَّادِينَ حَتَّى قَلَّ
مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمُضْطَرِّينَ وَالْمُحْتَاجِينَ إلَى مَسْأَلَةٍ
وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِلْمِ فَيَتَحَيَّلُونَ فِي الْوُصُولِ إلَيْهِ بِوَسَائِطَ كَمَا
يَفْعَلُ الْمُلُوكُ وَهَذَا الْحَالُ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْعِلْمِ بَلْ هُوَ
مِنْ فِعْلِ الْجَبَابِرَةِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْغَالِبُ مِنْ بَعْضِ
الْعَوَامّ الْيَوْمَ الشُّرُودُ عَنْ الْعِلْمِ وَالنُّفُورُ عَنْ أَهْلِ
الْخَيْرِ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْهِمَمِ لِغَيْرِ سَبَبٍ فَكَيْفَ
بِهِمْ إذَا وَجَدُوا السَّبَبَ وَيَعْسَرُ عَلَيْهِمْ أَمْرُ السُّؤَالِ إلَّا
بِمَشَقَّةٍ فَيَقَعُ الْفِرَارُ وَالشُّرُودُ أَكْثَرُ فَكَانَ مَا
يَتَعَاطَوْنَهُ جَمِيعُهُ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فِي
ذِمَّةِ مَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمَّا مَنَعَهُمْ بِهِ عَنْ
تَعَلُّمِ الْعِلْمِ .
ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ بَقِيَّةِ
فِعْلِ الْعَالِمِ فِي السُّوقِ وَأَدَبِهِ فَإِذَا مَشَى فِي السُّوقِ فَيَضَعُ
بَصَرَهُ حَيْثُ يُرِيدُ أَنْ يَضَعَ قَدَمَهُ وَيَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
رَفْعِ بَصَرِهِ لِئَلَّا يَقَعَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ رُؤْيَتُهُ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ إنَّ الْإِنْسَانَ إذَا رَفَعَ بَصَرَهُ فِي الْأَسْوَاقِ أَوْ
فِي الطَّرِيقِ الَّتِي بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مَا رَفَعَهُ إلَّا
وَيَنْظُرُ إلَى حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ إذْ أَنَّ مِنْ
عَادَةِ بَعْضِ نِسَائِهِمْ الْجُلُوسُ فِي الطَّاقَاتِ وَأَبْوَابِ الرِّيحِ ،
وَذَلِكَ عَلَى الْأَسْوَاقِ وَالطَّرَقَاتِ فِي الْغَالِبِ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى -
يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ كَمَا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ .
وَقَدْ دَخَلَ بَعْضُ النَّاسِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ عَلَى
بَعْضِ السَّلَفِ ، فَقَالَ الصَّبِيُّ لِصَاحِبِ الْمَنْزِلِ يَا سَيِّدِي أَمَا
تَخَافُ أَنْ تَقْعُدَ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَهُوَ عَلَى السُّقُوطِ ، فَقَالَ
لَهُ مِنْ أَيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ خَشَبَةٌ مَكْسُورَةٌ فِي سَقْفِهِ
، فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ مَا أَكْثَرَ فُضُولَك لِي الْيَوْمَ أَرْبَعُونَ سَنَةً
فِي هَذَا الْبَيْتِ مَا رَأَيْت سَقْفَهُ وَأَنْتَ مِنْ حِينِك رَأَيْته أَوْ
كَمَا قَالَ وَقَدْ مَكَثَ بَعْضُهُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا يَنْظُرُ إلَى
السَّمَاءِ فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ فَانْسِجْ إنْ كُنْت لَهُمْ مُحِبًّا إنَّ
الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَأْمُرَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ سِيَّمَا إنْ كَانَ مِمَّا قَدْ
عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى فَيَتَأَكَّدُ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهُ
عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ صَارَ عِنْدَهُمْ مِنْ بَابِ الْقُرَبِ مِثْلُ قِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ اللَّغَطِ وَمَوَاضِعِ النَّجَاسَاتِ
فَيُنَبِّهُ الْعَالِمُ عَلَى هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ، إذْ الْكَلَامُ قَدْ
يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَيُصْلِحُ
ذَاتَ الْبَيْنِ وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ
الْمُسْلِمِينَ كُلُّ ذَلِكَ مَعَ الرِّفْقِ بِهِمْ
وَالتَّجَاوُزِ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ وَمَنْ كَانَ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ مِنْهُمْ وَزِيَارَةِ إخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ
وَتَفَقُّدِ أَحْوَالِهِمْ بِالسُّؤَالِ وَغَيْرِهِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ
وَدُنْيَاهُمْ وَالدِّينُ أَهَمُّ
.
وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ عِيَادَةَ الْمَرْضَى عَلَى
وَجْهِهَا إنْ وَجَدَ لِذَلِكَ سَبِيلًا .
وَقَدْ يَجِدُ بَعْضُهُمْ فِي سُوقِهِ فَتَحْصُلُ لَهُ
النِّيَّةُ وَالْعَمَلُ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى جِنَازَةٍ إنْ
وَجَدَهَا عَلَى السُّنَّةِ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ
وَالْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَا عَلَى وُضُوءٍ فِي كُلِّ الْحَالَاتِ ؛ لِأَنَّ
الْمُؤْمِنَ بِسِلَاحِهِ فَإِذَا وَجَدَ شَيْئًا لَا يُمْكِنُ عَمَلُهُ إلَّا
بِطَهَارَةٍ وَجَدَ السَّبِيلَ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ
الْقُرُبَاتِ غَالِبًا .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَ عِدَّةً تَكُونُ
مَعَهُ إذْ أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ شَاةً أَوْ
غَيْرَهَا تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ صَاحِبِهَا مَا يَذْبَحُهَا
بِهِ فَيُجْبِرُهَا عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ الَّتِي خَرَجَ بِهَا .
وَقَدْ يَجِدُ دَابَّةً قَدْ انْخَنَقَتْ بِحَبْلٍ
فَيَقْطَعُهُ بِمَا مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْآلَةِ فَإِنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ هَذَا
حَصَلَ لَهُ أَجْرُ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَصَلَ لَهُ
أَجْرُ النِّيَّةِ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِنِيَّةِ
السُّؤَالِ عَنْ أَحْوَالِ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ جُيُوشِهِمْ وَمَا
يَجْرِي لَهُمْ فَيُسَرُّ لِخَيْرٍ إنْ سَمِعَهُ عَنْهُمْ وَيَحْزَنُ لِضِدِّهِ فَيَكُونُ
لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِمْ .
وَكَذَلِكَ يَسْأَلُ عَمَّنْ غَابَ مِنْ إخْوَانِهِ
الْمُسْلِمِينَ فَيُسَرُّ وَيَحْزَنُ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ شَرِيكًا
لِلْوَاقِعِ لَهُ ذَلِكَ فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا
عَمَلٍ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ إلَى
السُّوقِ أَوْ غَيْرِهِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى أَهْلِهِ إذَا خَرَجَ وَلَيْسَ
السَّلَامُ الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ
الْآخَرِ
.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ
فَكَانُوا مُشْتَغِلِينَ فِي خَيْرٍ كَانَ شَرِيكًا لَهُمْ فِيهِ ، وَإِنْ خَاضُوا
فِي غَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى فِي خَرْجِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى ثُمَّ يَسْتَعِيذُ فَيَقُولَ (
اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ
أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلُ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ ثُمَّ
يَقْرَأُ آيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ خُرُوجِهِ فَإِنْ كَانَ لِلسُّوقِ طَرِيقَانِ فَلْيَخْتَرْ
أَقْرَبَهُمَا يَمْشِي فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخُطَى الزَّائِدَةَ لَا ضَرُورَةَ
تَدْعُو إلَيْهَا وَكَوْنُهُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ لِإِلْقَاءِ
الْعِلْمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ تِلْكَ الْخُطَى
الزَّائِدَةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُرِيحُ بَدَنَهُ مِنْ زِيَادَةِ التَّعَبِ .
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ
الْمَشْيِ فِي ثَنِيَّاتِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَقْتَدِي بِهِ ، وَقَدْ
يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِهَلَاكِ بَعْضِهِمْ فِيهَا بَلْ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ
الْجَادَّةِ فَإِنَّ فِيهَا السَّلَامَةَ ، وَإِنْ بَعُدَتْ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا خَرَجَ لِقَضَاءِ حَاجَةٍ أَنْ
يَتَرَبَّصَ قَلِيلًا فِي الْبَيْتِ حَتَّى يُفَكِّرَ أَهْلَهُ فِي كُلِّ مَا
يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِكَيْ يَكُونَ مَشْيُهُ إلَى السُّوقِ مَرَّةً وَاحِدَةً
لِئَلَّا يَحْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَوَائِجَ أُخَرَ فَيَحْتَاجَ أَنْ يَتَكَرَّرَ
إلَى السُّوقِ مِرَارًا فَيَكُونَ ذَلِكَ ضَيَاعًا لِلْعِلْمِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْقُرُبَاتِ
الَّتِي هِيَ أَوْلَى مِنْ حُضُورِ الْأَسْوَاقِ فَإِنْ كَانَتْ الطَّرِيقُ إلَى
السُّوقِ بَعِيدَةً يَصْعُبُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ لِبُعْدِهَا أَوْ كَانَ ضَعِيفًا
يَشُقُّ عَلَيْهِ الْمَشْيُ ، وَإِنْ قَرُبَ فَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَلَا
يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ التَّوَاضُعِ ، فَإِذَا رَكِبَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ فِي الذِّكْرِ الْوَارِدِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ مَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ شَهِدْت
عَلِيًّا أُتِيَ لَهُ بِدَابَّةٍ لِيَرْكَبَهَا فَلَمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي
الرِّكَابِ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ فَلَمَّا اسْتَوَى
عَلَى ظَهْرِهَا قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ قَالَ { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ
لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا
لَمُنْقَلِبُونَ } ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ
اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَك إنِّي ظَلَمْت نَفْسِي
فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ ثُمَّ ضَحِكَ
فَقُلْت لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْتَ قَالَ
رَأَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ كَمَا فَعَلْتُ
ثُمَّ ضَحِكَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكْت ، فَقَالَ { إنَّ رَبَّك
لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إذَا قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي يَعْلَمُ أَنَّهُ
لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ } انْتَهَى .
وَيَعْتَبِرُ عِنْدَ رُكُوبِهِ عَلَيْهَا إذْ أَنَّ
الدَّابَّةَ لَا تَحْمِلُ نَفْسَهَا فَكَيْفَ تَحْمِلُ غَيْرَهَا { إنَّ اللَّهَ
يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا } فَالْأَرْضُ مُمْسَكَةٌ بِقُدْرَةِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْ إمْسَاكِ نَفْسِهَا
فَكَيْفَ تُمْسِكُ غَيْرَهَا فَيَسْتَصْحِبُ هَذَا النَّظَرَ فِي كُلِّ
أَحْوَالِهِ فَيَشْهَدُ بِذَلِكَ رُؤْيَةَ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ
وَاسِطَةٍ فَيَقْوَى بِذَلِكَ إيمَانُهُ وَيَقِينُهُ وَيَرْجِعُ لَهُ الْإِيمَانُ
حَالًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَقَالًا ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَمْشِيَ بِالدَّابَّةِ
عَلَى رِفْقٍ وَلَا يُزْعِجُهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ } .
وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي إيصَالِ الْعِلْمِ ؛
لِأَنَّ النَّاسَ يَتَوَصَّلُونَ بِذَلِكَ إلَى سُؤَالِهِ وَجَوَابِهِ مَعَ
تَعْلِيمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ .
ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ
لِلْمُكَارِي فَيَشْتَرِطُ أَنْ لَا يُمَكِّنَ الْمُكَارِيَ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ
الْعَنِيفِ الَّذِي اعْتَادُوهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بَلْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
وَصْفُهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ إذَا رَأَى قِرْطَاسًا
فِي سِكَّةِ الطَّرِيقِ
رَفَعَهُ وَأَزَالَهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى
مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ وَلَا يُقَبِّلْهُ وَلَا يَضَعْهُ عَلَى
رَأْسِهِ إذْ إنَّ فِعْلَ ذَلِكَ بِدْعَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ كَانَ
مَكْتُوبًا أَوْ غَيْرَ مَكْتُوبٍ فَإِنْ كَانَ مَكْتُوبًا فَقَدْ لَا يَخْلُو
مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ
أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَفِي ذَلِكَ مِنْ الثَّوَابِ
مَا فِيهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مَكْتُوبٌ فَيَكُونُ
أَخْذُهُ لِذَلِكَ تَوْقِيرًا وَتَعْظِيمًا لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ إنَّ
الْوَرَقَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ النَّشَا ، وَإِنْ قَلَّ ، وَكَذَلِكَ يَنْوِي
إذَا وَجَدَ خُبْزًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا لَهُ حُرْمَةٌ مِمَّا يُؤْكَلُ
فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ عَنْ مَوْضِعِ الْمِهْنَةِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ يَصُونُهُ فِيهِ
وَلَا يَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَلَا يُقَبِّلُهُ تَحَرُّزًا مِنْ الْبِدْعَةِ
أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَاءَهُ الْقَمْحُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدًا مِنْ
الْفُقَرَاءِ فِي الزَّاوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيَعْمَلُ عَمَلًا حَتَّى
يَلْتَقِطُوا مَا وَقَعَ مِنْ الْحَبِّ عَلَى الْبَابِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ
فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَرْجِعُونَ إلَى مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ،
وَهَذَا الْبَابُ مُجَرَّبٌ كُلُّ مَنْ عَظَّمَ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى لَطَفَ
اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ ، وَإِنْ وَقَعَتْ الشِّدَّةُ بِالنَّاسِ جَعَلَ
اللَّهُ لِمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا فَعَلَى مِنْوَالِهِمْ
فَانْسِجْ إنْ كُنْت ذَا حَزْمٍ
.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا قَدَرَ أَنْ يَحْمِلَ
الْحَوَائِجَ كُلَّهَا بِنَفْسِهِ أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ فَهُوَ بِهِ أَوْلَى
لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ
رَاكِبَهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ وَالِامْتِثَالِ وَتَرْكِ
الْبِدْعَةِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ وَأَحَدٌ
يَمْشِي مَعَهُ إلَى السُّوقِ
أَنْ يُرْدِفَهُ خَلْفَهُ لِيَكْمُلَ لَهُ امْتِثَالُ
السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُرْدِفُ خَلْفَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ وَفِيهِ فَائِدَةٌ أُخْرَى وَهِيَ
التَّوَاضُعُ فَيُذْهِبُ عَنْهُ مَا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ أَهْلِ الْوَقْتِ مِمَّنْ
يَتَحَامَى ذَلِكَ وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ فَإِنْ احْتَاجَ إلَى مَنْ يَحْمِلُ
لَهُ شَيْئًا مِنْ الْحَوَائِجِ فَيَسْتَأْجِرُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعْطِي
لِغَيْرِهِ أَنْ يَحْمِلَ بِلَا أُجْرَةٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَحَدٌ
عَلَى ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ إبْرَارُ قَسَمِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ
يُعْلِمَهُ أَنْ لَا يَحْلِفَ بَعْدُ
.
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِأَحَدٍ مِمَّنْ
يَقْرَأُ عَلَيْهِ خَوْفًا أَيْ يَتَعَجَّلُ أَجْرَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا .
وَكَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
يَتَحَرَّزُونَ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرًا وَقَدْ رَأَيْت الشَّيْخَ الْجَلِيلَ
أَبَا إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ التِّنِّيسِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
أَهْلِ تِلِمْسَانَ وَكَانَ فَاضِلًا فِي الْعِلْمِ وَالدِّينِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
خَرَجَ يَوْمًا مَعَ بَعْضِ أَصْحَابِهِ إلَى خَارِجِ الْبَلَدِ فَعَطِشُوا
وَاشْتَدَّ عَطَشُهُمْ ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَاءٌ فَرَأَوْا عِمَارَةً
فَجَاءُوا إلَيْهَا يَطْلُبُونَ الْمَاءَ فَإِذَا بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ
الْقَرْيَةِ وَكَانَ قَدْ قَرَأَ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ فَذَهَبَ
فَأَتَى بِلَبَنٍ فِيهِ سُكَّرٌ فَأَعْطَاهُ لِلشَّيْخِ لِيَشْرَبَ فَأَبَى
عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ وَلِمَ وَهُوَ مِنْ وَجْهٍ حِلٍّ ؟ فَقَالَ لَهُ ؛
لِأَنَّك قَرَأْت عَلَيَّ وَلَا يُمْكِنِّي أَنْ آخُذَ مِنْكَ شَيْئًا لِئَلَّا
أَتَعَجَّلَ ثَوَابَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا فَرَغَّبَهُ فِي ذَلِكَ فَلَمْ
يَفْعَلْ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى لَا يَسْتَقْضِي حَاجَةً مِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ ،
وَذَلِكَ خِيفَةً مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَرَجَ إلَى السُّوقِ
لِقَضَاءِ بَعْضِ حَوَائِجِهِ فِي وَقْتٍ فَأَخَذَ جُمْلَةَ حَوَائِجِهِ
فَأَشْغَلَ يَدَيْهِ مَعًا فَنَزَلَ الْبَيَّاعُ مِنْ الدُّكَّانِ
وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْمِلَ لَهُ بَعْضَ الْحَوَائِجِ فَأَبَى
عَلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى أَعْطَاهُ شَيْئًا حَمَلَهُ لَهُ ثُمَّ قَصَّ
عَلَيْهِ الْبَيَّاعُ رُؤْيَا رَآهَا فَسَكَتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ
يَقُلْ شَيْئًا ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ يَا سَيِّدِي أَمَا تُعَبِّرُهَا لِي ،
فَقَالَ لَهُ لَا يُمْكِنِّي ذَلِكَ وَأَنْتَ تَحْمِلُ لِي شَيْئًا فَيَكُونُ
ذَلِكَ أُجْرَةً عَلَى الْعِلْمِ فَرَغَّبَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ
يُعْطِيَهُ حَاجَتَهُ يَحْمِلُهَا بِنَفْسِهِ فَمِنْ رَغْبَةِ الرَّجُلِ فِي تَعْبِيرِ
تِلْكَ الرُّؤْيَا أَعْطَاهُ حَوَائِجَهُ فَحَمَلَهَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ
ذَلِكَ عَبَّرَ لَهُ رُؤْيَاهُ وَمَضَى لِسَبِيلِهِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
تَحَرُّزِهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ فِيهَا فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ
الْحَالِ فَيَكُونُ الْعَالِمُ مُتَيَقِّظًا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَيْسَ هَذَا
خَاصًّا بِمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ لَيْسَ إلَّا بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ حَصَلَ
لَهُ مِنْهُ إرْشَادٌ مَا أَوْ تَعْلِيمٌ مَا فَيَتَحَفَّظُ مَنْ هَذَا جَهْدَهُ
وَدِينُ اللَّهِ يُسْرٌ .
فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ
عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ بِيَدِهِ إمَّا لِضَعْفٍ مِنْ كِبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ
شَغْلٍ مَعَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ أَوْ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ
الضَّرُورِيِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْذَارِ الشَّرْعِيَّةِ
فَالنِّيَابَةُ إذْ ذَاكَ لَهُ أَفْضَلُ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ فِي وَقْتِهِ إذْ
أَنَّ إلْقَاءَ الْعِلْمِ لِأَهْلِهِ لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ الَّذِينَ
يَطْلُبُونَهُ لِلْعَمَلِ بِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَمَعَ هَذَا لَوْ تَوَالَتْ بِهِ
الْأَشْغَالُ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ إحْيَاءِ هَذِهِ
السُّنَّةِ أَعْنِي الْخُرُوجَ إلَى السُّوقِ وَلَوْ مَرَّةً فِي وَقْتٍ مَا
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ عَلَيْهِ فَلْيَخْرُجْ إلَى
ذَلِكَ وَهُمْ يَشْتَغِلُونَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الْمَذْمُومِ
الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي وَطْءِ الْأَعْقَابِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَا خَرَجُوا
مَعَهُ إلَّا
لِضَرُورَةِ تَعْلِيمِهِمْ وَخَرَجَ هُوَ لِإِظْهَارِ
سُنَّةٍ وَلَا يُعَكِّرُ عَلَى هَذَا مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ
قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْأَسْوَاقِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى
، وَهَذَا كَلَامُ الْبَشَرِ ، نَعَمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْرَأَ حَدِيثَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِهِ إذْ أَنَّهُ لَيْسَ
بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيَتَعَيَّنُ احْتِرَامُهُ وَتَعْظِيمُهُ .
وَكَذَلِكَ لَا يَقْرَأُ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا ذُكِرَ
مِنْ الْمَشْيِ مَعَهُ لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ إنَّمَا هُوَ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَى
نَفْسِهِ مِنْ فِتْنَةِ وَطْءِ عَقِبِهِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُ خَوْفٌ مَا مِنْ
هَذِهِ السَّيِّئَةِ فَتَرْكُ هَذِهِ السُّنَّةِ أَوْلَى بِهِ أَوْ يَخْرُجُ
لِفِعْلِهَا وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ عَنْ قَضَاءِ حَاجَتِهِ
بِيَدِهِ فَيَسْتَنِيبُ مَنْ يَقْضِي لَهُ ذَلِكَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ
يُعَلِّمَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي مُحَاوَلَةِ مَا خَرَجَ إلَيْهِ بِسَبَبِ
مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فِي الْأَسْوَاقِ وَمَا
لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا يُكْرَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ
بَعْضِهِ .
فَجُمْلَةُ مَا تَحْصُلُ فِي خُرُوجِهِ إلَى السُّوقِ
مِنْ النِّيَّاتِ وَالْآدَابِ يَنُوفُ عَنْ خَمْسِينَ خَصْلَةً وَهِيَ عَلَى
سَبِيلِ التَّنْبِيهِ لِمَا عَدَاهَا فَلْيَتَنَبَّهْ مَنْ يَتَنَبَّهُ مِمَّنْ
يُوَفَّقُ لِذَلِكَ ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُ الْجَمِيعَ بِمَنِّهِ ، وَإِنْ كَانَ
قَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ
مَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ النِّيَّاتِ إلَى الْمَسْجِدِ يَخْرُجُ بِهِ إلَى السُّوقِ
وَمَا يَخْتَصُّ بِالْمَسْجِدِ وَحْدَهُ فَهُوَ مَعْلُومٌ مَذْكُورٌ قَبْلَ هَذَا
فِي مَوْضِعِهِ .
وَمَنْ دَقَّقَ النَّظَرَ وَجَدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَسَبِ مَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْ النُّورِ
وَالْحُضُورِ
فَصْلٌ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ مِنْ السُّوقِ إلَى
بَيْتِهِ وَكَيْفِيَّةِ نِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ
فَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي خُرُوجِهِ مِنْ
بَيْتِهِ إلَى السُّوقِ وَمِنْهُ تَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ وَالتَّعَلُّمُ مِنْ
عَالِمِهِمْ وَيَنْوِي فِي رُجُوعِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ الْخَلْوَةِ عَنْ
النَّاسِ فَيَكُونُ مَأْجُورًا فِي خُطَاهُ إلَى الْخَلْوَةِ وَإِذَا وَصَلَ إلَى
بَيْتِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى أَهْلِهِ بِنِيَّةِ امْتِثَالِ
السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى حِينَ دُخُولِهِ وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ عِنْدَ
خُرُوجِهِ وَلَا تَقَعُ التَّفْرِقَةُ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ إلَّا بَيْنَ
الْمَسْجِدِ وَبَيْتِ الْخَلَاءِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ حَمَّامٍ أَوْ غَيْرِهِ
مِنْ مَوَاضِعِ الْفَضَلَاتِ وَيُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى حِينَ دُخُولِهِ
وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَمْتَثِلُ
السُّنَّةَ فِي الدُّعَاءِ الْوَارِدِ حِينَ الدُّخُولِ إلَى الْبَيْتِ وَهُوَ
أَنْ يَقُولَ ( اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَ الْمَوْلَجِ وَخَيْرَ
الْمَخْرَجِ بِسْمِ اللَّهِ وَلَجْنَا وَبِسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا وَعَلَى اللَّهِ
رَبِّنَا تَوَكَّلْنَا ) ثُمَّ يَتَعَوَّذُ وَيَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
إلَى آخِرِهَا .
وَيَنْوِي حِينَ دُخُولِهِ إلَى بَيْتِهِ نِيَّةَ
الْخَلْوَةِ عَنْ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يَنْوِي بِذَلِكَ لِيَسْلَمَ
النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ لِسَانِهِ وَنَظَرِهِ وَسَمْعِهِ وَبَطْشِهِ
وَسَعْيِهِ وَحَسَدِهِ وَبَغْيِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ
الرَّدِيئَةِ إذْ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَرُبَ مِنْ بَابِ رَبِّهِ تَعَالَى كَانَ
أَسْوَأَ ظَنًّا بِنَفْسِهِ كَمَا قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ لَمَّا انْعَزَلَ
فِي خَلْوَتِهِ عَنْ النَّاسِ وَانْفَرَدَ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَالَ وَجَدْت
لِسَانِي كَلْبًا عَقُورًا قَلَّ أَنْ يَسْلَمَ مِنْهُ مَنْ خَالَطَهُ فَحَبَسْت
نَفْسِي لِيَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ شَرِّهِ وَآفَتِهِ .
وَفِي هَذِهِ النِّيَّاتِ مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ
مُتَعَدِّدَةٌ مِنْهَا أَنَّهَا
تَحْتَوِي عَلَى عَدَمِ الدَّعْوَى وَعَلَى عَدَمِ
التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ وَالْخُيَلَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ
الرَّدِيئَةِ فَبِنَفْسِ هَذِهِ النِّيَّةِ تَنْدَفِعُ كُلُّهَا وَفِي الْخَلْوَةِ
مِنْ الْخَيْرَاتِ أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ تَحْصُلُ لَهُ دُونَ كُلْفَةٍ يَتَكَلَّفُهَا
وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ حَالِ
الْمُرِيدِ ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُ بِالْجَمِيعِ بِمَنِّهِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ
يَنْوِيَ بِالْخَلْوَةِ سَلَامَتَهُ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَاءٌ عُضَالٌ
وَالْعَطَبُ فِيهِ مَوْجُودٌ إذْ أَنَّ فِيهِ تَحْسِينُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ
وَإِسَاءَةُ الظَّنِّ بِغَيْرِهِ مِنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذَا حِينَ رُجُوعِ الْعَالِمِ
مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَيْتِهِ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ
بَعْضُ ذَلِكَ هُنَا زِيَادَةَ تَنْبِيهٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ ،
فَإِنْ احْتَاجَ أَهْلُهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى أَوْ نَسِيَ شَيْئًا مِمَّا خَرَجَ
إلَيْهِ فَلَا يَعُودُ إلَى السُّوقِ وَيَتْرُكُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ
ضَرُورِيًّا اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَخَافُ فَوَاتَ أَمْرٍ ، مِثْلُ
مَرِيضٍ يَحْتَاجُ إلَى فَصَادٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ غِذَاءٍ أَوْ دَوَاءٍ أَوْ مَا
أَشْبَهَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَمْضِيَ عَلَيْهِ الزَّمَانُ فِي الْأَسْوَاقِ كَمَا
سَبَقَ ؛ لِأَنَّ الْأَهْلَ إذَا عَلِمُوا أَنَّهُ مَهْمَا أَعْوَزَهُمْ شَيْءٌ
يُقْضَى لَهُمْ تَكْثُرُ حَوَائِجُهُمْ وَيَضِيعُ عَلَيْهِ وَقْتُهُ فَإِذَا
عَلِمُوا مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً جَمَعُوا
لَهُ الْحَوَائِجَ كُلَّهَا فِي خُرُوجِهِ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ وَقْتَهُ وَإِذَا
قَعَدَ فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَبَنِيهِ فَأَجْرُ الْخَلْوَةِ حَاصِلٌ لَهُ ،
فَإِنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ الْقُرَبِ بِحَضْرَتِهِمْ أَوْ مَعَ عِلْمِهِمْ
فَذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَهُ تَضْعِيفُ الثَّوَابِ فِيهِ
إذْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ قَالُوا ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ لَا تَخْرُجُ
عَنْ عَمَلِ السِّرِّ ، وَإِنْ عُمِلَتْ فِي الْجَهْرِ وَهِيَ سُجُودُ
التِّلَاوَةِ إذَا مَرَّ التَّالِي بِسَجْدَةٍ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي
سِرِّهِ فَيَسْجُدُ لَهَا بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَإِذَا
كَانَ صَائِمًا فَدُعِيَ إلَى طَعَامٍ ، فَقَالَ إنِّي صَائِمٌ ، وَإِذَا كَانَ مَعَ
أَهْلِهِ يَعْمَلُ عَمَلًا وَهُمْ مَعَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يُخْرِجُهُ
عَنْ عَمَلِ السِّرِّ وَلَا عَنْ الْخَلْوَةِ .
أَمَّا سُجُودُ التِّلَاوَةِ فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ إذَا
مَرَّ بِسَجْدَةٍ يَسْجُدُ لَهَا فَإِذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا يَتْرُكُهَا
لِأَجْلِ الْغَيْرِ إذْ أَنَّ تَرْكَ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ وَالرِّيَاءُ
مَمْنُوعٌ فِعْلُهُ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ إذَا
خَافَ التَّشْوِيشَ عَلَى مَنْ دَعَاهُ حَتَّى يُرْفَعَ عَنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ
مَا يَتَوَقَّعُ مِنْ تَشْوِيشِ خَاطِرِهِ ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِحَضْرَةِ
أَهْلِهِ فَلَوْ كُلِّفَ أَنْ لَا يَعْمَلَ الْعَمَلَ إلَّا بِغَيْبَتِهِ عَنْهُمْ
لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ وَفَتْحُ بَابٍ لِتَرْكِ الْعَمَلِ ،
لَكِنْ إذَا أَرَادَ جَمْعَ خَاطِرِهِ وَقَدَرَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْزِلٍ عَنْ
الْأَهْلِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ الَّذِي
يُخِلُّ بِحَالِهِ الِاجْتِمَاعُ
.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي التَّنَفُّلِ فِي الْبَيْتِ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي
الْمَسْجِدِ يَعْنِي لِفَضِيلَةِ عَمَلِ السِّرِّ فَإِنْ كَانَ فِي الْبَيْتِ
أَوْلَادٌ أَوْ مَنْ يُفَرِّقُ خَاطِرَهُ فِي عِبَادَتِهِ فَفِي الْمَسْجِدِ
أَفْضَلُ انْتَهَى .
وَأَمَّا أَهْلُ التَّمْكِينِ فَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى
ذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
إذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَقَّرَهُ أَهْلُهُ
وَاحْتَرَمُوهُ كَثِيرًا فَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ كَثُرَ لَغَطُهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ
بِمَا يَخْتَارُونَ فَسَأَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالُوا إذَا كَانَ فِي
الصَّلَاةِ لَا يَسْمَعُ مَا نَقُولُ ، فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ كَيْفَ
تَنْصَرِفُ هِمَّتُهُ لِرُؤْيَةِ الْأَوْلَادِ مُمَازَجَتِهِمْ أَوْ غَيْرِهِمْ .
وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ تَكُونُ فِي وَقْتٍ دُونَ
وَقْتٍ فَفِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ تَكُونُ فِي الْبَيْتِ الْحَرَكَةُ
الْكَثِيرَةُ وَالْبُكَاءُ الْكَثِيرُ مِنْ الْأَوْلَادِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا
يُشَوِّشُ الْخَاطِرَ فَلَا أَسْمَعُهُ وَلَا أَعْرِفُ بِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ
رَاجِعٌ إلَى حَالِي وَبَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَشْعُرُ بِهِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا
بِحَسَبِ الْحُضُورِ وَالتَّفْرِقَةِ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي تِلَاوَتِهِ لِكِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَبَعْضُ الْأَيَّامِ أُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ أَسْتَفْتِحُ
سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَمَا يَجِيءُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِقَلِيلٍ إلَّا
وَأَنَا قَدْ خَتَمْت ، وَبَعْضُ الْأَيَّامِ لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ
الْحُضُورِ فَإِنْ كُنْت حَاضِرًا كَانَ ذَلِكَ وَبِحَسَبِ التَّفْرِقَةِ يَكُونُ
الْبُطْءُ فِي الْخَتْمِ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَوِيَّ وَالضَّعِيفَ لَا
يَسْتَوِيَانِ ، فَعَلَى هَذَا فَالْخَلْوَةُ عَنْ الْأَهْلِ مُشْتَرَطَةٌ فِي
حَقِّ الضَّعِيفِ وَفِي وَقْتِ التَّفْرِقَةِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ أَنْ
يُعْطِيَهُمْ حَظَّهُمْ مِنْهُ فِي وَقْتِ مَا وَيُؤَاكِلُ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ وَجَوَارِيَهُ
وَعَبِيدَهُ مِنْ صَحْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَفْضَلَ مِنْ
كَثِيرٍ مِنْ خَلَوَاتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ وُجُوهًا مِنْ الْخَيْرِ مِنْهَا
امْتِثَالُ السُّنَّةِ وَالتَّوَاضُعُ وَإِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التَّحْقِيقِ مَنْ رَأَى
أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الْكَلْبِ فَالْكَلْبُ خَيْرٌ مِنْهُ وَقَوْلُهُ هَذَا
بَيِّنٌ وَاضِحٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلْبَ مَقْطُوعٌ لَهُ بِأَنَّهُ لَا
يَدْخُلُ النَّارَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مُحْتَمَلٌ لِدُخُولِهَا إلَّا
مَنْ اُسْتُثْنِيَ فَالْكَلْبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَفِي الْأَكْلِ
مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ تَرْكُ رُعُونَةِ النَّفْسِ وَتَرْكُ رِيَاسَتِهَا وَالتَّعَاظُمِ
وَالْفَخْرِ وَاتِّصَافِهَا بِالْخَوْفِ وَالْوَجَلِ وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ
لِغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ بَيِّنٌ وَاضِحٌ فَيَقْوَى الرَّجَاءُ لِمَنْ اتَّصَفَ
بِذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ النَّاجِينَ ، نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُنْجِيَنَا
مِنْ جَمِيعِ الْمَهَالِكِ بِفَضْلِهِ أَجْمَعِينَ .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْخَلْوَةِ مَعَ وُجُودِ
الْأَهْلِ فَهُوَ عَلَى جَادَّةِ مَذْهَبِ الْعُلَمَاءِ
- رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَمَذْهَبُ بَعْضِ أَهْلِ التَّحْقِيقِ أَنَّ
عَمَلَ السِّرِّ هُوَ الَّذِي لَا يُعْرَفُ بِهِ الْمَلَكَانِ عَلَيْهِمَا
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ آدَابِ الْعَالِمِ فِي أَخْذِهِ
الدَّرْسَ فِي الْمَسْجِدِ
أَخْذُ الدَّرْسِ فِي الْبَيْتِ وَالْمَدْرَسَةِ
وَبَقِيَ الْكَلَامُ عَلَى أَخْذِهِ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي
الْمَدْرَسَةِ فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ لِضَرُورَةٍ مَا أَعْنِي لَا يُمْكِنُهُ
الْخُرُوجُ لِأَجْلِهَا فَأَخْذُهُ الدَّرْسَ فِي الْبَيْتِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ
؛ لِأَنَّ تَرْكَهُ فِيهِ ضَرَرٌ فِي الْغَالِبِ عَلَيْهِ وَعَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .
فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَالْأَدَبُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي
الْمَسْجِدِ لَكِنْ يَخْتَصُّ الْبَيْتُ بِبَعْضِ الْآدَابِ ، وَإِنْ كَانَتْ
مَطْلُوبَةً فِي الْمَسْجِدِ لَكِنْ فِي الْبَيْتِ تَتَأَكَّدُ ، فَمِنْهَا
كَثْرَةُ تَوَاضُعِهِ لِلدَّاخِلَيْنِ عَلَيْهِ أَعْنِي فِي تَلَقِّيهمْ
بِبَشَاشَةِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ التَّلَقِّي إذْ أَنَّ الْبَيْتَ مَحَلُّ
انْقِبَاضِهِمْ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ
فَإِنْ لَمْ يَبْسُطْ لَهُمْ الْأُنْسَ وَإِلَّا كَانَ سَبَبًا لِانْقِبَاضِهِمْ
أَوْ عَدَمِ مَجِيئِهِمْ أَوْ يَقِلُّ فَهْمُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ مَا يُلْقِيهِ
إلَيْهِمْ وَمِنْهَا أَنْ يَأْذَنَ لِلطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَحْتَاجُ
إلَى الِاسْتِفْتَاءِ أَوْ التَّعْلِيمِ أَوْ لِيَسْمَعَ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ
مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْخَلِيفَةِ أَدْرَكْت الْعُلَمَاءَ وَهُمْ
يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ
بِهِ الْخَاصَّةُ انْتَهَى .
وَيُحْتَمَلُ عَدَمُ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ
أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ لَا يُوَفَّقُونَ لِلْعَمَلِ بِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ ثَوَابَ الْعِلْمِ يَكْثُرُ
بِانْتِشَارِهِ ، فَكُلَّمَا انْتَشَرَ زَادَ الثَّوَابُ لِمُعَلِّمِهِ وَحَصَلَ
لِمَنْ عَمِلَ بِهِ .
وَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِصَاصُ بِهِ امْتَنَعَ
انْتِشَارُهُ ، وَإِذَا امْتَنَعَ انْتِشَارُهُ ذَهَبَ بَعْضُ ثَوَابِهِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُحْرَمَ الْخَاصَّةُ فَهْمَ تِلْكَ
الْمَسَائِلِ وَمَعَانِيهَا ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِذَلِكَ نَوْعَ
تَكَبُّرٍ وَتَجَبُّرٍ وَبُخْلٍ بِمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ
يُنْفِقُوهُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَحُرِمُوا الْفَهْمَ
فِيهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي
الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ } الْآيَةَ وَمَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَكَبِّرِينَ
يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ وَالْعِلْمَ وَلَكِنَّهُمْ مَنَعُوا فَائِدَتَهُ وَهِيَ
الْفَهْمُ فِيهِ وَالْعَمَلُ بِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَطْلُوبُ فَبَقِيَ الْعَوَامُّ
أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَعَانُ .
وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنَ مَشْهُورًا
مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ عَدَمَ اشْتِهَارِهِ سَبَبٌ لِقِلَّةِ انْتِشَارِ الْعِلْمِ
أَوْ يَكُونُ فِيهِ بَعْضُ كَتْمٍ لَهُ
.
وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ أَخْذِ الدَّرْسِ
فِي الْبَيْتِ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ فِيهِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ حِسٌّ وَلَا
كَلَامٌ خِيفَةً مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي لَا
يُشْعَرُ بِهَا .
وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ مَعْلُومًا ؛
لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا وَقَعَ الضَّرَرُ بِهِ وَبِمَنْ يَأْتِي
إلَيْهِ إذْ أَنَّ وَقْتَ الْإِذْن بَقِيَ غَيْرَ مَضْبُوطٍ لَهُمْ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ فِي
جَمَاعَةٍ فِي أَثْنَاءِ الدَّرْسِ قَطَعَ وَقَامَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ
لِيَتَأَهَّبُوا لِلصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ فِي جَمَاعَةٍ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ
أَكْبَرِ إظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ .
فَإِذَا خَرَجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ إلَى الْمَسْجِدِ
ظَهَرَتْ بِذَلِكَ الشَّعَائِرُ وَاقْتَدَى بِهِ النَّاسُ فِي ذَلِكَ وَحَصَلَ
لَهُمْ بَرَكَةُ امْتِثَالِ السُّنَّةِ لِمَا فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ
مِنْ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ وَالثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا
تَقَدَّمَ .
أَلَا تَرَى إلَى وَصَفَ الْوَاصِفُ لِبَعْضِ حَالِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ
الْأَذَانَ خَرَجَ فَيَحْصُلُ لِلْعَالِمِ بَرَكَةُ الِامْتِثَالِ وَالِاقْتِدَاءِ
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُبَادَرَةِ إلَى الْخَيْرَاتِ
، وَإِنْ كَانَتْ صَلَاةُ الْعَالِمِ فِي الْبَيْتِ فِي جَمَاعَةٍ مَعَ طَلَبَتِهِ
أَوْ غَيْرِهِمْ يَحُوزُونَ بِهَا فَضِيلَةَ الِاجْتِمَاعِ لَكِنْ يَذْهَبُ عَنْهُ
وَعَنْهُمْ إذَا صَلَّوْا فِي الْبَيْتِ الْفَضَائِلَ وَالْأُجُورَ
الْمَذْكُورَةَ فِي الْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ
وَيَكُونُ مَا وَقَعَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمَكْرُوهَةِ
كَرَاهَةً شَدِيدَةً إذْ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِهِ وَبِهِمْ فِي ذَلِكَ .
وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ إلَى تَعْطِيلِ الْمَسَاجِدِ
أَوْ بَعْضِهَا مِنْ الْجَمَاعَاتِ
.
إذْ الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا
يَعْدَمُونَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُمْ فِي الْبُيُوتِ فَيَجِدُونَ السَّبَبَ
لِلْقُدْوَةِ بِالْعَالِمِ فِي تَرْكِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ
تَكُونَ لَهُ ضَرُورَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ
لِأَجْلِهَا فَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ لَكِنْ
يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ لِمَنْ حَضَرَهُ أَنَّهُ مَضْرُورٌ لِتَرْكِ ذَلِكَ وَلَيْسَ
عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ الْوَجْهَ الَّذِي لِأَجْلِهِ تَرَكَ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا
كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى .
وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَافِظُونَ عَلَى آدَابِ الشَّرِيعَةِ كَمَا يُحَافِظُونَ عَلَى
الْوَاجِبَاتِ مِنْهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ
يَأْتِيَ إلَى الْمَسْجِدِ لِشِدَّةِ مَرَضِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ يَتَهَادَى
بَيْنَ اثْنَيْنِ لِأَجْلِ شُهُودِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِيَشْهَدَ دَعْوَةَ
الْمُسْلِمِينَ وَاغْتِنَامَ بَرَكَتِهِمْ وَالصَّلَاةَ مَعَهُمْ وَخَلْفَهُمْ إذْ
الْغَالِبُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ
مَغْفُورٍ لَهُ غُفِرَ لَهُ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَأْتِي
إلَى الْمَسْجِدِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ رَغْبَةً مِنْهُ فِي فَضِيلَةِ الصَّفِّ
الْأَوَّلِ فَإِذَا امْتَلَأَ الصَّفُّ الْأَوَّلُ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى الصَّفِّ
الَّذِي يَلِيه ، وَهَكَذَا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى آخِرِ النَّاسِ فَقِيلَ لَهُ
فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ أَمَّا سَبْقِي فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلِأَحُوزَ فَضِيلَةَ
الصَّفِّ الْأَوَّلِ مَعَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَأَمَّا انْتِقَالِي إلَى مَا
سِوَاهُ فَلَعَلَّ أَنْ أُصَلِّيَ خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ فَيُغْفَرَ لِي سِيَّمَا
إنْ كَانَ الْمَغْفُورُ لَهُ إمَامًا فَبَخٍ عَلَى بَخٍ .
فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسَاجِدِ
فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ وَمُهِمَّاتِهِ .
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا إذَا فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ أَعْتَقَ
رَقَبَةً .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ لِلْعَالِمِ
عُذْرٌ فِي التَّخَلُّفِ فِي الْبَيْتِ عَنْ الْمَسْجِدِ فَلْيَأْذَنْ لِمَنْ
مَعَهُ فِي الْبَيْتِ مِنْ الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ
لِأَجْلِ إظْهَارِ شَعِيرَةِ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُمْسِكُهُمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ
مَعَهُمْ وَيُصَلِّي هُوَ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ إنْ أَمْكَنَ
فَإِذَا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ فِي الْمَسْجِدِ رَجَعُوا إلَيْهِ إنْ كَانَ بَقِيَ
لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ وَظِيفَتِهِمْ إنْ شَاءُوا ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُصَلِّي
مَعَهُ فِي الْبَيْتِ صَلَّى فَذَا فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ وَأَبْرَكُ لِأَجْلِ امْتِثَالِ
السُّنَّةِ فِي إذْنِهِ لَهُمْ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ لِإِظْهَارِ
السُّنَّةِ وَالشَّعِيرَةِ كَمَا سَبَقَ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ كَثْرَةَ
الْمَسَاجِدِ وَقِلَّةَ الْمُصَلَّيْنَ فِيهَا .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ كَثْرَةَ الْمَسَاجِدِ
فِي الْمَحَلَّةِ الْوَاحِدَةِ
.
رُوِيَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ لَمَّا دَخَلَ
الْبَصْرَةَ جَعَلَ كُلَّمَا خَطَا خُطْوَتَيْنِ رَأَى مَسْجِدًا ، فَقَالَ مَا
هَذِهِ الْبِدْعَةُ كُلَّمَا كَثُرَتْ الْمَسَاجِدُ قَلَّ الْمُصَلَّوْنَ أَشْهَدُ
لَقَدْ كَانَتْ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا لَيْسَ فِيهَا إلَّا مَسْجِدٌ وَاحِدٌ
وَكَانَ أَهْلُ الْقَبِيلَةِ يَتَنَاوَبُونَ الْمَسْجِدَ الْوَاحِدَ فِي الْحَيِّ
مِنْ الْأَحْيَاءِ .
وَاخْتَلَفُوا إذَا اتَّفَقَ مَسْجِدَانِ فِي مَحَلَّةٍ
فِي أَيِّهِمَا يُصَلَّى .
فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ فِي أَقْدَمِهِمَا .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَغَيْرُهُ مِنْ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : وَكَانُوا يُجَاوِزُونَ
الْمَسَاجِدَ الْمُحْدَثَةَ إلَى الْمَسْجِدِ الْعَتِيقِ انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ يَتَحَفَّظُ مِنْ هَذَا
انْسَدَّتْ
هَذِهِ الثُّلْمَةُ فَلَمْ يُوجَدْ تَعْطِيلٌ بِبَرَكَةِ
الِاتِّبَاعِ .
وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِذَلِكَ بِمَنِّهِ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ أَوْ يَغْتَرَّ بِبَعْضِ
عَوَائِدِ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ بِالدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا
، وَذَلِكَ أَنَّك تَجِدُ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ وَالْفَتْوَى يَسْمَعُ
الْأَذَانَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَلَا يُزَعْزِعُهُ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَرَّكُ
لِلْخُرُوجِ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَوْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ وَيَنْتَظِرُ حَتَّى
يَأْتِيَهُ أَحَدٌ مِنْ الطَّلَبَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيُصَلِّيَ مَعَهُ الْفَرْضَ
وَيَرَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ السِّيَاسَةِ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُمْ فَضِيلَةُ
الْجَمَاعَةِ دُونَ خُرُوجٍ وَحَرَكَةٍ إلَى الْمَسْجِدِ وَدُونَ مُخَالَطَةِ
الْعَوَامّ ، فَإِنْ لَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ فِي الْوَقْتِ وَخَشِيَ خُرُوجَهُ
صَلَّى مَعَ أَهْلِهِ إنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ وَإِلَّا صَلَّى فَذًّا ، وَقَدْ
يَكُونُ الْمَسْجِدُ عَلَى بَابِهِ أَوْ بِجِوَارِهِ ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ
أَحَدٌ وَقَدْ يُصَلِّي فِيهِ مَنْ لَا يُؤْبَهُ لَهُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ
، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَعِيدًا لَكَانَ الْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَهْرَعُ
إلَيْهِ حِينَ قَرَعَ سَمْعَهُ النِّدَاءُ ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِ
النَّبِيِّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَكْثَرَكُمْ أَجْرًا
أَبْعَدُكُمْ دَارًا } مَعَ عِلْمِهِ بِمَا فِي الْجَمَاعَةِ وَإِظْهَارِ
الشَّعَائِرِ مِنْ الثَّوَابِ وَالْبَرَكَاتِ وَالْكُنُوزِ فِي الْغَالِبِ لَا
يُبَادِرُ إلَيْهَا إلَّا مَنْ يَعْرِفُهَا .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ ثَلَاثًا .
رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ،
وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَيَّ عَلَى
الْفَلَاحِ فَلَمْ يُجِبْ .
} انْتَهَى
.
ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ تَجِدُ
الْجَامِعَ الْأَعْظَمَ فِي غَالِبِ الْأَوْقَاتِ إذَا صَلَّى الْإِمَامُ
يَسْتُرُهُ عَوَامُّ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ ، وَقَدْ يَطْرَأُ
عَلَيْهِ سَهْوٌ ، فَلَا يَجِدُ مِنْ يُسَبِّحُ لَهُ وَلَا مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ
إنْ جَرَى
عَلَيْهِ أَمْرٌ يُحْوِجُهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ
فَيَكُونُ سَبَبًا لِإِفْسَادِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِينَ ، ثُمَّ إنَّك إذَا
نَظَرْت إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَا تَجِدُ فِيهِ فِي الْغَالِبِ مَنْ يُقْتَدَى
بِهِ عَكْسُ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو
الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى } انْتَهَى ، وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ أَنَّهُمْ
كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ مِنْهُمْ
ثُمَّ الثَّانِي ثُمَّ الثَّالِثُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ إلَى آخِرِهِمْ ؛
لِأَنَّ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ مِنْهُمْ كَانُوا أَسْرَعَ سَبْقًا لِتِلْكَ
الْمَوَاضِعِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَأَخَّرَ عَنْ
مَوَاضِعِهِمْ ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ أُمِيتَتْ وَتُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ فِي
هَذَا الزَّمَانِ ، لَكِنْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ بَقِيَ مِنْهَا بَقِيَّةُ خَيْرٍ
قَائِمَةٌ بِهَذِهِ الشَّعِيرَةِ فِي بِلَادِ الْمَغْرِبِ ، فَإِنَّك تَجِدُ بِهَا
الْمَسَاجِدَ مُصَانَةً مُرَفَّعَةً عَظِيمَةً لَا تُرْفَعُ فِيهَا الْأَصْوَاتُ ،
وَلَا تُدْخَلُ إلَّا لِلصَّلَاةِ أَوْ لِمَجَالِسِ الْعِلْمِ وَمَا قَدَّمْنَاهُ
مِنْ التَّرْتِيبِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَغَيْرِهِ ، فَهُمْ مَاشُونَ عَلَى
ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُ .
وَلَهُمْ عَادَةٌ حَسَنَةٌ قَدْ مَضَى ذِكْرُهَا وَهِيَ
أَنَّ الَّذِينَ يَعْمُرُونَ الصُّفُوفَ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ لَكِنَّ
الَّذِينَ يَسْتُرُونَ الْإِمَامَ هُمْ أَكْثَرُ امْتِيَازًا مِنْ غَيْرِهِمْ فِي
الْفَضْلِ وَالدِّينِ ، وَهُمْ مَعْلُومُونَ قَلَّ أَنْ يَغِيبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ ،
فَإِنْ غَابَ لِضَرُورَةٍ قَدَّمُوا مَوْضِعَهُ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ أَوْ
يُقَارِبُهُ ، فَيُصَلِّي الْإِمَامُ وَهُوَ مُطْمَئِنُّ الْقَلْبِ مِمَّا
يَطْرَأُ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ ، إذْ أَنَّهُمْ فِي الْفَضْلِ وَالْعِلْمِ
بِحَيْثُ لَا يَغْفُلُونَ عَنْ حَرَكَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ ، وَهَذَا عَكْسُ مَا
الْحَالُ عَلَيْهِ الْيَوْمَ حَتَّى إنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقْتَدَى
بِهِ الْيَوْمَ فِي الْمَسْجِدِ لَرَأَيْته بَعِيدًا مِنْ الْإِمَامِ ، وَقَدْ
لَا يُصَلِّي فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ مَعَ
ذَلِكَ تَتَقَدَّمُهُ السَّجَّادَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ
كِفَايَةٌ فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ
.
فَهَذَا بَعْضُ الْآدَابِ الَّتِي تَخْتَصُّ
بِالْعَالِمِ إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي بَيْتِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ يَأْخُذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ
فَآدَابُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَسْجِدِ ، لَكِنَّ الْمَسْجِدَ
لَهُ آدَابٌ تَخُصُّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ، وَالْمَدْرَسَةُ لَهَا آدَابٌ
تَخُصُّهَا سَنَذْكُرُهَا قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، لَكِنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ
فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ لِأَجْلِ كَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْعِلْمِ لِمَنْ
قَصَدَهُ وَمَنْ لَمْ يَقْصِدْهُ ، بِخِلَافِ الْمَدْرَسَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا
يَأْتِي إلَيْهَا غَالِبًا إلَّا مَنْ قَصَدَ الْعِلْمَ أَوْ الِاسْتِفْتَاءَ
فَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَقَلُّ رُتْبَةً فِي الِانْتِشَارِ مِنْهُ فِي
الْمَسْجِدِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَخْذُهُ فِي الْمَدْرَسَةِ أَكْثَرُ انْتِشَارًا
مِنْهُ فِي الْبَيْتِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لَا يَقْصِدُ أَخْذَ الدَّرْسِ فِي الْمَدْرَسَةِ
إلَّا لِأَجْلِ الْمَعْلُومِ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ
إذَا أَخَذَ الدَّرْسَ فِي الْمَدْرَسَةِ أَنْ يَأْخُذَ بِتِلْكَ النِّيَّاتِ الَّتِي
وُصِفَتْ فِي الْمَسْجِدِ وَتِلْكَ الْآدَابِ .
بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي إخْلَاصِ
نِيَّتِهِ وَيَدْفَعَ الشَّوَائِبَ عَنْ نَفْسِهِ لِئَلَّا يَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِالْمَعْلُومِ
أَوْ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ بِقَلْبِهِ ، بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ
الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا
فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ } انْتَهَى ،
فَإِذَا جَاءَهُ الْمَعْلُومُ دُونَ سُؤَالٍ وَلَا اسْتِشْرَافِ نَفْسٍ فَلَا
بَأْسَ بِأَخْذِهِ
إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إلَيْهِ .
هَذَا عَلَى جَادَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِشَرْطِ أَنْ
يَكُونَ التَّعْلِيمُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، وَعَلَامَةُ صِدْقِهِ فِيمَا
وَصَفَ مِنْ تَعْلِيمِهِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ عَنْهُ
الْمَعْلُومَ لَا يَتْرُكُ التَّعْلِيمَ وَلَا مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ
الِاجْتِهَادِ وَلَا يَتَبَرَّمُ وَلَا يَتَضَجَّرُ ، بَلْ يَكُونُ فِي وَقْتِ
قَطْعِ الْمَعْلُومِ أَكْثَرَ تَعْلِيمًا وَأَشَدَّ حِرْصًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَعْلُومُ قَدْ قُطِعَ عَنْهُ
اخْتِبَارًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَرَى صِدْقَهُ فِي عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ
بِهِ ، فَإِنَّ رِزْقَهُ مَضْمُونٌ لَهُ مُطْلَقًا لَا يَنْحَصِرُ ذَلِكَ فِي
جِهَةٍ دُونَ أُخْرَى .
قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَكَفَّلَ
اللَّهُ بِرِزْقِ طَالِبِ الْعِلْمِ
} انْتَهَى ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يُيَسِّرُهُ لَهُ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ
تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ ، لَكِنَّ حِكْمَةَ
تَخْصِيصِ طَالِبِ الْعِلْمِ بِالذِّكْرِ أَنَّ ذَلِكَ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ بِلَا
تَعَبٍ وَلَا مَشَقَّةٍ كَمَا سَبَقَ ، فَجَعَلَ نَصِيبَهُ مِنْ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ
فِي الدَّرْسِ وَالْمُطَالَعَةِ وَالتَّفَهُّمِ لِلْمَسَائِلِ وَإِلْقَائِهَا ،
وَذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ اللُّطْفِ بِهِ وَالْإِحْسَانِ
إلَيْهِ .
وَهَذَا مِنْ كَرَامَاتِ الْعُلَمَاءِ أَعْنِي فَهْمَ
الْمَسَائِلِ وَحُسْنَ إلْقَائِهَا وَالْمَعْرِفَةَ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ فِي
تَعْلِيمِهَا ، كَمَا أَنَّ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهَا أَشْيَاءُ أُخَرُ
يَطُولُ تَعْدَادُهَا مِثْلَ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي
الْهَوَاءِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ هَذَا الْمَنْصِبَ
الشَّرِيفَ مِنْ التَّرَدُّدِ لِمَنْ يُرْجَى أَنْ يُعِينَ عَلَى إطْلَاقِ
الْمَعْلُومِ أَوْ التَّحَدُّثِ فِيهِ أَوْ إنْشَاءِ مَعْلُومٍ عِوَضُهُ .
وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّهُ رَأَى
بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ وَكَانَ يُدَرِّسُ فِي مَدْرَسَةٍ
فَانْقَطَعَ الْمَعْلُومُ عَنْهُ وَعَنْ طَلَبَتِهِ أَوْ
نُقِصَ مِنْهُ ، فَقَالُوا لِلْمُدَرِّسِ : لَعَلَّك
أَنْ تَمْشِيَ إلَى فُلَانٍ وَكَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لِتَجْتَمِعَ بِهِ
عَسَى أَنْ يَأْمُرَ بِإِطْلَاقِ ذَلِكَ الْمَعْلُومِ ، فَقَالَ : نَعَمْ مِرَارًا
إلَى أَنْ عَزَمُوا عَلَيْهِ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَسْتَحْيِ مِنْ
رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَكْذِبَ هَذِهِ الشَّيْبَةُ عِنْدَهُ ، فَقَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ
، فَقَالَ : إنِّي أُصْبِحُ كُلَّ يَوْمٍ أَقُولُ : اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا
أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت فَأَقُولُ هَذَا وَأَقِفُ بَيْنَ يَدَيْ
مَخْلُوقٍ أَسْأَلُهُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهِ لَا فَعَلْته فَلَمْ يَمْشِ إلَيْهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَ قَطْعَ الْمَعْلُومِ
بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يُشْهِرُهُ إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الضَّجَرِ وَقِلَّةِ
الثِّقَةِ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّعَرُّضِ إلَى اطِّلَاعِ بَعْضِ
النَّاسِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يَثِقُ
بِرَبِّهِ فِي الْمَنْعِ وَالْعَطَاءِ ، بَلْ الْمَنْعُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي
كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ هُوَ عَطَاءٌ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ اللَّهِ تَعَالَى
لِعَبْدِهِ أَحْسَنُ وَأَوْلَى مِنْ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ ، إذْ
أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الْعَالِمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَدْرَسَةِ عَلَى
مَا وُصِفَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَالْقُرْبِ لِمَنْ حَضَرَهُ مِنْ
الطَّلَبَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ ؛
لِأَنَّ الْعِلْمَ إذَا مُنِعَ عَنْ الْعَامَّةِ لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ الْخَاصَّةُ
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِغْلَاقُ بَابِ الْمَدْرَسَةِ فِيهِ الِاخْتِصَاصُ عَنْ
الْعَامَّةِ وَمَنْعُهُمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ لِلْعِلْمِ وَالتَّبَرُّكِ بِهِ وَبِأَهْلِهِ
، وَكَذَلِكَ الْبَوَّابُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِجَابٌ عَنْ الْعِلْمِ أَيْضًا وَاخْتِصَاصٌ
بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، بَلْ يَفْتَحُ الْبَابَ وَلَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ
خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى الدُّخُولَ كَمَا هُوَ فِي الْمَسْجِدِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا جُعِلَ الْبَوَّابُ لِأَجْلِ
أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَامّ إذَا دَخَلُوا الْمَدْرَسَةَ تَشَوَّشَ
الْمَوْضِعُ وَكَشَفُوا عَوْرَاتِهِمْ عِنْدَ الْفَسْقِيَّةِ ، وَقَدْ يَسْرِقُ
بَعْضُهُمْ بَعْضَ أَقْدَامِ الْفُقَهَاءِ ، وَقَدْ يَكْثُرُ لَغَطُهُمْ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْبَوَّابَ الَّذِي يَقْعُدُ
عَلَى الْبَابِ أَوْ غَيْرِهِ يَكُونُ وَاقِفًا عِنْدَ أَخْذِهِمْ الدَّرْسَ ،
فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِمَّنْ يُتَّهَمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا أَنْ يَقْرُبَ مِنْ
نَاحِيَةِ أَقْدَامِهِمْ ، وَإِنْ رَأَى أَحَدًا يُرِيدُ أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ
نَهَاهُ وَزَجَرَهُ وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَتَّخِذَ نَقِيبًا
بَيْنَ يَدَيْهِ قَائِمًا كَانَ أَوْ جَالِسًا ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِمَّا
هُوَ مَعْلُومٌ الْيَوْمَ مِنْ الْعَوَائِدِ الَّتِي لَيْسَتْ لِمَنْ مَضَى ؛
لِأَنَّ عُلَمَاءَ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُنْ فُرِّقَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَجَالِسِهِمْ وَفِي مَجَالِسِ
عِلْمِهِمْ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
مِنْ اتِّخَاذِ الْحَاجِبِ وَالْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ إنَّمَا يَفْعَلُهُ أَحَدُ ثَلَاثَةِ
أَشْخَاصٍ : إمَّا مُتَكَبِّرٌ فِي نَفْسِهِ مُتَجَبِّرٌ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَهُ
الِاتِّسَامُ بِالْعِلْمِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي
الْمُتَكَبِّرِينَ ،
وَإِمَّا رَجُلٌ جَاهِلٌ يُرِيدُ الْعُلُوَّ فِي
الْأَرْضِ بِجَهْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَلِمَ حَالَ عُلَمَاءِ السَّلَفِ فِي
تَوَاضُعِهِمْ لَتَشَبَّهَ بِهِمْ إنْ سَلِمَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ التَّكَبُّرِ
وَالتَّجَبُّرِ .
وَالثَّالِث وَهُوَ أَشَدُّ مِنْ الْوَجْهَيْنِ
الْمَذْكُورَيْنِ وَأَعْظَمُ ثُبُوتًا فِي الصُّدُورِ وَهِيَ الْعَوَائِدُ
الْمُسْتَمِرَّةُ ، حَتَّى إنَّهُ قَدْ يُدْرِكُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ الْوَهْمُ
فِي تِلْكَ الْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ فَقَدْ يَجْعَلُهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَنْدُوبِ
إنْ سَلِمَ مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا مُسْتَنِدًا فِي ذَلِكَ إلَى مَا أَنِسَتْ
بِهِ نَفْسُهُ مِنْ تِلْكَ الْعَوَائِدِ لِكَوْنِهِ نَشَأَ فَوَجَدَهَا مَعْمُولًا
بِهَا ، وَالْعُلَمَاءُ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَفِي فِعْلِ مَنْ يُسْكِتُ
الطَّلَبَ إخْمَادٌ لِلْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُون بَعْضُ الطَّلَبَةِ لَمْ
تَظْهَرْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ وَيُرِيدُ أَنْ يَبْحَثَ فِيهَا حَتَّى تَبِينَ لَهُ
، أَوْ عِنْدَهُ سُؤَالٌ وَارِدٌ يُرِيدُ أَنْ يُلْقِيَهُ حَتَّى يُزِيلَ مَا عِنْدَهُ
، فَيُسْكَتَ إذْ ذَاكَ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الْمَقْصُودِ .
وَكَذَلِكَ الْمُدَرِّسُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا
يُسْكِتَ أَحَدًا إلَّا إذَا خَرَجَ عَنْ الْمَقْصُودِ أَوْ كَانَ سُؤَالُهُ
وَبَحْثُهُ مِمَّا لَا يَنْبَغِي فَيُسْكِتُهُ الْعَالِمُ بِرِفْقٍ وَيُرْشِدُهُ
إلَى مَا هُوَ أَوْلَى فِي حَقِّهِ مِنْ السُّكُوتِ أَوْ الْكَلَامِ ، فَكَيْفَ
يَقُومُ عَلَى الطَّلَبَةِ شَخْصٌ سِيَّمَا إذَا كَانَ مِنْ الْعَوَامّ
النَّافِرِينَ عَنْ الْعِلْمِ فَيُؤْذِيهِمْ بِبَذَاءَةِ لِسَانِهِ وَزَجْرِهِ
بِعُنْفٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى نُفُورِ الْعَامَّةِ أَكْثَرَ سِيَّمَا وَمِنْ
شَأْنِهِمْ النُّفُورُ فِي الْغَالِبِ مِنْ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ حَاكِمٌ
عَلَيْهِمْ ، وَالنُّفُوسُ فِي الْغَالِبِ تَنْفِرُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهَا ،
فَإِذَا رَأَى الْعَوَامُّ ذَلِكَ الْفِعْلَ الْمَذْمُومَ يُفْعَلُ مَعَ
الطَّلَبَةِ أَمْسَكَتْ الْعَامَّةُ عَنْ السُّؤَالِ عَمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ
فِي أَمْرِ دِينِهِمْ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَتْمًا لِلْعِلْمِ وَاخْتِصَاصًا بِهِ
كَمَا سَبَقَ .
وَشَأْنُ الْعَالِمِ سَعَةُ الصَّدْرِ وَهُوَ أَوْسَعُ
مِنْ أَنْ يَضِيقَ عَنْ سُؤَالِ الْعَامَّةِ وَجَفَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ ؛ إذْ
أَنَّهُ مَحَلُّ الْكَمَالِ وَالْفَضَائِلِ وَقَدْ عَلِمَ مَا فِي سَعَةِ
الْخُلُقِ مِنْ الثَّنَاءِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَنَاقِبِ الْعُلَمَاءِ
مَا لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ
لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } الْآيَةَ وقَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } فَتَخْصِيصُهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخُلُقَ بِالذِّكْرِ فِيهِ تَخْصِيصٌ عَظِيمٌ
وَإِرْشَادٌ بَلِيغٌ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ ، وَالِاتِّصَافِ بِهِ فِي كُلِّ
الْأَحْوَالِ الْمَمْدُوحَةِ شَرْعًا
.
فَإِنْ قَالَ الْعَالِمُ مَثَلًا : إنَّهُ لَا يَقْدِرُ
أَنْ يُسْكِتَهُمْ فَأَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى مَنْ يُسْكِتُهُمْ عَنْهُ ،
وَهَذَا لَيْسَ مِنْ بَابِ التَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ فِعْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ إلَى هَلُمَّ
جَرًّا .
أَمَّا
فِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَدْ حَجّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَمَعَهُ
خَلْقٌ كَثِيرٌ وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى نَاقَتِهِ ، وَهَذَا يَسْأَلُهُ ، وَهَذَا
يُحَدِّثُهُ ، وَهَذَا يُنَادِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ ثَمَّ حَاجِبٌ
وَلَا طَرَّادٌ وَلَا إلَيْك إلَيْك وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ
حَجًّا مَبْرُورًا لَا رِيَاءَ فِيهِ وَلَا سُمْعَةَ } .
وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
ذَلِكَ لِلتَّشْرِيعِ لِأُمَّتِهِ فَإِنَّهُ صَاحِبُ الْعِصْمَةِ الْكُبْرَى
وَالْمَنْزِلَةِ الْمُنِيفَةِ الْعُظْمَى عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقْعُدُ
لِلنَّاسِ عُمُومًا وَيَتَكَلَّمُ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهِ
مِنْ التَّبْلِيغِ وَتَعْلِيمِ الْأَحْكَامِ ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَالَ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي
الدِّينِ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ ، وَاَللَّهُ يُعْطِي } انْتَهَى .
فَأَخْلَصَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْعَطِيَّةَ وَالْهِبَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ .
وَكَلَامُهُ كَانَ عَامًّا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي
الْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لِلْعَالِمِ
أَنْ يَخُصَّ قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ بِإِلْقَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمْ إذْ
أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ تَسَاوَوْا فِي الْأَحْكَامِ وَبَقِيَتْ الْمَوَاهِبُ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى يَخُصُّ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَالْغَالِبُ
أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ فِي أَمْرٍ أَنَّهُ لَا يَنْجَحُ ،
وَمِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ أَنْ يَخْتَارَ قَوْمًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ
لِلتَّعْلِيمِ دُونَ غَيْرِهِمْ
.
وَأَمَّا فِعْلُ أَصْحَابِهِ بَعْدَهُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَكَثِيرٌ فِي هَذَا الْبَابِ بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُهُ
حَصْرٌ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا جَلَسَ أَنْ يَنْوِيَ
بِجُلُوسِهِ إظْهَارَ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا نَوَى ذَلِكَ عَادَتْ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ بَرَكَةُ تِلْكَ
النِّيَّةِ السُّنِّيَّةِ
فَيُوَفَّقُ وَيُسَدَّدُ وَيُعَانُ وَيُحْمَلُ
وَيَذْهَبُ عَنْهُ مَا يَتَوَقَّعُهُ غَيْرُهُ ، أَوْ يُصِيبُهُ مِنْ الْمَلَلِ
وَالسَّآمَةِ وَالضَّجَرِ وَالْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ
وَيَحْتَمِلُهُمْ كَاحْتِمَالِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ ، بَلْ هُمْ أَعْظَمُ
عِنْدَهُ مَنْزِلَةً مِنْ أَوْلَادِهِ ؛ لِأَنَّ جُلُوسَهُ مَعَهُمْ إنَّمَا هُوَ
لِلَّهِ تَعَالَى مُجَرَّدًا عَنْ حَظِّ النَّفْسِ ، وَشَفَقَتُهُ عَلَى
أَوْلَادِهِ لَهُ فِيهَا حَظُّ الْبَشَرِيَّةِ فِي الْغَالِبِ فَكَانَ
احْتِمَالُهُ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ أَوْلَادِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ
كَذَلِكَ فَالْبَرَكَةُ حَاصِلَةٌ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
مِنْ الْبَوَّابِ وَالنَّقِيبِ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ بَابِ الْمَدْرَسَةِ
وَأَبْوَابِ الْأُمَرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَبْوَابِهِمْ فِي
الْغَالِبِ إلَّا بِالْحَاجِبِ وَالنَّقِيبِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا
الْمَعْنَى ، فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ
بِفَتْوَى إلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ يَجِدُ الْحَاجِبَ وَالْبَوَّابَ وَغَيْرَهُمَا
يَمْنَعُونَهُ ، بَلْ يَمْتَنِعُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْبِغَالَ
وَالْغِلْمَانِ الَّذِينَ عَلَى بَابِ الْمَدْرَسَةِ ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَنْ
يَصِلَ الْبَابَ بَلْ يَنْصَرِفُ وَيَتْرُكُ مَا جَاءَ بِسَبَبِهِ .
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ الرُّكُوبَ عَلَى الدَّوَابِّ
مَكْرُوهٌ ، بَلْ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا
أَوْ جَائِزًا فَمَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ ، وَهُوَ صَحِيحُ الْبَدَنِ فَرُكُوبُهُ
مِنْ الْقِسْمِ الْجَائِزِ ، وَمَنْ كَانَ ضَعِيفًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ
وَكَانَ أَخْذُ الدَّرْسِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى
الْمَشْيِ وَيَزِيدُ مَرَضُهُ بِهِ زِيَادَةً تَضُرُّهُ شَرْعًا ، فَيَكُونُ
ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَاجِبًا .
وَأَمَّا مَنْ كَانَ صَحِيحَ الْبَدَنِ قَرِيبَ الدَّارِ
فَلَا يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْمَشْيَ فِي حَقِّ هَذَا أَفْضَلُ ، إذْ
أَنَّهُ مَاشٍ إلَى أَصْلِ الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَفْتِي قَوِيًّا فِي
دِينِهِ وَجَاءَ إلَى بَيْتِ الْمَدْرَسَةِ وَجَدَ الْحُجَّابَ أَغْلَظَ عِنْدَ
بَعْضِهِمْ ،
وَإِذَا وَصَلَ إلَى الْبَابِ وَجَدَ مَنْ يَمْنَعُ
وُصُولَ خَبَرِهِ إلَى الْعَالِمِ حَتَّى إنَّهُ قَدْ يَبْذُلَ بَعْضُهُمْ شَيْئًا
مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى يُوصِلَ الْفَتْوَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرُدَّهُ
أَوْ يُكَلِّمَهُ .
وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ فِعْلِ الْمُتَكَبِّرِينَ
وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، فَلَوْ كَانَ الْعَالِمُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ خَرَجَ
إلَى الْمَسْجِدِ لَكَانَ النَّاسُ يَتَوَصَّلُونَ إلَى قَضَاءِ أَغْرَاضِهِمْ
مِمَّا يُضْطَرُّونَ إلَيْهِ فِي دِينِهِمْ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا
خَرَجَ مِنْهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ فَيَخْرُجُ فِي الْغَالِبِ عَلَى صِفَةٍ قَدْ
يَتَعَذَّرُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ ،
وَقَدْ يَخْرُجُ بَعْضُهُمْ إلَى الْمَسْجِدِ بِغَيْرِ نَقِيبٍ وَلَا غَيْرِهِ وَهُوَ
نَادِرٌ ، وَالنَّادِرُ لَا حُكْمَ لَهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ، وَتَفْصِيلُ هَذَا
يَطُولُ وَبِالْجُمْلَةِ فَفِيمَا أُشِيرُ إلَيْهِ غُنْيَةٌ عَنْ الْبَاقِي .
وَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ إذَا جَاءَتْهُ الْفَتْوَى أَنْ
يَسْأَلَ عَمَّنْ وَقَعَتْ لَهُ حَتَّى يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْ لَفْظِهِ إنْ كَانَ
حَاضِرًا أَوْ يُسَهِّلَ حُضُورَهُ وَيَتَثَبَّتَ فِي فَهْمِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي
يَسْمَعُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَرَقَةَ قَدْ يُكْتَبُ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ
فَيُفْتِي عَلَى وَهْمٍ أَوْ غَلَطٍ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِيهِ ،
وَإِنْ كَانَ جَوَابُهُ صَوَابًا عَلَى مَا رَآهُ مَكْتُوبًا ، فَإِنْ تَعَذَّرَ
حُضُورُ مَنْ وَقَعَتْ لَهُ النَّازِلَةُ فَشَأْنُ الْعَالِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ
جَهْدَهُ وَأَنْ يَأْمُرَ مَنْ أَتَى بِالْفَتْوَى أَنَّهُ يُعَاوِدُ صَاحِبَ
الْوَاقِعَةِ إنْ تَيَسَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْمَقْصُودُ وَالْمَطْلُوبُ
أَنْ لَا يُفْتِيَ إلَّا بَعْدَ التَّحَرُّزِ الْكُلِّيِّ وَالتَّحَفُّظِ
الْعَظِيمِ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ وَيَنْشَرِحَ
صَدْرُهُ ، ثُمَّ بَعْدَ انْشِرَاحِ صَدْرِهِ لِذَلِكَ وَالْوُقُوفِ عَلَى
حَقِيقَةِ أَمْرِ الْفَتْوَى لَا يُعَجِّلُ بِالْكَتْبِ عَلَيْهَا بَلْ يُؤَخِّرُ
ذَلِكَ إلَى وَقْتِ الدَّرْسِ ، فَيَعْرِضُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ
مِنْ الْفُقَهَاءِ وَيَرَى رَأْيَهُ وَرَأْيَهُمْ فِيهَا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
يَنْظُرُ فَإِنْ وَافَقَ مَا عِنْدَهُ مَا قَالُوهُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ
خَالَفُوهُ بَحَثَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَبْدَى لَهُمْ مَا يُرِيدُ أَنْ
يُفْتِيَ بِهِ الْمَسْأَلَةَ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْبَحْثِ فِي ذَلِكَ كَتَبَ عَلَيْهَا
بِمَا يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ الصَّوَابُ عِنْدَهُ وَلْيَحْذَرْ مِنْ الْعَجَلَةِ فِي
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ وَيُفْتِي بِمَا تَحَقَّقَ أَوْ غَلَبَ
عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ،
فَإِنَّ الْغَلَطَ فِي ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يُسْتَدْرَكَ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو الْحَسَنِ
الْمَعْرُوفُ بِالزَّيَّاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ
فَاسْتَفْتَتْهُ فَأَجَابَهَا ثُمَّ مَضَتْ لِسَبِيلِهَا فَمَا هُوَ إلَّا قَلِيلٌ
، وَإِذَا بِالشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ
وَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَجَعَلَهُ فِي فَمِهِ
وَخَرَجَ يَجْرِي حَافِيًا إلَى أَنْ لَحِقَ الْمَرْأَةَ
فَأَخَذَ الْفَتْوَى مِنْهَا ، ثُمَّ رَجَعَ فَسَأَلَهُ أَصْحَابُهُ عَنْ مُوجِبِ
ذَلِكَ ، فَقَالَ : ذَكَرْت أَنِّي وَهَمْت فِي جَوَابِهَا فَأَسْرَعْت لِئَلَّا
تَفُوتَنِي ، فَقَالُوا لَهُ : لَوْ أَمَرْتنَا لَفَعَلْنَا ذَلِكَ ، فَقَالَ :
مَا هِيَ فِي ذِمَّةِ أَحَدٍ مِنْكُمْ فَلَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ لَكَانَ أَحَدُكُمْ
يَقُومُ عَلَى هَيِّنَتِهِ ، وَحَتَّى يَلْبَسَ نَعْلَيْهِ ، وَحَتَّى يَمْشِيَ
الْمَشْيَ الْمُعْتَادَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ قَلِيلًا ، فَقَدْ تَفُوتُ
الْمَرْأَةُ وَلَا تُعْلَمُ جِهَتُهَا ، وَاَلَّذِي تَتَعَلَّقُ الْمَسْأَلَةُ بِذِمَّتِهِ
هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا جَرَى عَلَيْهِ فَيُبَادِرُ إلَى خَلَاصِ نَفْسِهِ .
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَاءَتْهُ
الْفَتْوَى يَقُولُ لِمَنْ أَتَى بِهَا : مَا يُمَكِّننِي أَنْ أَكْتُبَ عَلَيْهَا
؛ لِأَنَّ الْخَطَّ قَدْ يُزَادُ فِيهِ وَيُنْقَصُ فَيَقَعُ مُخَالِفًا لِمَا
الْمَسْأَلَةُ عَلَيْهِ ، فَلَا يُفْتِي حَتَّى يَحْضُرَ صَاحِبُ النَّازِلَةِ ،
فَإِذَا حَضَرَ سَأَلَهُ عَمَّا وَقَعَ لَهُ فَيُخْبِرُهُ بِهِ فَيَقُولُ لَهُ :
إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ يَحْضُرُ الْجَوَابُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ،
فَإِذَا جَاءَ مِنْ الْغَدِ يَسْأَلُهُ الْجَوَابَ يَقُولُ لَهُ الشَّيْخُ :
أَعِدْ عَلَيَّ الْمَسْأَلَةَ فَإِذَا أَعَادَهَا عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ
مُوَافِقَةً لِمَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ بَحَثَ فِيهَا مَعَ مَنْ حَضَرَهُ ثُمَّ أَفْتَاهُ
أَوْ كَتَبَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ خَالَفَ مَا قَالَهُ بِالْأَمْسِ قَالَ لَهُ
الشَّيْخُ : أَيُّمَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي بِالْأَمْسِ أَوْ الَّذِي بِالْيَوْمِ
فَيَرُدُّهَا وَلَا يُفْتِي لَهُ فِيهَا بِشَيْءٍ ، وَيَقُولُ لَهُ : لَا أَعْلَمُ
الْحَقَّ فِي ذَلِكَ حَتَّى أُفْتِيَ عَلَيْهِ ، هَكَذَا هُوَ حَالُ الْعُلَمَاءِ
فِي التَّحَرُّزِ عَلَى ذِمَمِهِمْ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ
مَشْهُورَةً مَعْرُوفَةً لَا تَحْتَاجُ إلَى بَحْثٍ وَلَا تَطْوِيلِ نَظَرٍ ،
فَلَا بَأْسَ بِالْجَوَابِ عَلَيْهَا فِي الْوَقْتِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى
الْمُوَفِّقُ لِلسَّدَادِ بِمَنِّهِ
.
فَلَوْ مَشَى الْعَالِمُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ
الْقَوِيمِ
لَحَصَلَ لَهُ فَائِدَتَانِ عَظِيمَتَانِ : إحْدَاهُمَا
: بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ .
وَالثَّانِي : انْتِفَاعُ مَنْ حَضَرَهُ وَتَعْلِيمُهُمْ
فِي أَقَلِّ زَمَانٍ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الدَّرْسِ سَهْلٌ يَسِيرٌ فِي الْغَالِبِ
إذْ النُّبَهَاءُ مِنْ الطَّلَبَةِ قَدْ طَالَعُوا عَلَيْهِ غَالِبًا ، وَهُمْ قَدْ
عَرَفُوا مَأْخَذَهُ وَمُرَادَهُ وَمُشْكِلَاتِهِ وَالْجَوَابَ عَنْهَا وَحَلَّهَا
وَالْفَتَاوَى لَيْسَتْ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا نَوَازِلُ تَنْزِلُ عَلَى غَيْرِ
تَعْبِيَةٍ وَلَا أُهْبَةٍ ، وَفِيهَا تَظْهَرُ نَبَاهَةُ طَلَبَتِهِ وَتَحْصُلُ
لَهُمْ بِهَا الْفَائِدَةُ الْجَمَّةُ وَالتَّثَبُّتُ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي
تَقَعُ لَهُمْ مِنْهَا .
وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ قَالَ مَعْنُ بْنُ عِيسَى سَمِعْت
مَالِكًا يَقُولُ : لَا يُؤْخَذُ الْعِلْمُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَيُؤْخَذُ مِمَّنْ سِوَاهُمْ
: لَا يُؤْخَذُ مِنْ مُبْتَدِعٍ يَدْعُو إلَى بِدْعَتِهِ ، وَلَا سَفِيهٍ مُعْلِنٍ
بِسَفَهِهِ ، وَلَا مِمَّنْ يَكْذِبُ فِي حَدِيثِ النَّاسِ ، وَإِنْ كَانَ
يَصْدُقُ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا
مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ هَذَا الشَّأْنَ ، وَقَالَ مَالِكٌ : لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ
يُحَدِّثُ بِكُلِّ مَا سَمِعَهُ وَلَا يَكُونُ إمَامًا أَبَدًا ، ثُمَّ قَرَأَ {
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } انْتَهَى ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ
يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ أَوْ يَسْعَى فِي طَلَبِ التَّدْرِيسِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ
كَانَ مِنْ مَدْرَسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجْلِسُ لِلَّهِ تَعَالَى
فَيُعَلِّمُ وَيَتَعَلَّمُ وَيُفِيدُ وَيَسْتَفِيدُ لِكَيْ يَظْهَرَ مَا
أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ حَرَّمَهُ أَوْ كَرِهَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى
غَيْرِهِ ، فَمَا كَانَ أَصْلُهُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا جَانَسَهَا
فَيَنْبَغِي بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلِطَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ أَقْذَارِ
الدُّنْيَا .
وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى مَعَالِي
الْأُمُورِ وَأَكْمَلِهَا إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ وَهُدًى لِلْمُهْتَدِينَ
، فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ يَتَسَبَّبُ فِيمَا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ
سَبَبًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي طَلَبِ حُطَامِ الدُّنْيَا ، وَالْغَالِبُ أَنَّ النُّفُوسَ
تَأْنَسُ بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ ذَمُّهُ مَوْجُودًا
فِي الْكُتُبِ وَأَحْوَالِ السَّلَفِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَكِنَّ شَأْنَ
النَّاسِ الْيَوْمَ فِي الْغَالِبِ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ فِي وَقْتِهِمْ ، وَلَا
يَتَعَرَّضُونَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ إيثَارًا لِلتَّوَصُّلِ
إلَى أَغْرَاضِهِمْ .
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَالْعَالِمُ أَوْلَى
مَنْ يَتَحَفَّظُ عَلَى نَفْسِهِ صِيَانَةً لِلْعِلْمِ وَإِقَامَةً لِحُرْمَتِهِ ،
بَلْ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ فَلْيَتَرَبَّصْ وَلْيَسْتَخِرْ
اللَّهَ تَعَالَى وَيَسْتَشِرْ وَلَا يَعْجَلْ ، فَإِنَّ الْعَجَلَةَ مِنْ الشَّرَاهَةِ
، وَالشَّرَاهَةُ مَذْمُومَةٌ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
إنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ
بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ
فِيهِ كَاَلَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ
الْيَدِ السُّفْلَى } انْتَهَى .
وَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ وَكَانَ أَخْذُهُ لِذَلِكَ بِسَخَاوَةِ
نَفْسٍ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِإِشْرَافٍ مِنْهُ لَمْ
يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَالْبَرَكَةُ هِيَ الْمَقْصُودُ وَالْمَأْمُولُ ؛ لِأَنَّ
الْبَرَكَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الْقَلِيلِ أَغْنَتْ عَنْ الْكَثِيرِ وَأَعَانَتْ
عَلَى طَاعَةِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ ،
وَهُوَ أَنَّهُ إذَا سَأَلَهُ كَانَتْ يَدُهُ سُفْلَى ، وَلَيْسَ هَذَا مَنْصِبَ
الْعُلَمَاءِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعُلَمَاءِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ هِيَ الْعُلْيَا
، وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الطَّلَبِ لِمَا ذُكِرَ لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ
وَالْمُلَازِمِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ تَقِيَّةً عَلَى هَذَا الْمَنْصِبِ
الشَّرِيفِ لَمْ يُضَيِّعْ اللَّهُ الْكَرِيمُ قَصْدَهُ ، وَأَتَاهُ بِهِ أَوْ
فَتَحَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْبِهِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ ، وَسَدَّ خَلَّتَهُ
وَأَعَانَهُ عَلَى مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ ، وَلَيْسَ رِزْقُهُ بِمُنْحَصِرٍ فِي
جِهَةٍ بِعَيْنِهَا .
وَعَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا مُسْتَمِرَّةٌ عَلَى
أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
يَرْزُقُ مَنْ هَذَا حَالُهُ مِنْ غَيْرِ بَابٍ
يَقْصِدُهُ أَوْ يُؤْمَلُهُ ، بَلْ الْأَمْرُ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ وَهُوَ أَنَّ
مَنْ لِلَّهِ تَعَالَى بِهِ اعْتِنَاءٌ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بِهِ كُلَّ جِهَةٍ
يُؤَمِّلُهَا أَوْ يَقْصِدُهَا ؛ لِأَنَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمْ
انْقِطَاعُهُمْ إلَيْهِ وَتَعْوِيلُهُمْ فِي كُلِّ أُمُورِهِمْ عَلَيْهِ وَلَا
يَنْظُرُونَ إلَى الْأَسْبَابِ ، بَلْ إلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَمُدَبِّرِهَا
وَالْقَادِرِ عَلَيْهَا .
وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْعَالِمُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ
الْمُرْشِدُ لِلْخَلْقِ وَالْمُوَضِّحُ الطَّرِيقَ الْمُسْتَقِيمَ لِلسُّلُوكِ
إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَمَنْ تَرَكَ جِهَةً لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ
قَاصِدٌ إلَى أُخْرَى فَيُبَدَّلُ عَنْهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا .
قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ تَرَكَ
شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ }
انْتَهَى فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعَالِمَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ
تَوَكُّلُهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْ بَيْتٍ أَوْ
مَسْجِدٍ أَوْ مَدْرَسَةٍ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ سَوَاءً فِي حَقِّهِ لَا
فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِيءُ مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ إذَا قُطِعَ عَنْهُ الْمَعْلُومُ لَا يَتَسَخَّطُ
وَلَا يَتَضَجَّرُ وَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ
، بَلْ يَزِيدُ فِي الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا
تَقَدَّمَ قَبْلُ
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
أَكْثَرُ مِمَّا ذُكِرَ أَنْ لَا يَتَرَدَّدَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى
أَنَّهُ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ غَيْرَ ذَلِكَ ؛
لِأَنَّ الْعَالِمَ يَنْبَغِيَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ عَلَى بَابِهِ لَا عَكْسَ
الْحَالِ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَى أَبْوَابِهِمْ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي
كَوْنِهِ يَخَافُ مِنْ عَدُوٍّ أَوْ حَاسِدٍ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِمَّنْ يَخْشَى أَنَّهُ
يُشَوِّشُ عَلَيْهِ ، أَوْ يَرْجُو أَحَدًا مِنْهُمْ فِي دَفْعِ شَيْءٍ مِمَّا
يَخْشَاهُ ، أَوْ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِقَضَاءِ حَوَائِجِ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ أَوْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ عَنْهُمْ ،
فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ عُذْرٌ يَنْفَعُهُ .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ
إذَا أَخَذَ ذَلِكَ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ خَائِفًا
مِمَّا ذُكِرَ فَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ إشْرَافِ النَّفْسِ ، وَقَدْ يُسَلَّطُ
عَلَيْهِ مَنْ يَتَرَدَّدُ إلَيْهِ فِي مَعْلُومِهِ عُقُوبَةً لَهُ مُعَجَّلَةً .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَهُوَ يَرْتَكِبُ أَمْرًا
مَحْذُورًا مُحَقَّقًا لِأَجْلِ مَحْذُورٍ مَظْنُونٍ تَوَقُّعُهُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي
الْوَقْتِ بِعَدَمِ ارْتِكَابِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا ، بَلْ
الْإِعَانَةُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا هُوَ
الِانْقِطَاعُ عَنْ أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ، وَالتَّعْوِيلُ عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ ، إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ
الْقَاضِي لِلْحَوَائِجِ وَالدَّافِعُ لِلْمَخَاوِفِ وَالْمُسَخِّرُ لِقُلُوبِ
الْخَلْقِ وَالْإِقْبَالُ بِهَا عَلَى مَنْ شَاءَ كَيْفَ يَشَاءُ .
قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
خِطَابًا لِسَيِّدِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ : { لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
} فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَذَا فِي مَعْرَضِ الِامْتِنَانِ عَلَى
نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْعَالِمُ إذَا كَانَ
مُتَّبِعًا لَهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
وَالسَّلَامِ سِيَّمَا فِي التَّعْوِيلِ عَلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَالسُّكُونِ إلَيْهِ دُونَ مَخْلُوقَاتِهِ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
يُعَامِلُهُ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي عَامَلَ بِهَا
نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ لَهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَسْلَمُ بِذَلِكَ مِنْ التَّرَدُّدِ إلَى
أَبْوَابِ مَنْ لَا يَنْبَغِي كَاَلَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ وَهُوَ سُمٌّ
قَاتِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَحْوَالِهِمْ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ
اقْتَصَرُوا عَلَى مَا ذُكِرَ لَا غَيْرُ ، بَلْ يَضُمُّونَ إلَى ذَلِكَ مَا هُوَ
أَشَدُّ وَأَشْنَعُ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ تَرَدُّدَهُمْ إلَى أَبْوَابِهِمْ
مِنْ بَابِ التَّوَاضُعِ أَوْ مِنْ بَابِ إرْشَادِهِمْ إلَى الْخَيْرِ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا يَخْطِرُ لَهُمْ وَهُوَ كَثِيرٌ قَدْ عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى ،
وَإِذَا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ فَقَدْ قَلَّ الرَّجَاءُ مِنْ تَوْبَتِهِمْ
وَرُجُوعِهِمْ إذْ أَنَّهُ لَا يَتُوبُ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ الْخَيْرِ .
وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ أَنَّ الْعَدْلَ إذَا تَرَدَّدَ لِبَابِ الْقَاضِي فَإِنَّ ذَلِكَ
جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ وَتُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي
التَّرَدُّدِ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَهُوَ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ
سَالِمٌ مَجْلِسُهُ مِمَّا يَجْرِي فِي مَجَالِسِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ،
فَكَيْفَ التَّرَدُّدُ لِغَيْرِ الْقَاضِي ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْجَبُ
الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ
( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَ الدَّرْسَ
لِعَوَارِضَ تَعْرِضُ لَهُ مِنْ جِنَازَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إنْ كَانَ يَأْخُذُ
عَلَى الدَّرْسِ مَعْلُومًا ، فَإِنَّ الدَّرْسَ إذْ ذَاكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ،
وَحُضُورُ الْجِنَازَةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَفِعْلُ الْوَاجِبِ يَتَعَيَّنُ ،
فَإِنَّ الذِّمَّةَ مَعْمُورَةٌ بِهِ وَلَا شَيْءَ آكَدُ وَلَا أَوْجَبُ مِنْ تَخْلِيصِ
الذِّمَّةِ ، إذْ تَخْلِيصُهَا هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ
فِي الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، فَلَوْ حَضَرَ الْجِنَازَةَ وَأَبْطَلَ
الدَّرْسَ لِأَجْلِهَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يُسْقِطَ مِنْ الْمَعْلُومِ مَا
يَخُصُّ ذَلِكَ ، بَلْ لَوْ كَانَ الدَّرْسُ لَيْسَ لَهُ مَعْلُومٌ لَتَعَيَّنَ
عَلَى الْعَالِمِ الْجُلُوسُ إلَيْهِ ، إذْ أَنَّهُ تَمَحَّضَ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَلَسَمَاعُ مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَالِمِ
أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ حَجَّةً مَبْرُورَةً كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ،
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ فَضْلِ الْجِنَازَةِ ؟ ، وَقَدْ مَاتَ أَحَدُ أَوْلَادِ
الْحَسَنِ أَوْ الْحُسَيْنِ فَخَرَجَ لِجِنَازَتِهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى
سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ وَبَقِيَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
، فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَخْرُجُ إلَى جِنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ
الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَقَالَ مُجِيبًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ : صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدِي
أَفْضَلُ مِنْ حُضُورِ جِنَازَةِ هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ ابْنِ الرَّجُلِ
الصَّالِحِ ابْنِ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِذَا فَضَّلَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاةَ رَكْعَتَيْنِ نَافِلَةً عَلَى
حُضُورِهَا فَمَا بَالُكَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا بَالُكَ بِإِلْقَاءِ
مَسَائِلِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ خَيْرُ مُتَعَدٍّ سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا هَذَا .
وَكَذَلِكَ لَا يَتْرُكُ الدَّرْسَ لِأَجْلِ مَرِيضٍ
يَعُودُهُ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ التَّعْزِيَةِ وَالتَّهْنِئَةِ الْمَشْرُوعَةِ
؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَنْدُوبٌ ، وَإِلْقَاءُ الْعِلْمِ مُتَعَيِّنٌ إنْ كَانَ
يَأْخُذُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا وَقَدْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
مَعْلُومًا بَلْ لَوْ عَرِيَ عَنْهُمَا مَعًا لَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ
الْمَنْدُوبَاتِ .
فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ وَعُلِمَ مِنْ أَنَّهُ
يَتْرُكُ مَا نُدِبَ إلَيْهِ لِأَجْلِهِ ، فَمَا بَالُكَ بِبَطَالَةِ الدَّرْسِ
لِأَجْلِ بِدْعَةٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ كَثُرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ
حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ مِنْ شَعَائِرِ الدِّينِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ
فَيُبْطِلُونَ الدَّرْسَ لِأَجْلِ الصُّحْبَة لِأَجْلِ الْمَيِّتِ أَوْ الثَّالِثِ
لَهُ أَوْ تَمَامِ الشَّهْرِ أَوْ السُّنَّةِ أَوْ الْفَرَحِ كَالْعَقِيقَةِ وَغَيْرِهَا
كَالسَّلَامِ عَلَى الْغَائِبِ وَالتَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ،
فَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مَنْدُوبًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي غَيْرِ
وَقْتِ الدَّرْسِ إذَا سَلِمَ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَمَا كَانَ
مِنْهَا مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْبِدَعِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ تَرْكُهُ
مَعَ إظْهَارِ تَقْبِيحِهِ وَالتَّشْنِيعِ عَلَى فَاعِلِهِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ
بِمَا أَمْكَنَهُ .
وَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ مَاشِيًا عَلَى هَذَا
الْمِنْهَاجِ انْسَدَّتْ بِهِ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا
الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ يُبْطِلُونَ الدُّرُوسَ لِبِدْعَةِ الصُّبْحَةِ
أَوْ الثَّالِثِ أَوْ التَّهْنِئَةِ بِوِلَايَةِ خُطَّةٍ أَوْ السَّلَامِ عَلَى
غَائِبٍ قَدِمَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَيَتْرُكُونَ الْوَاجِبَ
وَيَصِيرُ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ فِيهِ مِنْ الشُّبْهَةِ مَا فِيهِ
، وَيَمْضُونَ إلَى بِدْعَةٍ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ فَعَلُوهَا وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ
بِأَنَّ مَا فَعَلُوهُ مَكْرُوهٌ أَوْ حَرَامٌ ، لَكِنَّ بَعْضَهُمْ يَرَى أَنَّ
ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِحَسْبِ مَا يَخْطِرُ لَهُ مِنْ
التَّأْوِيلَاتِ الَّتِي تَأْبَاهَا قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ .
مِثَالُهُ أَنْ يَتْرُكَ الدَّرْسَ وَيَرُوحَ إلَى
تَهْنِئَةِ مَنْ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَنْصِبَ مِنْ يَدِهِ أَوْ
يَرْجُوهُ لِمَنْصِبٍ آخَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِهِمْ
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ أَوَّلًا فِي
الْمَدْرَسَةِ إذَا عَرَضَتْ عَلَيْهِ هَلْ هِيَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ أَمْ لَا ؟
فَإِنْ كَانَتْ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ فَلَا بَأْسَ إذَنْ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ
غَيْرِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ
شُبْهَةٍ فَالْعُلَمَاءُ مُنَزَّهُونَ عَنْ الشُّبُهَاتِ بَلْ يَتَأَكَّدُ
الْأَمْرُ فِي حَقِّهِمْ .
وَقَدْ يَصِيرُ تَرْكُ الشُّبُهَاتِ فِي حَقِّهِمْ
وَاجِبًا ؛ لِأَنَّهُمْ الْقُدْوَةُ وَالنَّاسُ لَهُمْ تَبَعٌ ، فَإِذَا
اقْتَحَمُوا الشُّبُهَاتِ اقْتَدَى بِهِمْ النَّاسُ فِي تَنَاوُلِهَا ، وَمَنْ
حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لَهُ
أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَعْلُومِ الَّذِي قُرِّرَ لَهُ بِهَذَا
الِاعْتِبَارِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ الْغَصْبُ ، وَأَمَّا مَعَ
التَّعْيِينِ فَلَا يَحِلُّ وَقَدْ كَثُرَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ
الْفَظِيعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَتَجِدُ بَعْضَ النَّاسِ يَغْصِبُ الْمَوَاضِعَ ،
وَكَذَلِكَ الْآلَاتُ مِثْلَ الْأَعْمِدَةِ وَالرُّخَامِ وَالشَّبَابِيكِ .
وَقَدْ يَأْخُذُونَ بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِ
الْمَسَاجِدِ وَبَعْضِ الْبُيُوتِ وَبَعْضِ الْحَمَّامَاتِ عَلَى يَقِينٍ ، ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ يُغْضِبُونَ النَّاسَ مِنْ الصُّنَّاعِ وَغَيْرِهِمْ فِي بِنَائِهَا
بِذَلِكَ ، ثُمَّ مَعَ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيِّ قَلَّمَا يُوضَعُ الْأَسَاسُ
إلَّا وَقَدْ وَقَعَتْ الْخُطْبَةُ فِي طَلَبِ تَوْلِيَةِ تِلْكَ الْأَمَاكِنِ ،
وَلَا يَصِلُ إلَى تَوْلِيَتِهَا إلَّا مَنْ لَهُ الشَّوْكَةُ الْقَوِيَّةُ فَكَيْفَ
يَقَعُ السَّعْيُ فِي مَوْضِعٍ وَقَعَ بِنَاؤُهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ؟ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ يَقُولُ : كُلُّ مَنْ كَانَ لَهُ فِي
الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ شَيْءٌ فَلْيَأْتِ لَقَامَ نَاسٌ يَدَّعُونَ مَا لَهُمْ
فِيهِ مِنْ الْحُقُوقِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُثْبِتُونَ ذَلِكَ ، فَيَصِيرُ تَصَرُّفُ
هَذَا الْعَالِمِ فِي مِلْكِ النَّاسِ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، وَهَذَا أَمْرٌ
قَبِيحٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فَكَيْفَ يُقْدِمُ عَلَيْهِ مَنْ
يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَثِيرٌ مِنْ
الْمَدَارِسِ بُنِيَتْ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ
فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ كَانَ
الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ حَرَامًا بِخِلَافِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ عَلَى
مَدْرَسَةٍ قَدِيمَةٍ فَيَقُولُ : كُلُّ مَنْ غُصِبَ لَهُ فِيهَا شَيْءٌ
فَلْيَأْتِ يَأْخُذُ مَا غُصِبَ مِنْهُ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ لِانْقِرَاضٍ
صَاحِبِهَا وَانْقِرَاضِ وَرَثَتِهِ أَوْ الْجَهْلِ بِهِمْ فِي الْغَالِبِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَدْ صَارَ ذَلِكَ مَجْهُولًا
لَا تُعْرَفُ جِهَاتُهُ وَلَا أَرْبَابُهُ فَيَرْجِعُ إذْ ذَاكَ إلَى بَيْتِ مَالِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ مُرْصَدٌ فِيهِ لِمَصَالِحِهِمْ
وَمِنْ أَهَمِّهَا إقَامَةُ وَظِيفَةِ إلْقَاءِ الْعِلْمِ وَالْإِعَانَةِ عَلَيْهِ
وَتَحْصِيلِهِ ، فَقَدْ افْتَرَقَا فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَذَا عَلَى
جَوَاز التَّصَرُّفِ فِي الْحَرَامِ الْبَيِّنِ وَلَا عُذْرَ لَهُ فِي الْقَوْلِ بِأَنَّ
ذَلِكَ قَدْ صَارَ فِي الذِّمَّةِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَا كَانَ مِنْ
ذَلِكَ مُعَيَّنًا ، فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لِصَاحِبِهِ وَالْغَاصِبُ لَهُ مَأْمُورٌ
فِي كُلِّ زَمَنٍ بِرَدِّهِ لِمُسْتَحِقِّهِ .
وَالْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ ذِمَّةَ هَذَا الْغَاصِبِ
مُسْتَغْرَقَةٌ لِكَثْرَةِ غَصْبِهِ وَكَثْرَةِ الْحُقُوقِ الْمُرَتَّبَةِ فِيهَا
، فَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ وَإِنْ كَثُرَتْ مُسْتَحَقَّةٌ
لِأَرْبَابِهَا ، وَتَبْقَى الْفَضَلَاتُ الْكَثِيرَةُ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا
فِي يَدِهِ فِي الْغَالِبِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ ، فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلَا عُذْرَ
لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ الضَّرُورَاتِ أَلْجَأَتْ إلَى أَخْذِ هَذِهِ الْجِهَاتِ
وَالْمَوَاضِعِ لِكَثْرَةِ الْعَائِلَةِ وَالْمَلَازِمِ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مَأْخُوذٌ مِمَّا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ
الْعَزِيزُ وَصَرَّحَ بِهِ .
قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ { وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً }
ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِي مَعْرَضِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى
مَنْ عَدَا الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ فَإِنَّهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ .
وَمَعَ كَثْرَةِ عَائِلَتِهِمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ
مِنْ صِفَةِ الْإِقَامَةِ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ ، فَكُلٌّ فِي ذَلِكَ
عَلَى مُقْتَضَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ
.
وَقَدْ كَانَ عَيْشُهُمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ
عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَاشْتُهِرَ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ
وَخَشِنِ الْمَلْبَسِ وَقِلَّةِ الْجِدَّة ، تَكْرِيمًا لَهُمْ وَتَرْفِيعًا
لِمَنَازِلِهِمْ السَّنِيَّةِ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
يُحِبُّونَ الْفَقْرَ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ وَيَهْرُبُونَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا
، لَا جَرَمَ أَنَّا لَمَّا أَخَذْنَا فِي الضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ جَاءَ
الْخَوْفُ مِنْ الْفَقْرِ وَالِاعْتِلَالِ بِالْعَائِلَةِ ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ
احْتَجَّ بِالضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ بِذِكْرِ أَحْوَالِ
الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وَأَحْوَالِ
السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ : مَا أَتَى عَلَى مَنْ أَتَى فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا مِنْ
الضَّرُورَاتِ الْمُعْتَادَاتِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ ، فَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ : هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا ، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو
إلَيْهَا .
مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْفَقِيهُ : لَا بُدَّ
مِنْ فَوْقَانِيَّةٍ عَلَى صِفَةٍ ، لَا بُدَّ مِنْ عِمَامَةٍ عَلَى صِفَةٍ ،
وَلَا بُدَّ مِنْ كُتُبٍ ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَابَّةٍ ، فَإِذَا جَاءَتْ الدَّابَّةُ
لَا بُدَّ لَهَا مِنْ غُلَامٍ وَكُلْفَةٍ فِي الْغَالِبِ ، وَلَا بُدَّ لِبَعْضِهِمْ
مِنْ بَغْلَةٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ لِغُلَامِهِ بَغْلَةً أَيْضًا ، وَقَدْ
يَحْتَاجُ الْغُلَامُ إلَى زَوْجَةٍ ، فَلَا يَزَالُ هَكَذَا فِي ضَرُورَاتٍ
حَتَّى يَرْجِعَ فِي الدُّنْيَا مُتَّسِعَ الْحَالِ وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ
أَنَّهُ مَضْرُورٌ ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ فِي الْوَقْتِ مِنْ
أَرْبَابِ الدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقُول :
أَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ نَظَرًا مِنْهُ إلَى مَا
قَدَّمْنَاهُ وَأَشْبَاهِهِ مِنْ الْمَسْكَنِ عَلَى صِفَةٍ وَالزَّوْجَةِ
وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ وَالْأَوَانِي وَالْجَوَارِي وَالْخَدَمِ
وَالْغِلْمَانِ ، فَتَأْتِي الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ ،
وَهُوَ مَهْمُومٌ تَجِدُهُ يَشْكُو مِنْ كَثْرَةِ الضَّرُورَاتِ الَّتِي
يَدَّعِيهَا ، فَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ :
هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا فَلَا ضَرُورَةَ إلَّا شَرْعِيَّةٌ
، وَالضَّرُورَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَا يُحْتَاجُ فِيهَا فِي الْغَالِبِ إلَى
كُلْفَةٍ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الضَّرُورَاتِ الَّتِي
لَهُمْ إنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ ، وَالْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ
يَتَّبِعُ الشَّرْعَ وَيَحُثُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ الْقُدْوَةُ ، وَعَلَى
أَحْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ يَدُورُ أَمْرُ النَّاسِ فِي
اقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي ذَلِكَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ آكَدُ
الْأُمُورِ وَأَهَمُّهَا عِنْدَهُ الْقَنَاعَةَ ؛ لِأَنَّ بِهَا يَسْتَعِينُ عَلَى
مَا أَخَذَ بِصَدَدِهِ ، فَإِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ مَنْصِبٌ مِنْ حِلٍّ وَكَانَ
لَهُ غُنْيَةٌ عَنْهُ ، فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى أَخْذِهِ ، وَتَرْكُهُ
أَفْضَلُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَخْذِهِ وَالتَّصَدُّقِ بِمَا
يَحْصُلُ مِنْهُ مِنْ الرِّفْقِ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ طَلَبِ الدُّنْيَا أَعْظَمُ
عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَخْذِهَا وَالتَّصَدُّقِ بِهَا .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ كَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا شَيْءَ أَفْضَلُ مِنْ رَفْضِ الدُّنْيَا .
، وَقَالَ
الْفَضْلُ بْنُ ثَوْرٍ قُلْت لِلْحَسَنِ : يَا أَبَا سَعِيدٍ رَجُلَانِ طَلَبَ
أَحَدُهُمَا الدُّنْيَا بِحَلَالِهَا فَأَصَابَهَا فَوَصَلَ بِهَا رَحِمَهُ
وَقَدَّمَ فِيهَا لِنَفْسِهِ وَرَجُلٌ رَفَضَ الدُّنْيَا قَالَ : أَحَبُّهُمَا
إلَيَّ الَّذِي رَفَضَ الدُّنْيَا ، قَالَ : فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْقَوْلَ بِذَلِكَ
، فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ مَا اعْتَدَلَ الرَّجُلَانِ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ
الَّذِي جَانَبَ الدُّنْيَا انْتَهَى
.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ وَيُبَيِّنُهُ مَا خَرَّجَهُ
مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
كَانَ يَقُولُ : أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى خَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا
عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ،
وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ
وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ قَالُوا : بَلَى قَالَ : ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى
انْتَهَى .
الْعَالِمُ أَوْلَى مَنْ يُبَادِرُ إلَى أَعْلَى
الْأُمُورِ وَأَسْنَاهَا ؛ وَلِأَنَّ الْعِلْمَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ
وَأَجَلِّهَا ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِ عِوَضًا اللَّهُمَّ
إلَّا أَنْ يَأْخُذَهُ بِالنِّيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَنَعَمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَرَى لِلشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي
إِسْحَاقَ التِّنِّيسِيِّ فِي شَرْبَةِ لَبَنٍ ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَا هُنَا ،
بَلْ لَوْ عُرِضَ عَلَيْهِ الْمَنْصِبُ ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ لَكَانَ يَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ وَيَتْرُكَهُ إقَامَةً لِحُرْمَةِ الْعِلْمِ ،
وَلِكَيْ يَتَّصِفَ بِصِفَاتِ أَهْلِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ ضَرُورَةٌ
شَرْعِيَّةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَيَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ
دُونَ زِيَادَةٍ ، وَيَقْتَصِرَ عَلَيْهَا .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، انْسَدَّتْ بِهِ هَذَا
الثُّلْمَةُ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَتَجِدُ بَعْضَهُمْ لَهُ
فِي الْمَدْرَسَةِ ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا ، وَفِي الْأُخْرَى دُونَ ذَلِكَ
أَوْ أَكْثَرَ ، فَتَجِدُ بَعْضَ الْمُدَرِّسِينَ لَهُ دُنْيَا كَثِيرَةٌ ، وَهُوَ
يَدَّعِي الضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَظَرِهِمْ إلَى الضَّرُورَاتِ
الْمُعْتَادَاتِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا ، بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعِلْمِ الَّذِي يَأْخُذُ عَلَيْهِ الْمَعْلُومَ إنْ كَانَ
قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَمْ لَا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ، فَلَا
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى تَعْلِيمِهِ عِوَضًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ
عَلَيْهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مَعَ أَنَّ التَّرْكَ أَوْلَى وَأَرْفَعُ .
وَإِذَا أَخَذَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ عَلَى نِيَّةِ
الْإِعَانَةِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لَا
عَلَى الْعِوَضِ وَالْإِجَارَةِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ
تَعْلِيمُهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَخْذُهُ الرِّزْقَ لِلَّهِ لَا غَيْرَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ .
فَصْلٌ فِي مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ فِي الدُّرُوسِ
وَغَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ الِاجْتِمَاعِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَحْسَنَ اللَّهُ
تَعَالَى إلَيَّ وَإِلَيْك الْقَوْلُ فِي الْقِيَامِ لِلدَّاخِلِ فِي أَوَائِلِ
الْكِتَابِ وَتَفْصِيلِهِ وَمَا يَجُوزُ فِيهِ وَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَبَقِيَ
الْكَلَامُ عَلَى مَوَاضِعِ الْجُلُوسِ وَتَبْيِينِ مَا أَحْدَثُوا فِيهِ مِنْ
الْعَوَائِدِ ، فَيَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يُحَذِّرَ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ
الْمُسْتَهْجَنَةِ الَّتِي أُحْدِثَتْ إذْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى ،
وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ
أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَوْلَى بِالتَّوَاضُعِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ النَّاسِ
مُطَالَبِينَ بِذَلِكَ .
وَطَلَبُ مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ لِلْجُلُوسِ إنَّمَا هُوَ
مِنْ بَابِ الْكِبْرِ وَالْخُيَلَاءِ وَالِازْدِرَاءِ بِمَنْ دُونَهُ غَالِبًا ،
وَذَلِكَ بَعِيدٌ عَمَّنْ اتَّصَفَ بِالْعِلْمِ سِيَّمَا مَنْ هُوَ جَالِسٌ
لِإِلْقَائِهِ أَوْ لِسَمَاعِهِ ، وَالْعِلْمُ يَطْلُبُهُ بِتَرْكِ مَا
يَتَعَاطَاهُ مِنْ طَلَبِ الْحُظُوظِ الْخَسِيسَةِ وَالْأَمَانِي الْفَاسِدَةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْقِيَامِ أَنَّ سِمَةَ
الْعَالِمِ إنَّمَا هِيَ بِوُجُودِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ
وَالتَّقَشُّفِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّنَازُلِ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى لَا
بِضِدِّهِ ، وَطَلَبُ مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ مِنْ بَابِ التَّعْظِيمِ لَا خَفَاءَ
بِهِ ، وَالْعُلَمَاءُ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَكَانَ عَنْ يَسَارِهِ
أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ تُجَاهَهُ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ فَلَمَّا فَرَغَ
قَالَ عُمَرُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا أَبُو بَكْرٍ فَأَعْطَى الْأَعْرَابِيَّ
فَضْلَهُ ، وَقَالَ : أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا أَلَا فَيَمِّنُوا ، } قَالَ أَنَسٌ :
فَهِيَ سُنَّةٌ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ جِهَةَ الْيَمِينِ أَفْضَلُ .
وَقَدْ كَانَ الْأَعْرَابِيُّ فِي جِهَتِهَا
وَالصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْيَسَارِ ، فَلَمْ يَضُرَّ
أَبَا بَكْرٍ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ
فَضِيلَتِهِ الَّتِي أَوْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهَا إذْ أَنَّ الْفَضِيلَةَ
إنَّمَا هِيَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ لَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ
؛ فَإِنْ ظَهَرَتْ الْفَضْلَةُ لِلنَّاسِ وَأُمِرُوا بِتَعْظِيمِ صَاحِبِهَا فَلْيَكُنْ
ذَلِكَ عَلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، أَلَا تَرَى { أَنَّ الْأَعْرَابِيَّ لَمَّا أَنْ
أَسْتَأْذَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقَدِّمَ
أَبَا بَكْرٍ ، فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا
فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ } .
وَكَذَلِكَ نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ : لَمَّا أَنْ أَقْرَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ بَيْنَ رَجُلٍ وَوَلَدِهِ فَخَرَجَتْ
الْقُرْعَةُ لِلْوَلَدِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ : آثِرْنِي بِهَا يَا بُنَيَّ ،
فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ : الْجَنَّةُ هَذِهِ يَا أَبَتِ لَا يُؤْثِرُ بِهَا أَحَدٌ
أَحَدًا فَانْظُرْ - رَحِمنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ - كَيْفَ فَعَلَ هَذَا
الصَّحَابِيُّ هَذَا الْفِعْلَ مَعَ أَبِيهِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ذَلِكَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مُتَأَكِّدٌ
طَلَبُهُ فِي الشَّرْعِ لَكِنْ عَلَى مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ لَا عَلَى مَا يَخْطِرُ
لَنَا أَوْ يَهْجِسُ فِي أَنْفُسِنَا
.
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي قِصَّتِهِ مَعَ الْخَلِيفَةِ لَمَّا أَرَادَ الْخَلِيفَةُ أَنْ
يَقْرَأَ عَلَيْهِ كِتَابَ الْمُوَطَّأِ وَجَلَسَ الْخَلِيفَةُ إلَى جَانِبِ
الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَمَرَ وَزِيرَهُ جَعْفَرًا أَنْ يُقْرَأَ ، فَقَالَ لَهُ
مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ هَذَا الْعِلْمَ
لَمْ يُؤْخَذْ إلَّا بِالتَّوَاضُعِ وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ - وَأَنْ تَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ ،
فَقَامَ الْخَلِيفَةُ وَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، هَذَا وَهُوَ خَلِيفَةُ ذَلِكَ
الزَّمَانِ مَعَ
أَنَّهُ فِي الْفَضِيلَةِ كَانَ بِحَيْثُ يُعْلَمُ
مَوْضِعُهُ مِنْهَا ، وَلِأَجْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْعِلْمِ انْقَادَ
إلَى الْأَدَبِ وَالتَّوَاضُعِ ، وَلَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ إلَّا رِفْعَةً
وَهَيْبَةً ، بَلْ ارْتَفَعَ قَدْرُهُ بِذَلِكَ وَبَقِيَ يُثْنِي عَلَيْهِ
بِذَلِكَ فِي مَجَالِسِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ إذَا جَمَعَ الْعَالِمُ
ثَلَاثًا تَمَّتْ النِّعْمَةُ بِهِ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ الصَّبْرُ وَالتَّوَاضُعُ
وَحُسْنُ الْخَلْقِ ، وَإِذَا جَمَعَ الْمُتَعَلِّمُ ثَلَاثًا تَمَّتْ النِّعْمَةُ
بِهِ عَلَى الْعَالِمِ الْعَقْلُ وَالْأَدَبُ وَحُسْنُ الْفَهْمِ انْتَهَى .
فَمَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ
تَعَالَى ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَدْرِ النُّزُولِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَصْلِ
الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا ، فَكَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ مَا صَعِدَ بِك
هَاهُنَا أَعْنِي فِي رَأْسِ الشَّجَرَةِ وَأَنْتَ قَدْ نَزَلْت تَحْتَ أَصْلِهَا
، فَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِ يَقُولُ : مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ سَبَقَ إلَى
مَوْضِعٍ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَكَوْنُهُ يُقِيمُ أَحَدًا مِنْ مَوْضِعِهِ
، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْبِدْعَةِ وَارْتِكَابِ النَّهْيِ وَالتَّكَبُّرِ
وَالتَّجَبُّرِ { نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يُقَامَ
الرَّجُلُ مِنْ مَجْلِسِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ آخَرُ ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا
وَتَوَسَّعُوا } انْتَهَى .
وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي
عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ فَعَلَى هَذَا فَحَيْثُمَا بَلَغَ بِالْإِنْسَانِ
الْمَجْلِسُ جَلَسَ فَهِيَ السُّنَّةُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ
وَارْتِكَابِ النَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَالْفَضِيلَةُ عِنْدَ السَّلَفِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّمَا هِيَ بِالِاتِّصَافِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ،
وَلَيْسَتْ بِالْمَوَاضِعِ وَلَا بِالْخُلَعِ وَلَا بِوُجُودِ الْمَنَاصِبِ ،
وَلَكِنْ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُمْ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي التَّوَاضُعِ
وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ ، فَلَوْ جَلَسَ مَنْ لَهُ فَضِيلَةٌ عِنْدَ
الْأَقْدَامِ لَصَارَ
مَوْضِعُهُ صَدْرًا وَعَكْسُهُ عَكْسَهُ ، فَلْيُحْذَرْ
مِنْ هَذَا التَّنَافُسِ الْمَذْمُومِ شَرْعًا ، فَإِنَّهُ سُمٌّ قَاتِلٌ
لِفَاعِلِهِ وَلِمَنْ يَقْتَدِي بِهِ ، وَهُوَ نَوْعٌ قَبِيحٌ كَمَا تَقَدَّمَ
أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي الْقِيَامِ وَاللِّبَاسِ ، بَلْ هَذَا أَشَدُّ قُبْحًا
لِأَنَّهُ مُصَادِمٌ لِلنَّهْيِ .
فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ : إنَّمَا يُفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ
بَابِ التَّرْفِيعِ لِلْعِلْمِ وَالتَّوْقِيرِ لَهُ .
فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ
بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَ ، وَلَا يُتَّبَعُ غَيْرُهُمْ وَلَا يُرْجَعُ إلَّا إلَيْهِمْ ؛
لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حُظُوظَ النُّفُوسِ وَمُخَالَفَةَ السُّنَّةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَلَا شَيْءَ أَعْلَى وَلَا أَرْفَعَ مِنْ اتِّبَاعِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاتِّبَاعِ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ هَذَا لَزَمَانٌ لَا
يُشْبِهُ ذَلِكَ الزَّمَانَ لِتَعْظِيمِ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا
لِأَجْلِ عِلْمِهِمْ الْغَزِيرِ وَدِيَانَتِهِمْ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ
وَالسُّنَّةَ الشَّرِيفَةَ وَرَدَا جَمِيعًا لِأَهْلِ كُلِّ زَمَانٍ ، وَلَمْ
يَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ قَرْنًا دُونَ
قَرْنٍ وَلَا قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ ، بَلْ أَتَى بِذَلِكَ عُمُومًا قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ : { وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ
لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ
} ، وَقَالَ
: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ
فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ
سَمِعَهُ } انْتَهَى .
أَيْ اعْمَلْ بِهِ فَالْمَنْزِلَةُ الَّتِي يُرَاعَى
حَقُّهَا فِي الشَّرْعِ إنَّمَا بِالْعِلْمِ وَالِاتِّصَافِ بِالْعَمَلِ بِهِ
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَتَقْدِيمُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي
الْغَالِبِ إنَّمَا
هُوَ لِتَعْظِيمِ الدُّنْيَا فِي قُلُوبِهِمْ ، فَمَنْ كَانَتْ
لَهُ خِلْعَةٌ أَوْ هَيْئَةٌ قَدَّمُوهُ فِي الْمَجَالِسِ ، وَمَنْ كَانَ رَثَّ
الْحَالِ أَخَّرُوهُ عَكْسُ حَالِ السَّلَفِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ عَوَائِدِ
أَكْثَرِهِمْ ، فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى ذِكْرِ تَفَاصِيلِ أَحْوَالِهِمْ
وَمَقَاصِدِهِمْ فِي ذَلِكَ .
الْغَالِبُ مِنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ
الْإِنْصَافَ فِي ذَلِكَ أَنْ لَوْ كَانَ جَائِزًا فِي الشَّرْعِ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا : أَنَّ ذَلِكَ مُجَرَّدُ حَظٍّ
مَذْمُومٍ شَرْعًا كَمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ أَنْ يَسْكُتَ
عَنْ ذَلِكَ ، بَلْ يُوَضِّحَ الْأَمْرَ وَيُنْكِرَهُ وَيَزْجُرَ فَاعِلَهُ وَيُقَبِّحَ
لَهُ فِعْلَهُ وَيُشَنِّعَ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ حَسْبَ اسْتِطَاعَتِهِ ،
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ النَّاسُ
إلَيْهِ لِلْفَتْوَى ، وَهُوَ مَقْصُودٌ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي أُمُورِ
الدِّينِ ، وَكَانَ لَهُ مَكَانٌ يُعْرَفُ بِهِ فَهَذَا لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ
الْبَابِ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ
، إذْ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ وَالضَّرُورَاتُ لَهَا أَحْكَامٌ تَخُصُّهَا
، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ قَدْ تَقَدَّمَ
رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ ذِكْرُ بَعْضِ آدَابِ الْعَالِمِ ، وَفِي
ذِكْرِهِ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ آدَابِ الْمُتَعَلِّمِ إذْ أَنَّ الْغَالِبَ فِيمَا
ذُكِرَ اشْتِرَاكُهُمَا فِي ذَلِكَ ، لَكِنْ قَدْ يَخْتَصُّ الْمُتَعَلِّمُ
بِبَعْضِ نُبَذٍ يَسِيرَةٍ يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي الْعَالِمِ أَنْ تَكُونَ نِيَّتُهُ فِي التَّعْلِيمِ لِلَّهِ تَعَالَى ،
وَأَنْ يُظْهِرَ الْحَقَّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَعَلَى غَيْرِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ ، ثُمَّ هُوَ فِي حَقِّ الْمُتَعَلِّمِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ
أَمْرِهِ مُتَّصِفٌ بِالْجَهْلِ فَيَحْرِصُ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ مِنْ الشَّوَائِبِ
فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى لَا
لِأَجْلِ أَنْ يَرْتَفِعَ قَدْرُهُ عِنْدَ النَّاسِ ، أَوْ يُعْرَفَ بِالْعِلْمِ ،
أَوْ لِمَعْلُومٍ يَأْخُذُهُ بِهِ ، أَوْ لَأَنْ يَرْأَسَ بِهِ عَلَى الْجُهَّالِ
، أَوْ لَأَنْ يُشَارَ إلَيْهِ ، أَوْ لَأَنْ يُسْمَعَ قَوْلُهُ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ الْمَذْمُومَةِ شَرْعًا الَّتِي تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ
يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى ، بَلْ يَفْعَلَ ذَلِكَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ لَا يُرِيدُ غَيْرَ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ
يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَنْ اتَّصَفَ بِبَعْضِ مَا ذُكِرَ : { أَنَا
أَغْنَى الشُّرَكَاءِ اذْهَبْ فَخُذْ الْأَجْرَ مِنْ غَيْرِي }
، وَلَا
تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ
الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
.
وَإِذَا كَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ فَيَتَعَيَّنُ
تَخْلِيصُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَبْتَدِئُهُ أَوَّلًا بِالْإِخْلَاصِ الْمَحْضِ ،
حَتَّى يَكُونَ الْأَصْلُ طَيِّبًا فَتَأْتِيَ الْفُرُوعُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الطَّيِّبِ
فَيُرْجَى خَيْرُهُ ، وَتَكْثُرَ بَرَكَتُهُ ، وَالْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ مَعَ
حُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ أَنْفَعُ وَأَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ الْكَثِيرِ مِنْهُ
مَعَ تَرْكِ الْمُبَالَاةِ بِالْإِخْلَاصِ فِيهِ وَمِنْ مَرَاقِي الزُّلْفَى
لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِوَجْهِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُعَانًا
، وَمَنْ طَلَبَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَمْ يَزَلْ مُهَانًا انْتَهَى هَذَا إذَا
كَانَ هُوَ الدَّاخِلُ بِنَفْسِهِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ ، فَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ
هُوَ الَّذِي يُرْشِدُهُ لِذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَلِّمَهُ
النِّيَّةَ فِيهِ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُرْشِدَهُ لِطَلَبِ الْعِلْمِ بِسَبَبِ
أَنْ يَرْأَسَ بِهِ ، أَوْ يَأْخُذَ مَعْلُومًا عَلَيْهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنَّ هَذَا سُمٌّ قَاتِلٌ يُخْرِجُ الْعِلْمَ عَنْ
أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ يَقْرَأُ ، وَيَجْتَهِدُ لِلَّهِ تَعَالَى
خَالِصًا كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
.
فَإِنْ جَاءَ شَيْءٌ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ تَعَالَى
قَبِلَهُ عَلَى سَبِيلِ أَنَّهُ فُتُوحٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى سَاقَهُ اللَّهُ
إلَيْهِ لَا لِأَجْلِ إجَارَةٍ ، أَوْ مُقَابَلَةٍ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ إذْ
أَنَّ أَعْمَالَ الْآخِرَةِ لَا يُؤْخَذُ عَلَيْهَا عِوَضٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ يَحْيَى رَاوِيَ
الْمُوَطَّأِ لَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى مَالِكٍ لِيَقْرَأَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ
مَالِكٌ : اجْتَهِدْ يَا بُنَيَّ فَإِنَّهُ قَدْ جَاءَ شَابٌّ فِي سِنِّك فَقَرَأَ
عَلَى رَبِيعَةَ ، فَمَا كَانَ إلَّا أَيَّامٌ وَتُوُفِّيَ الشَّابُّ فَحَضَرَ
جِنَازَتَهُ عُلَمَاءُ الْمَدِينَةِ ، وَلَحَدَهُ رَبِيعَةُ بِيَدِهِ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ
ذَلِكَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ فِي النَّوْمِ ، وَهُوَ فِي حَالَةٍ
حَسَنَةٍ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ : غَفَرَ اللَّهُ
لِي ، وَقَالَ لِمَلَائِكَتِهِ : هَذَا عَبْدِي فُلَانٌ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ
يَبْلُغَ دَرَجَةَ الْعُلَمَاءِ فَبَلِّغُوهُ دَرَجَتَهُمْ فَأَنَا مَعَهُمْ
أَنْتَظِرُ مَا يَنْتَظِرُونَ .
قَالَ فَقُلْت : وَمَا يَنْتَظِرُونَ قَالَ :
الشَّفَاعَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعُصَاةِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ
أَنْ لَا يَسْعَى لِطَلَبِ الْمَعْلُومِ ، وَلَا فِي زِيَادَتِهِ ، وَلَا فِي
تَنْزِيلِهِ فِي الْمَدَارِسِ ، وَلَا فِي الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ
يُرْجَى ذَلِكَ مِنْهُمْ ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ كَانَ ذَلِكَ
قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ ، وَوَقَعَ عَلَيْهِ الذَّمُّ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا
تَفْعَلُونَ } ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَدْرَسَةِ إلَى غَيْرِهَا ، وَلَا مِنْ
الْمَسْجِدِ إلَى غَيْرِهِ إلَّا لِفَائِدَةٍ مِنْ زِيَادَةِ الْعِلْمِ ، إمَّا
لَأَنْ يَكُونَ مُدَرِّسُ الْمَدْرَسَةِ الْأُخْرَى أَعْلَمَ ، أَوْ أَفْيَدَ ،
أَوْ أَصْلَحَ مِنْ الْأَوَّلِ ، أَوْ لَأَنْ تَتَكَرَّرَ عَلَيْهِ مَسَائِلُ
الْعِلْمِ ، وَتَثْبُتَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَقَلَّ عِلْمًا مِنْ الْأَوَّلِ
لَا لِأَجْلِ مَعْلُومٍ ، فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ غَيْرَ مَا ذُكِرَ كَانَ قَدْحًا
فِي نِيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ
.
وَالْمُبْتَدِي يَحْتَاجُ إلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ
أَكْثَرَ مِنْ الْمُنْتَهِي ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَهِيَ عَارِفٌ بِالدَّسَائِسِ
الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْهِ إنْ حَصَلَ لَهُ التَّوْفِيقُ لَهُ بِخِلَافِ
الْمُبْتَدِي
، وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَضُرُّهُ أَخْذُ الْمَعْلُومِ مَعَ اشْتِغَالِهِ
بِالْعِلْمِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا سَبَقَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ
لَا يَقْدِرَ عَلَى تَخْلِيصِ نِيَّتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى لِبَقَاءِ تَعَلُّقِ خَاطِرِهِ
بِالْأَسْبَابِ ، وَيَأْخُذُ الْمَعْلُومَ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَتَرْكُ
التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ أَوْلَى بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَعَ
فِي بَحْرٍ مَخُوفٍ ، وَالْغَالِبُ فِيهِ الْعَطَبُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ : { مَنْ عَمِلَ مِنْ
هَذِهِ الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ
عَرْفَ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ
} أَوْ كَمَا قَالَ .
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَعَلُّمُ الْعِلْمِ
فَيُخَافُ عَلَيْهِ ، فَتَرْكُهُ أَوْلَى بِهِ فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى مَسْأَلَةٍ
فَلْيَسْأَلْ عَنْهَا أَهْلَ الْعِلْمِ ، وَحِينَئِذٍ يَقْدُمُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا عَلِمْت عِلْمًا فَلْيُرَ
عَلَيْك أَثَرُهُ ، وَسَمْتُهُ ، وَسَكِينَتُهُ ، وَوَقَارُهُ ، وَحِلْمُهُ
لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } .
وَعَنْ ابْنِ يُونُسَ ، وَذُكِرَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ
أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَكُونُوا يَهْذِرُونَ الْكَلَامَ هَكَذَا ، وَمِنْ النَّاسِ
مَنْ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ شَهْرٍ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا حُجَّةَ لِأَحَدٍ
فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ : مِنْ الْعُلَمَاءِ طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ
تَعَالَى فَأَبَى الْعِلْمُ أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ
مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ : أَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا جَاهِلًا لَا
يَعْرِفُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْوَظَائِفِ الشَّرْعِيَّةِ ، فَلَمَّا أَنْ قَرَأَ
الْعِلْمَ وَجَدَ قَوَاعِدَهُ مَاشِيَةً عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ : وَاجِبٌ
وَمَنْدُوبٌ وَمُبَاحٌ وَمَكْرُوهٌ وَمُحَرَّمٌ ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ الْوَاجِبَ
لَمْ يَسَعْهُ إلَّا فِعْلُهُ ، وَكَذَلِكَ
الْمُحَرَّمُ عَكْسُهُ ، وَالْمَنْدُوبُ مَا لَهُ فِي
فِعْلِهِ ثَوَابٌ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ عِقَابٌ ، وَالْمَكْرُوهُ
ضِدُّهُ ، وَالْمُبَاحُ مَا اسْتَوَى طَرَفَاهُ فَالْمُكَلَّفُ مُخَيَّرٌ فِي
فِعْلِهِ ، وَفِي تَرْكِهِ فَاتَّبَعَ الْعِلْمَ ، وَبِاتِّبَاعِهِ صَارَ لِلَّهِ
تَعَالَى ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ أَوَّلًا فَوَجَدَ
الْعِلْمَ يَمْنَعُهَا فَتَرَكَهَا
.
وَقَدْ نَقَلَ مَعْنَى هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ
بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ
فَقَالَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْعِلْمُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ،
وَالْعَمَلُ لِلَّهِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَطْلُبُ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ
فَيَرُدُّهُ الْعِلْمُ إلَى اللَّهِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ
إلَّا لِلَّهِ انْتَهَى .
هَذَا وَجْهٌ
.
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ هَذَا إنْسَانٌ غُرَّ
فَسَلِمَ ، وَلَا يُمْكِنُ لِعَاقِلٍ أَنْ يَغُرَّ بِنَفْسِهِ ، وَيَرْجُوَ أَنْ
يَسْلَمَ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ تَدْعُو الضَّرُورَةُ ، وَهُوَ الْغَالِبُ إلَى
طَلَبِ الْمَعْلُومِ ، وَإِلَى الْجَمْعِ بَيْنَ مَدَارِسَ جَمَّةٍ لِأَجْلِ
قِيَامِ الْبِنْيَةِ ، وَضَرُورَاتِ الْبَشَرِيَّةِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا
الْبَابَ مِنْهُ ، وَقَعَ الْخَلَلُ ، وَرَجَعَتْ أَعْمَالُ الْآخِرَةِ
لِمُجَرَّدِ الدُّنْيَا ، وَهُوَ عَطَبٌ عَظِيمٌ إذْ أَنَّ الدُّنْيَا لَا
تُطْلَبُ بِعَمَلِ الْآخِرَةِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو
طَالِبُ الْعِلْمِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا فِي
دِينِهِ وَاثِقًا بِرَبِّهِ ، أَوْ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ
الْأَوَّلُ فَاشْتِغَالُهُ بِالْعِلْمِ ، وَإِقْبَالُهُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِهِ
مِنْ أَنْ يَدُورَ عَلَى الْمَدَارِسِ ، أَوْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ تَكَفَّلَ بِرِزْقِهِ خُصُوصًا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنْ احْتَجَّ
مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى (
{ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ }
فَجَعَلَ الْمَشْيَ سَبَبًا لِلرِّزْقِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّك إذَا نَظَرْت إلَى تَمَامِ
الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } بَانَ لَك أَنَّ آخِرَ
الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ فِيهِ التَّنْبِيهُ لِلْمُتَسَبِّبِينَ
عَلَى التَّحَفُّظِ فِي مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ كُلِّهَا ، إذْ
أَنَّ يَوْمَ النُّشُورِ فِيهِ الْحِسَابُ فَفِي ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْوَرَعِ
فِي السَّبَبِ خِيفَةً مِنْ الْحِسَابِ وَالْمُنَاقَشَةِ يَوْمَ النُّشُورِ ،
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَزُولُ
قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ عَنْ
عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا
عَمِلَ فِيهِ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ ، وَفِيمَا أَنْفَقَهُ }
انْتَهَى .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ
تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ تَغْدُو
خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا } انْتَهَى .
فَأَرْشَدَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ هَذَا إلَى تَرْكِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَالِاشْتِغَالِ
بِالْأَعْمَالِ الْأُخْرَوِيَّةِ ثِقَةً بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِكِفَايَتِهِ ،
فَإِنَّهُ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الْكَرِيمُ ، فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِ
مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الشَّغَفُ بِالْأَسْبَابِ فَقَالَ : طَيَرَانُ الطَّائِرِ
سَبَبٌ فِي رِزْقِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّ طَيَرَانَ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ لَا
يُمَاثِلُ التَّسَبُّبَ فِي الرِّزْقِ ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ لَيْسَ فِيهِ حَبٌّ
يُلْتَقَطُ ، وَلَا جِهَةٌ تُقْصَدُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي مَوَاضِعَ
شَتَّى لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ، وَلَا عَقْلَ لَهُ يُدْرِكُ بِهِ ، فَدَلَّ عَلَى
أَنَّ طَيَرَانَهُ فِي الْهَوَاءِ لَيْسَ هُوَ مِنْ بَابِ طَلَبِ الرِّزْقِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ حَرَكَةِ يَدِ الْمُرْتَعِشِ لَا حُكْمَ لَهَا ،
فَيَتَرَدَّدُ فِي الْهَوَاءِ حَتَّى يُؤْتَى بِرِزْقِهِ إلَيْهِ ، أَوْ يُؤْتَى
بِهِ إلَى رِزْقِهِ ، وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ حَمْلُ طَيَرَانِ الطَّائِرِ عَلَيْهِ
أَعْنِي فِي أَنَّهُ لَا حُكْمَ لَهُ فِي الرِّزْقِ ، وَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ ؛
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ مُتَوَكِّلًا مَعَ
طَيَرَانِهِ ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بِهِ ، وَالْعَاقِلُ
الْمُكَلَّفُ أَوْلَى بِالتَّوَكُّلِ مِنْهُ سِيَّمَا مَنْ دَخَلَ فِي بَابِ
الِاشْتِغَالِ بِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ،
وَهُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي
، وَهُوَ الْعَاجِزُ عَنْ التَّوَكُّلِ لِعَدَمِ قُوَّةِ الْيَقِينِ عِنْدَهُ
فَالْأَسْبَابُ عَلَيْهِ مُتَّسِعَةٌ فَيَتَسَبَّبُ فِي شَيْءٍ يَسْتَعِينُ بِهِ
عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ أَوْلَى بِهِ ، بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ
أَوْسَاخَ النَّاسِ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ ،
وَيَكْفِيهِ مَعَ ذَلِكَ الْقَلِيلُ مِنْ الْعِلْمِ ، وَقَدْ يُبَارَكُ لَهُ فِيهِ
فَيَصِيرُ كَثِيرًا .
وَعَلَى هَذَا كَانَ حَالُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي كَوْنِهِمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعْلُومٌ عَلَى سَبَبٍ
مِنْ أَسْبَابِ الْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الْأَرْزَاقُ عَلَى أَعْمَالِ
الْآخِرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَمِنْهُ دَخَلَ الْفَسَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ
تَعَاطَى أَسْبَابَ الْآخِرَةِ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ
بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ
ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ يَزْدَادُ بِعِلْمِهِ بُغْضًا لِلدُّنْيَا ، وَتَرْكًا لَهَا ،
فَالْيَوْمَ يَزْدَادُ الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ لِلدُّنْيَا حُبًّا ، وَلَهَا طَلَبًا
، وَكَانَ الرَّجُلُ يُنْفِقُ مَالَهُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَالْيَوْمَ يَكْتَسِبُ
الرَّجُلُ بِعِلْمِهِ مَالًا ، وَكَانَ يُرَى عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ زِيَادَةُ إصْلَاحٍ
فِي بَاطِنِهِ ، وَظَاهِرِهِ ، فَالْيَوْمَ تَرَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ فَسَادَ الْبَاطِنِ ، وَالظَّاهِرِ انْتَهَى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهُ لَا يُمْكِنُ طَالِبَ
الْعِلْمِ التَّسَبُّبُ فِي الصَّنَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ
سَمْتِهِ ، وَوَقَارِهِ ، وَزِيِّهِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ
الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فَرْقٌ فِي الزِّيِّ ، وَلَا الْمَلْبَسِ
لِفَقِيهٍ ، وَلَا لِغَيْرِهِ ، وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : إنَّ اللَّهَ أَخَذَ عَلَى أَئِمَّةِ الْهُدَى أَنْ يَكُونُوا فِي مِثْلِ
أَدْنَى أَحْوَالِ النَّاسِ لِيَقْتَدِيَ بِهِمْ الْغَنِيُّ ، وَلَا يَزْرِي
بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ ، وَعُوتِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي لِبَاسِهِ ، وَكَانَ
يَلْبَسُ الْخَشِنَ مِنْ الْكَرَابِيسِ قِيمَةُ قَمِيصِهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ
إلَى خَمْسَةٍ ، وَيَقْطَعُ مَا فَضَلَ عَنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ فَقَالَ :
هَذَا أَدْنَى إلَى التَّوَاضُعِ ، وَأَجْدَرُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ
الْمُسْلِمُونَ .
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ التَّنَعُّمِ ، وَقَالَ : { أَلَا إنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ
} ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ رَقَّ ثَوْبُهُ رَقَّ دِينُهُ ، وَرُوِيَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مِنْ شِرَارِ
أُمَّتِي الَّذِينَ غُذُّوا بِالنَّعِيمِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَلْوَانَ
الطَّعَامِ ، وَيَلْبَسُونَ أَلْوَانَ الثِّيَابِ ، وَيَتَشَدَّقُونَ فِي
الْكَلَامِ } انْتَهَى .
أَلَا تَرَى إلَى قِصَّةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ثَوْبِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ إحْدَى عَشْرَةَ رُقْعَةً
إحْدَاهَا مِنْ أَدِيمٍ ، هَذَا وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا بَالُك
بِغَيْرِهِ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانٍ لَائِقٍ بِهِمْ ، وَهَذَا
زَمَانٌ لَا يَلِيقُ بِهِ مَا ذَكَرْتُمْ فَالْجَوَابُ : أَنَّ الزَّمَانَيْنِ
بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ سَوَاءٌ إذْ أَنَّ الْكُلَّ
عَمَّهُمْ الْخِطَابُ ، وَتَنَاوَلَتْهُمْ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَقَدْ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ مُتَّصِفًا
بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ
==============
ج6.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ
شَرْعًا ، أَوْ بِجُلِّهَا ، وَقَدْ مَضَتْ حِكَايَةُ
الشَّيْخِ الْجَلِيلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَوَاضُعِهِ
فِي تَصَرُّفِهِ ، وَكَذَلِكَ حِكَايَةُ الشَّيْخِ الْجَلِيلِ الْمَعْرُوفِ
بِالزَّيَّاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَا جَرَى لَهُ ، وَكَانَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ
الصُّلَحَاءِ فِي وَقْتِهِ ، وَفِي هَذَا الْوَقْتِ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ إذَا جَلَسَ إلَى الدَّرْسِ يَجْتَمِعُ لَهُ نَحْوٌ مِنْ
أَرْبَعِمِائَةٍ ، أَوْ سِتِّمِائَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ يَحْضُرُونَ عَلَيْهِ ،
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَامَ ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ ، وَأَخْرَجَ مَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ ، أَوْ فِي يَدِهِ مِنْ قَمْحٍ يَطْحَنُهُ ،
أَوْ عَجِينٍ يَخْبِزُهُ ، أَوْ شِرَاءِ خُضْرَةٍ ، أَوْ حَاجَةٍ مِنْ السُّوقِ ،
أَوْ حَصَادٍ لِزَرْعِهِ بِيَدِهِ ، أَوْ غَسْلِ ثِيَابٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْحَوَائِجِ ، وَلَهُ مِنْ الْهَيْبَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْ
الطَّلَبَةِ ، أَوْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَيْهِ فَالْخَيْرُ وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ بَاقٍ لِمَنْ أَرَادَهُ ، وَتَحْصِيلُهُ مُمْكِنٌ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ التَّوْفِيقُ
فَمَنْ وُفِّقَ ، وَتَرَكَ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ ، وَالطَّبَائِعَ
النَّفْسَانِيَّةَ ، فَقَدْ أَرْشَدَ ، وَجَاءَهُ الْعَوْنُ قَالَ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ
اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ } ،
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى طَائِفَةٌ بِالْمَغْرِبِ انْتَهَى .
مَعَ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
أُمَّتِي كَالْمَطَرِ لَا يُدْرَى أَيُّهُ أَنْفَعُ أَوَّلُهُ ، أَوْ آخِرُهُ } ،
أَوْ كَمَا قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا يَقْطَعُ الْمَرْءُ
الْمُسْلِمُ الْإِيَاسَ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَرَمِهِ ، وَقَدْ
رَأَيْت وَبَاشَرْت بَعْضَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ بِالْمَغْرِبِ يَأْخُذُونَ
الْمِسْحَاةَ ، وَيَأْتُونَ إلَى مَوَاقِفِ الْبَنَّائِينَ ، فَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ
سَبَبٌ مَشَوْا فِيهِ يَوْمَهُمْ
ذَلِكَ ، وَإِلَّا رَجَعُوا إلَى الدَّرْسِ ،
وَالِاشْتِغَالِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَطُولُ ذِكْرُهُ فَالْحَاصِلُ
مِنْ هَذَا أَنْ يَدْخُلَ الْمُتَعَلِّمُ إلَى تَعَلُّمِ الْعِلْمِ بِجِدٍّ ،
وَاجْتِهَادٍ ، وَحُسْنِ نِيَّةٍ ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْعَوَارِضِ ، وَالْأَسْبَابِ
، وَالْعَوَائِدِ الَّتِي اُنْتُحِلَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ
فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ هَلْ يُقْدِمُ عَلَيْهَا ، أَوْ يَتْرُكُهَا
ثِقَةً بِهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا سَبَقَ
، وَقَدْ
تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ أَنَّ مِنْ صِفَاتِهِ التَّوَاضُعَ لِمَنْ يُعَلِّمُهُ ،
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَطْلُوبًا فِي الْعَالِمِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي
الْمُتَعَلِّمِ الْمُحْتَاجِ إلَى التَّعْلِيمِ ، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ
تَوَاضُعُهُ أَكْثَرَ حَتَّى لَوْ صَارَ أَرْضًا تُوطَأُ كَانَ قَلِيلًا
بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ يَطْلُبُهُ ؛ وَلِأَنَّ التَّوَاضُعَ يُقْبَلُ
بِالْقُلُوبِ عَلَيْهِ ، وَيُنَشِّطُ مَنْ يُعَلِّمُهُ لِتَعْلِيمِهِ ،
وَإِرْشَادِهِ ، وَالتَّوَاضُعُ أَصْلُ كُلِّ خَيْرٍ ، وَبَرَكَةُ كُلِّ شَيْءٍ ،
فَإِذَا اتَّصَفَ الْمُتَعَلِّمُ بِمَا ذُكِرَ انْتَفَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ
الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْوَقْتِ مِنْ نَظَرِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ
فِي الْمَعْلُومِ ، وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ : كَيْفَ يَأْخُذُ فُلَانٌ كَذَا ،
وَكَذَا ، وَأَنَا أَكْثَرُ مِنْهُ بَحْثًا ، وَقَدْ حَفِظْت الْكِتَابَ
الْفُلَانِيَّ ، وَالْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ ، وَيَقَعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ
بَيْنَهُمْ شَنَآنٌ ، وَاتِّصَافٌ بِالْحَسَدِ ، وَمَا شَاكَلَهُ .
وَخَرَجَ ذَلِكَ إلَى بَابِ الْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ
، وَوَقَعُوا بِسَبَبِهِ فِي الْوَعِيدِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ
: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
{ مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ } إلَخْ
أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ لَا
يَتَّصِفُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ إلَّا أَنْ يَبْنِيَ أَمْرَهُ
عَلَى أَصْلٍ صَحِيحٍ إذْ أَنَّ الْبِنَاءَ إذَا طَلَعَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَسَاسٍ صَحِيحٍ جَيِّدٍ يُعْمَلُ ثُمَّ
بَعْدَ ذَلِكَ يُبْنَى عَلَيْهِ
.
وَالْأَسَاسُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُبْتَدِي
فِي هَذَا الْفَنِّ اتِّبَاعُ السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ
أَجْمَعِينَ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ ، وَكَانَتْ أَحْوَالُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ الْهَرَبَ مِنْ الدُّنْيَا ، وَأَسْبَابِهَا ، فَإِنْ فُتِحَ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ
مِنْهَا قَالُوا : ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ ، وَإِنْ أَصَابَهُمْ ضِيقٌ
سُرُّوا بِذَلِكَ ، وَفَرِحُوا بِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ غَنِيمَتَهُمْ ، وَلِأَجْلِ
ذَلِكَ
جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ ،
وَيُرْجَعُ إلَى أَقْوَالِهِمْ ، وَأَحْوَالِهِمْ ، وَقَدْ أَوْحَى اللَّهُ
تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا مَعْنَاهُ يَا مُوسَى
إذَا رَأَيْت الدُّنْيَا أَقْبَلَتْ فَقُلْ : ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ ،
وَإِذَا رَأَيْتهَا أَدْبَرَتْ فَقُلْ : أَهْلًا بِشِعَارِ الصَّالِحِينَ ، وَقَدْ
دَعَا مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَطَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أَنْ
يُغْنِيَهُ عَنْ النَّاسِ فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ يَا مُوسَى أَمَا
تُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَ بِغَدَائِك رَقَبَةً مِنْ النَّارِ ، وَبِعَشَائِك رَقَبَةً
مِنْ النَّارِ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ قَالَ : هُوَ كَذَلِكَ ، أَوْ كَمَا قَالَ
فَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَتَغَدَّى عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ
بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَيَتَعَشَّى عِنْدَ آخَرَ ، وَكَانَ ذَلِكَ رِفْعَةً فِي
حَقِّهِ لِتَعَدِّي النَّفْعِ إلَى عِتْقِ مَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِعِتْقِ
رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَكَابِرُ لَهُمْ أَمْوَالٌ ، وَأَسْبَابٌ
فَالْجَوَابُ : أَنَّ اتِّخَاذَهُمْ الْأَمْوَالَ ، وَالْعَمَلَ عَلَى
الْأَسْبَابِ لَا يُمْنَعُ إذَا دَخَلَ فِيهَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي عَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِهَا ، إذْ أَنَّهُمْ
كَانُوا فِيهَا سَوَاءٌ أَقْبَلَتْ ، أَوْ أَدْبَرَتْ ، فَإِنْ أَقْبَلَتْ قَابَلُوهَا
بِالْإِيثَارِ ، وَالْبَذْلِ لِلَّهِ ، وَإِنْ أَدْبَرَتْ قَابَلُوهَا بِالصَّبْرِ
، وَالرِّضَا ، وَالتَّسْلِيمِ لِمَنْ الْأَمْرُ بِيَدِهِ ، وَهِمَّتُهُمْ ،
وَبُغْيَتُهُمْ إنَّمَا كَانَ تَحْصِيلَ زَادِهِمْ لِمَعَادِهِمْ فِي الْفَقْرِ ،
وَالْغِنَى ، وَالْحَرَكَةِ ، وَالسُّكُونِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمُرْجَانِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الْحَالَةُ اُخْتُصَّ بِهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ عَجَزَ غَيْرُهُمْ عَنْهَا انْتَهَى .
يَعْنِي فِي الْغَالِبِ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مَنْ
اشْتَغَلَ بِأَحَدِ الشَّيْئَيْنِ إلَّا أَضَرَّ بِالْآخَرِ ، يَعْنِي مَنْ
اشْتَغَلَ بِالدُّنْيَا
أَضَرَّ بِالْآخِرَةِ ، وَمَنْ اشْتَغَلَ بِالْآخِرَةِ
أَضَرَّ بِالدُّنْيَا ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : وَجَمْعُك بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ
عَجِيبٌ فَإِذَا اتَّصَفَ الطَّالِبُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهَا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ التَّفَاوُتُ لِمَنْ زِيدَ لَهُمْ فِي
الْمَعْلُومِ ، أَوْ نُقِصَ ، وَكَذَلِكَ يَتَسَاوَى عِنْدَهُ مَوَاضِعُ
الْجُلُوسِ فِي الِارْتِفَاعِ ، وَالِانْخِفَاضِ ، كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ سَوَاءٌ
فَحَيْثُ أَجْلَسَهُ اللَّهُ جَلَسَ ، وَمَا سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ رَضِيَهُ ،
وَشَكَرَهُ ، وَمَا مَنَعَهُ مِنْهُ حَمِدَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَرَآهُ مِنْ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ عَطَاءً ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ حَالِهِ انْتَفَتْ عَنْهُ الشَّوَائِبُ
الْمَذْمُومَةُ ، وَبَقِيَ الْعِلْمُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى ،
وَإِذَا صَارَ الْعِلْمُ كَذَلِكَ ، وَصَحِبَهُ الْعَمَلُ بِهِ جَاءَ مِيرَاثُهُ
الْعَاجِلُ ، وَهُوَ الْخَشْيَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ
} ، وَإِذَا
حَصَلَتْ الْخَشْيَةُ قَوِيَ الرَّجَاءُ فِي الْقَوْلِ ، وَأَنَّهُ مَاشٍ عَلَى
مِنْهَاجِ السَّلَامَةِ ، وَالْغَنِيمَةِ فِيمَا أَخَذَ بِسَبِيلِهِ ، وَعَكْسُ
هَذَا الْحَالِ فِي النَّقِيضِ ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَمَنْ أَرَادَ
السَّلَامَةَ فَلْيَنْسِجْ عَلَى مِنْوَالِ مَنْ مَضَى ، فَالْخَيْرُ
بِحَذَافِيرِهِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ، وَبِأَحْوَالِهِمْ فِي الْقَلِيلِ ،
وَالْكَثِيرِ ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا
بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ بِمُحَمَّدٍ
، وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِمْ ، وَسَلَّمَ .
وَأَصْلُ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمِهِ ،
وَهُوَ آكَدُ مِنْ كُلِّ مَا ذُكِرَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { ، وَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَيُعَلِّمُكُمْ
اللَّهُ } فَإِذَا اتَّصَفَ الْمُتَعَلِّمُ بِالتَّقْوَى كَانَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ مُعَلِّمَهُ ، وَهَادِيَهُ ، وَمَنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُعَلِّمَهُ ،
وَهَادِيَهُ ، فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حَالِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ
الْعَزِيزِ { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ
مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ، وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ فَقَدْ يَحْصُلُ لِلْمُتَعَلِّمِ
نَفَائِسُ مِنْ الْمَسَائِلِ لَا تُؤْخَذُ بِالدَّرْسِ ، وَلَا بِالشُّيُوخِ
لِأَجْلِ مَا حَصَلَ مِنْ قَوْلِهِ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ، وَآكَدُ مَا
عَلَيْهِ فِي التَّقْوَى اجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ } ، وَقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَلَا تَقْرَبُوا } فَإِذَا
اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ
كَثِيرٌ مِنْ الْعَمَلِ
وَمِنْ آكَدِ الْأُمُورِ عَلَيْهِ تَخْلِيصُ ذِمَّتِهِ
مِنْ إخْوَانِهِ ، وَجُلَسَائِهِ ، وَمَعَارِفِهِ ، وَغَيْرِهِمْ إذْ تَخْلِيصُ
الذِّمَّةِ هُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ فَلْيُحْذَرْ مِنْ
هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْخَطِرَيْنِ اللَّذَيْنِ قَدْ عَمَّتْ بِهِمَا
الْبَلْوَى لِكَثْرَةِ وُقُوعِهِمَا عَلَى الْأَلْسُنِ ، وَهُمَا الْغِيبَةُ ،
وَالنَّمِيمَةُ فَالنَّمِيمَةُ : أَنْ تَنْقُلَ حَدِيثَ قَوْمٍ إلَى آخَرِينَ ، وَالْغِيبَةُ
: أَنْ تَقُولَ فِي غَيْبَةِ الشَّخْصِ مَا يَكْرَهُهُ ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا ،
وَأَمَّا إنْ كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ بَاطِلًا فَهُوَ الْبُهْتَانُ بِعَيْنِهِ
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَجَّةِ
الْوَدَاعِ { أَيُّ بَلَدٍ هَذَا إلَى أَنْ قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ ،
وَأَمْوَالَكُمْ ، وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ
هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ ، وَيَسْأَلُكُمْ
عَنْ أَعْمَالِكُمْ إلَى أَنْ قَالَ : أَلَا هَلْ بَلَّغْت أَلَا هَلْ بَلَّغْت مَرَّتَيْنِ
، أَوْ ثَلَاثًا } فَأَكَّدَ الْأَمْرَ فِي الثَّلَاثِ كَمَا تَرَى ، وَالنَّاسُ
فِي ذَلِكَ مُنْقَسِمُونَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ لَا خَامِسَ لَهَا : الْقِسْمُ
الْأَوَّلُ : السَّالِمُ مِنْ الْجَمِيعِ { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } { ، وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ
رَبِّهِمْ ، وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .
الْقِسْمُ الثَّانِي : عَكْسُ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ مَنْ
كَانَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ ، وَالْجِدَّةُ ، وَوَاقَعَ الْجَمِيعَ أُولَئِكَ حِزْبُ
الشَّيْطَانِ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ عَجَزَ عَنْ سَفْكِ
الدِّمَاءِ ، وَكَانَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى أَخْذِ الْأَمْوَالِ ،
وَالْوَقِيعَةِ فِي الْأَعْرَاضِ ، وَوَاقَعَهُمَا مَعًا ، فَقَدْ لَحِقَهُ
الْإِثْمُ فِي فِعْلِهِ ، وَالْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ بِنِيَّتِهِ إذْ لَوْلَا
عَجْزُهُ عَنْهُ لَفَعَلَهُ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَنْ عَجَزَ عَنْ الدِّمَاءِ ،
وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ ، وَوَقَعَ فِي الْأَعْرَاضِ لِقُدْرَتِهِ
عَلَيْهَا فَيَكُونُ آثِمًا فِي الثَّالِثِ لِفِعْلِهِ
لَهُ مُلْحَقًا بِأَصْحَابِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ بِنِيَّتِهِ لِقَوْلِهِ :
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا
فَالْقَاتِلُ ، وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ
هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ : إنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى
قَتْلِ صَاحِبِهِ } انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَكُونُ عِنْوَانُ
الصِّدْقِ فِيمَنْ ادَّعَى الْوَرَعَ عَنْ الدِّمَاءِ ، وَالْأَمْوَالِ
اسْتِعْفَافَهُ عَنْ الْأَعْرَاضِ ، فَإِنْ اسْتَعَفَّ عَنْهَا كَانَ دَلِيلًا
عَلَى صِدْقِهِ فِي تَرْكِ الْفِعْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ ، وَإِنْ تَعَاطَى
الثَّالِثَ ، أَوْ بَعْضَهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ فِي الْأَوَّلِ
، وَالثَّانِي فَيُخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُلْحَقَ بِهِمَا أَسْأَلُ اللَّهَ
السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ غِيبَةَ كُلِّ إنْسَانٍ بِحَسْبِ
حَالِهِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ : رَحِمَهُ
اللَّهُ غِيبَةُ الصَّالِحِينَ فِي ثَلَاثٍ مِنْهَا أَنْ يُذْكَرَ شَخْصٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
فَيَقُولُونَ : اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ يَقَعُونَ بِسَبَبِ
غَيْرَتِهِمْ فِي الدِّينِ يَقُولُونَ : فُلَانٌ فَعَلَ كَذَا ، وَكَذَا عَلَى
سَبِيلِ الْغَيْرَةِ مِنْهُمْ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ
شَفَقَتُهُمْ ، وَرَحْمَتُهُمْ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ فَيَقُولُونَ : مِسْكِينٌ
فُلَانٌ ، وَاقَعَ كَذَا ، وَكَذَا مِمَّا يَكْرَهُ ذِكْرَهُ الْمَقُولُ فِيهِ
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا ، وَعُلِمَ فَيَحْتَاجُ الْعَالِمُ ، وَالْمُتَعَلِّمُ
أَنْ يَكُونَا مُتَيَقِّظَيْنِ لِهَذِهِ الْأُمُورِ ، وَمَا شَاكَلَهَا ، وَيَتَحَفَّظَانِ
مِنْهَا إذْ أَنَّ بِتَحَفُّظِهِمَا يَتَحَفَّظُ كُلُّ مَنْ رَآهُمَا أَوْ عَلِمَ
حَالَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قُدْوَةٌ لِلْمُهْتَدِينَ
فَصْلٌ فِي أَوْرَادِ طَالِبِ الْعِلْمِ وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ
وِرْدٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا إذْ أَنَّهَا سَبَبُ الْإِعَانَةِ عَلَى مَا
أَخَذَ بِسَبِيلِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { :
وَاسْتَعِينُوا بِالْغُدْوَةِ ، وَالرَّوْحَةِ ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ }
انْتَهَى .
) ، وَمَا
يُسْتَعَانُ بِهِ لَا يُتْرَكُ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِيَّاكَ
لِحِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَاسْتَعِينُوا
بِالْغُدْوَةِ ، وَالرَّوْحَةِ ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ } فَعَمَّ الطَّرَفَيْنِ ، وَجَعَلَ مِنْ
الثَّالِثِ جُزْءًا ، وَالْغُدْوَةُ هُوَ مَا كَانَ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى
الزَّوَالِ ، وَالرَّوْحَةُ مَا كَانَ مِنْ الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ ،
وَالْمُكَلَّفُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَشْتَغِلَ
فِي غُدْوَتِهِ ، أَوْ فِي رَوْحَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ ، أَوْ
بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ
فَهِيَ الِاسْتِعَانَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِقِصَّةِ { مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي
مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَنْ بَعَثَهُمَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْيَمَنِ يُعَلِّمَانِ
النَّاسَ الدِّينَ فَافْتَرَقَا لِذَلِكَ ، ثُمَّ اجْتَمَعَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا
لِلْآخَرِ : كَيْفَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَالَ : أَقْرَأُهُ قَائِمًا ، وَقَاعِدًا
، وَمُضْطَجِعًا ، وَأَفُوقُهُ تَفْوِيقًا ، وَلَا أَنَامُ ، وَقَالَ مُعَاذٌ :
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا أَنَا فَأَقُومُ ، وَأَنَامُ ، وَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي
كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي فَلَمْ ، يُسَلِّمْ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ حَتَّى
أَتَيَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ
فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ : رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ هُوَ أَفْقَهُ مِنْك يَعْنِي مُعَاذًا الَّذِي كَانَ يَحْتَسِبُ
نَوْمَهُ كَقِيَامِهِ } لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ
يَكُونَ مَاشِيًا عَلَى مِنْهَاجِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ
، وَلِأَيِّ
شَيْءٍ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ ، وَحُسْنِ نِيَّاتِهِمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلِقَوْلِ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا مِنْ حَسَنَةٍ إلَّا ، وَلَهَا أُخَيَّاتٌ ،
وَإِنْ كَانَ فِي سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا فَذَلِكَ عَوْنٌ لَهُ عَلَى
الطَّاعَةِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : لَأَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رِجْلِي أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ عَلَى فِرَاشِي ، وَقَدْ كَانَ بَنُو
إسْرَائِيلَ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِلْمَ انْقَطَعَ
لِلْعِبَادَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى يَصْفُوَ بِهَا قَلْبُهُ ، وَيَنْشَرِحَ
صَدْرُهُ ، فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِي تَعَلُّمِ الْعِلْمِ ، وَذَلِكَ لِطُولِ
أَعْمَارِهِمْ ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ
اللَّهُ : أَدْرَكْت النَّاسَ ، وَهُمْ يَتَعَلَّمُونَ الْعِلْمَ إلَى أَنْ يَصِلَ أَحَدُهُمْ
أَرْبَعِينَ سَنَةً فَيَنْقَطِعَ لِلْعِبَادَةِ ، وَيَطْوِيَ الْفِرَاشَ انْتَهَى .
وَمَعْنَى طَيِّ الْفِرَاشِ مِثْلُ مَا كَانَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ
رَمَضَانَ { ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْوِي
فِرَاشَهُ ، وَيَشُدُّ مِئْزَرَهُ ، وَيُوقِظُ أَهْلَهُ ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ
كُلَّهُ } ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ فِي أَوَّلِ طَلَبِهِ
الْعِلْمَ أَنْ يَمْزُجَهُ بِالتَّعَبُّدِ ، إذْ أَنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ عُمُرٌ
طَوِيلٌ فِي الْغَالِبِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى يَتْرُكَ لَهُ بُرْهَةً
مِنْهُ فَيُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ ، وَهُوَ فِي السَّبَبِ قَبْلَ وُصُولِهِ لِلْمَقْصُودِ
، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
تَعَلَّمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَتَعَلَّمُوا فَلَنْ يَأْجُرَكُمْ اللَّهُ
عَلَيْهِ حَتَّى تَعْمَلُوا ؛ وَلِأَنَّ الْعِلْمَ كَالشَّجَرَةِ ، وَالتَّعَبُّدَ
كَالثَّمَرَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ الشَّجَرَةُ لَا ثَمَرَ لَهَا فَلَيْسَ لَهَا
فَائِدَةٌ كُلِّيَّةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ نَاعِمَةً ، وَقَدْ
يُنْتَفَعُ بِهَا لِلظِّلِّ وَغَيْرِهِ ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ
قَدْ عُدِمَ
مِنْهَا ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا : رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ تَكَلَّمُوا بِالْحَقِّ تُعْرَفُوا بِهِ ، وَاعْمَلُوا بِهِ تَكُونُوا
مِنْ أَهْلِهِ انْتَهَى .
وَلْيُحْذَرْ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ الْعَمَلِ مَا
عَلَيْهِ فِيهِ مَشَقَّةٌ ، أَوْ يُخِلَّ بِاشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ ، إذْ أَنَّ
اشْتِغَالَهُ بِالْعِلْمِ أَفْضَلُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا بَابٌ كَثِيرًا مَا
يَدْخُلُ مِنْهُ الشَّيْطَانُ عَلَى الْمُشْتَغِلِينَ بِالْعِلْمِ إذَا عَجَزَ
عَنْ تَرْكِهِمْ لَهُ فَيَأْمُرُهُمْ بِكَثْرَةِ الْأَوْرَادِ حَتَّى يَنْقُصَ اشْتِغَالُهُمْ
؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ هُوَ الْعُدَّةُ الَّتِي يَتَلَقَّى بِهَا ، وَيُحَذِّرُ
مِنْهُ بِهَا فَإِذَا عَجَزَ عَنْ التَّرْكِ رَجَعَ إلَى بَابِ النَّقْصِ ، وَهُوَ
بَابٌ قَدْ يَغْمُضُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ بَابُ
خَيْرٍ ، وَعَادَةُ الشَّيْطَانِ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ
عَلَى الطَّالِبِ فَيُخِلُّ بِحَالِهِ ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ
عَمَلُهُ فِي عِلْمِهِ مِثْلَ الْمِلْحِ فِي الْعَجِينِ إنْ عُدِمَ مِنْهُ لَمْ يَنْتَفِعْ
بِهِ ، وَالْقَلِيلُ مِنْهُ يُصْلِحُهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشُدَّ يَدَهُ عَلَى مُدَاوَمَتِهِ عَلَى فِعْلِ السُّنَنِ
، وَالرَّوَاتِبِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا تَبَعًا لِلْفَرْضِ قَبْلَهُ ، أَوْ
بَعْدَهُ ، فَإِظْهَارُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ
كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ مَا عَدَا مَوْضِعَيْنِ ،
فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ لَا يَفْعَلُهُمَا إلَّا فِي
بَيْتِهِ ، وَهُمَا الرُّكُوعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ، وَالرُّكُوعُ بَعْدَ صَلَاةِ
الْمَغْرِبِ .
أَمَّا الْجُمُعَةُ فَقَدْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَمَّا أَنْ قَامَ بَعْضُ
النَّاسِ يَرْكَعُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ ، فَأَقْعَدَهُ عُمَرُ ، وَقَالَ لَهُ :
اجْلِسْ تُشْبِهُ الْجُمُعَةُ بِمَنْ فَاتَتْهُ رَكْعَتَانِ مِنْ الظُّهْرِ ،
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَلَمْ يَعِبْ
عَلَيْهِ } ، وَلِأَنَّهَا لَوْ صُلِّيَتْ فِي الْمَسْجِدِ لَكَانَ ذَلِكَ
ذَرِيعَةٌ لِأَهْلِ الْبِدَعِ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ صِحَّةَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ
إلَّا
خَلْفَ إمَامٍ مَعْصُومٍ ، وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَمِنْ
بَابِ اللُّطْفِ ، وَالرَّحْمَةِ ، وَالشَّفَقَةِ عَلَى الْأُمَّةِ ؛ لِأَنَّ
الْغَالِبَ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا صِيَامًا ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ فِي
الْبَيْتِ مِنْ النِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ يَنْتَظِرُونَ صَاحِبَ الْبَيْتِ
حَتَّى يَأْتِيَ فَيَأْكُلُونَ مَعَهُ ، فَلَوْ رَكَعَ فِي الْمَسْجِدِ لَتَشَوَّفُوا
إلَى مَجِيئِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَانَ
إذَا سَمِعَ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بُكَاءَ الصَّبِيِّ يُخَفِّفُ مَخَافَةَ أَنْ
تُفْتَتَنَ أُمُّهُ } سِيَّمَا فِي حَقِّ الْعَالِمِ ، وَالْمُتَعَلِّمِ ؛
لِأَنَّهُمَا قُدْوَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ
.
وَهَذَا كُلُّهُ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْفَرَائِضِ ، وَكَذَلِكَ
قَضَاءُ الْفَوَائِتِ إنْ كَانَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ السُّنَنَ ،
وَعَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
، وَكَذَلِكَ
لَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الضُّحَى لِقَوْلِ عَائِشَةَ : رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا لَوْ نُشِرْ لِي أَبَوَايَ مَا تَرَكْتهَا ، وَمَعْنَاهُ لَوْ أُحْيِيَا
لِي ، وَقَامَا مِنْ قَبْرَيْهِمَا مَا اشْتَغَلْت بِهِمَا عَنْهَا
، وَكَذَلِكَ
يُحَافِظُ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ ، وَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْهُ ، وَهُوَ
خَمْسُ تَسْلِيمَاتٍ غَيْرَ الْوِتْرِ ، وَيَقْرَأُ فِيهَا بِمَا خَفَّ مِنْ
الْقُرْآنِ يَكُونُ لَهُ فِي تِلْكَ الرَّكَعَاتِ حِزْبٌ مَعْلُومٌ مِنْ
حِزْبَيْنِ إلَى ثَلَاثَةٍ ؛ لِأَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ ،
وَإِنْ قَلَّ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، فَإِنْ كَانَ الْحِزْبُ عَلَى هَذَا
الْمِقْدَارِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَفُوتَ لِقِلَّةِ الْمَشَقَّةِ
فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ فَهَذَا الْمِقْدَارُ مِنْ
التِّلَاوَةِ يَكْفِيهِ مَعَ اشْتِغَالِهِ بِالْعِلْمِ ، وَلَا يَنْسَى
الْخَتْمَةَ فِي الْغَالِبِ إذَا دَامَ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَاجِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ مَا مَعْنَاهُ : أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ النَّاسُ
يَقُومُونَ فِي بُيُوتِهِمْ طُولَ السَّنَةِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ الَّذِي
يَقُومُونَ بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ ، لَكِنْ لَمَّا أَنْ
كَانَ فِي النَّاسِ مَنْ لَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ كُلَّهُ جُعِلَ لَهُمْ شَهْرُ
رَمَضَانَ فِي السَّنَةِ يَجْمَعُونَ فِيهِ فِي الْمَسَاجِدِ لِيَسْمَعَ مَنْ لَمْ
يَجْمَعْ الْخَتْمَةَ كَلَامَ رَبِّهِ ، فَإِنْ قَامَ مِنْ اللَّيْلِ ، وَوَجَدَ
مَعَهُ الْكَسَلَ ، وَثِقَلَ النَّوْمِ ، فَإِذَا كَانَ الْحِزْبُ عَلَى مَا
وَصَفْنَاهُ سَهُلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ ، وَأَتَى بِهِ ، وَرَجَعَ إلَى النَّوْمِ
إنْ لَمْ يَطْلُعْ عَلَيْهِ الْفَجْرُ ، وَعَلَى هَذَا دَرَجَ مَنْ مَضَى أَلَا تَرَى
أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ فَاتَهُ وِرْدُهُ مِنْ اللَّيْلِ : إنَّ لَهُ أَنْ
يُصَلِّيَهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَقَدْ كَانُوا
يُغْلِسُونَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ ،
وَذَلِكَ أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى خِفَّةِ الْوَرْدِ ، وَهَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ إنَّمَا هُوَ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ الْجِدِّ ، وَالِاجْتِهَادِ ، وَأَمَّا
مَعَ النَّشَاطِ ، وَقُوَّةِ الْعَزْمِ فَيَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ مَا اسْتَطَاعَ ،
وَمَا وَجَدَ إلَيْهِ السَّبِيلَ فَإِنْ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْمُنَاجَاةِ فِي التِّلَاوَةِ
فَلْيَمْضِ فِيهَا ، وَلَا يَقْتَصِرْ عَلَى حِزْبِهِ
الْمُعْتَادِ ، وَلَوْ خَتَمَ الْخَتْمَةَ ،
وَابْتَدَأَهَا ثَانِيًا ، وَثَالِثًا ، وَهَكَذَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ
قَرَأَ مَثَلًا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِحِزْبٍ فَالْمَشْرُوعُ فِي
الثَّانِيَةِ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا بِمِثْلِ الْأُولَى ، أَوْ أَقَلَّ ، فَلَوْ
وَجَدَ الْحَلَاوَةَ فِي الثَّانِيَةِ فَلْيَمْضِ لِسَبِيلِهِ مَا دَامَ يَجِدُ
ذَلِكَ ، وَلَوْ طَالَ الْأَمْرُ ، فَإِنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ فَلْيَرْجِعْ
عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ إلَى الِاشْتِغَالِ بِفَرْضِ الْوَقْتِ لَكِنْ يُكْمِلُ خَمْسَ
تَسْلِيمَاتٍ مُخَفَّفَةٍ كَمَا لَوْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ فَإِنَّهُ يُوقِعُهُ مَا
بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَصَلَاةِ الصُّبْحِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَانَ
سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ إذَا وَجَدَ
الْحَلَاوَةَ فِي شَيْءٍ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ .
مِثْلَ أَنْ يَجِدَ الْحَلَاوَةَ فِي الدُّعَاءِ فِي
غَيْرِ الصَّلَاةِ فَلَا يَقْطَعُهُ ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ
الْأَوْرَادِ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ الْحَلَاوَةَ فِي الرُّكُوعِ فَلَا يَرْفَعُ
، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهَا فِي السُّجُودِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَى
فَوَاتِ الْفَرَائِضِ فِي الْجَمَاعَةِ فَلْيَقْطَعْ ذَلِكَ لِأَجْلِهَا .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
يُغْلِسُونَ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَيْرُ جَمَاعَةٍ
وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ بِطَلَبِ الْعِلْمِ ، وَقِيَامِ
اللَّيْلِ ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُقَرِّبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا ذَلِكَ
كُلُّهُ لَعَلَّ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ
الْحَلَاوَةِ فِي الْمُنَاجَاةِ فِي وِرْدِهِ ، أَوْ الدُّعَاءِ ، أَوْ
غَيْرِهِمَا ، إلَّا أَنْ يَعْرِضَ الْفَرْضُ فَيَفْعَلَ كَمَا سَبَقَ ، وَقَدْ
وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ مَرَّ فِي وِرْدِهِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ
لَهُمْ فَإِنَّك أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فَبَقِيَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ يُكَرِّرُهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ } ،
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْبِسْطَامِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ ، وَنَفَعَنَا بِهِ أَنَّهُ خَرَجَ لَيْلَةً
مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ صَلَّى الْعِشَاءَ فَخَرَجَ خَلْفَهُ بَعْضُ إخْوَانِهِ
، وَهُوَ لَمْ يَشْعُرْ بِهِ ، فَإِذَا هُوَ قَدْ رَفَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى
فَوَضَعَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ الْيُسْرَى ، وَقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ بِيَدِهِ ، وَرَفَعَ
رَأْسَهُ شَاخِصًا إلَى السَّمَاءِ ، فَوَقَفَ الرَّجُلُ خَلْفَهُ يَنْتَظِرُهُ
إلَى أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ الْفَجْرُ رَجَعَ أَبُو يَزِيدَ
إلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ خَلْفَهُ ، فَانْظُرْ
رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا
أَبُو يَزِيدَ ، وَإِلَى تَرْكِهِ مَا كَانَ فِيهِ ، وَإِتْيَانِهِ إلَى الْفَرْضِ
فِي جَمَاعَةٍ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ كَانَ الْقُرْآنُ يَنْفَلِتُ
مِنْهُ لِقِلَّةِ حِفْظِهِ : فَلْيَقُمْ بِهِ فِي اللَّيْلِ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ
ذَلِكَ يُثَبِّتُهُ لَهُ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِبَرَكَةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ
فِي قِيَامِ اللَّيْلِ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي الثُّلُثِ الْآخِرِ مِنْهُ لِمَا
وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْبَرَكَاتِ ، وَالْخَيْرَاتِ .
أَلَا تَرَى إلَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي
الثُّلُثِ الْآخِرِ مِنْ اللَّيْلِ فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ
لَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ } إلَخْ ، وَمَعْنَى النُّزُولِ هَاهُنَا
نُزُولُ طَوْلٍ وَمَنٍّ ، وَتَفَضُّلٍ ، وَكَرَمٍ عَلَى عِبَادِهِ ، لَا نُزُولُ
انْتِقَالٍ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، وَفِي قِيَامِ
اللَّيْلِ مِنْ الْفَوَائِدِ جُمْلَةٌ ، فَلَا يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ
يَفُوتَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَمِنْهَا
: أَنْ يَحُطَّ الذُّنُوبَ كَمَا يَحُطُّ الرِّيحُ
الْعَاصِفُ الْوَرَقَ الْيَابِسَ مِنْ الشَّجَرَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يُنَوِّرُ الْقَلْبَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُحَسِّنُ الْوَجْهَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ يُذْهِبُ الْكَسَلَ ، وَيُنَشِّطُ
الْبَدَنَ .
الْخَامِسُ :
أَنَّ مَوْضِعَهُ تَرَاهُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ
السَّمَاءِ كَمَا يَتَرَاءَى الْكَوْكَبُ الدُّرِّيُّ لَنَا فِي السَّمَاءِ .
وَقَدْ رَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِلَالٍ ، وَأَبِي أُمَامَةَ قَالَا
: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { عَلَيْكُمْ
بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ ، وَقُرْبَةٌ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ ، وَمَطْرَدَةٌ
لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ
الْغَافِلِينَ ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ ، وَمَنْ
قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ } ، وَلَعَلَّك تَقُولُ : إنَّ
طَالِبَ الْعِلْمِ إنْ فَعَلَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ تَعَطَّلَتْ عَلَيْهِ وَظَائِفُهُ
مِنْ الدَّرْسِ ، وَالْمُطَالَعَةِ ، وَالْبَحْثِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ نَفْحَةً
مِنْ هَذِهِ النَّفَحَاتِ تَعُودُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ بِالْبَرَكَاتِ ،
وَالْأَنْوَارِ ، وَالتُّحَفِ مَا قَدْ يَعْجِزُ الْوَاصِفُ عَنْ وَصْفِهِ ،
وَبِبَرَكَةِ ذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ أَضْعَافُ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ ، مَعَ أَنَّ
هَذَا أَمْرٌ عَزِيزٌ قَلَّ أَنْ يَقَعَ إلَّا لِلْمُعْتَنِي بِهِ ، وَالْعِلْمُ
وَالْعَمَلُ إنَّمَا هُمَا وَسِيلَتَانِ لِمِثْلِ هَذِهِ النَّفَحَاتِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ
لِلَّهِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ } انْتَهَى .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيمَا حَكَاهُ الْبَاجِيُّ ،
وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ عَادَةَ السَّلَفِ مَضَتْ عَلَى فِعْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ
طُولَ السَّنَةِ فِي الْبُيُوتِ يُؤْخَذُ مِنْهُ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ عَلَى
أَنَّ ذَلِكَ لَا يُفْعَلُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ
الْمَشْهُورَةِ إلَّا فِي قِيَامِ رَمَضَانَ وَحْدَهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
كَذَلِكَ فَفِعْلُ الْقِيَامِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي غَيْرِ الْبُيُوتِ
بِدْعَةٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ الْبِدْعَةَ لَا تَأْتِي إلَّا بِشَرٍّ
، وَالْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ ، وَقَدْ نَصَّ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ إنْ فُعِلَ فِي
غَيْرِ الْبُيُوتِ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنَّ قِيَامَ
السُّنَّةِ فِي الْبُيُوتِ فِيمَا عَدَا رَمَضَانَ مُخَالِفٌ لِقِيَامِ شَهْرِ
رَمَضَانَ فِي كَوْنِهِ يُفْعَلُ بَعْدَ النَّوْمِ فِي الْغَالِبِ ، وَقَدْ
يُفْعَلُ قَبْلَهُ ، وَيَكْفِي
.
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُهُ قَبْلَ النَّوْمِ ،
وَبَعْدَهُ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ فِعْلَهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَكْثَرُ ، وَلَا
يَجْمَعُونَ لَهُ ، وَلَا يُشْهِرُونَهُ بِخِلَافِ قِيَامِ رَمَضَانَ فِي
الْمَسَاجِدِ فَإِنَّهُ لَا يُفْعَلُ إلَّا قَبْلَ النَّوْمِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاَلَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا
أَفْضَلُ يَعْنِي مَنْ نَامَ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، وَقَامَ آخِرَهُ فَهُوَ أَفْضَلُ
مِمَّنْ قَامَ أَوَّلَهُ فَقَطْ ، وَأَمَّا قِيَامُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ فَذَلِكَ أَفْضَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا
فَرَغُوا مِنْ قِيَامِهِمْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يَسْتَعْجِلُونَ الْخَدَمَ
بِالطَّعَامِ مَخَافَةَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ قَامَ
اللَّيْلَ كُلَّهُ أَفْضَلُ مِمَّنْ قَامَ بَعْضَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَازَ فَضْلَ اللَّيْلِ
كُلِّهِ فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ يَنْقَسِمُ عَلَى
أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ يَقُومَ اللَّيْلَ كُلَّهُ ، وَلَا شَكَّ فِي
فَضِيلَتِهِ ، أَوْ يَقُومَ أَوَّلَهُ ، وَآخِرَهُ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ
الْأَوَّلِ ، أَوْ يَقُومَ آخِرَهُ دُونَ أَوَّلِهِ ، وَهُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ
بِالْأَفْضَلِيَّةِ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاَلَّتِي
يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ ، وَإِمَّا أَنْ يَقُومَ أَوَّلَهُ دُونَ آخِرِهِ ،
وَهُوَ الْمَفْضُولُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى وِرْدِ الصَّوْمِ
، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَلَّلَ بِأَنَّهُ مَشْغُولٌ عَنْهُ بِطَلَبِ
الْعِلْمِ ، إذْ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ لَيْسَ فِيهَا كَبِيرُ
مَشَقَّةٍ فِي الْغَالِبِ سِيَّمَا عَلَى مَا كَانَ يَصُومُهَا مَالِكٌ رَحِمَهُ
اللَّهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ يُفْطِرُ تِسْعَةَ أَيَّامٍ ، وَيَصُومُ عَاشِرَهَا ،
وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ فَإِنْ وَجَدَ النَّشَاطَ ،
وَالْقُوَّةَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَادَرَ إلَيْهِ مَعَ عَدَمِ وُقُوعِ الْخَلَلِ
فِيمَا هُوَ بِسَبِيلِهِ ، فَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ صَوْمِ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الشَّهْرِ مَعَ طَلَبِ الْعِلْمِ فَيَنْبَغِي لِهَذَا أَنْ يَتْرُكَ
طَلَبَ الْعِلْمِ فِي تِلْكَ الثَّلَاثَةِ ، وَيَصُومَهَا ، لِئَلَّا تَفُوتَهُ
هَذِهِ الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
الْحَسَنَةُ بِعَشْرٍ } فَيَكُونُ ذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ
يَكُونُ حَالُهُ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ لَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْهَا
كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ اشْتِغَالَهُ بِالدَّرْسِ
، وَالْمُطَالَعَةِ ، وَالتَّفَهُّمِ ، وَالْبَحْثِ مَعَ الْإِخْوَانِ الَّذِينَ
يُرْتَجَى النَّفْعُ بِهِمْ ، وَلِقَاءِ مَشَايِخِ الْعِلْمِ الَّذِينَ جَعَلَهُمْ
اللَّهُ سَبَبًا لِلْفَتْحِ ، وَالْخَيْرِ ، وَيُوَاظِبُ عَلَى ذَلِكَ
فَصْلٌ فِي زِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ زِيَارَةِ الْأَوْلِيَاءِ ،
وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ بِرُؤْيَتِهِمْ يُحْيِي اللَّهُ الْقُلُوبَ
الْمَيِّتَةَ كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ ، فَتَنْشَرِحُ بِهِمْ
الصُّدُورُ الصُّلْبَةُ ، وَتَهُونُ بِرُؤْيَتِهِمْ الْأُمُورُ الصَّعْبَةُ إذْ
هُمْ وُقُوفٌ عَلَى بَابِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ فَلَا يُرَدُّ قَاصِدُهُمْ ،
وَلَا يَخِيبُ مُجَالِسُهُمْ ، وَلَا مَعَارِفُهُمْ ، وَلَا مُحِبُّهُمْ إذْ هُمْ
بَابُ اللَّهِ الْمَفْتُوحُ لِعِبَادِهِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ
إلَى رُؤْيَتِهِمْ ، وَاغْتِنَامِ بَرَكَتِهِمْ ؛ وَلِأَنَّهُ بِرُؤْيَةِ بَعْضِ
هَؤُلَاءِ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْفَهْمِ ، وَالْحِفْظِ ، وَغَيْرِهِمَا مَا قَدْ
يَعْجِزُ الْوَاصِفُ عَنْ وَصْفِهِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَرَى كَثِيرًا
مِمَّنْ اتَّصَفَ بِمَا ذُكِرَ لَهُ الْبَرَكَةُ الْعَظِيمَةُ فِي عِلْمِهِ ،
وَفِي حَالِهِ ، فَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ لَكِنْ
بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مُحَافِظًا عَلَى اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ
فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَزُورَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ
الْبِدَعِ ، وَمِمَّنْ لَا خَطَرَ لَهُ فِي الدِّينِ إلَّا بِالتَّمْوِيهِ ،
وَبَعْضِ الْإِشَارَاتِ ، وَالْعِبَارَاتِ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ قَلَّ فِي هَذَا
الزَّمَانِ مَنْ يَضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ مِنْ الْمُدَّعِينَ بَلْ قَدْ تَجِدُ
بَعْضَ مَنْ يَنْتَسِبُ إلَى الْعِلْمِ يَقْعُدُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ مَنْ
يَدَّعِي الْفَقْرَ وَالْوِلَايَةَ ، وَهُوَ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ ، وَقَدْ تَذْهَبُ
عَلَيْهِ أَوْقَاتُ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ ، وَيَعْتَذِرُونَ عَنْهُ
بِأَنَّهُ يُحَزِّبُ عَلَى نَفْسِهِ
.
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الصُّلَحَاءِ رَحَلَ
إلَى زِيَارَةِ شَخْصٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ نَحْوَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، أَوْ
أَرْبَعَةٍ حَتَّى اجْتَمَعَ بِهِ ، وَهُوَ عُرْيَانٌ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
يَسْتُرُهُ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ بَعْضُ قُضَاةِ الْبَلَدِ ، وَرُؤَسَائِهَا ،
وَهَذَا أَمْرٌ شَنِيعٌ فِي الدِّينِ ، وَقِلَّةُ حَيَاءٍ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ
، وَارْتِكَابِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ، وَتَرْكِ الْفَرَائِضِ إذْ أَنَّ كَشْفَ
الْعَوْرَةِ مُحَرَّمٌ ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَيْهَا ، وَإِخْرَاجُ الصَّلَاةِ
عَنْ وَقْتِهَا مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا فَيَرْتَكِبُونَ مُحَرَّمَاتٍ جَمَّةً ،
وَهَذَا إنَّمَا هُوَ تَمْثِيلٌ مَا ، وَإِلَّا فَالْمَفَاسِدُ الَّتِي
تَعْتَوِرَهُمْ فِي ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ ، أَوْ تَرْجِعَ إلَى
قَانُونٍ مَعْرُوفٍ فِي الْغَالِبِ
فَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ عِنْدَهُ أَعْظَمَ مَطْلُوبٍ ، وَيَغَارُ عَلَيْهَا إنْ
تَغَيَّرَتْ مَعَالِمُهَا بِأَنْ يُنْسَبَ إلَيْهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا فَإِذَا
تَعَارَضَ لِطَالِبِ الْعِلْمِ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَّةِ ، وَزِيَارَةُ
مَنْ يُخَالِفُ شَيْئًا مِنْ هَا ، فَالتَّرْكُ لِزِيَارَتِهِ مُتَعَيِّنٌ
عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَتَحْسِينُ الظَّنِّ بِهِ
مُخَالِفٌ مَعَ عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ بِهِ ، وَأَمَّا مَعَ الِاجْتِمَاعِ فَقَدْ
يَضِيقُ عَلَيْهِ التَّأْوِيلُ ، وَيَخَافُ عَلَيْهِ أَنْ يُخِلَّ بِجَانِبِ
السُّنَّةِ ، أَوْ بَعْضِهَا فَالْهَرَبَ الْهَرَبَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِشَخْصٍ يَحْتَاجُ
أَنْ يَعْتَذِرَ عَنْهُ ، أَوْ يَتَأَوَّلَ لَهُ ، وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ عَمَّتْ
بِهِ الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَكَثُرَتْ الطُّرُقُ ، وَاخْتَلَفَتْ
الْأَحْوَالُ ، وَتَشَعَّبَتْ السُّبُلُ .
وَلَوْ قُلْت لِأَحَدِهِمْ مَثَلًا : السُّنَّةُ كَذَا ،
وَكَذَا قَابَلَك بِمَا لَا يَلِيقُ فَيَقُولُ : كَانَ شَيْخِي يَفْعَلُ كَذَا
وَكَذَا ، وَمَا هَذَا طَرِيقُ شَيْخِي ، وَكَانَ شَيْخِي يَقُولُ : كَذَا ،
وَكَذَا ، وَيُصَادِمُ بِذَلِكَ كُلِّهِ السُّنَّةَ الْوَاضِحَةَ ، وَالطَّرِيقَةَ
النَّاجِحَةَ ، يَا لَيْتَهُمْ لَوْ وَقَفُوا عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ لَوْ كَانَ
سَائِغًا ، بَلْ زَادُوا عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمَخُوفِ ، وَهُوَ مَا
بَلَغَنِي مِمَّنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ
تَكَلَّمَ فِي مَسْأَلَةٍ ، وَنَقَلَ فِيهَا عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ نَقْلًا
تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَهُ : حَدِيثُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ هَذَا فَأَجَابَهُ بِأَنْ قَالَ :
حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا يُرَادُ
لِلتَّبَرُّكِ ، وَالشُّيُوخُ هُمْ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ ، وَهَذَا إنْ
كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَا قَالَهُ كَانَ كَافِرًا حَلَالَ الدَّمِ ، وَإِنْ لَمْ
يَعْتَقِدْهُ فَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِكَبِيرَةٍ عُظْمَى يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ
مِنْهَا مَعَ الْأَدَبِ الْمُوجِعِ
.
وَبَعْضُهُمْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا ،
وَهُوَ مَا
أَحْدَثُوهُ مِنْ اعْتِقَادِ بَعْضِ النِّسْوَةِ ،
وَزِيَارَتِهِنَّ ، وَهُنَّ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ
بِالسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ بَلْ عَدَمِ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِهِنَّ سِيَّمَا إذَا
انْضَافَ إلَيْهِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مِنْ يَتَسَمَّى بِالشَّيْخَةِ مِنْ
الذِّكْرِ جَمَاعَةً بِأَصْوَاتِ النِّسْوَةِ ، وَفِي أَصْوَاتِهِنَّ مِنْ
الْعَوْرَاتِ مَا لَا يَنْحَصِرُ بِسَبَبِ تَرْخِيمِ أَصْوَاتِهِنَّ ،
وَنَدَاوَتِهَا سِيَّمَا ، وَبَعْضُ الشَّيْخَاتِ عَلَى زَعْمِهِنَّ مِنْ
شِعَارِهِنَّ إلْبَاسُ الصُّوفِ لِمَنْ تَابَتْ عَلَى يَدِهَا ، وَدَخَلَتْ فِي طَرِيقَتِهَا .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ لِبَاسِ الصُّوفِ
لِلرِّجَالِ فَقَالَ : لَا خَيْرَ فِي الشُّهْرَةِ ، وَمِنْ غَلِيظِ الْقُطْنِ مَا
هُوَ فِي مِثْلِ ثَمَنِهِ ، وَأَبْعَدُ مِنْ الشُّهْرَةِ انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ
فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ ، بَلْ لِبَاسُ ذَلِكَ لَهُنَّ مُثْلَةٌ ،
وَشُهْرَةٌ ، وَفِيهِ تَشَبُّهٌ بِنِسَاءِ النَّصَارَى فِي كَنَائِسِهِنَّ أَعْنِي
فِي لِبَاسِهِنَّ الصُّوفَ ، وَالتَّخَلِّي عَنْ الْأَزْوَاجِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ
ضِدُّ مُرَادِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَسَلَامُهُ حَيْثُ
يَقُولُ : { جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ } انْتَهَى .
وَمِنْ حُسْنِ التَّبَعُّلِ لُبْسُ الْحَسَنِ مِنْ
الثِّيَابِ ، وَالتَّحَلِّي وَالتَّزَيُّنُ لِزَوْجِهَا ، فَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ
تَحَصَّلَ مِنْهُ أَنَّ فَاعِلَ هَذَا مُصَادِمٌ لِلسُّنَّةِ مُخَالِفٌ لَهَا
فَيَنْبَغِي زَجْرُهُ وَهَجْرُهُ ، فَكَيْفَ يُعْتَقَدُ ، وَأَنْتَ تَرَى كَثِيرًا
مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُ رِيَاسَةٌ ، وَمِمَّنْ لَيْسَتْ لَهُ رِيَاسَةٌ يَتَحَدَّثُونَ
بِفَضَائِلَ مَنْ هَذَا حَالُهَا ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ ،
وَيُطَرِّزُونَ بِذِكْرِهَا مَجَالِسَهُمْ ، وَيَزُورُونَهَا فِي بَيْتِهَا ،
وَيَسْتَعْمِلُونَ خُطَاهُمْ إلَى زِيَارَتِهَا ، أَوْ تَأْتِي هِيَ إلَيْهِمْ ،
وَيُعَظِّمُونَهَا ، وَيُكَرِّمُونَهَا ، وَمَنْ لَا يَلْبَسُ الصُّوفَ مِنْ
الشَّيْخَاتِ لَهُنَّ عَوْرَاتٌ أُخَرُ أَكْثَرُ ، وَأَشْنَعُ يَطُولُ
تَتَبُّعُهَا مِمَّا تُنَزَّهُ الْأَلْسُنُ
عَنْ ذِكْرِهَا ، وَالْأَقْلَامُ عَنْ كَتْبِهَا .
وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
اطَّلَعْت فِي النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قِيلَ : بِمَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ : يَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ ؟ قَالَ
يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ ، لَوْ أَحْسَنْت إلَى
إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأَتْ مِنْك شَيْئًا قَالَتْ : مَا رَأَيْت مِنْك
خَيْرًا قَطُّ } ، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَمُلَ مِنْ
الرِّجَالِ كَثِيرٌ ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا أَرْبَعٌ آسِيَةُ
بِنْتُ مُزَاحِمٍ ، وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ
، وَعَائِشَةُ } انْتَهَى .
وَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْأَنْوَارِ : رَحِمَهُ اللَّهُ
احْذَرُوا الِاغْتِرَارَ بِالنِّسَاءِ ، وَإِنْ كُنَّ نِسَاءً صَالِحَاتٍ
فَإِنَّهُنَّ يَرْكَنَّ إلَى كُلِّ بَلِيَّةٍ ، وَلَا يَسْتَوْحِشْنَ مِنْ كُلِّ
فِتْنَةٍ ، وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ،
وَنَفَعَنَا بِهِ : لَيْسَ لِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ
فِي هَذَا الزَّمَانِ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا شِعَارُهُ لُزُومُ بَيْتِهِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ : كُنْ
حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِك } انْتَهَى .
فَكَيْفَ تَخْرُجُ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ يُشْرَعْ
لَهَا الْخُرُوجُ إلَّا لِلضَّرُورَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ ، وَاعْتِقَادُ
الشَّيْخَاتِ يَسْتَدْعِي خُرُوجَ رَبَّاتِ الْخُدُورِ ، وَغَيْرِهِنَّ ، وَفِي خُرُوجِهِنَّ
مِنْ الْفِتْنَةِ مَا قَدْ عُلِمَ ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ
يُشْعِرُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ صَالِحَاتٌ ، وَلَا عَابِدَاتٌ ، وَإِنَّمَا
وَقَعَ الْكَلَامُ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِهِنَّ ، وَالنَّادِرُ لَا
حُكْمَ لَهُ ثُمَّ الْعَجَبُ الْعَجِيبُ فِي اعْتِقَادِ بَعْضِهِنَّ فِي هَؤُلَاءِ
الشَّيْخَاتِ مِنْ النِّسْوَةِ ، وَهُنَّ كَمَا قَدْ عُلِمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ
لَا يَمْضِينَ لِمَوْضِعٍ يَعْمَلْنَ فِيهِ إلَّا بَعْدَ إطْلَاقِهِنَّ عَنْ
ضَامِنَةِ الْمَغَانِي ، فَمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى مَفْسَدَةٍ عَظِيمَةٍ ،
ثُمَّ الْعَجَبُ أَيْضًا مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ مِمَّنْ
لَهُ الْحِشْمَةُ أَوْ الْمَشْيَخَةُ يَتَوَرَّعُونَ عَنْ سَمَاعِ الْمَغَانِي ،
وَيُعَوِّضُونَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخَةَ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا فَتَجِيءُ
بَعْدَ إطْلَاقِهَا مِنْ الضَّامِنَةِ ، وَمَعَهَا حَفَدَتُهَا ، وَيَرْفَعْنَ
عَقِيرَتَهُنَّ بِالْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي
الْقِرَاءَةِ وَالذِّكْرِ جَمَاعَةً لِلرِّجَالِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ
فِعْلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَأَنْكَرَ مَالِكٌ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الرِّجَالِ ،
وَأَنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ ، فَمَا بَالُك بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ
، وَفِي أَصْوَاتِهِنَّ مِنْ النَّدَاوَةِ ، وَالتَّرْخِيمِ ، وَالْفِتْنَةِ مَا قَدْ
عُلِمَ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَلَامِ
الْمُتَجَالَّةِ أَمَّا الَّتِي كَلَامُهَا أَحْلَى مِنْ الرُّطَبِ فَلَا انْتَهَى .
يَعْنِي أَنَّهُ مَمْنُوعٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً
فَكَيْفَ بِهِ فِي الشَّابَّةِ ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى مَا مِنْ سَاقِطَةٍ إلَّا وَلَهَا لَاقِطَةٌ ، وَسَبَبُ هَذِهِ
الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا قِرَاءَةُ الرِّجَالِ جَمَاعَةً ، وَذِكْرُهُمْ جَمَاعَةً
فَجَرَّ ذَلِكَ إلَى هَذَا الْمُحَرَّمِ الَّذِي يَفْعَلُهُ النِّسْوَةُ فِي
الْفَرَحِ ، وَالْمَوْلِدِ ، وَغَيْرِهِمَا ، وَزِدْنَ عَلَى ذَلِكَ قِيَامَهُنَّ
يَرْقُصْنَ ، وَيُعَيِّطْنَ ، وَتَأْخُذُهُنَّ الْأَحْوَالُ عَلَى زَعْمِهِنَّ ،
وَفِي رَقْصِهِنَّ مِنْ الْعَوْرَاتِ مَا لَا خَفَاءَ فِيهِ مِنْ وُقُوعِ
الْفِتَنِ ، وَفَسَادِ الْقُلُوبِ ، وَالتَّشْوِيشِ عَلَى مَنْ فِيهِ دِينٌ ، أَوْ
خَيْرٌ مَا فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى خَسْفِ الْقُلُوبِ
، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَاسْتِعْمَالِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ ، وَقِلَّةِ
الْحَيَاءِ مِنْ عَمَلِ الذُّنُوبِ ، وَقَلْبِ الْحَقَائِقِ ، وَانْقِلَابِ
الْمَقَاصِدِ ، وَتَرْكِ الِالْتِفَاتِ لِلْمَفَاسِدِ ، وَلَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا
، وَلَا عَدُّهَا فَاللَّبِيبُ مَنْ تَرَكَ هَذَا كُلَّهُ إذْ أَنَّ الْعِلْمَ
الَّذِي عِنْدَهُ يُحَرِّمُهُ ، وَيَأْمُرُهُ بِتَغْيِيرِهِ ،
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ
التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ
أَنْ لَا يَشْهَدَ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ ، وَلَا يَتْرُكَ أَحَدًا يَشْهَدُهَا ،
وَلَا يَرْضَى بِفِعْلِهَا ، وَلَا يَذْكُرَهَا سِيَّمَا بِحَضْرَتِهِ بَلْ
يَعِيبُ ذَلِكَ ، وَيُبَيِّنُ أَمْرَ الشَّرْعِ فِيهِ .
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ رَزِينٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ حُذَيْفَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : لَا يَكُنْ أَحَدُكُمْ إمَّعَةً يَقُولُ : أَنَا
مَعَ النَّاسِ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْت ، وَإِنْ أَسَاءُوا أَسَأْت ،
وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا ، وَإِنْ
أَسَاءُوا لَا تَظْلِمُوا انْتَهَى
.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يَزْهَدَ فِي زِيَارَةِ الْأَكَابِرِ ، وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَالصَّالِحِينَ
إذْ أَنَّهُمْ مَعْرُوفُونَ بِسِيمَاهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
{ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } ، وَقَالَ تَعَالَى { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ }
، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ
بِالْأَبْوَابِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّ قَسَمَهُ
} انْتَهَى .
فَإِنْ خَفِيَ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ أَمْرُ أَحَدٍ
مِمَّنْ يَرَاهُ فَلْيَنْظُرْ فِي تُصَرِّفْهُ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى السُّنَّةِ
فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَاقَعَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلْيَهْرُبْ مِنْهُ
، فَإِنَّهُ لِصٌّ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ أُثْنِيَ عِنْدَهُ عَلَى شَخْصٍ كَانَ فِي وَقْتِهِ فَخَرَجَ هُوَ ،
وَمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ إلَى زِيَارَتِهِ ، وَدَخَلَا الْمَسْجِدَ الَّذِي كَانَ يُصَلِّي
فِيهِ فَلَمْ يَجِدَاهُ فَجَلَسَا يَنْتَظِرَانِهِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ ، وَدَخَلَ
الْمَسْجِدَ تَنَخَّمَ ، وَبَصَقَ فِيهِ ، فَخَرَجَ هَذَا السَّيِّدُ ، وَلَمْ
يُسَلِّمْ عَلَيْهِ ، وَخَرَجَ مَعَهُ الشَّخْصُ الَّذِي كَانَ أَثْنَى عَلَيْهِ
فَقَالَ لَهُ : لِمَ خَرَجْت ، وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : إذَا كَانَ
إنْسَانٌ لَمْ يَأْتَمِنْهُ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ
فَكَيْفَ يَأْتَمِنُهُ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَسْرَارِهِ ، وَنَقَلْت مِنْ الْقُوتِ
هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى السُّنَّةِ ، وَتَرْفِيعُهَا
، وَتَعْظِيمُ قَدْرِهَا إذْ أَنَّهَا أَوَّلُ بَابٍ فِي الْخَيْرِ ، وَهِيَ آخِرُهُ
فَشُدَّ يَدَك عَلَيْهَا إنْ كُنْت مِنْ أَهْلِهَا ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ
أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ آمِينَ بِمُحَمَّدٍ ، وَآلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
فَصْلٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ وَيَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أَنْ يَكُونَ مُوَاظِبًا عَلَى
الِاشْتِغَالِ بِهِ فَإِنَّ التَّرْكَ مُضِرٌّ ، وَلَوْ قَلَّ ، وَقَدْ كَانَ
سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْقُلُ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي
الْحَسَنِ الزَّيَّاتِ مَا مَعْنَاهُ إذَا تَرَكَ الطَّالِبُ الِاشْتِغَالَ
يَوْمًا كَأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً : وَإِنْ تَرَكَهُ يَوْمَيْنِ كَأَنَّهُ تَرَكَ
سُنَّتَيْنِ ، وَإِنْ تَرَكَهُ ثَلَاثًا لَا يَجِيءُ مِنْهُ شَيْءٌ انْتَهَى .
وَمَا قَالَهُ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَاتِبَ
خَطُّهُ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ أَحْسَنُ مِنْهُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ ، وَمَا
ذَلِكَ إلَّا لِتَرْكِ الْكَتْبِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ الِاشْتِغَالَ إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ
تَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يَتْرُكَ الِاشْتِغَالَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ فَضْلٍ عَظِيمٍ فَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يُبَادِرَ إلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَيَعْمَلَهَا فِيهِ ، وَأَفْضَلُ
الْأَعْمَالِ طَلَبُ الْعِلْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، لَكِنْ إنْ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ
فِي أَوَّلِ النَّهَارِ قَدْ يُخْشَى أَنْ يَفُوتَهُ بِسَبَبِهِ شَيْءٌ مِنْ
وَظَائِفِ الْجُمُعَةِ مِثْلَ الْغُسْلِ ، وَقَصِّ الشَّارِبِ ، وَالْأَظَافِرِ ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ
اشْتِغَالُهُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَيَحْضُرَ مَجْلِسَ
الْعِلْمِ فِي الْجَامِعِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَأَعْنِي بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ الْمَجْلِسَ
الَّذِي يُذْكَرُ فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ لَا مَجْلِسَ الْقُصَّاصِ وَالْوُعَّاظِ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ
بِدْعَةٌ
، وَقَدْ سُئِلَ
مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْجُلُوسِ إلَى الْقُصَّاصِ فَقَالَ : مَا أَرَى أَنْ
يُجْلَسَ إلَيْهِمْ ، وَإِنَّ الْقَصَصَ لَبِدْعَةٌ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ
اللَّهُ كَرَاهَةُ الْقَصَصِ مَعْلُومٌ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
رُوِيَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى قَالَ : خَرَجَ مَعَنَا فَتًى مِنْ طَرَابُلُسَ
إلَى الْمَدِينَةِ فَكُنَّا لَا نَنْزِلُ مَنْزِلًا إلَّا وَعَظَنَا فِيهِ حَتَّى
بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ فَكُنَّا نَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَلَمَّا
أَتَيْنَا الْمَدِينَةَ إذَا هُوَ قَدْ أَرَادَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا كَانَ يَفْعَلُ
بِنَا ، فَرَأَيْته مِنْ سِمَاطِ أَصْحَابِ التَّيَقُّظِ ، وَهُوَ قَائِمٌ
يُحَدِّثُهُمْ ، وَقَدْ لَهَوْا عَنْهُ ، وَالصِّبْيَانُ يَحْصِبُونَهُ ،
وَيَقُولُونَ لَهُ : اُسْكُتْ يَا جَاهِلُ فَوَقَفْت مُتَعَجِّبًا مِمَّا رَأَيْت
فَدَخَلْنَا عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ
سَأَلْنَاهُ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ سَلَّمْنَا عَلَيْهِ مَا رَأَيْنَاهُ مِنْ
الْفَتَى فَقَالَ مَالِكٌ : أَصَابَ الرِّجَالُ إذْ لَهَوْا عَنْهُ ، وَأَصَابَ
الصِّبْيَانُ إذْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ بَاطِلَهُ ، وَقَالَ يَحْيَى : وَسَمِعْت
مَالِكًا يُكَرِّهُ الْقَصَصَ فَقِيلَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَإِذًا تَكْرَهُ
مِثْلَ هَذَا فَعَلَامَ كَانَ يَجْتَمِعُ مَنْ مَضَى ؟ فَقَالَ : عَلَى الْفِقْهِ
، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ ، وَيَنْهَاهُمْ انْتَهَى .
وَقَوْلُ مَالِكٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ أَصَابَ الرِّجَالُ
إذْ لَهَوْا عَنْهُ ، وَأَصَابَ الصِّبْيَانُ إذْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ بَاطِلَهُ
إنَّمَا صَوَّبَ فِعْلَ الرِّجَالِ لِكَوْنِ الصِّبْيَانِ قَدْ كَفَوْهُمْ
مُؤْنَةَ التَّغْيِيرِ ، فَلَوْ لَمْ يُغَيِّرْ الصِّبْيَانُ لَبَادَرُوا إلَى التَّغْيِيرِ
، وَمِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ لِلشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي زَيْدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَنْكَرَ مَالِكٌ الْقَصَصَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ قَالَ
تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْنِي
أَدْعُو اللَّهَ ، وَأَقُصُّ ، وَأُذَكِّرُ النَّاسَ فَقَالَ عُمَرُ : لَا
فَأَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ : أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ : أَنَا تَمِيمٌ
الدَّارِيُّ
فَاعْرِفُونِي .
وَقَالَ الْإِمَامُ الطُّرْطُوشِيُّ قَالَ مَالِكٌ :
وَنَهَيْت أَبَا قُدَامَةَ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَيَقُولَ افْعَلُوا
كَذَا ، وَكَذَا ، وَقَالَ أَبُو إدْرِيسَ : لَأَنْ أَرَى فِي نَاحِيَةِ
الْمَسْجِدِ نَارًا تُؤَجَّجُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَرَى فِي نَاحِيَتِهِ
قَاصًّا يَقُصُّ ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : لَمْ
يُقَصَّ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا فِي
زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ ، وَلَا فِي زَمَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى
ظَهَرَتْ الْفِتْنَةُ ، وَظَهَرَ الْقُصَّاصُ ، وَلَمَّا دَخَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَسْجِدَ الْبَصْرَةِ أَخْرَجَ الْقُصَّاصَ مِنْهُ ، وَقَالَ : لَا
يُقَصُّ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي عُلُومِ
الْأَعْمَالِ فَاسْتَمَعَ إلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفَ ، وَلَمْ يُخْرِجْهُ .
وَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ إلَى مَجْلِسِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ
فَوَجَدَ قَاصًّا يَقُصُّ فَوَجَّهَ إلَى صَاحِبِ الشُّرْطَةِ أَنْ أَخْرِجْهُ
مِنْ الْمَسْجِدِ فَأَخْرَجَهُ
.
وَقِيلَ لِابْنِ سِيرِينَ : لَوْ قَصَصْت عَلَى
إخْوَانِك فَقَالَ : قَدْ قِيلَ
: لَا يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ إلَّا أَمِيرٌ ، أَوْ
مَأْمُورٌ ، أَوْ أَحْمَقُ ، وَلَسْت بِأَمِيرٍ ، وَلَا مَأْمُورٍ ، وَأَكْرَهُ
أَنْ أَكُونَ الثَّالِثَ انْتَهَى
.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَوْفِ
بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : لَا يَقُصُّ إلَّا أَمِيرٌ ، أَوْ
مَأْمُورٌ ، أَوْ مُخْتَالٌ } انْتَهَى
.
وَقَالَ الطُّرْطُوشِيُّ أَيْضًا : قَالَ أَبُو مَعْمَرٍ
: رَأَيْت سَيَّارًا أَبَا الْحَكَمِ يَسْتَاكُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ،
وَقَاصًّا يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ فَقُلْت لَهُ : يَا أَبَا الْحَكَمِ النَّاسُ
يَنْظُرُونَ إلَيْك فَقَالَ : الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّا هُمْ فِيهِ أَنَا
فِي سُنَّةٍ ، وَهُمْ فِي بِدْعَةٍ ، وَلَمَّا أَنْ دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ
الْأَعْمَشُ الْبَصْرَةَ نَظَرَ إلَى قَاصٍّ يَقُصُّ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ : حَدَّثَنَا
الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ
: فَتَوَسَّطَ الْأَعْمَشُ الْحَلْقَةَ ، وَجَعَلَ
يَنْتِفُ شَعْرَ إبْطَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْقَاصُّ : يَا شَيْخُ أَلَا تَسْتَحِي
نَحْنُ فِي عِلْمٍ ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لَهُ الْأَعْمَشُ :
الَّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ مِنْ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ قَالَ : كَيْفَ فَقَالَ :
لِأَنِّي فِي سُنَّةٍ ، وَأَنْتَ فِي كَذِبٍ ، أَنَا الْأَعْمَشُ ، وَمَا
حَدَّثْتُك مِمَّا تَقُولُ شَيْئًا ، فَلَمَّا سَمِعَ النَّاسُ ذِكْرَ الْأَعْمَشُ
انْفَضُّوا عَنْ الْقَاصِّ ، وَاجْتَمَعُوا حَوْلَهُ ، وَقَالُوا : حَدِّثْنَا يَا
أَبَا مُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَكْذَبُ النَّاسِ
الْقُصَّاصُ ، وَالسُّؤَالُ ، وَمَا أَحْوَجَ النَّاسَ إلَى قَاصٍّ صَدُوقٍ ؛
لِأَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ الْمَوْتَ ، وَعَذَابَ الْقَبْرِ قِيلَ لَهُ : أَكُنْت
تَحْضُرُ مَجَالِسَهُمْ قَالَ لَا ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : وَحُضُورُ الرَّجُلِ مَجَالِسَ الذِّكْرِ أَفْضَلُ
مِنْ صَلَاتِهِ ، وَصَلَاتُهُ أَفْضَلُ مِنْ حُضُورِهِ مَجَالِسَ الْقُصَّاصِ ،
وَرُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { حُضُورُ مَجْلِسِ
عِلْمٍ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ } ،
وَفِي الْخَبَرِ { لَأَنْ يَتَعَلَّمَ أَحَدُكُمْ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ ، أَوْ
يُعَلِّمَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ صَلَاةِ أَلْفِ رَكْعَةٍ } ، وَفِي خَبَرٍ { قِيلَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَقَالَ : وَهَلْ تَنْفَعُ
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ إلَّا بِعِلْمٍ
} فَالصَّلَاةُ إذَا عُدِمَ مَجْلِسُ الْعِلْمِ
بِاَللَّهِ ، وَالتَّفَقُّهُ فِي دِينِ اللَّهِ أَزْكَى مِنْ حُضُورِ مَجْلِسِ
الْقَصَصِ ، وَمِنْ الِاسْتِمَاعِ إلَى الْقُصَّاصِ ، فَإِنَّ الْقَصَصَ كَانَ
عِنْدَهُمْ بِدْعَةٌ ، وَكَانُوا يُخْرِجُونَ الْقُصَّاصَ ، وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ
مِهْرَانَ قَالَ قُلْت لِيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ : أَخٌ لِي يَقْعُدُ إلَى الْقُصَّاصِ
قَالَ : انْهَهُ قُلْت : لَا يَقْبَلُ قَالَ : عِظْهُ قُلْت : لَا يَقْبَلُ قَالَ : اُهْجُرْهُ
قُلْت : نَعَمْ قَالَ : فَأَتَيْت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَذَكَرْت لَهُ نَحْوَ
ذَلِكَ فَقَالَ : قُلْ لَهُ يَقْرَأُ فِي الصُّحُفِ ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ فِي
نَفْسِهِ ، وَيَطْلُبُ
حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قُلْت : فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَالَ : بَلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ قُلْت :
فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ أَهْجُرُهُ قَالَ : فَتَبَسَّمَ ، وَسَكَتَ انْتَهَى .
، وَكَذَلِكَ
لَا يُحْضِرُ الْكُتُبَ الَّتِي تُقْرَأُ ، وَفِيهَا الْأَحَادِيثُ الْمُشْكِلَةُ
عَلَى السَّامِعِ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَيْسَ ثَمَّ مَنْ يُبَيِّنُ أَحْكَامَهَا ،
وَمَعْنَاهَا ، وَيَحِلُّ مُشْكِلَهَا ، وَلَوْ كَانَ ثَمَّ مَنْ يَحِلُّ
الْمُشْكِلَ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ صَوْتُهُ يَعُمُّ مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ
كَمَا يَعُمُّهُمْ صَوْتُ الْقَارِئِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَعُمَّهُمْ ،
فَالْغَالِبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُومُ ، وَعِنْدَهُ الرِّيبَةُ فِي اعْتِقَادِهِ
، وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْحَدِيثِ فِي
جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي اهْتِزَازِ الْعَرْشِ ، وَعَنْ حَدِيثِ { إنَّ
اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } ، وَعَنْ الْحَدِيثِ فِي السَّاقِ فَقَالَ
رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يُتَحَدَّثَنَّ بِهِ ، وَمَا يَدْعُو الْإِنْسَانَ أَنْ
يَتَحَدَّثَ بِهِ ، وَهُوَ يَرَى مَا فِيهِ مِنْ التَّغْرِيرِ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَتَّقِي
اللَّهَ ، وَيَخَافُهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِمِثْلِ هَذَا قِيلَ لَهُ : فَالْحَدِيثُ
أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَضْحَكُ فَلَمْ يَرَهُ مِنْ هَذَا ،
وَأَجَازَهُ انْتَهَى .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثُ سَعْدِ
بْنِ مُعَاذٍ فِي الْعَرْشِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ هُوَ مَا يُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّهُ قَالَ : { اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ
بْنِ مُعَاذٍ ، وَأَنَّهُ قَالَ
: اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ } ، وَمَا رُوِيَ {
مِنْ أَنَّ أُمَّهُ بَكَتْ ، وَصَاحَتْ لَمَّا أُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ فَقَالَ
لَهَا رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَرْقَأْ دَمْعُك ، وَيَذْهَبْ
حُزْنُكِ ، فَإِنَّ وَلَدَك أَوَّلُ مَنْ ضَحِكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ،
وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ } ، وَمَا يُرْوَى مِنْ { أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ هَذَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي مَاتَ فُتِحَتْ لَهُ
أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَتَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ قَالَ : فَخَرَجَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ قَدْ مَاتَ } .
وَالْحَدِيثُ فِي السِّيَاقِ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ
هُوَ مَا يُرْوَى { أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يَتَجَلَّى لِلْخَلْقِ فَيَقُولُ : مَنْ
تَعْبُدُونَ فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا فَيَقُولُ : وَهَلْ تَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ فَيَقُولُونَ
: إذَا تَعَرَّفَ إلَيْنَا سُبْحَانَهُ عَرَفْنَاهُ قَالَ : فَعِنْدَ ذَلِكَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
فَلَا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إلَّا خَرَّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَاجِدًا } ،
وَإِنَّمَا نَهَى مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُتَحَدَّثَ بِهَذَيْنِ
الْحَدِيثَيْنِ ، وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ { أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ
عَلَى صُورَتِهِ } ، وَنَحْوِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي
التَّشْبِيهَ ، وَسَبِيلُهَا إذَا صَحَّتْ الرِّوَايَاتُ بِهَا أَنْ تَتَأَوَّلَ
عَلَى مَا يَصِحُّ مِمَّا يَنْتَفِي بِهِ التَّشْبِيهُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ ، كَمَا يُصْنَعُ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا
يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ التَّشْبِيهَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ كَالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ
عَزَّ وَجَلَّ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ
مِنْ الْغَمَامِ ، وَالْمَلَائِكَةُ } ، وَالْمَجِيءِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ
{ وَجَاءَ رَبُّك ، وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا } انْتَهَى .
وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمْ
اللَّهُ } أَيْ عَذَابُهُ ، وَنِقْمَتُهُ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ ، وَأَلْحَدَ فِي
آيَاتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ ، وَجَاءَ رَبُّك .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
الظُّهُورَ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ
إلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِنَّمَا الْحِجَابُ مِنَّا ، فَإِذَا كَشَفَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْحِجَابَ عَنَّا ظَهَرَ لَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
مِنْ غَيْرِ حَدٍّ ، وَلَا تَكْيِيفٍ جَلَّ جَلَالُهُ عَنْ الصُّورَةِ ،
وَالْكَيْفِيَّةِ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالِاسْتِوَاءُ
فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } مَعْنَاهُ اسْتَوْلَى
قَالَهُ الْوَاحِدِيُّ ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ الْقَهْرُ ، وَالْغَلَبَةُ
تَقُولُ الْعَرَبُ : اسْتَوَى زَيْدٌ عَلَى أَرْضِ كَذَا
أَيْ مَلَكَهُمْ وَقَهَرَهُمْ ، قَالَ الشَّاعِرُ : قَدْ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى
الْعِرَاقِ مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ وَلَمَّا أَنْ كَانَ الْعَرْشُ أَعْظَمَ
الْمَخْلُوقَاتِ الْمَهُولَةِ اكْتَفَى بِذَكَرِهِ عَمَّا دُونَهُ ، إذْ أَنَّ مَا
دُونَهُ تَبَعٌ لَهُ ، وَفِي حُكْمِهِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا يَفْعَلُ
أَيْضًا بِمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي السُّنَنِ الْمُتَوَاتِرَةِ كَالضَّحِكِ ،
وَالنُّزُولِ ، وَشِبْهِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تُكْرَهْ رِوَايَتُهَا لِتَوَاتُرِ
الْآثَارِ بِهَا انْتَهَى .
أَمَّا الضَّحِكُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَمَّا يَصْدُرُ مِنْ
الْمُتَّصِفِ بِذَلِكَ مِنَّا مِنْ الرِّضَا ، وَالْإِحْسَانِ ، وَأَمَّا
النُّزُولُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ ؛
لِأَنَّ سَبِيلَهَا كُلِّهَا فِي اقْتِضَاءِ ظَاهِرِهَا التَّشْبِيهَ ، وَإِمْكَانِ
تَأْوِيلِهَا كُلِّهَا عَلَى مَا يَنْتَفِي بِهِ تَشْبِيهُ اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ
بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ ، وَأَقْرَبَهَا كُلِّهَا أَنَّ عَرْشَ الرَّحْمَنِ قَدْ
اهْتَزَّ لِمَوْتِ سَعْدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَرْشَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ ، فَلَا تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالِاهْتِزَازُ ،
وَإِضَافَتُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى التَّشْرِيفِ لَهُ
كَمَا يُقَالُ : بَيْتُ اللَّهِ ، وَحَرَمُهُ لَا أَنَّهُ مَحَلٌّ لَهُ ،
وَمَوْضِعٌ لِاسْتِقْرَارِهِ ، إذْ لَيْسَ فِي مَكَان فَقَدْ كَانَ قَبْلَ أَنْ
يُخْلَقَ الْمَكَانُ فَلَا يَلْحَقُهُ عَزَّ وَجَلَّ بِاهْتِزَازِ عَرْشِهِ مَا
يَلْحَقُ مَنْ اهْتَزَّ عَرْشُهُ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ
مِنْ تَحَرُّكِهِ بِحَرَكَتِهِ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ مَجَازًا
فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِتَحْرِيكِ الْعَرْشِ حَرَكَةَ حَمَلَتِهِ اسْتِبْشَارًا
وَفَرَحًا بِقُدُومِ رُوحِهِ ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ
يُقَالَ : اهْتَزَّ الْمَجْلِسُ بِقُدُومِ فُلَانٍ عَلَيْهِ أَيْ اهْتَزَّ
أَهْلُهُ لِقُدُومِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ، وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } يُرِيدُ
أَهْلَهَا ، وَمِثْلَ
قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
أُحُدٌ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا ، وَنُحِبُّهُ } أَيْ : يُحِبُّنَا أَهْلُهُ وَنُحِبُّهُمْ ،
وَأَمَّا حَدِيثُ السَّاقِ فَلَمْ يُضَفْ السَّاقُ فِيهَا إلَى أَحَدٍ ،
وَمَعْنَاهُ عَنْ شِدَّةٍ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ مُسْتَعْمَلٌ فِي
اللُّغَةِ عَلَى مَعْنَى شِدَّةِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَقَامَتْ
الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى ( { يَوْمَ
يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } أَيْ عَنْ شِدَّةٍ مِنْ الْأَمْرِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ فِي
قَوْله تَعَالَى ( { ، وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ } أَيْ الْتَفَّتْ سَاقُ الدُّنْيَا
بِسَاقِ الْآخِرَةِ ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ : مَعْنَاهُ أَمْرُ الدُّنْيَا بِأَمْرِ
الْآخِرَةِ ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْمَالُ
الدُّنْيَا بِمُحَاسَبَةِ الْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ { إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ } فَإِنَّهُ حَدِيثٌ
يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ .
وَالثَّانِي :
أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ ،
فَأَمَّا رِوَايَةُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ
أَهْلِ النَّقْلِ فِي صِحَّتِهَا لِاشْتِهَارِ نَقْلِهَا مِنْ غَيْرِ مُنْكِرٍ
لَهَا ، وَلَا طَاعِنٍ فِيهَا ، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى أَنَّ اللَّهَ
خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ فَمِنْ مُصَحِّحٍ لَهَا ، وَمِنْ طَاعِنٍ
فِيهَا ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى إنْكَارِ ذَلِكَ ، وَعَلَى أَنَّهُ
غَلَطٌ ، وَقَعَ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ لِبَعْضِ النَّقْلَةِ تَوَهُّمُ أَنَّ
الْهَاءَ تَرْجِعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَنَقَلَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَاهُ ،
فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْمَحْفُوظَةُ فَهِيَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ
، وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى رَجُلٍ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، وَأَبُوهُ أَوْ مَوْلَاهُ يَضْرِبُ وَجْهَهُ لَطْمًا ،
وَيَقُولُ : قَبَّحَ اللَّهُ وَجْهَك فَقَالَ : { إذَا ضَرَبَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ
فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى
صُورَتِهِ
} .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ : قَبَّحَ
اللَّهُ وَجْهَك ، وَوَجْهَ مَنْ أَشْبَهَ وَجْهَك فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ
سَبَّ آدَمَ ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ عَلَى صِفَتِهِ ، وَمَنْ دُونَهُ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ أَيْضًا ، وَمِنْهَا أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ عَلَى
صُورَتِهِ تَرْجِعُ إلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِذَلِكَ ثَلَاثَةُ
أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا - أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ وَفَائِدَتُهُ الْإِعْلَامَ بِأَنَّ
اللَّهَ لَمْ يُشَوِّهْ خَلْقَهُ حِينَ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ .
وَالثَّانِي -
أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَفَائِدَتُهُ إبْطَالَ قَوْلِ
أَهْلِ الزَّيْغِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا إنْسَانَ إلَّا مِنْ نُطْفَةٍ
، وَلَا نُطْفَةَ إلَّا مِنْ إنْسَانٍ ، وَلَا دَجَاجَةَ إلَّا مِنْ بَيْضَةٍ ، وَلَا
بَيْضَةَ إلَّا مِنْ دَجَاجَةٍ لَا إلَى أَوَّلٍ .
الثَّالِثُ
- مَعْنَاهُ وَفَائِدَتُهُ إبْطَالُ قَوْلِ أَهْلِ
الزَّيْغِ ، وَالْمُنَجِّمِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ
بِتَأْثِيرِ الْعُنْصُرِ ، وَالْفَلَكِ ، وَاللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ ، فَأَعْلَمَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِ آدَمَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الصُّورَةِ ،
وَالتَّرْكِيبِ ، وَالْهَيْئَةِ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِعْلُ
طَبْعٍ ، وَلَا تَأْثِيرُ فَلَكٍ ، وَخَصَّ آدَمَ بِالذِّكْرِ مِنْ سَائِرِ
الْمَخْلُوقَاتِ ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُهَا ، فَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ
الْمُنْفَرِدُ بِخَلْقِهِ دُونَ مُشَارَكَةِ فِعْلِ طَبْعٍ ، أَوْ تَأْثِيرِ
فَلَكٍ فَوَلَدُهُ ، وَمَنْ سِوَاهُمْ عَلَى حُكْمِهِ كَذَلِكَ .
وَقَدْ قِيلَ فِي ذَلِكَ وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ : أَنَّ
فَائِدَةَ الْحَدِيثِ تَكْذِيبُ الْقَدَرِيَّةِ فِيمَا زَعَمَتْ مِنْ أَنَّ
صِفَاتِ آدَمَ مِنْهَا مَا خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَمِنْهَا مَا خَلَقَهَا
آدَم عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِنَفْسِهِ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَكْذِيبِهِمْ ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى
جَمِيعِ صُورَتِهِ ،
وَصِفَتِهِ ، وَمَعَانِيهِ ، وَأَعْرَاضِهِ ، وَهَذَا
كَمَا تَقُولُ : عَرِّفْنِي هَذَا الْأَمْرَ عَلَى صُورَتِهِ إذَا أَرَدْت أَنْ
تَعْرِفَهُ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ ، وَالِاسْتِقْصَاءِ دُونَ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي جَاءَتْ ، وَهِيَ
: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَةِ الرَّحْمَنِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ
أَكْثَرَ أَهْلِ النَّقْلِ لَا يُصَحِّحُ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ
الرَّاوِيَ سَاقَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا ظَنَّهُ مِنْ مَعْنَاهُ ، وَعَلَى
تَقْدِيرِ الصِّحَّةِ فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ إضَافَةَ تَشْرِيفٍ عَلَى طَرِيقِ
التَّنْوِيهِ بِذِكْرِ الْمُضَافِ ، وَذَلِكَ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى { نَاقَةَ
اللَّهِ وَسُقْيَاهَا } فَإِنَّهَا إضَافَةُ تَخْصِيصٍ وَتَشْرِيفٍ تُفِيدُ
التَّحْذِيرَ ، وَالرَّدْعَ مِنْ التَّعَرُّضِ لَهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ
عَزَّ وَجَلَّ { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } وقَوْله تَعَالَى { ، وَعِبَادُ
الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا } ، وَقَوْلُ النَّاسِ :
الْكَعْبَةُ بَيْتُ اللَّهِ ، وَالْمَسَاجِدُ بُيُوتُ اللَّهِ .
فَشَرُفَتْ صُورَةُ آدَمَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ
اخْتَرَعَهَا ، وَخَلَقَهَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَبَقَ انْتَهَى .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ حَتَّى
يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهَا قَدَمَهُ ، فَتَقُولُ :
قَطُّ قَطُّ وَعِزَّتِك ، وَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ } ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ
فِي مَعْنَاهُ وُجُوهًا عِدَّةً فَمِنْهَا أَنَّ الْكَافِرَ عِنْدَ الْعَرَبِ
يُسَمَّى قَدَمًا ، وَالنَّارُ مَوْعُودَةٌ بِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ تُحَصِّلْهُمْ
فِي جَوْفِهَا بَقِيَتْ مَلْهُوفَةً عَلَيْهِمْ كَمَا هِيَ الْأُمُّ حِينَ
تَفْقِدُ أَوْلَادَهَا ، فَإِذَا حَصَلُوا فِي جَوْفِهَا تَقُولُ : قَطُّ قَطُّ
أَيْ حَسْبِي حَسْبِي ؛ لِأَنَّهَا قَدْ أَخَذَتْ أَوْلَادَهَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
{ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } ، وَالْهَاوِيَةُ : اسْمٌ
لِإِحْدَى طَبَقَاتِ النَّارِ أَعَاذَنَا اللَّهُ
مِنْ جَمِيعِ دَرَكَاتِهَا بِنُورِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ
إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي - أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا
يُفْهَمُ عِنْدَنَا مِنْ أَنَّ الشَّيْءَ الْحَقِيرَ التَّافِهَ الَّذِي لَا
يُبَالَى بِهِ يُدَحْرَجُ بِالْقَدَمِ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ
وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ الْحَقَارَةِ لَهُ كَمَا الْأَمْرُ فِي ضِدِّ ذَلِكَ ،
وَهُوَ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الرَّفِيعَةَ ، وَالطَّاهِرَةَ تُتَنَاوَلُ بِالْيَمِينِ
، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ حَيْثُ يَقُولُ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : يَمِينُ اللَّهِ فِي
الْأَرْضِ } ، وَهُوَ حَجَرٌ مَرْئِيٌّ مَحْسُوسٌ فَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى
أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْجَارِحَةَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْعَادَةَ فِيمَا
يَصْدُرُ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَبَقَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَجَرَ
الْأَسْوَدَ يَشْهَدُ لِلَامِسِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ شَهِدَ لَهُ
رُحِمَ ، وَغُفِرَ لَهُ ، فَضِدُّ ذَلِكَ فِي ذِكْرِ الْقَدَمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ
إذْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ الصُّورَةِ ، وَالْكَيْفِيَّةِ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوُجُوهِ
.
وَقَدْ حَصَلَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمِثَالِ
فِي الْآيِ ، وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي ظَاهِرُهَا الْإِشْكَالُ عَلَى مَنْ لَمْ
يَعْرِفْ الْعِلْمَ ، وَالْمَحَامِلِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَيْهَا مَقْنَعٌ
وَكِفَايَةٌ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْسَامٍ : الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَحْسَنُ ، بَلْ الَّذِي
لَا يَنْبَغِي : أَنْ يُعْرَجَ عَنْهُ ، وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَتَحَدَّثُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ خِيفَةً مِنْهُ
رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الضُّعَفَاءِ أَنْ يَدْخُلَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْفِتْنَةِ
فِي عَقِيدَتِهِمْ ، فَكَيْفَ يُقْرَأُ ذَلِكَ عَلَى رُءُوسِ الْعَوَامّ ،
وَالنِّسَاءُ حُضُورٌ يَسْمَعْنَ فَالْغَالِبُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَنَّهُمْ
يَدْخُلُونَ ، وَهُمْ مُؤْمِنُونَ فَيَخْرُجُونَ ، وَهُمْ مُفْتَتِنُونَ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنَّهُ إنْ كَانَ وَلَا بُدَّ
مِنْ ذِكْرِ
الْأَحَادِيثِ الَّتِي تُوقِعُ فِي الْقَلْبِ مَعْنًى
مِنْ التَّشْبِيهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْخٍ عَارِفٍ عَالِمٍ بِالسُّنَّةِ ،
وَمَعَانِي مَا احْتَوَى عَلَيْهِ كِتَابُ اللَّهِ ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ جَهِيرَ الصَّوْتِ
يَسْمَعُهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ ، فَيَحِلُّ مُشْكِلَهَا ، وَيُبَيِّنُ
مَعْنَاهَا ، وَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ
جَالِسًا عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ عَنْهُمْ لِيَعُمَّ صَوْتُهُ الْجَمِيعَ كَمَا
تَقَدَّمَ ، بِخِلَافِ مَا هُمْ يَفْعَلُونَ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، فَإِنَّ
الْقَارِئَ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيٍّ فَيَعُمُّ صَوْتُهُ الْجَمِيعَ فِي
الْغَالِبِ ، وَالشَّيْخُ جَالِسٌ عَلَى الْأَرْضِ ، وَصَوْتُهُ خَفِيٌّ فَلَا
يَعْرِفُ مَا قَالَ إلَّا مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنْ عُدِمَ هَذَا
الْقِسْمُ الثَّانِي فَتُمْنَعُ قِرَاءَةُ الْكُتُبِ ، وَالْمَوَاعِيدُ الَّتِي تُفْعَلُ
، فَإِنْ فَعَلَهَا أَحَدٌ أُدِّبَ عَلَى ذَلِكَ ، وَزُجِرَ ، وَأُخْرِجَ مِنْ
الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَطَالِبُ الْعِلْمِ قُدْوَةٌ ،
فَإِذَا رَآهُ أَحَدٌ مِنْ الْعَوَامّ يَحْضُرُ هَذَا الْمَجْلِسَ يَقْتَدِي بِهِ
فِي حُضُورِهِ فَقَدْ يَجْلِسُ فِيهِ ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَيَقُومُ ، وَعِنْدَهُ
شَكٌّ وَرَيْبٌ فِي اعْتِقَادِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَيَكُونُ طَالِبُ الْعِلْمِ
بِحَذَرٍ مِنْ هَذَا ، وَأَشْبَاهِهِ ، هَذَا وَجْهٌ فِي الْكَرَاهَةِ ، وَوَجْهٌ
ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ كَرِهُوا تَرْكَ الشُّغْلِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ ، وَأَنْ يُخَصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ خِيفَةً مِنْ
التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي السَّبْتِ ، وَبِالنَّصَارَى فِي الْأَحَدِ كَمَا تَقَدَّمَ
، فَيُحْذَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ بَعْضُ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُونَ أَنْ
يُتْرَكَ الْعَمَلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِئَلَّا يَصْنَعُوا فِيهِ كَمَا صَنَعَتْ
الْيَهُودُ ، وَالنَّصَارَى فِي السَّبْتِ وَالْأَحَدِ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا لِمَا
رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِمُخَالَفَةِ أَهْلِ
الْكِتَابِ ، وَيَنْهَى عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ ، رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلْحِدُوا ، وَلَا تَشُقُّوا فَإِنَّ
اللَّحْدَ لَنَا ، وَالشَّقَّ لِغَيْرِنَا } أَيْ لِأَهْلِ الْكِتَابِ ، وَأَنَّهُ
قَالَ ( { فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا ، وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُورِ
} ، وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ
فَصْلٌ فِي تَحَفُّظِ طَالِبِ الْعِلْمِ مِنْ الْعَمَلِ
عَلَى الْمَنَاصِبِ ، أَوْ التَّشَوُّفِ إلَيْهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ رَحِمَنَا
اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّهُ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّدْرِيسَ ،
وَلَا أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْطُبَ لَهُ ، وَيَجِدَهُ عَلَى وَجْهِهِ
السَّائِغِ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدِلَّ هُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
يُدْخِلُ عَلَيْهِ الْخَلَلَ فِي نِيَّتِهِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي أَخْذِ الدَّرْسِ فَمِنْ بَابِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى فِي
الْأَحْكَامِ ، بَلْ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ أَشَدُّ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
{ مَنْ وَلِيَ الْقَضَاءَ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } انْتَهَى .
، وَمِنْ
ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا أَنَّ صَبِيَّيْنِ جَاءَاهُ يَتَخَايَرَانِ فِي خَطَّيْهِمَا فَنَظَرَ
فِي الْخَطَّيْنِ ثُمَّ قَالَ : لَوْلَا أَنَّهُ حُكْمٌ لَقُلْت : إنَّ أَحَدَهُمَا
أَحْسَنُ مِنْ الْآخَرِ ، وَلَكِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يُحْشَرُ الْحَاكِمُ ، وَيَدَاهُ مَغْلُولَتَانِ
إلَى عُنُقِهِ لَا يَفُكُّهُمَا إلَّا عَدْلُهُ } ،
وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أُحْشَرَ مَغْلُولَ الْيَدَيْنِ ) ، أَوْ كَمَا قَالَ ،
وَلَمْ يَزَلْ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ يَهْرُبُونَ مِنْهُ
الْهَرَبَ الْكُلِّيَّ حَتَّى قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ تَوَلَّاهُ فِي
الظَّاهِرِ حَتَّى رُفِعَ عَنْهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ جَرَى لِلْإِمَامِ أَبِي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَقَالَ : إنِّي لَا
أَصْلُحُ فَقِيلَ لَهُ : لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُمْ : هَذَا لَا
يَحِلُّ لَكُمْ قَالُوا لِمَ قَالَ : لِأَنِّي بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ
أَكُونَ صَادِقًا فِيمَا قُلْته فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُوَلُّوا مَنْ لَا
يَصْلُحُ ، وَإِنْ كُنْت كَاذِبًا ، فَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تُوَلُّوا كَاذِبًا
فَتَرَكُوهُ .
وَحِكَايَتُهُمْ فِي هَذَا أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ
، وَأَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ تَوْلِيَةَ الْقَضَاءِ
مِنْ الِابْتِلَاءِ ، وَيَسْتَعِيذُونَ مِنْ ذَلِكَ
حَتَّى أَنَّهُمْ قَدْ يَهْجُرُونَ بَعْضَ مَنْ تَوَلَّى
مِنْ مَعَارِفِهِمْ ، وَقَدْ جَرَى لِسَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ
الزَّيَّاتِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَنْ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ مَا قَدْ
ذُكِرَ ، وَقَدْ جَرَى لِسَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إفْرِيقِيَّةَ
لَمَّا أَنْ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ ، وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ
يَجْعَلُوا لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الرِّجَالِ لِاسْتِخْلَاصِ الْحُقُوقِ
الشَّرْعِيَّةِ مَا يَقُومُ بِكِفَايَتِهِمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ قَالُوا :
وَلِمَ ذَلِكَ قَالَ : لِأَنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُوصِلَ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ
حَقَّهُ ، وَلَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا ،
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَنْصُوصَةٌ فِي الْمَذْهَبِ قَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ رُشْدٍ .
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَيَانِ
وَالتَّحْصِيلِ لَهُ فَلَمَّا أَنْ طَلَبَ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَمِلُوا حِسَابَ مَا
يَخْرُجُ مِنْهُمْ ، فَوَجَدُوهُ مَالًا كَثِيرًا فَشَحُّوا بِإِخْرَاجِهِ
فَتَرَكُوهُ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْبَغِي لِمَنْ وَلِيَ أَيَّ خُطَّةٍ
أَنْ يَنْظُرَ إلَى نَفْسِهِ فِي يَوْمِ عَزْلِهِ مِنْهَا ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى
يَوْمِ تَوْلِيَتِهِ انْتَهَى .
وَمَا ذَاكَ إلَّا ؛ لِأَنَّهُ إذَا نَظَرَ إلَى يَوْمِ
تَوْلِيَتِهِ هَلَكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ ، وَقَلِيلٌ مَا
هُمْ ، وَإِذَا نَظَرَ إلَى يَوْمِ عَزْلِهِ سَلِمَ فِي الْغَالِبِ .
وَقَدْ جَرَى بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّ السُّلْطَانَ أَجَبَرَ
الشَّيْخَ الْجَلِيلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عِمْرَانَ عَلَى الْقَضَاءِ ،
فَاسْتَشَارَ بَعْضَ الْأَكَابِرِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ
: لَا تَتَوَلَّى ، وَإِنْ تَوَقَّعْت الْمَوْتَ قَالَ لَهُ آخَرُونَ : إنْ
تَوَقَّعْت الْمَوْتَ تَوَلَّ ، وَاحْكُمْ بِالْعَدْلِ ، وَهُمْ يَعْزِلُونَك
فَسَمِعَ مِنْ الثَّانِي فَتَوَلَّى ، وَحَكَمَ بِالْعَدْلِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا
أَيَّامًا يَسِيرَةً ، وَعَزَلُوهُ فِي حِكَايَةٍ يَطُولُ ذِكْرُهَا فَيَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ الْهَرَبُ الْكُلِّيُّ مِنْ الْوِلَايَةِ ، وَأَسْبَابِهَا إذْ أَنَّهَا احْتَوَتْ
- سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ - عَلَى حُظُوظِ
النُّفُوسِ مِنْ الرِّيَاسَةِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا ،
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ الَّذِي هُوَ مُعَلَّقٌ بِالْقُلُوبِ فِي الْغَالِبِ
يُبْذَلُ فِي الْمَنَاصِبِ ، وَلَا تُبْذَلُ الْمَنَاصِبُ فِيهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّهُ أَعْظَمُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ : الزُّهْدُ فِي
الرِّيَاسَةِ أَفْضَلُ ، وَأَعْظَمُ مِنْ أَلْفِ زُهْدٍ فِي الْمَالِ ،
وَلْيُحْذَرْ مِنْ أَنْ يَمِيلَ إلَى خَاطِرِ النَّفْسِ ، وَالْعَوَائِدِ
الرَّدِيئَةِ ، وَالْإِلْزَامِ الْمُعَيَّنَةِ لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ ، فَقَدْ
تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ ، أَوْ أَحَدٌ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ مِنْ الصِّنْفِ
الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِمْ الْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ فَيَقَعُ
بِالْقَضَاءِ فِي الْقَضَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ آفَةٌ عَلَيْهِ عَاجِلَةٌ
؛ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عَلَيْهِ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ مِنْ الِاشْتِغَالِ لِكَثْرَةِ
الِاشْتِغَالِ إنْ كَانَ شَابًّا إذْ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إذَا جَاءَهُ الْخَصْمَانِ
أَنْ يَشْتَغِلَ بِمُطَالَعَةِ الْمَسَائِلِ ، أَوْ غَيْرِهَا ، وَيَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ إذْ ذَاكَ تَرْكُ الضَّرُورَاتِ كُلِّهَا إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ شَرْعًا
لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ
قَوْلِهِ : { لَا يَقْضِي الْقَاضِي ، وَهُوَ غَضْبَانُ } انْتَهَى .
وَعَدَّاهُ الْفُقَهَاءُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَإِنْ
كَانَ ذَا سِنٍّ فَأَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ
أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا بَلَغَ أَحَدُهُمْ الْأَرْبَعِينَ طَوَى الْفِرَاشَ ،
وَانْعَزَلَ عَنْ النَّاسِ ، وَتَبَتَّلَ لِلْعِبَادَةِ ، وَتَرَكَ الِاشْتِغَالَ
بِالْعِلْمِ إذْ ذَاكَ ، فَمَا بَالُك بِالدُّخُولِ فِي الْقَضَاءِ هَذَا هُوَ
الْغَالِبُ فِيهِ أَعْنِي : أَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَجِيءُ لِلْإِنْسَانِ إلَّا
بَعْدَ الطَّعْنِ فِي السِّنِّ حِينَ تَوَقُّعِ هُجُومِ الْمَوْتِ عَلَيْهِ
غَالِبًا لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
حَيْثُ يَقُولُ : { مُعْتَرَكُ مَنَايَا أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى
السَّبْعِينَ } ، وَيَكْفِي مِنْ التَّنْفِيرِ عَنْهُ
مَا حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْقُضَاةِ كَانَ إذَا جَلَسَ لِلْأَحْكَامِ جَلَسَ إلَى
جَانِبِهِ
رَجُلٌ أَسْوَدُ الْوَجْهِ أَبْيَضُ الْبَدَنِ ، فَكَانَ
إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْصِلَ الْحُكْمَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ نَظَرَ إلَى وَجْهِهِ
، ثُمَّ يَفْصِلُ الْحُكْمَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ : اسْأَلُوهُ
فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَنْبُشُ الْقُبُورَ فَمَاتَ قَاضِي
الْبَلَدِ قَالَ : فَذَهَبْت إلَيْهِ لَيْلًا فَنَبَشْت عَلَيْهِ حَتَّى وَصَلْت
إلَيْهِ ، وَجِئْت آخُذُ الْكَفَنَ ، وَإِذَا بِشَخْصَيْنِ قَدْ دَخَلَا فَرُعِبْت
مِنْهُمَا فَرَجَعْت فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْقَبْرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ
: تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى قَدَمَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ : هَاتَانِ قَدَمَانِ
مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى فَرْجِهِ
فَشَمَّهُ فَقَالَ : هَذَا فَرْجٌ مَا عَصَى اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ
فَجَاءَ إلَى بَطْنِهِ فَشَمَّهَا فَقَالَ هَذِهِ بَطْنٌ مَا أَكَلَتْ الْحَرَامَ
قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى يَدَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ :
هَاتَانِ يَدَانِ مَا عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ
إلَى فِيهِ فَشَمَّهُ فَقَالَ :
هَذَا لِسَانٌ مَا عَصَى اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ :
تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى عَيْنَيْهِ فَشَمَّهُمَا فَقَالَ : هَاتَانِ عَيْنَانِ مَا
عَصَتَا اللَّهَ قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : تَقَدَّمْ فَجَاءَ إلَى أُذُنَيْهِ فَشَمَّهُمَا
فَسَكَتَ ، فَقَالَ لَهُ : مَا بَالُك ؟ فَقَالَ لَهُ : هَاتَانِ أُذُنَانِ جَاءَهُ يَوْمًا
خَصْمَانِ فَأَصْغَى إلَى أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ فَارْتَفَعَا
يَضْرِبَانِهِ ، فَهَرَبْت فَحَصَلَ لِي هَذَا مِنْ هُوِيِّ الْمِقْمَعَةِ
فَأَصْبَحَ وَجْهِي كَمَا تَرَى انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْحِكَايَةِ
مَا أَعْجَبَهَا ، فَأَيْنَ الْحَاكِمُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ
عَلَيْهِ هَذَا السَّيِّدُ هُوَ ، وَاَللَّهِ أَعَزُّ شَيْءٍ يَكُونُ ، وَمَنْ
لَهُ عَقْلٌ يَنْظُرُ إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إلَى الصَّبْرِ
فَيَهْرُبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْبَشَرِيَّةَ فِي الْغَالِبِ عَاجِزَةٌ عَنْ
الصَّبْرِ ، فَإِنْ وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْتَارَهُ ، وَيُضْطَرَّ
إلَيْهِ
فَالِاسْتِغَاثَةُ إذْ ذَاكَ بِرَبِّهِ لَعَلَّ أَنْ يُصَبِّرَهُ
عَلَى مَا ابْتَلَاهُ بِهِ ، فَبُعْدُهُ مِنْ بَابِ الِابْتِلَاءِ ، فَإِذَا
فَعَلَ ذَلِكَ يُرْجَى لَهُ أَنْ يُعَانَ ، وَأَنْ يَسْلَمَ مِنْ الْآفَاتِ
الْمَنُوطَةِ بِهِ يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ : ( { لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك
إذَا أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ
غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا } ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { : إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ } انْتَهَى .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ فِي تَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ ،
وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا ، بَلْ يَبْذُلُ بَعْضُنَا الْمَالَ فِي تَحْصِيلِهَا
فَأَيُّ نِسْبَةٍ بَيْنَ هَذَا الْحَالِ ، وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ
قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا
مَنْ طَلَبَهُ } ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا تَسْأَلْ
الْإِمَارَةَ .
.
.
} الْحَدِيثَ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ بِهِ
قُبْحُ تَعَاطِيهِمْ لِذَلِكَ .
فَإِنْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
الْبَذْلُ فِي ذَلِكَ لِمَا يَرَاهُ مِنْ أَنَّ فِيهِ أَهْلِيَّةً لِلْمَنْصِبِ
دُونَ غَيْرِهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ - أَنَّ فِي
هَذَا تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَرَسُولُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ .
الثَّانِي - أَنَّ التَّعَرُّضَ لِلْأَحْكَامِ فِيهِ
إشْغَالُ الذِّمَّةِ بِأَمْرٍ لَا يُعْلَمُ هَلْ يُتَخَلَّصُ مِنْهُ أَمْ لَا ؟
وَخَلَاصُ الذِّمَّةِ مُتَعَيِّنٌ ، فَإِنْ اُحْتُجَّ بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَنْ نَبِيِّهِ يُوسُفَ الصِّدِّيقِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ
عَلِيمٌ } فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ مَعْصُومُونَ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُهُمْ أَلَا تَرَى
إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ طَلَبَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ ، وَذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَبِيلِ
الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى غَيْرِهِ لِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
أَنَّهُ لَا يَكُونُ فِي الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَهُ نَبِيٌّ مَلِكٌ ، فَلَمَّا أَنْ عَلِمَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ خَافَ عَلَى غَيْرِهِ إنْ أُعْطِيَ
ذَلِكَ يَهْلَكُ بِسَبَبِهِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ
أَمِنَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ عِصْمَتِهِ ، هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ
الصِّدِّيقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ عَلِمَ أَنَّهُ
سَيَقَعُ بِالنَّاسِ شِدَّةٌ وَغَلَاءٌ خَافَ عَلَيْهِمْ إنْ تَوَلَّى غَيْرُهُ
ذَلِكَ أَنْ يَهْلَكُوا هَلَاكَ اسْتِئْصَالٍ فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ ،
فَطَلَبَ مَا طَلَبَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
خَشِيَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَصِّرُوا فِي حَقِّهِ ، وَالتَّقْصِيرُ فِي حَقِّ
الْأَنْبِيَاءِ كُفْرٌ إذْ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ } ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يُحْتَجُّ
بِهِ عَلَى طَلَبِ الْوِلَايَةِ
.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا
، وَالسَّلَامَةُ غَالِبًا إنَّمَا تُتَوَقَّعُ فِي تَرْكِ الْوِلَايَاتِ ،
فَكَيْفَ تُبْذَلُ فِيهَا الْأَمْوَالُ لَا جَرَمَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ
الْأَمْرُ فِيهَا إلَى بَذْلِ الْأَمْوَالِ صَارَ يَطْلُبُهَا مَنْ لَيْسَ فِيهِ
أَهْلِيَّةٌ لَهَا ، وَلَا يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ فَضَاعَتْ أُمُورُ
الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ طَلَبِهَا ، وَدُخُولِ الْأَمْوَالِ فِيهَا ، وَصَارَتْ
التَّوْلِيَةُ لِمَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا فَإِذَا فُهِمَ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ
الْهَرَبُ مِنْ الْوِلَايَةِ مَهْمَا أَمْكَنَ ، وَالْعَمَلُ عَلَى الْبَرَاءَةِ
مِنْهَا ، وَهُوَ أَبْرَأُ لِلذِّمَّةِ ، وَأَخْلَصُ مِنْ التَّبَعَاتِ عَاجِلًا وَآجِلًا
، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا التَّفْرِقَةُ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ
، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ ، وَالِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى إنْ كَانَ
بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ كَمَا تَقَدَّمَ
، وَهَذِهِ
مَسْأَلَةٌ قَدْ عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي هَذَا الزَّمَانِ بِسَبَبِ
الِاقْتِدَاءِ بِفَتْوَى مَنْ وَهَمَ ، وَأَلْحَقَ الرِّشْوَةَ الَّتِي هِيَ مِنْ
بَابِ السُّحْتِ وَالْحَرَامِ بِبَابِ الْجَعَالَةِ ، وَإِلْحَاقُهَا بِبَابِ
الْجَعَالَةِ لَا يَجُوزُ لِفَقْدِ شُرُوطِ الْجَعَالَةِ فِيهَا إذْ أَنَّ
الْجَعَالَةَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لَهَا شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ
يَكُونَ الْجُعْلُ مَعْلُومًا .
وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَنْقُدَهُ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ
لِلْجَاعِلِ إلَّا بِتَمَامِهِ
.
وَالرَّابِعُ : أَنْ لَا يُضْرَبُ لِلْعَمَلِ
الْمَجْعُولِ فِيهِ أَجَلٌ ، فَمَتَى انْخَرَمَ أَحَدُ هَذِهِ الشُّرُوطِ لَمْ
تَجُزْ ، وَقَدْ فُقِدَ فِي الرِّشْوَةِ أَكْثَرُ هَذِهِ الشُّرُوطِ .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : وَيْلٌ لِلْعَالِمِ مِنْ الِاتِّبَاعِ يَزِلُّ
الزَّلَّةَ فَتُحْمَلُ عَنْهُ فِي الْآفَاقِ ، وَقَالَ آخَرُ : زَلَّةُ الْعَالِمِ
مِثْلُ انْكِسَارِ السَّفِينَةِ تَغْرَقُ ، وَتُغْرِقُ الْخَلْقَ انْتَهَى .
وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ : إنَّ التَّحْرِيمَ
إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْآخِذِ لِلرِّشْوَةِ لَيْسَ إلَّا ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ
قَدْ تَسَبَّبَ فِي وُقُوعِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي هَذَا الْمُحَرَّمِ فَصَارَ
شَرِيكًا لَهُ فِي إثْمِ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الظَّلَمَةَ يُحْشَرُونَ
وَأَعْوَانَهُمْ ، حَتَّى مَنْ مَدَّ لَهُمْ مَدَّةً ، فَإِذَا كَانَ مَنْ مَدَّ
لَهُمْ مَدَّةً يُحْشَرُ مَعَهُمْ ، فَمَا بَالُك بِمَنْ أَخَذَ مَالًا مِنْ أَخِيهِ
الْمُسْلِمِ عَلَى شَيْءٍ هُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَنْفَعَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ
عِوَضٍ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ شَفَعَ لِأَحَدٍ شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً
عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا } ،
وَمِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِلْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ
ظُفْرٍ الْحَمَوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى
قَوْله تَعَالَى { سَمَّاعُونَ
لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } - : قَالَ الْحَسَنُ
: هُمْ حُكَّامُ الْيَهُودِ يَسْتَمِعُونَ الْكَذِبَ مِمَّنْ يَأْتِيهِمْ
بِرِشْوَةٍ ، وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ : رِشْوَةُ الْحَاكِمِ مِنْ
السُّحْتِ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَنْ شَفَعَ لِرَجُلٍ لِيَدْفَعَ عَنْهُ
مَظْلِمَةً فَأَهْدَى إلَيْهِ هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا فَذَلِكَ السُّحْتُ فَقِيلَ :
لَهُ كُنَّا نَرَى أَنَّ السُّحْتَ الرِّشْوَةُ فِي الْقَضَاءِ فَقَالَ : ذَلِكَ
الْكُفْرُ ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ
الرِّشْوَةَ فِي الْقَضَاءِ أَكَلَ السُّحْتَ وَكَفَرَ ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ لَعَنَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ
وَالرَّائِشَ } فَالرَّائِشُ : هُوَ الَّذِي يُرْشِي الْمُرْتَشِيَ مِنْ مَالِ
الرَّاشِي فَيَأْخُذُ لَهُ الرِّشْوَةَ مِنْهُ فَكُلُّ مَالٍ كَسَبَهُ ذُو
الْوَجَاهَةِ عِنْدَ السُّلْطَانِ مِنْ ذَوِي الْحَوَائِجِ إلَيْهِ بِجَاهِهِ ،
فَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ سُحْتٌ ، وَالْقَضَاءُ فِيهِ أَنْ يُرَدَّ
إلَى أَصْحَابِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا رَفَعَهُ السُّلْطَانُ إلَى بَيْتِ
مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { هَدَايَا الْعُمَّالِ مِنْ السُّحْتِ } ، وَقَالَ عُمَرُ : رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ انْتَهَى .
فَصْلٌ فِي الْعَدَالَةِ فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذُكِرَ
مِنْ الْهَرَبِ مِنْ الْمَنَاصِبِ فَمِنْ آكَدِهَا الْهَرَبُ مِنْ الْعَدَالَةِ ،
وَتَرْكُ التَّشَوُّفِ إلَيْهَا ، إذْ أَنَّ الْخَطَرَ فِيهَا أَعْظَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ
فِي الْقَضَاءِ ، إذْ أَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ أَمْرٌ ، وَلَا نَهْيٌ فِي
الْغَالِبِ إلَّا بِشَهَادَتِهِمْ فَكَأَنَّهُ أَسِيرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ بِحَسْبِ
مَا قَالُوهُ حَكَمَ ، فَهُمْ الْبَاعِثُونَ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ ، وَأُمُورُهَا
مُتَشَعِّبَةٌ مُشْغِلَةٌ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ وَغَيْرِهِ فِي
الْغَالِبِ ، حَتَّى إنَّهُ قَدْ يُضَيِّعُ بَعْضُهُمْ لِأَجْلِهَا ، وَفِيهَا
مِنْ الْمَفَاسِدِ أَشْيَاءُ عَدِيدَةٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُمْكِنُ تَتَبُّعُهَا
؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَطُولُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { : إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ } انْتَهَى .
فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ طَلَبَ الْعَدَالَةَ فَهُوَ
قَدْحٌ فِي عَدَالَتِهِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ خُصُوصًا لِمَا احْتَوَتْ
عَلَيْهِ مِنْ الْأُمُورِ الْفَظِيعَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ
الْقَبَائِحِ إلَّا مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ لَيْسَ خَاصًّا بِهَا ، بَلْ هِيَ وَغَيْرُهَا مِنْ الْمَنَاصِبِ
الدِّينِيَّةِ رَجَعَتْ إلَى بَذْلِ الْمَالِ وَالِاسْتِعَانَةِ مَعَهُ بِمَنْ لَا
يُرْضَى حَالُهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا قَوِيًّا فِي
أَنْ يَأْخُذَ الْمَنَاصِبَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهَا ، وَيُحْرَمَهَا مَنْ يَسْتَحِقُّهَا
فِي الْغَالِبِ ، فَآلَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ إلَى أَشْيَاءَ فَظِيعَةٍ مِنْ
إبْطَالِ الْأَنْكِحَةِ ، وَالْعُقُودِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ
الْمُسْلِمِينَ ، إذْ أَنَّ الرَّبْطَ وَالْحَلَّ إنَّمَا هُوَ بِالْعُدُولِ ،
لَكِنَّ أَكْثَرَ الْعُدُولِ فِي هَذَا الزَّمَانِ حَالُهُمْ مَعْلُومٌ فَلَا
حَاجَةَ إلَى شَرْحِهِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَثُرَتْ شَهَادَاتُ
الزُّورِ إذْ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْعَدَالَةَ وَغَيْرَهَا مِنْ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ
أَهْلُهَا لَقَلَّتْ الْمَفَاسِدُ ، بَلْ تُعْدَمُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَقَدْ ذَكَرْت لِبَعْضِ الْمُبَارَكِينَ
شَخْصًا ، وَأَثْنَيْت عَلَيْهِ عِنْدَهُ ، وَقُلْت لَهُ
: إنَّ وَالِدَهُ يَطْلُبُ لَهُ الْعَدَالَةَ فَقَالَ : لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ هُوَ الْآنَ عَدْلٌ كَيْفَ يُجَرِّحُونَهُ
، فَقُلْت لَهُ : الْعَدَالَةُ تَجْرِيحٌ فَقَالَ : نَعَمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ
تَرْكُ الْعَدَالَةِ هِيَ الْعَدَالَةُ ، وَمَا ذَكَرَهُ بَيِّنٌ أَلَا تَرَى إلَى
حَالِ بَعْضِهِمْ فِي الْمَكْتُوبِ إذَا كَتَبَهُ يَطْلُبُ عَلَيْهِ مَا لَا
يَسْتَحِقُّهُ ، وَيَتَشَاحُّ فِي ذَلِكَ ، وَلِسَانُ الْعِلْمِ يَمْنَعُهُ إذْ
أَنَّ الْجَالِسَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَرْبَعِ مَرَاتِبَ أَوَّلُهَا ،
وَهِيَ أَعْلَاهَا : أَنْ يَجْلِسَ لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ ،
وَالتَّفْرِيجِ عَنْهُمْ ، وَإِرْشَادِهِمْ ، وَتَصْحِيحِ عُقُودِهِمْ طَالِبًا
بِذَلِكَ الثَّوَابَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِدُنْيَا يُصِيبُهَا ، وَلَا
لِثَنَاءٍ وَغَيْرِهِ ، امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَاَللَّهُ
فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } ، فَإِذَا أَعْطَى شَيْئًا تَبَرَّمَ مِنْهُ ،
وَأَغْلَظَ عَلَى فَاعِلِهِ ، وَهَذَا عَزِيزُ الْوُجُودِ ، فَإِنْ وُجِدَ كَانَ
مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاتِهِ النَّافِلَةَ فِي بَيْتِهِ ، وَانْقِطَاعِهِ
لِلتَّعَبُّدِ ، إذْ أَنَّهُ خَيْرٌ مُتَعَدٍّ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ ،
وَلَا يُخْتَلَفُ أَنَّ النَّفْعَ الْمُتَعَدِّيَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَاصِرِ عَلَى
الْمَرْءِ نَفْسِهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ
فِي ذَلِكَ .
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَجْلِسَ
لِلشَّهَادَةِ فَإِذَا جَاءَهُ شُغْلٌ أَخَذَ عَلَيْهِ أُجْرَةَ نَسْخِهِ
لِلْوَرَقَةِ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ لَيْسَ إلَّا ، فَإِنْ زَادَهُ عَلَى ذَلِكَ
شَيْئًا رَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ
الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى فِي عِزَّةِ وُجُودِهِ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عِمْرَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَدِينَةِ فَاسَ
جَالِسًا فِي الْعُدُولِ ، وَجَاءَهُ إنْسَانٌ فَكَتَبَ عِنْدَهُ حُجَّةً ،
وَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : لَا نَسْتَحِقُّهُ
فَقَالَ لَهُ : مَا عِنْدِي غَيْرُ الدِّرْهَمِ فَقَالَ
: لَا آخُذُ مَا لَا أَسْتَحِقُّهُ فَقَالَ لَهُ : فَكَمْ نُعْطِيكَ قَالَ :
رُبْعُ دِرْهَمٍ قَالَ : مَا عِنْدِي رُبْعٌ قَالَ : هَاتِ أَرْبَعَةً مِنْ
الْبِيضِ ، ثُمَّ جَاءَهُ مَرَّةً أُخْرَى لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَنَزَلَ مِنْ دُكَّانِهِ
لِأَدَائِهَا فَأَعْطَاهُ شَيْئًا فَانْتَهَرَهُ ، وَزَجَرَهُ قَالَ : تُطْعِمُونَ
النَّاسَ الْحَرَامَ ، وَمَعَ هَذَا الْحَالِ مِنْ التَّحَرُّزِ وَالِاحْتِيَاطِ
لِدِينِهِ تَبَرَّمَ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَامَ مِنْ الْمَجْلِسِ ، وَانْعَزَلَ فِي
الْبَيْتِ فَعَلَى مِنْوَالِهِ فَانْسِجْ إنْ أَرَدْت الْخَلَاصَ .
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَجْلِسَ فَإِذَا
جَاءَهُ شُغْلٌ عَمِلَهُ ، وَلَا يَطْلُبُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنْ أَعْطَاهُ
قَلِيلًا رَضِيَ بِهِ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ كَثِيرًا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ لَمْ
يَرُدَّهُ ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ أَدْنَى مِنْ الْمَرْتَبَتَيْنِ
الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ مَعَ كَوْنِهَا جَائِزَةً شَرْعًا ، وَقَدْ قَلَّ وُجُودُهَا
فِي هَذَا الْوَقْتِ .
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ : مَا يَتَعَاطَوْنَهُ فِي هَذَا
الزَّمَانِ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا ، وَهُوَ أَنْ يَطْلُبَ الشَّاهِدُ مَا
لَا يَسْتَحِقُّهُ ، وَيَمْنَعَ الْحُجَّةَ لِأَجْلِهِ ، حَتَّى يَأْخُذَ أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَدَّى الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَتْرُكَ بَعْضُ النَّاسِ
الْإِشْهَادَ عَلَى حُقُوقِهِ لِأَجْلِ الْإِجْحَافِ بِهِ ، وَخَوْفًا مِنْ
إعَانَتِهِمْ عَلَى أَكْلِ الْحَرَامِ ، وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ إذَا طُلِبَ
مِنْ بَعْضِهِمْ ، أَوْ أَكْثَرِهِمْ الْيَوْمَ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ عِنْدَ
الِاضْطِرَارِ إلَيْهَا يَتَنَاسَاهَا ، كَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا ، حَتَّى إذَا أُعْطِيَ
شَيْئًا تَذَكَّرَهَا إذْ ذَاكَ مِنْ غَيْرِ ارْتِيَابٍ سِيَّمَا فِي صَدَقَاتِ
النِّسَاءِ يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ فِيهَا فِعْلًا قَبِيحًا ، وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ
الصَّدَاقَ عِنْدَهُ ، فَإِذَا طُلِبَ مِنْهُ يَقُولُ : حَتَّى أُفَتِّشَ فَلَا يَزَالُ
يُمَاطِلُ حَتَّى إذَا اُضْطُرَّتْ الْمَرْأَةُ إلَيْهِ بِمَوْتِ زَوْجِهَا ، أَوْ
طَلَاقِهِ إيَّاهَا ، أَوْ بِطَلَبِ حَقِّهَا الْمَذْكُورِ فِي صَدَاقِهَا ،
فَيَطْلُبُ مِنْهَا إذْ ذَاكَ مَا
يَخْتَارُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ ضَعِيفَةَ الْحَالِ ، وَخَشِيَتْ
مِنْهُ أَيْضًا إنْ كَانَ الصَّدَاقُ عِنْدَهَا أَنْ تَقْضِيَ مَا تَزِيدُهُ
عِنْدَ غَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِالْمُبَارَأَةِ ،
وَأَفْعَالُهُمْ مِنْ هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ ،
وَتُنَزَّهُ الْكُتُبُ عَنْ ذِكْرِهَا ، وَالْأَقْلَامُ عَنْ كَتْبِهَا ، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { سَتَكُونُ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الْمَرْءُ
مُؤْمِنًا ، وَيُمْسِي كَافِرًا ، وَيُمْسِي مُؤْمِنًا ، وَيُصْبِحُ كَافِرًا
يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَخَذَ مَا لَا
يَسْتَحِقُّهُ فَقَدْ بَاعَ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا ، فَإِنْ قَالَ
قَائِلٌ : قَدْ يُضْطَرُّ طَالِبُ الْعِلْمِ إلَى الْعَدَالَةِ وَالْجُلُوسِ
لِأَجْلِ الْعَائِلَةِ ، وَمَا يَعْتَوِرهُ مِنْ الضَّرُورَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ مِمَّا يُحْوِجُهُ إلَى ذَلِكَ ، فَالْجَوَابُ مَا
تَقَدَّمَ قَبْلَ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ لَا
تُسْتَأْكَلُ بِهِ الدُّنْيَا ، فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ ، فَلَهُ فِي
غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ اتِّسَاعٌ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ
مُتَعَدِّدَةٌ ، وَأُمُورُ الدِّينِ وَالْآخِرَةِ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَسْبَابِ
الدُّنْيَا ، فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى التَّسَبُّبِ فِي الْعَدَالَةِ ،
وَالْجُلُوسِ لِمَا ذُكِرَ ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ
غَيْرِ أَنْ يَقْصِدَهُ ، وَيَجْلِسَ بِقَصْدِ أَحَدِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ
الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، فَلَا بَأْسَ إذَنْ ، وَيُرْجَى لَهُ أَنَّهُ فِي
طَاعَةٍ لِضَرُورَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَضَرُورَتُهُ شَرْعِيَّةٌ .
( تَنْبِيهٌ ) ، وَلْيَحْذَرْ إذَا جَلَسَ أَنْ يَفْعَلَ
مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْوَقْتِ ، وَهُوَ مَا يُسْقِطُ
الْعَدَالَةَ ، وَذَلِكَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نَهَى عَنْ السَّرَفِ ، وَعَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } ،
وَلَا شَكَّ أَنَّ كَتْبَ الصَّدَاقِ فِي خِرْقَةِ الْحَرِيرِ مِنْ بَابِ السَّرَفِ
، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ يَجُوزُ لَهَا لُبْسُ
الْحَرِيرِ ، وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ لَكِنْ فِيمَا يَكُونُ لُبْسًا
وَتَحَلِّيًا شَرْعِيًّا ، وَأَمَّا الصَّدَاقُ فَمِنْ بَابِ الْفَخْرِ ، وَالْخُيَلَاءِ
، وَالْمُبَاهَاةِ ، وَالْمُخَالَفَةِ ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا كَتْبُهُمْ لِذَلِكَ
فِي النَّصَّافِي ، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ ،
وَهَذَا لَيْسَ بِلُبْسٍ ، وَالسَّرَفُ فِيهِ مَوْجُودٌ ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ
عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَهُمْ فِي الرَّقِّ ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُبَاحِ
اتِّسَاعٌ ، ثُمَّ كَذَلِكَ يُحْذَرُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى ، وَهُوَ
أَنْ يَكْتُبَ سَطْرًا أَوْ سَطْرَيْنِ ثُمَّ يَتْرُكَ بَيَاضًا خَارِجًا عَنْ الْعَادَةِ
، فَهُوَ أَيْضًا مِنْ بَابِ إضَاعَةِ الْمَالِ ، وَالسَّرَفِ ، وَالْخُيَلَاءِ
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَقٍّ ، أَوْ ، وَرَقٍ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا
مُخَالَفَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَكَانَ فِعْلُهُمْ
لِذَلِكَ قَبِيحًا ، فَكَيْفَ بِهِ مَعَ مُصَادَمَةِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ
الْمَانِعَةِ مِنْ السَّرَفِ .
( تَنْبِيهٌ آخَرُ ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَحْضُرَ كَتْبَ
صَدَاقٍ فِي مَوْضِعٍ مَفْرُوشٍ بِحَرِيرٍ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ فِي الْغَالِبِ
، أَوْ يَجْلِسَ عَلَى حَرِيرٍ ، أَوْ يَسْتَنِدَ إلَيْهِ ، أَوْ إلَى وِسَادَةٍ
مُطَرَّزَةٍ بِحَرِيرٍ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ وُسْعِ
الطِّرَازِ بِالْحَرِيرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَدْرُ الَّذِي يُبَاحُ ،
وَيُتَسَامَحُ فِي إبَاحَتِهِ مِنْ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ
مِنْ الدُّخُولِ تَحْتَ السَّقْفِ الْمُذَهَّبِ ، وَمِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي
فِيهَا تَمَاثِيلُ ، أَوْ صُوَرٌ مَمْنُوعَةٌ شَرْعًا ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ
أَنْ يَحْضُرَ الْكَتْبَ
فِي مَوْضِعٍ فِيهِ مُنْكَرٌ بَيِّنٌ ، أَوْ مَعَ مَنْ يَتَعَاطَى
ذَلِكَ جَهْرًا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ثَمَّ شُرْبُ خَمْرٍ ، أَوْ مَغَانٍ عَلَى مَا
يُعْلَمُ مِنْ حُضُورِهِنَّ بِآلَاتِ الطَّرَبِ ، وَكَشْفِ الْوُجُوهِ ،
وَالْمَعَاصِمِ ، أَوْ يَكُونَ ثَمَّ نِسَاءٌ مُتَبَرِّجَاتٌ سَوَاءٌ اخْتَلَطْنَ
بِالرِّجَالِ أَمْ لَا .
وَكَذَلِكَ لَا يَحْضُرُ مَوْضِعًا فِيهِ مَغَانِي
الرِّجَالِ بِالْآلَاتِ الْمَمْنُوعَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا ، وَإِنْ كَانَ
مَكْرُوهًا دُونَهَا ، وَلَا فِي مَكَان تَحْضُرُهُ الشَّيْخَةُ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمِ
ذِكْرُهَا ، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى الْخَيْرِ ،
وَالصَّلَاحِ ، وَالْعِلْمِ ، أَوْ أَحَدِهَا أَنْ لَا يُجِيبَ إلَى مَوْضِعٍ
فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ ، وَمَا أَشْبَهَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْحٌ فِي
خَيْرِهِ ، وَصَلَاحِهِ ، وَعِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُ
ذَلِكَ ، وَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِ مِنْ التَّغْيِيرِ أَنْ لَا يُجِيبَ
لِمَوْضِعٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهُ أَنَّ امْتِنَاعَهُ
مِنْ أَجْلِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا ، وَإِنْ
كَانَ هَذَا فِي حَقِّ النَّاسِ كُلِّهِمْ مَمْنُوعًا فِي النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ ،
لَكِنْ فِي حَقِّ الْعَدْلِ آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَضَرَ شَيْئًا مِنْ هَذَا ،
وَمَا شَاكَلَهُ تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ مَفْسَدَتَانِ عَظِيمَتَانِ : إحْدَاهُمَا :
وَهِيَ أَشَدُّهُمَا : سُقُوطُ عَدَالَتِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَإِذَا سَقَطَتْ
عَدَالَتُهُ بَطَلَتْ الْعُقُودُ الَّتِي يَشْهَدُ فِيهَا إنْ كَانَ النِّصَابُ
لَمْ يَكْمُلْ إلَّا بِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ قُدْوَةٌ فَيَقَعُ
الْعَوَامُّ بِسَبَبِ تَعَاطِيهِ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِ جَوَازِهِ فِي الشَّرْعِ
فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ بِزِيَادَةِ مَا لَيْسَ
مِنْهُ ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ ذَمِّ الشَّرْعِ حَيْثُ قَالَ : { وَمَنْ سَنَّ
سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ } انْتَهَى .
وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ تَسَاهَلَ فِيهِ أَكْثَرُهُمْ
الْيَوْمَ ، وَفِيهِ مِنْ الْخَطَرِ
مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
( تَنْبِيهٌ آخَرُ ) ، وَكَذَلِكَ يَحْتَرِزُ الشَّاهِدُ
عَلَى نَفْسِهِ مِمَّا اعْتَادَهُ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّ
الْقَاضِيَ إذَا أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ فِي إمْضَاءِ الْحُكْمِ قَامَ الشُّهُودُ
لَهُ إذْ ذَاكَ ، وَانْحَنُوا حَتَّى يَقْرُبَ بَعْضُهُمْ مِنْ الرُّكُوعِ
الْمَمْنُوعِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَكَلَّمُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَلْفَاظٍ
مُنَمَّقَةٍ مَمْنُوعَةٍ فِي الشَّرْعِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ التَّزْكِيَةِ ،
وَالتَّمَلُّقِ بِالْبَاطِلِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ قَدْحٌ فِيمَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ ، وَفِيمَنْ رَضِيَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ يُحْتَرَزُ مِنْ قِيَامِهِ
عِنْدَ عُطَاسٍ لِلْقَاضِي ، وَمِنْ تَشْمِيتِهِ بِأَلْفَاظِهِمْ الَّتِي
اعْتَادُوهَا الْيَوْمَ ، وَلَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ .
وَقَدْ وَقَعَ بِهَذَا الَّذِي ذُكِرَ التَّنْبِيهُ
بِالْأَقَلِّ عَلَى الْأَكْثَرِ ، وَبِالْأَصْغَرِ عَلَى الْأَكْبَرِ ،
فَلْيَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ مَنْ يَتَنَبَّهُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوَفِّقُنَا ،
وَإِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ بِمُحَمَّدٍ ، وَآلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - .
( تَنْبِيهٌ آخَرُ ) ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا جَاءَهُ
الْخَصْمَانِ لِيَشْهَدَ عَلَيْهِمَا بِتَقْيِيدِ أَلْفَاظِهِمَا ، وَمَا شَاكَلَ
ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَهُمَا حِينَ الْمُشَاجَرَةِ ، أَوْ الرَّجُلُ وَزَوْجَتُهُ
يُرِيدَانِ الْفِرَاقَ أَنْ يَكْسِرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَهْمَا
أَمْكَنَهُ ، وَيُشِيرَ عَلَيْهِمَا بِالصُّلْحِ جَهْدَهُ ، وَيَذْكُرَ لَهُمَا
مَا فِي الصُّلْحِ مِنْ الْخَيْرِ ، وَالْبَرَكَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ ، أَوْ مَعْرُوفٍ ، أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } ، وَقَالَ
اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ، أَوْ
إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ،
وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَلَا يُعْجِلُ الشَّاهِدَ عَلَيْهِمَا بِالشَّهَادَةِ إلَّا
بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْ صُلْحِهِمَا ، وَيَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ خَيْرٌ لَهُمَا ،
وَالشَّهَادَةَ أَوْجَبُ عَلَيْهِمَا لِمَا يَرَاهُ مِنْ حَسْمِ بَابِ النِّزَاعِ
بَيْنَهُمَا ، وَيُخْبِرُهُمَا بِمَا فِي التَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ مِنْ
الْآثَامِ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ لِامْتِثَالِ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ
.
وَفِيهِ تَرْكُ الِاسْتِشْرَافِ لِمَا فِي أَيْدِي
النَّاسِ مِنْ الْحُطَامِ ، وَبِهِ تَحْصُلُ الْبَرَكَةُ لِمَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ : {
إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ
بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ
} ، وَقَدْ أَدْرَكْت بَعْضَ الشُّهُودِ بِمَدِينَةِ فَاسَ إذَا جَاءَهُمْ مَنْ
ذُكِرَ مِنْ الْمُتَخَاصِمَيْنِ لَا يُعْجِلُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِشْهَادِ حَتَّى
يَيْأَسُوا مِنْ صُلْحِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَانَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ
الْخَيْرُ وَالْبَرَكَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبَبٌ غَيْرَ مَا هُمْ فِيهِ ،
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ كَانَ حَالُهُمْ أَجْمَلَ حَالٍ فِي الْيَسَارِ وَالسَّعَةِ ،
فَظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتُ الِامْتِثَالِ لِمَا قَالَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إذْ
الْبَرَكَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَإِذَا حَصَلَتْ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى
الْأَسْبَابِ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ ، وَلِأَجْلِ تَرْكِ النَّظَرِ إلَى هَذَا
الْمَعْنَى كَثُرَتْ الْيَوْمَ الْأَشْغَالُ وَالشَّهَادَاتُ ، وَامْتَحَقَتْ
الْبَرَكَاتُ سِيَّمَا إنْ حَصَلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ
الْيَوْمَ مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي التَّحْلِيلِ ، فَإِنَّهَا كَالتِّرْيَاقِ
الْمُجَرَّبِ قَدْ عُلِمَتْ بِالْعَادَةِ الْمَاضِيَةِ فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ
فَعَلَ ذَلِكَ ، وَتَعَانَّاهُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ ، وَالْوَلِيِّ ، وَالشُّهُودِ
سُلِّطَ عَلَيْهِ الْفَقْرُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا تَجِدُ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ
يَحْصُلُ لَهُ فِي الْيَوْمِ جُمْلَةً مِنْ الْفِضَّةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ حَالُهُ
ضَيِّقٌ ، وَتَجِدُ عَلَيْهِ الدَّيْنَ ، وَيَشْتَكِي بِالْفَقْرِ ، وَالْفَاقَةِ
الْكَثِيرَةِ ، وَهَذَا حَالُ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ الِاسْتِشْرَافُ
كَمَا تَقَدَّمَ ذَمُّهُ فِي الْحَدِيثِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الشَّاهِدَ إذَا فَعَلَ مَا
ذَكَرْتُمُوهُ يَقِلُّ عَلَيْهِ الشُّغْلُ ، وَقَدْ يَنْعَدِمُ فِي أَكْثَرِ
الْأَوْقَاتِ فَيَضِيعُ حَالُهُ ، وَحَالُ عِيَالِهِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ
الشُّغْلَ الْقَلِيلَ مَعَ امْتِثَالِ السُّنَّةِ أَبْرَكُ مِنْ الْكَثِيرِ مَعَ مُخَالَفَتِهَا
، بَلْ مَا مَعَ الْمُخَالَفَةِ بَرَكَةٌ أَصْلًا ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : ( { لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ
رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ } انْتَهَى .
فَأَرْشَدَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِمَا فِيهِ صَلَاحُ أُمَّتِهِ دِينًا وَدُنْيَا ، فَمَنْ حَاوَلَ الرَّاحَةَ فِي
غَيْرِهِ فَقَدْ رَامَ شَطَطًا ، وَتَعِبَ ، وَأَتْعَبَ فَلْيَحْذَرْ الْعَاقِلُ
مِنْ هَذَا الْأَمْرِ ، فَإِنَّهُ خَطِيرٌ ثُمَّ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ
الْأَشْغَالِ الْكَثِيرَةِ يَحْصُلُ لَهُ الْبَرَكَةُ ، وَفَرَاغُ السِّرِّ ،
وَقَدْ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الْمُطَالَعَةِ وَالدَّرْسِ ، وَهُوَ فِي
دُكَّانِهِ بِخِلَافِ حَالِهِ مَعَ كَثْرَةِ الْأَشْغَالِ الْمَكْرُوهَةِ شَرْعًا
، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَمْتَحِقُ
مِنْهَا ، وَيَتَعَوَّقُ بِهَا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ
، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ،
وَأَزْكَاهَا ، وَأَبْرَكُهَا فَلْيَشُدَّ عَلَى ذَلِكَ يَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا
شَيْءَ أَبَرْكُ مِمَّا هُوَ فِيهِ أَلَا تَرَى إلَى مَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي
خَرَّجَهُ صَاحِبُ الْحِلْيَةِ ، وَصَحَّحَهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
فِي فَضْلِ الْعِلْمِ ، وَالثَّنَاءِ عَلَى حَامِلِهِ ، وَبَرَكَتِهِ ، وَالتَّنْوِيهِ
بِقَدْرِهِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنْ مُعَاذٍ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( { تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ
حَسَنَةٌ ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ ، وَتَعْلِيمَهُ
لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ } ؛ لِأَنَّهُ
مَعَالِمُ الْحَلَالِ ، وَالْحَرَامِ ، وَمَنَارُ سَبِيلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ،
وَالْأُنْسُ فِي الْوَحْشَةِ ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ ، وَالْمُحَدِّثُ فِي
الْخَلْوَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ ، وَالْمُعِينُ عَلَى الضَّرَّاءِ ،
وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الْأَخِلَّاءِ يَرْفَعُ
اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً
تُقْتَفَى آثَارُهُمْ ، وَيُقْتَدَى بِأَفْعَالِهِمْ ، وَيُنْتَهَى إلَى
رَأْيِهِمْ تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خُلَّتِهِمْ ، وَبِأَجْنِحَتِهَا
تَمْسَحُهُمْ ، وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ حَتَّى الْحِيتَانُ
فِي الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ ، وَسِبَاعُ الطَّيْرِ ، وَأَنْعَامُهُ ؛ لِأَنَّ
الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنْ الْجَهْلِ ، وَمِصْبَاحُ الْأَبْصَارِ مِنْ
الظُّلْمَةِ بِالْعِلْمِ تُبْلَغُ مَنَازِلُ الْأَخْيَارِ ، وَالدَّرَجَاتِ
الْعُلَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ الصِّيَامَ
، وَمُدَارَسَتُهُ الْقِيَامَ ، وَبِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ ، وَيُعْرَفُ الْحَلَالُ
، وَالْحَرَامُ الْعِلْمُ إمَامٌ ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ
، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءُ
.
فَصْلٌ فِي آدَابِ الْعَالِمِ ، وَالْمُتَعَلِّمِ فِي
بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِي ،
فَإِذَا فَعَلَتْ زَوْجَةُ أَحَدِهِمَا شَيْئًا نُسِبَ ذَلِكَ لِلشَّرْعِ ،
وَصَارَ حُجَّةً فِي الدِّينِ غَالِبًا ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا
أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى تَصَرُّفِ أَهْلِهِ كَمَا يَتَحَفَّظُ عَلَى تَصَرُّفِهِ
فِي نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ }
) يَعْنِي فِي امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ ، وَالنَّوَاهِي ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا
فَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي النُّعُوتِ مِنْ الذَّمِّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ
وَالرِّجَالِ ، وَمَا فِي قِيَامِ الرِّجَالِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ مِنْ الذَّمِّ ،
وَقِيَامُ الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ أَشْنَعُ إذْ أَنَّهَا عَوْرَةٌ ، وَحَرَكَتُهَا
زِيَادَةٌ فِي ظُهُورِ الْعَوْرَةِ ؛ لِأَنَّ فِي قِيَامِهَا يُرَى مِنْهَا مَا
لَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى رُؤْيَتِهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْقِيَامَ فِي حَقِّهَا
أَشَدُّ مِنْ قِيَامِ الرَّجُلِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا لَهُ إلَّا
فِيمَا اُسْتُثْنِيَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُفَاحِشَهَا ، وَقَدْ
مَنَعَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ
الْعَالِمِ ، وَالْمُتَعَلِّمِ فَكَيْفَ بِهِ فِي حَقِّهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا
قُدْوَةٌ ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ انْتَهَى .
وَلَهُ فِي الِانْبِسَاطِ بِمَا يَجُوزُ شَرْعًا
اتِّسَاعٌ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى غَيْرِهِ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ تَتَزَيَّنَ
زَوْجَتُهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي غَيْرِ مَا أُبِيحَ لَهَا ، إذْ أَنَّ
الشَّرْعَ إنَّمَا أَجَازَ لَهُنَّ لِبَاسَ الْحَرِيرِ ، وَالتَّحَلِّي
بِالذَّهَبِ عَلَى أَبْدَانِهِنَّ ، إذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَتْرُكَهَا تَتَّخِذُ الْمُكْحُلَةَ ، أَوْ الْمِيلَ ، أَوْ الْمِرْآةَ
مِنْ ذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ ؛ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِينَةٍ شَرْعِيَّةٍ ،
وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهَا مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى
فِي هَذَا الزَّمَانِ حَتَّى صَارَ كَأَنَّهُ شَعِيرَةٌ
بَيْنَهُمْ ، وَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَدْخُلُ عَلَى زَوْجِهَا فِي
الْغَالِبِ إلَّا بِثَلَاثِ دِكَكٍ دِكَّةِ فِضَّةٍ ، وَدِكَّتَيْ نُحَاسٍ
أَبْيَضَ وَأَصْفَرَ ، وَهَذَا لَا قَائِلَ بِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَعْنِي مَا
كَانَ مِنْ ذَلِكَ فِضَّةً إذْ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ
، وَإِنْ كَانَ قَدْ اُخْتُلِفَ فِي اتِّخَاذِ الْإِنَاءِ الصَّغِيرِ لِلْمَرْأَةِ
لَكِنَّهُ قَوْلٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ آثِمٌ فِي فِعْلِهِ ، وَادِّخَارِهِ
، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ تَمْضِي عَلَيْهِ ،
وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ الْوَلِيِّ أَنْ يَمْنَعَ مَا أَحْدَثَهُ
النِّسَاءُ مِنْ تَزْيِينِهِنَّ لِلْحَوَاجِبِ بِمَا يَمْنَعُ وُصُولَ الْمَاءِ
إلَى الْبَشَرَةِ ، سِيَّمَا إنْ كَانَ نَجِسًا إذْ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ
اتِّفَاقًا ، وَأَمَّا النَّقْشُ ، وَالتَّكْتِيبُ فَلَا شَكَّ فِي مَنْعِهِ ؛
لِأَنَّهُ نَجِسٌ ، وَحَائِلٌ ، وَيَزِيدُ عَلَى مَا ذُكِرَ بِكَشْفِ الْعَوْرَةِ
لِأَجْلِهِ إذْ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إلَّا وَجْهَهَا
وَكَفَّهَا ، وَاخْتُلِفَ فِي حَالِهَا مَعَ النِّسَاءِ مِثْلِهَا مِنْ
الْمُسْلِمَاتِ فَقِيلَ : كَالرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ ،
وَقِيلَ : كَالرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ ، وَفِيهِ مِنْ التَّشْوِيهِ أَعْنِي فِي النَّقْشِ
وَالتَّكْتِيبِ ، أَنَّهُنَّ يُغَيِّرْنَ بِهِ الْبَدَنَ ، وَيُكْسِبُهُ ذَلِكَ
خُشُونَةً ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَغِّصُ عَلَى الرَّجُلِ فِي الِاسْتِمْتَاعِ ،
وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى وُقُوعِ الْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ غَفَلَتْ
الْمَرْأَةُ عَنْ نَفْسِهَا قَلِيلًا بَقِيَ بَدَنُهَا كَأَنَّهُ ضُرِبَ
بِالسِّيَاطِ .
وَالْغَالِبُ أَنَّ بَدَنَهَا يُدْمِي فَتَزِيدُ
النَّجَاسَةُ ، وَيَكْثُرُ ضِدُّ مُرَادِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّبَاعُدِ عَنْهَا ، وَأَمَّا هِيَ فَالْغَالِبُ
أَنَّهَا تُقَاسِي مِنْ ذَلِكَ شِدَّةً حَتَّى تَبْرَأَ ، فَإِذَا بَرِئَتْ بَقِيَ
أَثَرُهُ فِي بَدَنِهَا حُفَرًا حُفَرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُسْتَوِيًا صَحِيحًا سَالِمًا
مِنْ الْعُيُوبِ ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ
الْبِدْعَةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا بَعْضُ النِّسَاءِ فِي
الْغَالِبِ ، وَهِيَ أَنَّهَا إذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجَ لَبِسَتْ أَحْسَنَ
ثِيَابِهَا ، وَتَزَيَّنَتْ ، وَتَعَطَّرَتْ ، وَلَبِسَتْ مِنْ الْحُلِيِّ مَا
قَدَرَتْ عَلَيْهِ مِنْ سِوَارٍ ، وَخَلْخَالٍ ، وَتُضِيفُ إلَى ذَلِكَ فِعْلًا
قَبِيحًا شَنِيعًا ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلَ الْخَلْخَالَ فَوْقَ السَّرَاوِيلِ
لِكَيْ يَظْهَرَ ، وَقَدْ تَضْرِبُ بِرِجْلِهَا فِي الْغَالِبِ فَيُسْمَعُ لَهُ
حِسٌّ .
وَهَذَا خِلَافُ مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ
حَيْثُ يَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا
مَا ظَهَرَ مِنْهَا } إلَى قَوْله تَعَالَى { ، وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ
مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ } ، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَلْنَهُ مِنْ لُبْسِ
هَذَا الْإِزَارِ الرَّفِيعِ الَّذِي لَوْ عُمِلَ عَلَى عُودٍ لَأَفْتَنَ بَعْضَ
الرِّجَالِ فِي الْغَالِبِ لِحُسْنِ مَنْظَرِهِ ، وَصِقَالَتِهِ ، وَرِقَّةِ
قُمَاشِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السُّنَّةَ فِي حَقِّ
الْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَتْ الْخُرُوجَ أَنْ تَلْبَسَ حَشَفَ ثِيَابِهَا ، وَمَعَ
ذَلِكَ فَالسُّنَّةُ فِي حَقِّهَا أَنْ تَجُرَّ مِرْطَهَا خَلْفَهَا نَحْوًا مِنْ
شِبْرٍ إلَى ذِرَاعٍ ، وَأَنْ تَمْشِيَ مَعَ الْجُدْرَانِ ، وَتَتْرُكَ وَسَطَ
الطَّرِيقِ ، وَهَذَا فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْعَالِمِ
، وَالْمُتَعَلِّمِ فَيَجِلُّ حَالُهُمَا أَنْ يَرْضَيَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمَا قُدْوَةٌ لِلْمُقْتَدِينَ فَإِذَا رَأَى أَحَدٌ
زَوْجَةَ الْعَالِمِ ، أَوْ الْمُتَعَلِّمِ تَعْمَلُ شَيْئًا مِمَّا ذُكِرَ
يَنْسُبُ ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذِهِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ
، فَكَيْفَ تُنْسَبُ إلَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ مَعَاذَ اللَّهِ ؟ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا ثَلَاثُ خَرْجَاتٍ فَإِنْ كَانَ ، وَلَا بُدَّ مِنْ
الزِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثِ فَلْيَكُنْ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ
لِسَانِ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ .
وَيُعَلِّمُهَا السُّنَّةَ فِي الْخُرُوجِ ، وَفِي
الْإِقَامَةِ فِي بَيْتِهَا إذْ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي بَيْتِهَا
فَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَفْعَلَ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهَا
تَفْعَلُهُ فِي خُرُوجِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { جِهَادُ الْمَرْأَةِ حُسْنُ التَّبَعُّلِ } ، وَمِنْ
حُسْنِ التَّبَعُّلِ التَّزَيُّنُ وَالتَّحَلِّي ، وَالتَّعَطُّرُ فِي بَيْتِهَا
لِزَوْجِهَا مَعَ حُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأَنِّي لَهُ ، وَلَهَا فِي ذَلِكَ
أُسْوَةٌ بِالسَّلَفِ ، وَالْخَلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ .
وَكَذَلِكَ يُحْذَرُ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي
اعْتَادَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَنَامُونَ فِي ثِيَابِهِمْ ، وَالسُّنَّةُ
الْفِرَاشُ ، وَالتَّجْرِيدُ مِنْ الثِّيَابِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْأَرْبَعِينَ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ مَا
هُوَ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّجْرِيدِ وَالْفِرَاشِ ، وَفِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّهَا قَامَتْ مِنْ فِرَاشِهَا قَالَتْ :
فَجَعَلْت دِرْعِي فِي رَأْسِي ، وَاخْتَمَرْت ، وَتَقَنَّعْت إزَارِي إلَى أَنْ
قَالَ : فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي حِينَ رَأَيْت
فَنَادَانِي فَأَخْفَيْته مِنْك ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْك ، وَقَدْ
وَضَعْت ثِيَابَك } ، وَلْيُحْذَرْ
مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُهُمْ ، وَهِيَ
قَبِيحَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ الزَّوْجَةَ إذَا جَاءَتْ إلَى
الْفِرَاشِ تَأْخُذُ شَيْئًا يُعْطِيهِ لَهَا زَوْجُهَا فِي الْغَالِبِ غَيْرَ
نَفَقَتِهَا بِحَسْبِ حَالِهِ ، وَحَالِهَا لِحَقِّ الْفِرَاشِ عَلَى مَا
يَزْعُمْنَ ، وَهَذَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ ، وَقَدْ وَقَعَ بِمَدِينَةِ فَاسَ
أَنَّهُمْ أَحْدَثُوا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا دَخَلَ عَلَى زَوْجَتِهِ يُعْطِي
فِضَّةً عِنْدَ حَلِّ السَّرَاوِيلِ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءَ فَقَالُوا :
هُوَ شَبِيهٌ بِالزِّنَا ، وَمَنَعُوهُ ، وَهَذَا إنَّمَا كَانَ فِي أَوَّلِ
لَيْلَةٍ فَمَا بَالُك بِهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ، وَلْيُحْذَرْ مِنْ هَذِهِ
الْبِدْعَةِ الْأُخْرَى بَلْ الْمُحَرَّمِ ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ يَغْفُلُ عَنْ
زَوْجَتِهِ فِي الْغَالِبِ ، وَلَا يَسْأَلُهَا عَنْ صَلَاتِهَا ، وَلَا عَمَّا
يَلْزَمُهَا فِي الشَّرْعِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَالرَّجُلُ
رَاعٍ فِي بَيْتِهِ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
} ، فَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ صَلَاتِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ سَيِّدِي
أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ أَهْلِهِ ، وَالْغَالِبُ فِي هَذَا
الزَّمَانِ : أَنَّ الرَّجُلَ يُرَاعِي حَقَّ نَفْسِهِ إذَا كَانَتْ لَهُ عِنَايَةٌ بِدِينِهِ
فَيَطَأُ ، وَيَخْرُجُ إلَى الْحَمَّامِ ، وَيَتْرُكُ أَهْلَهُ ، وَهُنَّ جُنُبٌ ،
وَلَيْسَ عِنْدَهُنَّ مَوْضِعٌ لِلْغُسْلِ ، وَلَا آلَةٌ تُعِينُ عَلَيْهِ ،
وَقَدْ يَسْتَحِي بَعْضُهُنَّ ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنْ يَخْرُجْنَ إلَى
الْحَمَّامِ فِي كُلِّ أَوَانٍ ، فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ ،
وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ جِهَةِ أَهْلِهِ فِي
تَرْكِهِنَّ الصَّلَاةَ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَإِنْ أَمَرَهُنَّ بِهَا
فَأَمْرٌ مُطْلَقٌ إذْ لَا يُفَكِّرُ لَهُنَّ فِي تَحْصِيلِ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ
مَضَرَّةٍ تَلْحَقُهُنَّ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ تَرْكَ صَلَاةِ الزَّوْجَةِ إنَّمَا
هُوَ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَتِهَا ، وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي الْغَالِبِ
أَعْنِي الْغَفْلَةَ عَنْهَا ، وَإِيثَارَهَا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ
يَكُونُ لَهَا فِي الْبَيْتِ مَا يُمْكِنُهَا الْغُسْلُ فِيهِ لَكِنْ تَسْتَحِي
مِنْ الْعَائِلَةِ الَّتِي فِي الْبَيْتِ أَنْ تَغْتَسِلَ ، وَهُمْ يَشْعُرُونَ
بِهَا فَتَتْرُكَ الصَّلَاةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ
الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا ، وَلَا حَيَاءَ فِي الدِّينِ ،
وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ جَرَتْ ، وَاسْتَحْكَمَتْ ، وَصَارَ يُسْتَحَى فِي
الْغَالِبِ مِنْ فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ ، وَلَا يُسْتَحَى مِنْ فِعْلِ
الْمُحَرَّمَاتِ ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
وَالْعَجَبُ مِنْ أَكْثَرِهِمْ أَنَّ الْوَاحِدَ
مِنْهُمْ يَشْتَرِي الدَّارَ بِالْأَلْفِ ، أَوْ يَبْنِيهَا ابْتِدَاءً ثُمَّ
يَتَوَضَّأُ فِي طَسْتٍ ، وَلَا يَعْمَلُ مَوْضِعًا لِلْوُضُوءِ فَضْلًا عَنْ
مَوْضِعِ الْغُسْلِ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَجْلِ الْعَوَائِدِ الرَّدِيئَةِ
الْمُسْتَهْجَنَةِ الْقَبِيحَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا فِكْرَةَ لَهُمْ فِي
الْغَالِبِ إلَّا فِي صَلَاحِ دُنْيَاهُمْ ، وَمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ
فَلَا يُفَكِّرُونَ
فِيهِ حَتَّى يَفْجَأَهُمْ إنْ كَانُوا مُتَّقِينَ فِي
هَذَا الزَّمَانِ ، فَإِنْ أَصَابَتْ الْجَنَابَةُ بَعْضَ الْمُتَحَفِّظِينَ
مِنْهُمْ عَلَى دِينِهِ خَرَجَ إلَى الْحَمَّامِ ، وَتَرَكَ أَهْلَهُ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَفِي الْحَمَّامِ مِنْ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ
أَشْيَاءُ مُتَعَدِّدَةٌ .
وَكَذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَهُمْ يُعْطِي فِي صَدَاقِ الْمَرْأَةِ
الْمِئِينَ ، أَوْ الْآلَافَ ، وَلَا يُعِدُّ مَوْضِعًا لِلْغُسْلِ بِشَيْءٍ
يَسِيرٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُسَاعِدُهُ عَلَى تَرْكِ ذَلِكَ
فَكَأَنَّهُمْ اصْطَلَحُوا عَلَى فِعْلِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُتْرَكُ الصَّلَاةُ
لِأَجْلِهَا ، وَالصَّلَاةُ لَا تَسْقُطُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنَّ
التَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا قَلَّ أَنْ يَقَعَ ، وَإِنْ دَامَتْ الْأُلْفَةُ
بَيْنَهُمَا فَعَلَى دَخَنٍ ، وَإِنْ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا مَوْلُودٌ فَالْغَالِبُ
عَلَيْهِ إنْ نَشَأَ الْعُقُوقُ ، وَارْتِكَابُ مَا لَا يَنْبَغِي كُلُّ ذَلِكَ
بِسَبَبِ تَرْكِ مُرَاعَاةِ مَا يَجِبُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُمَا مَعًا
، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ
لَهَا زَوْجُهَا مَوْضِعًا لِلْغُسْلِ لَحَكَمَ لَهَا بِذَلِكَ عَلَيْهِ ، أَلَا
تَرَى أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ سُئِلَ عَنْ الْغُسْلِ مِنْ
مَاءِ الْحَمَّامِ فَقِيلَ لَهُ
: أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك الْغُسْلُ مِنْ مَاءِ
الْحَمَّامِ ، أَوْ الْغُسْلُ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ ؟ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا
دُخُولُ الْحَمَّامِ بِصَوَابٍ ، فَكَيْفَ يُغْتَسَلُ مِنْ مَائِهِ فَهَذَا
دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ غُسْلَهُمْ كَانَ فِي بُيُوتِهِمْ ، بَلْ إنَّ أَهْلَ
الْحِجَازِ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحَمَّامَ أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ سَتُفْتَحُ لَكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ ، وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ
لَهَا : الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلُهَا الرِّجَالُ إلَّا بِإِزَارٍ ،
وَامْنَعُوا مِنْهَا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً ، أَوْ نُفَسَاءَ } ، وَرَوَى
أَبُو دَاوُد ،
وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
{ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الرِّجَالَ
وَالنِّسَاءَ عَنْ دُخُولِ الْحَمَّامِ قَالَتْ : ثُمَّ رَخَّصَ لِلرِّجَالِ أَنْ
يَدْخُلُوهُ بِالْمِئْزَرِ } ، وَقَالَ : ( دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ نِسْوَةٌ مِنْ نِسَاءِ
أَهْلِ الشَّامِ فَقَالَتْ : لَعَلَّكُنَّ مِنْ الْكُورَةِ الَّتِي يَدْخُلُ
نِسَاؤُهَا الْحَمَّامَاتِ قُلْنَ : نَعَمْ قَالَتْ : أَمَا إنِّي سَمِعْت رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا مِنْ امْرَأَةٍ تَخْلَعُ
ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِهَا إلَّا هَتَكَتْ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى مِنْ حِجَابٍ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ
كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ
بِغَيْرِ إزَارٍ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُدْخِلُ
حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ،
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسُ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ
} ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَثِيرًا مَا يُحَافِظُ عَلَى مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ
إذَا عَزَمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْمُعْتَقِدِينَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ
سَأَلَهُ هَلْ عِنْدَك حَمَّامٌ فِي بَيْتِك أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ
مَضَى إلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ : لَا امْتَنَعَ مِنْ الْمُضِيِّ إلَيْهِ فَكَانَ ذَلِكَ
سَبَبًا إلَى تَيْسِيرِ الطَّهَارَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ عَرَفَهُ فِي الْغَالِبِ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْقُرَشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا يَسَّرَ عَلَيْهِ أَسْبَابَ الطَّهَارَةِ ، وَلَا شَكَّ
أَنَّ مَنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ مَوْضِعٌ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَقَدْ
تَيَسَّرَتْ عَلَيْهِ الطَّهَارَةُ ، إذْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ
التَّيْسِيرِ لَهَا
فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمَرْأَةِ الْحَمَّامَ وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ لَا يَأْذَنَ لِزَوْجَتِهِ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ لِمَا اشْتَمَلَ
عَلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الدِّينِيَّةِ ، وَالْعَوَائِدِ
الرَّدِيئَةِ ؛ لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اخْتَلَفُوا فِي
الْمَرْأَةِ مَعَ الْمَرْأَةِ هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ ؟
أَوْ حُكْمُ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ ، أَوْ حُكْمُ الرَّجُلِ
مَعَ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ ، وَهُنَّ قَدْ تَرَكْنَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَخَرَقْنَ
إجْمَاعَ الْأُمَّةِ بِدُخُولِهِنَّ الْحَمَّامَاتِ بَادِيَاتِ الْعَوْرَاتِ ،
وَإِنْ قَدَّرْنَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْهُنَّ سَتَرَتْ مِنْ سُرَّتِهَا إلَى
رُكْبَتِهَا عِبْنَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، وَأَسْمَعْنَهَا مِنْ الْكَلَامِ مَا لَا
يَنْبَغِي حَتَّى تُزِيلَ السُّتْرَةَ عَنْهَا ، ثُمَّ يَنْضَافَ إلَى ذَلِكَ مُحَرَّمٌ
آخَرُ : هُوَ أَنَّ الْيَهُودِيَّةَ ، وَالنَّصْرَانِيَّة لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ
تَرَى بَدَنَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ ، وَهُنَّ يَجْتَمِعْنَ فِي الْحَمَّامَاتِ
مُسْلِمَاتٍ ، وَنَصْرَانِيَّاتٍ ، وَيَهُودِيَّاتٍ فَيَكْشِفُ بَعْضُهُنَّ عَلَى
عَوْرَاتِ بَعْضٍ ، فَكَيْفَ يَأْذَنُ أَحَدٌ أَهْلَهُ فِي دُخُولِهَا ، فَإِنْ
قَالَ : إنَّهُ يَأْخُذُ لِأَهْلِهِ الْخَلْوَةَ فَمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَفَاسِدِ
لَا تُذْهِبُهُ الْخَلْوَةُ إذْ أَنَّهُنَّ حِينَ الدُّخُولِ فِيهَا ، وَالْخُرُوجِ
مِنْهَا ، وَالْجُلُوسِ فِي الْمَقْطَعِ يَكْشِفْنَ عَلَى عَوْرَاتِ غَيْرِهِنَّ ،
وَيُكْشَفُ عَلَيْهِنَّ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْخَلْوَةُ خَارِجَةً عَنْ
الْحَمَّامِ ، فَكَأَنَّهَا حَمَّامٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ، فَهَذَا جَائِزٌ
بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ دَخَلَ يَسْتَتِرُ السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ .
وَلَا يُمَكِّنُ الْبَلَّانَةَ مِنْ الدُّخُولِ عَلَى
أَهْلِهِ ، وَهِيَ مُنْكَشِفَةٌ حَتَّى تَسْتَتِرَ السُّتْرَةَ الشَّرْعِيَّةَ ،
فَهَذَا لِلضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْلَى لِأَهْلِهِ
الْحَمَّامَ بِلَيْلٍ ، وَاسْتَتَرْنَ ، فَلَا بَأْسَ إذَنْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
فِي الْخَلْوَةِ ، لَكِنْ لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا ، إذْ أَنَّ
الْغُسْلَ فِي
الْبَيْتِ فِيهِ سَتْرٌ حَصِينٌ ، وَسَدٌّ لَبَاب
الذَّرِيعَةِ إلَى الْمَفَاسِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ إذَا
أَرَادَتْ الْحَمَّامَ اسْتَصْحَبَتْ مَعَهَا أَفْخَرَ ثِيَابِهَا ، وَأَنْفَسَ
حُلِيِّهَا فَتَلْبَسُهُ حِينَ فَرَاغِهَا مِنْ الْغُسْلِ فِي الْحَمَّامِ حَتَّى يَرَاهَا
غَيْرُهَا فَتَقَعُ بِذَلِكَ الْمُفَاخَرَةُ ، وَالْمُبَاهَاةُ ، وَقَلَّ أَنْ
تَقْنَعَ الْمَرْأَةُ الَّتِي تَرَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ زَوْجِهَا إلَّا
بِمِثْلِ ذَلِكَ ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ لِزَوْجِهَا
قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَتَنْشَأُ الْمَفَاسِدُ ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا
لِلْفِرَاقِ ، أَوْ الْإِقَامَةِ عَلَى شَنَآنٍ بَيْنَهُمَا لِطُولِ الْمُدَّةِ .
هَذَا حَالُ غَالِبِهِنَّ ، وَذَلِكَ ضِدُّ مَقْصُودِ
الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْأُلْفَةِ ، وَالْوُدِّ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ
تَعَالَى بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
{ ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا ، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } ، وَفِي
دُخُولِ الْحَمَّامِ مَفَاسِدُ جُمْلَةً ، وَفِيمَا ذُكِرَ غُنْيَةٌ عَنْ ذِكْرِ
بَاقِيهَا ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ عِنْدَ الْمُتَأَمِّلِ إنْ عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى
لِسَانِ الْعِلْمِ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ مَا فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ
فَإِنْ قَالَ مَثَلًا : الْغُسْلُ فِي الْبَيْتِ
يَصْعُبُ عَلَيْهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَوْ أَنْفَقَ فِي خَلْوَةٍ
يَعْمَلُهَا فِي الْبَيْتِ مِنْ بَعْضِ مَا يُعْطِي مِنْ الصَّدَاقِ أَوْ مِنْ
ثَمَنِ الْمِلْكِ لَانْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ ، فَلَوْ قَالَ أَيْضًا : إنَّ
الْغُسْلَ فِي الْبَيْتِ لَا يَكُونُ كَالْحَمَّامِ سِيَّمَا فِي أَيَّامِ
الْبَرْدِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ أَيَّامَ الْبَرْدِ يُمْكِنُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْتَغْنِيَ
فِيهَا عَنْ الْغُسْلِ بِالسِّدْرِ ، وَمَا شَاكَلَهُ ، إذْ أَنَّ أَيَّامَ
الْبَرْدِ لَا يَجْتَمِعُ فِيهَا الْوَسَخُ وَلَا الْغُبَارُ كَثِيرًا ، فَإِذَا
فَرَغَتْ أَيَّامُ الْبَرْدِ كَانَ الْغُسْلُ فِي الْبَيْتِ فِي الْمَوْضِعِ
الْمُهَيَّأِ لَهُ لَا مَشَقَّةَ فِيهِ ، وَيَكْفِيهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ
أَنَّهَا تَغْتَسِلُ مِنْ الْحَيْضِ كَمَا تَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ ، لَكِنْ
بِشَرْطِ أَنْ يُعَلِّمَ زَوْجَتَهُ سُرْعَةَ الْغُسْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ آمَنُ
مِمَّا يُتَوَقَّعُ مِنْ الضَّرَرِ بِهَا ، وَذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ الْمَاضِيَةِ
أَلَا تَرَى إلَى مَا خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ يَوْمًا فَسَوَّى النَّاسُ
صُفُوفَهُمْ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ فَقَالَ : عَلَى رِسْلِكُمْ ثُمَّ دَخَلَ
بَيْتَهُ ، وَخَرَجَ ، وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَصَلَّى بِهِمْ } فَهَذَا
دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى سُرْعَةِ غُسْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْحَمُ الْخَلْقِ بِأُمَّتِهِ ،
وَأَشْفَقُهُمْ عَلَيْهَا ، فَلَوْ كَانَ زَمَانُ الْغُسْلِ فِيهِ طُولٌ
لَأَمَرَهُمْ بِالْجُلُوسِ حِينَ ذَكَرَ سِيَّمَا ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِمْ
الضَّعِيفُ ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ ، وَلَنَا فِي فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ .
وَكَذَلِكَ يُعَلِّمُهَا إذَا اغْتَسَلَتْ فِي الْبَيْتِ
أَنْ تَتْرُكَ رَأْسَهَا مُغَطًّى لَا تَكْشِفُهُ حَتَّى إذَا جَاءَتْ إلَى غَسْلِهِ
كَشَفَتْهُ ، وَخَلَّلَتْ شَعْرَ رَأْسِهَا ، وَأَفَاضَتْ الْمَاءَ عَلَيْهِ ثُمَّ
نَشَّفَتْهُ فِي الْوَقْتِ ، وَغَطَّتْهُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغْسِلُ سَائِرَ
بَدَنِهَا ، وَإِنَّمَا
يَأْمُرُهَا بِذَلِكَ خِيفَةَ أَنْ يُصِيبَهَا فِي
رَأْسِهَا أَلَمٌ إنْ تَرَكَتْهُ مَكْشُوفًا حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ غُسْلِ جَمِيعِ
بَدَنِهَا ، وَلَهَا أَنْ تَتْرُكَ رَأْسَهَا مُغَطًّى حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ
غَسْلِ جَمِيعِ بَدَنِهَا ، ثُمَّ تَغْسِلَ رَأْسَهَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إلَّا تَرْكُ التَّرْتِيبِ فِيهِ ، وَهُوَ فِي الْغُسْلِ
لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمُغْتَسِلُ بِهِ أَلَمٌ فِي رَأْسِهِ لَا
يَقْدِرُ عَلَى كَشْفِهِ رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً فَإِنَّهُ يَغْسِلُ جَمِيعَ
بَدَنِهِ ، وَيَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ ، فَلَوْ كَانَ
يَضُرُّهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ مَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ ، أَوْ الْخِمَارِ ،
وَيُجْزِيهِ ذَلِكَ مَا دَامَ بِهِ الْأَذَى ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَلَمُ فِي
غَيْرِ رَأْسِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَيَمُّمٌ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ،
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْغُسْلِ
وَالتَّيَمُّمِ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فِي
شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ لِمَرَضٍ بِهِ ، أَوْ جُرْحٍ ، أَوْ لِمَا يَخْشَى أَنْ
يَنْزِلَ بِهِ مِنْ مَرَضٍ فَلَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، وَإِنْ طَالَ بِهِ ذَلِكَ ، وَقَدْ
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرْأَةِ إذَا طَهُرَتْ
مِنْ حَيْضَتِهَا ، وَهِيَ فِي سَفَرٍ مَعَ زَوْجِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا مِنْ
الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمَا لِغُسْلِهِمَا مِنْ الْجَنَابَةِ بَعْدَ غُسْلِهَا مِنْ
حَيْضَتِهَا فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ الْغُسْلِ مِنْ
حَيْضَتِهَا ، حَتَّى يَكُونَ مَعَهُمَا مِنْ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِمَا
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَطُولَ السَّفَرُ بِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ فَيَجُوزُ
لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا ، وَيَتَيَمَّمَا مِنْ جَنَابَتِهِمَا ، وَكَذَلِكَ
فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إنْ كَانَتْ الْمُدَّةُ قَصِيرَةً لَا يَتَضَرَّرُ بِهَا
الزَّوْجُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا ؛ لِعَجْزِهَا عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ
، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ ، وَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالزَّوْجِ فَذَلِكَ جَائِزٌ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : {
الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ لَمْ
يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدَهُ فَلْيُمِسَّهُ
بَدَنَهُ } ، أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْدَمَ الْمَاءَ ، أَوْ يَتَعَذَّرَ
عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ ، وَهَذَا كُلُّهُ جَارٍ عَلَى الِامْتِثَالِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ
كَذَلِكَ ، فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي دُخُولِ الْحَمَّامِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ
شَرْعًا فَلَوْ قَالَ مَثَلًا : الْغَالِبُ عَلَى النَّاسِ عَدَمُ الْجِدَةِ ،
وَالسُّكْنَى بِالْكِرَاءِ ، فَلَا يَتَأَتَّى لِأَكْثَرِهِمْ عَمَلُ مَوْضِعٍ فِي
الْبَيْتِ لِلِاغْتِسَالِ فِيهِ فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْبُيُوتِ
أَنْ يَكُونَ فِيهَا خِزَانَةٌ ، أَوْ مَوْضِعُ كَنِيفٍ فَيَتَّخِذُهُ لِلْغُسْلِ
فَيَجْعَلُ فِيهِ إنَاءً يَقْعُدُ فِيهِ مِثْلَ الْمَاجُورِ وَغَيْرِهِ ، وَالْمَقْصُودُ
أَنَّ مَنْ كَانَ هَمُّهُ صَلَاحَ دِينِهِ عَمِلَ الْحِيلَةَ فِي صَلَاحِهِ ،
وَدَرْءِ الْمَفَاسِدَ عَنْهُ ، وَهَذَا مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
فَصْلٌ فِي تَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ أَحْكَامَ الْغُسْلِ
وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِيهِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ غَيْرِهِ
مِمَّنْ يَلِي أَمْرَ الْمَرْأَةِ أَنْ يُعَلِّمَهَا أَحْكَامَ الْغُسْلِ ، وَمَا
يَجِبُ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَائِضِ ، وَالسُّنَنِ ، وَالْفَضَائِلِ ، وَإِنْ
كَانَ هَذَا مَوْجُودًا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، لَكِنْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى ذِكْرِهِ
هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ ،
وَسُنَنِهِ ، وَفَضَائِلِهِ لِتَتِمَّ الْآدَابُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فَيُعَلِّمَهَا أَنَّ الْغُسْلَ يَجِبُ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ
أَشْيَاءَ مِنْ الْإِنْزَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ جِمَاعٌ ، وَمِنْ الْتِقَاءِ
الْخِتَانَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إنْزَالٌ ، وَمِنْ دَمِ الْحَيْضِ ، وَمِنْ
دَمِ النِّفَاسِ ، وَفَرَائِضَهُ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا فِي الْمَذْهَبِ ، وَهِيَ
النِّيَّةُ ، وَالْمَاءُ الْمُطْلَقُ ، وَتَعْمِيمُ الْجَسَدِ بِالْمَاءِ ، وَاخْتُلِفَ
فِي ثَمَانٍ الْفَوْرُ ، وَالتَّدْلِيكُ ، وَالْبَدَنُ الطَّاهِرُ ، وَنَقْلُ
الْمَاءِ ، وَإِمْرَارُ الْيَدِ مَعَ الْمَاءِ ، وَدَوَامُ النِّيَّةِ ،
وَالْخُشُوعُ ، وَالتَّخْلِيلُ ، وَسُنَنَهُ خَمْسٌ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ
إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ ، وَالْمَضْمَضَةُ ، وَالِاسْتِنْشَاقُ ،
وَالِاسْتِنْثَارُ ، وَمَسْحُ الصِّمَاخَيْنِ ، وَفَضَائِلُهُ تِسْعٌ
التَّسْمِيَةُ ، وَالسِّوَاكُ ، وَالْمَوْضِعُ الطَّاهِرُ ، وَالْبُدَاءَةُ
بِغَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ، وَالْبُدَاءَةُ بِالْأَعْلَى فَالْأَعْلَى ،
وَالْبُدَاءَةُ بِالْأَيْمَنِ فَالْأَيْمَنِ ، وَالصَّمْتُ إلَّا عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ تَعَالَى ، وَالتَّشَهُّدُ ، وَالدُّعَاءُ بَعْدَ الْغُسْلِ
وَاخْتُلِفَ فِي الْخَاتَمِ فِي الْغُسْلِ ، وَالْوُضُوءِ
هَلْ يُحَرِّكُهُ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى مَا تَحْتَهُ أَمْ لَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ ، يُفَرَّقُ فِي الثَّالِثِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ ضَيِّقًا فَيُحَرِّكَهُ
، أَوْ وَاسِعًا فَيَتْرُكَهُ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْتَنْجِيَ وَهُوَ فِي يَدِهِ
إنْ كَانَ عَلَيْهِ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمٌ مِنْ
أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ
رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ إجَازَةُ ذَلِكَ ، لَكِنْ هِيَ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ عِنْدَ
أَهْلِ الْمَذْهَبِ عَنْ آخِرِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُعْرَجَ عَلَيْهَا ،
وَلَا يُلْتَفَتَ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ
إلَى آحَادِ الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى لِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّعْظِيمِ لِجَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَجَانِبِ
نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ
عَنْهُ .
فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ فِي السِّمَنِ بِحَيْثُ لَا
تَصِلُ يَدُهَا إلَى مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتْرُكَ
غَيْرَهَا يَغْسِلُ لَهَا ذَلِكَ مِنْ جَارِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا ، وَلَا يَجُوزُ
أَنْ يَكْشِفَ عَلَيْهَا غَيْرُ زَوْجِهَا فَإِنْ أَمْكَنَ زَوْجَهَا أَنْ
يَغْسِلَ لَهَا ذَلِكَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَلَهُ الْأَجْرُ فِي ذَلِكَ
وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ ، وَإِنْ أَبَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَاجِبًا ،
وَتُصَلِّي هِيَ بِالنَّجَاسَةِ ، وَلَا يَكْشِفُ عَلَيْهَا أَحَدٌ ؛ لِأَنَّ
سُتْرَةَ الْعَوْرَةِ وَاجِبٌ ، وَكَشْفَهَا مُحَرَّمٌ اتِّفَاقًا ، وَإِزَالَةُ النَّجَاسَةِ
فِي الصَّلَاةِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا : أَنَّ إزَالَتَهَا مُسْتَحَبَّةٌ ، وَمَا
اُخْتُلِفَ فِيهِ فَارْتِكَابُهُ أَيْسَرُ مِنْ الَّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ ، وَأَمَّا
الرَّجُلُ فَإِنْ كَانَ لَا يَصِلُ إلَى ذَلِكَ بِيَدِهِ ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ إنْ قَدَرَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً تَلِي ذَلِكَ مِنْهُ ، وَإِنْ
تَطَوَّعَتْ الزَّوْجَةُ بِغُسْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ شِرَاءُ الْجَارِيَةِ ،
وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَكْشِفَ عَوْرَتَهُ عَلَى غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ ، فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ فَصَلَاتُهُ بِالنَّجَاسَةِ أَخَفُّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَتِهِ ، وَهَذَا
كُلُّهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ فِي الْمَرْأَةِ الْمُبْدَنَةِ أَوْ الرَّجُلِ يَكُونُ مِثْلَهَا فِي
الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَصِلَانِ إلَيْهِ بِأَيْدِيهِمَا مِنْ ظُهُورِهِمَا إذَا
اغْتَسَلَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَلِي
ذَلِكَ مِنْهُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَّخِذُ خِرْقَةً أَوْ غَيْرَهَا
لِيُعَالِجَ ذَلِكَ بِهَا .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَغْمُرُهُ بِالْمَاءِ ، وَلَا
يَجِبُ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ .
وَالرَّابِعُ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ ،
وَالْكَثِيرِ
ثُمَّ يُعَلِّمُهَا الشُّرُوطَ الَّتِي يَسْقُطُ بِهَا
عَنْهَا الْوُضُوءُ ، وَالْغُسْلُ ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا التَّيَمُّمُ ، وَهِيَ
سِتٌّ .
أَنْ تَعْدَمَ الْمَاءَ أَوْ تَعْدَمَ بَعْضَهُ ، أَوْ
يَتَعَذَّرَ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِهِ ، وَوُجُودِ الْحَدَثِ ، وَوُجُودِ الصَّعِيدِ
، وَدُخُولِ الْوَقْتِ ، وَأَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالصَّلَاةِ .
ثُمَّ يُعَلِّمَهَا فَرَائِضَ التَّيَمُّمِ ، وَهِيَ
خَمْسٌ .
النِّيَّةُ ، وَالْفَوْرُ ، وَالضَّرْبَةُ الْأُولَى
بِالْأَرْضِ ، وَمَسْحُ الْوَجْهِ ، وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ ،
وَسُنَنُهُ ثَلَاثٌ .
الضَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ بِالْأَرْضِ ، وَالْمَسْحُ
مِنْ الْكُوعَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، وَالتَّرْتِيبُ ، وَفَضَائِلُهُ
أَرْبَعَةٌ .
التَّسْمِيَةُ ، وَالسِّوَاكُ ، وَالصَّمْتُ ، وَذِكْرُ
اللَّهِ تَعَالَى .
، وَيُعَلِّمَهَا
مَوَانِعَ الْحَيْضِ ، وَالنِّفَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَإِنَّمَا
وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَى التَّعْلِيمِ لِأَهْلِهِ لِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي بَيْتِهِ ،
وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ
} ، وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ يَقْبُحُ بِالْمُتَعَلِّمِ أَوْ الْعَالِمِ أَنْ تَسْأَلَ زَوْجَتُهُ
عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النِّسَاءُ فِي الدِّينِ ، فَلَا يَكُونُ
عِنْدَهَا عِلْمٌ بِذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا عَلَيْهَا ، فَهَذَا مِنْ
أَقْبَحِ الْأَشْيَاءِ ، وَأَرْذَلِهَا إذْ أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِلْمُتَقَدِّمِينَ
كَمَا تَقَدَّمَ
، فَصْلٌ فِي
دُخُولِ الرَّجُلِ الْحَمَّامَ وَلْيَحْذَرْ هُوَ أَيْضًا مِنْ دُخُولِ
الْحَمَّامِ مَهْمَا اسْتَطَاعَ تَرْكَهُ ، كَانَ بِهِ عِلَّةٌ أَوْ لَا ، بَلْ
أَوْجَبُ إذْ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي حَمَّامِ
النِّسَاءِ مَوْجُودَةٌ فِي الْغَالِبِ فِي حَمَّامِ الرِّجَالِ ، وَإِنْ كَانُوا
فِي السُّتْرَةِ أَوْجَدَ مِنْ النِّسَاءِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ إذَا دَخَلَ الْحَمَّامَ اسْتَتَرَ
بِالْفُوطَةِ فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِيهِ نَزَعَهَا ، وَبَقِيَ مَكْشُوفَ
الْعَوْرَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ إلَى الْمَسْلَخِ أَلْقَى مَا عَلَيْهِ ،
وَبَقِيَ مَكْشُوفًا حَتَّى يَتَنَشَّفَ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَ مَسْتُورُ الْعَوْرَةِ
مَعَ مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ تَحْتَ سَقْفٍ ، وَاحِدٍ .
وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِي مَعْنَى
كَرَاهَةِ مَالِكٍ لِلْغُسْلِ مِنْ مَاءِ الْحَمَّامِ ثَلَاثُ مَعَانٍ : أَحَدُهَا
: مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ تَنْكَشِفَ
عَوْرَتُهُ فَيَرَاهَا غَيْرُهُ أَوْ تَنْكَشِفَ عَوْرَةُ غَيْرِهِ فَيَرَاهَا
هُوَ ، إذْ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَنْ دَخَلَهُ مَعَ النَّاسِ
لِقِلَّةِ تَحَفُّظِهِمْ ، وَهَذَا إذَا دَخَلَ مُسْتَتِرًا مَعَ مُسْتَتِرِينَ ،
وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ غَيْرَ مُسْتَتِرٍ أَوْ مَعَ مَنْ لَا يَسْتَتِرُ فَلَا يَحِلُّ
ذَلِكَ وَمَنْ فَعَلَهُ فَذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي حَقِّهِ ، وَقَدْحٌ فِي شَهَادَتِهِ .
الْمَعْنَى الثَّانِي : أَنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ غَيْرُ
مُصَانٍ عَنْ الْأَيْدِي ، وَالْغَالِبُ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِيهِ مَنْ لَا
يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ مِثْلَ الصَّبِيِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
الَّذِي لَا يَعْرِفُ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ فَيَصِيرُ الْمَاءُ
مُضَافًا فَتَسْلُبُهُ الطُّهُورِيَّةُ
.
الثَّالِثُ : أَنَّ مَاءَ الْحَمَّامِ يُوقَدُ عَلَيْهِ
بِالنَّجَاسَاتِ ، وَالْأَقْذَارِ فَقَدْ يَصِيرُ الْمَاءُ مُضَافًا مِنْ
دُخَّانِهَا فَتَسْلُبُهُ الطُّهُورِيَّةُ أَيْضًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا
حَالُ أَهْلِ وَقْتِنَا فِي الْغَالِبِ ، وَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ مَسْتُورُ
الْعَوْرَةِ مَعَ مَكْشُوفِ الْعَوْرَةِ
كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ
بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُ الْحَمَّامِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْ
هُوَ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ ، وَيَصُونَ نَظَرَهُ وَسَمْعَهُ ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ
لَهُ الِاغْتِسَالُ فِي النَّهْرِ ، وَإِنْ كَانَ يَجِدُ ذَلِكَ فِيهِ كَمَا
يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسَاجِدَ ، وَفِيهَا مَا فِيهَا ، وَهَذَا الَّذِي
ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى زَمَنِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ
، وَأَمَّا زَمَانُنَا هَذَا فَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُجِيزَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ
لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ النِّسَاءَ بَادِيَاتُ الْعَوْرَاتِ
كُلَّهُنَّ لَيْسَ فِيهِنَّ مَنْ تَسْتَتِرُ ، وَالسُّتْرَةُ الشَّرْعِيَّةُ
عَيْبٌ عِنْدَهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَحَمَّامُ الرِّجَالِ قَرِيبٌ مِنْهُ
فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَتْرُكَهُ مَا اسْتَطَاعَ جَهْدُهُ .
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْغُسْلِ فِي النَّهْرِ ،
وَالدُّخُولِ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَفِيهَا مَا فِيهَا ، فَغَيْرُ وَارِدٍ ؛
لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا ابْتِدَاءً إلَّا أَنْ
يُضْطَرَّ إلَيْهَا عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذَا الْوَقْتِ أَنَّ شَاطِئَ النَّهْرِ فِيهِ مِنْ
كَشْفِ الْعَوْرَاتِ مَا هُوَ مِثْلُ الْحَمَّامِ أَوْ أَعْظَمُ مِنْهُ عَلَى مَا
هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ مِنْ كَشْفِ عَوْرَاتِ النَّوَاتِيَّةِ ، وَمَنْ يَفْعَلْ
كَفِعْلِهِمْ سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الْبَرْدِ فَذَلِكَ أَكْثَرُ
وَأَشْنَعُ لِوُرُودِ النَّاسِ لِلْغُسْلِ ، وَغَيْرِهِ ، وَقَلَّ مَنْ يَسْتَتِرُ
فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ لِمُشَاهَدَتِهِ عِيَانًا ،
وَمَا أَتَى عَلَى بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا أَنَّهُمْ يَحْمِلُونَ
أَلْفَاظَ الْعُلَمَاءِ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي زَمَانِهِمْ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ
كَذَلِكَ ، بَلْ كُلُّ زَمَانٍ يَخْتَصُّ بِعُرْفِهِ ، وَعَادَتِهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
وَكَذَلِكَ يَجْرِي هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفَسَاقِي الَّتِي
فِي الْمَدَارِسِ ، وَالرِّبَاطَاتِ ، إذْ أَنَّهَا مَحَلُّ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ
فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَجِدُهُ
فِي الْحَمَّامِ فِي الْغَالِبِ مِنْ الصُّوَرِ الَّتِي
عَلَى بَابِهِ ، وَاَلَّتِي فِي جُدْرَانِهِ ، وَأَقَلُّ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ
التَّغْيِيرِ إزَالَةُ رُءُوسِهَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْكَارُ ذَلِكَ ، وَالْأَخْذُ
عَلَى يَدِ فَاعِلِهِ فَكَيْفَ يَدْخُلُهُ الْعَالِمُ أَوْ الْمُتَعَلِّمُ ،
وَيَسْكُتَانِ ؟ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ ،
وَإِنْ كَانَ قَدْ أَجَازَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ دُخُولَ
الْحَمَّامِ لَكِنْ بِشُرُوطٍ ، وَهِيَ : أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنْ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إلَّا لِلتَّدَاوِي .
الثَّانِي : أَنْ يَتَعَمَّدَ أَوْقَاتَ الْخَلْوَةِ ،
وَقِلَّةِ النَّاسِ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَتَهُ بِإِزَارٍ
صَفِيقٍ .
الرَّابِعُ : أَنْ يَطْرَحَ بَصَرَهُ إلَى الْأَرْضِ
أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْحَائِطَ لِئَلَّا يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى مَحْظُورٍ .
الْخَامِسُ : أَنْ يُغَيِّرَ مَا رَأَى مِنْ مُنْكَرٍ
بِرِفْقٍ بِأَنْ يَقُولَ : اسْتَتِرْ سَتَرَك اللَّهُ .
السَّادِسُ :
إنْ دَلَّكَهُ أَحَدٌ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ عَوْرَتِهِ
مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ إلَّا امْرَأَتُهُ أَوْ جَارِيَتُهُ .
السَّابِعُ : أَنْ يَدْخُلَهُ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ .
الثَّامِنُ : أَنْ يَصُبَّ الْمَاءَ عَلَى قَدْرِ
الْحَاجَةِ .
التَّاسِعُ :
إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دُخُولِهِ وَحْدَهُ اتَّفَقَ
مَعَ قَوْمٍ يَحْفَظُونَ دِينَهُمْ عَلَى كَرَاهَةٍ فِي ذَلِكَ لِمَا يُخْشَى .
الْعَاشِرُ :
أَنْ يَتَذَكَّرَ بِهِ عَذَابَ جَهَنَّمَ ، وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنَّهُ مَهْمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ بِالْفِعْلِ كَانَ
أَوْلَى ؛ إذْ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْ الثُّبُوتِ فِي نَفْسِ الْمُتَعَلِّمِ ،
وَقَدْ { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَسِلُ هُوَ وَزَوْجَتُهُ مِنْ
إنَاءٍ وَاحِدٍ ، حَتَّى إنَّهَا لَتَقُولُ دَعْ لِي دَعْ لِي } فَكُلُّ شَيْءٍ
يُمْكِنُ تَعَلُّمُهُ بِالْفِعْلِ لِلْمُتَعَلِّمِ ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ
الْقَوْلِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ أَثْبَتُ فِي النُّفُوسِ .
، وَيَنْبَغِي
لَهُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُونَ
إلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ غَيْرَ مَا تَقَدَّمَ ، إذْ أَنَّ مَا ذُكِرَ إنَّمَا
هُوَ تَنْبِيهٌ عَلَى سَائِرِ مَا يَعْتَوِرُهُمْ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ فِي
الْغَالِبِ يَتَعَلَّمْنَ مِنْهُنَّ الْأَحْكَامَ فِيمَا يَقَعُ لَهُنَّ ، فَإِذَا
كُنَّ جَاهِلَاتٍ بِمَا يُسْأَلْنَ عَنْهُ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ
كَتْمِ الْعِلْمِ .
ثُمَّ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ فَهُوَ بَيْنَ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى الْعِلْمِ لَا يَسَعُهُ غَيْرُهُ
فَيَا حَبَّذَا فَيَشْتَغِلُ بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ ، وَلَا يَعْرُجُ عَلَى
غَيْرِهِ .
كَمَا حُكِيَ عَنْ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ دَخَلَ مِصْرَ ، وَتَأَهَّلَ بِهَا ،
وَقَعَدَ مَعَ زَوْجَتِهِ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَرَادَ
أَهْلُهَا أَنْ يُزَوِّجُوهَا فَقَالَتْ لَهُمْ : إذَا عَزَمْتُمْ فَزَوِّجُونِي
عَلَى أَنِّي بِكْرٌ فَقَالُوا لَهَا : كَيْفَ وَقَدْ أَقَمْت سِنِينَ مَعَهُ ؟
فَقَالَتْ : أَوَّلُ لَيْلَةٍ دَخَلَ عَلَيَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، وَجَلَسَ
يَنْظُرُ فِي كُتُبِهِ ، وَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ ، ثُمَّ كَذَلِكَ فِي سَائِرِ أَيَّامِهِ
فَقُمْت يَوْمًا ، وَلَبِسْت ، وَتَزَيَّنْت ، وَلَعِبْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَرَفَعَ
رَأْسَهُ ، وَنَظَرَ إلَيَّ ، وَتَبَسَّمَ ، وَأَخَذَ الْقَلَمَ الَّذِي بِيَدِهِ
فَجَرَّهُ عَلَى وَجْهِي ، وَأَفْسَدَ بِهِ زِينَتِي ، ثُمَّ أَكَبَّ رَأْسَهُ
عَلَى كُتُبِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، حَتَّى انْتَقَلَ إلَى رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ ، فَمَنْ كَانَتْ لَهُ هِمَّةٌ سُنِّيَّةٌ فَلْيَنْسِجْ عَلَى
مِنْوَالِهِ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ
يَحْتَاجُ إلَى سِتَّةِ أَشْيَاءَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْهَا
شَيْءٌ نَقَصَ مِنْ عِلْمِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَهِيَ هِمَّةٌ بَاعِثَةٌ ،
وَذِهْنٌ ثَاقِبٌ ، وَصَبْرٌ ، وَجِدَّةٌ ، وَشَيْخٌ فَتَّاحٌ ، وَعُمْرٌ طَوِيلٌ .
فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِيحَ فَكَيْفِيَّةُ
النِّيَّةِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْوِيَ بِتِلْكَ الِاسْتِرَاحَةِ امْتِثَالَ
السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : رَوِّحُوا الْقُلُوبَ
سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ } ، وَيَنْوِي بِذَلِكَ إدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى
أَهْلِهِ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِنَّ ، وَالتَّحَدُّثِ مَعَهُنَّ ، وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا مَزِيَّةَ لَهُ
عَلَيْهِمْ ، أَعْنِي بِذَلِكَ فِي بَسْطِهِ لَهُمْ ، وَالتَّوَاضُعِ مَعَهُمْ ،
وَيَنْوِي بِذَلِكَ كُلِّهِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ .
وَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَا
يُعَارِضُهُ مُخَالَفَةُ أَمْرٍ ، وَلَا ارْتِكَابُ نَهْيٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْزَحُ ، وَلَا يَقُولُ إلَّا حَقًّا ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْفِرَاشَ وَالتَّعَرِّي مِنْ السُّنَّةِ .
، وَقَدْ
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَعْدَ صَلَاةِ
الْعِشَاءِ ، وَفَرَغَ مِنْ رُكُوعِهِ فِي بَيْتِهِ جَلَسَ يَتَحَدَّثُ مَعَ
أَهْلِهِ سَاعَةً ، ثُمَّ إذَا عَزَمَ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْفِرَاشِ
فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِلنَّوْمِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ
ثُمَّ يَرْكَعَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنَامُ فِيهِ ، وَهَذَا مَا لَمْ يُوتِرْ
فَإِنْ كَانَ قَدْ أَوْتَرَ ، فَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُصَلِّيَ بَعْدَ الْوِتْرِ
إلَّا بَعْدَ أَنْ يَقُومَ مِنْ نَوْمِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ رَجَاءَ أَنْ
تَسْتَغْفِرَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ
نَائِمًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الْمَلَائِكَةُ
تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا
لَمْ يُحْدِثْ تَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ } ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ إرَادَتِهِ النَّوْمَ
مُحْدِثًا فَلْيَنْوِ بِوُضُوئِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ لِكَيْ يَسْتَبِيحَ بِهِ
الصَّلَاةَ اتِّفَاقًا .
وَالْحِكْمَةُ فِي وُضُوئِهِ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ هِيَ
أَنَّ النَّوْمَ تَارَةً يَكُونُ مِنْ بَابِ الِاضْطِرَارِ ، وَتَارَةً يَكُونُ
مِنْ بَابِ الِاخْتِيَارِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مِنْهُ مَا هُوَ اضْطِرَارٌ ،
وَمِنْهُ مَا هُوَ اخْتِيَارٌ ، وَرَأْسُ مَالِ الْمُؤْمِنِ إنَّمَا هُوَ عُمُرُهُ
، فَإِنْ عَمَّرَهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ رَبِحَ عُمُرَهُ ، وَزَكَا فَشَرَعَ
لَهُ الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْوُضُوءَ عِنْدَ
إرَادَةِ النَّوْمِ ، لِكَيْ يَخْتَبِرَ بِهِ النَّوْمَ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ هُوَ ،
فَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ ضَرُورَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَهُوَ لَا يُذْهِبُهُ
الْوُضُوءُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ بَابِ الِاخْتِيَارِ وَالرَّاحَةِ فَالْوُضُوءُ يُذْهِبُهُ
، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ : أَنَّ النَّوْمَ هُوَ الْمَوْتُ الْأَصْغَرُ
فَشُرِعَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ الطَّهَارَةِ كَالْمَيِّتِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ :
وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَمُوتُ فِي ذَلِكَ النَّوْمِ فَتُشْرَعُ لَهُ الطَّهَارَةُ
لِكَيْ يَكُونَ عَلَى أَكْمَلِ الْحَالَاتِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ : وَهُوَ
أَنَّ النَّوْمَ إذَا وَقَعَ عَقِبَ
طَهَارَةٍ اجْتَزَأَ الْمُكَلَّفُ مِنْهُ بِالْقَلِيلِ
لِأَجْلِ بَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ فَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ ، وَهُوَ
عُمُرُهُ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ يَقْرَأُ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ "
، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي كَفَّيْهِ ، وَيَنْفُثُ فِيهِمَا ، وَيُمَشِّيهِمَا
عَلَى سَائِرِ جَسَدِهِ ثُمَّ يَتَعَرَّى كَمَا سَبَقَ ، وَيَدْخُلُ فِي فِرَاشِهِ
فَيَضْطَجِعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ بَعْدَ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ،
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَيْمَنِ ، بَلْ نَفْسُ الدُّخُولِ
هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ فِيهِ التَّيَمُّنَ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْتَقِلُ إلَى
مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ بِهِ ضَعْفٌ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ
يَدْخُلَ عَلَى الْأَيْمَنِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ فِي
الدُّخُولِ عَلَى الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ حِينِهِ ، وَإِنْ
تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَيَدْخُلَ عَلَى الْجَنْبِ الْآخَرِ ؛ لِلضَّرُورَةِ
الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى اشْتَكَى مَرَّةً بِنَزْلَةٍ نَزَلَتْ لَهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ،
وَحَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ شِدَّةٌ ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ إلَى الْفِرَاشِ لِيَضْطَجِعَ
صَعُبَ عَلَيْهِ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى تِلْكَ الْجِهَةِ ، فَأَرَادَ أَنْ
يَضْطَجِعَ عَلَى الْأَيْسَرِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، ثُمَّ وَقَعَ لَهُ أَنَّهُ
يَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ لِتَحْصُلَ لَهُ بَرَكَةُ
الِامْتِثَالِ ثُمَّ يَنْقَلِبَ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فِي الْوَقْتِ قَالَ
: فَاضْطَجَعْت عَلَى الْأَيْمَنِ بِعَزِيمَةٍ فَوَاَللَّهِ مَا أَعْلَمُ هَلْ
الْأَلَمُ ارْتَفَعَ قَبْلَ وُصُولِ رَأْسِي إلَى الْوِسَادَةِ أَوْ بَعْدَ
وُصُولِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِبَرَكَةِ امْتِثَالِ السُّنَّةِ إذْ أَنَّهَا لَا تَدْخُلُ
فِي شَيْءٍ إلَّا وَحَلَّتْ الْبَرَكَةُ فِيهِ ، ثُمَّ يَقْرَأُ آيَةَ
الْكُرْسِيِّ ثُمَّ يُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ
ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ ، وَيُكَبِّرُ اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ ، وَيَجْعَلُ
يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْيَمِينِ ، وَيَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى
وِرْكِهِ
الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَقُولُ : بِاسْمِك اللَّهُمَّ وَضَعْت جَنْبِي
وَبِاسْمِك أَرْفَعُهُ اللَّهُمَّ إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا ، وَإِنْ
أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَك الصَّالِحِينَ ،
اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْت نَفْسِي إلَيْك ، وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك ،
وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك ، وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك رَهْبَةً مِنْك ،
وَرَغْبَةً إلَيْك لَا مَلْجَأَ ، وَلَا مَنْجَا مِنْك إلَّا إلَيْك ،
أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك آمَنْت بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت ، وَرَسُولِك
الَّذِي أَرْسَلْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت ، وَمَا أَخَّرْت ، وَأَسْرَرْت ، وَأَعْلَنْت
أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ
عِبَادَك انْتَهَى .
ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ اشْفِنِي بِالْقَلِيلِ مِنْ
النَّوْمِ ، وَاجْعَلْهُ لِي عَوْنًا عَلَى طَاعَتِك ، وَيَنْوِي بِنَوْمِهِ
الْعَوْنَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ
صَلَاةٍ وَغَيْرِهِمَا ، إذْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْطِ نَفْسَهُ حَظَّهَا مِنْ النَّوْمِ
قَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى لَهُ مِنْهَا التَّوْفِيَةُ بِالْمَأْمُورَاتِ عَلَى
أَنْوَاعِهَا سِيَّمَا ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ فِي الطَّاعَاتِ سِيَّمَا
إنْ كَانَتْ صَلَاةً إذْ الْحُضُورُ مَعَ النَّوْمِ مُتَعَذِّرٌ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { : إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ ، وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى
يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ ، لَا
يَدْرِي لَعَلَّهُ يَذْهَبُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ } ثُمَّ يُشْعِرُ
نَفْسَهُ حِينَ الدُّخُولِ فِي الْفِرَاشِ بِالدُّخُولِ فِي قَبْرِهِ ؛ لِأَنَّ
النَّوْمَ هُوَ الْمَوْتُ الْأَصْغَرُ فَشُرِعَ لَهُ نَوْعٌ مِنْ حَالَةِ
الْمَوْتَى ، وَهُوَ التَّجْرِيدُ مِنْ ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ ، وَالدُّخُولُ فِي ثِيَابٍ
تُشْبِهُ ثِيَابَ الْمَوْتَى إذْ أَنَّهَا شَبِيهَةٌ بِالْكَفَنِ .
فَإِذَا أَشْعَرَ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ قَلَّ
مِنْهُ الِاسْتِغْرَاقُ فِي النَّوْمِ ، وَخَافَ الْفَوَاتَ .
إذْ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ فَوَائِدُ مِنْهَا
أَنَّهُ يُنَوِّرُ الْقَبْرَ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ اللَّيْلِ
شَبِيهٌ بِظُلْمَةِ الْقَبْرِ فَكَانَ الثَّوَابُ
مُنَاسِبًا لِقِيَامِهِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ .
وَفِي التَّعَرِّي حِكَمٌ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّهُ
يُرِيحُ الْبَدَنَ مِنْ حَرَارَةِ حَرَكَةِ النَّهَارِ ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ
التَّقْلِيبَ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَفِيهِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى أَهْلِهِ ،
وَفِيهِ زِيَادَةُ التَّمَتُّعِ بِالْأَهْلِ بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ
النَّاسِ الْيَوْمَ ؛ لِأَنَّ التَّمَتُّعَ عِنْدَهُمْ إنَّمَا هُوَ فِي
الْمَحَلِّ لَيْسَ إلَّا ، إذْ أَنَّ الرَّجُلَ ثِيَابُهُ عَلَيْهِ ،
وَالْمَرْأَةَ مِثْلُهُ ، وَفِيهِ التَّوَاضُعُ ، وَفِيهِ امْتِثَالُ السُّنَّةِ
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِيهِ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } ، وَالنَّوْمُ فِي
الثَّوْبِ هُوَ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ ، فَإِنَّ الثَّوْبَ الَّذِي عُمُرُهُ سَنَةٌ
إذَا نَامَ فِيهِ نَقَصَ عَنْ ذَلِكَ ، وَفِيهِ قِلَّةُ الدَّوَابِّ ، وَفِيهِ
قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ السُّنَّةِ ، وَهِيَ النَّظَافَةُ إذْ أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي
يُنَامُ فِيهِ يَكْثُرُ فِيهِ هَوَامُّ بَدَنِهِ ، وَيَتَقَذَّرُ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ ، وَهِيَ جُمْلَةٌ
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَبِرَ فِي النَّوْمِ
وَحَالَتِهِ فِيهِ إذْ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ حَاضِرُ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ
مُتَكَلِّمٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ آمِرٌ نَاهٍ مُدَبِّرٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الْأُمُورِ ، ثُمَّ تَأْتِي عَلَيْهِ عَاهَةُ النَّوْمِ لَا يَشْعُرُ بِهَا مِنْ
أَيْنَ أَتَتْهُ ، وَلَا يُكَيِّفُهَا فَيَتْرُكُ الْمَلِكُ مُلْكَهُ ،
وَتَدْبِيرَهُ ، وَسِيَاسَتَهُ فِيهِ ، وَالْعَالِمُ عِلْمَهُ ، وَالْمُحْتَرِفُ حِرْفَتَهُ
، وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي شَيْءٍ ، وَعَزَمَ عَلَى فِعْلِهِ تَرَكَهُ قَهْرًا
لِأَجْلِ هَذِهِ الْعَاهَةِ الَّتِي أَتَتْ عَلَيْهِ مُجْبَرًا عَلَى ذَلِكَ
لَيْسَ لَهُ سَبِيلٌ إلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ ، وَلَا دَفْعِهِ عَنْهُ
فَسُبْحَانَ مَنْ قَهَرَ عِبَادَهُ بِالْمَوْتِ .
وَهَذَا مُتَكَرِّرٌ عَلَيْهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ،
وَفِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ، وَهُوَ الْمُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ ، وَالدَّالُّ
عَلَيْهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { :
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ، وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ، وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى
إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } كُلُّ ذَلِكَ
تَذْكِرَةٌ ، وَعِبْرَةٌ لِمَنْ يَنْظُرُ وَيَعْتَبِرُ ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } بَيْنَمَا
هُوَ مُسْتَيْقِظٌ مُدَّعٍ لِلْقُوَّةِ ، وَالسَّطْوَةِ إذْ أَتَاهُ مَا لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَسِيلُ لُعَابُهُ ، وَتَنْحَلُّ
أَعْضَاؤُهُ ، وَيُحْدِثُ ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِنَفْسِهِ ، وَالْغَالِبُ عَلَى
بَعْضِهِمْ أَنَّهُ يَبْقَى مُثْلَةً إذْ ذَاكَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى
كَانَ مِنْ الْأَدَبِ فِي النَّوْمِ أَنْ لَا يَنَامَ بَيْنَ مُسْتَيْقِظِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { :
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ
سَافِلِينَ } قَالَ الْعُلَمَاءُ : رَحِمَهُمُ اللَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ النَّوْمَ
وَالنِّسْيَانَ ثُمَّ يَتَذَكَّرُ بِهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
بِسَبَبِهِ إذْ أَنَّ الْيَقِظَةَ فِيهَا
حَرَارَةٌ ، فَلَوْ تَمَادَتْ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ
لَأَهْلَكَتْهَا ، سِيَّمَا وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَهُمْ الرَّغْبَةُ فِيمَا
هُمْ بِصَدَدِهِ مِنْ طَلَبِ دُنْيَا ، وَالْعَمَلِ فِي أَسْبَابِهَا أَوْ عِلْمٍ
أَوْ عَمَلٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَلَوْ وَكَّلَ الْأَمْرَ إلَيْهِ فِيهِ
لَحَرَمَ نَفْسَهُ النَّوْمَ أَلْبَتَّةَ لِقُوَّةِ الْحِرْصِ عَلَى مَا هُوَ بِسَبِيلِهِ
، فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّوْمَ يَأْتِيهِ قَهْرًا رَحْمَةً بِهِ هَذَا
وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ التَّصَرُّفَ فِيهِ
حَرَارَةٌ ، وَالنَّوْمَ فِيهِ سُكُونٌ ، وَبُرُودَةٌ فَيَعْتَدِلُ مِزَاجُهُ
بِذَلِكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { : وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا
زَوْجَيْنِ } ، وَهَذِهِ مِنْهُ يَقِظَةٌ وَنَوْمٌ حَرَارَةٌ وَبُرُودَةٌ ذَكَرٌ
وَأُنْثَى صَحِيحٌ وَمَرِيضٌ طَائِعٌ وَعَاصٍ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ شَقِيٌّ
وَسَعِيدٌ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ
رَحْمَةً لِلْعَبْدِ بِفَضْلِهِ ، وَحَرَسَهُ مَعَ ذَلِكَ فِي نَوْمِهِ كَمَا حَفِظَهُ
فِي حَالِ يَقَظَتِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمَنِ } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { :
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فَسُبْحَانَ
الْمُنْعِمِ الْمَنَّانِ
فَصْلٌ فِي آدَابّهِ فِي الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِهِ
فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ فَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي ذَلِكَ
أَنَّهُ لَا يَكُونُ مَعَهُ أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ غَيْرَ زَوْجَتِهِ أَوْ
جَارِيَتِهِ ، إذْ ذَاكَ .
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا إذَا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إلَى أَهْلِهِ أَخْرَجَ الرَّضِيعَ مِنْ
الْبَيْتِ ، وَقَدْ قَالُوا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ، وَهِرٌّ فِي
الْبَيْتِ ، وَذِكْرُ الْهِرِّ مِنْهُمْ تَنْبِيهٌ عَلَى غَيْرِهِ ،
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يَكُونُ سَالِمًا مِنْ عَيْنَيْنِ تَنْظُرَانِ إلَيْهِ ؛
إذْ أَنَّ ذَلِكَ عَوْرَةٌ ، وَالْعَوْرَةُ يَتَعَيَّنُ سَتْرُهَا ، وَهُوَ مُخَيَّرٌ
فِي فِعْلِ ذَلِكَ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ آخِرَهُ لَكِنَّ أَوَّلَ اللَّيْلِ
أَوْلَى ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْغُسْلِ يَبْقَى زَمَنُهُ مُتَّسِعًا بِخِلَافِ آخِرِ
اللَّيْلِ فَإِنَّهُ قَدْ يَضِيقُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَئُولُ إلَى تَفْوِيتِ
الصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ أَوْ إلَى إخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ آخِرَ اللَّيْلِ إذَا
فَعَلَ ذَلِكَ فِيهِ كَانَ عَقِيبَ نَوْمٍ ، وَقَدْ يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ
وَالْأَنْفِ شَيْءٌ مِنْ بُخَارِ الْمَعِدَةِ مِمَّا يُغَيِّرُ رَائِحَةَ الْفَمِ
أَوْ الْأَنْفِ ، فَإِذَا شَمَّهَا أَحَدُهُمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَرَاهَةِ
أَحَدِهِمَا فِي صَاحِبِهِ ، وَمُرَادُ الشَّارِعِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ - دَوَامُ الْأُلْفَةِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَذَلِكَ يُنَافِيهَا .
أَلَا تَرَى إلَى نَهْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عَنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا لَيْلًا لِئَلَّا
يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ قَبْلَ أَنْ يَتَأَهَّبْنَ لِلِقَائِهِ ، فَنَهَى عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ لِكَيْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ وَتَدْهُنَ
وَتَتَطَيَّبَ وَتَتَأَهَّبَ ، فَيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى بَقَاءِ الْعِصْمَةِ
وَالْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ ، أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ
فَصَلَّى فِيهِ ، وَذَلِكَ لِفَوَائِدَ
.
أَحَدُهَا : أَنْ يَبْدَأَ بِزِيَارَةِ بَيْتِ
رَبِّهِ ، وَبِالْخُضُوعِ لَهُ فِيهِ بِالرُّكُوعِ ،
وَالسُّجُودِ ، وَمِنْهَا أَنْ يُفَضِّلَ مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى رَبِّهِ
لِيُنَبِّهَ أُمَّتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَقْدِيمِ مَا
هُوَ لِلَّهِ عَلَى مَا لِأَنْفُسِهِمْ فِيهِ حَظٌّ مَا ، وَمِنْهَا أَنَّ
أَصْحَابَهُ وَمَعَارِفَهُ يَأْخُذُونَ حَظَّهُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ
حِينَ قُدُومِهِ ، فَإِذَا فَرَغُوا ، وَدَخَلَ بَيْتَهُ " لَمْ يَكُنْ ثَمَّ
مَنْ يُحْوِجُهُ إلَى الْخُرُوجِ فِي الْغَالِبِ ، وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ أَهْلَهُ يَأْخُذُونَ الْأُهْبَةَ لِلِقَائِهِ ، وَمِنْهَا
أَنَّ لِقَاءَ الْأَحِبَّةِ بَغْتَةً قَدْ يَئُولُ إلَى ذَهَابِ النُّفُوسِ عِنْدَ
اللِّقَاءِ لِقُوَّةِ مَا يَتَوَالَى عَلَى النَّفْسِ إذْ ذَاكَ مِنْ الْفَرَحِ
وَالسُّرُورِ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ
مَاتُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ فَاجَأَهُمْ السُّرُورُ فَمَاتُوا مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ
، وَقَوْمٌ فَجَأَتْهُمْ الْمَصَائِبُ فَمَاتُوا مِنْ شِدَّةِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَا فَعَلَهُ يُوسُفُ الصِّدِّيقُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّلَطُّفِ بِالِاجْتِمَاعِ بِأَبِيهِ
يَعْقُوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ
الْبَشِيرَ أَوَّلًا حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْأَحْيَاءِ ، ثُمَّ أَرْسَلَ
إلَيْهِ ثَانِيًا الْقَمِيصَ لِيَجِدَ رِيحَهُ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَزَّ وَجَلَّ
فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَزَادَ أُنْسُهُ بِشَمِّ رَائِحَتِهِ وَأَثَرِهِ ،
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَعَ الِاجْتِمَاعُ ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا عَزَمَ عَلَى
الِاجْتِمَاعِ بِأَهْلِهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامّ ،
وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ عَلَى غَفْلَةٍ ،
بَلْ حَتَّى يُلَاعِبَهَا وَيُمَازِحَهَا بِمَا هُوَ مُبَاحٌ مِثْلَ الْجَسَّةِ ، وَالْقُبْلَةِ
، وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ ، حَتَّى إذَا رَأَى أَنَّهَا قَدْ انْبَعَثَتْ لِمَا هُوَ
يُرِيدُ مِنْهَا ، وَانْشَرَحَتْ لِذَلِكَ ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ
يَأْتِيهَا ، وَحِكْمَةُ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ بَيِّنَةٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ
الْمَرْأَةَ تُحِبُّ مِنْ
الرَّجُلِ مَا يُحِبُّ مِنْهَا ، فَإِذَا أَتَاهَا عَلَى
غَفْلَةٍ قَدْ يَقْضِي هُوَ حَاجَتَهُ ، وَتَبْقَى هِيَ فَقَدْ يُشَوِّشُ
عَلَيْهَا ذَلِكَ ، وَقَدْ لَا يَنْصَانُ دِينُهَا ، فَإِذَا فَعَلَ مَا ذُكِرَ
تَيَسَّرَ عَلَيْهَا الْأَمْرُ ، وَانْصَانَ دِينُهَا .
ثُمَّ إذَا أَتَاهَا فَيَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ
، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ { : لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إذَا أَتَى إلَى
أَهْلِهِ قَالَ : بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ ، وَجَنِّبْ
الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتنَا فَرُزِقَا وَلَدًا ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ ،
وَلَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ
خَرَجَ وَلَدُهُ كَمَا ذُكِرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ
أَوْلَادِ الْمُبَارَكِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى صِفَةٍ مِنْ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ
فَالْجَوَابُ : أَنَّ وَالِدَهُ لَوْ امْتَثَلَ السُّنَّةَ فِيمَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مَا حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْقَلِيلُ مِنْ النَّاسِ مِنْ
يَثْبُتُ لِامْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِغَلَبَةِ قُوَّةِ
بَاعِثِ النَّفْسِ عَلَى تَحْصِيلِ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا ، وَيَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يُرَاعِيَ حَقَّ زَوْجَتِهِ فِي الْجِمَاعِ ، وَأَنْ يَأْتِيَهَا لَيَصُونَ
دِينَهَا ، وَيَكُونَ قَضَاءُ حَاجَتِهِ تَبَعًا لِغَرَضِهَا فَيَحْصُلَ إذْ ذَاكَ
فِي عُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ
الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ
مَنْ لَا يَعْرِفُ السُّنَّةَ فِي ذَلِكَ يَأْتِي زَوْجَتَهُ عَلَى غَفْلَةٍ
فَيَقْضِي حَاجَتَهُ مِنْهَا ، وَهِيَ لَمْ تَقْضِ مِنْهُ وَطَرًا ، كَمَا
تَفْعَلُ الْبَهَائِمُ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِأَحَدِ شَيْئَيْنِ إمَّا
فَسَادُ دِينِهَا وَإِمَّا تَبْقَى مُتَشَوِّشَةً مُتَشَوِّفَةً لِغَيْرِهِ ، وَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ لَا يُجَامِعَهَا ، وَهُمَا مَكْشُوفَانِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ
عَلَيْهِمَا شَيْءٌ يَسْتُرُهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ
وَعَابَهُ ، وَقَالَ فِيهِ : كَمَا يَفْعَلُ الْعِيرَانِ
، وَقَدْ كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُغَطِّي رَأْسَهُ إذْ ذَاكَ
حَيَاءً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ فِي بَرِيَّةٍ أَوْ عَلَى سَطْحٍ
فَلَا يُجَامِعُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ، وَلَا مُسْتَدْبِرَهَا ، وَإِنْ كَانَ
فِي بَيْتٍ فَيُخْتَلَفُ فِيهِ بِالْجَوَازِ وَالْكَرَاهَةِ ، وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا قَضَى وَطَرَهُ أَنْ لَا يُعَجِّلَ
بِالْقِيَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُشَوِّشُ عَلَيْهَا بَلْ يَبْقَى
هُنَيْهَةً حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ انْقَضَتْ حَاجَتُهَا ، وَالْمَقْصُودُ
مُرَاعَاةُ أَمْرِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُوصِي عَلَيْهِنَّ ، وَيَحُضُّ عَلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِنَّ ، وَهَذَا
مَوْضِعٌ لَا يُمْكِنُ الْإِحْسَانُ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِهِ فَلْيَجْتَهِدْ فِي
ذَلِكَ جَهْدَهُ ، وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ عَمَّا يَعْجِزُ
الْمَرْءُ عَنْهُ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَجَنَّبَ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ
النَّاسِ ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْهُ فَأَنْكَرَهُ وَعَابَهُ
، هُوَ النَّخِيرُ ، وَالْكَلَامُ السَّقْطُ .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِنَّمَا
أَنْكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ
السَّلَفِ .
ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ قَضَاءِ إرَبِهِ فَهُوَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا أَنْ يَغْتَسِلَ لِيَنَامَ عَلَى
أَكْمَلِ الْحَالَاتِ ، وَإِمَّا أَنْ يَتَوَضَّأَ لِيَنَامَ عَلَى إحْدَى
الطَّهَارَتَيْنِ ، وَاخْتُلِفَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ أَوْ
الْوُضُوءُ هَلْ يَتَيَمَّمُ أَمْ لَا ؟ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَنَامُ
الْجُنُبُ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ فَلْيَتَيَمَّمْ ، وَلَا
يَنَامُ إلَّا بِوُضُوءٍ أَوْ تَيَمُّمٍ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ عِنْدَ
الْجِمَاعِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ يَكْثُرُ بِهِ الْإِسْلَامُ ،
وَيَكُونُ مِنْ الْعُلَمَاءِ الصَّالِحِينَ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، وَمَا
لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ ، وَأَطَأهُنَّ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ لَهُ
: وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ
اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مَنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا نَوَى مَا
تَقَدَّمَ ، وَفَعَلَ مَا ذُكِرَ أَنْ يَكِلَ ذَلِكَ إلَى مَشِيئَةِ رَبِّهِ عَزَّ
وَجَلَّ ، وَأَنْ يَفْتَقِرَ إلَيْهِ فِيهِ وَيَتَبَرَّأَ مِنْ مَشِيئَةِ نَفْسِهِ
، وَتَدْبِيرِهِ ، وَحَوْلِهِ ، وَقُوَّتِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ إذْ ذَاكَ
مُتَوَاضِعًا مُتَذَلِّلًا لَعَلَّ أَنْ تُقْضَى حَاجَتُهُ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { عَنْ نَبِيِّ
اللَّهِ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ
قَالَ : لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ كُلِّهِنَّ تَأْتِي
بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ : قُلْ : إنْ
شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَطَافَ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا
فَلَمْ تَحْمِلْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ ، } فَالْحَاصِلُ مِنْ
هَذَا أَنْ يَتَعَلَّقَ الْمَرْءُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى
، وَيَكِلَ
الْأَمْرَ إلَيْهِ ، وَيَتَبَرَّأَ مِنْ مَشِيئَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ
ثُمَّ إنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَعُودَ إلَى الِاجْتِمَاعِ
بِأَهْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْغُسْلِ أَوْ الْوُضُوءِ فَيَفْعَلُ كَمَا
تَقَدَّمَ أَوَّلًا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلْيَغْسِلْ ذَكَرَهُ قَبْلَ
أَنْ يَعُودَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ إذَا أَرَادَ
ذَلِكَ غَسَلَ ذَكَرَهُ ثُمَّ عَادَ ، قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى : وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ غَسْلَ الذَّكَرِ يُقَوِّي
الْعُضْوَ وَيُنَشِّطُهُ ، وَكَثْرَةُ هَذَا كَانَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ أَنْ
يَتَمَدَّحُوا بِهِ ، وَيَفْتَخِرُوا بِهِ ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ
الرَّجُلِ ، وَصِحَّةِ بَدَنِهِ ، وَمِزَاجِهِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُعْطِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا حَتَّى
خَرَجَ عَنْ مَأْلُوفِهِمْ ، وَعَادَتِهِمْ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَرَّرْتُمْ أَنَّ كَثْرَةَ هَذَا مَمْدُوحٌ ، وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ،
فَمَا الْجَوَابُ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي كَوْنِهِ أُعْطِيَ مَاءَ مِائَةِ رَجُلٍ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ
كُلًّا مِنْهُمَا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا وَسَلَامُهُ أُعْطِيَ مَقْصِدَهُ
وَمَطْلَبَهُ ، فَنَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
طَلَبَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ ، وَمِنْ شَأْنِ الْمُلُوكِ
الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، وَكَثْرَةُ النِّسَاءِ فَأُعْطِيَ مَا يَفُوقُ
بِهِ سَائِرَ الْمُلُوكِ ؛ لِأَنَّ الْمُلُوكَ وَإِنْ وَجَدُوا الْقُدْرَةَ عَلَى
تَحْصِيلِ كَثْرَةِ النِّسَاءِ فَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ مَاءِ رَجُلٍ وَاحِدٍ
فَضْلًا عَنْ مَاءِ مِائَةِ رَجُلٍ
.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُيِّرَ
بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا فَاخْتَارَ أَنْ
يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا فَأُعْطِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
يَفْضُلُهُمْ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أُعْطِيَ مَاءَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا فَحَالُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا سُئِلَتْ عَنْ
الْقُبْلَةِ لِلصَّائِمِ ، وَأَيُّكُمْ أَمْلَكُ لِإِرَبِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
؟ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
كَانَ لَا يَأْتِي لِأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ ،
بَلْ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى طَرِيقِ تَأْنِيسِ
الْبَشَرِيَّةِ لِأَجْلِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ
: إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ ، وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { :
حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ الطِّيبُ ، وَالنِّسَاءُ ، وَجُعِلَتْ
قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } فَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : حُبِّبَ ، وَلَمْ يَقُلْ : أَحْبَبْت ، وَقَالَ مِنْ دُنْيَاكُمْ
فَأَضَافَهَا إلَيْهِمْ دُونَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَدَلَّ عَلَى
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ حُبُّهُ خَاصًّا بِمَوْلَاهُ
عَزَّ وَجَلَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { :
وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي الْعَلِيَّةِ الشَّرِيفَةِ ، فَكَانَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَشَرِيَّ الظَّاهِرِ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ ،
فَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَأْتِي إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ
الْبَشَرِيَّةِ إلَّا تَأْنِيسًا لِأُمَّتِهِ ، وَتَشْرِيعًا لَهَا لَا أَنَّهُ
مُحْتَاجٌ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلِلْجَهْلِ بِهَذِهِ
الْأَوْصَافِ الْجَلِيلَةِ ، وَالْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ قَالَ الْجَاهِلُ
الْمِسْكِينُ { : مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ ، وَيَمْشِي فِي
الْأَسْوَاقِ } أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { :
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ
} فَقَالَ : { لَكُمْ إنِّي مَلَكٌ } ، وَلَمْ يَقُلْ
إنِّي مَلَكٌ ، فَلَمْ يَنْفِ الْمَلَكِيَّةَ عَنْهُ إلَّا بِالنِّسْبَةِ
إلَيْهِمْ أَعْنِي فِي مَعَانِيهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَا فِي ذَاتِهِ الْكَرِيمَةِ ، إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ يَلْحَقُ بَشَرِيَّتَهُ مَا يَلْحَقُ الْبَشَرَ .
وَلِهَذَا قَالَ سَيِّدِي الشَّيْخُ الْجَلِيلُ أَبُو
الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَتِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هُوَ بَشَرٌ لَيْسَ كَالْأَبْشَارِ كَمَا أَنَّ
الْيَاقُوتَ حَجَرٌ لَيْسَ كَالْأَحْجَارِ ، وَهَذَا مِنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ
عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ لِلْأَفْهَامِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ ، وَمَنْ كَانَ مَلَكِيَّ الْبَاطِنِ
مَلَكَ نَفْسَهُ ، وَمِنْ هَاهُنَا يُفْهَمُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { : أَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا } ؛
لِأَنَّ هَذَا ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ بَابِ التَّأْنِيسِ لِلْأُمَّةِ ، وَمِنْ
ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ
فِيهِ { : إنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ } قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ : إنَّ
ذَلِكَ مِنْ بَابِ شِدَّةِ الْآلَامِ ، وَالْأَوْجَاعِ لِرِفْعَةِ مَنَازِلِ
الْمُرْسَلِينَ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إنِّي
أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ الرَّجُلَانِ مِنْكُمْ } الْحَدِيثَ انْتَهَى .
وَهَذَا مِنْ بَابِ تَأْنِيسِ الْبَشَرِيَّةِ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إنَّ
لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ } إنَّ تِلْكَ السَّكَرَاتِ سَكَرَاتُ الطَّرِبِ ، أَلَا
تَرَى إلَى قَوْلِ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ قَالَ لَهُ أَهْلُهُ ،
وَهُوَ فِي السِّيَاقِ ، وَاكَرْبَاهُ فَفَتَحَ عَيْنَهُ ، وَقَالَ : وَاطَرَبَاهُ
غَدًا أَلْقَى الْأَحِبَّهْ مُحَمَّدًا ، وَحِزْبَهْ انْتَهَى .
فَإِذَا كَانَ هَذَا طَرَبَهُ فِي هَذَا الْحَالِ
بِلِقَاءِ مَحْبُوبِهِ ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحِزْبُهُ ، فَمَا بَالُك بِلِقَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْمَوْلَى الْكَرِيمِ
{ : فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ
قُرَّةِ
أَعْيُنٍ
} ، وَهَذَا
مَوْضِعٌ تَقْصُرُ الْعِبَارَةُ عَنْ وَصْفِ بَعْضِهِ ، فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا
أَنَّ أَحْوَالَ الْبَشَرِيَّةِ ، وَمَا يَطْرَأُ عَلَيْهَا مِنْ الْأَمْرَاضِ
وَالْأَعْرَاضِ إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى الظَّاهِرِ فِي الظَّاهِرِ ، وَهُوَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَشْغُولٌ بِرَبِّهِ مُقْبِلٌ عَلَى آخِرَتِهِ ظَاهِرُهُ
مَعَ الْخَلْقِ ، وَبَاطِنُهُ مَعَ رَبِّ الْخَلْقِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ
فَهُوَ غَائِبٌ عَنْ أَلَمِ الظَّاهِرِ
.
هَذَا تَجِدُهُ مَحْسُوسًا فِي بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ
فَكَيْفَ بِسَيِّدِ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخَرِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ ، أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ ، وَهُوَ
عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَصَابَتْهُ الْأَكَلَةُ
فِي رِجْلِهِ فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوا الْقَدَمَ الَّتِي خَرَجَتْ فِيهِ
لِئَلَّا تَتَعَدَّى لِجَمِيعِ بَدَنِهِ ، فَكَانَ يَأْبَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ
فَقَالَتْ لَهُمْ زَوْجَتُهُ : إنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ
يَكُونَ فِي الصَّلَاةِ فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ حَضَرُوا فَقَطَعُوهَا
لَهُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ رَآهُمْ مُحَدِّقِينَ بِهِ فَقَالَ لَهُمْ
: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقْطَعُوا لِي غَيْرَ هَذِهِ الْمَرَّةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى فَقَالُوا لَهُ : هُوَ ذَا فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا شَعَرْت بِكُمْ ،
وَكَذَلِكَ مَا حُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلِّي ، وَانْهَدَمَتْ أُسْطُوَانَةٌ فِيهِ ،
فَهَرِعَ النَّاسُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ يَنْظُرُونَ الْخَبَرَ لِشِدَّةِ
انْزِعَاجِهِمْ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَتَأَثُّرِهِمْ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ لَمْ
يَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ
إذَا كَانَ فِي بَيْتِهِ لَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ فِي حَضْرَتِهِ ، فَإِذَا دَخَلَ
فِي الصَّلَاةِ تَكَلَّمُوا وَلَغَطُوا ، فَسُئِلَ أَهْلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا
: إنَّهُ إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ ، وَظَاهِرُ مَا حُكِيَ
عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ مُشْكِلٌ ، وَبَيَانُ إشْكَالِهِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَشْعُرْ
بِشَيْءٍ مِمَّا
ذُكِرَ ، فَكَيْفَ يَتَأَتَّى مِنْهُ التَّوْفِيَةُ
بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يُزِيلُ هَذَا الْإِشْكَالَ فَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ ، وَيَقُولُ
: إنْ كَانَ فَرْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ إبْقَاءِ بَعْضِ حَالِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَيْهِ
لِتَوْفِيَةِ أَرْكَانِ الْفَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْلِ فَحَقِيقَةُ
الْحُضُورِ فِيهِ أَنْ يَفْنَى الذَّاكِرُ فِي الْمَذْكُورِ .
: ( فَصْلٌ ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ
الْوَارِدِ فِي أَنَّ { الْمُؤْمِنَ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ عِيَالِهِ ، } فَإِذَا كَانَ
فِي الْأَكْلِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَمَا بَالُك بِهِ فِي الْجِمَاعِ ، إذْ أَنَّهُ
مِنْ أَكْبَرِ الْمَلْذُوذَاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، فَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يُوَفِّيَ
لَهَا ذَلِكَ إذَا أَرَادَتْهُ ، وَهُوَ لَا يَطَّلِعُ عَلَى إرَادَتِهَا ؛
لِأَنَّهَا لَا تَطْلُبُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُكِّبَ
فِيهَا مِنْ الشَّهْوَةِ أَضْعَافُ مَا فِي الرَّجُلِ لَكِنْ أَعْطَاهَا اللَّهُ
تَعَالَى مِنْ الْحَيَاءِ مَا يَغْمُرُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، فَإِذَا رَأَى مِنْهَا
أَمَارَاتِ الطَّلَبِ لِذَلِكَ فَلْيُرْضِهَا ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ تَتَزَيَّنَ
وَتَتَعَطَّرَ ، وَتَلْبَسَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَكُونُ
غَرَضُهُ تَابِعًا لِغَرَضِهَا فَيَتَّصِفُ إذْ ذَاكَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ بِشَهْوَةِ
عِيَالِهِ } ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ
مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ
، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ ثَمَّ ضَرُورَةٌ أَكِيدَةٌ لِلْجِمَاعِ فِي وَقْتِهِ
ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ فَيُرِيدُ أَنْ
يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ
رَأَى مِنْكُمْ امْرَأَةً تُعْجِبُهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ، فَإِنَّ الَّذِي
عِنْدَ هَذِهِ عِنْدَ هَذِهِ } فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ ، فَلَا يَنْتَظِرُ
أَمَارَاتِ طَلَبِهَا ، لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمُلَاعَبَةَ قَبْلَ
الْفِعْلِ مَعَ الْآدَابِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .
وَقَدْ وَرَدَ { عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَهْلٌ ، وَرَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ
فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ أَبْدِلْ لِي عِوَضَهَا حُورِيَّةً ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يُبْدِلُ لَهُ عِوَضَهَا حُورِيَّةً } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ
( فَصْلٌ ) وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَعَ زَوْجَتِهِ
أَوْ جَارِيَتِهِ هَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ الشَّنِيعَ الَّذِي أَحْدَثَهُ
بَعْضُ السُّفَهَاءِ ، وَهُوَ إتْيَانُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا ، وَهِيَ
مَسْأَلَةٌ مُعْضِلَةٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى
ذَلِكَ لَكِنَّهُمْ نَسَبُوا ذَلِكَ إلَى الْجَوَازِ ، وَيَقُولُونَ : إنَّهُ
مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ مُنْكَرَةٌ عَنْهُ
لَا أَصْلَ لَهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ نَسَبَهَا إلَى مَالِكٍ إنَّمَا نَسَبَهَا
لِكِتَابِ السِّرِّ ، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ مُتَقَوَّلٌ
عَلَيْهِ ، وَأَصْحَابُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ
مَالِكًا لَمْ يَكُنْ لَهُ كِتَابُ سِرٍّ ، وَفِيهِ مِنْ غَيْرِ هَذَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ
مُنْكَرَةٌ يَجِلُّ غَيْرُ مَالِكٍ عَنْ إبَاحَتِهَا فَكَيْفَ بِمَنْصِبِهِ ،
وَمَا عُرِفَ مَالِكٌ إلَّا بِنَقِيضِ مَا نَقَلُوا عَنْهُ مِنْ أَنْ يَخُصَّ
الْخَلِيفَةَ بِرُخَصٍ دُونَ غَيْرِهِ بَلْ كَانَ يُشَدِّدُ عَلَيْهِمْ ،
وَيَأْخُذُهُمْ بِالسِّيَاسَةِ حَتَّى يُنْزِلَهُمْ عَنْ دَرَجَاتِهِمْ إلَى
دَرَجَاتِ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَا جَرَى لَهُ مَعَ
الْخَلِيفَةِ فِي إقْرَاءِ الْمُوَطَّأِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ قَالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ مَرَّةً : يَا مَالِكُ
مَا زِلْت تُذِلُّ الْأُمَرَاءَ ، فَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ وَالْمَعْهُودُ مِنْ
حَالِهِ مَعَهُمْ ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكُتُبِ
الْمَشْهُورَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ أَيَجُوزُ وَطْءُ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا
؟ فَقَالَ : أَمَا أَنْتُمْ قَوْمٌ عَرَبٌ ؟ أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَ اللَّهِ
تَعَالَى { : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ }
أَيَكُونُ الزَّرْعُ حَيْثُ لَا نَبَاتَ ؟ .
وقَوْله تَعَالَى { أَنَّى شِئْتُمْ } قِيلَ : مَعْنَاهُ
كَيْفَ شِئْتُمْ مُقْبِلَةً أَوْ مُدْبِرَةً أَوْ بَارِكَةً فِي مَوْضِعِ
الزَّرْعِ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَتَى شِئْتُمْ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ رُوِيَ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهُ فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ كَيْفَ شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ فَاعْزِلُوا ، وَإِنْ
شِئْتُمْ فَلَا تَعْزِلُوا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ جَوَازِ ذَلِكَ فَقَالَ : أُفٍّ أُفٍّ أَيَفْعَلُ ذَلِكَ مُؤْمِنٌ ؟
أَوْ قَالَ مُسْلِمٌ ، وَقَدْ خَرَّجَ أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { : مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا } ، وَمِنْ
الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ لَا
تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي مَحَاشِّهِنَّ ، مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى النِّسَاءَ فِي
غَيْرِ مَخْرَجِ الْأَوْلَادِ }
، وَقَدْ
قِيلَ لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكُتُبِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ أَنْتَ
تُبِيحُ ذَلِكَ فَقَالَ : كَذَبَ مَنْ قَالَهُ ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى :
كَذَبُوا عَلَيَّ ، وَقَالَ فِي أُخْرَى : كَذَبُوا عَلَيَّ عَافَاك اللَّهُ أَمَا
تَسْمَعُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ
{ : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ } هَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الزَّرْعِ ، وَلَا
يَكُونُ الْوَطْءُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ ، وَمِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ
لِابْنِ عَطِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي مُصَنَّفِ النَّسَائِيّ قَدْ وَرَدَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إتْيَانُ النِّسَاءِ فِي
أَدْبَارِهِنَّ حَرَامٌ } ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ أَتَى
امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } قَالَ
رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَّبَعُ ، وَلَا يَنْبَغِي
لِمُؤْمِنٍ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَعْرُجَ فِي هَذِهِ
النَّازِلَةِ عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ لَمْ تَصِحَّ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ الْمُرْشِدُ
لَا رَبَّ غَيْرُهُ ، وَمِنْ التَّفْسِيرِ لِلْقُرْطُبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ،
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ تَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَهُ .
قَالَ ، وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ يَسَارِ بْنِ الْحُبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: قَالَ { : مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي
دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
تِلْكَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى أَعْنِي إتْيَانَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا } ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ
بَدْءُ عَمَلِ قَوْمِ لُوطَ إتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُسْتُغْنِيَ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ ،
وَمِنْ كِتَابِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدٍ
الْمَعْرُوفِ بِابْنِ ظَفَرٍ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ
سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْتُمْ أَنَّهَا اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى
.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ
شُرْطِيَّ الْمَدِينَةِ دَخَلَ عَلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَسَأَلَهُ
عَنْ رَجُلٍ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا ،
فَقَالَ لَهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : أَرَى أَنْ تُوجِعَهُ ضَرْبًا ، فَإِنْ عَادَ
إلَى ذَلِكَ فَفَرِّقْ بَيْنَهُمَا ، وَأَمَّا مَا حُكِيَ أَنَّ قَوْمًا مِنْ
السَّلَفِ أَجَازُوا ذَلِكَ ، فَلَا يَصْلُحُ مَعَ مَا ذُكِرَ مِنْ إضَافَتِهِ
إلَيْهِمْ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى سُوءِ ضَبْطِ النَّقَلَةِ ، وَالِاشْتِبَاهِ
عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ الدُّبُرَ اسْمٌ لِلظَّهْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { :
وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } ، وَقَالَ { :
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } أَيْ ظَهْرَهُ ، وَالْمَرْأَةُ تُؤْتَى
مِنْ قُبُلٍ ، وَمِنْ دُبُرٍ انْتَهَى
.
يَعْنِي أَنَّهَا تُؤْتَى مِنْ جِهَةِ ظَهْرِهَا فِي
قُبُلِهَا ، وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فَذَهَبَ يَصْنَعُ بِهَا مَا اعْتَادَهُ
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَذَّذُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
مُقْبِلَاتٍ ، وَمُدْبِرَاتٍ ، وَمُسْتَلْقِيَاتٍ فَأَنْكَرَتْهُ عَلَيْهِ ،
وَقَالَتْ : كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ فَاصْنَعْ ذَلِكَ ، وَإِلَّا
فَاجْتَنِبْنِي حَتَّى سَرَى أَمْرُهُمَا فَبَلَغَ
ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى
{ : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } أَيْ
مُقْبِلَاتٍ ، وَمُدْبِرَاتٍ ، وَمُسْتَلْقِيَاتٍ يَعْنِي بِذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْوَلَدِ .
وَرُوِيَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَقُولُونَ إذَا
جَامَعَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ فِي فَرْجِهَا مِنْ وَرَائِهَا كَانَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ } انْتَهَى .
مِنْ السُّنَنِ لِأَبِي دَاوُد ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ
الْبُخَارِيُّ أَيْضًا .
هَذَا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ ، وَأَمَّا
طَرِيقُ النَّظَرِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إذَا
مُنِعَ الْوَطْءُ فِي الْفَرْجِ فِي حَالِ الْحَيْضِ مِنْ أَجْلِ الْأَذَى
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَيَسْأَلُونَك عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ : هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } ، وَهِيَ
أَيَّامٌ يَسِيرَةٌ مِنْ الشَّهْرِ غَالِبًا ، فَمَا بَالُك بِمَوْضِعٍ لَا
تُفَارِقُهُ النَّجَاسَةُ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ ، وَقَدْ
قَالُوا أَيْضًا : إنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِلِاسْتِمْتَاعِ إلَّا مَا
كَانَ مِنْ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ مُطْلَقًا ، وَفِيمَا تَحْتَ
الْإِزَارِ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ شَهْوَةَ الرَّجُلِ
يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لِشَهْوَةِ الْمَرْأَةِ ، وَوَطْؤُهَا فِي
الدُّبُرِ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ بَلْ تَتَضَرَّرُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
تَحْرِيكُ بَاعِثِ شَهْوَتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنَالَ غَرَضَهَا ، وَالثَّانِي
أَنَّ الْوَطْءَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ يَضُرُّهَا
( فَصْلٌ ) وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي
نَفْسِهِ بِالْفِعْلِ ، وَفِي غَيْرِهِ بِالْقَوْلِ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْقَبِيحَةِ
الَّتِي عَمَّتْ بِهَا الْبَلْوَى فِي الْغَالِبِ ، وَهِيَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا
رَأَى امْرَأَةً أَعْجَبَتْهُ ، وَأَتَى أَهْلَهُ جَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ تِلْكَ
الْمَرْأَةَ الَّتِي رَآهَا ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الزِّنَا لِمَا قَالَهُ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ أَخَذَ كُوزًا يَشْرَبُ مِنْهُ
الْمَاءَ فَصَوَّرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ أَنَّهُ خَمْرٌ يَشْرَبُهُ أَنَّ ذَلِكَ
الْمَاءَ يَصِيرُ عَلَيْهِ حَرَامًا ، وَهَذَا مِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى حَتَّى
لَقَدْ قَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ : إنَّهُ اسْتَفْتَى فِي ذَلِكَ مَنْ يُنْسَبُ
إلَى الْعِلْمِ فَأَفْتَى بِأَنْ قَالَ : إذَا جَعَلَ مَنْ رَآهَا بَيْنَ
عَيْنَيْهِ عِنْدَ جِمَاعِ زَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ ،
وَعَلَّلَهُ بِأَنْ قَالَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَانَ دِينَهُ فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى وُجُودِ الْجَهْلِ وَالْجُهَّلِ بِالْجَهْلِ ،
وَمَا ذُكِرَ لَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ وَحْدَهُ بَلْ الْمَرْأَةُ دَاخِلَةٌ
فِيهِ بَلْ هِيَ أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ
الْخُرُوجُ أَوْ النَّظَرُ مِنْ الطَّاقِ فَإِذَا رَأَتْ مَنْ يُعْجِبُهَا
تَعَلَّقَ بِخَاطِرِهَا ، فَإِذَا كَانَتْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِزَوْجِهَا
جَعَلَتْ تِلْكَ الصُّورَةَ الَّتِي رَأَتْهَا بَيْنَ عَيْنَيْهَا ، فَيَكُونُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى الزَّانِي نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ
، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى اجْتِنَابِ ذَلِكَ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ يُنَبِّهُ
عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَغَيْرَهُمْ ، وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ لَا
يَجُوزُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
{ : إذَا شَرِبَ الْعَبْدُ الْمَاءَ عَلَى شَبَهِ الْمُسْكِرِ كَانَ ذَلِكَ
الْمَاءُ عَلَيْهِ حَرَامًا }
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي لَهُ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ بِأَهْلِهِ
، وَكَانَ بَيْنَهُمَا مَا كَانَ فَلَا يَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهَا
، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ بَعْضُ السُّفَهَاءِ هَذَا الْمَعْنَى فَيَذْكُرُ بَيْنَ
أَصْحَابِهِ ، وَغَيْرِهِمْ مَا كَانَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ أَوْ
جَارِيَتِهِ ، وَهَذَا قَبِيحٌ مِنْ الْفِعْلِ كَفَى بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ
مِنْ فِعْلِ مَنْ مَضَى ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الِاتِّبَاعِ لَهُمْ فِي
الْمَصَادِرِ ، وَالْمَوَارِدِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَمَا لَا يُحَدِّثُ أَحَدًا
مِنْ النَّاسِ بِمَا ذُكِرَ فَكَذَلِكَ لَا يُحَدِّثُ أَهْلَهُ بِشَيْءٍ جَرَى بَيْنَهُ
، وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ كَائِنًا مَا كَانَ ، وَهَذَا النَّوْعُ أَيْضًا مِمَّا
يَتَسَاهَلُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، وَهُوَ قَبِيحٌ إذْ أَنَّ ذَلِكَ
يُحْدِثُ بَيْنَ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ وَالنِّسَاءِ الْمَوَدَّةَ
وَالْمَحَبَّةَ فَيَأْتِي الرَّجُلُ إلَى أَهْلِهِ فَيُثْنِي لَهُمْ عَلَى مَنْ
يَخْطِرُ بِبَالِهِ ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِنَّ مِنْ جِهَتِهِ ، وَالسَّلَامُ
يُحْدِثُ الْمَوَدَّةَ وَالْمَحَبَّةَ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِي السَّلَامِ نَصِيبٌ ، وَقَدْ كَانَ
سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ
يُبَلِّغَ الْإِنْسَانُ لَهُنَّ السَّلَامَ فَإِنَّهُ يُحْدِثُ لَهُنَّ
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُلُوبِ ، وَدُخُولَ وَسْوَاسِ النَّفْسِ وَالْهَوَى
وَالشَّيْطَانِ وَنَزَغَاتِهِ ، فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذِهِ الْعَادَةِ ، فَإِنَّهَا
شَنِيعَةٌ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
: إنَّ السَّلَامَ لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ عَلَى الْمَرْأَةِ الشَّابَّةِ فِي
الِابْتِدَاءِ بِهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحَدِّثَ الْمَرْءُ بِمَا جَرَى لَهُ
مَعَ شَيْخِهِ أَوْ مَنْ يَعْتَقِدُهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ أَوْ مَا يَحْتَاجُ
إلَيْهِ الْمُكَلَّفُ فِي دِينِهِ مِنْ الْآدَابِ ، فَهَذَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ،
وَقَدْ يَجِبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى
آدَابِهِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي بَيْتِهِ لَكِنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ أَوَّلُ
لَيْلَةٍ تَدْخُلُ عَلَيْهِ الزَّوْجَةُ أَوْ الْجَارِيَةُ ،
فَالتَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ
لَهُ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَتِهَا ، وَالنَّاصِيَةُ مَقْدَمُ الرَّأْسِ
زَوْجَةً كَانَتْ أَوْ جَارِيَةً بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا فَيُثْنِيَ عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا ، وَخَيْرَ مَا
جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا
عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَمْضِيَ لِسَبِيلِهِ
فَإِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيُمِرَّ يَدَهُ
عَلَى وَجْهِهِ ، ثُمَّ يَتَشَهَّدْ ثُمَّ يَرْجِعْ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ
إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى ، وَيَلْبَسُ
ثَوْبَهُ ، وَيُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الْكُمِّ قَبْلَ الْيُسْرَى ،
فَإِذَا لَبِسَ ثَوْبَهُ فَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ جَنَابَةٍ قَرَأَ { : إنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلَى آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، وَيَدَاهُ
تُعَرِّكُ النَّوْمَ عَنْ عَيْنَيْهِ كَذَلِكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَفْعَلُ .
ثُمَّ يُسَمِّي اللَّهَ تَعَالَى وَيَقُومُ مِنْ
الْفِرَاشِ فَيَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ أَنْتَ
نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ
قَيُّومُ السَّمَوَاتِ ، وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلَك الْحَمْدُ أَنْتَ
رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، أَنْتَ الْحَقُّ ، وَقَوْلُك
الْحَقُّ ، وَوَعْدُك الْحَقُّ ، وَلِقَاؤُك حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ،
وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ، اللَّهُمَّ لَك أَسْلَمْت ، وَبِك آمَنْت
، وَعَلَيْك تَوَكَّلْت ، وَإِلَيْك أَنَبْت ، وَبِك خَاصَمْت ، وَإِلَيْك
حَاكَمْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت ، وَمَا أَخَّرْت ، وَمَا أَسْرَرْت ، وَمَا أَعْلَنْت
، أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ ، رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ
عِبَادَك .
هَكَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
، وَكَانَ
أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ :
نَامَتْ الْعُيُونُ ، وَغَارَتْ النُّجُومُ ، وَأَنْتَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .
فَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَلَا يَقْرَأُ شَيْئًا مِنْ
الْقُرْآنِ ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى الذِّكْرِ الْمَذْكُورِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا
يَفْعَلُ فِي وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ ، وَغَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ بِأَيِّ نِيَّةٍ يَلْبَسُ ثَوْبَهُ
، وَكَمْ لَهُ فِيهِ مِنْ نِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَأَغْنَى عَنْ
إعَادَتِهِ ، وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الذِّكْرِ عِنْدَ الِاسْتِفَاقَةِ
مِنْ النَّوْمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { : يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى
قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ ، يَضْرِبُ مَكَانَ
كُلِّ عُقْدَةٍ عَلَيْك لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ ، فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ
اللَّهَ تَعَالَى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ ،
فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّهَا فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ
، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ } ، وَكَسَلُ النَّفْسِ فِي
الْغَالِبِ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْعُقَدِ الثَّلَاثِ ، فَإِنْ هُوَ ذَكَرَ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَيَذْهَبُ مِنْ الْكَسَلِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ إنْ تَوَضَّأَ
انْحَلَّتْ الْعُقْدَةُ الثَّانِيَةُ فَيَذْهَبُ مَعَهَا مِنْ الْكَسَلِ بِقَدْرِ
ذَلِكَ ، ثُمَّ إنْ صَلَّى ذَهَبَ الْكَسَلُ كُلُّهُ ، وَبَقِيَ كَمَا قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
حِكْمَةِ الشَّرْعِ فِي كَوْنِهِ شَرَعَ أَنَّهُ إذَا فَعَلَ الْمَرْءُ مَا ذُكِرَ
يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ
طَوِيلَتَيْنِ ، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ إلَى أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ ، فَشَرَعَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلًا
رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ حَتَّى تَذْهَبَ عُقَدُ الشَّيْطَانِ كُلُّهَا ،
وَيَذْهَبَ أَثَرُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَجِدَ بِسَبَبِ النَّشَاطِ الَّذِي يَحْصُلُ
لَهُ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى طُولِ الْقِيَامِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّهُ يُدْخِلُ يَدَهُ
الْيُمْنَى فِي كُمِّهِ الْيَمِينِ أَوَّلًا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ ، وَتَرَجُّلِهِ
، وَتَنَعُّلِهِ } فَعَمَّتْ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا بِقَوْلِهَا فِي شَأْنِهِ
كُلِّهِ ، ثُمَّ فَصَّلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؛
لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَخْلُو
فِعْلُهُ مِنْ إحْدَى ثَلَاثٍ : إمَّا وَاجِبٌ أَوْ
مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ ، فَذَكَرَتْ الطُّهُورَ لِتُشِيرَ بِهِ إلَى جِنْسِ
الْوَاجِبَاتِ ، وَالتَّرَجُّلَ لِجِنْسِ الْمَنْدُوبَاتِ ، وَالتَّنَعُّلَ
لِجِنْسِ الْمُبَاحَاتِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي اللُّبْسِ
فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَكْسُهُ فِي النَّزْعِ ، فَإِذَا نَزَعَ ثَوْبَهُ
فَيَبْدَأُ بِنَزْعِ الْكُمِّ مِنْ الْيَدِ الْيُسْرَى قَبْلَ الْيُمْنَى عَلَى
مَا تَقَدَّمَ مِنْ نَزْعِ النَّعْلِ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ ، وَالْخُرُوجِ
مِنْهُ
( فَصْلٌ ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ مَعَ
شَيْخِهِ أَعْنِي فِي الِاجْتِمَاعِ بِهِ مُخْتَارًا لِلْأَوْقَاتِ الَّتِي
يَعْلَمُ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ بِهِ فِيهَا يَخِفُّ عَلَيْهِ تَحَرُّزًا مِنْ أَنْ
يَجِدَ لِلِاجْتِمَاعِ بِهِ كُلْفَةً ، فَيُحْرَمَ الْعِلْمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوْ
بَرَكَتَهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الشَّيْخُ عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ مَا هُوَ أَهَمُّ عَلَيْهِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ ، وَهَذَا
النَّوْعُ كَثِيرًا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ
تَجِدُهُمْ يَعْتَقِدُونَ الشَّخْصَ ، وَيَقُولُونَ بِبَرَكَتِهِ ثُمَّ إنَّهُمْ
يَخْتَارُونَ الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ فَيَأْتُونَ فِيهَا إلَى زِيَارَتِهِ فَيُشْغِلُونَهُ
عَنْ اغْتِنَامِ بَرَكَةِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ ، فَيَصِيرُ هُوَ وَهُمْ
بِالسَّوَاءِ أَعْنِي فِي بَطَالَةِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ الشَّرِيفَةِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى إلَيْهِمْ ذَلِكَ
فَتَجِدُهُمْ مُخَالِفِينَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُمْ فِي
شَهْرِ رَمَضَانَ إذْ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ تَنَاكَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ
بَعْضٍ ، وَنَفَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى إذَا فَرَغَ
اجْتَمَعُوا ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِخِلَافِ مَا الْحَالُ
عَلَيْهِ الْيَوْمَ ، فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ شَهْرُ رَمَضَانَ كَثُرَ
اجْتِمَاعُهُمْ وَزِيَارَتُهُمْ فِيهِ ، فَمَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ إلَى
قَرِيبِهِ أَوْ صَاحِبِهِ أَوْ مُعَلِّمِهِ يَجِدُّونَ عَلَيْهِ ، وَيَقَعُ
التَّشْوِيشُ بَيْنَهُمْ ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى
عَكْسِ الْأُمُورِ وَارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي مَعَ رُؤْيَةِ النَّفْسِ
أَنَّهَا عَلَى الْخَيْرِ وَالدِّينِ ، فَيَرَوْنَ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمْ فِي
هَذِهِ الْأَيَّامِ الشَّرِيفَةِ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَتَقَرَّبُونَ بِهَا
إلَيْهِ
فَصْلٌ فِي نُبَذٍ بَقِيَتْ لَمْ تُذْكَرْ بَعْدُ : فَمِنْهَا أَنَّ
طَالِبَ الْعِلْمِ إذَا كَانَ سَاكِنًا فِي الْمَدْرَسَةِ أَوْ الرِّبَاطِ
فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ أُمُورٍ : مِنْهَا أَنْ لَا يَدَعَ
الْوُضُوءَ مِنْ مَاءِ الْفَسْقِيَّةِ أَوْ الْبِئْرِ ، وَلَا يَتَوَضَّأَ مِنْ
مَاءِ الصِّهْرِيجِ أَوْ الزِّيرِ الْمُعَدَّيْنِ لِلشُّرْبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
إنَّمَا عُمِلَ لِلشُّرْبِ لَا لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّهُ قُدْوَةٌ لِغَيْرِهِ فَقَدْ يُقْتَدَى بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً
إلَى فِعْلِ مَا لَا يَجُوزُ ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ ، وَهُوَ
لَا يَجُوزُ لِمَا تَقَدَّمَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَوَضَّأَ عَلَى
الْبَلَاطِ الَّذِي عَلَى السُّقُوفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْبَلَاطِ وَالْخَشَبِ
، وَهُمَا وَقْفٌ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْتَجْمِرَ بِالْحِجَارَةِ
وَيَدَعَهَا فِي الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ الْقَيِّمَ إذَا وَجَدَهَا هُنَاكَ
رَمَاهَا فِي السَّرَبِ فَيَمْتَلِئُ بِالْحِجَارَةِ ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ
بِالْوَقْفِ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَجْمِرَ بِحَائِطِ الْوَقْفِ أَوْ
بِأُصْبُعِهِ ، وَيَمْسَحَ مَا أَصَابَهُ فِي الْحَائِطِ ، وَهَذَا النَّوْعُ قَدْ
كَثُرَ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ ، وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا لَمْ يَتَوَضَّأْ فِي
الْفَسْقِيَّةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وِعَاءٌ يَتَوَضَّأُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا
احْتَاجَ إلَى الْغُسْلِ يَكُونُ لَهُ وِعَاءٌ يَغْتَسِلُ فِيهِ لِئَلَّا يَضُرَّ
بِالسَّقْفِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ إذَا صَعِدَ أَوْ نَزَلَ أَنْ يَمْشِيَ
بِرِفْقٍ إذْ أَنَّ الْمَشْيَ بِقُوَّةٍ يَضُرُّ بِالْبَلَاطِ وَالسُّقُوفِ ،
وَهُمَا وَقْفٌ سِيَّمَا إذَا كَانَ بِقَبْقَابٍ فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا جَهْدَهُ ،
فَهَذَا مُنْتَهَى الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ عَلَى
آدَابِ الْعَالِمِ ، وَالْمُتَعَلِّمِ لِيَتَنَبَّهَ بِمَا ذُكِرَ عَلَى مَا لَمْ
يُذْكَرْ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ فِي نِيَّةِ الْإِمَامِ ، وَالْمُؤَذِّنِ ، وَآدَابِهِمَا
، وَالْكَلَامُ عَلَيْهِمَا مُشْتَرَكٌ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْعَالِمِ
وَالْمُتَعَلِّمِ ، فَالْإِمَامُ لَهُ آدَابٌ تَخُصُّهُ فَمِنْهَا مَا هُوَ
وَاجِبٌ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَنْدُوبٌ ، وَمِثْلُهُ الْمُؤَذِّنُ فَالْوَاجِبُ
عَلَى الْإِمَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ : أَنْ يَكُونَ فِيهِ ثَمَانِيَةُ
أَوْصَافٍ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا عَدْلًا
مُتَكَلِّمًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ أَوْ لِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقِيهًا بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ
، وَالْمُؤَذِّنُ : شَرَطُوا فِيهِ أَيْضًا ثَمَانِيَةَ أَوْصَافٍ ، وَهِيَ أَنْ
يَكُونَ مُسْلِمًا عَاقِلًا بَالِغًا ذَكَرًا عَدْلًا مُتَكَلِّمًا عَارِفًا
بِالْأَوْقَاتِ سَالِمًا مِنْ اللَّحْنِ فِي الْأَذَانِ ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ
أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ ، وَهِيَ : كُلُّ صَلَاةٍ لَا
تَصِحُّ إلَّا فِي جَمَاعَةٍ حَتَّى تَحْصُلَ لَهُ فَضِيلَتُهَا ، وَلَا
يَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ الْإِمَامَةَ فِي غَيْرِهَا ، وَهِيَ صَلَاةُ
الْجُمُعَةِ ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ ، وَالْجَمْعُ لِلْمَطَرِ ، وَصَلَاةُ
الْجِنَازَةِ ، وَإِذَا كَانَ مَأْمُومًا ، وَاسْتُخْلِفَ هَذَا الَّذِي يَجِبُ فِيهِ
نِيَّةُ الْإِمَامَةِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ ، فَلَا يَجِبُ لَكِنْ إذَا لَمْ يَنْوِ
الْإِمَامَةَ لَا تَحْصُلُ لَهُ فَضِيلَةُ مَنْ نَوَاهَا ، وَإِذَا نَوَاهَا
فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَ ذَلِكَ نِيَّةَ الْإِيمَانِ
وَالِاحْتِسَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ .
وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَنْوِيَ
أَنَّهُ مَأْمُومٌ فَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ ،
وَالْإِمَامَةُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فَإِذَا عَزَمَ عَلَيْهَا فَلْيَنْوِ
بِذَلِكَ أَنَّهُ يَقُومُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ حَتَّى يُسْقِطَ ذَلِكَ عَنْ
إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَسَارَعَ إلَيْهَا ،
وَلَا يَتْرُكَهَا رَغْبَةً عَنْهَا ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ جَمَاعَةً تَرَادُّوا الْإِمَامَةَ
بَيْنَهُمْ فَخُسِفَ بِهِمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَوَرَّعُ عَنْ
الْإِمَامَةِ ، وَهُوَ خَطَأٌ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يُبَادِرُ
إلَيْهَا ، وَهُوَ خَطَأٌ أَيْضًا وَأَمَّا فِي زَمَانِنَا
هَذَا أَعْنِي فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ ، وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَنْبَغِي
لِمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ أَنْ يُبَادِرَ إلَيْهَا إذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ حَالَ
الْإِمَامِ ، وَأَمَّا مَعَ مَعْرِفَتِهِ فَيَعْمَلُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ
ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إذَا
أَخَذَك وَقْتُ الصَّلَاةِ بِمَسْجِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ ، فَإِنْ كُنْت فِي
بِلَادِ الْمَغْرِبِ فَصَلِّ حَيْثُ كُنْت ، وَلَيْسَ عَلَيْك إعَادَةٌ ، وَإِنْ
كُنْت فِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ وَمَا أَشْبَهَهَا فَيَقَعُ التَّفْصِيلُ
بَيْنَ أَنْ تَعْلَمَ حَالَ الْإِمَامِ أَمْ لَا فَتَعْمَلَ عَلَى مَا تَعْلَمُ مِنْ
حَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ مَضَتْ صَلَاتُك ، وَإِلَّا فَتُعِيدُهَا
، وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعَلِّلُ ذَلِكَ فَيَقُولُ : إنَّ بِلَادَ الْمَغْرِبِ لَا
يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ فِي الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ إلَّا مَنْ أَجْمَعَ أَهْلُ
تِلْكَ الْبَلَدِ عَلَى فَضِيلَتِهِ وَتَقْدُمَتِهِ فِي الْعِلْمِ ، وَالْخَيْرِ ،
وَالصَّلَاحِ ، وَسَائِرَ الْمَسَاجِدِ لَا يَتَوَلَّى الْإِمَامَةَ فِيهَا إلَّا
مَنْ أَجْمَعَ أَهْلُ تِلْكَ النَّاحِيَةِ عَلَى فَضِيلَتِهِ عَلَيْهِمْ .
وَأَمَّا الدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ وَمَا أَشْبَهَهَا ،
فَإِنَّ الْإِمَامَةَ فِيهَا بِالدَّرَاهِمِ غَالِبًا ، وَهِيَ إذَا كَانَتْ
كَذَلِكَ لَا يَتَوَلَّاهَا إلَّا صَاحِبُ جَاهٍ أَوْ شَوْكَةٍ ، وَمَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ
فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الدِّينِ ، فَإِذَا صَلَّى خَلْفَهُ ، وَهُوَ لَا
يَعْرِفُ أَعَادَ صَلَاتَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { :
أَئِمَّتُكُمْ شُفَعَاؤُكُمْ فَانْظُرُوا بِمَنْ تَسْتَشْفِعُونَ } ، وَيَنْبَغِي
لَهُ إذَا تَوَلَّى الْإِمَامَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ
صَادِقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَا يَطْلُبُ بِذَلِكَ عِوَضًا عَنْ ثَنَاءٍ ، وَلَا
رَاحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ ، وَلَا صُورَةٍ مُمَيَّزَةٍ بَيْنَ النَّاسِ ، بَلْ يَجْعَلُ
ذَلِكَ لِوَجْهِ رَبِّهِ خَالِصًا ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ مِنْ أَكْبَرِ
مُهِمَّاتِ الدِّينِ .
، وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : مَنْ عَمِلَ مِنْ هَذِهِ
الْأَعْمَالِ شَيْئًا يُرِيدُ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ
الْجَنَّةِ ، وَعَرْفُهَا يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ }
فَيَحْذَرُ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { : ثَلَاثَةٌ عَلَى
كُثْبَانِ الْمِسْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَغْبِطُهُمْ الْأَوَّلُونَ ، وَالْآخِرُونَ
عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَّ مَوَالِيهِ ، وَرَجُلٌ أَمَّ
قَوْمًا وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ ، وَرَجُلٌ يُنَادِي بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كُلَّ
يَوْمٍ ، وَلَيْلَةٍ ، } فَإِنْ خَافَ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَمَاعَةِ مَنْ
يَكْرَهُ إمَامَتَهُ فَتَرْكُهَا إذْ ذَاكَ أَفْضَلُ لَهُ ، وَذَلِكَ بِشَرْطِ
أَنْ تَكُونَ الْكَرَاهَةُ عَلَى مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ حَذَرًا أَنْ يَكْرَهَ أَحَدٌ
إمَامَتَهُ لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ أَوْ نَفْسَانِيٍّ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ،
فَإِنْ كَانَتْ الْكَرَاهَةُ شَرْعِيَّةً فَلَا يَتَقَدَّمُ لِمَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ { : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ
ثَلَاثًا رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ
وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ ، وَرَجُلٌ سَمِعَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ لَمْ
يُجِبْ }
فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَى الْإِمَامَةِ مَعْلُومٌ ، فَلَا
يَأْخُذُهُ بِنِيَّةِ الْإِجَارَةِ ، بَلْ يَأْخُذُهُ عَلَى نِيَّةِ الْفُتُوحِ
مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ عَلَى فِعْلِ الْإِمَامَةِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَعَلَامَتُهُ أَنْ لَا
يَطْلُبَهُ ، وَلَا يَجِدَ الْقَلَقَ حِينَ قَطْعِهِ عَنْهُ ، وَلَا يَتَضَجَّرَ ،
وَلَا يَتْرُكَ مَا هُوَ بِصَدَدِهِ ، فَإِنْ طَلَبَ أَوْ تَضَجَّرَ فَقَدْ خَرَجَ
عَنْ بَابِ الْمَنْدُوبِ إلَى بَابِ الْمَكْرُوهِ أَوْ الْمُحَرَّمِ كَمَا
تَقَدَّمَ فِي أَمْرِ الْعَالِمِ ، وَلَوْ تَكَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِنِيَّةِ
الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَإِرْشَادِ الْمُسْلِمِينَ
لِمَصَالِحِ دِينِهِمْ فَذَلِكَ سَائِغٌ مَا لَمْ يَصْحَبْهُ حَظٌّ مَا فَإِنْ
صَحِبَهُ فَيُكْرَهُ أَوْ يُمْنَعُ بِحَسَبِ الْحَالِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ
يَتَحَفَّظَ عَلَى الْأَوْقَاتِ أَكْثَرَ مِنْ تَحَفُّظِ
الْمُؤَذِّنِ عَلَيْهَا ، إذْ أَنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ الْمُؤَذِّنُ فِي بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ
وَقْتِهَا ، وَالْمُؤْمِنُ كَفِيلٌ لِأَخِيهِ فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ
يَتَحَفَّظُ عَلَى الْأَوْقَاتِ فَقَلَّ أَنْ يَتَأَتَّى خَطَؤُهُمَا مَعًا ، بَلْ
إذَا أَخْطَأَ هَذَا أَصَابَ هَذَا فِي الْغَالِبِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ : أَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَوْقَاتِ فَرْضٌ فِي حَقِّ كُلِّ مُكَلَّفٍ ،
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَا بَالُك بِمَنْ لَهُ الْإِمَامَةُ إذْ بِهِ الْحَلُّ
وَالرَّبْطُ فِي الصَّلَاةِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ عَلَى مَنْصِبِ
الْإِمَامَةِ مِمَّا يَتَعَاطَاهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي
تُزْرِي بِصَاحِبِهَا مِنْ الْمِزَاحِ ، وَكَثْرَةِ الضَّحِكِ سِيَّمَا مَعَ
الْأَجَانِبِ ، وَالْمَشْيِ فِي الْأَسْوَاقِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ،
وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تُزْرِي بِصَاحِبِهَا ، وَلَيْسَ
ذَلِكَ مِنْ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فِي شَيْءٍ .
وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ الْجُلُوسِ عَلَى الطَّرَقَاتِ } كَمَا تَقَدَّمَ ، وَبَعْضُهُمْ
يَقْعُدُ عَلَى دُكَّانِ الْبَيَّاعِ لَا لِحَاجَةٍ ، وَذَلِكَ جُلُوسٌ عَلَى
الطُّرُقَاتِ ، وَهُوَ مَوْضِعُ النَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَيَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ الْجَمَاعَةِ قَلَقًا وَخَوْفًا ، وَأَكْثَرَهُمْ عِلْمًا
وَخَشْيَةً وَرِقَّةً ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الصَّلَاةَ تُرْفَعُ عَلَى أَتْقَى
قَلْبِ رَجُلٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ هُوَ
الْمُتَّصِفُ بِذَلِكَ حَتَّى يُحَصِّلَ جَمِيعَ مَنْ خَلْفَهُ فِي صَحِيفَتِهِ ،
وَفِي خِفَارَتِهِ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ
تَقَدَّمَهُمْ فَضْلًا ، وَيَرَى الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَيْهِ ، وَيَتَخَوَّفُ عَلَى
ذِمَّتِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الْإِمَامُ ضَامِنٌ ،
وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
وَيَنْبَغِي لَهُ بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرُ مُهِمَّاتِهِ
التَّحَفُّظَ مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُتَّخَذَةِ ،
وَالْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ حَتَّى
صَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ السُّنَنِ الْمَعْمُولِ بِهَا عِنْدَهُمْ ، حَتَّى لَوْ
تَرَكَهَا أَحَدٌ الْيَوْمَ لَوَجَدُوا عَلَيْهِ ، وَقَالُوا : تَرَكَ السُّنَّةَ
فَظَهَرَ ذَلِكَ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ
{ : كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت بِدْعَةً قَالُوا : تَرَكَ سُنَّةً } فَيَتَحَفَّظُ
مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِرِ جَهْدَهُ إذْ أَنَّهُ عَلَمٌ لِلْعَامَّةِ فِي
الْمَسْجِدِ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الْغَالِبِ
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْبِدَعِ الَّتِي أُحْدِثَتْ
فِي الْمَسْجِدِ وَالْأَمْرِ بِتَغْيِيرِهَا قَالَ الرَّسُولُ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَسْجِدَ وَمَا يُفْعَلُ فِيهِ مِنْ
رَعِيَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْقَيِّمِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّنْ
لَهُ التَّصَرُّفُ .
أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
حِينَ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ وَرُئِيَ مِنْهُ
كَرَاهِيَةٌ أَوْ رُئِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَشِدَّتُهُ عَلَيْهِ وَقَالَ : {
إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا قَامَ يُصَلِّي فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ ، أَوْ رَبُّهُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلَا يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ وَلَكِنْ عَنْ
يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ
وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَقَالَ أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا } فَنَظَرُهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ مِنْ بَعْضِ فَوَائِدَ ، إذْ أَنَّ الْمَسْجِدَ
مِنْ جُمْلَةِ رَعِيَّتِهِ .
وَقَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَكِنْ
عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مِثْلِ مَسْجِدِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الَّذِي هُوَ مَفْرُوشٌ بِالرَّمْلِ ، أَمَّا
غَيْرُهُ مِمَّا هُوَ مَفْرُوشٌ بِالْحُصُرِ أَوْ بِالرُّخَامِ أَوْ بِالْبَلَاطِ
فَيُكْرَهُ ذَلِكَ فِيهِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الثَّالِثُ الَّذِي ذَكَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَهُوَ : أَنْ يَبْزُقَ فِي طَرَفِ رِدَائِهِ وَيَحُكَّهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَبْصُقُ تَحْتَ طَرَفِ الْحَصِيرِ
وَيَرُدُّ الْحَصِيرَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الدَّفْنِ لَهَا كَمَا هُوَ
الْمَذْهَبُ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنْ كَثْرَةِ تَعْظِيمِهِمْ لِلْمَسَاجِدِ
وَاحْتِرَامِهَا ، وَأَنَّ مَسَاجِدَهُمْ كَانَتْ يُمْكِنُ الدَّفْنُ فِيهَا
غَالِبًا وَقَلَّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ ذَلِكَ لِشِدَّةِ التَّعْظِيمِ ، بِخِلَافِ
مَا عَلَيْهِ الْحَالُ الْيَوْمَ فَتَعَاطِي الْقَلِيلَ مِنْهُ يُؤَدِّي إلَى
الْكَثِيرِ ، وَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِوُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ فِيهِ اسْتِقْذَارًا لِلْمَسْجِدِ .
الثَّانِي :
أَنَّ الذُّبَابَ يَجْتَمِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ
فَيُشَوِّشُ عَلَى مَنْ فِي الْمَسْجِدِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِدِ
أَحَدٌ فَيُمْنَعُ ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ
بَنُو آدَمَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْخُشَاشَ يَكْثُرُ بِسَبَبِهَا ؛
لِأَنَّهُ يَتَغَذَّى بِهَا .
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا يُسَمَّى تَغْطِيَةً وَلَا
يُسَمَّى دَفْنًا .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِ مَنْ
مَضَى .
السَّادِسُ :
أَنَّ فِيهِ نَوْعًا مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ
الْحَصِيرَ إذَا فُعِلَ ذَلِكَ تَحْتَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى آلَ إلَى
تَقْطِيعِهِ .
السَّابِعُ :
أَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي الْوَقْفِ فِي غَيْرِ مَا
جُعِلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهَا .
الثَّامِنُ : أَنَّ ذَلِكَ يُكْسِبُ الرَّائِحَةَ
الْكَرِيهَةَ فِي الْمَسْجِدِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَطْيِيبِهِ وَهَذَا ضِدُّهُ .
التَّاسِعُ :
أَنَّهُ يُخَافُ أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الْبُصَاقِ شَيْءٌ
مِنْ الدَّمِ وَهُوَ نَجِسٌ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ قَيْحٍ وَصَدِيدٍ مِمَّنْ بِهِ
مَرَضٌ .
وَهَذَا مِثْلُ مَا قَالُوهُ فِيمَنْ بَقِيَ بَيْنَ
أَسْنَانِهِ شَيْءٌ مِنْ أَثَرِ مَا أَكَلَ إذْ أَنَّهُ إذَا عَالَجَهُ
وَأَزَالَهُ فَلَا يَبْتَلِعُهُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مُخَالَطَتُهُ لِشَيْءٍ مِنْ
دَمِ اللِّثَاتِ ، وَكَذَلِكَ السِّوَاكُ لَا يَسْتَاكُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهُ
مِنْ الْمَرَّةِ الْأُولَى لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَالَطَهُ
شَيْءٌ مِنْ النَّجَاسَةِ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ إذَا سَلِمَ مِنْ النَّجَاسَةِ فَفِعْلُهُ
ذَلِكَ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّ بُصَاقَهُ إلَى فِيهِ ، وَذَلِكَ
مُسْتَقْذَرٌ ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالسِّوَاكِ لِأَجْلِ النَّظَافَةِ ، وَهَذَا
ضِدُّهُ .
هَذَا إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ حَصِيرٌ ، فَإِنْ
كَانَ فِيهِ رُخَامٌ أَوْ بَلَاطٌ أَوْ غَيْرُهُمَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الدَّفْنُ
فِيهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيُمْنَعُ الْبُصَاقُ فِيهِ أَيْضًا لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ وَكَفَّارَتُهَا
دَفْنُهَا } وَدَفْنُهَا لَا
يُمْكِنُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ تَكُونَ خَطِيئَةً .
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَسْجِدَ مِنْ رَعِيَّةِ
الْإِمَامِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ ، فَمَا كَانَ فِيهِ عَلَى مِنْهَاجِ
السَّلَفِ الْمَاضِينَ أَبْقَاهُ وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ أَزَالَهُ
بِرِفْقٍ وَتَلَطُّفٍ ، إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ صِفَتِهِ
أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ حَائِلٌ يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ رُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ
لِبَعْضٍ .
أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
حِينَ اعْتَكَفَ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ اتَّخَذَ حُجْرَةً مِنْ حَصِيرٍ ،
وَالْحَصِيرُ مِمَّا لَا يَتَأَبَّدُ
.
وَقَدْ نَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْأَحْكَامِ
الصُّغْرَى لَهُ قَالَ مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ { : كَانَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرٌ وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنْ
اللَّيْلِ فَيُصَلِّي فِيهِ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ
وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ } الْحَدِيثَ
.
هَذَا وَهُوَ لِضَرُورَةِ الِاعْتِكَافِ فَمَا بَالُكَ
بِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ
.
فَعَلَى هَذَا فَفِعْلُ الْمَقَاصِيرِ وَالدَّرَابْزِينِ
مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ ، وَقَدْ تَرَتَّبَ بِسَبَبِ ذَلِكَ جُمْلَةُ
مَفَاسِدَ .
أَوَّلُهَا :
أَنَّ الْمَوْضِعَ وُقِفَ لِلصَّلَاةِ وَمَا فُعِلَ
فِيهِ لِغَيْرِهَا فَهُوَ غَصْبٌ لِمَوَاضِعِ صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّانِي : أَنَّ فِيهِ تَقْطِيعَ الصُّفُوفِ وَذَلِكَ
خِلَافُ السُّنَّةِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِقْبَالُ الْخَطِيبِ فِي حَالِ
خُطْبَتِهِ وَلَا رُؤْيَتُهُ بِسَبَبِهَا ، إذْ أَنَّهَا تَحُولُ بَيْنَ
الْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ .
وَقَدْ وَرَدَ { إذَا قَامَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَاسْتَقْبِلُوهُ
بِوُجُوهِكُمْ وَارْمُقُوهُ بِأَعْيُنِكُمْ } مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْمَقَاصِيرِ
وَالدَّرَابْزِينِ لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ ، فَكَانَتْ سَبَبًا لِمُخَالَفَةِ
السُّنَّةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَى
إلَى أَمْرٍ مُسْتَهْجَنٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يَجِدُ السَّبِيلَ
إلَى الْوُصُولِ إلَى أَغْرَاضِهِ الْخَسِيسَةِ بِارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ أَوْ
مَكْرُوهٍ لِكَوْنِهِ يَتَوَارَى
فِيهَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ .
الْخَامِسُ
: أَنَّهُ قَدْ يَنَامُ فِيهَا بَعْضُ الْغُرَبَاءِ
لِلضَّرُورَةِ ، فَيَجِدُ اللِّصُّ السَّبِيلَ إلَى أَخْذِ مَتَاعِهِ إذْ أَنَّهُ
لَيْسَ ثَمَّ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِسَبَبِهَا ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي
الْمَسْجِدِ كَثِيرًا .
السَّادِسُ : أَنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَعْضُ النَّاسِ السَّبِيلَ
إلَى أَنْ يَبُولَ فِي الْمَسْجِدِ بِسَبَبِهَا ، إذْ أَنَّهُ يَسْتَتِرُ بِهَا
فَلَا يُرَدُّ إذْ ذَاكَ سِيَّمَا الصِّبْيَانُ الصِّغَارَ الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ
حَالُهُمْ فِي الْغَالِبِ .
السَّابِعُ : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَفَةِ
السُّنَّةِ .
الثَّامِنُ : أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ زَخْرَفَةِ
الْمَسَاجِدِ وَذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ .
التَّاسِعُ :
قَدْ يَجِيءُ أَعْمَى لَا يَهْتَدِي بِتِلْكَ الْأَبْوَابِ
الضَّيِّقَةِ الَّتِي فِي الدَّرَابْزِينِ فَكَانَتْ سَبَبًا لِإِدْخَالِ
الضَّرَرِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ .
وَكَانَ سَبَبُ اتِّخَاذِهَا أَنَّ الْخِلَافَةَ لَمَّا
رَجَعَتْ مُلْكًا وَتَخَوَّفَ الْمُلُوكُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ الْقَتْلِ
عَمِلُوا هَذِهِ الْمَقَاصِيرَ لِيَتَحَصَّنُوا بِهَا مِمَّنْ يَثِبُ إلَى
قَتْلِهِمْ ، فَلَا يَدْخُلُهَا إلَّا خَاصَّةُ الْمَلِكِ وَحُجَّابُهُ عَلَى
بَابِهَا .
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ قَالَ مَالِكٌ : أَوَّلُ مَنْ
جَعَلَ الْمَقْصُورَةَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ حِينَ طَعَنَهُ الْيَمَانِيُّ
فَجَعَلَ مَقْصُورَةً مِنْ طِينٍ وَجَعَلَ فِيهَا تَشْبِيكًا .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَالْمَقْصُورَةُ
مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَلَا عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ ، وَإِنَّمَا أَحْدَثَهَا
الْأُمَرَاءُ لِلْخَوْفِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَاِتِّخَاذُهَا فِي الْجَوَامِعِ
مَكْرُوهٌ ، فَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً تُفْتَحُ أَحْيَانَا وَتُمْنَعُ
أَحْيَانَا فَالصَّفُّ الْأَوَّلُ هُوَ الْخَارِجُ عَنْهَا اللَّاصِقُ بِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً غَيْرَ مَمْنُوعَةٍ فَالصَّفُّ
الْأَوَّلُ هُوَ اللَّاصِقُ بِجِدَارِ الْقِبْلَةِ فِي دَاخِلِهَا ، رُوِيَ ذَلِكَ
عَنْ مَالِكٍ .
وَقَوْلُهُ : وَجَعَلَ فِيهَا تَشْبِيكًا يُرِيدُ
تَخْرِيمًا
يَرَى مِنْهُ النَّاسُ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ
لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ .
ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ حَتَّى صَارَتْ
تُعْمَلُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مِنْ زِيِّ الْمَسْجِدِ ،
وَكَثُرَ هَذَا حَتَّى صَارَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ
مَدْرَسَةً وَيَقِفَ لَهَا وَقْفًا يَأْخُذُ مِنْ الْجَامِعِ نَاحِيَةً حَيْثُ يَخْتَارُ
فِيهِ فَيُدِيرُهَا بِالدَّرَابْزِينِ وَيَجْعَلُهَا لِأَخْذِ الدَّرْسِ فِيهَا ،
فَسَرَى الْأَمْرُ إلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ
غَيْرِ الْفُقَهَاءِ يَدْخُلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِلضَّرُورَةِ الَّتِي تُقْصَدُ
لَهَا الْمَسَاجِدُ ، فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَيُطْرَدُ فِي وَقْتِ الدَّرْسِ ،
وَهَذَا غَصْبٌ وَإِحْدَاثٌ وَتَصَرُّفٌ فِي الْوَقْفِ لَا شَكَّ فِيهِ .
( فَصْلٌ
)
( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْكُرْسِيُّ الْكَبِيرُ
الَّذِي يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَامِعِ وَيُؤَبِّدُونَهُ وَعَلَيْهِ الْمُصْحَفُ لِكَيْ
يُقْرَأَ عَلَى النَّاسِ ، وَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُمْسَكُ بِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ مَوْضِعٌ كَبِيرٌ وَهُوَ
وَقْفٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ لِصَلَاتِهِمْ .
الثَّانِي :
أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ
لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ الْمُصَلِّي وَمِنْهُمْ التَّالِي وَمِنْهُمْ الذَّاكِرُ
وَمِنْهُمْ الْمُفَكِّرُ ، فَإِذَا قَرَأَ الْقَارِئُ إذْ ذَاكَ قَطَعَ عَلَيْهِمْ
مَا هُمْ فِيهِ .
وَقَدْ نَهَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ
رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْمَسْجِدِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { لَا يَجْهَرْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْقُرْآنِ ، } وَهُوَ
نَصٌّ فِي عَيْنِ الْمَسْأَلَةِ ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ
يَكُونَ الْمُسْتَمِعُونَ أَكْثَرَ مِمَّنْ يَتَشَوَّشُ مِنْ الْمُشْتَغِلِينَ
بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِنْ شَوَّشَ عَلَى
وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِوُجُودِ الضَّرَرِ .
وَقَدْ قَالَ
: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا
ضِرَارَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ ضَارَّ ضَارَّ
اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَقَالَ : عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا } رَوَاهَا
التِّرْمِذِيُّ .
وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَجَّاجُ أَعْنِي الْقِرَاءَةَ فِي الْمُصْحَفِ وَلَمْ يَكُنْ
ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ مَنْ مَضَى ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ أَرْسَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ الْمَصَاحِفَ إلَى الْأَمْصَارِ تُوضَعُ فِي الْجَوَامِعِ ،
فَالْجَوَابُ : أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ لِتَجْمِيعِ النَّاسِ عَلَى مَا
أُثْبِتَ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أُجْمِعَ عَلَيْهِ ، خَاصَّةً لِيَذْهَبَ
التَّنَازُعُ فِي الْقُرْآنِ وَيُرْجَعَ لِهَذَا الْمُصْحَفِ إذَا اُخْتُلِفَ فِي
شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَيُتْرَكَ مَا عَدَاهُ ؛ لِأَنَّهُ إمَامُ الْمَصَاحِفِ
وَقَدْ أُمِنَ الِاخْتِلَافُ فِيهِ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
فَلَا يُكْتَبُ مُصْحَفٌ وَيُجْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا أَحْدَثُوهُ فِي
الْمَسْجِدِ مِنْ الصَّنَادِيقِ الْمُؤَبَّدَةِ الَّتِي يَجْعَلُ فِيهَا بَعْضُ
النَّاسِ أَقْدَامَهُمْ وَغَيْرَهَا مِنْ أَثَاثِهِمْ ، وَذَلِكَ غَصْبٌ
لِمَوْضِعِ مُصَلَّى الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ : وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ
اللَّهُ التَّابُوتَ الَّذِي جُعِلَ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّدَقَاتِ ، وَرَآهُ مِنْ
حَرْثِ الدُّنْيَا انْتَهَى .
وَمِنْ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْوَقْفِ وَالتَّغْيِيرِ
لِمَعَالِمِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ دَعَتْ إلَى ذَلِكَ مَا يَفْعَلُهُ
بَعْضُهُمْ مِنْ حَفْرِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ مَوْضِعًا كَالْخِزَانَةِ
الصَّغِيرَةِ يَعْمَلُ فِيهَا مَا يَخْتَارُ مِنْ خَتْمَةٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ
غَيْرِهِمَا ، فَعَلَى مَا ذُكِرَ فَقِسْ كُلَّ مَا يَرِدُ عَلَيْكَ مِمَّا
أَحْدَثُوهُ فِي الْمَسْجِدِ .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الدَّكَّةُ الَّتِي يَصْعَدُ
عَلَيْهَا الْمُؤَذِّنُونَ لِلْأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ
تَدْعُو إلَى الْأَذَانِ عَلَيْهَا ، بَلْ هِيَ أَشَدُّ مِنْ الصَّنَادِيقِ ، إذْ
يُمْكِنُ نَقْلُ الصَّنَادِيقِ وَلَا يُمْكِنُ نَقْلُهَا إذْ إنَّ السُّنَّةَ فِي
أَذَانِ الْجُمُعَةِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ
عَلَى الْمَنَارِ ، كَذَلِكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ
، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ الْمُؤَذِّنُونَ ثَلَاثَةً يُؤَذِّنُونَ
وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، ثُمَّ زَادَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَذَانًا آخَرَ بِالزَّوْرَاءِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالسُّوقِ لَمَّا أَنْ
كَثُرَ النَّاسُ وَأَبْقَى الْأَذَانَ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَنَارِ ، وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ
إذْ ذَاكَ .
ثُمَّ إنَّهُ لَمَّا أَنْ تَوَلَّى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ
الْمَلِكِ أَخَذَ الْأَذَانَ الَّذِي فَعَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ بِالزَّوْرَاءِ ، وَجَعَلَهُ عَلَى الْمَنَارِ وَكَانَ
الْمُؤَذِّنُ وَاحِدًا يُؤَذِّنُ عِنْدَ الزَّوَالِ ، ثُمَّ
نُقِلَ الْأَذَانُ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمَنَارِ حِينَ
صُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُثْمَانَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَكَانُوا يُؤَذِّنُونَ ثَلَاثَةً
فَجَعَلَهُمْ يُؤَذِّنُونَ جَمَاعَةً وَيَسْتَرِيحُونَ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ :
وَسُنَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى أَنْ تُتَّبَعَ .
فَقَدْ بَانَ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ
يَدَيْ الْخَطِيبِ بِدْعَةٌ ، وَأَنَّ أَذَانَهُمْ جَمَاعَةً أَيْضًا بِدْعَةٌ
أُخْرَى فَتَمَسَّكَ بَعْضُ النَّاسِ بِهَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ ، وَهُمَا
مِمَّا أَحْدَثَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ تَطَاوَلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى صَارَ
بَيْنَ النَّاسِ كَأَنَّهُ سُنَّةٌ مَعْمُولٌ بِهَا ، فَزَادُوا عَلَى
الثَّلَاثَةِ الْمُؤَذِّنِينَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثَةٍ كَمَا هُوَ
مُشَاهَدٌ ، فَهَذِهِ بِدْعَةٌ ثَالِثَةٌ ثُمَّ أَحْدَثُوا الدَّكَّةِ الَّتِي
يَصْعَدُونَ عَلَيْهَا وَيُؤَذِّنُونَ ، فَهَذِهِ بِدْعَةٌ رَابِعَةٌ .
وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ .
هَذَا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ .
وَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ؛ فَلِأَنَّ
الْأَذَانَ إنَّمَا هُوَ نِدَاءٌ إلَى الصَّلَاةِ وَمَنْ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ لَا
مَعْنَى لِنِدَائِهِ ، إذْ هُوَ حَاضِرٌ وَمَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَسْمَعُ
النِّدَاءَ إذَا كَانَ النِّدَاءُ فِي الْمَسْجِدِ ، هَذَا وَجْهٌ .
الثَّانِي : أَنَّ الدَّكَّةَ الَّتِي أَحْدَثُوهَا
ضَيِّقَةٌ مِنْ غَيْرِ حَظِيرٍ فَقَدْ تَلْتَوِي رِجْلُ أَحَدِهِمْ أَوْ يَعْثُرُ
فَيَقَعُ فَتَنْكَسِرُ ، وَقَدْ جَرَى ذَلِكَ فَيَكُونُ مَسْئُولًا عَنْ نَفْسِهِ مَعَ
وُجُودِ أَلَمِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهَا إذْ الْمُرَادُ
إنَّمَا هُوَ إسْمَاعُ الْحَاضِرِينَ ، وَهُمْ لَوْ أَذَّنُوا فِي الْأَرْضِ
لَأَسْمَعُوا مَنْ فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ وَقَعَ
الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا فَصَارَ الْمُنْكِرُ لَهَا كَأَنَّهُ يَأْتِي بِبِدْعَةٍ
عَلَى زَعْمِهِمْ ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى قَلْبِ الْحَقَائِقِ
؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الصَّوَابُ
وَالْأَفْضَلُ وَلَوْ فُعِلَ ذَلِكَ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ بِدْعَةٌ لَكَانَ
أَخَفَّ أَنْ يُرْجَى لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَتُوبَ .
( فَصْلٌ ) ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى
وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْبِدْعَةِ كَيْفَ جَرَّتْ إلَى أَمْرٍ مَخُوفٍ ، وَهُوَ
وُقُوعُ الْخَلَلِ فِي الصَّلَاةِ
.
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْ فَعَلُوا الْأَذَانَ فِي
جَمَاعَةٍ مَضَوْا عَلَى ذَلِكَ التَّبْلِيغِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجَمَاعَةِ إذَا
بَلَّغُوا مَشَى بَعْضُهُمْ عَلَى صَوْتِ بَعْضٍ مَعَ رَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ
بِالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مَا يُعْلَمُ مِنْ زَعَقَاتِ الْمُؤَذِّنِينَ
، وَذَلِكَ يُذْهِبُ الْحُضُورَ وَالْخُشُوعَ أَوْ بَعْضَهُ وَيُذْهِبُ
السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ أَيْضًا
.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ صَلَاةِ الْمُسْمِعِ الْوَاحِدِ وَالصَّلَاةِ بِهِ
وَبُطْلَانِهَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : تَصِحُّ ، لَا تَصِحُّ ، الْفَرْقُ
بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ الْإِمَامُ فَتَصِحَّ ، أَوْ لَا يَأْذَنَ فَلَا تَصِحَّ ،
وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَوْتُ الْإِمَامِ يَعُمُّهُمْ فَلَا تَصِحُّ
أَوْ لَا يَعُمُّهُمْ فَتَصِحُّ
.
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي تَبْلِيغِ الْوَاحِدِ فَمَا
بَالُكَ فِي تَبْلِيغِ الْجَمَاعَةِ عَلَى صَوْتٍ وَاحِدٍ كَمَا سَبَقَ ؟
فَأَوْلَى بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ صَلَاتِهِمْ وَبُطْلَانِهَا
بِتَبْلِيغِهِمْ .
وَهَذَا إنَّمَا هُوَ إذَا أَتَوْا كُلُّهُمْ
بِالتَّكْبِيرِ كَامِلًا فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ ، فَلَوْ كَبَّرَ وَاحِدٌ مِنْ
الْمُسْمِعِينَ التَّكْبِيرَ كَامِلًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ جَرَى فِي صَلَاتِهِ
وَالصَّلَاةِ بِهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الْمُسْمِعِ الْوَاحِدِ الَّذِي
لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ .
هَذَا مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ أَنْ يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ
غَيْرِهِ ، فَإِنْ مَشَى عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ فَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى .
وَأَمَّا عَلَى مَا يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ مِنْ
كَوْنِهِمْ يَتَوَاكَلُونَ فِي التَّكْبِيرِ وَيُدِيرُونَهُ بَيْنَهُمْ
وَيَقْطَعُونَهُ وَيُوصِلُونَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَبْتَدِئُ
التَّكْبِيرَ فَيَقُولُ : اللَّهُ وَيَمُدُّ صَوْتَهُ ، ثُمَّ يَبْتَدِئُ الْآخَرُ
مِنْ أَثْنَاءِ الْكَلِمَةِ نَفْسِهَا وَاصِلًا صَوْتَهُ بِصَوْتِ صَاحِبِهِ
قَبْلَ انْقِطَاعِهِ مُبَالِغًا فِي رَفْعِ صَوْتِهِ عَلَى سَبِيلِ
الْعَمْدِ ، وَفَاعِلُ هَذَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّكْبِيرِ
عَلَى وَجْهِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ فِي شُغُلٍ فِي الصَّلَاةِ
بِزِيَادَةٍ غَيْرِ شَرْعِيَّةٍ وَلَا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَتَبْطُلُ
صَلَاتُهُمْ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ مِنْ غَيْرِ جَرَيَانِ الْخِلَافِ السَّابِقِ .
وَيَقَعُ أَيْضًا بِذَلِكَ التَّهْوِيشُ وَالتَّشْوِيشُ
وَالتَّخْلِيطُ سِيَّمَا ، وَهُمْ لَوْ أَتَوْا بِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَاكُلٍ أَوْ
تَوْصِيلٍ وَتَرْدِيدٍ لَأَبْطَلَ صَلَاتَهُمْ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، وَذَلِكَ
أَنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وَضْعَ التَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ : اللَّهُ
فَيَزِيدُونَ عَلَى الْهَمْزَةِ مَدَّةً ، وَكَذَلِكَ يَصْنَعُونَ فِي أَكْبَرُ ،
وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ بَعْدَ الْبَاءِ مِنْ أَكْبَرُ أَلِفًا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
صَنِيعُهُمْ .
وَإِنْ أَتَى بَعْضُهُمْ بِالتَّكْبِيرِ كَامِلًا
فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ تَكْبِيرَاتِ الصَّلَاةِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ
الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا وَهُوَ الْبُطْلَانُ .
وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَيَسْرِي الْخَلَلُ إلَى صَلَاةِ
مَنْ صَلَّى بِتَبْلِيغِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ خَلْفَ
الْإِمَامِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْتَدِيَ إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ .
أَوَّلُهَا وَهُوَ أَعْلَاهَا : أَنْ يَرَى أَفْعَالَ
الْإِمَامِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَسَمَاعُ أَقْوَالِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ
ذَلِكَ فَرُؤْيَةُ أَفْعَالِ الْمَأْمُومِينَ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَسَمَاعُ
أَقْوَالِهِمْ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَا إمَامَةَ .
وَفِي هَذَا نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ : أَنَّ الْإِمَامَ
إذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ كَبَّرُوا خَلْفَهُ إذْ
ذَاكَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا فِي الصَّلَاةِ لِيُسْمِعُوا النَّاسَ ذَلِكَ
فَيُعْلِمُوا بِتَكْبِيرِهِمْ أَنَّ الْإِمَامَ قَدْ أَحْرَمَ بِالصَّلَاةِ ،
فَمَنْ أَحْرَمَ مِنْ النَّاسِ حِينَئِذٍ سَرَى الْخَلَلُ إلَى صَلَاتِهِ مِنْ هَذَا
الْوَجْهِ أَيْضًا لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاقْتِدَاءَ لَا يَجُوزُ إلَّا
بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ ، وَهَذَا لَيْسَ بِوَاحِدٍ مِنْهَا .
ثُمَّ إنَّ تَبْلِيغَهُمْ فِي الصَّلَاةِ جَمَاعَةً
أَدَّى إلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ
السُّنَّةَ فِي الصَّلَاةِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ وَفِي
حُكْمِهِ ؛ وَفِي هَذَا الْفِعْلِ يَصِيرُ الْإِمَامُ فِي حُكْمِ الْمَأْمُومِ ؛
لِأَنَّ الْمُكَبِّرِينَ يُطَوِّلُونَ فِي التَّكْبِيرِ وَيُمَطِّطُونَهُ ، وَالْإِمَامُ
يَنْتَظِرُ فَرَاغَهُمْ مِنْهُ وَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ إلَى الرُّكْنِ الَّذِي
يَلِيهِ .
وَأَفْضَى تَسْمِيعُهُمْ جَمَاعَاتٍ أَيْضًا إلَى
مَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْإِمَامَ يُكَبِّرُ لِلرُّكُوعِ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ وَيَرْكَعُ فَيُكَبِّرُونَ خَلْفَهُ وَيُطَوِّلُونَ بِرَفْعِ
أَصْوَاتِهِمْ عَلَيْهِ ، فَيَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ قَبْلَ أَنْ
يَنْقَضِيَ تَكْبِيرُهُمْ ، وَيَأْتِي الْمَسْبُوقُ فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةَ
الْإِحْرَامِ وَيَرْكَعُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ بَعْدُ
لِكَوْنِهِ يَسْمَعُ صَوْتَ الْمُكَبِّرِينَ فِي الرُّكُوعِ فَتَفْسُدُ عَلَيْهِ
صَلَاتُهُ ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، إذْ لَوْ عَلِمَ ذَلِكَ لَتَدَارَكَ مَا وَقَعَ
؛ لِأَنَّ تِلْكَ الرَّكْعَةَ لَمْ تَصِحَّ لَهُ .
( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا الدَّكَّةُ
الَّتِي تَحْتَ هَذِهِ الدَّكَّةِ الَّتِي يُؤَذِّنُونَ عَلَيْهَا لِلْجُمُعَةِ ،
وَالتَّعْلِيلُ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَقَاصِيرِ وَالصَّنَادِيقِ .
وَكَذَلِكَ الدَّكَّةُ الَّتِي يُسْمِعُونَ عَلَيْهَا
فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالتَّعْلِيلُ فِيهَا كَذَلِكَ .
ثُمَّ الْعَجَبُ كَيْفَ غَابَ عَنْهُمْ أَصْلُ مَوْضِعِ
الصَّلَاةِ إذْ إنَّ الصَّلَاةَ صِلَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ ، وَإِذَا
كَانَتْ صِلَةً فَمِنْ شَأْنِهَا كَثْرَةُ التَّوَاضُعِ وَتَمْرِيغُ الْوَجْهِ
عَلَى الْأَرْضِ وَالتُّرَابِ إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى ، فَإِنْ
تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَلْيَكُنْ عَلَى الْحَصِيرِ الْغَلِيظِ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الصَّلَاةَ
عَلَى الثَّوْبِ الْكَتَّانِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مَكْرُوهَةٌ مَعَ وُجُودِ
الْحَصِيرِ ، وَبِهَذِهِ النِّسْبَةِ تَكُونُ الصَّلَاةُ عَلَى ثَوْبِ الْقُطْنِ
مَكْرُوهَةً إذَا وُجِدَ الْكَتَّانُ وَالصَّلَاةُ عَلَى الثَّوْبِ الصُّوفِ
مَكْرُوهَةٌ إنْ وُجِدَ الْقُطْنُ
.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ
أَعْلَى الْمَرَاتِبِ مُبَاشَرَةُ الْأَرْضِ
بِالسُّجُودِ ثُمَّ يَلِيهَا الْحَصِيرُ الْغَلِيظُ ثُمَّ مَا هُوَ أَرْفَعُ
مِنْهُ ثُمَّ الْكَتَّانُ الْغَلِيظُ كَذَلِكَ ، ثُمَّ الْقُطْنُ مِثْلُهُ ثُمَّ
الصُّوفُ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ تَوَاضُعٍ
وَتَصَاغُرٍ وَذِلَّةٍ وَخُشُوعٍ وَخُضُوعٍ .
وَفِعْلُ الدَّكَّةِ يُنَافِي ذَلِكَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ
الْمُصَلِّيَ عَلَيْهَا يَرْتَفِعُ بِهَا عَنْ الْأَرْضِ ارْتِفَاعًا كَثِيرًا
وَيُصَلِّي عَلَى الْخَشَبِ ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ ، فَإِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا جُعِلَتْ الدَّكَّةُ
لِلْأَذَانِ لِلْجُمُعَةِ وَلِلْخَمْسِ لِيَسْمَعَ النَّاسُ فَالْجَوَابُ : أَنَّ
مَنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَا يَسْمَعُ تَبْلِيغَهُمْ فِي الْغَالِبِ ،
وَمَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَسَوَاءٌ كَانَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى الدَّكَّةِ
أَوْ بِالْأَرْضِ هُمْ يَسْمَعُونَهُمْ غَالِبًا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ يَكُونُ الْجَامِعُ
كَبِيرًا وَفِيهِ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ وَلَا يُسْمِعُهُمْ الْمُؤَذِّنُ
الْوَاحِدُ ، فَالْجَوَابُ : أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ صَوْتِ الْوَاحِدِ
وَالْجَمَاعَةِ ، بَلْ صَوْتُ الْوَاحِدِ فِي الْإِسْمَاعِ أَبْلَغُ لِكَوْنِهِ
صَوَّتَ أَكْثَرَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي جَمَاعَةٍ
يُبَلِّغُ مَعَهُمْ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يُوَافِقَهُمْ عَلَى أَصْوَاتِهِمْ ،
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى يُسْمِعُ الْمُؤَذِّنُ الْوَاحِدُ فِي الشَّاهِدِ
عَلَى بُعْدٍ وَلَا تُسْمِعُ الْجَمَاعَةُ إلَّا فِيمَا هُوَ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ
فِي الْغَالِبِ .
وَفِي جَوَامِعِ الْمَغْرِبِ تَجِدُ فِي الْجَامِعِ
الْوَاحِدِ أَرْبَعَةَ مُؤَذِّنِينَ
.
وَاحِدٌ خَلْفَ الْإِمَامِ ، وَالثَّانِي حَيْثُ
يَنْتَهِي إلَيْهِ صَوْتُ الْأَوَّلِ ، وَالثَّالِثُ حَيْثُ يَنْتَهِي صَوْتُ
الثَّانِي ، ثُمَّ الرَّابِعُ كَذَلِكَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ ، وَهَؤُلَاءِ
الْأَرْبَعَةُ حُكْمُهُمْ حُكْمُ الْمُبَلِّغِ الْوَاحِدِ الَّذِي وَقَعَ
الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ فِيهِ ، وَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ وَصِحَّةُ صَلَاتِهِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا أَعْنِي فِي
إمْسَاكِ مَوَاضِعَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَقْطِيعِ الصُّفُوفِ بِهَا اتِّخَاذُ هَذَا
الْمِنْبَرِ الْعَالِي ، فَإِنَّهُ أَخَذَ مِنْ الْمَسْجِدِ جُزْءًا جَيِّدًا ،
وَهُوَ وَقْفٌ عَلَى صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ كَفَى بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ
فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مِنْ فِعْلِ
الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا
أُحْدِثَ فِي الْمَسَاجِدِ وَفِيهِ تَقْطِيعُ الصُّفُوفِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي
هَذِهِ الْبِلَادِ .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ تَقَدُّمَ الصُّفُوفِ إلَى
فِنَاءِ الْمِنْبَرِ بِدْعَةٌ .
وَكَانَ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ
الصَّفَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْخَارِجُ بَيْنَ يَدَيْ الْمِنْبَرِ انْتَهَى .
وَأَمَّا بِلَادُ الْمَغْرِبِ فَقَدْ سَلِمُوا مِنْ
تَقْطِيعِ الصُّفُوفِ لَكِنْ بَقِيَتْ عِنْدَهُمْ بِدْعَتَانِ : إحْدَاهُمَا :
كِبَرُ الْمِنْبَرِ عَلَى مَا هُوَ هُنَا .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الْمِنْبَرَ فِي
بَيْتٍ إذَا فَرَغَ الْخَطِيبُ مِنْ الْخُطْبَةِ ، وَهَذِهِ بِدْعَةُ الْحَجَّاجِ .
وَمِنْبَرُ السُّنَّةِ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ كَانَ ثَلَاثَ
دَرَجَاتٍ لَا غَيْرُ ، وَالثَّلَاثُ دَرَجَاتٍ لَا تَشْغَلُ مَوَاضِعَ
الْمُصَلِّينَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : بَلْ تَشْغَلُ وَلَوْ مَوْضِعًا
وَاحِدًا .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا مُسْتَثْنًى بِفِعْلِ
صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَكْمَلُ الْحَالَاتِ
وَمَا عَدَاهُ فَبِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَيْهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ كَثُرَ النَّاسُ وَاتَّسَعَ
الْجَامِعُ فَإِذَا صَعِدَ الْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ
قَلَّ أَنْ يَسْمَعَ الْخُطْبَةَ الْجَمِيعُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ فِي الْغَالِبِ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى مِنْبَرٍ عَالٍ
هُوَ الَّذِي لَا يُسْمِعُهُمْ لِكَوْنِهِ بَعِيدًا عَنْهُمْ فَكَأَنَّهُ فِي
سَطْحٍ وَحْدَهُ ، فَلَا يَسْمَعُ مَنْ تَحْتَهُ وَهَذَا مُشَاهَدٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَطِيبَ يَخْطُبُ عَلَى هَذَا
الْمِنْبَرِ
الْعَالِي وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَسْمَعُونَهُ ،
وَإِذَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ سَمِعُوا قِرَاءَتَهُ أَكْثَرَ مِنْ خُطْبَتِهِ
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ وَاقِفًا مَعَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ
وَفِي حَالِ الْخُطْبَةِ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا عُلُوُّ
الْمَنَارِ لِلْأَذَانِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا الْبِئْرُ
الَّتِي فِي الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لَأَنْ يُجْعَلَ الْمَسْجِدُ طَرِيقًا
بِسَبَبِهَا حَتَّى يَدْخُلَ النِّسَاءُ إلَيْهَا ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِنَّ
الْحُيَّضُ وَالْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ وَإِنْ كَانَتْ طَاهِرَةً وَالصِّغَارُ
وَمَنْ يُنَزَّهُ الْمَسْجِدُ عَنْ أَمْثَالِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَتَحَفَّظْ ،
وَقَدْ امْتَنَعَ بِسَبَبِهَا مَوَاضِعُ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمُصَلِّينَ فِيهِ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ ، وَلَا ضَرُورَةَ دَعَتْ إلَى الْبِئْرِ هُنَاكَ ؛
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُلْوَةٍ فَيُنْتَفَعُ بِالشُّرْبِ مِنْهَا ، وَلَوْ
كَانَتْ كَذَلِكَ لَانْتَفَعَ النَّاسُ بِالشُّرْبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَّخَذَ الْمَسْجِدُ
طَرِيقًا .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَبْقَ النَّفْعُ بِهَا
إلَّا لِلطَّهَارَةِ وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فِي
الْمَسْجِدِ ، وَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّاسِ بِالْآبَارِ حَتَّى
فِي بَعْضِ الطُّرُقِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ .
فَأَمَّا الْآبَارُ الَّتِي فِي الْمَسَاجِدِ فَلَا
يُنْقَلُ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ذَرِيعَةٌ إلَى
اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ طَرِيقًا كَمَا تَقَدَّمَ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْبِئْرُ قَدِيمَةً
وَجَاءَ مَنْ بَنَى الْمَسْجِدَ هُنَاكَ وَتَرَكَ الْبِئْرَ فِي وَسَطِهِ ، فَإِنْ
كَانَ كَذَلِكَ فَالطُّرُقُ إلَى الْبِئْرِ لَيْسَ بِمَسْجِدٍ وَلَا يَصِحُّ فِيهِ
الِاعْتِكَافُ .
( فَصْلٌ ) وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَوْضِعُ
الْفَسْقِيَّةِ وَالْحَظِيرِ الَّذِي عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الطَّبَقَةِ .
وَهِيَ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ
أَمْ لَا .
فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ الْوُضُوءُ
مِنْهَا .
وَقَدْ مُنِعَ كَشْفُ الْعَوْرَةِ عِنْدَ الْفَسْقِيَّةِ
فِي الْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَكَشْفُ الْعَوْرَةِ
هُنَا أَعْظَمُ فِي الْمَنْعِ ؛ لِحُرْمَةِ هَذَا الْمَوْضِعِ لِكَوْنِهِ مِنْ
الْمَسْجِدِ سِيَّمَا وَبَعْضُ النَّاسِ يَبُولُ هُنَاكَ وَيَسْتَنْجِي ، وَإِنْ
لَمْ تَكُنْ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُمْنَعُ الْوُضُوءُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَوَضَّئُونَ
هُنَاكَ فَتَمْتَلِئُ أَقْدَامُهُمْ وَيَخْرُجُونَ فَيُلَوِّثُونَ بِهَا
الْمَسْجِدَ بِيَقِينٍ وَذَلِكَ يُمْنَعُ .
وَأَمَّا الطَّبَقَةُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ
الْمَسْجِدِ فَالِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ
الْمَسْجِدِ فَلَا تَصِحُّ الْجُمُعَةُ فِيهَا ؛ لِكَوْنِهَا مَحْجُورَةً .
وَفِي مَوْضِعِ الْفَسْقِيَّةِ مَفْسَدَةٌ أُخْرَى
أَكْثَرُ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْمَقَاصِيرِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَنْ لَا
خَيْرَ فِيهِ يَصِلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ إلَى مَا يُرِيدُهُ مِنْ أَغْرَاضِهِ
الْخَسِيسَةِ ، إذْ أَنَّهَا أَكْثَرُ سِتْرًا مِنْ الْمَقَاصِيرِ ؛ لِأَنَّهَا
فِي مُؤَخِّرِ الْمَسْجِدِ ، وَالْغَالِبُ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ
الصَّفَّ الْأَوَّلَ وَمَا قَارَبَهُ فَيَبْقَى مُؤَخِّرُ الْمَسْجِدِ فِي الْغَالِبِ
خَالِيًا ، سِيَّمَا إنْ كَانَ لَيْلًا ، وَهُمْ لَا يَقْعُدُونَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ
إلَّا قَلِيلًا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق