ج5.وج6.كتاب الزواجر عن اقتراف
الكبائر أحمد بن محمد بن
حجر المكي الهيتمي
===
ج5.كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر أحمد بن محمد بن حجر
المكي الهيتمي
الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالْقَرْضُ
بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ } .
{ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُقْرِضُ مُسْلِمًا قَرْضًا
مَرَّتَيْنِ إلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً } { مَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ
يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } : { أَيُّ الْإِسْلَامِ
خَيْرٌ .
قَالَ : تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتُقْرِئُ السَّلَامَ
عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ } .
{ أَنْبِئْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ .
قَالَ : كُلُّ شَيْءٍ .
خُلِقَ مِنْ الْمَاءِ ، فَقُلْت : أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ
إذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ، قَالَ : أَطْعِمْ الطَّعَامَ وَأَفْشِ
السَّلَامَ وَصِلْ الْأَرْحَامَ وَصَلِّ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلْ
الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ } .
{ اُعْبُدُوا الرَّحْمَنَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَأَفْشُوا
السَّلَامَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ } ، { مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّحْمَةِ
إطْعَامُ الْمُسْلِمِ الْمِسْكِينِ
} .
{ مَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ حَتَّى يُشْبِعَهُ وَسَقَاهُ
مِنْ الْمَاءِ حَتَّى يَرْوِيَهُ بَاعَدَهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ سَبْعَ
خَنَادِقَ مَا بَيْنَ كُلِّ خَنْدَقَيْنِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ } .
{ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي .
قَالَ :
كَيْفَ أَعُودُك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ :
أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ ؟ أَمَا عَلِمْتَ
أَنَّك لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُك فَلَمْ
تُطْعِمْنِي .
قَالَ : يَا رَبِّ وَكَيْفَ أُطْعِمُك وَأَنْتَ رَبُّ
الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَك عَبْدِي فُلَانٌ
فَلَمْ تُطْعِمْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّك لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ
عِنْدِي ؟ يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَسْقَيْتُك فَلَمْ تَسْقِنِي .
قَالَ : يَا رَبِّ وَكَيْفَ أَسْقِيك وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ
؟ قَالَ : اسْتَسْقَاك عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّك
لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي } .
{ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ
تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ وَعَلَيْك بِالْمَاءِ } .
{ يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : سَقْيُ الْمَاءِ }
، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا .
{ مَنْ حَفَرَ مَاءً لَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ كَبِدٌ
حَرَّاءُ مِنْ جِنٍّ وَلَا إنْسٍ وَلَا طَائِرٍ إلَّا آجَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ : " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ
الْمُبَارَكِ عَنْ قُرْحَةٍ فِي رُكْبَتِهِ لَهَا سَبْعُ سِنِينَ وَقَدْ أَعْيَتْ
الْأَطِبَّاءَ فَأَمَرَهُ بِحَفْرِ بِئْرٍ فِي مَحَلٍّ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى
الْمَاءِ فِيهِ وَقَالَ لَهُ أَرْجُو أَنْ يَنْبُعَ فِيهِ عَيْنٌ فَيُمْسَكَ
الدَّمُ عَنْك " .
وَحَكَى الْبَيْهَقِيُّ : أَنَّ شَيْخَهُ الْحَاكِمَ
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ صَاحِبَ الْمُسْتَدْرَكِ وَغَيْرِهِ أَنَّ وَجْهَهُ
تَقَرَّحَ وَعَجَزَ فِي مُعَالَجَتِهِ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ ، فَسَأَلَ
الْأُسْتَاذَ أَبَا عُثْمَانَ الصَّابُونِيَّ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فِي مَجْلِسِهِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَدَعَا لَهُ فَأَكْثَرَ النَّاسُ مِنْ التَّأْمِينِ ، فَفِي الْجُمُعَةِ
الْأُخْرَى أَلْقَتْ امْرَأَةٌ رُقْعَةً فِي الْمَجْلِسِ بِأَنَّهَا عَادَتْ
لِبَيْتِهَا وَاجْتَهَدَتْ فِي الدُّعَاءِ لِلْحَاكِمِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ
فَرَأَتْ فِي نَوْمِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَأَنَّهُ يَقُولُ : قُولُوا لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ يُوَسِّعُ الْمَاءَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ فَجِئْت بِالرُّقْعَةِ إلَى الْحَاكِمِ فَأَمَرَ بِسِقَايَةٍ
بُنِيَتْ عَلَى بَابِ دَارِهِ وَحِينَ فَرَغُوا مِنْ بِنَائِهَا أَمَرَ بِصَبِّ
الْمَاءِ فِيهَا وَطَرْحِ الْجَمَدِ فِي الْمَاءِ ، وَأَخَذَ النَّاسُ فِي
الشُّرْبِ فَمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُسْبُوعٌ حَتَّى ظَهَرَ الشِّفَاءُ وَزَالَتْ
تِلْكَ الْقُرُوحُ وَعَادَ وَجْهُهُ إلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ وَعَاشَ بَعْدَ
ذَلِكَ سِنِينَ " .
وَرَوَى الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ : { سَبْعٌ تَجْرِي
لِلْعَبْدِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ : مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا أَوْ
أَجْرَى نَهْرًا ، أَيْ حَفَرَهُ ، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا ، أَوْ غَرَسَ نَخْلًا ، أَوْ
بَنَى مَسْجِدًا ، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفًا ، أَوْ تَرَكَ وَلَدًا صَالِحًا
يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ
} .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ ، لَكِنَّهُ
ذَكَرَ
مَوْضِعَ حَفْرِ الْبِئْرِ وَغَرْسِ النَّخْلِ
الصَّدَقَةَ وَبَيْتَ ابْنِ السَّبِيلِ
.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ مَاجَهْ
وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ لَكِنْ اُعْتُرِضَ
بِأَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا : أَنَّ { سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّ أُمِّي مَاتَتْ فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ الْمَاءُ فَحَفَرَ
بِئْرًا وَقَالَ هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ
} .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ { لَيْسَ صَدَقَةٌ أَعْظَمَ
أَجْرًا مِنْ الْمَاءِ } أَيْ فِي مَحَلِّ الِاحْتِيَاجِ فِيهِ لِلْمَاءِ أَكْثَرَ
مِنْهُ لِغَيْرِهِ أَخْذًا مِنْ أَحَادِيثَ أُخَرَ ، فَإِنْ كَانَ الِاحْتِيَاجُ
لِغَيْرِ الْمَاءِ أَكْثَرَ فَهُوَ الْأَفْضَلُ .
( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ وَالْحَادِيَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ تَرْكُ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ
، وَالْإِفْطَارُ فِيهِ بِجِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مِنْ نَحْوِ
مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ ) أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَلَا أَعْلَمُهُ
إلَّا وَقَدْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ : { عُرَى
الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدُ الدِّينِ ثَلَاثَةٌ عَلَيْهِنَّ اُبْتُنِيَ الْإِسْلَامُ
مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَهُوَ بِهَا كَافِرٌ حَلَالُ الدَّمِ :
شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ وَصَوْمُ
رَمَضَانَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ تَرَكَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً
فَهُوَ بِاَللَّهِ كَافِرٌ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَقَدْ
حَلَّ دَمُهُ وَمَالُهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ
وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّهِ وَإِنْ صَامَهُ } .
وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا غَيْرَ مَجْزُومٍ
بِهِ فَقَالَ : وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفْعُهُ : { مَنْ أَفْطَرَ
يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ صَوْمُ
الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ } .
وَأَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا الْخَبَرِ عَلِيٌّ وَابْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَا : " إنَّ مَنْ أَفْطَرَ
يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لَا يَقْضِيهِ صَوْمُ الدَّهْرِ " ، لَكِنْ قَالَ
النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ إسْنَادُهُ غَرِيبٌ وَإِنْ سَكَتَ عَلَيْهِ
أَبُو دَاوُد ، وَبَالَغَ النَّخَعِيُّ فَأَوْجَبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أُفْطِرَ مِنْ
رَمَضَانَ ثَلَاثَةَ آلَافِ يَوْمٍ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : يَجِبُ فِي
كُلِّ يَوْمٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، وَقَالَ رَبِيعَةُ شَيْخُ مَالِكٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا : يَجِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ اثْنَا عَشَرَ يَوْمًا .
وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ
يُجْزِئُ عَنْ الْيَوْمِ يَوْمٌ وَلَوْ
أَقْصَرَ مِنْهُ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : {
فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ
} .
وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا : {
بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَتَانِي رَجُلَانِ فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ فَأَتَيَا بِي
جَبَلًا وَعِرًا ، فَقَالَا : اصْعَدْ ، فَقُلْت : إنِّي لَا أُطِيقُهُ ، فَقَالَا
: إنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَك ، فَصَعِدْت حَتَّى إذَا كُنْت فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إذَا
بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ ، فَقُلْت : مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ ؟ قَالُوا : هَذِهِ عُوَاءُ
أَهْلِ النَّارِ ، ثُمَّ اُنْطُلِقَ بِي فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ
بِعَرَاقِيبِهِمْ مُشَقَّقَةً أَشْدَاقُهُمْ دَمًا ، قُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ
الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ } ، الْحَدِيثَ : أَيْ قَبْلَ
تَحَقُّقِ دُخُولِ وَقْتِهِ .
وَأَحْمَدُ مُرْسَلًا : { أَرْبَعٌ فَرَضَهُنَّ اللَّهُ
فِي الْإِسْلَامِ مَنْ أَتَى بِثَلَاثَةٍ لَمْ يُغْنِينَ عَنْهُ شَيْئًا حَتَّى
يَأْتِيَ بِهِنَّ جَمِيعًا ، الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَحَجُّ
الْبَيْتِ } .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ
رَمَضَانَ فِي الْحَضَرِ فَلْيُهْدِ بَدَنَةً } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ مَا
صَرَّحُوا بِهِ وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْته .
وَظَاهِرٌ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ تَرْكُ وَاجِبٍ مُضَيَّقٍ
مِنْ نَذْرٍ وَكَفَّارَةٍ ، فَيَكُونُ كَبِيرَةً كَالْإِفْطَارِ مِنْهُ بِغَيْرِ
عُذْرٍ ، وَظَاهِرٌ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ حِكْمَةَ كَثْرَةِ مَا جَاءَ مِنْ
الْوَعِيدِ فِي تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ دُونَ الصَّوْمِ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُهُ
كَسَلًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إلَّا الْفَذُّ النَّادِرُ ، بِخِلَافِ تَرْكِ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّهُ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ بَلْ أَكْثَرُ النَّاسِ
يَتَهَاوَنُونَ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَعَ ذَلِكَ يُثَابِرُونَ عَلَى
الصَّوْمِ ، وَمِنْ ثَمَّ تَجِدُ كَثِيرِينَ يَصُومُونَ وَهُمْ لَا يُصَلُّونَ
وَكَثِيرِينَ لَا يُصَلُّونَ إلَّا فِي رَمَضَانَ دُونَ غَيْرِهِ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ تَأْخِيرُ قَضَاءِ مَا تَعَدَّى بِفِطْرِهِ مِنْ رَمَضَانَ ) وَعَدُّ
هَذَا كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ أَرَهُ إلَّا أَنَّهُ ظَاهِرٌ ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ
أَنَّهُ إذَا تَعَدَّى بِالْإِفْطَارِ يَكُونُ فَاسِقًا فَتَجِبُ عَلَيْهِ
التَّوْبَةُ فَوْرًا خُرُوجًا مِنْ الْفِسْقِ ، وَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إلَّا
بِالْقَضَاءِ فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَانَ مُتَمَادِيًا فِي
الْفِسْقِ ، وَالتَّمَادِي فِي الْفِسْقِ فِسْقٌ ، فَاتَّضَحَ أَنَّ التَّأْخِيرَ
هُنَا فِسْقٌ فَتَأَمَّلْهُ ، وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي كُلِّ وَاجِبٍ تَرَكَهُ تَعَدِّيًا
وَأَخَّرَ قَضَاءَهُ كَفَرْضِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ الَّذِي أَفْسَدَهُ ، وَلَا
يَبْعُدُ جَرَيَانُ ذَلِكَ أَيْضًا فِيمَا لَوْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إلَى
رَمَضَانَ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ إنَّمَا أَفْطَرَ لِعُذْرٍ لِأَنَّهُ
يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ قُرْبَ رَمَضَانَ
.
ثُمَّ رَأَيْت الْهَرَوِيَّ - مِنْ أَكَابِرِ
أَصْحَابِنَا - صَرَّحَ فِي كِتَابِهِ [ أَدَبِ الْقَضَاءِ ] بِمَا ذَكَرْته
وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْفَرَائِضِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى
الْفَوْرِ كَبِيرَةٌ .
الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
صَوْمُ الْمَرْأَةِ غَيْرَ مَا وَجَبَ فَوْرًا وَزَوْجُهَا حَاضِرٌ بِغَيْرِ
رِضَاهُ ) أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ أَنْ تَصُومَ
وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا
بِإِذْنِهِ } .
زَادَ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { إلَّا رَمَضَانَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { لَا تَصُمْ الْمَرْأَةُ
وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ يَوْمًا مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ إلَّا بِإِذْنِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ رِوَايَةِ بَقِيَّةَ وَهُوَ
حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَفِيهِ نَكَارَةٌ
{ أَيُّمَا امْرَأَةٍ صَامَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا
فَأَرَادَهَا عَلَى شَيْءٍ فَامْتَنَعَتْ عَلَيْهِ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا
مِنْ الْكَبَائِرِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ خَبَرًا فِيهِ : { وَمِنْ حَقِّ الزَّوْجِ
عَلَى الزَّوْجَةِ أَنْ لَا تَصُومَ تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَإِنْ
فَعَلَتْ جَاعَتْ وَعَطِشَتْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا } .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ أَرَهُ ، لَكِنَّهُ
صَرِيحُ الْحَدِيثِ الثَّالِثِ ، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنْ لَا يُحْتَجَّ بِهِ لِمَا
ذُكِرَ فَيُؤْخَذُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً مِنْ أَمْرٍ آخَرَ أُشِيرَ إلَيْهِ فِي
الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إلَّا
بِإِذْنِهِ } ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِذَلِكَ هُوَ إيذَاؤُهُ
بِالتَّسَبُّبِ إلَى مَنْعِهِ مِنْ حَقِّهِ الْمُقَدَّمِ عَلَى الصَّوْمِ
وَغَيْرِهِ ، وَلَا نَظَرَ إلَى أَنَّهُ يُمْكِنُهُ شَرْعًا أَنْ يَطَأَهَا ،
وَالْإِثْمُ عَلَيْهَا إنْ كَانَ فَرْضًا ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ
يَهَابُ إبْطَالَ الْعِبَادَةِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَإِذَا هَابَهَا امْتَنَعَ
مِنْ وَطْئِهَا وَإِنْ احْتَاجَ إلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الضَّرَرُ الشَّدِيدُ
غَالِبًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ضَرَرَ الْغَيْرِ الشَّدِيدَ بِمَنْعِهِ لِحَقِّهِ
أَوْ التَّسَبُّبِ فِيمَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ يَكُونُ كَبِيرَةً ، فَاتُّجِهَ مَا
ذَكَرْته ، وَالْحَدِيثُ حِينَئِذٍ إنَّمَا هُوَ عَاضِدٌ فَقَطْ .
صَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ) أَخْرَجَ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ : {
يَوْمُ الْفِطْرِ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ
الْإِسْلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { صَامَ نُوحٌ الدَّهْرَ إلَّا يَوْمَ
الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى
} .
وَمُسْلِمٌ : { لَا يَصْلُحُ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ
: يَوْمِ الْأَضْحَى وَيَوْمِ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ } .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ : { لَا تَصُومُوا هَذِهِ
الْأَيَّامَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ } .
تَنْبِيهٌ :
الْأَخْبَارُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ
فَعَدُّهُ كَبِيرَةً مُحْتَمَلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعْرَاضِ بِهِ عَنْ
ضِيَافَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِعِبَادِهِ .
( خَاتِمَةٌ فِي سَرْدِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ أَوْ
حَسَنَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالصَّوْمِ ) وَقَدْ أَلَّفْت فِيهِ كِتَابًا حَافِلًا
سَمَّيْته [ إتْحَافَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِخُصُوصِيَّاتِ الصِّيَامِ ] .
وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ خُلَاصَتِهِ .
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ
آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ وَالصِّيَامُ
جُنَّةٌ : أَيْ وِقَايَةٌ مِنْ النَّارِ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ
فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ
فَلْيَقُلْ } أَيْ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ { إنِّي صَائِمٌ .
وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ
الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } .
{ لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إذَا أَفْطَرَ
فَرِحَ بِفِطْرِهِ ، أَيْ طَبْعًا أَوْ لِإِتْمَامِهِ هَذِهِ الْعِبَادَةَ
الْعَظِيمَةَ الْفَضْلِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ } أَيْ
لِعَظِيمِ مَا يَلْقَى مِنْ ثَوَابِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ أَضَافَهُ - تَعَالَى -
إلَيْهِ إعْلَامًا بِأَنَّهُ لَا يُحْصِي ثَوَابَهُ غَيْرُهُ .
{ كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ
عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ .
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ
لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي } .
{ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَخُلُوفُ فَمِ
الصَّائِمِ } : أَيْ تَغَيُّرُ رِيحِهِ مِنْ الصَّوْمِ { أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ } .
{ إنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ
: يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ
غَيْرُهُمْ ، فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ أَبَدًا ،
مَنْ دَخَلَ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا } .
{ اُغْزُوا تَغْنَمُوا ، وَصُومُوا تَصِحُّوا ،
وَسَافِرُوا تَسْتَغْنُوا } .
{ الصِّيَامُ جُنَّةٌ وَحِصْنٌ حَصِينٌ مِنْ النَّارِ } .
{ الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
يَقُولُ الصِّيَامُ أَيْ رَبِّ مَنَعْته الطَّعَامَ
وَالشَّهْوَةَ فَشَفِّعْنِي فِيهِ ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ
مَنَعْته النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ ،
قَالَ فَيَشْفَعَانِ } .
{ عَلَيْك بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ } .
{ مَا مِنْ عَبْدٍ يَصُومُ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
- تَعَالَى - إلَّا بَاعَدَ اللَّهُ الْيَوْمَ وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ
خَرِيفًا } .
{ مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَعَلَ
اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ .
} { مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَعُدَتْ
مِنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَةِ عَامٍ } .
وَخُصَّ طَوَائِفُ سَبِيلِ اللَّهِ هُنَا بِالْجِهَادِ ،
وَقَالَ آخَرُونَ : الْمُرَادُ بِهِ خُلُوصُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى - : { ثَلَاثَةٌ
لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ : الصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ
صَحِيحَةٍ : { حَتَّى يُفْطِرَ ، وَالْإِمَامُ الْعَادِلُ ؛ وَدَعْوَةُ
الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ
وَيَقُولُ الرَّبُّ : وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } .
{ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا } أَيْ تَصْدِيقًا
{ وَرَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ طَالِبًا لِوَجْهِ اللَّهِ
وَعَظِيمِ مَا عِنْدَهُ ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ، وَمَنْ قَامَ
لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
ذَنْبِهِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { وَمَا تَأَخَّرَ } ، وَذَكَرَهَا
أَحْمَدُ بَعْدَ الصَّوْمِ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ إلَّا أَنَّ حَمَّادًا
شَكَّ فِي وَصْلِهِ أَوْ إرْسَالِهِ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَحَفِظَ حُدُودَهُ
وَتَحَفَّظَ مِمَّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْهُ كَفَّرَ مَا قَبْلَهُ } .
{ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى
الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ
الْكَبَائِرُ } .
{ اُحْضُرُوا الْمِنْبَرَ فَحَضَرْنَا ، فَلَمَّا
ارْتَقَى دَرَجَةً قَالَ آمِينَ فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّانِيَةَ قَالَ
آمِينَ ، فَلَمَّا ارْتَقَى الدَّرَجَةَ الثَّالِثَةَ قَالَ آمِينَ ، فَلَمَّا نَزَلَ
: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْنَا مِنْك الْيَوْمَ شَيْئًا مَا
كُنَّا نَسْمَعُهُ ،
قَالَ : إنَّ جِبْرِيلَ عَرَضَ لِي فَقَالَ : بَعُدَ
مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، قُلْت آمِينَ ، فَلَمَّا رَقَيْتُ
الثَّانِيَةَ قَالَ : بَعُدَ مَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْك ،
قُلْت آمِينَ ، فَلَمَّا رَقَيْتُ الثَّالِثَةَ قَالَ : بَعُدَ مَنْ أَدْرَكَ
أَبَوَيْهِ عِنْدَهُ الْكِبَرُ أَوْ أَحَدَهُمَا فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ
قُلْت آمِينَ } .
{ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ
أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ مُبَارَكٌ شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ ، شَهْرٌ جَعَلَ اللَّهُ صِيَامَهُ فَرِيضَةً ، وَقِيَامَ لَيْلِهِ تَطَوُّعًا
، مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنْ الْخَيْرِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً
فِيمَا سِوَاهُ ، وَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيهِ كَانَ كَمَنْ أَدَّى سَبْعِينَ
فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ ، وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ
الْجَنَّةُ ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ ، وَشَهْرُ يُزَادُ فِي رِزْقِ الْمُؤْمِنِ
فِيهِ ، مَنْ فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ ، وَعِتْقَ
رَقَبَتِهِ مِنْ النَّارِ ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَنْقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ كُلُّنَا
يَجِدُ مَا يُفَطِّرُ الصَّائِمَ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُعْطِي اللَّهُ
هَذَا الثَّوَابَ مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ أَوْ
مَذْقَةِ لَبَنٍ ، وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَأَوْسَطُهُ مَغْفِرَةٌ
وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنْ النَّارِ ، مَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ فِيهِ غَفَرَ
اللَّهُ لَهُ وَأَعْتَقَهُ مِنْ النَّارِ ، وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ
خِصَالٍ : خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنَى
بِكُمْ عَنْهُمَا ، فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ بِهِمَا
رَبَّكُمْ : فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَتَسْتَغْفِرُونَهُ ، وَأَمَّا
الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا : فَتَسْأَلُونَ اللَّهَ
الْجَنَّةَ وَتَتَعَوَّذُونَ بِهِ مِنْ النَّارِ ، وَمَنْ سَقَى صَائِمًا سَقَاهُ
اللَّهُ
مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا }
، وَفِي سَنَدِهِ مَنْ صَحَّحَ ، وَحَسَّنَ لَهُ التِّرْمِذِيُّ ، لَكِنْ
ضَعَّفَهُ غَيْرُهُ ، وَمِنْ ثَمَّ ذَكَرَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ
وَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ إنْ صَحَّ
.
وَفِي رِوَايَةٍ فِي سَنَدِهَا مَنْ ذُكِرَ : { مَنْ
فَطَّرَ صَائِمًا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ صَلَّتْ عَلَيْهِ
الْمَلَائِكَةُ لَيَالِيَ رَمَضَانَ كُلَّهَا وَصَافَحَهُ جِبْرِيلُ لَيْلَةَ
الْقَدْرِ ، وَمَنْ صَافَحَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَرِقُّ قَلْبُهُ
وَتَكْثُرُ دُمُوعُهُ } { إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ ، وَغُلِّقَتْ
أَبْوَابُ النَّارِ ، وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ ، أَيْ شُدَّتْ بِالْأَغْلَالِ
فَلَا يَبْلُغُونَ فِيهِ مِنْ الْإِفْسَادِ مَا يَبْلُغُونَهُ مِنْهُ فِي غَيْرِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ
} ، وَفِي أُخْرَى : { مَرَدَةُ الْجِنِّ } .
{ إذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ
فُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجِنَانِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ وَاحِدٌ الشَّهْرَ
كُلَّهُ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ وَاحِدٌ الشَّهْرَ
كُلَّهُ ، وَغُلَّتْ عُتَاةُ الْجِنِّ ، وَنَادَى مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ كُلَّ
لَيْلَةٍ إلَى انْفِجَارِ الصُّبْحِ : يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ تَمِّمْ وَأَبْشِرْ ،
وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ وَأَبْصِرْ ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ
لَهُ ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ يُتَابُ عَلَيْهِ ، هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ ،
هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى سُؤَالَهُ ؟ وَلِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عِنْدَ كُلِّ
فِطْرٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ كُلَّ لَيْلَةٍ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ سِتُّونَ أَلْفًا
، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْفِطْرِ أَعْتَقَ اللَّهُ مِثْلَ مَا أَعْتَقَ فِي
جَمِيعِ الشَّهْرِ ثَلَاثِينَ مَرَّةً سِتِّينَ أَلْفًا } .
الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ ) تَرْكُ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ
الْمُضَيِّقِ وَإِبْطَالُهُ بِنَحْوِ جِمَاعٍ ، وَالْجِمَاعُ فِي الْمَسْجِدِ
وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مُعْتَكِفٍ
.
وَعَدِّي لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ كَبَائِرَ غَيْرُ
بَعِيدٍ ؛ أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَقِيَاسًا عَلَى مَا مَرَّ فِي رَمَضَانَ
وَغَيْرِهِ بِجَامِعِ الْوُجُوبِ وَالتَّضْيِيقِ ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِمَا
فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ الشَّدِيدِ الْمُنْبِئِ عَنْ قِلَّةِ اكْتِرَاثِ
مُرْتَكِبِهِ بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ ، لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ
مُنَزَّهَةٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ تَلْطِيخَهَا بِالْقَذَرِ
كُفْرٌ ، فَالْجِمَاعُ فِيهَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً لِأَنَّ فِيهِ
مِنْ هَتْكِ حُرْمَتِهَا مَا يَقْرُبُ مِنْ تَلْطِيخِهَا بِالْقَذَرِ .
الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : تَرْكُ الْحَجِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ ) عَنْ
عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ
وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا ، وَذَلِكَ
أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ
اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } } رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ
رِوَايَةِ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ ، وَكَلَامُ النَّاسِ فِي الْحَارِثِ مَشْهُورٌ
كَذَّبَهُ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ الْمَدِينِيِّ ، وَقَالَ أَيُّوبُ : كَانَ ابْنُ
سِيرِينَ يَرَى أَنَّ عَامَّةَ مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
بَاطِلٌ .
وَاخْتَلَفَ فِيهِ رَأْيُ ابْنِ مَعِينٍ ،
وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فَضَعَّفُوهُ تَارَةً وَوَثَّقُوهُ أُخْرَى ،
وَمَيْلُ النَّسَائِيُّ إلَى تَوْثِيقِهِ وَالِاحْتِجَاجِ بِهِ وَتَقْوِيَةِ
أَمْرِهِ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ :
حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ انْتَهَى .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ كَمَا
قَالَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ، نَعَمْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ : { لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَبْعَثَ
رِجَالًا إلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ لَهُ جِدَةٌ وَلَمْ
يَحُجَّ فَلْيَضْرِبُوا عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ } ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَدِيثِ لَا يُقَالُ مِنْ
قِبَلِ الرَّأْيِ فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ وَمِنْ ثَمَّ أَفْتَيْت بِأَنَّهُ
حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَقَدْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ سَابِطٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { مَنْ لَمْ تَحْبِسْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ أَوْ
سُلْطَانٌ جَائِرٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا وَإِنْ شَاءَ
نَصْرَانِيًّا } .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ : { الْإِسْلَامُ ثَمَانِيَةُ
أَسْهُمٍ : الْإِسْلَامُ أَيْ كَلِمَتُهُ سَهْمٌ
، وَالصَّلَاةُ
سَهْمٌ ، وَالزَّكَاةُ سَهْمٌ ، وَالصَّوْمُ سَهْمٌ ، وَحَجُّ الْبَيْتِ سَهْمٌ ،
وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ سَهْمٌ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ سَهْمٌ ،
وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَهْمٌ ، وَقَدْ خَابَ مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ } .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ : إنَّ عَبْدًا صَحَّحْت لَهُ جِسْمَهُ ، وَوَسَّعْت عَلَيْهِ فِي
الْمَعِيشَةِ تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَا يَغْدُو عَلَيَّ
لَمَحْرُومٌ } رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ :
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمُنْذِرِ : أَخْبَرَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا : كَانَ حَسَنُ
بْنُ حَيٍّ يُعْجِبُهُ هَذَا الْحَدِيثَ وَبِهِ يَأْخُذُ وَيُحِبُّ لِلرَّجُلِ الْمُوسِرِ
الصَّحِيحِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْحَجَّ خَمْسَ سِنِينَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا
مَرَّ عَنْهُ : مَا مَنْ أَحَدٍ لَمْ يَحُجَّ وَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاةَ مَالِهِ
إلَّا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَقِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَسْأَلُ الرَّجْعَةَ
الْكُفَّارُ ، وَقَالَ : وَإِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلَى أَجَلٍ
قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ } : أَيْ أُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ { وَأَكُنْ مِنْ
الصَّالِحِينَ } أَيْ أَحُجُّ .
وَجَاءَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ : مَاتَ لِي
جَارٌ مُوسِرٌ لَمْ يَحُجَّ فَلَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحُوا بِهِ
وَدَلِيلُهُ هَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ ، فَإِنْ قُلْت : هُوَ لَا يُحْكَمُ
عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ فَمَا فَائِدَتُهُ ؟ قُلْت : أَمَّا بِالنِّسْبَةِ
لِلْآخِرَةِ ، فَوَاضِحٌ ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِأَحْكَامِ الدُّنْيَا ،
فَلَهُ فَوَائِدُ مِنْهَا : أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ مَوْتُهُ فَاسِقًا مِنْ آخِرِ
سِنِي الْإِمْكَانِ ، وَحِينَئِذٍ فَمَا كَانَ شَهِدَ بِهِ أَوْ قَضَى فِيهِ
يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُهُ وَكَذَلِكَ تَزْوِيجُ مُوَلِّيَتِهِ ، وَكُلُّ مَا
الْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِيهِ ، إذْ فِعْلُهُ فِي السَّنَةِ
الْأَخِيرَةِ مِنْ سِنِي الْإِمْكَانِ يَتَبَيَّنُ بِمَوْتِهِ بُطْلَانُهُ ،
وَهَذِهِ فَوَائِدُ جَلِيلَةٌ يُحْتَاجُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا .
( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : الْجِمَاعُ وَهُوَ إيلَاجُ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا وَلَوْ مِنْ
ذَكَرٍ مُبَانٍ فِي فَرْجٍ وَلَوْ لِبَهِيمَةٍ مِنْ عَامِدٍ عَالِمٍ مُخْتَارٍ فِي
الْحَجِّ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ الْأَوَّلِ أَوْ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ تَحَلُّلِهَا ) وَهَذَا وَإِنْ
لَمْ أَرَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الْوَعِيدِ وَلَمْ أَرَ مَنْ عَدَّهُ كَبِيرَةً ،
إلَّا أَنَّ قِيَاسَ جَعْلِهِمْ إفْسَادَ الصَّوْمِ كَبِيرَةً بِجِمَاعٍ أَوْ
غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ إفْسَادُ النُّسُكِ بِالْجِمَاعِ كَذَلِكَ ، بَلْ أَوْلَى
لِأَنَّ الصَّائِمَ إذَا أَفْسَدَ بِغَيْرِ الْجِمَاعِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرَ
الْإِثْمِ وَالْقَضَاءِ ، وَهُنَا عَلَيْهِ مَعَ الْإِثْمِ وَالْقَضَاءِ
الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهِ وَالْكَفَّارَةُ ، وَهِيَ ذَبْحُ بَدَنَةٍ مِنْ
الْإِبِلِ ثَنِيَّةٍ وَهِيَ مَا لَهَا خَمْسُ سِنِينَ كَامِلَةٍ ، فَإِنْ عَجَزَ
فَثَنِيَّةُ بَقَرٍ ، وَهِيَ مَا لَهَا سَنَتَانِ كَامِلَتَانِ ، فَإِنْ عَجَزَ
فَسَبْعٌ مِنْ الْغَنَمِ الْجَذَعَةِ لَهَا سَنَةٌ ، وَالثَّنِيَّةُ لَهَا
سَنَتَانِ ، فَإِنْ عَجَزَ اشْتَرَى بِقِيمَةِ الْبَدَنَةِ طَعَامًا يُجْزِئُ فِي الْفِطْرَةِ
وَتَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَتَمَّمَ
الْمُنْكَسِرَ ، وَصَوْمُهُ فِي الْحَرَمِ أَوْلَى .
( الْكَبِيرَةُ الْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : قَتْلُ
الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ صَيْدًا مَأْكُولًا وَحْشِيًّا وَإِنْ
تَأَنَّسَ بَرِّيًّا أَوْ فِي أَحَدٍ مِنْ أُصُولِهِ مَا هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ
عَامِدًا عَالِمًا مُخْتَارًا ) قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا
عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ
أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا
سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو
انْتِقَامٍ } .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ صَرِيحُ مَا فِي
هَذِهِ الْآيَةِ وَبِهِ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ ، فَإِنَّهُمْ ذَكَرُوا هُنَا أَنَّ
مَنْ قَتَلَ صَيْدًا كَذَلِكَ يَكُونُ فَاسِقًا ، لِأَنَّهُ قَتَلَ حَيَوَانًا
مُحْتَرَمًا بِلَا ضَرُورَةٍ ، وَفِيهِ كَلَامٌ بَسَطْته فِي حَاشِيَةِ
الْإِيضَاحِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَقِيَّةَ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ
لَيْسَتْ كَبَائِرَ ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ هَذَا كَبِيرَةٌ لَمْ يَلْحَظْ
كَوْنَهُ مِنْ مُحَرَّمَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَإِنَّمَا لَحَظَ مَا ذُكِرَ مِنْ
أَنَّهُ قَتْلُ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ بِلَا ضَرُورَةٍ ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْ
هَذَا أَنَّ إيذَاءَ الْمُحْرِمِ لَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِمَّا لَا يُحْتَمَلُ
عَادَةً يَكُونُ كَبِيرَةً .
( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : إحْرَامُ الْحَلِيلَةِ بِتَطَوُّعِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ غَيْرِ
إذْنِ الْحَلِيلِ وَإِنْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهَا ) وَعَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً
هُوَ قِيَاسُ مَا قَدَّمْته بَحْثًا أَيْضًا فِي صَوْمِ الْمَرْأَةِ بِغَيْرِ
إذْنِ زَوْجِهَا الْحَاضِرِ ، بَلْ هَذَا أَوْلَى لِطُولِ زَمَنِهِ وَاحْتِيَاجِهَا
فِي الْخُرُوجِ مِنْهُ إلَى سَفَرٍ وَنَوْعٍ مِنْ الْهَتْكِ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
: اسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ) أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ
وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ { أَنَّ رَجُلًا : قَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : هُنَّ تِسْعٌ : الْإِشْرَاكُ
بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَفِرَارٌ يَوْمَ
الزَّحْفِ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَقَذْفُ
الْمُحْصَنَةِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَعَمَلُ السِّحْرِ ،
وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } .
وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِ { الْكَبَائِرُ
تِسْعٌ أَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ نَفْسِ مُؤْمِنٍ ، وَأَكْلُ
الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَالْفِرَارُ
مِنْ الزَّحْفِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ } .
( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : الْإِلْحَادُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ
فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } نَزَلَتْ كَمَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ فِي عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُنَيْسٍ { بَعَثَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرِيًّا
وَأَنْصَارِيًّا فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ فَغَضِبَ ابْنُ أُنَيْسٍ ،
فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ ثُمَّ ارْتَدَّ وَهَرَبَ إلَى مَكَّةَ } وَالْإِلْحَادُ الْعُدُولُ
عَنْ الْقَصْدِ .
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ ، فَقِيلَ : "
إنَّهُ الشِّرْكُ " وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ ، وَفِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : " هُوَ أَنْ تَقْتُلَ فِيهِ مَنْ
لَا يَقْتُلُك أَوْ تَظْلِمَ مِنْ لَا يَظْلِمُك " .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ : " هُوَ أَنْ
تَسْتَحِلَّ مِنْ الْحَرَامِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْكَ مِنْ لِسَانٍ أَوْ
قَتْلٍ فَتَظْلِمَ مَنْ لَا يَظْلِمُكَ وَتَقْتُلَ مَنْ لَا يَقْتُلُك ، فَإِذَا فَعَلْت
ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ " .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ " بِظُلْمٍ تَعْمَلُ فِيهِ
عَمَلًا سَيِّئًا " ، فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ تَبَعًا لِاخْتِلَافِ قَوْلِ
أُسْتَاذِهِ ، وَعَنْهُ الْإِلْحَادُ فِيهِ ، لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجُنْدُبُ بْنُ ثَابِتٍ
وَغَيْرُ وَاحِدٍ : هُوَ احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ
مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ : بَيْعُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ أَيْ بَعْدَ احْتِكَارِهِ كَمَا
هُوَ ظَاهِرٌ إلْحَادٌ ، وَمِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ تَبَعًا لِلرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ
عَنْ أُسْتَاذِهِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا : " شَتْمُ الْخَادِمِ ظُلْمٌ فَمَا
فَوْقَهُ " ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : " إنَّ الظُّلْمَ فِي الْآيَةِ
تِجَارَةُ الْأَمِيرِ فِيهِ
" .
وَعَنْ عَطَاءٍ " هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي
الْمُبَايَعَةِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ " .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : " أَنَّهُ كَانَ
لَهُ فُسْطَاطَانِ أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ ،
وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ أَهْلَهُ عَاتَبَهُمْ
فِي الْحِلِّ ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ كُنَّا نُحَدِّثُ أَنَّ مِنْ الْإِلْحَادِ
فِيهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِأَهْلِهِ كَلًّا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ " .
وَعَنْ عَطَاءٍ " هُوَ دُخُولُ الْحَرَمِ غَيْرَ مُحْرِمٍ
وَارْتِكَابُ شَيْءٍ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مِنْ قَتْلِ صَيْدٍ أَوْ
قَطْعٍ شَجَرٍ " .
وَفَائِدَةُ قَوْلِهِ بِظُلْمٍ بَيَانُ أَنَّ
الْإِلْحَادَ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا أَصْلَ مَعْنَاهُ وَهُوَ مُطْلَقُ
الْمَيْلِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ إلَى حَقٍّ وَإِلَى بَاطِلٍ ، وَإِنَّمَا
الْمُرَادُ بِهِ الْمَيْلُ الْمُتَلَبِّسُ بِالظُّلْمِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَصْلَ
الظُّلْمِ يَشْمَلُ سَائِرَ الْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ ، إذَا لَا
مَعْصِيَةَ وَإِنْ صَغُرَتْ إلَّا وَهِيَ ظُلْمٌ ، إذْ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي
غَيْرِ مَحَلِّهِ ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ
عَظِيمٌ } فَخَرَجَ بِعَظِيمٍ غَيْرُ الشِّرْكِ ، فَهُوَ ظُلْمٌ ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِعَظِيمٍ
كَالشِّرْكِ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا فِي نَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ : { نُذِقْهُ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ } بَيَانٌ لِلْوَعِيدِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْإِلْحَادِ
الْمَذْكُورِ ، وَأَخَذَ مِنْ ذَلِكَ مُجَاهِدٌ قَوْلَهُ الْمَرْوِيَّ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَيْضًا : إنَّ السَّيِّئَاتِ تُضَاعَفُ فِي مَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ
الْحَسَنَاتُ فِيهَا ، وَحَمَلَهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُضَاعَفَةِ
زِيَادَةُ قُبْحِهَا وَعَذَابِهَا لَا الْمُضَاعَفَةُ الْمَزَادَةُ فِي
الْحَسَنَاتِ ، لِأَنَّ النُّصُوصَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَا جَزَاءَ
عَلَيْهَا إلَّا مِثْلُهَا مُتَعَيِّنٌ ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ مُجَاهِدٍ
وَغَيْرِهِ الْقَوْلُ بِحَقِيقَةِ الْمُضَاعَفَةِ ، وَيَجْعَلُونَ ذَلِكَ
مُسْتَثْنًى مِنْ النُّصُوصِ لِدَلِيلٍ قَامَ عِنْدَهُمْ عَلَى اسْتِثْنَائِهِ .
وَلَوْلَا أَنَّهُمْ قَائِلُونَ بِحَقِيقَةِ
الْمُضَاعَفَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُونُوا مُخَالِفِينَ لِلْجُمْهُورِ ، إذْ لَا
خِلَافَ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ بِمَكَّةَ أَقْبَحُ مِنْهَا بِغَيْرِهَا .
وَدَلِيلُ أَنَّ
الْإِرَادَةَ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ خُصُوصِيَّةٌ
لِلْحَرَمِ مَا صَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا
وَمَوْقُوفًا لَكِنَّ وَقْفَهُ أَشْبَهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ
فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قَالَ : { لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ فِيهِ
بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
الْعَذَابِ الْأَلِيمِ } وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْهُ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يُهِمُّ
بِسَيِّئَةٍ إلَّا كُتِبَتْ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بِعَدَنِ أَبْيَنَ
هَمَّ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا بِهَذَا الْبَيْتِ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ .
تَنْبِيهٌ : ذِكْرِي الِاسْتِحْلَالَ وَالْإِلْحَادَ
كَبِيرَتَيْنِ مُتَغَايِرَتَيْنِ هُوَ مَا فِي حَدِيثَيْنِ ، أَخْرَجَ أَبُو
الْقَاسِمِ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ ، فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { هُنَّ تِسْعٌ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ،
وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ وَالْفِرَارُ مِنْ
الزَّحْفِ ، وَالسِّحْرُ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَعُقُوقُ
الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ، وَالْإِلْحَادُ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ
قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا
} .
وَجَاءَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، فَالْمَرْفُوعُ
مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَوْقُوفِ ، فَتَعْبِيرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالِاسْتِحْلَالِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ، وَبِالْإِلْحَادِ هُنَا يَحْتَمِلُ
أَنْ يُرِيدَ بِهِمَا وَاحِدًا هُوَ مَا فِي الْآيَةِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ
بِالْأَوَّلِ اسْتِحْلَالَ حِرْصِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِالْحَرَمِ ،
وَبِالثَّانِي وُقُوعَ مَعْصِيَةٍ مِنْهُ فِيهِ ، وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ كَبِيرَةٌ
أَشَارَ إلَيْهِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ ، وَصَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُ فَقَالَ : أَعْنِي
الْجَلَالَ وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَسْطُرٍ :
وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ ، وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ فَقَالَ : الرَّابِعَةَ
عَشْرَةَ الْإِلْحَادُ فِي الْبَيْتِ
الْحَرَامِ وَلَوْ بِالْإِرَادَةِ ، قَالَ تَعَالَى : {
وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }
انْتَهَى .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْأَخْذَ بِإِطْلَاقِ الْآيَةِ مِنْ
أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ فِي حَرَمِ مَكَّةَ كَبِيرَةٌ مَا مَرَّ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : " أَنَّ الظُّلْمَ يَشْمَلُ كُلَّ مَعْصِيَةٍ " ، وَمَا
مَرَّ عَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي شَتْمِ الْخَادِمِ وَمَا فَوْقَهُ ، وَعَنْ ابْنِ
عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ مِنْ أَنَّ : " لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى
وَاَللَّهِ ، أَيْ الْحَلِفُ الْكَاذِبُ مِنْ الْإِلْحَادِ " .
وَعَنْ عَطَاءٍ مِنْ أَنَّ مِنْهُ دُخُولَ الْحَرَمِ
بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَمَا سَبَقَ مَعَهُ ، وَقَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ
الْمُفَسِّرِينَ تَبَعًا لِمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ { بِظُلْمٍ
} هُوَ كَشَتْمِ الْخَادِمِ ، وَمِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فِي
الدَّلَالَةِ لِمَا ذُكِرَ رِوَايَةُ أَبِي دَاوُد وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ
يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إلْحَادٌ } ،
وَرِوَايَةُ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ
إلْحَادٌ } ، إذْ ظَاهِرُهُ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ جُزْئِيَّاتِ الْإِلْحَادِ
، فَلَا يَخْتَصُّ بِاحْتِكَارِ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ
مَعْصِيَةٍ بِهَا ، وَلَوْ بِالْإِرَادَةِ .
ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ
لَمَّا ذَكَرَ أَكْثَرَ الْآثَارِ السَّابِقَةِ ، قَالَ : وَهَذِهِ الْآثَارُ وَإِنْ دَلَّتْ
عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ الْإِلْحَادِ ، وَلَكِنْ هُوَ أَعَمُّ مِنْ
ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا هِيَ مُنَبِّهَةٌ عَلَى مَا هُوَ أَغْلَظُ مِنْهَا ،
وَلِهَذَا لَمَّا هَمَّ أَصْحَابُ الْفِيلِ بِتَخْرِيبِ الْبَيْتِ أَرْسَلَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ
سِجِّيلٍ ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ : أَيْ دَمَّرَهُمْ وَجَعَلَهُمْ
عِبْرَةً وَنَكَالًا لِمَنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ ، وَسَيَأْتِي فِي
الْجَيْشِ الَّذِي يَغْزُوهَا أَنَّ الْأَرْضَ تُخْسَفُ
بِهِمْ .
وَرَوَى أَحْمَدُ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لِابْنِ
الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ : إيَّاكَ
وَالْإِلْحَادَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّهُ سَيُلْحِدُ فِيهِ رَجُلٌ
مِنْ قُرَيْشٍ لَوْ تُوزَنُ ذُنُوبُهُ بِذُنُوبِ الثَّقَلَيْنِ لَرَجَحَتْ ، فَلْتَنْظُرْ
لَا تَكُنْهُ } .
وَأُخْرِجَ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ أَتَى ابْنَ الزُّبَيْرِ وَهُوَ فِي
الْحِجْرِ فَقَالَ : يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ إيَّاكَ وَالْإِلْحَادَ فِي الْحَرَمِ
، فَإِنِّي أَشْهَدُ لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : " وَذَكَرَ نَحْوَ مَا مَرَّ " وَعَلَيْهِ فَتَكُونُ
الصَّغَائِرُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ كَبَائِرَ فِيهَا بِمَعْنَى شِدَّةِ عِقَابِهَا
الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ الْمَحَلُّ ، لَا مِنْ حَيْثُ ذَوَاتُهَا ،
وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَتْ كَبَائِرَ مُوجِبَةً لِلْفِسْقِ وَالْقَدْحِ فِي
الْعَدَالَةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِعُمُومِهِ .
وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ بِأَهْلِ الْحَرَمِ عَدْلٌ
لِتَعَذُّرِ الصَّوْنِ عَنْ مُحَقِّرَاتِ الذُّنُوبِ وَصَغَائِرِهَا ، وَلِلْإِجْمَاعِ
قَدِيمًا وَحَدِيثًا عَلَى عَدَالَتِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ بِارْتِكَابِهِمْ
الصَّغَائِرَ ، إذْ لَا عِصْمَةَ وَلَا حِفْظَ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَتَعَيَّنَ
تَأْوِيلُ عَدِّ ذَلِكَ كَبِيرَةً عَلَى مَا ذَكَرْته ، لِأَنَّ مَنْ عَدَّهُ
كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ فِعْلَ كَبِيرَةٍ بِالْحَرَمِ ، لِأَنَّ
هَذَا فِسْقٌ وَكَبِيرَةٌ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، فَأَيُّ مَزِيَّةٍ لِلْحَرَمِ حِينَئِذٍ
، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّ الصَّغَائِرَ بِغَيْرِ مَكَّةَ كَبَائِرُ فِيهَا ،
وَهَذَا مُسْتَحِيلُ الظَّاهِرِ لِمَا عَلِمْت فَتَعَيَّنَ تَأْوِيلُهُ .
فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ وَحَدُّ الْكَبِيرَةِ بِأَنَّهَا
مَا جَاءَ فِيهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يَشْمَلُ الصَّغِيرَةَ الْمَفْعُولَةَ فِي
الْحَرَمِ ؟ قُلْت : لَا يَبْعُدُ حَمْلُ الْحَدِّ أَيْضًا عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ
الْوَعِيدُ عَلَى قُبْحِهِ مِنْ حَيْثُ
ذَاتُهُ لَا مِنْ حَيْثُ شَرَفُ مَحَلِّهِ .
وَاَلَّذِي اضْطَرَّنَا إلَى ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ
فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّأْوِيلِ
.
وَمِمَّا يُعْلِمُك بِشِدَّةِ قُبْحِ الْمَعْصِيَةِ
ثَمَّ وَتَعْجِيلِ عِقَابِهَا وَلَوْ صَغِيرَةً أَنَّ بَعْضَ الطَّائِفِينَ نَظَرَ
إلَى أَمْرَدَ أَوْ امْرَأَةٍ فَسَالَتْ عَيْنُهُ عَلَى خَدِّهِ ، وَبَعْضُهُمْ
وَضَعَ يَدَهُ عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ فَالْتَصَقَتَا وَعَجَزَ النَّاسُ عَنْ
فَكِّهِمَا ، حَتَّى دَلَّهُمْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمَا لَا يَرْجِعَانِ
إلَى مَعْصِيَتِهِمَا ، وَيَبْتَهِلَانِ إلَى اللَّهِ ، وَيَصْدُقَانِ فِي التَّوْبَةِ
، فَفَعَلَا ذَلِكَ ، فَفَرَّجَ عَنْهُمَا .
وَقِصَّةُ إسَافٍ وَنَائِلَةٍ مَشْهُورَةٌ وَهِيَ
أَنَّهُمَا زَنَيَا فَمَسَخَهُمَا اللَّهُ حَجَرَيْنِ ، وَلَا يَغُرَّنَّك أَنَّك
تَرَى مَنْ يَعْصِي ثُمَّ يَنْظُرُ أَوْ غَيْرُهُ وَلَا يُعَاجِلُ بِالْعُقُوبَةِ
، لِأَنَّ الْعَاقِلَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُغَرِّرَ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ الْمُغِرُّ
لِنَفْسِهِ بِمَحْمُودٍ وَإِنْ سَلِمَ ، وَرُبَّمَا عَجَّلَ اللَّهُ لَك
الْعُقُوبَةَ دُونَ غَيْرِك ، فَإِنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ تَعَالَى ، عَلَى
أَنَّ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ قَدْ يَكُونُ بِمَا هُوَ أَشْنَعُ وَأَقْبَحُ ،
وَهُوَ مَسْخُ الْقَلْبِ ، وَبُعْدُهُ عَنْ حَضْرَةِ الْحَقِّ وَغَوَايَتُهُ
بَعْدَ هِدَايَتِهِ وَإِعْرَاضُهُ بَعْدَ إقْبَالِهِ .
وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ مَنْ نَعْرِفُهُ وَكَانَ عَلَى هَيْئَةٍ
جَمِيلَةٍ وَفَضْلٍ تَامٍّ وَتَصَوُّنٍ بَالِغٍ ، أَنَّهُ زَلَّ فَقَبَّلَ
امْرَأَةً عِنْدَ الْحِجْرِ عَلَى مَا حُكِيَ ، لَكِنْ ظَهَرَتْ آثَارُ صِدْقِ
تِلْكَ الْحِكَايَةِ فَمُسِخَ مَسْخًا كُلِّيًّا .
وَصَارَ بِأَرَثِّ هَيْئَةٍ وَأَقْبَحِ مَنْظَرٍ
وَأَفْظَعِ حَالَةٍ بَدَنًا وَدُنْيَا وَعَقْلًا وَكَلَامًا ؛ فَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ الزَّلَّاتِ ، وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَنْ يَعْصِمَنَا مِنْ الْفِتَنِ إلَى الْمَمَاتِ ، إنَّهُ أَكْرَمُ
كَرِيمٍ وَأَرْحَمُ رَحِيمٍ .
وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ أَعْرِفُ أَيْضًا أَنَّهُ
وَقَعَتْ مِنْهُ هَنَاتٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَعُوجِلَ عَلَيْهَا بِعِقَابٍ
شَدِيدٍ فِي بَدَنِهِ وَدِينِهِ أَيْضًا .
وَكَذَا وَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ بَلَغْنَا ذَلِكَ
عَنْهُمْ فِي زَمَنِنَا ، وَلَوْلَا ضِيقُ الْمَقَامِ وَخَوْفُ الْفَضِيحَةِ
وَطَلَبُ السَّتْرِ بَسَطْت أَحْوَالَهُمْ ، وَلَكِنْ فِي الْإِشَارَةِ مَا
يُغْنِي عَنْ الْعِبَارَةِ ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا بِذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ
رُبَّمَا اغْتَرَّ ، فَظَنَّ مِمَّا يَرَى مِنْ عَدَمِ تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ الظَّاهِرَةِ
أَنَّهُ لَا يُعَاجَلُ بِشَيْءٍ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ، بَلْ لَا بُدَّ لِمَنْ
تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ أَوْ قَدِمَ عَلَيْهِ آمِنًا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ
الْعُقُوبَةُ الظَّاهِرَةُ أَوْ الْبَاطِنَةُ ، هَذَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ
الَّذِي أَشَارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى عَظَمَتِهِ ، بَلَى وَإِلَى عَظَمَةِ
عَذَابِ الدُّنْيَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَنْ يُرِدْ
فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } .
( خَاتِمَةٌ : فِي أُمُورٍ مُشِيرَةٍ إلَى بَعْضِ
فَضَائِلِ الْحَرَمِ وَمَا فِيهِ وَمَنْ فِيهِ ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ
وَالْحَاكِمُ : { إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ
الْمَسْجِدِ ، يَعْنِي مَسْجِدَ مَكَّةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عِشْرِينَ
وَمِائَةِ رَحْمَةٍ ، سِتِّينَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعِينَ لِلْمُصَلِّينَ ، وَعِشْرِينَ
لِلنَّاظِرِينَ } .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ، وَجَاءَ فِي أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ ، كَمَا بَيَّنْته فِي
حَاشِيَةِ الْإِيضَاحِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ فِي
مَسْجِدِ مَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ أَلْفِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ غَيْرِ
الْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ
بِأَلْفِ صَلَاةٍ مِمَّا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَالصَّلَاةُ فِيهِ
بِخَمْسِمِائَةِ صَلَاةٍ ، وَفِي حَدِيثِ : { بِأَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ } .
وَصَحَّ أَنَّ الصَّلَاةَ بِمَكَّةَ بِمِائَةِ أَلْفِ
صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ وَالصَّلَاةُ فِيهِ فِيهَا مَا ذُكِرَ ،
فَإِذَا ضَرَبْت بَلَغَ الْحَاصِلُ مَا ذَكَرْته ، فَتَأَمَّلْ سَعَةَ هَذَا
الْفَضْلِ ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ ، فِي الْأَوْسَطِ : { إنَّ لِلْكَعْبَةِ
لِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ، وَلَقَدْ اشْتَكَتْ فَقَالَتْ : يَا رَبِّ قَلَّ
عُوَّادِي ، وَقَلَّ زُوَّارِي ، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : إنِّي خَالِقٌ
بَشَرًا خُشَّعًا سُجَّدًا يَحِنُّونَ إلَيْك كَمَا تَحِنُّ الْحَمَامَةُ إلَى
بَيْضِهَا } .
وَالْبَزَّارُ : { رَمَضَانُ بِمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ
أَلْفِ رَمَضَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ
} .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ
فَصَامَهُ وَقَامَ مِنْهُ مَا تَيَسَّرَ لَهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِائَةَ أَلْفِ
شَهْرِ رَمَضَانَ فِيمَا سِوَاهَا ، وَكَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ عِتْقَ
رَقَبَةٍ وَكُلِّ لَيْلَةٍ عِتْقَ رَقَبَةٍ ، وَكُلِّ يَوْمٍ حُمْلَانَ فَرَسٍ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ حَسَنَةً ، وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ حَسَنَةً } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : {
إنَّمَا سُمِّيَ الْبَيْتَ الْعَتِيقَ ، لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَعْتَقَهُ مِنْ الْجَبَابِرَةِ فَلَمْ
يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبَّارٌ قَطُّ
} .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَوَّلُ بُقْعَةٍ وُضِعَتْ فِي
الْأَرْضِ الْبَيْتُ ثُمَّ مُدَّتْ مِنْهَا الْأَرْضُ ، وَإِنَّ أَوَّلَ جَبَلٍ
وَضَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَبُو قُبَيْسٍ ، ثُمَّ مُدَّتْ
مِنْهُ الْجِبَالُ } .
وَالْأَرْبَعَةُ : { مَكَّةُ أُمُّ الْقُرَى } .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { مَنْ أَكْرَمَ الْقِبْلَةَ
أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى }
.
وَابْنُ مَاجَهْ : { لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ
بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ حَقَّ تَعْظِيمِهَا ، فَإِذَا
ضَيَّعُوا ذَلِكَ هَلَكُوا } .
وَالشَّيْخُ : { النَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ عِبَادَةٌ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ : { أَوَّلُ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ
الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى ، وَمَا بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً } ، الْحَدِيثَ .
وَالشَّيْخَانِ وَالنَّسَائِيُّ : { لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ
إلَّا سَيَطَؤُهَا الدَّجَّالُ إلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَلَيْسَ نَقْبٌ مِنْ
أَنْقَابِهَا إلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ حَافِّينَ تَحْرُسُهَا فَيَنْزِلُ
بِالسَّبَخَةِ فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ يَخْرُجُ
إلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ : { مَا
أَطْيَبَك مِنْ بَلَدٍ وَأَحَبَّك إلَيَّ ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي
مِنْك مَا سَكَنْت غَيْرَك } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ : { وَاَللَّهِ إنَّك لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ
إلَيَّ ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْت مِنْك مَا خَرَجْت } وَأَيْضًا : { لَا
تُغْزَى مَكَّةُ بَعْدَ الْيَوْمِ ، أَيْ يَوْمِ الْفَتْحِ إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ : { لَا يَحِلُّ لِأَحَدِكُمْ أَنْ يَحْمِلَ
بِمَكَّةَ السِّلَاحَ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { يَا عَائِشَةُ لَوْلَا
أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْت بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ
فَأَدْخَلَتْ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ : أَيْ وَهُوَ شَاذَرْوَانُهُ ، وَسِتَّةُ
أَذْرُعٍ أَوْ سَبْعَةُ مِنْ الْحِجْرِ وَأَلْزَقْتُهُ
أَيْ بَابَهُ بِالْأَرْضِ ، وَجَعَلْت لَهُ بَابَيْنِ
بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْت بِهِ أَسَاسَ إبْرَاهِيمَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ زِيَادَةُ : { لَأَنْفَقَتْ
كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَفِي أُخْرَى : { أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا بَنَتْهُ
اسْتَقْصَرَتْ : أَيْ النَّفَقَةُ بِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَبْنُوهُ إلَّا مِنْ
مَالٍ مُتَيَقَّنِ الْحِلِّ فَأَعْوَزَهُمْ فَتَرَكُوا الشَّاذَرْوَانَ وَمِنْ الْحِجْرِ
مَا ذُكِرَ وَقَلَّلُوا طُولَهَا فِي السَّمَاءِ ، وَسَدُّوا بَابَهَا الْغَرْبِيَّ
وَرَفَعُوا بَابَهَا الشَّرْقِيَّ ، لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ
شَاءُوا } .
وَلَمَّا سَمِعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا مِنْ خَالَتِهِ عَائِشَةَ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ بَادَرَ لِهَدْمِهِ
وَأَعَادَهُ عَلَى مَا فِيهِ ، ثُمَّ جَاءَ الْحَجَّاجُ فَأَزَالَ بِنَاءَهُ مِنْ
نَاحِيَةِ الْحِجْرِ فَقَطْ وَجَعَلَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ وَسَدَّ الْبَابَ
الْغَرْبِيَّ ، وَرَفَعَ الشَّرْقِيَّ
.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ : { يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ
فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ بِأَوَّلِهِمْ وَآخَرِهِمْ
ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ
} .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ
فَيُبْعَثُ إلَيْهِ بَعْثٌ ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ خُسِفَ
بِهِمْ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا ؟ قَالَ
يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
نِيَّتِهِ } .
وَبَيَّنْت فِي كِتَابِي [ الدُّرَرُ فِي عَلَامَاتِ
الْمَهْدِيِّ الْمُنْتَظِرِ ] :
أَنَّهُ ذَلِكَ الْعَائِذُ ، وَأَنَّ تِلْكَ
الْبَيْدَاءَ الْخَلِيفَةُ ، وَأَنَّهُ لَا يُخَصُّ مِنْهُمْ إلَّا اثْنَانِ أَوْ
وَاحِدٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : { فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ
إلَّا الشَّرِيدُ الَّذِي يُخْبِرُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ أَرْسَلُوا إلَى الْمَهْدِيِّ
مِنْ الشَّامِ لِيَقْتُلُوهُ فَيَفِرَّ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ عَائِذًا
بِهَا } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ : { كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى
أَسْوَدَ أَفْحَجُ يَنْقُضُهَا حَجَرًا حَجَرًا ، يَعْنِي الْكَعْبَةَ } .
وَجَاءَ فِي
أَحَادِيثَ :
{ أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ مِنْ الْجَنَّةِ ،
وَأَنَّهُ يُرْفَعُ بَيْنَمَا هُمْ يَطُوفُونَ بِهِ إذْ أَصْبَحُوا وَقَدْ
فَقَدُوهُ ، وَأَنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ
بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ يَشْهَدُ عَلَى مَنْ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ } ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْحَجَرِ : { أَنَّهُ
يَشْهَدُ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ وَقَبَّلَهُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَأَنَّهُ
شَافِعٌ مُشَفَّعٌ } ، سَنَدُهُ حَسَنٌ
، وَكَذَلِكَ سَنَدُ : { يَأْتِي الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَعْظَمَ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ لَهُ لِسَانٌ وَشَفَتَانِ وَأَنَّهُ كَانَ أَشَدَّ
بَيَاضًا مِنْ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أَهْلِ الشِّرْكِ ،
وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إلَّا شُفِيَ } ، وَسَنَدُهُ حَسَنٌ : {
وَأَنَّهُ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ فَوُضِعَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ كَأَنَّهُ
مَهَاةٌ : أَيْ بِالْقَصْرِ بِلَّوْرَةٌ بَيْضَاءُ فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ،
ثُمَّ وُضِعَ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ } .
وَصَحَّ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَهُوَ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ ، وَأَنَّهُ يَمِينُ اللَّهِ
فِي الْأَرْضِ يُصَافِحُ بِهَا عِبَادَهُ ، أَيْ يُمْنُهُ وَبَرَكَتُهُ
يُنَزِّلُهُمَا عَلَيْهِمْ إذَا اسْتَلَمُوهُ ، وَأَنَّهُ وَالرُّكْنُ
الْيَمَانِيُّ يَحُطَّانِ الْخَطَايَا حَطًّا ، وَأَنَّهُمَا يُبْعَثَانِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ، وَلَهُمَا عَيْنَانِ وَلِسَانٌ وَشَفَتَانِ يَشْهَدَانِ لِمَنْ
اسْتَلَمَهُمَا بِالْوَفَاءِ ، وَأَنَّ عِنْدَهُ تُسْكَبُ الْعَبَرَاتِ ،
وَأَنَّهُ وَالْمَقَامَ يَاقُوتُتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ ، فَرِوَايَةُ
مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الْجَنَّةِ غَيْرُهُ مَخْصُوصَةٌ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ
اللَّهَ طَمَسَ نُورَهُمَا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
، وَأَنَّ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ سَبْعِينَ مَلَكًا مُوَكَّلًا يُؤَمِّنُونَ
عَلَى مَنْ قَالَهُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً } الْآيَةَ ،
وَأَنَّ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ مُلْتَزَمٌ مَا يَدْعُو بِهِ صَاحِبُ
عَاهَةٍ
إلَّا بَرِئَ ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا وَكَزَ
زَمْزَمَ بِعَقِبِهِ ، جَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَجْمَعُ الْبَطْحَاءَ .
رَحِمَ اللَّهُ هَاجَرَ ، لَوْ تَرَكَتْهَا كَانَتْ
عَيْنًا مَعِينًا ، وَأَنَّهَا هَزْمَةُ جِبْرِيلَ ، وَسُقِيَا إسْمَاعِيلَ ،
وَأَنَّ مَاءَهَا لِمَا شُرِبَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
وَأَنَّ التَّضَلُّعَ مِنْهُ بَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ ، وَأَنَّهُ خَيْرُ مَاءٍ عَلَى
وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَهَاكِ سَرْدُ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ أَوْ حَسَنَةٍ : { أَيُّ
الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا
؟ قَالَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ حَجٌّ
مَبْرُورٌ } ، أَيْ وَهُوَ الَّذِي لَا مَعْصِيَةَ فِيهِ وَلَوْ صَغِيرَةً مِنْ
حِينِ الْإِحْرَامِ إلَى التَّحَلُّلِ الثَّانِي .
{ مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ
مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } ، وَالرَّفَثُ اسْمٌ لِكُلِّ فُحْشٍ
أَوْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ حَلِيلَتِهِ أَوْ الْجِمَاعِ أَقْوَالُ قَالَ بِكُلٍّ
جَمَاعَةٌ .
{ الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا
بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ } .
وَقَدْ بَسَطْت الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ
فِي حَاشِيَةِ مَنَاسِكِ النَّوَوِيِّ فَاطْلُبْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ .
{ أَمَا عَلِمْت يَا عُمَرُ : أَنَّ الْإِسْلَامَ
يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا
، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ .
إنِّي جَبَانٌ وَإِنِّي ضَعِيفٌ ، فَقَالَ : هَلُمَّ
إلَى جِهَادٍ لَا شَوْكَةَ فِيهِ الْحَجُّ أَفْضَلُ جِهَادٍ وَحَجٌّ مَبْرُورٌ
جِهَادُ الْكَبِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ } .
{ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ عَمَلَانِ هُمَا أَفْضَلُ
الْأَعْمَالِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِهِمَا حَجَّةً مَبْرُورَةً أَوْ عُمْرَةً مَبْرُورَةً } .
{ الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ
، قِيلَ وَمَا بِرُّهُ ؟ قَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَطِيبُ الْكَلَامِ } .
وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ
الْمَبْرُورِ فَتَأَمَّلْهُ .
{ تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ،
فَإِنَّهُمَا
يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي
الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } .
{ لَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا
الْجَنَّةَ } .
{ مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِيًا حَتَّى يَرْجِعَ
إلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعَمِائَةِ حَسَنَةٍ كُلُّ
حَسَنَةٍ مِثْلُ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ ، قِيلَ وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ بِكُلِّ
حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ } ، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ لَكِنْ فِيهِ ابْنُ
سِوَادَةَ ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ
.
{ إنَّ آدَمَ أَتَى الْبَيْتَ أَلْفَ أَتِيَّةٍ ، لَمْ
يَرْكَبْ قَطُّ فِيهِنَّ مِنْ الْهِنْدِ عَلَى رِجْلَيْهِ } .
صَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَاعْتَرَضَ ، بِأَنَّ فِيهِ
وَاهِيًا .
{ وَالْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ اللَّهِ ،
دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ } { اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِلْحَاجِّ وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ اسْتَمْتَعُوا بِهَذَا الْبَيْتِ
فَقَدْ هُدِمَ مَرَّتَيْنِ وَيُرْفَعُ فِي الثَّالِثَةِ } : أَيْ بَعْدَهَا .
{ لَمَّا أَهْبَطَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ قَالَ
: إنِّي مُهْبِطٌ مَعَك بَيْتًا أَوْ مَنْزِلًا يُطَافُ حَوْلَهُ كَمَا يُطَافُ
حَوْلَ عَرْشِي وَيُصَلَّى عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى حَوْلَ عَرْشِي .
فَلَمَّا كَانَ زَمَنُ الطُّوفَانِ رُفِعَ ، وَكَانَ
الْأَنْبِيَاءُ يَحُجُّونَهُ وَلَا يَعْلَمُونَ مَكَانَهُ ، فَبَوَّأَهُ اللَّهُ
لِإِبْرَاهِيمَ فَبَنَاهُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ : حِرَاءٌ وَثَبِيرٌ ،
وَلُبْنَانُ ، وَجَبَلُ الطَّيْرِ ، وَجَبَلُ الْخَيْرِ ، فَتَمَتَّعُوا مِنْهُ
مَا اسْتَطَعْتُمْ } .
صَحَّ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ
مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ فَكَانَ كَالْمَرْفُوعِ ، وَفِي حَدِيثٍ قَالَ
الْمُنْذِرِيُّ : رُوَاتُهُ كُلُّهُمْ مُوَثَّقُونَ : { إنَّ مَنْ أَمَّ الْبَيْتَ
لَا تَضَعُ نَاقَتُهُ خُفًّا وَلَا تَرْفَعُهُ إلَّا كُتِبَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ
وَمُحِيَ عَنْهُ خَطِيئَةٌ ، وَإِنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ
مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ وَالسَّعْيَ كَعِتْقِ سَبْعِينَ رَقَبَةً ، وَالْوُقُوفَ
تُغْفَرُ بِهِ الذُّنُوبُ وَإِنْ كَانَتْ بِعَدَدِ الرَّمَلِ أَوْ كَقَطْرِ
الْمَطَرِ ، أَوْ كَزَبَدِ الْبَحْرِ ،
وَبِكُلِّ حَصَاةٍ مِنْ الْجِمَارِ تَكْفِيرُ كَبِيرَةٍ
مِنْ الْمُوبِقَاتِ وَالنَّحْرُ مَذْخُورٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَبِكُلِّ شَعْرَةٍ
حُلِقَتْ حَسَنَةٌ وَمَحْوُ خَطِيئَةٍ ، وَبِالطَّوَافِ بَعْدَ ذَلِكَ يَضَعُ
مَلَكٌ يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَيَقُولُ : اعْمَلْ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ ، فَقَدْ
غُفِرَ لَك مَا مَضَى } .
{ مَنْ خَرَجَ حَاجًّا فَمَاتَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ
أَجْرَ الْحَاجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَمَنْ خَرَجَ مُعْتَمِرًا فَمَاتَ كَتَبَ لَهُ أَجْرَ
الْمُعْتَمِرِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَمَنْ خَرَجَ غَازِيًا فَمَاتَ كَتَبَ لَهُ أَجْرَ
الْغَازِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
} .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ
فِي عُمْرَتِهَا : { إنَّ لَك مِنْ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِك : أَيْ تَعَبِك
وَنَفَقَتِك النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِمِائَةِ
ضِعْفٍ } .
{ مَا أَمْلَقَ حَاجٌّ قَطُّ } قَالَ جَابِرٌ : مَا
افْتَقَرَ .
{ عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي .
مَا يَعْدِلُ الْحَجَّ مَعَك ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ } .
{ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَظَلُّ يَوْمَهُ مُحْرِمًا إلَّا
غَابَتْ الشَّمْسُ بِذُنُوبِهِ
} .
{ مَا مِنْ مُلَبٍّ يُلَبِّي إلَّا لَبَّى مَا عَنْ
يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ مِنْ شَجَرٍ أَوْ مَدَرٍ حَتَّى تَنْقَطِعَ الْأَرْضُ
هَاهُنَا وَهَاهُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ } .
{ مَسَحَهُمَا أَيْ الْيَمَانِيَيْنِ كَفَّارَةً
لِلْخَطَايَا } .
{ لَا يَضَعُ أَيْ الطَّائِفُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ
أُخْرَى إلَّا حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا
حَسَنَةً } .
{ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا لَا يَلْغُو فِيهِ
كَانَ كَعَدْلِ رَقَبَةٍ يَعْتِقُهَا
} .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ
وَالسَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : إخَافَةُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى مُشَرِّفِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
وَإِرَادَتُهُمْ بِسُوءٍ وَإِحْدَاثُ حَدَثٍ أَيْ إثْمٍ فِيهَا وَإِيوَاءُ
مُحْدِثِ ذَلِكَ الْإِثْمِ وَقَطْعِ شَجَرِهَا أَوْ حَشِيشِهَا ) .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
، قَالَ : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا
يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ إلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي
الْمَاءِ } ، زَادَ مُسْلِمٌ : { وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ
بِسُوءٍ إلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ
الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ } .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ
عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { مَنْ أَخَاف أَهْلَ
الْمَدِينَةِ فَقَدْ أَخَاف مَا بَيْنَ جَنْبَيَّ } .
وَفَسَّرَهُ جَابِرٌ رَاوِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
بِأَنَّ مَنْ أَخَافَهُمْ فَقَدْ أَخَافَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ الْمُقَابَلَةِ وَأَنَّ إخَافَتَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِنَايَةٌ عَنْ قَطْعِ الْوَصْلَةِ بَيْنَ الْمُخِيفِ وَبَيْنَ
نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إذْ غَايَةُ
الْإِخَافَةِ قَطْعُ الْوَصْلَةِ وَتَحَقُّقُ الْعَدَاوَةِ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ
عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْمَخَاوِفِ وَالْخِزْيِ وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { اللَّهُمَّ مَنْ
ظَلَمَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَأَخَافَهُمْ فَأَخِفْهُ وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ أَيْ
فَرْضٌ أَوْ تَطَوُّعٌ أَوْ تَوْبَةٌ أَوْ اكْتِسَابٌ أَوْ وَزْنُ أَقْوَالٍ ،
وَلَا عَدْلٌ أَيْ فَرْضٌ أَوْ تَطَوُّعٌ أَوْ فِدْيَةٌ أَوْ كَيْلٌ } أَقْوَالٍ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا
حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا
} .
وَصَرَّحَ ابْنُ الْقَيِّمِ : بِأَنَّ اسْتِحْلَالَ
حَرَمِ الْمَدِينَةِ كَبِيرَةٌ
.
قَالَ غَيْرُهُ أَيْ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ
خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ : " أَنَّ أَنَسًا قِيلَ لَهُ
أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ ؟
فَقَالَ : بَلَى حَرَامٌ لَا يُخْتَلَى أَيْ يُقْطَعُ خَلَاهَا أَيْ كَلَؤُهَا الرَّطْبُ
مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ " .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ السِّتَّةِ هُوَ صَرِيحُ مَا
فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَلَمْ أَرَ مَنْ عَدَّ الْأَوَّلَيْنِ
مَعَ ظُهُورِهِمَا ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ صَرَّحَ بِهِمَا
لَكِنَّهُ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ :
وَاسْتِحْلَالُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَالْإِحْدَاثُ
فِيهَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِهِ مَا ذَكَرْته لِمَا عَلِمْتَهُ مِنْ
الْأَحَادِيثِ الْمُصَرِّحَةِ بِهِ
.
فَإِنْ قُلْت : لَا خُصُوصِيَّةَ بِالْأَوَّلَيْنِ
لَهُمْ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَا كَبِيرَتَيْنِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ أَيْضًا
كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ الْآتِي فِي الْإِيذَاءِ وَالظُّلْمِ .
قُلْت : يَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْخُصُوصِيَّةِ عَلَى أَنَّ
إرَادَتَهُمْ بِأَيِّ سُوءٍ وَإِخَافَتَهُمْ بِأَيِّ نَوْعٍ كَبِيرَةٌ بِخِلَافِ
غَيْرِهِمْ ، فَإِنَّ شَرْطَ كَوْنِ كُلٍّ مِمَّا ذُكِرَ كَبِيرَةً أَنْ يَكُونَ مِمَّا
لَهُ وَقْعُ وَبَالٍ فِي الْعَادَةِ
.
خَاتِمَةٌ :
فِي سَرْدِ أَحَادِيثَ أَكْثَرُهَا صَحِيحٌ
وَبَقِيَّتُهَا حَسَنٌ فِي فَضْلِهَا { لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ
وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إلَّا كُنْت لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَوْ شَهِيدًا إذَا كَانَ مُسْلِمًا
} .
{ إنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْ الْمَدِينَةِ
أَيْ حَرَّتَيْهَا وَطَرَفَيْهَا أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا أَيْ شَجَرُهَا أَوْ
يُقْتَلَ صَيْدُهَا .
الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ
لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ
خَيْرٌ مِنْهُ } .
{ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ زَمَانٌ
يَنْطَلِقُ النَّاسُ مِنْهَا إلَى الْأَرْيَافِ يَلْتَمِسُونَ الرَّخَاءَ
فَيَجِدُونَ رَخَاءً ثُمَّ يَأْتُونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلَيْهِمْ إلَى
الرَّخَاءِ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } .
{ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ
فَلْيَمُتْ بِهَا فَمَنْ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ كُنْت لَهُ شَفِيعًا وَشَهِيدًا .
الْوَبَاءُ وَالدَّجَّالُ لَا يَدْخُلَانِهَا } .
{ اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ خَلِيلَك وَعَبْدَك
وَنَبِيَّك دَعَاك لِأَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُك وَرَسُولُك
أَدْعُوك لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مِثْلَ مَا دَعَاك إبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ نَدْعُوك
أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ وَثِمَارِهِمْ } .
{ اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا
حَبَبْت إلَيْنَا مَكَّةَ وَاجْعَلْ مَا بِهَا مِنْ وَبَاءٍ بِخُمٍّ } أَيْ
بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ فَتَشْدِيدٍ ، غَيْضَةٌ قَرِيبٌ مِنْ الْجُحْفَةِ فَلَا يَمُرُّ
عَلَيْهَا طَائِرٌ إلَّا حُمَّ
.
{ اللَّهُمَّ إنِّي حَرَّمْت مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا
أَيْ أَنْشَأْت تَحْرِيمَهُ إذْ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا قَبْلُ كَمَا حَرَّمْتَ
عَلَى لِسَانِ إبْرَاهِيمَ الْحَرَمَ } أَيْ أَظْهَرْت حُرْمَتَهُ بَعْدَ
انْدِثَارِهَا وَإِلَّا فَهُوَ حَرَامٌ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضَ كَمَا صَحَّ .
{ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا وَبَارِكْ
لَنَا فِي مَدِينَتِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا } أَيْ مَا
يُكَالُ بِهِمَا مِنْ الْأَطْعِمَةِ
.
{ اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ
عَبْدُك وَخَلِيلُك وَنَبِيُّك وَإِنِّي عَبْدُك
وَنَبِيُّك فَإِنَّهُ دَعَاك لِمَكَّةَ وَأَنَا أَدْعُوك لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ
مَا دَعَاك بِهِ لِمَكَّةَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَاجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ
بَرَكَتَيْنِ وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ أَيْ لِأَنَّهَا إذْ
ذَاكَ مَسْكَنُ الْيَهُودِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ الْمَدِينَةِ شَيْءٌ
وَلَا شِعْبٌ وَلَا نَقْبٌ إلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا اللَّهُمَّ
بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَيَمَنِنَا
، قِيلَ وَعِرَاقِنَا قَالَ : إنَّ بِهَا قَرْنَ الشَّيْطَانِ أَيْ أَتْبَاعَهُ أَوْ قُوَّةَ
مُلْكِهِ وَتَصْرِيفِهِ وَتَهْيِيجَ الْفِتَنِ وَإِنَّ الْجَفَاءَ بِالْمَشْرِقِ الْمَدِينَةُ
قُبَّةُ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الْإِيمَانِ وَأَرْضُ الْهِجْرَةِ وَمَثْوَى
الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ } .
الْكَبِيرَةُ السِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَرْكُ
الْأُضْحِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهَا ) عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَجَدَ سَعَةً لَأَنْ يُضَحِّيَ فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا
يَحْضُرُ مُصَلَّانَا } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ
، وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ فَإِنَّ مَنْعَهُ مِنْ حُضُورِ الْمُصَلَّى
فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ ؛ وَيُجَابُ مِنْ طَرَفِ الْقَائِلِينَ بِنَدْبِ
الْأُضْحِيَّةِ كَالشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْحَدِيثَ وَإِنْ رَوَاهُ
الْحَاكِمُ مَرْفُوعًا هَكَذَا وَصَحَّحَهُ لَكِنَّهُ رَوَاهُ مَوْقُوفًا .
قَالَ غَيْرُهُ : وَلَعَلَّهُ أَشْبَهُ فَلَمْ تَتِمَّ
الْحُجَّةُ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ لَنَا أَنْ نَقُولَ مَنْعُهُ مِنْ
الْحُضُورِ لَا وَعِيدَ فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :
{ مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاثًا } وَفِي رِوَايَةٍ { أَوْ
فُجْلًا فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا } وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا حُرْمَةَ فِي أَكْلِ
مَا ذُكِرَ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَا ظَهَرَتْ حِكْمَتُهُ
وَهِيَ إيذَاءُ النَّاسِ أَوْ الْمَلَائِكَةِ بِالرَّائِحَةِ فَحَمَلْنَا
النَّهْيَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا فِي خَبَرِ الْأُضْحِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ
لِلْمَنْعِ حِكْمَةٌ إلَّا تَغْلِيظَ تَرْكِهِ لَهَا .
وَوَرَدَ لِلْأُضْحِيَّةِ فَضَائِلُ تَقْتَضِي مَزِيدَ
اعْتِنَاءِ الشَّارِعِ بِهَا .
مِنْهَا :
{ يَا فَاطِمَةُ قُومِي إلَى أُضْحِيَّتِك فَاشْهَدِيهَا
فَإِنَّ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا أَنْ يُغْفَرَ لَك مَا
سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِك ، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَنَا خَاصَّةً أَهْلَ الْبَيْتِ
أَوْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ : بَلْ لَنَا وَلِلْمُسْلِمِينَ } ، رَوَاهُ
جَمَاعَةٌ وَفِي سَنَدِهِ مَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ لَكِنَّهُ وُثِّقَ .
وَفِي رِوَايَةٍ حَسَّنَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ سَنَدَهَا :
{ يَا فَاطِمَةُ قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَك فَإِنَّ لَك بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ
تَقْطُرُ مِنْ دَمِهَا مَغْفِرَةً لِكُلِّ ذَنْبٍ ، أَمَا إنَّهُ يُجَاءُ
بِدَمِهَا وَلَحْمِهَا فَيُوضَعُ فِي
مِيزَانِك سَبْعِينَ ضِعْفًا .
فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لِآلِ
مُحَمَّدٍ خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الْخَيْرِ ، أَوْ
لِآلِ مُحَمَّدٍ وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً ؟ فَقَالَ لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَلِلْمُسْلِمِينَ
عَامَّةً } .
{ مَا هَذِهِ الْأَضَاحِيُّ ؟ قَالَ سُنَّةُ أَبِيكُمْ
إبْرَاهِيمَ ، قَالُوا فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ بِكُلِّ
شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ .
قَالُوا فَالصُّوفُ ؟ قَالَ بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ
الصُّوفِ حَسَنَةٌ } ، صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ
سَاقِطَيْنِ .
{ مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ
أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ إهْرَاقِ الدَّمِ ، وَإِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ
الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلَافِهَا ، وَإِنَّ الدَّمَ
لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ فَطِيبُوا
بِهَا نَفْسًا } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ غَرِيبٌ وَالْحَاكِمُ صَحِيحُ
الْإِسْنَادِ وَفِيهِ وَاهٍ لَكِنَّهُ وُثِّقَ .
{ مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَيْ الْأَضْحَى
أَفْضَلَ مِنْ دَمٍ يُهْرَاقُ إلَّا أَنْ تَكُونَ رَحِمًا تُوصَلُ } .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي إسْنَادِهِ : يَحْيَى
الْخُشَنِيُّ لَا يَحْضُرُنِي حَالُهُ
.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا وَاحْتَسَبُوا
بِدِمَائِهَا فَإِنَّ الدَّمَ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِي
حِرْزِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ }
.
{ مَنْ ضَحَّى طَيِّبَةٌ نَفْسُهُ مُحْتَسِبًا لِأُضْحِيَّتِهِ
كَانَتْ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ } ، رَوَاهُمَا الطَّبَرَانِيُّ .
( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : بَيْعُ جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ ) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً لَمْ أَرَهُ لَكِنَّ
ظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ الْأُضْحِيَّةِ
بِبَيْعِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِيهِ وَعِيدًا شَدِيدًا لِإِبْطَالِهِ ثَوَابَ
تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ أَصْلِهَا كَمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ
النَّفْيِ الْمَوْضُوعِ أَصَالَةً لِانْتِفَاءِ الذَّاتِ مِنْ أَصْلِهَا ،
وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّهُ بِالْأُضْحِيَّةِ خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَ
مِلْكًا لِلْفُقَرَاءِ ، فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَبَاعَهُ كَانَ
كَالْغَاصِبِ لِحَقِّ الْغَيْرِ ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْغَصْبَ كَبِيرَةٌ وَهَذَا
مِنْهُ كَمَا عَلِمْت فَاتَّضَحَ عَدِّي لَهُ كَبِيرَةً .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالْبَيْعِ إعْطَاؤُهُ أُجْرَةً
لِلْجَزَّارِ فَإِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ حَرَامٌ كَبَيْعِهِ ، وَكَمَا أَنْ
فِي الْبَيْعِ غَصْبًا لَهُ كَمَا تَقَرَّرَ ، فَكَذَا فِي إعْطَائِهِ أُجْرَةً
لِلْجَزَّارِ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي أَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَيْضًا
الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ
وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ :
الْمُثْلَةُ بِالْحَيَوَانِ كَقَطْعِ شَيْءٍ مِنْ نَحْوِ أَنْفِهِ أَوْ أُذُنِهِ ،
وَوَسْمِهِ فِي وَجْهِهِ ، وَاِتِّخَاذِهِ غَرَضًا ، وَقَتْلِهِ لِغَيْرِ
الْأَكْلِ ، وَعَدَمِ إحْسَانِ الْقِتْلَةِ وَالذِّبْحَةِ ) أَخْرَجَ أَحْمَدُ
بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ مَشْهُورُونَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ مَثَّلَ بِذِي رُوحٍ ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ
نَضْلَةَ قَالَ : { أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ : هَلْ تَنْتِجُ إبِلُ قَوْمِك صِحَاحًا فَتَعْدِلُ إلَى الْمُوسَى
فَتَقْطَعُ آذَانَهَا وَتَشُقُّ جُلُودَهَا وَتَقُولُ هَذِهِ صُرْمٌ } أَيْ
بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الرَّاءِ جَمْعُ صَرِيمٍ وَهُوَ مَا صُرِمَ
أُذُنُهُ : أَيْ قُطِعَ { فَتُحَرِّمُهَا عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِك ؟ قُلْت نَعَمْ
، قَالَ : فَكُلُّ مَا آتَاك اللَّهُ حِلٌّ ، سَاعِدُ اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ
سَاعِدِك ، وَمُوسَى اللَّهِ أَشَدُّ مِنْ مُوسَاك } .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَرَّ بِحِمَارٍ وُسِمَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الَّذِي وَسَمَهُ } .
وَصَحَّ { نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ الضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ وَعَنْ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ } ، وَصَحَّ : {
لَعَنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَسِمُ فِي الْوَجْهِ } .
وَصَحَّ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّ بِحِمَارٍ قَدْ كُوِيَ فِي وَجْهِهِ تَفُورُ مَنْخِرَاهُ مِنْ دَمٍ ،
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا
ثُمَّ نَهَى عَنْ الْكَيِّ فِي الْوَجْهِ وَالضَّرْبِ فِي الْوَجْهِ } .
وَالشَّيْخَانِ : { أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِفِتْيَانٍ
مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا أَوْ دَجَاجَةً يَتَرَامَوْنَهَا وَقَدْ
جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَوْا
ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا فَقَالَ مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ
هَذَا إنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا } وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ
مَا تَنْصِبُهُ الرُّمَاةُ يَقْصِدُونَ إصَابَتَهُ مِنْ قِرْطَاسٍ وَنَحْوِهِ .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : {
مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عُجَّ إلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ
يَا رَبِّ إنَّ فُلَانًا قَتَلَنِي عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِي مَنْفَعَةً } .
وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَا مِنْ
إنْسَانٍ يَقْتُلُ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا إلَّا سَأَلَهُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَمَا حَقُّهَا ؟ قَالَ يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا
فَيَرْمِي بِهَا } .
وَمُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا
ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ : أَيْ
سِكِّينَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ
} .
وَالْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ
الْبُخَارِيِّ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ
وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ وَهُوَ يَحِدُّ شَفْرَتَهُ وَهِيَ تَلْحَظُ
بِبَصَرِهَا إلَيْهِ قَالَ أَفَلَا قَبْلَ هَذَا ؟ أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا
مَوْتَاتٍ ؟ هَلَّا أَحْدَدْت شَفْرَتَك قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا ؟ } .
وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ مُوَقْوِقًا : " أَنَّ ابْنَ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا يَجُرُّ شَاةً بِرِجْلِهَا
لِيَذْبَحَهَا فَقَالَ لَهُ وَيْلَك قُدْهَا إلَى الْمَوْتِ قَوْدًا جَمِيلًا " .
وَصَحَّ : { مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ
اللَّهُ } .
{ لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرَاحَمُوا ، قَالُوا يَا
رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا رَحِيمٌ ، قَالَ إنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ
صَاحِبَهُ وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ الْعَامَّةِ } .
{ ارْحَمُوا تُرْحَمُوا ، وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ } .
{ وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ
الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ، وَأَقْمَاعُ
الْقَوْلِ مَنْ يَسْمَعُهُ وَلَا يَعِيهِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ .
شُبِّهُوا بِالْقِمْعِ ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ بِرَأْسِ
الْإِنَاءِ الضَّيِّقِ حَتَّى يُمْلَأَ ، بِجَامِعِ أَنَّ نَحْوَ الْمَاءِ يَمُرُّ
مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا يَمْكُثُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ يَمُرُّ عَلَى
آذَانِهِمْ وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ
} .
تَنْبِيهٌ : مَا ذَكَرْته مِنْ عَدِّ هَذِهِ الْخَمْسَةِ
مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَرَهُ لَكِنَّهُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ هُوَ صَرِيحُ
الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي فِي
الْمُثْلَةِ ، وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ فِي الْوَسْمِ ، وَالْخَامِسُ فِي
اتِّخَاذِ الْحَيَوَانِ غَرَضًا ، وَالسَّادِسُ فِي الْقَتْلِ لِغَيْرِ الْأَكْلِ .
وَأَمَّا السَّادِسُ فَدَلِيلُهُ الْحَدِيثُ السَّادِسُ
مَعَ الْقِيَاسِ عَلَى الْمُثْلَةِ وَالْوَسْمِ بِالْأَوْلَى لِأَنَّهُ يُؤَدِّي
إلَى تَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ أَوْ أَكْلِهِ مَيْتَةً .
وَتَعْذِيبُهُ الشَّدِيدُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ
كَبِيرَةً كَأَكْلِ الْمَيِّتِ الْآتِي ثُمَّ رَأَيْت جَمْعًا أَطْلَقُوهَا أَنَّ
تَعْذِيبَ الْحَيَوَانِ كَبِيرَةٌ
.
وَبَعْضُهُمْ عَدَّ حَبْسَ الْحَيَوَانِ حَتَّى يَمُوتَ
جُوعًا أَوْ عَطَشًا وَالْكَيَّ فِي الْوَجْهِ وَكَذَا ضَرْبُهُ ، وَاسْتَدَلَّ
بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي حَبَسَتْ الْهِرَّةَ
فَأَدْخَلَتْهَا النَّارَ ، وَبِقَوْلِ شَرْحِ مُسْلِمٍ هَذِهِ الْمَرْأَةُ
كَانَتْ مُسْلِمَةً وَالْمَعْصِيَةُ كَبِيرَةٌ انْتَهَى .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ صَرَّحَ أَصْحَابُنَا بِكَرَاهَةِ
الذَّبْحِ بِالسِّكِّينِ الْكَالَّةِ ، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ عَدَمُ
الْإِحْسَانِ السَّابِقِ كَبِيرَةً ؟ قُلْت : يَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ
كَلَامِهِمْ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ كَالَّةً لَكِنَّهَا تَقْطَعُ الْمَرِيءَ
وَالْحُلْقُومَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ لِحِلِّهِ حِينَئِذٍ
مَعَ خِفَّةِ التَّعْذِيبِ .
وَهَذَا هُوَ مُرَادُهُمْ بِأَنَّهُ الَّذِي يُكْرَهُ
بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ لَوْ ذَبَحَ بِكَالٍّ لَا يَقْطَعُ إلَّا بِقُوَّةِ
الذَّابِحِ لَمْ يَحِلَّ .
أَمَّا إذَا وَصَلَ إلَيْهَا قَبْلَ قَطْعِ الْمَرِيءِ
أَوْ بَعْضِ الْحُلْقُومِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحَرِّمُهَا وَيُصَيِّرُهَا مَيْتَةً
كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ؛ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ ذَلِكَ
كَبِيرَةٌ يَتَعَيَّنُ حَمْلُهُ عَلَى هَذَا لِأَنَّ
تَصْيِيرَ الْحَيَوَانِ مَيْتَةً لَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ
الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ وَلَوْ وَحْشِيًّا إلَّا بِالْقَطْعِ الْمَحْضِ مِنْ
مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ تَحِلُّ ذَكَاتُهُ لِجَمِيعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ
مَعَ اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ فِي الِابْتِدَاءِ بِمُحَدَّدٍ جَارِحٍ غَيْرِ الْعَظْمِ
وَلَوْ سِنًّا وَالظُّفْرَ ، فَلَوْ ذَبَحَهُ مِنْ قَفَاهُ أَوْ مِنْ صَفْحَةِ
عُنُقِهِ أَوْ بِإِدْخَالِ السِّكِّينِ فِي أُذُنِهِ حَلَّ وَإِنْ انْتَهَى بَعْدَ
قَطْعِ الْمَرِيءِ وَبَعْضِ الْحُلْقُومِ إلَى حَرَكَةِ الْمَذْبُوحِ لَمَا
نَالَهُ بِقَطْعِ الْقَفَا لَكِنَّهُ يَعْصِي وَيَأْثَمُ بِذَلِكَ ، بَلْ رُبَّمَا
يَفْسُقُ إنْ عَلِمَ وَتَعَمَّدَ لِمَا فِيهِ مِنْ إيذَاءِ الْحَيَوَانِ
الْإِيذَاءَ الشَّدِيدَ .
وَيَكْفِي فِي اسْتِقْرَارِ الْحَيَاةِ الظَّنُّ كَأَنْ
تَشْتَدَّ حَرَكَتُهُ بَعْدَ الذَّبْحِ وَيَتَفَجَّرَ دَمُهُ وَيَتَدَفَّقَ
وَيَحْرُمُ مَا أُبِينَ رَأْسُهُ بِسِكِّينٍ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ
الْحُلْقُومِ أَوْ الْمَرِيءِ أَوْ بِنَحْوِ بُنْدُقَةٍ وَإِنْ قُطِعَا وَمَا
تَأَنَّى فِي ذَبْحِهِ فَلَمْ يُتِمَّهُ حَتَّى ذَهَبَ اسْتِقْرَارُ الْحَيَاةِ
أَوْ شَكَّ فِي بَقَائِهَا ، وَمَا قَارَنَ ذَبْحَهُ إخْرَاجُ أَمْعَائِهِ ، وَمَيِّتٌ
بِمُثْقَلٍ مُحَدَّدٍ أَصَابَهُ كَعَرْضِ سَهْمٍ وَإِنْ أَنْهَرَ الدَّمَ أَوْ
بِمُحَرَّمٍ وَمُبِيحٍ كَجُرْحِ سَهْمٍ وَصَدْمٍ عَرَضَهُ فِي مُرُورِهِ
وَكَجَرْحِهِ جَرْحًا مُؤَثِّرًا فَوَقَعَ عَلَى مُحَدَّدٍ أَوْ فِي نَحْوِ مَاءٍ
، وَلَوْ جَرَحَ سَبُعٌ صَيْدًا أَوْ سَقَطَ جِدَارٌ عَلَى بَعِيرٍ أَوْ أَكَلَ
عَلَفًا مُضِرًّا فَذَبَحَهُ لَمْ يَحِلَّ إلَّا إنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ
مُسْتَقِرَّةً عِنْدَ ابْتِدَاءِ الذَّبْحِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مَرِضَ أَوْ
جَاعَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ ذَبْحُهُ وَإِنْ انْتَهَى إلَى أَدْنَى رَمَقٍ ، إذْ لَا
سَبَبَ هُنَا يُحَالُ عَلَيْهِ الْهَلَاكُ بِخِلَافِهِ ثَمَّ .
الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : الذَّبْحُ بِاسْمِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكْفُرُ بِهِ
بِأَنْ لَمْ يَقْصِدْ تَعْظِيمَ الْمَذْبُوحِ لَهُ كَنَحْوِ التَّعْظِيمِ
بِالْعِبَادَةِ وَالسُّجُودِ ) كَذَا عَدَّ هَذِهِ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ
وَغَيْرُهُ ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا
لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } : أَيْ وَالْحَالُ
أَنَّهُ كَذَلِكَ بِأَنْ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ إذْ هَذَا هُوَ الْفِسْقُ هُنَا
كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ
بِهِ } .
وَبِهَذَا بَانَ أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ حَلَالٌ .
وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي
تَفْسِيرِ الْآيَةِ يُرِيدُ الْمَيْتَةَ وَالْمُنْخَنِقَةَ إلَى قَوْلِهِ { وَمَا
ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : يَعْنِي مَا لَمْ يُذَكَّ أَوْ
ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
.
وَقَالَ عَطَاءٌ : نُهِيَ عَنْ ذَبَائِحَ كَانَتْ
تَذْبَحُهَا قُرَيْشٌ وَالْعَرَبُ عَلَى الْأَوْثَانِ .
قِيلَ وَمَعْنَى { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } : أَيْ أَكْلُ
مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَيْتَةِ فِسْقٌ : أَيْ خُرُوجٌ
عَنْ الدِّينِ .
وَمَعْنَى :
{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى
أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } أَيْ يُوَسْوِسُ الشَّيْطَانُ لِوَلِيِّهِ
فَيُلْقِي فِي قَلْبِهِ الْجَدَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَيْتَةِ بِالْبَاطِلِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوْحَى الشَّيْطَانُ إلَى
أَوْلِيَائِهِ مِنْ الْإِنْسِ كَيْفَ تَعْبُدُونَ شَيْئًا لَا تَأْكُلُونَ مَا
يَقْتُلُ وَأَنْتُمْ تَأْكُلُونَ مَا قَتَلْتُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ قَوْلَهُ :
{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } يَعْنِي فِي اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ { إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
} ( ) قَالَ الزَّجَّاجُ : فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَحَلَّ شَيْئًا مِمَّا
حَرَّمَ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ مُشْرِكٌ .
أَيْ بِشَرْطِ أَنْ يُجْمَعَ عَلَيْهِ وَيُعْلَمَ مِنْ
الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أَبَحْتُمْ ذَبِيحَةَ الْمُسْلِمِ
وَالْآيَةُ كَالنَّصِّ فِي التَّحْرِيمِ ؟ قُلْنَا : لَمْ
يُفَسِّرْهَا الْمُفَسِّرُونَ إلَّا بِالْمَيْتَةِ
وَلَمْ يَحْمِلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ إذَا تَرَكَ
التَّسْمِيَةَ عَلَيْهَا .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْمَيْتَةِ قَوْله
تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } وَلَا يَفْسُقُ آكِلُ ذَبِيحَةِ الْمُسْلِمِ
التَّارِكِ لِلتَّسْمِيَةِ وَإِنْ اعْتَقَدَ الْحُرْمَةَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لِقُوَّةِ
الْخِلَافِ فِي حِلِّهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً عِنْدَ الْقَائِلِ
بِتَحْرِيمِهِ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ } إلَخْ إذْ
الْمُنَاظَرَةُ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمَيْتَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ لَا
فِي ذَبِيحَةِ تَارِكِ التَّسْمِيَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
} وَالشِّرْكُ فِي اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ لَا فِي اسْتِحْلَالِ الذَّبِيحَةِ
الَّتِي لَمْ يُسَمِّ عَلَيْهَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْوَاحِدِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ بِسَنَدِهِ أَحَادِيثَ فِي
بَعْضِهَا حِلُّ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ سَهْوًا وَفِي بَعْضِهَا حِلُّهُ
مُطْلَقًا .
وَجَعَلَ أَصْحَابُنَا مِمَّا يُحَرِّمُ الذَّبِيحَةَ
أَنْ يَقُولَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاسْمِ مُحَمَّدٍ أَوْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ
بِجَرِّ اسْمِ الثَّانِي أَوْ مُحَمَّدٍ إنْ عَرَفَ النَّحْوَ فِيمَا يَظْهَرُ ،
أَوْ أَنْ يَذْبَحَ كِتَابِيٌّ لِكَنِيسَةٍ أَوْ لِصَلِيبٍ أَوْ لِمُوسَى أَوْ
لِعِيسَى ، وَمُسْلِمٌ لِلْكَعْبَةِ أَوْ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوْ تَقَرُّبًا لِسُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ لِلْجِنِّ ، فَهَذَا
كُلُّهُ يُحَرِّمُ الْمَذْبُوحَ وَهُوَ كَبِيرَةٌ عَلَى مَا مَرَّ ، بِخِلَافِ مَا
لَوْ قَصَدَ الْفَرَحَ بِقُدُومِهِ أَوْ شُكْرَ اللَّهِ عَلَيْهِ ، أَوْ قَصَدَ
إرْضَاءَ سَاخِطٍ أَوْ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ لِيَدْفَعَ عَنْهُ شَرَّ
الْجِنِّ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : تَسْيِيبُ السَّوَائِبِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ
اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ
مِنَّا مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ
} .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَهُ لِمَا
فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْجَاهِلِيَّةِ الْمُقْتَضِي لِشِدَّةِ الْوَعِيدِ الْمُشَارِ
إلَيْهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ سَيَّبَ
السَّوَائِبَ } .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : مَنْ مَلَكَ صَيْدًا ثُمَّ سَيَّبَهُ
أَثِمَ وَلَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ وَإِنْ قَالَ عِنْدَ إرْسَالِهِ أَبَحْته
لِمَنْ يَأْخُذُهُ ، لَكِنْ عِنْدَ قَوْلِهِ ذَلِكَ لِمَنْ أَخَذَهُ أَكْلُهُ لَا
التَّصَرُّفُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا يُلْقِيهِ الْمُلَّاكُ
إعْرَاضًا عَنْهُ كَكِسْرَةِ خُبْزٍ وَسَنَابِلَ الْحَصَّادِينَ ، وَمِنْ ثَمَّ
يَمْلِكُهُ مَنْ أَخَذَهُ .
خَاتِمَةٌ لَوْ اخْتَلَطَ حَمَامُهُ بِحَمَامِ غَيْرِهِ
لَزِمَهُ رَدُّهُ بِأَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِكِهِ ، وَمَا تَنَاسَلَ
مِنْهُمَا لِمَالِكِ الْإِنَاثِ فَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ فَلَهُ أَخْذُ قَدْرِ مِلْكِهِ
بِالِاجْتِهَادِ وَلَا يَخْفَى الْوَرَعُ أَوْ نَحْوُ دِرْهَمٍ أَوْ دُهْنٍ
حَرَامٍ بِدَرَاهِمِهِ أَوْ دُهْنِهِ جَازَ لَهُ عَلَى مَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ
وَغَيْرُهُ إفْرَازُ قَدْرِ الْحَرَامِ وَصَرْفِهِ لِجِهَةِ اسْتِحْقَاقِهِ
وَالتَّصَرُّفُ فِي الْبَاقِي ، وَنَظَرَ فِيهِ بِأَنَّ الشَّرِيكَ لَا يَسْتَقِلُّ
بِالْقِسْمَةِ فَلِيَرْفَعَهُ إلَى الْقَاضِي لِيُقَاسِمَهُ عَنْ الْمَالِكِ إنْ
تَعَذَّرَ .
وَيُجَابُ بِأَنَّ هَذَا مَحَلُّ ضَرُورَةٍ إذْ لَا
تَقْصِيرَ هُنَا مِنْ ذِي الْمَالِ بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ
بِالِاخْتِيَارِ ، وَمَا لَا يَثْبُتْ بِالِاخْتِيَارِ كَالْإِرْثِ يَلْحَقُ بِمَا
يَثْبُتُ بِالِاخْتِيَارِ ، عَلَى أَنَّ فِي رَفْعِهِ لِلْقَاضِي مَشَقَّةً ظَاهِرَةً
لِأَنَّهُ لَا يُقَسِّمُهُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ بَيِّنَةٍ عِنْدَهُ بِحَقِيقَةِ
الْحَالِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ لَوْ رَفَعَ إلَيْهِ
أَصْحَابُ يَدٍ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ الشَّيْءَ لَيُقَسِّمَهُ
بَيْنَهُمْ لَمْ يُجِبْهُمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ بِالْمِلْكِ وَلَا
يَكْتَفِي بِالْيَدِ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ تَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ مِنْهُ لَهُمْ بِهِ
وَهُوَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَسْتَنِدَ إلَى بَيِّنَةٍ لَا إلَى مُجَرَّدِ
الْيَدِ ، فَلِهَذِهِ الْمَشَقَّةِ الَّتِي لَا تُطَاقُ غَالِبًا اقْتَضَتْ
الضَّرُورَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَقِلَّ بِإِفْرَازِ قَدْرِ
الْحَرَامِ حَتَّى يَتَصَرَّفَ فِي الْبَاقِي ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ بَحْثُ
الرَّافِعِيِّ إلْحَاقَ ذَلِكَ بِاخْتِلَاطِ الْحَمَامَيْنِ لِأَنَّهُ أَرَادَ
أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي طَرِيقِ التَّصَرُّفِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ
صُدِّقَ مَنْ أَنْشَأَهُ عَلَى مِلْكِهِ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ .
وَلَوْ اخْتَلَطَ حَمَامُ مَمْلُوكٍ بِمُبَاحٍ فِي
صَحْرَاءَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُبَاحُ مَحْصُورًا بِأَنْ يَسْهُلَ عَدُّهُ
بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ إلَيْهِ حَرُمَ الِاصْطِيَادُ مِنْهُ أَوْ غَيْرَ مَحْصُورٍ
لَمْ يَحْرُمْ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَلَوْ أَرْسَلَ جَمْعٌ
كِلَابَهُمْ عَلَى صَيْدٍ فَأَدْرَكُوا صَيْدًا قَتِيلًا وَقَالَ كُلٌّ كَلْبِي
قَتَلَهُ حَلَّ الصَّيْدُ ، ثُمَّ إنْ وُجِدَتْ الْكِلَابُ مُمْسِكَةً لَهُ فَهُوَ
بَيْنَ أَرْبَابِهَا أَوْ بَعْضِهَا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ أَوْ غَيْرَ مُمْسِكَةٍ أَقْرَعَ
بَيْنَهُمْ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ وَوَقَفَ لِلصُّلْحِ عِنْدَ غَيْرِهِ ، فَإِنْ
خِيفَ فَسَادُهُ بِيعَ وَوُقِفَ ثَمَنُهُ إلَى إصْلَاحِهِمْ .
الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
: التَّسْمِيَةُ بِمَلَكِ الْأَمْلَاكِ ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ رَجُلٌ
يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ ، لَا مَالِكَ إلَّا اللَّهُ } .
وَالشَّيْخَانِ : { إنَّ أَخْنَعَ - اسْمٌ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ -
رَجُلٌ يُسَمَّى مَلِكَ الْأَمْلَاكِ }
، زَادَ فِي
رِوَايَةٍ { لَا مَالِكَ إلَّا اللَّهُ
} .
قَالَ سُفْيَانُ : مِثْلُ شَاهِينَ شَاهٍ .
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : سَأَلْت أَبَا عَمْرٍو
عَنْ أَخْنَعَ فَقَالَ أَوْضَعَ
.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ : أَخْنَعُ أَبْشَعُ
أَوْ أَقْبَحُ أَوْ أَكْرَهُ .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ مَا ذُكِرَ هُوَ صَرِيحُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ
وَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ ، ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ
صَرَّحَ بِهِ .
قَالَ أَئِمَّتُنَا : وَتَحْرُمُ التَّسْمِيَةُ بِكُلٍّ
مِنْ مَلِكِ الْأَمْلَاكِ ، وَشَاهِينَ شَاهٍ إذْ هُوَ بِمَعْنَاهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ
لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ غَيْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَلْحَقَ بِذَلِكَ بَعْضُ
أَئِمَّتِنَا حَاكِمَ الْحُكَّامِ وَقَاضِي الْقُضَاةِ .
وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ بَيَّنْته فِي مَبْحَثِ الطَّوَافِ
وَالسَّعْيِ مِنْ حَاشِيَةِ مَنَاسِكِ النَّوَوِيِّ الْكُبْرَى .
الْكَبِيرَةُ السَّبْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : أَكْلُ
الْمُسْكِرِ الطَّاهِرِ كَالْحَشِيشَةِ وَالْأَفْيُونِ وَالشَّيْكَرَانِ بِفَتْحِ
الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْبَنْجُ وَكَالْعَنْبَرِ وَالزَّعْفَرَانِ وَجَوْزَةِ
الطِّيبِ ) فَهَذِهِ كُلُّهَا مُسْكِرَةٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي
بَعْضِهَا وَغَيْرُهُ فِي بَاقِيهَا ، وَمُرَادُهُمْ بِالْإِسْكَارِ هُنَا
تَغْطِيَةُ الْعَقْلِ لَا مَعَ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ لِأَنَّهَا مِنْ
خُصُوصِيَّاتِ الْمُسْكِرِ الْمَائِعِ ، وَسَيَأْتِي بَحْثُهُ فِي بَابِ
الْأَشْرِبَةِ ، وَبِمَا قَرَّرْته فِي مَعْنَى الْإِسْكَارِ فِي هَذِهِ
الْمَذْكُورَاتِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يُنَافِي أَنَّهَا تُسَمَّى مُخَدِّرَةً ،
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مُسْكِرَةٌ أَوْ مُخَدِّرَةٌ
فَاسْتِعْمَالُهَا كَبِيرَةٌ وَفِسْقٌ كَالْخَمْرِ ، فَكُلُّ مَا جَاءَ فِي
وَعِيدِ شَارِبِهَا يَأْتِي فِي مُسْتَعْمِلِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ
لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي إزَالَةِ الْعَقْلِ الْمَقْصُودِ لِلشَّارِعِ بَقَاؤُهُ ،
لِأَنَّهُ الْآلَةُ لِلْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ وَالْمُتَمَيِّزُ
بِهِ الْإِنْسَانُ عَنْ الْحَيَوَانِ وَالْوَسِيلَةُ إلَى إيثَارِ الْكَمَالَاتِ
عَنْ النَّقَائِصِ ، فَكَانَ فِي تَعَاطِي مَا يُزِيلُهُ وَعِيدُ الْخَمْرِ
الْآتِي فِي بَابهَا ، وَقَدْ أَلَّفْت كِتَابًا سَمَّيْته [ تَحْذِيرُ الثِّقَاتِ
عَنْ اسْتِعْمَالِ الْكُفْتَةِ وَالْقَاتِّ ] لَمَّا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْيَمَنِ
فِيهِ ، وَأَرْسَلُوا إلَيَّ ثَلَاثَ مُصَنَّفَاتٍ اثْنَانِ فِي تَحْرِيمِهِ
وَوَاحِدٌ فِي حِلِّهِ وَطَلَبُوا مِنِّي إبَانَةَ الْحَقِّ فِيهِمَا ، فَأَلَّفْت
ذَلِكَ الْكِتَابَ فِي التَّحْذِيرِ عَنْهُمَا وَإِنْ لَمْ أَجْزِمْ بِحُرْمَتِهِمَا
، وَاسْتَطْرَدْت فِيهِ إلَى ذِكْرِ بَقِيَّةِ الْمُسْكِرَاتِ وَالْمُخَدِّرَاتِ
الْجَامِدَةِ وَبَسَطْت فِي ذَلِكَ بَعْضَ الْبَسْطِ .
وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ خُلَاصَةِ ذَلِكَ هُنَا فَنَقُولُ
: الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ
وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ } .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : الْمُفْتِرُ
كُلُّ مَا يُورِثُ الْفُتُورَ وَالْخَدَرَ فِي
الْأَطْرَافِ ، وَهَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ كُلُّهَا تُسْكِرُ وَتُخَدِّرُ
وَتُفْتِرُ .
وَحَكَى الْقَرَافِيُّ وَابْنُ تَيْمِيَّةَ الْإِجْمَاعَ
عَلَى تَحْرِيمِ الْحَشِيشَةِ ، قَالَ : وَمَنْ اسْتَحَلَّهَا فَقَدْ كَفَرَ .
قَالَ
: وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهَا الْأَئِمَّةُ
الْأَرْبَعَةُ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِمْ ، وَإِنَّمَا ظَهَرَتْ فِي
آخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ وَأَوَّلِ الْمِائَةِ السَّابِعَةِ حِينَ ظَهَرَتْ
دَوْلَةُ التَّتَارِ .
وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ قَوْلًا أَنَّ النَّبَاتَ الَّذِي
فِيهِ شِدَّةٌ مُطْرِبَةٌ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ ، ثُمَّ مَا ذَكَرْته فِي
الْجَوْزَةِ هُوَ مَا أَفْتَيْت بِهِ فِيهَا قَدِيمًا لَمَّا وَقَعَ فِيهَا
نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَمِصْرَ وَظَفِرْت فِيهَا مِنْ النَّقْلِ
بَعْدَ الْفَحْصِ وَالتَّنْقِيرِ بِمَا لَمْ يَظْفَرُوا بِهِ .
وَلِذَا سُئِلَ عَنْهَا جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ فَأَبْدَوْا
فِيهَا آرَاءً مُتَخَالِفَةً بَحْثًا مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ ، فَلَمَّا عُرِضَ
عَلَيَّ السُّؤَالُ أَجَبْت فِيهَا بِالنَّقْلِ الصَّرِيحِ وَالدَّلِيلِ
الصَّحِيحِ رَادًّا عَلَى مَنْ خَالَفَ مَا ذَكَرْته وَإِنْ جَلَّتْ مَرْتَبَتُهُ .
وَمُحَصِّلُ السُّؤَالِ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ
أَوْ مُقَلَّدَيْهِمْ بِتَحْرِيمِ أَكْلِ جَوْزَةِ الطِّيبِ ، وَهَلْ لِبَعْضِ
طَلَبَةِ الْعِلْمِ الْآنَ الْإِفْتَاءُ بِتَحْرِيمِ أَكْلِهَا وَإِنْ لَمْ
يَطَّلِعْ عَلَى نَقْلٍ بِهِ ، فَإِنْ قُلْتُمْ نَعَمْ فَهَلْ يَجِبُ
الِانْقِيَادُ لِفَتْوَاهُ ؟ وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ الَّذِي أَجَبْت بِهِ عَنْ
ذَلِكَ السُّؤَالِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ الْمُجْتَهِدُ شَيْخُ
الْإِسْلَامِ ابْنُ دَقِيقٍ الْعِيدُ أَنَّهَا أَعْنِي الْجَوْزَةَ مُسْكِرَةٌ ،
وَنَقَلَهُ عَنْهُ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَاعْتَمَدُوهُ ، وَنَاهِيَك بِذَلِكَ ، بَلْ بَالَغَ ابْنُ الْعِمَادِ فَجَعَلَ الْحَشِيشَةَ
مَقِيسَةً عَلَى الْجَوْزَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا حَكَى عَنْ الْقَرَافِيِّ
نَقْلًا عَنْ بَعْضِ فُقَهَاءِ عَصْرِهِ أَنَّهُ فَرَّقَ فِي إسْكَارِ الْحَشِيشَةِ
بَيْنَ كَوْنِهَا وَرَقًا أَخْضَرَ فَلَا
إسْكَارَ فِيهَا بِخِلَافِهَا بَعْدَ التَّحْمِيصِ
فَإِنَّهَا تُسْكِرُ ، قَالَ وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ لِأَنَّهَا
مُلْحَقَةٌ بِجَوْزَةِ الطِّيبِ وَالزَّعْفَرَانِ وَالْعَنْبَرِ وَالْأَفْيُونِ
وَالْبَنْجِ وَهُوَ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ الْمُخَدِّرَاتِ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ
الْقَسْطَلَّانِيِّ فِي تَكْرِيمِ الْمَعِيشَةِ انْتَهَى .
فَتَأَمَّلْ تَعْبِيرَهُ بِالصَّوَابِ ، وَجَعْلُهُ
الْحَشِيشَةَ الَّتِي أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهَا مَقِيسَةً عَلَى
الْجَوْزَةِ تُعْلِمُ أَنَّهُ لَا مِرْيَةَ فِي تَحْرِيمِ الْجَوْزَةِ
لِإِسْكَارِهَا أَوْ تَخْدِيرِهَا
.
وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى
إسْكَارِهَا الْحَنَابِلَةَ ، فَنَصَّ إمَامُ مُتَأَخِّرَيْهِمْ ابْنُ تَيْمِيَّةَ
وَتَبِعُوهُ عَلَى أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ بَعْضِ أَئِمَّةِ
الْحَنَفِيَّةِ .
فَفِي فَتَاوَى الْمَرْغِينَانِيِّ مِنْهُمْ : الْمُسْكِرُ
مِنْ الْبَنْجِ وَلَبَنِ الرِّمَاكِ - أَيْ أَنَاثَى الْخَيْلِ - حَرَامٌ وَلَا
يُحَدُّ شَارِبُهُ قَالَهُ الْفَقِيهُ أَبُو حَفْصٍ ، وَنَصَّ عَلَيْهِ شَمْسُ
الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ انْتَهَى
.
وَقَدْ عَلِمْت مِنْ كَلَامِ ابْنِ دَقِيقٍ الْعِيدِ
وَغَيْرِهِ أَنَّ الْجَوْزَةَ كَالْبَنْجِ ، فَإِذَا قَالَ الْحَنَفِيَّةُ
بِإِسْكَارِهِ لَزِمَهُمْ الْقَوْلُ بِإِسْكَارِ الْجَوْزَةِ ، فَثَبَتَ بِمَا
تَقَرَّرَ أَنَّهَا حَرَامٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ
وَالْحَنَابِلَةِ بِالنَّصِّ ، وَالْحَنَفِيَّةِ بِالِاقْتِضَاءِ لِأَنَّهَا إمَّا
مُسْكِرَةٌ أَوْ مُخَدِّرَةٌ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الْحَشِيشَةِ الْمَقِيسَةِ عَلَى
الْجَوْزَةِ عَلَى مَا مَرَّ .
وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي
كِتَابِهِ [ التَّذْكِرَةُ ] وَالنَّوَوِيُّ فِي [ شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ] وَابْنُ دَقِيقٍ
الْعِيدُ أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ .
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ : وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ عِنْدَنَا
، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي حَدِّهِمْ السَّكْرَانَ بِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَلَّ
كَلَامُهُ الْمَنْظُومُ وَانْكَشَفَ سِرُّهُ الْمَكْتُومُ أَوْ الَّذِي لَا
يَعْرِفُ السَّمَاءَ مِنْ الْأَرْضِ وَلَا الطُّولَ مِنْ الْعَرْضِ ، ثُمَّ نُقِلَ
عَنْ
الْقَرَافِيِّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ فَنَفَى
عَنْهَا الْإِسْكَارَ وَأَثْبَتَ لَهَا الْإِفْسَادَ ثُمَّ رُدَّ عَلَيْهِ
وَأَطَالَ فِي تَخْطِئَتِهِ وَتَغْلِيطِهِ .
وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى إسْكَارِهَا أَيْضًا الْعُلَمَاءُ
بِالنَّبَاتِ مِنْ الْأَطِبَّاءِ وَإِلَيْهِمْ الْمُرَجِّعُ فِي ذَلِكَ ،
وَكَذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَتَبِعَهُ مَنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ مُتَأَخِّرِي
مَذْهَبِهِ .
وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ خِلَافُ الْإِطْلَاقَيْنِ
إطْلَاقِ الْإِسْكَارِ وَإِطْلَاقِ الْإِفْسَادِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِسْكَارَ
يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مُطْلَقُ تَغْطِيَةِ الْعَقْلِ ، وَهَذَا إطْلَاقٌ
أَعَمُّ وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ تَغْطِيَةُ الْعَقْلِ مَعَ نَشْوَةٍ وَطَرَبٍ ،
وَهَذَا إطْلَاقٌ أَخَصُّ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ الْإِسْكَارِ حَيْثُ أُطْلِقَ .
فَعَلَى الْإِطْلَاقِ الْأَوَّلِ بَيْنَ الْمُسْكِرِ
وَالْمُخَدِّرِ عُمُومٌ مُطْلَقٌ إذْ كُلُّ مُخَدِّرٍ مُسْكِرٌ وَلَيْسَ كُلُّ
مُسْكِرٍ مُخَدِّرًا ؛ فَإِطْلَاقُ الْإِسْكَارِ عَلَى الْحَشِيشَةِ وَالْجَوْزَةِ
وَنَحْوِهِمَا الْمُرَادُ مِنْهُ التَّحْذِيرُ ، وَمَنْ نَفَاهُ عَنْ ذَلِكَ
أَرَادَ بِهِ مَعْنَاهُ الْأَخَصَّ
.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ مِنْ شَأْنِ السُّكْرِ بِنَحْوِ
الْخَمْرِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ النَّشْوَةُ وَالنَّشَاطُ وَالطَّرَبُ
وَالْعَرْبَدَةُ وَالْحَمِيَّةُ ، وَمِنْ شَأْنِ السُّكْرِ بِنَحْوِ الْحَشِيشَةِ
وَالْجَوْزَةِ أَنَّهُ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ أَضْدَادُ ذَلِكَ مِنْ تَخْدِيرِ
الْبَدَنِ وَفُتُورِهِ وَمِنْ طُولِ السُّكُوتِ وَالنَّوْمِ وَعَدَمِ الْحَمِيَّةِ
وَبِقَوْلِي مِنْ شَأْنِهِ فِيهِمَا يُعْلَمُ رَدُّ مَا أَوْرَدَهُ الزَّرْكَشِيُّ
عَلَى الْقَرَافِيِّ مِنْ أَنَّ بَعْضَ شَرَبَةِ الْخَمْرِ يُوجَدُ فِيهِ مَا
ذُكِرَ فِي نَحْوِ الْحَشِيشَةِ وَبَعْضَ أَكْلِهِ نَحْوَ الْحَشِيشَةِ يُوجَدُ
فِيهِ مَا ذُكِرَ فِي الْخَمْرِ
.
وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ مَا نِيطَ بِالْمَظِنَّةِ لَا
يُؤْثِرُ فِيهِ خُرُوجُ بَعْضِ الْأَفْرَادِ ، كَمَا أَنَّ الْقَصْرَ فِي
السَّفَرِ لَمَّا نِيطَ بِمَظِنَّةِ الْمَشَقَّةِ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ
الْمَشَقَّةُ فِي كَثِيرٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِهِ ، فَاتَّضَحَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا
خِلَافَ بَيْنَ مَنْ عَبَّرَ فِي نَحْوِ
الْحَشِيشَةِ بِالْإِسْكَارِ وَمَنْ عَبَّرَ
بِالتَّخْدِيرِ وَالْإِفْسَادِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ إفْسَادٌ خَاصٍّ هُوَ مَا
سَبَقَ .
فَانْدَفَعَ بِهِ قَوْلُ الزَّرْكَشِيّ إنَّ
التَّعْبِيرَ بِهِ يَشْمَلُ الْجُنُونَ وَالْإِغْمَاءَ لِأَنَّهُمَا مُفْسِدَانِ
لِلْعَقْلِ أَيْضًا ، فَظَهَرَ بِمَا تَقَرَّرَ صِحَّةُ قَوْلِ الْفَقِيهِ
الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ إنَّهَا مُخَدِّرَةٌ وَبُطْلَانُ قَوْلِ مَنْ
نَازَعَهُ فِي ذَلِكَ لَكِنْ إنْ كَانَ لِجَهْلِهِ عُذِرَ .
وَبَعْدَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ
الْعُلَمَاءِ مَتَى زَعَمَ حِلَّهَا أَوْ عَدَمَ تَخْدِيرِهَا وَإِسْكَارِهَا
يُعَزَّرُ التَّعْزِيرَ الْبَلِيغَ الزَّاجِرَ لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ ، بَلْ قَالَ
ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَأَقَرَّهُ أَهْلُ مَذْهَبِهِ مَنْ زَعَمَ حِلَّ الْحَشِيشَةِ
كَفَرَ .
فَلْيَحْذَرْ الْإِنْسَانُ مِنْ الْوُقُوعِ فِي هَذِهِ
الْوَرْطَةِ عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الْمَذْهَبِ الْمُعَظَّمِ .
وَعَجِيبٌ مِمَّنْ خَاطَرَ بِاسْتِعْمَالِ الْجَوْزَةِ
مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ وَالْإِثْمِ لِأَغْرَاضِهِ
الْفَاسِدَةِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَغْرَاضَ تَحْصُلُ جَمِيعُهَا بِغَيْرِهَا .
فَقَدْ صَرَّحَ رَئِيسُ الْأَطِبَّاءِ ابْنُ سِينَا فِي
قَانُونِهِ بِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَهَا وَزْنُهَا وَنِصْفُ وَزْنِهَا مِنْ
السُّنْبُلِ ، فَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ مِنْهَا قَدْرًا مَا ثُمَّ اسْتَعْمَلَ
وَزْنَهُ وَنِصْفَ وَزْنِهِ مِنْ السُّنْبُلِ حَصَلَتْ لَهُ جَمِيعُ أَغْرَاضِهِ
مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ الْإِثْمِ وَالتَّعَرُّضِ لِعِقَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
، عَلَى أَنَّ فِيهَا بَعْضَ مَضَارَّ بِالرِّئَةِ ذَكَرَهَا بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ
وَقَدْ خَلَا السُّنْبُلُ عَنْ تِلْكَ الْمَضَارِّ فَقَدْ حَصَلَ بِهِ
مَقْصُودُهَا وَزَادَ عَلَيْهِ بِالسَّلَامَةِ مِنْ مَضَارِّهَا الدُّنْيَوِيَّةِ
وَالْأُخْرَوِيَّةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ،
انْتَهَى جَوَابِي فِي الْجَوْزَةِ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى النَّفَائِسِ .
وَفِي بَعْضِ شُرُوحِ الْحَاوِي الصَّغِيرِ أَنَّ
الْحَشِيشَةَ نَجِسَةٌ إنْ ثَبَتَ أَنَّهَا مُسْكِرَةٌ وَغَلَطٌ .
وَفِي كِتَابِ [ السِّيَاسَةِ ] لِابْنِ تَيْمِيَّةَ
أَنَّ الْحَدَّ
وَاجِبٌ فِي الْحَشِيشَةِ كَالْخَمْرِ ، قَالَ لَكِنْ
لَمَّا كَانَتْ جَمَادًا وَلَيْسَتْ شَرَابًا تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي
نَجَاسَتِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ :
فَقِيلَ نَجِسَةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى .
وَيَحْرُمُ إطْعَامُ الْحَشِيشَةِ الْحَيَوَانَ أَيْضًا
لِأَنَّ إسْكَارَهُ حَرَامٌ أَيْضًا
.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى
مُتْلِفِهَا كَالْخَمْرِ ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْقُطْبِ
الْعَسْقَلَانِيُّ أَنَّهَا حَارَّةٌ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ يَابِسَةٌ فِي
الْأُولَى تُصَدِّعُ الرَّأْسَ ، وَتُظْلِمُ الْبَصَرَ ، وَتَعْقِدُ الْبَطْنَ ، وَتُجَفِّفُ
الْمَنِيَّ .
فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ ذِي عَقْلٍ سَلِيمٍ وَطَبْعٍ
مُسْتَقِيمٍ اجْتِنَابُهَا كَغَيْرِهَا مِمَّا سَبَقَ لِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ
مِنْ الْمَضَارِّ الَّتِي هِيَ مَبْدَأُ مَدَاعِي الْهَلَاكِ ، وَرُبَّمَا نَشَأَ
مِنْ تَجْفِيفِ الْمَنِيِّ وَصُدَاعِ الرَّأْسِ وَغَيْرِهِمَا أَعْظَمُ
الْمَفَاسِدِ وَالْمَضَارِّ .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ابْنُ الْبَيْطَارِ وَإِلَيْهِ
انْتَهَتْ رِئَاسَةُ زَمَنِهِ فِي مَعْرِفَةِ النَّبَاتِ وَالْأَعْشَابِ فِي كِتَابِهِ
الْجَامِعِ لِقَوِيِّ الْأَدْوِيَةِ وَالْأَغْذِيَةِ : وَمِنْ الْقُنَّبِ
الْهِنْدِيِّ نَوْعٌ ثَالِثٌ يُقَالُ لَهُ الْقُنَّبُ وَلَمْ أَرَهُ بِغَيْرِ
مِصْرَ ، وَيُزْرَعُ فِي الْبَسَاتِينِ وَيُسَمَّى بِالْحَشِيشَةِ أَيْضًا وَهُوَ يُسْكِرُ
جِدًّا إذَا تَنَاوَلَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ يَسِيرًا قَدْرَ دِرْهَمٍ أَوْ
دِرْهَمَيْنِ حَتَّى إنَّ مَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَخْرَجَهُ إلَى حَدِّ
الرُّعُونَةِ ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ قَوْمٌ فَاخْتَلَتْ عُقُولُهُمْ وَأَدَّى
بِهِمْ الْحَالُ إلَى الْجُنُونِ وَرُبَّمَا قَتَلَتْ .
قَالَ الْقُطْبُ : وَقَدْ نُقِلَ لَنَا أَنَّ
الْبَهَائِمَ لَا تَتَنَاوَلُهَا ، فَمَا قَدْرُ مَأْكُولٍ تَنْفِرُ الْبَهَائِمُ
عَنْ تَنَاوُلِهِ وَهِيَ كَغَيْرِهَا مِمَّا سَبَقَ أَيْضًا مِمَّا يُحِيلُ الْأَبْدَانَ
وَيَمْسَخُهَا وَيُحَلِّلُ قَوَّاهَا وَيُحَرِّقُ دِمَاءَهَا وَيُجَفِّفُ
رُطُوبَتَهَا وَيُصَفِّرُ اللَّوْنَ
.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا إمَامُ وَقْتِهِ فِي
الطِّبِّ : وَتُوَلِّدُ أَفْكَارًا كَثِيرَةً
رَدِيئَةً وَتُجَفِّفُ الْمَنِيَّ لِقِلَّةِ
الرُّطُوبَةِ فِي الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ ، أَيْ وَإِذَا قَلَّتْ رُطُوبَةُ
تِلْكَ الْأَعْضَاءِ الرَّئِيسِيَّةِ كَانَتْ سَبَبًا لِحُدُوثِ أَخْطَرِ
الْأَمْرَاضِ وَأَقْبَحِ الْعِلَلِ ، وَمِمَّا أُنْشِدَ فِيهَا : قُلْ لِمَنْ
يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ جَهْلًا يَا خَسِيسًا قَدْ عِشْت شَرَّ مَعِيشَةٍ دِيَةُ الْعَقْلِ
بِدُرَّةٍ فَلِمَاذَا يَا سَفِيهًا قَدْ بِعْتَهُ بِحَشِيشِهِ قَالَ : وَقَدْ
بَلَغَنَا مَنْ جَمْعٍ يَفُوقُ حَدَّ الْحَصْرِ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ عَانَاهَا
مَاتَ بِهَا فَجْأَةً وَآخَرِينَ اخْتَلَتْ عُقُولُهُمْ وَابْتُلُوا بِأَمْرَاضٍ
مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ الدَّقِّ وَالسُّلِّ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَأَنَّهَا تَسْتُرُ
الْعَقْلَ وَتَغْمُرُهُ ، وَمِمَّا أُنْشِدَ فِيهَا أَيْضًا : يَا مَنْ غَدَا
أَكْلُ الْحَشِيشِ شِعَارَهُ وَغَدَا فَلَاحَ عَوَارُهُ وَخِمَارُهُ أَعْرَضْت
عَنْ سُنَنِ الْهُدَى بِزَخَارِفَ لَمَّا اعْتَرَضْت لِمَا أُشِيعَ ضِرَارُهُ
الْعَقْلُ يَنْهَى أَنْ تَمِيلَ إلَى الْهَوَى وَالشَّرْعُ يَأْمُرُ أَنْ
تُبَعَّدَ دَارُهُ فَمَنْ ارْتَدَى بِرِدَاءِ زَهْرَةِ شَهْوَةٍ فِيهَا بَدَا لِلنَّاظِرِينَ
خَسَارُهُ اُقْصُرْ وَتُبْ عَنْ شُرْبِهَا مُتَعَوِّذًا مِنْ شَرِّهَا فَهُوَ
الطَّوِيلُ عِثَارُهُ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَفِي أَكْلِهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ
مَضَرَّةً دِينِيَّةً وَدُنْيَوِيَّةً : مِنْهَا أَنَّهَا تُورِثُ الْفِكْرَةَ
الرَّدِيئَةَ ، وَتُجَفِّفُ الرُّطُوبَاتِ الْغَرِيزِيَّةِ وَتُعَرِّضُ الْبَدَنَ لِحُدُوثِ
الْأَمْرَاضِ ، وَتُورِثُ النِّسْيَانَ ، وَتُصَدِّعُ الرَّأْسَ وَتَقْطَعُ
النَّسْلَ ، وَتُجَفِّفُ الْمَنِيَّ ، وَتُورِثُ مَوْتَ الْفَجْأَةِ وَاخْتِلَالَ
الْعَقْلِ وَفَسَادَهُ ، وَالدَّقَّ ، وَالسُّلَّ وَالِاسْتِسْقَاءَ ، وَفَسَادَ
الْفِكْرِ ، وَنِسْيَانَ الذِّكْرِ ، وَإِفْشَاءَ السِّرِّ ، وَإِنْشَاءَ الشَّرِّ
، وَذَهَابَ الْحَيَاءِ ، وَكَثْرَةَ الْمِرَاءِ ، وَعَدَمَ الْمُرُوءَةِ وَنَقْضَ
الْمَوَدَّةِ ، وَكَشْفَ الْعَوْرَةِ ، وَعَدَمَ الْغَيْرَةِ ، وَإِتْلَافَ
الْكِيسِ ، وَمُجَالَسَةَ إبْلِيسَ ، وَتَرْكَ الصَّلَوَاتِ ، وَالْوُقُوعَ فِي الْمُحَرَّمَاتِ
، وَالْبَرَصَ ، وَالْجُذَامَ ، وَتَوَالِيَ الْأَسْقَامِ ،
وَالرَّعْشَةَ عَلَى الدَّوَامِ ، وَثَقْبَ الْكَبِدِ ،
وَاحْتِرَاقَ الدَّمِ وَالْبَخَرَ ، وَنَتْنَ الْفَمِ ، وَفَسَادَ الْأَسْنَانِ ،
وَسُقُوطَ شَعْرِ الْأَجْفَانِ ، وَصُفْرَةَ الْأَسْنَانِ ، وَعِشَاءَ الْعَيْنِ وَالْفَشَلَ
وَكَثْرَةَ النَّوْمِ وَالْكَسَلَ ، وَتَجْعَلُ الْأَسَدَ كَالْعِجْلِ ، وَتُعِيدُ
الْعَزِيزَ ذَلِيلًا وَالصَّحِيحَ عَلِيلًا وَالشُّجَاعَ جَبَانًا وَالْكَرِيمَ
مُهَانًا ، إنْ أَكَلَ لَا يَشْبَعُ وَإِنْ أُعْطِيَ لَا يَقْنَعُ ، وَإِنْ
كُلِّمَ لَا يَسْمَعُ ، تَجْعَلُ الْفَصِيحَ أَبْكَمَ وَالذَّكِيَّ أَبْلَمَ ،
وَتُذْهِبُ الْفَطِنَةَ ، وَتُحْدِثُ الْبِطْنَةَ ، وَتُورِثُ الْعُنَّةَ وَاللَّعْنَةَ
وَالْبُعْدَ عَنْ الْجَنَّةِ .
وَمِنْ قَبَائِحِهَا أَنَّهَا تُنْسِي الشَّهَادَتَيْنِ
عِنْدَ الْمَوْتِ ، بَلْ قِيلَ إنَّ هَذَا أَدْنَى قَبَائِحِهَا .
وَهَذِهِ الْقَبَائِحُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي
الْأَفْيُونِ وَغَيْرِهِ مِمَّا سَبَقَ ، بَلْ يَزِيدُ الْأَفْيُونُ وَنَحْوُهُ
بِأَنَّ فِيهِ مَسْخًا لِلْخِلْقَةِ كَمَا يُشَاهَدُ مِنْ أَحْوَالِ آكِلِيهِ
وَعَجِيبٌ ثُمَّ عَجِيبٌ مِمَّنْ يُشَاهِدُ مِنْ أَحْوَالِ آكِلِيهِ تِلْكَ
الْقَبَائِحَ الَّتِي هِيَ مَسْخُ الْبَدَنِ وَالْعَقْلِ وَصَيْرُورَتُهُمْ إلَى أَخَسِّ
حَالَةٍ وَأَرَثِّ هَيْئَةٍ وَأَقْذَرِ وَصْفٍ .
وَأَفْظَعِ مُصَابٍ لَا يَتَأَهَّلُونَ لِخِطَابٍ وَلَا
يَمِيلُونَ قَطُّ إلَى صَوَابٍ وَلَا يَهْتَدُونَ إلَّا إلَى خَوَارِمِ الْمُرُوآت
وَهُوَ أَذَمُّ الْكَمَالَاتِ وَفَوَاحِشُ الضَّلَالَاتِ ، ثُمَّ مَعَ هَذِهِ
الْعَظَائِمِ الَّتِي نُشَاهِدُهَا مِنْهُمْ يُحِبُّ الْجَاهِلُ أَنْ يَنْدَرِجَ
فِي زُمْرَتِهِمْ الْخَاسِرَةِ وَفُرْقَتِهِمْ الضَّالَّةِ الْحَائِرَةِ مُتَعَامِيًا
عَمَّا عَلَى وُجُوهِهِمْ مِنْ الْغَبَرَةِ وَمَا يَعْتَرِيهَا مِنْ الْقَتَرَةِ
ذَلِكَ يُخْشَى عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَفَرَةِ الْفَجَرَةِ ، فَمَنْ
اتَّضَحَتْ لَهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْمَثَالِبُ وَبَانَ عِنْدَهُ مَا اشْتَمَلُوا
عَلَيْهِ مِنْ كَثِيرِ الْمَعَايِبِ ثُمَّ نَحَا نَحْوَهُمْ وَحَذَا حَذْوَهُمْ
فَهُوَ الْمَفْتُونُ الْمَغْبُونُ الَّذِي بَلَغَ الشَّيْطَانُ فِيهِ غَايَةَ أَمَلَّهُ
بَعْدَ أَنْ كَانَ يَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ، لِأَنَّهُ
لَعَنَهُ اللَّهُ إذَا أَحَلَّ عَبْدًا فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ
لَعِبَ بِهِ كَمَا يَلْعَبُ الصَّبِيُّ بِالْكُرَةِ إذْ مَا يُرِيدُ مِنْهُ
حِينَئِذٍ شَيْئًا إلَّا وَسَابَقَهُ إلَى فِعْلِهِ لِأَنَّ الْعَقْلَ الَّذِي
هُوَ آلَةُ الْكَمَالِ زَالَ عَنْ مَحَلِّهِ فَصَارَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُوَ
أَضَلُّ سَبِيلًا وَمِنْ أَهْلِ النِّيرَانِ ، فَبِئْسَ مَا رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ
مَبِيتًا وَمَقِيلًا وَأُفٍّ لِمَنْ بَاعَ نَعِيمَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
بِتِلْكَ الصَّفْقَةِ الْخَاسِرَةِ ، وَفَّقْنَا اللَّهُ لِطَاعَتِهِ وَحَمَانَا
مِنْ مُخَالَفَتِهِ آمِينَ .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ مَا ذُكِرَ مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ وَبِهِ
صَرَّحَ أَبُو زُرْعَةَ وَغَيْرُهُ كَالْخَمْرِ ، بَلْ بَالَغَ الذَّهَبِيُّ
فَجَعَلَهَا كَالْخَمْرِ فِي النَّجَاسَةِ وَالْحَدِّ وَمَالَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا
قَدَّمْته عَنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ .
قَالَ : وَهِيَ أَخْبَثُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْسِدُ
الْعَقْلَ وَالْمِزَاجَ حَتَّى يَصِيرَ فِي مُتَعَاطِيهَا تَخْنِيثُ أَيْ ابْنَةٍ
وَنَحْوِهَا وَدِيَاثَةٍ وَقِوَادَةٍ وَفَسَادٍ فِي الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ ، وَالْخَمْرُ أَخْبَثُ مِنْ جِهَةٍ أَنَّهَا
تُفْضِي إلَى الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ كِلَاهُمَا يَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ .
قَالَ : وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ
عَلَى الْحَدِّ فِيهَا وَرَأَى أَنَّ فِيهَا التَّعْزِيرَ لِأَنَّهَا تُغَيِّرُ
الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ طَرَبٍ كَالْبَنْجِ وَأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لِلْعُلَمَاءِ
الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ آكِلُوهَا يَحْصُلُ
لَهُمْ نَشْوَةٌ وَاشْتِهَاءٌ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَأَكْثَرُ حَتَّى إنَّهُمْ لَا يَصْبِرُونَ
عَنْهَا وَتَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ، وَلِكَوْنِهَا
جَامِدَةً مَطْعُومَةً تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ
أَقْوَالٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ .
فَقِيلَ :
هِيَ نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ الْمَشْرُوبَةِ وَهَذَا هُوَ
الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ ، وَقِيلَ : لَا لِجُمُودِهَا ، وَقِيلَ : يُفَرَّقُ
بَيْنَ جَامِدِهَا وَمَائِعِهَا ، وَبِكُلِّ حَالٍ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيمَا حَرَّمَ
اللَّهُ
وَرَسُولُهُ مِنْ الْخَمْرِ الْمُسْكِرِ لَفْظًا وَمَعْنًى
، وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَفْتِنَا فِي شَرَابَيْنِ كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ الْبِتْعُ
وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ وَالْمِزْرُ وَهُوَ
الذُّرَةُ وَالشَّعِيرُ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ
بِخَوَاتِيمِهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مُسْكِرٍ
حَرَامٌ } .
{ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا
أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ } ، وَلَمْ يُفَرِّقْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ كَكَوْنِهِ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا
، عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ تُؤْكَلُ بِالْخُبْزِ وَالْحَشِيشَةُ قَدْ تُذَابُ وَتُشْرَبُ
وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهَا السَّلَفُ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِمْ ،
وَقَدْ قِيلَ فِيهَا : فَآكِلُهَا وَزَاعِمُهَا حَلَالًا فَتِلْكَ عَلَى
الشَّقِيِّ مُصِيبَتَانِ فَوَاَللَّهِ مَا فَرِحَ إبْلِيسٌ بِمِثْلِ فَرَحِهِ
بِالْحَشِيشَةِ لِأَنَّهُ زَيَّنَهَا لِلْأَنْفُسِ الْخَسِيسَةِ فَاسْتَحَلُّوهَا
وَاسْتَرْخَصُوهَا وَقَالُوا فِيهَا : قُلْ لِمَنْ يَأْكُلُ الْحَشِيشَةَ عِشْت
فِي أَكْلِهَا بِأَقْبَحِ عِيشَهْ قِيمَةُ الْعَقْلِ بِدُرَّةٍ فَلِمَاذَا يَا
أَخَا الْجَهْلِ بِعْته بِحَشِيشَهْ هَذَا كَلَامُ الذَّهَبِيِّ ، وَمَا ذَكَرَهُ
مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْحَدِّ ضَعِيفٌ كَمَا مَرَّ .
( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ
وَالسَّبْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمَسْفُوحُ أَوْ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ أَوْ
الْمَيْتَةِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا فِي غَيْرِ مَخْمَصَةٍ ) قَالَ تَعَالَى : { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ
وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } وَقَالَ جَلَّ
ذِكْرُهُ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ
خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : اسْتَثْنَى اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ الْإِبَاحَةِ أَحَدَ عَشَرَ نَوْعًا : الْمَيْتَةُ ) :
وَتَحْرِيمُهَا مُوَافِقٌ لِلْعُقُولِ لِأَنَّ الدَّمَ جَوْهَرٌ لَطِيفٌ جِدًّا ،
فَإِذَا مَاتَ الْحَيَوَانُ حَتْفَ أَنْفِهِ احْتَبَسَ دَمُهُ فِي عُرُوقِهِ
وَتَعَفَّنَ وَفَسَدَ وَحَصَلَ مِنْ أَكْلِهِ مَا لَا يَنْبَغِي ، وَيُسْتَثْنَى
مِنْهَا السَّمَكُ وَالْجَرَادُ لِحَدِيثَيْنِ صَحِيحَيْنِ بِهِمَا ، وَصَحَّ فِي
الْحَدِيثِ أَيْضًا { إنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ } .
فَإِذَا خَرَجَ جَنِينُ مُذَكَّاةٍ مَيِّتًا أَوْ بِهِ
حَيَاةٌ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ حَلَّ تَبَعًا لَهَا وَإِنْ كَبِرَ وَكَانَ لَهُ
شَعْرٌ ، وَالْمُرَادُ بِهَا مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ لَا بِذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ ،
فَدَخَلَ فِيهَا الْأَنْوَاعُ الْآتِيَةُ وَخَرَجَ مِنْهَا الْجَنِينُ
الْمَذْكُورُ وَالصَّيْدُ إذَا مَاتَ بِالضَّغْطَةِ أَوْ ثِقَلٍ نَحْوِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ
ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا زَالَتْ حَيَاتُهُ بِذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ فِيهِ إنْهَارُ دَمٍ .
( وَالدَّمُ ) : وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ نَجَاسَتُهُ
أَيْضًا وَكَانُوا يَمْلَئُونَ الْمِعَى أَوْ الْمَبَاعِرَ مِنْ الدَّمِ
وَيَشْوُونَهُ وَيُطْعِمُونَهُ الضَّيْفَ فَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ ،
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَنَجَاسَتِهِ ، نَعَمْ يُعْفَى عَمَّا
يَبْقَى فِي الْعُرُوقِ وَاللَّحْمِ عَلَى
أَنَّهُ خَرَجَ بِالْمَسْفُوحِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى
الْمُفِيدَةِ لِإِطْلَاقِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَيُسْتَثْنَى مِنْهُ الْكَبِدُ
وَالطِّحَالُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِهِمَا عَلَى أَنَّهُمَا خَرَجَا
بِالْمَسْفُوحِ أَيْضًا فَلَا اسْتِثْنَاءَ ، وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ
الْجُمْهُورِ أَنَّ الدَّمَ حَرَامٌ وَلَوْ غَيْرَ مَسْفُوحٍ .
وَرُدَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ بِحِلِّ غَيْرِ
الْمَسْفُوحِ وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ
.
( وَالْخِنْزِيرُ ) : وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ نَجَاسَتُهُ
أَيْضًا .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلِأَنَّ الْغِذَاءَ يَصِيرُ
جَوْهَرًا مِنْ بَدَنِ الْمُتَغَذِّي فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ لِلْمُتَغَذِّي
أَخْلَاقٌ وَصِفَاتٌ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ حَاصِلًا مِنْ الْغِذَاءِ ، وَالْخِنْزِيرُ
مَطْبُوعٌ عَلَى أَخْلَاقٍ ذَمِيمَةٍ جِدًّا مِنْهَا الْحِرْصُ الْفَاحِشُ
وَالرَّغْبَةُ الشَّدِيدَةُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ وَعَدَمُ الْغَيْرَةِ فَحُرِّمَ
أَكْلُهُ عَلَى الْإِنْسَانِ لِئَلَّا يَتَكَيَّفَ بِتِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ
الْقَبِيحَةِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا وَاظَبَ النَّصَارَى سِيَّمَا الْفِرِنْجُ
عَلَى أَكْلِهِ أَوْرَثَهُمْ حِرْصًا عَظِيمًا وَرَغْبَةً شَدِيدَةً فِي الْمَنْهِيَّاتِ
وَعَدَمَ الْغَيْرَةِ فَإِنَّهُ يَرَى الذَّكَرَ مِنْ جِنْسِهِ يَنْزُو عَلَى أُنْثَاهُ
وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُ لِعَدَمِ غَيْرَتِهِ بِخِلَافِ الْغَنَمِ وَنَحْوِهَا
فَإِنَّهَا ذَوَاتٌ عَارِيَّةٌ عَنْ جَمِيعِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ ،
فَلِذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ بِسَبَبِ أَكْلِهَا كَيْفِيَّةٌ خَارِجَةٌ
عَنْ أَغْرَاضِهِ وَأَحْوَالِهِ ، وَإِنَّمَا خُصَّ لَحْمُهُ بِالذِّكْرِ مَعَ
أَنَّ جَمِيعَهُ حَرَامٌ لِأَنَّ لَحْمَهُ هُوَ الْمَقْصُودُ الذَّاتِيُّ مِنْهُ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَلَا خِلَافَ أَنَّ جُمْلَةَ
الْخِنْزِيرِ مُحَرَّمَةٌ إلَّا شَعْرُهُ فَيَجُوزُ الْخَرَزُ بِهِ انْتَهَى ،
وَمَذْهَبُنَا جَوَازِ الْخَرَزِ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ نَقَلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ
تَحْرِيمَهُ ، وَخِنْزِيرُ الْمَاءِ مَأْكُولٌ عِنْدَنَا .
{ وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } : أَيْ ذُبِحَ
عَلَى اسْمِ الصَّنَمِ ، إذْ الْإِهْلَالُ رَفْعُ الصَّوْتِ وَمِنْهُ فُلَانٌ
أَهَلَّ بِالْحَجِّ إذَا لَبَّى وَاسْتَهَلَّ الصَّبِيُّ إذَا صَرَخَ حِينَ
وِلَادَتِهِ ، وَالْهِلَالُ لِأَنَّهُ يُصْرَخُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَكَانُوا
يَقُولُونَ عِنْدَ الذَّبْحِ بِاسْمِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى فَحُرِّمَ عَلَيْهِمْ .
فَمَعْنَى { وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ }
وَمَا ذُبِحَ لِلطَّوَاغِيتِ وَالْأَصْنَامِ قَالَهُ جَمْعٌ ، وَقَالَ آخَرُونَ :
يَعْنِي مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ .
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى
لِأَنَّهُ أَشَدُّ مُطَابَقَةً لِلَفْظِ الْآيَةِ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ لَوْ ذَبَحَ مُسْلِمٌ ذَبِيحَةً
وَقَصَدَ بِذَبْحِهَا التَّقَرُّبَ بِهَا إلَى غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ
مُرْتَدًّا وَذَبِيحَتُهُ ذَبِيحَةُ مُرْتَدٍّ ، نَعَمْ ذَبَائِحُ أَهْلِ
الْكِتَابِ تَحِلُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } نَعَمْ إنْ ذَبَحُوهَا بِاسْمِ الْمَسِيحِ لَمْ تَحِلَّ
عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَقَالَ جَمْعٌ تَحِلُّ مُطْلَقًا .
وَرُدَّ بِأَنَّ { وَمَا أُهِّلَ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
} خَاصٌّ فَيُقَدَّمُ عَلَى عُمُومِ { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ } وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ اسْتَفْتَى
فِي امْرَأَةٍ مُتْرَفَةٍ نَحَرَتْ جَزُورًا لِلَعِبِهَا فَأَفْتَى بِأَنَّهُ لَا
يَحِلُّ أَكْلُهَا لِأَنَّهَا ذُبِحَتْ لِصَنَمٍ .
( وَالْمُنْخَنِقَةُ ) : وَهِيَ الَّتِي تَمُوتُ خَنْقًا
بِأَنْ يُحْبَسَ نَفَسُهَا بِفِعْلِ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ إلَى أَنْ تَمُوتَ
وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ يَخْنُقُونَ الْحَيَوَانَ فَإِذَا مَاتَ أَكَلُوهُ .
( وَالْمَوْقُوذَةُ ) : مِنْ وَقَذَهُ النُّعَاسُ أَيْ
غَلَبَهُ وَكَأَنَّ الْمَادَّةَ دَالَّةٌ عَلَى سُكُونٍ وَاسْتِرْخَاءٍ ؛
فَالْمَوْقُوذَةُ هِيَ الَّتِي وُقِذَتْ أَيْ ضُرِبَتْ حَتَّى اسْتَرْخَتْ
وَمَاتَتْ ، وَمِنْهَا الْمَقْتُولَةُ بِالْبُنْدُقِ فَهِيَ فِي مَعْنَى
الْمَيْتَةِ .
وَالْمُنْخَنِقَةُ لِأَنَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ يَسِلْ
دَمُهَا .
( وَالْمُتَرَدِّيَةُ ) : مِنْ تَرَدَّى أَيْ سَقَطَ
مِنْ عُلُوٍّ فَإِذَا سَقَطَتْ مِنْ عُلُوٍّ كَجَبَلٍ أَوْ شَجَرَةٍ عَلَى أَرْضٍ
أَوْ فِي بِئْرٍ فَمَاتَتْ حُرِّمَتْ ، وَإِنْ أَصَابَهَا سَهْمٌ لِأَنَّهَا فِي الْأَوَّلِ
لَمْ تَزُلْ حَيَاتُهَا بِمُحَدَّدٍ يَجْرَحُ وَيَسِيلُ بِسَبَبِهِ دَمُهَا ،
وَفِي الثَّانِي شَارَكَ الْمُحَدَّدَ غَيْرُهُ فَآثَرَ غَيْرُهُ الْحُرْمَةَ
لِأَنَّ شَرْطَ الْحِلِّ كَمَا مَرَّ إزَالَةُ الْحَيَاةِ بِمَحْضِ مُحَدَّدٍ
يَجْرَحُ .
( وَالنَّطِيحَةُ ) : الَّتِي نَطَحَتْهَا أُخْرَى
فَهِيَ مَيْتَةٌ لِفَقْدِ سَيْلَانِ الدَّمِ وَدَخَلَتْ الْهَاءُ فِي هَذِهِ
الْكَلِمَاتِ لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ لِلشَّاةِ وَخُصَّ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مِنْ
أَعَمِّ مَا يُؤْكَلُ ، وَالْكَلَامُ قَدْ يَخْرُجُ عَلَى الْأَعَمِّ الْأَغْلَبِ وَالْمُرَادُ
بِهِ الْكُلُّ .
نَعَمْ كَانَ مِنْ حَقِّ النَّطِيحَةِ أَنْ لَا
تَدْخُلُهَا هَاءٌ لِأَنَّ فَعِيلًا يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ
إلَّا أَنَّهَا لَمَّا جَرَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ خَرَجَتْ عَنْ قِيَاسِ فَعِيلٍ .
( وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ) : أَيْ أَكَلَ بَعْضَهُ
وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا جَرَحَ السَّبُعُ شَيْئًا فَقَتَلَهُ
وَأَكَلَ بَعْضَهُ أَكَلُوا مَا بَقِيَ فَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاسْتُفِيدَ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ
} : أَنَّ مَا أُدْرِكَ مِنْ الْمُنْخَنِقَةِ وَمَا بَعْدَهَا وَبِهِ حَيَاةٌ
مُسْتَقِرَّةٌ وَذُكِّيَ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا .
( وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ) : قِيلَ هِيَ
الْحِجَارَةُ كَانُوا يَذْبَحُونَ عَلَيْهَا فَعَلَى حِينَئِذٍ وَاضِحَةٌ ،
وَقِيلَ هِيَ الْأَصْنَامُ ، تُنْصَبُ لِتَعَبُّدٍ فَعَلَى بِمَعْنَى اللَّامِ
أَيْ لِأَجْلِهَا ، وَالتَّقْدِيرُ وَمَا ذُبِحَ عَلَى اعْتِقَادِ تَعْظِيمِهَا .
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ : { كَانَ
حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ حَجَرًا مَنْصُوبَةً يَعْبُدُهَا
أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَيُعَظِّمُونَهَا وَيَذْبَحُونَ لَهَا وَلَيْسَتْ بِأَصْنَامٍ
إنَّمَا الْأَصْنَامُ هِيَ الصُّورَةُ الْمَنْقُوشَةُ وَكَانُوا يُلَطِّخُونَهَا
بِتِلْكَ الْأَدْمِيَةِ وَيَضَعُونَ اللَّحْمَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ الْبَيْتَ
بِالدَّمِ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نُعَظِّمَهُ ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { لَنْ يَنَالَ
اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا
} } .
وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالْأَزْلَامِ } النَّهْيُ عَمَّا كَانَ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ أَنَّ
مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ حَاجَةً أَيَّ حَاجَةٍ كَانَتْ جَاءَ إلَى سَادِنِ
الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ عِنْدَهُ سَبْعَةُ أَقْدَاحٍ مُسْتَوِيَةٍ مِنْ شَوْحَطٍ
وَسُمِّيَتْ بِالْأَزْلَامِ لِأَنَّهَا زُلِّمَتْ : أَيْ سُوِّيَتْ ، وَكَانَ
مَكْتُوبًا عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا نَعَمْ وَآخَرَ لَا وَآخَرَ مِنْكُمْ وَآخَرَ
مِنْ غَيْرِكُمْ : أَيْ التَّزَوُّجُ ، وَآخَرَ مُلْصَقٌ أَيْ النَّسَبُ وَآخَرَ
عَقْلٌ : أَيْ دِيَةٌ وَآخَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَرَادُوا أَمْرًا
أَوْ اخْتَلَفُوا فِي نَسَبٍ أَوْ تَحَمُّلِ دِيَةٍ جَاءُوا إلَى هُبَلَ أَعْظَمِ
أَصْنَامِهِمْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَجَزُورٍ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ حَتَّى
يُجِيلَهَا لَهُمْ ، وَيَقُولُونَ يَا آلِهَتَنَا إنَّا أَرَدْنَا كَذَا وَكَذَا ،
فَمَا خَرَجَ فَعَلُوا بِقَضِيَّتِهِ ، فَنَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَحَرَّمَهُ ،
وَقَالَ { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } وَوَجْهُ ذِكْرِهَا مَعَ هَذِهِ الْمَطَاعِمِ
أَنَّهَا كَانَتْ تُرْفَعُ عِنْدَ الْبَيْتِ مَعَهَا .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَسُمِّيَ ذَلِكَ اسْتِقْسَامًا
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَقْسِمُونَ بِهِ الرِّزْقَ وَمَا يُرِيدُونَ ، وَنَظِيرُ
هَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ قَوْلُ الْمُنَجِّمِ لَا تَخْرُجْ مِنْ أَجْلِ
نَجْمِ كَذَا .
وَاخْرُجْ مِنْ أَجْلِ نَجْمِ كَذَا .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْقِمَارُ .
وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ الْأَزْلَامُ حَصًا بِيضٌ
كَانُوا يَضْرِبُونَ بِهَا ، وَمُجَاهِدٌ هِيَ كِعَابُ فَارِسٍ وَالرُّومِ
يَتَقَامَرُونَ بِهَا .
وَالشَّعْبِيُّ : الْأَزْلَامُ لِلْعَرَبِ ،
وَالْكِعَابُ لِلْعَجَمِ .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُوَ ظَاهِرُ الْآيَتَيْنِ
الْكَرِيمَتَيْنِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا فِسْقًا إذْ قَوْله
تَعَالَى : { ذَلِكُمْ فِسْقٌ } يَرْجِعُ لِلْجَمِيعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ
وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا .
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ إنَّهُ يَرْجِعُ
لِمَا وَلِيَهُ فَقَطْ ، فَلَيْسَ فِي مَحَلِّهِ ، إذْ الْقَاعِدَةُ
الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ قَاضِيَةٌ بِرُجُوعِهِ لِلْكُلِّ ، فَلَا وَجْهَ
لِلتَّخْصِيصِ بِالْبَعْضِ ، لَكِنَّهُمْ لَمْ
يُصَرِّحُوا بِالدَّمِ ، وَقَدْ عَلِمْت قِيَامَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ، وَيَنْبَغِي
أَنْ يَلْحَقَ بِهِ أَكْلُ نَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا تَعَدِّيًا ، ثُمَّ
رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ الْآتِيَ قَرِيبًا .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالسَّبْعُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : إحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ ) لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنِّي كُنْت أَمَرْتُكُمْ أَنْ
تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بِالنَّارِ وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا
إلَّا اللَّهُ ، فَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا } .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { رَأَى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرْيَةَ نَمْلٍ - أَيْ
مَكَانَهُ - قَدْ حَرَقْنَاهَا ، فَقَالَ : مَنْ حَرَقَ هَذِهِ ؟ قُلْنَا : نَحْنُ
، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُ لَا يَنْبَغِي
أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا } .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً عَلَى إطْلَاقِهِ سَوَاءٌ كَانَ
مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا هُوَ مَا فِي الرَّوْضَةِ
وَأَصْلِهَا عَنْ صَاحِبِ الْعُدَّةِ
.
وَتَوَقَّفَ الرَّافِعِيُّ فِي إطْلَاقِهِ وَتَبِعَهُ
الْأَذْرَعِيُّ فَقَالَ قَوْلُ صَاحِبِ الْعُدَّةِ وَإِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ فِي
إطْلَاقِهِ نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ أَحْرَقَ قَمْلَةً أَوْ
بُرْغُوثًا أَوْ نَحْوَهُمَا بِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ فَاسِقًا فِيهِ بُعْدٌ ،
وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُحَرِّقُ عَالِمًا بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ
وَتَحْرِيمِهِ انْتَهَى ، وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ فِي الْخَادِمِ فَتَوَقَّفَ فِي
ذَلِكَ الْإِطْلَاقِ ثُمَّ قَالَ : نَعَمْ إنْ لَمْ يُمْكِنْ قَتْلُهُ إلَّا بِهَا
فَذَاكَ ا هـ .
وَتَعَقَّبَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : وَفِيمَا
ذَكَرَهُ فِي الْإِحْرَاقِ نَظَرٌ وَالْوَجْهُ الْأَخْذُ بِالْإِطْلَاقِ ،
وَيُوَافِقُهُ جَرَيَانُ جَمَاعَةٍ مُتَأَخِّرِينَ عَلَى عَدِّ ذَلِكَ مَعَ
إطْلَاقِهِ كَبِيرَةً وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى تَوَقُّفِ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ
، وَقَوْلُ الزَّرْكَشِيُّ نَعَمْ إلَخْ صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُ أَيْضًا وَشَرَطَ
فِيهِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَفْعَهُ عَنْهُ إلَّا بِقَتْلِهِ ، وَهُوَ مُرَادُ الزَّرْكَشِيّ
بِقَوْلِهِ : إنْ لَمْ يُمْكِنْ بِقَتْلِهِ ، إلَّا بِهَا .
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ وَلَمْ يَعْتَرِضْ
النَّوَوِيُّ الرَّافِعِيَّ فِي تَوَقُّفِهِ السَّابِقِ فَكَأَنَّهُ
ارْتَضَاهُ ، وَيَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ الْفَوَاسِقُ
الْخَمْسُ إذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِإِزَالَةِ ضَرَرِهِنَّ الْإِحْرَاقُ
بِالنَّارِ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ الْآدَمِيِّ
وَالْحَيَوَانِ وَلَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ فَقَدْ يُجْزَمُ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً
لِخَبَرِ مُسْلِمٍ : أَنَّ ابْنَ عُمَرَ { مَرَّ بِنَفَرٍ نَصَبُوا دَجَاجَةً
يَتَرَامَوْنَهَا فَلَمَّا رَأَوْهُ تَفَرَّقُوا عَنْهَا ، فَقَالَ : مَنْ فَعَلَ
هَذَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنْ فَعَلَ
هَذَا } ؛ وَالتَّعْذِيبُ بِالنَّارِ كَالتَّعْذِيبِ بِاِتِّخَاذِهَا غَرَضًا أَوْ
أَشَدَّ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ : { إنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ
يُعَذِّبُونَ فِي الدُّنْيَا } ، وَفِي رِوَايَةٍ : { يُعَذِّبُونَ النَّاسَ }
وَالْأُولَى أَعَمُّ ، قَالَ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى قَوْمًا يُعَذِّبُونَ
بِالشَّمْسِ فَمَا الظَّنُّ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ .
( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ
وَالسَّابِعَةُ وَالسَّبْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : تَنَاوُلُ النَّجَسِ
وَالْمُسْتَقْذَرِ وَالْمُضِرِّ ) وَعَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ هُوَ مَا صَرَّحَ
بِهِ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَيُسْتَدَلُّ فِي الْأُولَى بِأَنَّ مَا ذُكِرَ
فِيهَا هُوَ قِيَاسُ مَا مَرَّ فِي الْمَيْتَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ
لِضَرَرِهَا بَلْ لِنَجَاسَتِهَا كَمَا صَرَّحُوا بِهِ ، وَإِذَا حُرِّمَتْ
لِنَجَاسَتِهَا وَقَدْ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى فِسْقًا فَيَلْحَقُ بِهَا فِي
ذَلِكَ كُلُّ نَجَاسَةٍ غَيْرُ مَعْفُوٍّ عَنْهَا ، فَظَهَرَ وَجْهُ عَدِّ هَذِهِ كَبِيرَةً .
وَفِي الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الْمُسْتَقْذَرَ
كَالْمُخَاطِ وَالْمَنِيِّ يَلْحَقُ بِالنَّجَاسَةِ فِي تَلْطِيخِ نَحْوِ
الْمُصْحَفِ كَمَا مَرَّ فِي الْكَبِيرَةِ الْأُولَى أَوَّلَ الْكِتَابِ فَلَا
بُعْدَ فِي إلْحَاقِهِ بِهَا هُنَا ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَالْحُكْمُ فِيهَا ظَاهِرٌ
لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْمُضِرِّ مُفْسِدٌ لِلْبَدَنِ أَوْ الْعَقْلِ وَذَلِكَ
عَظِيمُ الْإِثْمِ وَالْوِزْرِ ، وَكَمَا أَنَّ إضْرَارَ الْغَيْرِ الَّذِي لَا
يَحْتَمِلُ كَبِيرَةً فَكَذَا إضْرَارُ النَّفْسِ بَلْ هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ
حِفْظَ النَّفْسِ أَهَمُّ مِنْ حِفْظِ الْغَيْرِ .
فَرْعٌ : ذَكَرَ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُ طَاهِرٍ
مُضِرٍّ بِالْبَدَنِ كَالطِّينِ وَالسُّمِّ كَالْأَفْيُونِ إلَّا الْقَلِيلَ مِنْ
ذَلِكَ لِحَاجَةِ التَّدَاوِي مَعَ غَلَبَةِ السَّلَامَةِ أَوْ بِالْعَقْلِ
كَنَبَاتٍ مُسْكِرٍ غَيْرِ مُطْرِبٍ ، وَلَهُ التَّدَاوِي بِهِ وَإِنْ أَسْكَرَ
إنْ تَعَيَّنَ بِأَنْ قَالَ لَهُ طَبِيبَانِ عَدْلَانِ لَا يَنْفَعُ عِلَّتُك
غَيْرُهُ ، وَلَوْ شَكَّ فِي نَبَاتٍ هَلْ هُوَ سُمٍّ أَمْ غَيْرُهُ أَوْ فِي
نَحْوِ لَبَنٍ هَلْ هُوَ مَأْكُولٌ أَوْ غَيْرُهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ تَنَاوُلُهُ ،
وَلَوْ وَقَعَ نَحْوُ ذُبَابٍ فِي نَحْوِ طَبِيخٍ وَتُهُرِّئَ فِيهِ حَلَّ
أَكْلُهُ أَوْ نَحْوُ طَائِرٍ أَوْ جُزْءِ آدَمِيٍّ لَمْ يَحِلَّ وَإِنْ تُهُرِّئَ
، وَلَوْ وَجَدَ نَجَاسَةً فِي طَعَامٍ طَرَأَ عَلَيْهِ الْجُمُودُ وَشَكَّ هَلْ وَقَعَتْ
فِيهِ مَائِعًا أَوْ جَامِدًا حَلَّ تَنَاوُلُهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ
مَعَ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ
وُقُوعَهَا فِيهِ جَامِدًا فَيَنْزِعُهَا وَمَا
حَوْلَهَا فَقَطْ ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِيهِ مَائِعًا
، وَيَحْرُمُ الدِّرْيَاقُ الْمَخْلُوطُ بِلَحْمِ الْحَيَّاتِ إلَّا لِضَرُورَةٍ
تُجَوِّزُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ ، وَلَوْ عَمَّ الْحَرَامُ أَرْضًا وَلَمْ يَبْقَ
بِهَا حَلَالٌ وَتُوُقِّعَ مَعْرِفَةُ أَرْبَابِهِ جَازَ تَنَاوُلُ قَدْرِ الْحَاجَةِ
مِنْهُ دُونَ التَّنَعُّمِ وَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى الضَّرُورَةِ .
خَاتِمَةٌ : الْحَيَوَانُ إمَّا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ كَحَيَّةٍ
وَعَقْرَبٍ وَفَأْرَةٍ وَحِدَأَةٍ وَكَلْبٍ عَقُورٍ وَغُرَابٍ غَيْرِ زَاغٍ
وَذِئْبٍ وَأَسَدٍ وَنَمِرٍ وَسَائِرِ السِّبَاعِ وَدُبٍّ وَنَسْرٍ وَعُقَابٍ
وَبُرْغُوثٍ وَنَمْلٍ صَغِيرٍ وَوَزَغٍ وَسَامٍّ أَبْرَصَ وَبَقٍّ وَزُنْبُورٍ ،
فَهَذِهِ كُلُّهَا وَنَحْوُهَا يُسَنُّ قَتْلُهَا وَلَوْ لِمُحْرِمٍ فِي الْحَرَمِ .
وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ وَيَضُرُّ كَفَهْدٍ وَصَقْرٍ
وَبَازٍ فَلَا يُسَنّ قَتْلُهُ لِنَفْعِهِ وَلَا يُكْرَهُ لِضَرِّهِ .
وَأَمَّا مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ كَخُنْفُسَاءَ
وَجُعَلٍ وَسَرَطَانٍ وَرَخَمَةٍ فَيُكْرَهُ قَتْلُهُ ، نَعَمْ الْكَلْبُ الَّذِي
لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ وَقَعَ فِي حِلِّ قَتْلِهِ تَنَاقُضٌ ،
وَالْمُعْتَمَدُ حُرْمَتُهُ كَمَا فِي الْمَجْمُوعِ عَنْ الْأَصْحَابِ وَيُفَرَّقُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذُكِرَ بِأَنَّ تِلْكَ فِي حُكْمِ الْحَشَرَاتِ فَاغْتُفِرَ
فِيهَا مَا لَا يُغْتَفَرُ فِي غَيْرِهَا ؛ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُمْ هُنَا
يَحْرُمُ قَتْلُ النَّمْلِ الْكَبِيرِ مَعَ أَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ وَلَا ضَرَرَ .
قَالُوا : وَيَحْرُمُ أَيْضًا قَتْلُ النَّحْلِ
وَالْخُطَّافِ وَالصُّرَدِ وَالضِّفْدَعِ وَكَلْبِ نَحْوِ الصَّيْدِ أَوْ
الْحِرَاسَةِ وَلَوْ أَسْوَدَ .
الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالسَّبْعُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : بَيْعُ الْحُرِّ )
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ثَلَاثٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْته : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ
، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا ثُمَّ أَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا
فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ صَرِيحُ مَا فِي
هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ
وَهُوَ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ .
قَالَ الطَّحَاوِيُّ : وَكَانَ الْحُرُّ يُبَاعُ فِي
الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالُ
يَقْضِيهِ بِهِ حَتَّى نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } وَلَمْ يَقُلْ قَوْمٌ بِالنَّسْخِ ، بَلْ
قَالُوا إنَّ ذَلِكَ بَاقٍ إلَى الْآنَ لِمَا رَوَاهُ الْبَزَّارُ
وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ : { كَانَ لِرَجُلٍ عَلَيَّ
مَالٌ أَوْ قَالَ دَيْنٌ فَذَهَبَ بِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُصِبْ لِي مَالًا فَبَاعَنِي مِنْهُ أَوْ بَاعَنِي
لَهُ } وَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ .
( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ وَالسَّبْعُونَ
وَالثَّمَانُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالثَّمَانُونَ ، وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ
وَالرَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : أَكْلُ الرِّبَا
وَإِطْعَامُهُ وَكِتَابَتُهُ وَشَهَادَتُهُ وَالسَّعْيُ فِيهِ وَالْإِعَانَةُ
عَلَيْهِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا
يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى
فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ } ثُمَّ قَالَ : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا
إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ
وَلَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ
تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَاتَّقُوا يَوْمًا
تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ
لَا يُظْلَمُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فَتَأَمَّلْ
هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ عُقُوبَةِ أَكْلِ الرِّبَا ، وَيَنْكَشِفُ
ذَلِكَ بِالْكَلَامِ عَلَى بَعْضِهَا بِاخْتِصَارٍ ، فَالرِّبَا لُغَةً
الزِّيَادَةُ وَشَرْعًا عَقْدٌ عَلَى عِوَضٍ مَخْصُوصٍ غَيْرِ مَعْلُومِ
التَّمَاثُلِ فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ مَعَ تَأْخِيرٍ فِي
الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : رِبَا الْفَضْلِ :
وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ زِيَادَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ الْمُتَّفِقَيْ الْجِنْسِ
عَلَى الْآخَرِ .
وَرِبَا الْيَدِ : وَهُوَ
الْبَيْعُ مَعَ تَأْخِيرِ قَبْضِهِمَا أَوْ قَبْضِ
أَحَدِهِمَا عَنْ التَّفَرُّقِ مِنْ الْمَجْلِسِ أَوْ التَّخَايُرِ فِيهِ بِشَرْطِ
اتِّحَادِهِمَا عِلَّةً بِأَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَطْعُومًا أَوْ كُلٌّ
مِنْهُمَا نَقْدًا وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ .
وَرِبَا النَّسَاءِ : وَهُوَ الْبَيْعُ لِلْمَطْعُومِينَ
أَوْ لِلنَّقْدَيْنِ الْمُتَّفِقَيْ الْجِنْسِ أَوْ المختلفية لِأَجَلٍ وَلَوْ
لَحْظَةً وَإِنْ اسْتَوَيَا وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ .
فَالْأَوَّلُ : كَبَيْعِ صَاعِ بُرٍّ بِدُونِ صَاعِ
بُرٍّ أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ دِرْهَمِ فِضَّةٍ بِدُونِ دِرْهَمِ فِضَّةٍ أَوْ بِأَكْثَرَ
سَوَاءٌ أَتَقَابَضَا أَمْ لَا ، وَسَوَاءٌ أَجَّلَا أَمْ لَا .
وَالثَّانِي :
كَبَيْعِ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ بُرٍّ ، أَوْ دِرْهَمِ
ذَهَبٍ بِدِرْهَمِ ذَهَبٍ ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ شَعِيرٍ أَوْ أَكْثَرَ ،
أَوْ دِرْهَمِ ذَهَبٍ بِدِرْهَمِ فِضَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ ، لَكِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُ
أَحَدِهِمَا عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ التَّخَايُرِ .
الثَّالِثُ
: كَبَيْعِ صَاعِ بُرٍّ بِصَاعِ بُرٍّ أَوْ دِرْهَمِ
فِضَّةٍ بِدِرْهَمِ فِضَّةٍ ، لَكِنْ مَعَ تَأْجِيلِ أَحَدِهِمَا وَلَوْ إلَى
لَحْظَةٍ وَإِنْ تَسَاوَيَا وَتَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّهُ مَتَى أَسْتَوَى الْعِوَضَانِ
جِنْسًا وَعِلَّةً كَبُرٍّ بِبُرٍّ أَوْ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ اُشْتُرِطَ ثَلَاثَةُ
شُرُوطٍ : التَّسَاوِي وَعِلْمُهُمَا بِهِ يَقِينًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْحُلُولُ
، وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ، وَمَتَى اخْتَلَفَا جِنْسًا وَاتَّحَدَا
عِلَّةً كَبُرٍّ بِشَعِيرٍ أَوْ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ اُشْتُرِطَ شَرْطَانِ الْحُلُولُ
وَالتَّقَابُضُ وَجَازَ التَّفَاضُلُ ، وَمَتَى اخْتَلَفَا جِنْسًا وَعِلَّةً
كَبُرٍّ بِذَهَبٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يُشْتَرَطُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ؛
فَالْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هُنَا إمَّا الطَّعْمُ بِأَنْ يَقْصِدَ الشَّيْءَ
لِلِاقْتِيَاتِ أَوْ الْأَدَمِ أَوْ التَّفَكُّهِ أَوْ التَّدَاوِي .
وَأَمَّا النَّقْدِيَّةُ : وَهِيَ مُنْحَصِرَةٌ فِي
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَضْرُوبَةً وَغَيْرَهَا فَلَا رِبَا فِي الْفُلُوسِ
وَإِنْ رَاجَتْ ، وَزَادَ الْمُتَوَلِّي نَوْعًا رَابِعًا وَهُوَ رِبَا الْقَرْضِ
، لَكِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ
يَرْجِعُ إلَى رِبَا الْفَضْلِ لِأَنَّهُ الَّذِي فِيهِ
شَرْطٌ يَجُرُّ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ فَكَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ هَذَا الشَّيْءَ
بِمِثْلِهِ مَعَ زِيَادَةِ ذَلِكَ النَّفْعِ الَّذِي عَادَ إلَيْهِ ، وَكُلٌّ مِنْ
هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ بِنَصِّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ
وَالْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّبَا مِنْ الْوَعِيدِ
شَامِلٌ لِلْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ ، نَعَمْ بَعْضُهَا مَعْقُولُ الْمَعْنَى
وَبَعْضُهَا تَعَبُّدِيٌّ ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ هُوَ الَّذِي كَانَ مَشْهُورًا
فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْفَعُ مَالَهُ
لِغَيْرِهِ إلَى أَجَلٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ قَدْرًا
مُعَيَّنًا وَرَأْسُ الْمَالِ بَاقٍ بِحَالِهِ ، فَإِذَا حَلَّ طَالِبُهُ بِرَأْسِ
مَالِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ زَادَ فِي الْحَقِّ وَالْأَجَلِ ،
وَتَسْمِيَةُ هَذَا نَسِيئَةً مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ رِبَا الْفَضْلِ
أَيْضًا لِأَنَّ النَّسِيئَةَ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فِيهِ بِالذَّاتِ وَهَذَا
النَّوْعُ مَشْهُورٌ الْآنَ بَيْنَ النَّاسِ وَوَاقِعٌ كَثِيرًا .
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَرِّمْ
إلَّا رِبَا النَّسِيئَةِ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَهُمْ
فَيَنْصَرِفُ النَّصُّ إلَيْهِ ، لَكِنْ صَحَّتْ الْأَحَادِيثُ بِتَحْرِيمِ
الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ مِنْ غَيْرِ مَطْعَنٍ وَلَا نِزَاعٍ
لِأَحَدٍ فِيهَا ، وَمِنْ ثَمَّ أَجْمَعُوا عَلَى خِلَافِ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ
عَلَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ لَمَّا قَالَ لَهُ أُبَيٌّ أَشَهِدْت مَا لَمْ
نَشْهَدْ أَسَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا
لَمْ نَسْمَعْ ثُمَّ رَوَى لَهُ الْحَدِيثَ الصَّرِيحَ فِي تَحْرِيمِ الْكُلِّ
ثُمَّ قَالَ لَهُ : لَا آوَانِي وَإِيَّاكَ ظِلُّ بَيْتٍ مَا دُمْت عَلَى هَذَا
فَحِينَئِذٍ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ
.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : كُنَّا فِي بَيْتِ
عِكْرِمَةَ .
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : { أَمَا تَذْكُرُ وَنَحْنُ
بِبَيْتِ فُلَانٍ وَمَعَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ إنَّمَا كُنْت اسْتَحْلَلْت
الصَّرْفَ بِرَأْيِي ، ثُمَّ بَلَغَنِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَهُ فَاشْهَدُوا أَنِّي
حَرَّمْته وَبَرِئْت إلَى اللَّهِ مِنْهُ } .
وَأَبْدَوْا لِتَحْرِيمِ الرِّبَا أُمُورًا غَيْرَ
مَطْرَدَةٍ فِي كُلِّ أَنْوَاعِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ قُلْت فِيمَا مَرَّ إنَّ
بَعْضَهُ تَعَبُّدِيٌّ : مِنْهَا
: أَنَّهُ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا
أَوْ نَسِيئَةً أَخَذَ فِي الْأَوَّلِ زِيَادَةً مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، وَحُرْمَةُ
مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ وَكَذَا فِي الثَّانِي لِأَنَّ انْتِفَاعَ الْأَخْذِ
بِالدِّرْهَمِ الزَّائِدِ أَمْرٌ مَوْهُومٌ ، فَمُقَابَلَةُ هَذَا الِانْتِفَاعِ
الْمَوْهُومِ بِدِرْهَمٍ زَائِدٍ فِيهِ ضَرَرٌ أَيُّ ضَرَرٍ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ لَوْ حَلَّ رِبَا الْفَضْلِ
لَبَطَلَتْ الْمَكَاسِبُ وَالتِّجَارَاتُ إذْ مَنْ يُحَصِّلُ دِرْهَمَيْنِ
بِدِرْهَمٍ كَيْفَ يَتَجَشَّمُ مَشَقَّةَ كَسْبٍ أَوْ تِجَارَةٍ
وَبِبُطْلَانِهِمَا تَنْقَطِعُ مَصَالِحُ الْخَلْقِ ، إذْ مَصَالِحُ الْعَالَمِ
لَا تَنْتَظِمُ إلَّا بِالتِّجَارَاتِ وَالْعِمَارَاتِ وَالْحِرَفِ
وَالصِّنَاعَاتِ .
وَمِنْهَا :
أَنَّ الرِّبَا يُفْضِي إلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ
وَالْإِحْسَانِ الَّذِي فِي الْقَرْضِ إذْ لَوْ حَلَّ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ مَا
سَمَحَ أَحَدٌ بِإِعْطَاءِ دِرْهَمٍ بِمِثْلِهِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْغَالِبَ غِنَى الْمُقْرِضِ
وَفَقْرُ الْمُسْتَقْرِضِ ، فَلَوْ مُكِّنَ الْغَنِيُّ مِنْ أَخْذِ أَكْثَرَ مِنْ
الْمِثْلِ أَضَرَّ بِالْفَقِيرِ وَلَمْ يُلْقَ بِرَحْمَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
وقَوْله تَعَالَى : { لَا يَقُومُونَ } إلَخْ : أَيْ لَا
يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ { إلَّا كَمَا يَقُومُ } أَيْ مِثْلُ قِيَامِ {
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ
} أَيْ يَصْرَعُهُ الشَّيْطَانُ ، مِنْ خَبْطِ
الْبَعِيرِ بِأَخْفَافِهِ إذَا ضَرَبَ الْأَرْضَ بِهَا { مِنْ الْمَسِّ } أَيْ
مِنْ أَجْلِ مَسِّهِ لَهُ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْجُنُونِ ، فَإِذَا بَعَثَ اللَّهُ
النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَرَجُوا مُسْرِعِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَّا
أَكَلَةَ الرِّبَا فَإِنَّهُمْ كُلَّمَا قَامُوا سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَجَنُوبِهِمْ
وَظُهُورِهِمْ ، كَمَا أَنَّ الْمَصْرُوعَ يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ ، وَسِرُّ ذَلِكَ
أَنَّهُمْ لَمَّا أَكَلُوا هَذَا الْحَرَامَ السُّحْتَ بِوَجْهِ الْمَكْرِ
وَالْخِدَاعِ وَمُحَارَبَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ رَبَا فِي بُطُونِهِمْ وَزَادَ
حَتَّى أَثْقَلَهَا ، فَلِذَلِكَ عَجَزُوا عَنْ النُّهُوضِ مَعَ النَّاسِ
وَصَارُوا كُلَّمَا أَرَادُوا الْإِسْرَاعَ مَعَ النَّاسِ وَنَهَضُوا سَقَطُوا
عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْقَبِيحِ وَتَخَلَّفُوا عَنْهُمْ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّارَ الَّتِي تَحْشُرُهُمْ إلَى
الْمَوْقِفِ كُلَّمَا سَقَطُوا وَتَخَلَّعُوا أَكَلَتْهُمْ وَزَادَ عَذَابُهُمْ
بِهَا ، فَجَمَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الذَّهَابِ إلَى الْمَوْقِفِ عَذَابَيْنِ
عَظِيمَيْنِ ذَلِكَ التَّخَبُّطُ وَالسُّقُوطُ فِي ذَهَابِهِمْ ، وَلَفْحُ
النَّارِ وَأَكْلُهَا لَهُمْ وَسَوْقُهَا إيَّاهُمْ بِعُنْفٍ حَتَّى يَصِيرُوا
إلَى الْمَوْقِفِ فَيَكُونُونَ فِيهِ عَلَى ذَلِكَ التَّخَبُّطِ لِيَمْتَازُوا وَيَشْتَهِرُوا
بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ كَمَا قَالَ قَتَادَةُ : إنَّ آكِلَ الرِّبَا يُبْعَثُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا وَذَلِكَ عَلَمٌ لِأَكَلَةِ الرِّبَا يَعْرِفُهُمْ
بِهِ أَهْلُ الْمَوْقِفِ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
لَمَّا أُسْرِيَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ بُطُونُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كُلُّ
رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ قَدْ مَالَتْ بِهِمْ
بُطُونُهُمْ مُنَضَّدِينَ عَلَى سَابِلَةٍ : أَيْ طَرِيقِ - آلِ فِرْعَوْنَ -
وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا
وَعَشِيًّا
.
قَالَ
: فَيُقْبِلُونَ مِثْلَ الْإِبِلِ الْمُنْهَزِمَةِ لَا
يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ ، فَإِذَا حَسَّ بِهِمْ أَصْحَابُ تِلْكَ الْبُطُونِ
قَامُوا فَتَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَبْرَحُوا
حَتَّى يَغْشَاهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ فَيُؤْذُونَهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ فَذَلِكَ
عَذَابُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقُلْت مَنْ
هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ
إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَمَّا عُرِجَ بِي سَمِعْتُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ
فَوْقَ رَأْسِي رَعْدًا وَصَوَاعِقَ ، وَرَأَيْتُ رِجَالًا بُطُونُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
كَالْبُيُوتِ فِيهَا حَيَّاتٌ وَعَقَارِبُ تُرَى مِنْ ظَاهِرِ بُطُونِهِمْ فَقُلْت
مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرِّبَا } .
وَسَيَأْتِي هَذَانِ فِي الْأَحَادِيثِ مَعَ حَدِيثِ : {
إيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ : الْغُلُولُ ، فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا
أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا
بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ } .
وَخَبَرُ : { يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مُخَبَّلًا يَجُرُّ شِقَّيْهِ ثُمَّ قَرَأَهَا أَيْضًا } .
وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِطُولِهِ أَوَّلَ
كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ آكِلَ الرِّبَا يُعَذَّبُ مِنْ حِينَ يَمُوتُ إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِالسِّبَاحَةِ فِي نَهْرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ وَأَنَّهُ
يُلْقَمُ الْحِجَارَةَ كُلَّمَا أَلْقَمَهُ حَجَرًا سَبَّحَ بِهِ ثُمَّ عَادَ فَاغِرًا
فَاهُ فَيُلْقَمُ حَجَرًا آخَرَ وَهَكَذَا إلَى الْبَعْثِ ، وَتِلْكَ الْحِجَارَةُ
هِيَ نَظِيرُ الْمَالِ الْحَرَامِ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَيُلْقَمُ
تِلْكَ الْحِجَارَةَ النَّارِيَّةَ وَيُعَذَّبُ بِهَا كَمَا حَازَ ذَلِكَ الْمَالَ
الْحَرَامَ وَابْتَلَعَهُ ، وَسَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيثِ أَنْوَاعُ الْعَذَابِ
الْأَلِيمِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُ
.
وقَوْله تَعَالَى :
{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } إلَخْ أَيْ أَذَاقَهُمْ اللَّهُ
ذَلِكَ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ الَّذِي حَكَّمُوا
فِيهِ قِيَاسَ عُقُولِهِمْ الْقَاصِرَةِ حَتَّى قَدَّمُوهُ عَلَى النَّصِّ {
إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا
} جَاعِلِينَ الرِّبَا هُوَ الْأَصْلَ الْمَقِيسَ
عَلَيْهِ الْبَيْعُ مُبَالَغَةً فِي حِلِّهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالِاعْتِنَاءِ
بِشَأْنِهِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ الَّذِي
تَخَيَّلُوهُ أَنَّهُ كَمَا يَجُوزُ شِرَاءُ شَيْءٍ بِعَشْرَةٍ ثُمَّ بَيْعُهُ
بِأَحَدَ عَشَرَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا يَجُوزُ بَيْعُ عَشْرَةٍ بِأَحَدَ عَشَرَ
حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا ، إذْ لَا فَرْقَ عَقْلًا بَيْنَ هَذِهِ الصُّوَرِ مَعَ
حُصُولِ التَّرَاضِي مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَغَفَلُوا عَنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
حَدَّ لَنَا حُدُودًا ، وَنَهَانَا عَنْ مُجَاوَزَتِهَا ، فَوَجَبَ عَلَيْنَا
امْتِثَالُ ذَلِكَ لِأَنَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى لَا تُقَابَلُ بِقَضِيَّةِ
رَأْيٍ وَلَا عَقْلٍ ، بَلْ يَجِبُ قَبُولُهَا سَوَاءٌ أَفَهِمْنَا لَهَا مَعْنًى
مُنَاسِبًا أَمْ لَا .
إذْ هَذَا هُوَ شَأْنُ التَّكْلِيفِ وَالتَّعَبُّدِ .
وَالْعَبْدُ الضَّعِيفُ الْعَاجِزُ الْقَاصِرُ الْفَهْمِ
وَالْعَقْلِ وَالرَّأْيِ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الِاسْتِسْلَامُ لِأَوَامِرِ
سَيِّدِهِ الْقَوِيِّ الْقَادِرِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْمُنْتَقِمِ الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ الْقَهَّارِ ، وَمَتَى حَكَّمَ عَقْلُهُ ، وَعَارَضَ
بِهِ أَمْرَ سَيِّدِهِ انْتَقَمَ مِنْهُ وَأَهْلَكَهُ بِعَذَابِهِ الشَّدِيدِ {
إنَّ بَطْشَ رَبِّك لَشَدِيدٌ } { إنَّ رَبَّك لَبِالْمِرْصَادِ } .
وقَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ } أَيْ وَاصِلَةٌ إلَيْهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ مَوَاعِظِ رَبِّهِ { فَانْتَهَى }
أَيْ رَجَعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِ الرِّبَا فَوْرًا عَقِبَ
الْمَوْعِظَةِ { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أَيْ سَبَقَ مِمَّا أَخَذَهُ بِالرِّبَا
قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِ ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا
بِهِ بِخِلَافِهِ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ تَحْرِيمِهِ ، فَإِنَّ مَنْ تَابَ مِنْهُ
يَلْزَمُهُ رَدُّ جَمِيعِ مَا أَخَذَهُ بِالرِّبَا ، وَإِنْ فُرِضَ أَنَّهُ لَمْ
يَعْلَمْ
التَّحْرِيمَ لَبُعْدِهِ عَنْ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ
تَعَاطَاهُ وَقْتَ التَّكْلِيفِ بِهِ وَالْجَهْلِ الَّذِي يُعْذَرُ بِهِ صَاحِبُهُ
إنَّمَا يُؤْثِرُ فِي رَفْعِ الْإِثْمِ دُونَ الْغَرَامَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ
الْأَمْوَالِ { وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ } أَيْ أَمْرُ مَا سَلَفَ ، أَوْ
الْمُنْتَهِي عَنْ الرِّبَا أَوْ الرِّبَا إلَى اللَّهِ فِي الْعَفْوِ وَعَدَمِهِ
، أَوْ فِي اسْتِمْرَارِ تَحْرِيمِ الرِّبَا ؛ ثُمَّ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وُجُوهٌ لِلْمُفَسِّرِينَ .
قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيّ : وَاَلَّذِي أَخْتَارُهُ
أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ اسْتِحْلَالَ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ بَيَانِ
أَنَّهُ تَرَكَ أَكْلَهُ أَمْ لَا : أَيْ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَا يَأْتِي آخِرِ
الْآيَةِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِمَنْ تَرَكَ
اسْتِحْلَالَهُ مَعَ تَعَاطِيهِ لَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ الْأَوَّلِ
قَوْله تَعَالَى { فَانْتَهَى }
أَيْ عَمَّا دَلَّ عَلَيْهِ سَابِقُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ :
{ إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } مِنْ تَحْلِيلِهِ .
وَقَوْلُهُ : { وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ
النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أَيْ عَادَ إلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ
وَهُوَ : { إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } ثُمَّ إذَا انْتَهَى عَنْ
اسْتِحْلَالِهِ ، فَإِمَّا أَنَّهُ انْتَهَى عَنْ أَكْلِهِ أَيْضًا وَلَيْسَ
مُرَادًا لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا يَلِيقُ
بِهِ الْمَدْحُ ، أَوْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ أَكْلِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ
لِحُرْمَتِهِ ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمْرُهُ إلَى
اللَّهِ إنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : {
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } ، { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا }
أَيْ مُعَامَلَةً لِفَاعِلِيهِ بِنَقِيضِ قَصْدِهِمْ فَإِنَّهُمْ آثَرُوهُ تَحْصِيلًا
لِلزِّيَادَةِ غَيْرَ مُلْتَفِتِينَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ يُغْضِبُ اللَّهَ تَعَالَى
، فَمَحَقَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بَلْ وَالْمَالَ مِنْ أَصْلِهِ حَتَّى صَيَّرَ
عَاقِبَتَهُمْ إلَى الْفَقْرِ الْمُدْقِعِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ أَكْثَرِ
مَنْ يَتَعَاطَاهُ ، وَبِفَرْضِ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى غُرَّةٍ يَمْحَقُهُ اللَّهُ
مِنْ
أَيْدِي وَرَثَتِهِ فَلَا يَمُرُّ عَلَيْهِمْ أَدْنَى
زَمَانٍ إلَّا وَقَدْ صَارُوا بِغَايَةِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الرِّبَا
وَإِنْ كَثُرَ فَإِلَى قُلٍّ }
.
وَمِنْ الْمُحِقِّ أَيْضًا مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ
الذَّمِّ وَالْبُغْضِ ، وَسُقُوطِ الْعَدَالَةِ ، وَزَوَالِ الْأَمَانَةِ ،
وَحُصُولِ اسْمِ الْفِسْقِ وَالْقَسْوَةِ وَالْغِلْظَةِ .
وَأَيْضًا فَدُعَاءُ مَنْ ظُلِمَ بِأَخْذِ مَالِهِ
عَلَيْهِ بِاللَّعْنَةِ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِزَوَالِ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ عَنْ
نَفْسِهِ وَمَالِهِ ، إذْ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
اللَّهِ حِجَابٌ : أَيْ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِهَا .
وَلِهَذَا وَرَدَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْمَظْلُومِ
إذَا دَعَا عَلَى ظَالِمِهِ لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ } .
وَأَيْضًا فَمَنْ اشْتَهَرَ أَنَّهُ جَمَعَ مَالًا مِنْ
رِبًا تَتَوَجَّهُ إلَيْهِ الْمِحَنُ الْكَثِيرَةُ مِنْ الظَّلَمَةِ وَاللُّصُوصِ
وَغَيْرِهِمْ ، زَاعِمِينَ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَةِ ، هَذَا
كُلُّهُ مَحْقُ الدُّنْيَا .
وَأَمَّا مَحْقُ الْآخِرَةِ .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
" لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَدَقَةٌ وَلَا جِهَادٌ وَلَا حَجٌّ وَلَا صِلَةٌ " .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يَمُوتُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ كُلَّهُ
وَعَلَيْهِ عُقُوبَتُهُ وَتَبَعَتُهُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ بِسَبَبِهِ .
وَمِنْ ثَمَّ وَرَدَ : { مُصِيبَتَانِ لَنْ يُصَابَ
أَحَدٌ بِمِثْلِهِمَا أَنْ تَتْرُكَ مَالَك كُلَّهُ وَتُعَاقَبَ عَلَيْهِ كُلَّهُ } .
وَأَيْضًا صَحَّ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ بَعْدَ الْفُقَرَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي
الْأَغْنِيَاءِ بِالْمَالِ الْحَلَالِ الْمَحْضِ ، فَمَا ظَنُّك بِذِي الْمَالِ
الْحَرَامِ السُّحْتِ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ هُوَ الْمَحْقُ وَالنُّقْصَانُ وَالْخُسْرَانُ
الْمُبِينُ وَالذُّلُّ وَالْهَوَانُ : { وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } أَيْ يَزِيدُهَا
فِي الدُّنْيَا بِسُؤَالِ الْمَلَكِ لَهُ أَنَّ اللَّه يُعْطِيهِ خَلَفًا كَمَا
جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ : { إنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَفِيهِ
مَلَكٌ يُنَادِي : اللَّهُمَّ أَعْطِ
مُنْفِقًا خَلَفًا } وَبِأَنَّهُ يَزْدَادُ كُلَّ يَوْمٍ
جَاهُهُ وَذِكْرُهُ الْجَمِيلُ ، وَمَيْلُ الْقُلُوبُ إلَيْهِ ، وَالدُّعَاءُ
الْخَالِصُ لَهُ مِنْ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ وَانْقِطَاعُ الْأَطْمَاعِ عَنْهُ
فَإِنَّهُ مَتَى اشْتَهَرَ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ الْفُقَرَاءِ أَوْ الضُّعَفَاءِ
فَكُلُّ أَحَدٍ يَحْتَرِزُ عَنْ أَذِيَّتِهِ وَالتَّعَرُّضِ لَهُ ، وَكُلُّ
طَمَّاعٍ وَظَالِمٍ يَتَخَوَّفُ مِنْ التَّعَرُّضِ إلَيْهِ ، وَفِي الْآخِرَةِ
بِتَرْبِيَتِهَا إلَى أَنْ تَصِيرَ اللُّقْمَةُ كَالْجَبَلِ ، كَمَا صَحَّ فِي
الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَوَاخِرَ الزَّكَاةِ { وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ
أَثِيمٍ } كِلَاهُمَا صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ الْكُفْرِ وَالْإِثْمِ
لِاسْتِمْرَارِ مُسْتَحِلِّ الرِّبَا وَآكِلِهِ عَلَيْهِمَا وَتَمَادِيهِ فِي
ذَلِكَ ، ثُمَّ يَصِحُّ رُجُوعُهُمَا مَعًا لِلْمُسْتَحِلِّ وَلَا إشْكَالَ فِيهِ
أَوْ الْأَوَّلُ لَهُ وَالثَّانِي لِغَيْرِهِ وَلَا إشْكَالَ أَيْضًا .
وَيَصِحُّ أَيْضًا رُجُوعُهُمَا مَعًا إلَى غَيْرِ
الْمُسْتَحِلِّ وَيَكُونُ عَلَى حَدِّ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ
أَوْ الْحَجَّ فَقَدْ كَفَرَ ، وَمَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَدْ
كَفَرَ ، وَمَنْ أَتَاهَا فِي دُبُرِهَا فَقَدْ كَفَرَ } : أَيْ قَارَبَ الْكُفْرَ
كَمَا مَرَّ فِي الْحَجِّ ، بِمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الْأَعْمَالَ الْخَبِيثَةَ
إذَا دَاوَمَ عَلَيْهَا فَاعِلُهَا أَدَّتْ بِهِ إلَى الْكُفْرِ وَسُوءِ
الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ، وَفِي هَذَا تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ بَالِغٌ
مِنْ الرِّبَا ، وَأَنَّهُ يُؤَدِّي بِمُتَعَاطِيهِ إلَى أَنْ يُوقِعَهُ فِي
أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَفْظَعِهَا .
قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }
إلَخْ أَرْدَفَهُ تَعَالَى بِمَا مَرَّ جَرْيًا عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ مِنْ
شَفْعِ الرَّهْبَةِ بِالرَّغْبَةِ وَعَكْسِهِ تَذْكِيرًا بِالْعَوَاقِبِ
وَتَمْيِيزًا لِمَقَامِ الْمُطِيعِ مِنْ الْعَاصِي ، وَمُبَالَغَةً فِي الثَّنَاءِ
عَلَى ذَلِكَ وَفِي الذَّمِّ لِهَذَا { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ
الرِّبَا } أَيْ فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ ، وَبَيَّنَ تَعَالَى بِهَذَا مَعَ
قَوْلِهِ : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } أَنَّ نُزُولَ
تَحْرِيمِ الرِّبَا لَا يُحَرِّمُ مَا سَلَفَ أَخْذُهُ
قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، بِخِلَافِ مَا بَقِيَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ فَإِنَّهُ
يُحَرِّمُهُ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا رَأْسُ مَالِهِ فَقَطْ ، لِأَنَّهُ لَمَّا
كُلِّفَ بِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ صَارَ أَخْذُهُ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ .
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ
أَوْ بَعْضَهُمْ أَوْ بَعْضَ أَهْلِ الطَّائِفِ كَانُوا يُرَابُونَ ، فَلَمَّا
أَسْلَمُوا عِنْدَ فَتْحِهَا تَخَاصَمُوا فِي الرِّبَا الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ ،
فَنَزَلَتْ آمِرَةً لَهُمْ بِأَخْذِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمْ فَقَطْ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ
بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ
الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ ، ثُمَّ قَالَ : وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ
مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ مِنْ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ } .
وقَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ
لَمْ تَفْعَلُوا } أَيْ بِأَنْ لَمْ تَنْتَهُوا عَنْ الرِّبَا { فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أَيْ وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ
لَا يُفْلِحُ أَبَدًا .
ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْحَرْبُ إمَّا فِي
الدُّنْيَا ، إذْ يَجِبُ عَلَى حُكَّامِ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُمْ إذَا عَلِمُوا
مِنْ شَخْصٍ تَعَاطِيَ الرِّبَا عَزَّرُوهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ إلَى
أَنْ يَتُوبَ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ شَوْكَةٌ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ إلَّا
بِنَصَبِ حَرْبٍ وَقِتَالٍ نَصَبُوا لَهُ الْحَرْبَ وَالْقِتَالَ ، كَمَا قَاتَلَ
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَانِعِي الزَّكَاةِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا اُسْتُتِيبَ
فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ ، فَيُحْتَمَلُ حَمْلُهُ عَلَى
الْمُسْتَحِلِّ وَيُحْتَمَلُ الْإِطْلَاقُ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي الْآيَةِ ،
فَقِيلَ الْإِيذَانُ بِالْحَرْبِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْتَحِلِّ ، وَقِيلَ بَلْ
لَهُ وَلِغَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ بِنَظْمِ الْآيَةِ إذْ قَوْلُهُ : { إنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أَيْ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا }
أَيْ فَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِتَحْرِيمِهِ {
فَأْذَنُوا } إلَخْ ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ
يَخْتِمَ اللَّهُ لَهُ بِسُوءٍ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اعْتِيَادُ الرِّبَا
وَالتَّوَرُّطُ فِيهِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ ، إذْ مَنْ حَارَبَهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُخْتَمُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ ؟ وَهَلْ
مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ إلَّا كِنَايَةٌ عَنْ إبْعَادِهِ عَنْ
مَوَاطِنِ رَحْمَتِهِ وَإِحْلَالِهِ فِي دَرَكَاتِ شَقَاوَتِهِ { وَإِنْ تُبْتُمْ
} أَيْ عَنْ اسْتِحْلَالِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَوْ عَنْ مُعَامَلَتِهِ
عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي { فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ }
أَيْ الْغَرِيمَ بِأَخْذِ زِيَادَةٍ مِنْهُ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ { وَلَا تُظْلَمُونَ
} أَيْ بِنَقْصِكُمْ عَنْ رُءُوسِ أَمْوَالِكُمْ .
وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ الْمُرَابُونَ
بَلْ نَتُوبُ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا طَاقَةَ لَنَا بِحَرْبِ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ، فَرَضُوا بِرَأْسِ الْمَالِ فَشَكَا الْمَدِينُونَ الْإِعْسَارَ
فَأَبَوْا الصَّبْرَ عَلَيْهِمْ فَنَزَلَ : { وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } أَيْ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تُمْهِلُوهُ إلَى
يَسَارِهِ ، وَكَذَا يَجِبُ إنْظَارُ الْمُعْسِرِ فِي كُلِّ دَيْنٍ أَخْذًا بِعُمُومِ
اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَخَذَ جَمْعٌ بِهِ ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ
بِبَعْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ .
وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْآيَةِ الْآخِرَةِ وَهِيَ
قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا }
إلَخْ ؛ فَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا
كَانَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَثَلًا إلَى أَجَلٍ وَأَعْسَرَ
الْمَدِينُ قَالَ لَهُ زِدْنِي فِي الْمَالِ حَتَّى أَزِيدَ فِي الْأَجَلِ
فَرُبَّمَا جَعَلَهُ مِائَتَيْنِ ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ الثَّانِي فَعَلَ
مِثْلَ ذَلِكَ ، وَهَكَذَا إلَى آجَالَ كَثِيرَةٍ فَيَأْخُذُ فِي تِلْكَ
الْمِائَةِ أَضْعَافًا ، فَلِذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ } أَيْ بِتَرْكِ الرِّبَا { لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ } أَيْ تَظْفَرُونَ بِبُغْيَتِكُمْ ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى
أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ الرِّبَا لَا يَحْصُلُ
لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْفَلَاحِ ، وَسَبَبُهُ مَا مَرَّ فِي
تِلْكَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ حَارَبَهُ هُوَ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ
لَهُ فَلَاحٌ ؟ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا إيمَاءٌ إلَى سُوءِ خَاتِمَتِهِ
وَدَوَامِ عُقُوبَتِهِ .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى عَقِبَهَا : { وَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أَيْ هُيِّئَتْ لَهُمْ بِطَرِيقِ
الذَّاتِ وَلِغَيْرِهِمْ بِطَرِيقِ التَّبَعِ ، أَوْ الْمُرَادُ أَنَّ أَكْثَرَ دَرَكَاتِهَا
أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَعْضَ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ
يَدْخُلُونَهَا ، فَفِيهَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَنْ بَقِيَ عَلَى الرِّبَا
يَكُونُ مَعَ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُمْ ، لِمَا
تَقَرَّرَ مِنْ تِلْكَ الْمُحَارَبَةِ الَّتِي حَصَلَتْ لَهُ وَأَدَّتْ بِهِ إلَى
سُوءِ الْخَاتِمَةِ .
{ فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ
أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
وَتَأَمَّلْ وَصْفَ اللَّهِ تَعَالَى تِلْكَ النَّارَ
بِكَوْنِهَا أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ، فَإِنَّ فِيهِ غَايَةَ الْوَعِيدِ
وَالزَّجْرِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِاتِّقَاءِ الْمَعَاصِي إذَا
عَلِمُوا بِأَنَّهُمْ مَتَى فَارَقُوا التَّقْوَى دَخَلُوا النَّارَ الْمُعَدَّةَ لِلْكَافِرِينَ
، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عُقُولِهِمْ عَظَمَةُ عُقُوبَةِ الْكَافِرِينَ انْزَجَرُوا
عَنْ الْمَعَاصِي أَتَمَّ الِانْزِجَارِ .
فَتَأَمَّلْ عَفَا اللَّهُ عَنَّا وَعَنْك مَا ذَكَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَعِيدِ آكِلِ الرِّبَا يَظْهَرُ لَك
إنْ كَانَ لَك أَدْنَى بَصِيرَةٍ قُبْحُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ وَمَزِيدُ فُحْشِهَا
، وَعَظِيمُ مَا يَتَرَتَّبُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهَا ، سِيَّمَا مُحَارَبَةُ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ اللَّذَيْنِ لَمْ يَتَرَتَّبَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي
إلَّا مُعَادَاةَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُقَارِبَةِ لِفُحْشِ هَذِهِ
الْجِنَايَةِ وَقُبْحِهَا .
وَإِذَا ظَهَرَ لَك ذَلِكَ رَجَعْت وَتُبْت إلَى اللَّهِ
تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْمُهْلِكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
وَقَدْ شَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا طَوَى التَّصْرِيحُ بِهِ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ مِنْ تِلْكَ
الْعُقُوبَاتِ وَالْقَبَائِحِ الْحَاصِلَةِ لِأَهْلِ الرِّبَا فِي أَحَادِيثَ
كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ وَغَيْرِهَا أَحْبَبْت هُنَا ذِكْرَ كَثِيرٍ مِنْهَا
لِيَتِمَّ لِمَنْ سَمِعَهَا مَعَ مَا مَرَّ الِانْزِجَارُ عَنْهَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
فَمِنْهَا : أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
: { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ : أَيْ
الْمُهْلِكَاتِ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ
بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا
بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالُ الْيَتِيمِ ، وَالتَّوَلِّي
يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } .
وَالنَّسَائِيُّ مُخْتَصَرًا وَمَرَّ فِي بَابِ
الصَّلَاةِ مُطَوَّلًا : { رَأَيْت اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي
فَأَخْرَجَانِي إلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى
نَهْرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى شَطِّ النَّهْرِ رَجُلٌ بَيْنَ
يَدَيْهِ حِجَارَةٌ ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهْرِ فَإِذَا أَرَادَ
أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلَ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ ،
فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ .
فَقُلْت مَا هَذَا الَّذِي رَأَيْته فِي النَّهْرِ ؟
قَالَ آكِلُ الرِّبَا } .
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ } .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ
وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ كُلُّهُمْ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ وَلَمْ يَسْمَعْ
مِنْهُ ، وَزَادُوا فِيهِ : { وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ
وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ
هُمْ سَوَاءٌ
} .
وَالْبَزَّارُ مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ أَبِي
شَيْبَةَ ، وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ
أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقِّهَا
وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَفِرَارٌ يَوْمِ الزَّحْفِ وَقَذْفُ
الْمُحْصَنَاتِ وَالِانْتِقَالُ إلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد : { لَعَنَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ
وَآكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ ، وَنَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ
الْبَغِيِّ وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ
} .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ
فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ وَهُوَ الْأَعْوَرُ ، وَاخْتُلِفَ
فِيهِ كَمَا مَرَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { آكِلُ
الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَشَاهِدَاهُ وَكَاتِبُهُ إذَا عَلِمُوا بِهِ ،
وَالْوَاشِمَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ ، وَلَاوِي الصَّدَقَةِ ،
وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِيهِ وَاهِيًا : { أَرْبَعٌ حَقٌّ
عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ الْجَنَّةَ وَلَا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا :
مُدْمِنُ الْخَمْرِ وَآكِلُ الرِّبَا ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ،
وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ } .
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ
وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِهِ وَقَالَ هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَالْمَتْنُ
بِهَذَا مُنْكَرُ الْإِسْنَادِ وَلَا أَعْلَمُهُ إلَّا وَهْمًا وَكَأَنَّهُ دَخَلَ
لِبَعْضِ رُوَاتِهِ إسْنَادٌ إلَى إسْنَادٍ : { الرِّبَا ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ
بَابًا أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ } .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ :
{ الرِّبَا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا وَالشِّرْكُ مِثْلُ ذَلِكَ } .
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ شَطْرَهُ الْأَوَّلَ بِسَنَدٍ
صَحِيحٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { الرِّبَا سَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا الَّذِي يَقَعُ عَلَى
أُمِّهِ } ، رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ
ثُمَّ قَالَ غَرِيبٌ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، وَإِنَّمَا
يُعْرَفُ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عِكْرِمَةَ يَعْنِي ابْنَ عَمَّارٍ
قَالَ : وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { الدِّرْهَمُ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ
عِنْدَ اللَّهِ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا فِي الْإِسْلَامِ }
، وَفِي سَنَدِهِ انْقِطَاعٌ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَغَوِيُّ
وَغَيْرُهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَهَذَا
الْمَوْقُوفُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ، لِأَنَّ كَوْنَ الدِّرْهَمِ أَعْظَمَ
وِزْرًا مِنْ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ مِنْ الزِّنَا لَا يُدْرَكُ إلَّا
بِوَحْيٍ فَكَأَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وَلَفْظُ الْمَوْقُوفِ فِي أَحَدِ طُرُقِهِ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : { الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ
حُوبًا أَيْ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَبِفَتْحِهَا إثْمًا أَصْغَرُهَا حُوبًا
كَمَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَدِرْهَمٌ مِنْ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ
بِضْعٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً .
قَالَ :
وَيَأْذَنُ اللَّهُ لِلْبَرِّ وَالْفَاجِرِ بِالْقِيَامِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا آكِلَ الرِّبَا فَإِنَّهُ لَا يَقُومُ إلَّا كَمَا يَقُومُ
الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ كَعْبِ
الْأَحْبَارِ قَالَ : " لَأَنْ أَزْنِيَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً
أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ آكُلَ دِرْهَمَ رِبًا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنِّي أَكَلْته
حِينَ أَكَلْته رِبًا " .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { دِرْهَمُ رِبًا يَأْكُلُهُ الرَّجُلُ
وَهُوَ يَعْلَمُ أَشَدُّ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ : {
خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ أَمْرَ
الرِّبَا وَعِظَمِ شَأْنِهِ وَقَالَ
: إنَّ الدِّرْهَمَ يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا
أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي
الْخَطِيئَةِ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً
يَزْنِيَهَا الرَّجُلُ وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ : {
مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا بِبَاطِلٍ لِيَدْحَضَ بِهِ حَقًّا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ
ذِمَّةِ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمَنْ أَكَلَ دِرْهَمًا مِنْ رِبًا فَهُوَ مِثْلُ
ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً وَمَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ
أَوْلَى بِهِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ الرِّبَا نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ
بَابًا أَهْوَنُهُنَّ بَابًا مِثْلُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ ،
وَدِرْهَمٌ مِنْ رِبَا أَشَدُّ مِنْ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً } الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ
عَمْرِو بْنِ رَاشِدٍ وَقَدْ وُثِّقَ
: { الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا
مِثْلُ إتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا اسْتِطَالَةُ
الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ }
.
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ
وَقَدْ وُثِّقَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا أَيْسَرُهَا أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنْ تُشْتَرَى الثَّمَرَةُ حَتَّى تَعْظُمَ } .
وَقَالَ : { إذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي
قَرْيَةٍ فَقَدْ أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ } .
وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ عَنْ ابْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ : { مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الزِّنَا
وَالرِّبَا إلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عَذَابَ اللَّهِ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ فِيهِ نَظَرٌ : { مَا مِنْ
قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمْ الرِّبَا إلَّا أُخِذُوا بِالسَّنَةِ ، وَمَا مِنْ قَوْمٍ
يَظْهَرُ فِيهِمْ الرُّشَا إلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ } وَالسَّنَةُ الْعَامُ
الْمِقْحَطُ نَزَلَ فِيهِ غَيْثٌ
أَمْ لَا
.
وَأَحْمَدُ فِي حَدِيثٍ ، طَوِيلٍ وَابْنُ مَاجَهْ
مُخْتَصَرًا وَالْأَصْبَهَانِيّ : { رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَمَّا
انْتَهَيْنَا إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَنَظَرْت فَوْقِي فَإِذَا أَنَا
بِرَعْدٍ وَبُرُوقٍ وَقَوَاصِفَ ، قَالَ : فَأَتَيْت عَلَى قَوْمٍ بُطُونُهُمْ
كَالْبُيُوتِ فِيهَا الْحَيَّاتُ تُرَى مِنْ خَارِجِ بُطُونِهِمْ .
قُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ
أَكَلَةُ الرِّبَا } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { لَمَّا عُرِجَ بِي إلَى السَّمَاءِ نَظَرْت فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا
فَإِذَا رِجَالٌ بُطُونُهُمْ كَأَمْثَالِ الْبُيُوتِ الْعِظَامِ قَدْ مَالَتْ
بُطُونُهُمْ وَهُمْ مُنَضَّدُونَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ مَوْقُوفُونَ
عَلَى النَّارِ كُلَّ غَدَاةٍ وَعَشِيٍّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَا تُقِمْ السَّاعَةَ
أَبَدًا ، قُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ ، أَكَلَةُ
الرِّبَا مِنْ أُمَّتِك لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } .
قَالَ الْأَصْبَهَانِيُّ : قَوْلُهُ مُنَضَّدُونَ : أَيْ
مَطْرُوحُونَ : أَيْ طُرِحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَالسَّابِلَةُ الْمَارَّةُ
: أَيْ يَطَؤُهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ غَدَاةٍ
وَعَشِيٍّ .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { بَيْنَ يَدَيْ
السَّاعَةِ يَظْهَرُ الزِّنَا وَالرِّبَا وَالْخَمْرُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ
الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَرَّاقِ قَالَ : { رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ
بْنَ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سُوقِ الصَّيَارِفَةِ فَقَالَ يَا
مَعْشَرَ الصَّيَارِفَةِ أَبْشِرُوا ، قَالُوا بَشَّرَك اللَّهُ بِالْجَنَّةِ ،
بِمَ تُبَشِّرُنَا يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّيَارِفَةِ أَبْشِرُوا بِالنَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا
تُغْفَرُ الْغُلُولُ فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،
وَأَكْلُ الرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ ، ثُمَّ قَرَأَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا
يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مُخَبَّلًا : أَيْ مَجْنُونًا يَجُرُّ شِقَّيْهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : {
لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ
الْمَسِّ } } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَا
أَحَدٌ أَكْثَرُ مِنْ الرِّبَا إلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إلَى قِلَّةٍ } ،
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ أَيْضًا : { الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ
إلَى قُلٍّ } .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ كِلَاهُمَا عَنْ
الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَاخْتُلِفَ فِي سَمَاعِهِ مِنْهُ
وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِهِ
: { لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى
مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا أَكَلَ الرِّبَا فَمَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ
غُبَارِهِ } .
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ
الْمُسْنَدِ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَبِيتَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي
عَلَى أَشَرٍ وَبَطَرٍ وَلَهْوٍ وَلَعِبٍ فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ
بِاسْتِحْلَالِهِمْ الْمَحَارِمَ وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقَيْنَاتِ وَشُرْبِهِمْ
الْخَمْرَ وَبِأَكْلِهِمْ الرِّبَا وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ } .
وَأَحْمَدُ مُخْتَصَرًا وَالْبَيْهَقِيُّ وَاللَّفْظُ
لَهُ : { يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى طُعْمٍ وَشُرْبٍ وَلَهْوٍ
وَلَعِبٍ فَيُصْبِحُونَ قَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، وَلَيُصِيبَنَّهُمْ
خَسْفٌ وَقَذْفٌ حَتَّى يُصْبِحَ النَّاسُ فَيَقُولُونَ خُسِفَ اللَّيْلَةَ
بِبَيْتِ فُلَانٍ وَخُسِفَ اللَّيْلَةَ بِدَارِ فُلَانٍ ، وَلَتُرْسَلَنَّ عَلَيْهِمْ
حِجَارَةٌ مِنْ السَّمَاءِ كَمَا أُرْسِلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ عَلَى قَبَائِلَ
مِنْهَا وَعَلَى دُورٍ بِشُرْبِهِمْ الْخَمْرَ وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ وَاِتِّخَاذِهِمْ
الْقَيْنَاتِ وَأَكْلِهِمْ الرِّبَا وَقَطِيعَتِهِمْ الرَّحِمَ } وَخَصْلَةٌ
نَسِيَهَا رَاوِيهِ .
الْقَيْنَاتُ جَمْعُ قَيْنَةٍ : وَهِيَ الْمُغَنِّيَةُ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ الرِّبَا كَبِيرَةً هُوَ
مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ اتِّبَاعًا لِمَا جَاءَ فِي
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ كَبِيرَةً بَلْ مِنْ أَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ وَأَعْظَمِهَا .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ
، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ : الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ،
وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ مَالِ
الْيَتِيمِ ، وَالرِّبَا ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ : { الْكَبَائِرُ تِسْعٌ
أَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ نَفْسِ مُؤْمِنٍ وَأَكْلُ الرِّبَا }
الْحَدِيثَ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَزَّارِ : وَفِي سَنَدِهَا مَنْ
ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ : {
الْكَبَائِرُ أَوَّلُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ
حَقِّهَا وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } الْحَدِيثَ .
وَفِي أُخْرَى لِلطَّبَرَانِيِّ فِي سَنَدِهَا ابْنُ
لَهِيعَةَ : { اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ السَّبْعَ : الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلَ
النَّفْسِ ، وَالْفِرَارَ مِنْ الزَّحْفِ ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلَ
الرِّبَا } الْحَدِيثَ .
وَفِي أُخْرَى لِابْنِ مَرْدُوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي
سَنَدِهَا ضَعِيفٌ : { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ كِتَابًا فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالسُّنَنُ وَالدِّيَاتُ ، وَبَعَثَ
بِهِ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ فِي الْكِتَابِ : إنَّ
أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ ،
وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ
وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ }
وَيُسْتَفَادُ مِنْ الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَيْضًا : أَنَّ آكِلَ الرِّبَا
وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ وَالسَّاعِيَ فِيهِ وَالْمُعِينَ عَلَيْهِ كُلَّهُمْ
فَسَقَةٌ ، وَأَنَّ كُلَّ مَالِهِ دَخَلَ فِيهِ
كَبِيرَةٌ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِبَعْضِ ذَلِكَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا وَهُوَ
ظَاهِرٌ جَلِيٌّ فَلِذَلِكَ عُدَّتْ تِلْكَ كُلُّهَا كَبَائِرَ .
( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : الْحِيَلُ فِي الرِّبَا وَغَيْرِهِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهَا
) قَالَ بَعْضُهُمْ : وَرَدَ أَنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا يُحْشَرُونَ فِي صُورَةِ الْكِلَابِ
وَالْخَنَازِيرِ مِنْ أَجْلِ حِيَلِهِمْ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا كَمَا مُسِخَ
أَصْحَابُ السَّبْتِ حِينَ تَحَيَّلُوا عَلَى اصْطِيَادِ الْحِيتَانِ الَّتِي
نَهَاهُمْ اللَّهُ عَنْ اصْطِيَادِهَا يَوْمَ السَّبْتِ ، فَحَفَرُوا لَهَا حِيَاضًا
تَقَعُ فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى يَأْخُذُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ فَلَمَّا
فَعَلُوا ذَلِكَ مَسَخَهُمْ اللَّهُ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، وَهَكَذَا الَّذِينَ
يَتَحَيَّلُونَ عَلَى الرِّبَا بِأَنْوَاعِ الْحِيَلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَا يَخْفَى عَلَيْهِ حِيَلُ الْمُحْتَالِينَ .
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ : يُخَادِعُونَ
اللَّهَ كَمَا يُخَادِعُونَ آدَمِيًّا وَلَوْ أَتَوْا الْأَمْرَ عِيَانًا كَانَ
أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ انْتَهَى .
تَنْبِيهٌ :
الْحِيلَةُ فِي الرِّبَا وَغَيْرِهِ قَالَ
بِتَحْرِيمِهَا الْإِمَامَانِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَقِيَاسُ الِاسْتِدْلَالِ لَهَا بِمَا ذُكِرَ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الرِّبَا
بِالْحِيلَةِ كَبِيرَةً عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِتَحْرِيمِ الْحِيلَةِ وَإِنْ
وَقَعَ الْخِلَافُ فِي حِلِّهِ حِينَئِذٍ ؛ وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى جَوَازِ الْحِيلَةِ فِي الرِّبَا
وَغَيْرِهِ ، وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا لِحِلِّهَا بِمَا صَحَّ { أَنَّ عَامِلَ خَيْبَرَ
جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ كَثِيرٍ
جَيِّدٍ فَقَالَ لَهُ أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ قَالَ لَا وَإِنَّمَا
نَرُدُّ الرَّدِيءَ وَنَأْخُذُ بِالصَّاعَيْنِ مِنْهُ صَاعًا جَيِّدًا فَنَهَاهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ رِبًا ثُمَّ
عَلَّمَهُ الْحِيلَةَ فِيهِ وَهِيَ أَنَّهُ يَبِيعُ الرَّدِيءَ بِدَرَاهِمَ
وَيَشْتَرِي بِهَا الْجَيِّدَ }
.
وَهَذِهِ مِنْ الْحِيَلِ الَّتِي وَقَعَ الْخِلَافُ
فِيهَا فَإِنَّ مَنْ مَعَهُ صَاعَانِ رَدِيئَانِ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ فِي
مُقَابِلَتِهِمَا صَاعًا جَيِّدًا لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ
تَوَسُّطِ عَقْدٍ آخَرَ لِأَنَّهُ رِبًا إجْمَاعًا ،
فَإِذَا بَاعَهُ الرَّدِيئِينَ بِدِرْهَمٍ وَاشْتَرَى بِالدِّرْهَمِ الَّذِي فِي
ذِمَّتِهِ الْجَيِّدَ خَرَجَ عَنْ الرِّبَا .
إذْ لَمْ يَقَعْ الْعَقْدُ إلَّا عَلَى مَطْعُومٍ
وَنَقْدٍ دُونَ مَطْعُومَيْنِ فَاضْمَحَلَّتْ صُورَةُ الرِّبَا ، فَأَيُّ وَجْهٍ لِلتَّحْرِيمِ
حِينَئِذٍ ؟ فَعُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ هَذِهِ الْحِيلَةَ الَّتِي
عَلَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَامِلِ خَيْبَرَ
نَصٌّ فِي جَوَازِ مُطْلَقِ الْحِيلَةِ فِي الرِّبَا وَغَيْرِهِ إذْ لَا قَائِلَ
بِالْفَرْقِ .
وَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أُولَئِكَ مِنْ قِصَّةِ
الْيَهُودِ الْمَذْكُورَةِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا
شَرْعٌ لَنَا .
وَالْأَصَحُّ الْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ خِلَافُهُ
وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَمَحَلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَرِدْ فِي شَرْعِنَا مَا
يُخَالِفُهُ ، وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا تَقَرَّرَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي شَرْعِنَا مَا يُخَالِفُهُ ، وَذَيْلُ
الِاسْتِدْلَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا طَوِيلٌ ، وَمَحَلُّ
بَسْطِهِ كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ .
( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
: مَنْعُ الْفَحْلِ ) عَنْ بُرَيْدَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ،
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ ، وَمَنْعُ الْفَحْلِ } ،
رَوَاهُ الْبَزَّارُ .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ
الْجَلَالِ الْبُلْقِينِيِّ لَكِنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إسْنَادُ حَدِيثِهِ
ضَعِيفٌ وَلَا يَبْلُغُ ضَرَرُهُ ضَرَرَ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ
لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ انْتَهَى .
وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مَنْعَ إعَارَةِ الْفَحْلِ لِلضِّرَابِ
غَايَةُ أَمْرِهِ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ
عَلَى مَا لَوْ اُضْطُرَّ أَهْلُ نَاحِيَةٍ إلَى فَحْلٍ لِفَقْدِ غَيْرِهِ
بِنَاحِيَتِهِمْ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَبْعُدُ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ تَمْكِينِهِ مِنْ
الضِّرَابِ لِأَنَّ فِي وِلَادَةِ الْإِنَاثِ حَيَاةً لِلْأَرْوَاحِ وَلَلْأَبَدَانِ
بِالْأَلْبَانِ وَغَيْرِهَا لَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ مَجَّانًا .
فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ تُتَصَوَّرُ الْإِجَارَةُ هُنَا ،
وَقَدْ صَحَّ نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ
وَهُوَ بَيْعُ ضِرَابِهِ أَوْ مَائِهِ أَوْ أُجْرَةُ ضِرَابِهِ ؟ قُلْت : يُمْكِنُ
تَصْوِيرُهَا بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ صَاحِبُ الْأُنْثَى الْفَحْلَ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ
زَمَنًا مُعَيَّنًا وَلَوْ سَاعَةً لَأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَا شَاءَ فَتَصِحَّ
هَذِهِ الْإِجَارَةُ كَمَا هُوَ قِيَاسُ كَلَامِهِمْ فِي بَابِهَا ،
وَيَسْتَوْفِيَ مَنَافِعَهُ وَلَوْ بِأَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أُنْثَاهُ لِأَنَّ مَا
لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لَهُ قَصْدًا يَجُوزُ لَهُ تَبَعًا .
الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ : أَكْلُ الْمَالِ بِالْبُيُوعَاتِ الْفَاسِدَةِ وَسَائِرِ وُجُوهِ
الْأَكْسَابِ الْمُحَرَّمَةِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } وَاخْتَلَفُوا
فِي الْمُرَادِ بِهِ ، فَقِيلَ الرِّبَا وَالْقِمَارُ وَالْغَصْبُ وَالسَّرِقَةُ
وَالْخِيَانَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَأَخْذُ الْمَالِ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ
، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ عِوَضٍ
وَعَلَيْهِ قِيلَ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ تَحَرَّجُوا مِنْ أَنْ يَأْكُلُوا
عِنْدَ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ النُّورِ { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ } إلَى آخِرِهَا وَقِيلَ
: هُوَ الْعُقُودُ الْفَاسِدَةُ ، وَالْوَجْهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّهَا
مُحْكَمَةٌ مَا نُسِخَتْ وَلَا تُنْسَخُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ا هـ ، وَذَلِكَ
لِأَنَّ الْأَكْلَ بِالْبَاطِلِ يَشْمَلُ كُلَّ مَأْخُوذٍ بِغَيْرِ حَقٍّ سَوَاءٌ
كَانَ عَلَى جِهَةِ الظُّلْمِ كَالْغَصْبِ وَالْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ ، أَوْ
الْهُزْؤِ وَاللَّعِبِ كَالْمَأْخُوذَةِ بِالْقِمَارِ وَالْمَلَاهِي وَسَيَأْتِي
ذَلِكَ كُلُّهُ ، أَوْ عَلَى جِهَةِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ كَالْمَأْخُوذَةِ
بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته قَوْلُ بَعْضِهِمْ : الْآيَةُ تَشْمَلُ
أَكْلَ الْإِنْسَانِ مَالَ نَفْسِهِ بِالْبَاطِلِ بِأَنْ يَتَفَقَّهَ فِي مُحَرَّمٍ
وَمَالِ غَيْرِهِ بِهِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وقَوْله تَعَالَى : { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً }
اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ التِّجَارَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْبَاطِلِ
بِأَيِّ مَعْنًى أُرِيدَ بِهِ وَتَأْوِيلُهُ بِالسَّبَبِ لِيَكُونَ مُتَّصِلًا
لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ وَالتِّجَارَةُ وَإِنْ اخْتَصَّتْ بِعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ
إلَّا أَنَّ نَحْوَ الْقَرْضِ وَالْهِبَةِ مُلْحَقٌ بِهَا بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى .
وقَوْله تَعَالَى : { عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أَيْ
طِيبِ نَفْسٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ ، وَتَخْصِيصُ الْأَكْلِ فِيهَا بِالذِّكْرِ
لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ بِهِ بَلْ لِكَوْنِهِ أَغْلَبَ وُجُوهِ
الِانْتِفَاعَاتِ عَلَى حَدِّ { إنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
نَارًا } وَأَدِلَّةُ هَذَا الْمَبْحَثِ وَالتَّغْلِيظَاتُ الْوَارِدَةُ فِيهِ
مِنْ السُّنَّةِ كَثِيرَةٌ فَلْنَقْتَصِرْ عَلَى بَعْضِهَا .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ
أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } وَقَالَ تَعَالَى
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }
ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ
إلَى السَّمَاءِ : يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمُشْرَبُهُ حَرَامٌ
وَمَلْبَسُهُ حَرَامُ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { طَلَبُ
الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { طَلَبُ الْحَلَالِ
فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرَائِضِ
} .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { مَنْ أَكَلَ طَيِّبًا وَعَمِلَ فِي سُنَّةٍ وَأَمِنَ
النَّاسُ بَوَائِقَهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّ
هَذَا فِي أُمَّتِك الْيَوْمَ كَثِيرٌ ، قَالَ وَسَيَكُونُ فِي قُرُونٍ بَعْدِي } .
وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { أَرْبَعٌ
إذَا كُنَّ فِيك فَلَا عَلَيْك مَا فَاتَك مِنْ الدُّنْيَا : حِفْظُ أَمَانَةٍ ،
وَصِدْقُ حَدِيثٍ ، وَحُسْنُ خُلُقٍ ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ
وَصَلَحَتْ سَرِيرَتُهُ وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ .
طُوبَى لِمَنْ عَمِلَ بِعِلْمِهِ وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ
مِنْ مَالِهِ وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَك
تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ
.
وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إنَّ الْعَبْدَ
لَيَقْذِفُ
اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ
مِنْهُ عَمَلٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ
سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ
} .
وَالْبَزَّارُ وَفِيهِ نَكَارَةٌ : { إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ
لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَا صَلَاةَ وَلَا زَكَاةَ ، إنَّهُ مَنْ أَصَابَ مَالًا
مِنْ حَرَامٍ فَلَبِسَ جِلْبَابًا يَعْنِي قَمِيصًا لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ
حَتَّى يُنَحِّيَ ذَلِكَ الْجِلْبَابَ عَنْهُ ؛ إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
أَكْرَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ رَجُلٍ أَوْ صَلَاتَهُ وَعَلَيْهِ
جِلْبَابٌ مِنْ حَرَامٍ } .
وَأَحْمَدُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ : { مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَفِيهِ دِرْهَمٌ مِنْ
حَرَامٍ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ
ثُمَّ أَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ثُمَّ قَالَ صَمْتًا إنْ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْته يَقُولُهُ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ اشْتَرَى سَرِقَةً وَهُوَ
يَعْلَمُ أَنَّهَا سَرِقَةٌ فَقَدْ اشْتَرَكَ فِي عَارِهَا وَإِثْمِهَا } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : فِي إسْنَادِهِ
احْتِمَالٌ لِلتَّحْسِينِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَذْهَبَ بِهِ إلَى الْجَبَلِ
فَيَحْتَطِبَ ثُمَّ يَأْتِيَ فَيَحْمِلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَأْكُلَ خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أَنْ يَجْعَلَ فِي فِيهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ جَمَعَ مَالًا حَرَامًا ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ
لَهُ فِيهِ أَجْرٌ وَكَانَ إصْرُهُ عَلَيْهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ كَسَبَ مَالًا حَرَامًا
فَأَعْتَقَ مِنْهُ وَوَصَلَ مِنْهُ رَحِمَهُ كَانَ ذَلِكَ إصْرًا عَلَيْهِ } .
وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ حَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ :
{ إنَّ اللَّهَ قَسَّمَ بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَّمَ بَيْنَكُمْ
أَرْزَاقَكُمْ ، وَإِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا
يُحِبُّ ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إلَّا لِمَنْ يُحِبُّ ، وَمَنْ أَعْطَاهُ
اللَّهُ
الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ لَأَسْلَمَ أَوْ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى سَلِمَ أَوْ يُسْلِمُ
قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ،
قَالُوا وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ غِشُّهُ وَظُلْمُهُ ،
وَلَا يَكْسِبُ عَبْدٌ مَالًا مِنْ حَرَامٍ فَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ فَيُقْبَلُ مِنْهُ
وَلَا يُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظُفْرِهِ
إلَّا كَانَ زَادَهُ إلَى النَّارِ
.
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَمْحُو السَّيِّئَ
بِالسَّيِّئِ ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئَ بِالْحَسَنِ ، إنَّ الْخَبِيثَ لَا
يَمْحُو الْخَبِيثَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ : {
سُئِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ
النَّارَ ؟ قَالَ الْفَمُ وَالْفَرْجُ ، وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ
النَّاسَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ : { مَا تَزُولُ قَدَمَا
عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا
أَفْنَاهُ ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ
اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ ، مَنْ
اكْتَسَبَ فِيهَا مَالًا مِنْ حِلِّهِ وَأَنْفَقَهُ فِي حَقِّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَوْرَدَهُ جَنَّتَهُ ، وَمَنْ اكْتَسَبَ فِيهَا مَالًا مِنْ غَيْرِ
حِلِّهِ وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ أَوْرَدَهُ اللَّهُ دَارَ الْهَوَانِ ، وَرُبَّ
مُتَخَوِّضٍ فِي مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ،
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ لَحْمٌ وَدَمٌ نَبَتَا مِنْ سُحْتٍ وَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ
سُحْتٍ إلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ } ، وَالسُّحْتُ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ
أَوْ ضَمٍّ : الْحَرَامُ ، وَقِيلَ الْخَبِيثُ مِنْ الْمَكَاسِبِ .
وَفِي رِوَايَةٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ جَسَدٌ
غُذِّيَ بِحَرَامٍ } .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ صَرِيحُ مَا فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : قَالَ الْعُلَمَاءُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ : وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ الْمَكَّاسُ وَالْخَائِنُ وَالسَّارِقُ
وَالْبَطَّاطُ وَآكِلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ وَشَاهِدُ
الزُّورِ ، وَمَنْ اسْتَعَارَ شَيْئًا فَجَحَدَهُ ، وَآكِلُ الرِّشْوَةِ ، وَمُنْتَقِصُ
الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ، وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا فِيهِ عَيْبٌ فَغَطَّاهُ ،
وَالْمُقَامِرُ وَالسَّاحِرُ وَالْمُنَجِّمُ وَالْمُصَوِّرُ وَالزَّانِيَةُ
وَالنَّائِحَةُ وَالدَّلَّالُ إذَا أَخَذَ أُجْرَتَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ،
وَمُخَبِّرُ الْمُشْتَرِي بِالزَّائِدِ ، وَمَنْ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ
انْتَهَى .
وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قَدَّمْته فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ
مِنْ أَنَّ الْبَاطِلَ فِيهَا يَعُمُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا وَمَا فِي
مَعْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أُخِذَ بِغَيْرِ وَجْهِهِ الشَّرْعِيِّ .
وَرَدَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُنَاسٍ مَعَهُمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ
كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ حَتَّى إذَا جِيءَ بِهِمْ جَعَلَهَا اللَّهُ
هَبَاءً مَنْثُورًا ثُمَّ يَقْذِفُ بِهِمْ فِي النَّارِ .
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ
كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيُزَكُّونَ وَيَحُجُّونَ غَيْرَ أَنَّهُمْ
كَانُوا إذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ الْحَرَامِ أَخَذُوهُ فَأَحْبَطَ اللَّهُ
أَعْمَالَهُمْ } .
وَرُئِيَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ
لَهُ مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك ؟ قَالَ خَيْرًا غَيْرَ أَنِّي مَحْبُوسٌ عَنْ
الْجَنَّةِ بِإِبْرَةٍ اسْتَعَرْتهَا وَلَمْ أَرُدَّهَا .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : مَنْ أَنْفَقَ
الْحَرَامَ فِي الطَّاعَةِ فَهُوَ كَمَنْ طَهَّرَ الثَّوْبَ بِالْبَوْلِ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنَّا نَدَعُ
تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةً مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ .
وَقَالَ بَلْتَعَةَ بْنُ الْوَرْدِ : لَوْ قُمْت قِيَامَ
السَّارِيَةِ مَا نَفَعَك حَتَّى تَنْظُرَ مَا يَدْخُلُ فِي بَطْنِك .
وَرُوِيَ فِي حَدِيثٍ : { إنَّ مَلَكًا عَلَى بَيْتِ
الْمُعَذَّبِينَ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّ لَيْلَةٍ : مَنْ أَكَلَ
حَرَامًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ } .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : لَأَنْ أَرُدَّ دِرْهَمًا
مِنْ شُبْهَةٍ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِائَةِ
أَلْفِ وَمِائَةِ أَلْفٍ .
وَفِي حَدِيثٍ : { مَنْ حَجّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَقَالَ
لَبَّيْكَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ وَحَجُّك
مَرْدُودٌ عَلَيْك } .
وَقَالَ ابْنُ أَسْبَاطٍ : إذَا تَعَبَّدَ الشَّابُّ
قَالَ الشَّيْطَانُ لِأَعْوَانِهِ : اُنْظُرُوا مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ ، فَإِنْ
كَانَ مَطْعَمُهُ مَطْعَمَ سُوءٍ يَقُولُ دَعُوهُ يَتْعَبُ وَيَجْتَهِدُ فَقَدْ كَفَاكُمْ
نَفْسَهُ أَيْ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ مَعَ أَكْلِهِ الْحَرَامَ لَا يَنْفَعُهُ .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : أَطِبْ مَطْعَمَك
وَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَقُومَ اللَّيْلَ وَلَا تَصُومَ النَّهَارَ .
وَصَحَّ : { لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ الْمُتَّقِينَ
حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ } .
وَصَحَّ : { فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ
الْعِبَادَةِ ، وَخَيْرُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا
يَرِيبُك ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إلَيْهِ
الْقَلْبُ ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ الصَّدْرُ وَإِنْ أَفْتَاك
النَّاسُ وَأَفْتَوْك } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : { إنَّ
الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ
مُشْتَبِهَاتٌ ، وَسَأَضْرِبُ لَكُمْ فِي ذَلِكَ مَثَلًا : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى
حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَا حَرَّمَ وَإِنَّ مَنْ يَرْتَعُ حَوْلَ الْحِمَى
يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطَهُ فَإِنَّهُ مَنْ يُخَالِطُ الرِّيبَةَ يُوشِكُ أَنَّهُ
يَجْسُرُ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ
وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ ، فَمَنْ تَرَكَ مَا
يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ ، وَمَنْ اجْتَرَأَ
أَيْ بِالْهَمْزِ أَقْدَمَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ
أَوْشَكَ أَيْ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ وَثَالِثِهِ كَادَ وَأَسْرَعَ
أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ ، وَالْمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ وَمَنْ يَرْتَعُ
حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ } .
الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّمَانُونَ بَعْدَ
الْمِائَةِ الِاحْتِكَارُ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا فَهُوَ خَاطِئٌ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَاجَهْ : { لَا
يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ } .
قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ : الْخَاطِئُ بِالْهَمْزَةِ
الْعَاصِي الْآثِمُ .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ وَالْحَاكِمُ
: { مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ
وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ ، وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ
جَائِعًا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَفِي هَذَا
الْمَتْنِ غَرَابَةٌ وَبَعْضُ أَسَانِيدِهِ جَيِّدَةٌ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ } رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
وَالْحَاكِمُ كِلَاهُمَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ ، عَنْ ثَوْبَانَ ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ
.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ وَالْأَزْدِيُّ لَا يُتَابَعُ عَلِيَّ
بْنَ سَالِمٍ عَلَى حَدِيثِهِ ، وَقَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : لَا أَعْلَمُ
لِعَلِيِّ بْنِ سَالِمٍ غَيْرَ هَذَا الْحَدِيثِ وَهُوَ فِي عِدَادِ
الْمَجْهُولِينَ انْتَهَى ، لَكِنْ ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ
وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ مُتَّصِلٍ : { مَنْ احْتَكَرَ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ }
وَالْأَصْبَهَانِيّ { : إنَّ طَعَامًا أُلْقِيَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
فَقَالَ : مَا هَذَا الطَّعَامُ ؟ فَقَالُوا طَعَامٌ جُلِبَ إلَيْنَا أَوْ عَلَيْنَا
فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الَّذِينَ مَعَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ اُحْتُكِرَ .
قَالَ وَمَنْ احْتَكَرَهُ ؟ قَالُوا احْتَكَرَهُ
فَرُّوخُ وَفُلَانٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا فَأَتَيَاهُ
فَقَالَ مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ ؟ فَقَالُوا يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ ، فَقَالَ عُمَرُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
: مَنْ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ
ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ فَرُّوخُ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنِّي أُعَاهِدُ اللَّهَ وَأُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لَا أَعُودَ
إلَى احْتِكَارِ طَعَامٍ أَبَدًا فَتَحَوَّلَ إلَى بَرِّ مِصْرَ ، وَأَمَّا
مَوْلَى عُمَرَ فَقَالَ نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ فَزَعَمَ أَبُو
يَحْيَى أَحَدُ رُوَاتِهِ أَنَّهُ رَأَى مَوْلَى عُمَرَ مَجْذُومًا مَشْدُوخًا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ وَاهٍ : { بِئْسَ الْعَبْدُ
الْمُحْتَكِرُ إنْ أَرْخَصَ اللَّهُ الْأَسْعَارَ حَزِنَ وَإِنْ أَغْلَاهَا فَرِحَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنْ سَمِعَ بِرُخْصٍ سَاءَهُ وَإِنْ
سَمِعَ بِغَلَاءٍ فَرِحَ } ، وَذِكْرُ رَزِينٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ اُعْتُرِضَ
بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ أُصُولِهِ .
وَأَخْرَجَ رَزِينٌ أَيْضًا وَفِيهِ الِاعْتِرَاضُ
الْمَذْكُورُ : { أَهْلُ الْمَدَائِنِ هُمْ الْحُبَسَاءُ فِي اللَّهِ فَلَا
تَحْتَكِرُوا عَلَيْهِمْ الْأَقْوَاتَ وَلَا تُغْلُوا عَلَيْهِمْ الْأَسْعَارَ
فَإِنَّ مَنْ احْتَكَرَ عَلَيْهِمْ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ثُمَّ تَصَدَّقَ
بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَفَّارَةٌ
} .
وَأَخْرَجَ رَزِينٌ أَيْضًا : { يُحْشَرُ الْحَاكِرُونَ وَقَتَلَةُ
الْأَنْفُسِ فِي دَرَجَةٍ ، وَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ سِعْرِ الْمُسْلِمِينَ
يُغْلِيهِ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعَذِّبَهُ فِي مُعْظَمِ
النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
.
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَفِي هَذَا
الْحَدِيثِ وَالْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُ نَكَارَةٌ ظَاهِرَةٌ .
وَأَحْمَدُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ : " ثَقُلَ
مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فَأَتَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ يَعُودُهُ ،
فَقَالَ هَلْ تَعْلَمُ يَا مَعْقِلُ أَنِّي سَفَكْتُ دَمًا حَرَامًا ؟ قَالَ : لَا
أَعْلَمُ .
قَالَ : هَلْ تَعْلَمُ أَنِّي دَخَلْت فِي شَيْءٍ مِنْ
أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ : مَا عَلِمْتُ .
قَالَ أَجْلِسُونِي ، ثُمَّ قَالَ اسْمَعْ يَا عُبَيْدَ
اللَّهِ حَتَّى أُحَدِّثَك شَيْئًا مَا سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً
وَلَا مَرَّتَيْنِ ، سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ
الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعَظِيمٍ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
قَالَ : أَنْتَ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ
إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ
يَقْذِفَهُ فِي مُعْظَمٍ مِنْ النَّارِ
} .
وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ قَالَ : {
مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ يُغْلِيهِ عَلَيْهِمْ كَانَ
حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَقْذِفَهُ فِي جَهَنَّمَ رَأْسُهُ إلَى أَسْفَلِهِ } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : رُوَاةُ هَذَا الْحَدِيثِ
كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مَعْرُوفُونَ إلَّا وَاحِدًا مِنْهُمْ لَا أَعْرِفُهُ ، وَمَرَّ
خَبَرُ : { احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إلْحَادٌ } .
وَرَوَى الْحَاكِمُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ فِيهِ مَقَالٌ :
{ مَنْ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ
خَاطِئٌ ، وَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ } .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحِ بَعْضُهَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ كَاللَّعْنَةِ وَبَرَاءَةِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْهُ وَالضَّرْبِ بِالْجُذَامِ وَالْإِفْلَاسِ وَغَيْرِهَا
، وَبَعْضُ هَذِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْكَبِيرَةِ ، فَاتَّجَهَ عَدُّ ذَلِكَ
كَبِيرَةً لَكِنْ سَيَأْتِي قَرِيبًا عَنْ الرَّوْضَةِ أَنَّهُ صَغِيرَةٌ بِمَا
فِيهِ .
ثُمَّ الِاحْتِكَارُ الْمُحَرَّمُ عِنْدَنَا هُوَ أَنْ
يَمْسِكَ مَا اشْتَرَاهُ فِي الْغَلَاءِ لَا الرُّخْصِ مِنْ الْقُوتِ حَتَّى
نَحْوِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ بِقَصْدِ أَنْ يَبِيعَهُ بِأَغْلَى مِمَّا
اشْتَرَاهُ بِهِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَأَلْحَقَ الْغَزَالِيُّ بِالْقُوتِ كُلَّ مَا يُعِينُ
عَلَيْهِ كَاللَّحْمِ وَالْفَوَاكِهِ ، وَمَتَى اخْتَلَّ شَرْطٌ مِمَّا ذُكِرَ
فَلَا حُرْمَةَ كَأَنْ اشْتَرَاهُ وَلَوْ زَمَنَ
الْغَلَاءِ لَا لِيَبِيعَهُ بَلْ لَيَمْسِكَهُ
لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ أَوْ لِيَبِيعَهُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ بِهِ أَوْ
أَقَلَّ أَوْ لَمْ يَشْتَرِهِ ، كَأَنْ أَمْسَكَ غَلَّةَ ضَيْعَتِهِ وَلَوْ
لِيَبِيعَهَا بِأَغْلَى الْأَثْمَانِ نَعَمْ إذَا اشْتَدَّتْ ضَرُورَةُ النَّاسِ لَزِمَهُ
الْبَيْعُ فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَعِنْدَ عَدَمِ
الِاشْتِدَادِ الْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا فَوْقَ كِفَايَةِ سَنَةٍ
لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مَا لَمْ يَخَفْ جَائِحَةً فِي زَرْعِ السَّنَةِ
الثَّانِيَةِ ، وَإِلَّا فَلَهُ إمْسَاكُ كِفَايَتِهَا فَلَا كَرَاهَةَ وَلَا
احْتِكَارَ فِي غَيْرِ الْقُوتِ وَنَحْوِهِ مِمَّا مَرَّ ، نَعَمْ صَرَّحَ
الْقَاضِي بِأَنَّهُ يُكْرَهُ إمْسَاكُ الثِّيَابِ أَيْ احْتِكَارًا .
فَإِنْ قُلْت : يُنَافِي مَا قَرَّرْته أَنَّ سَعِيدَ بْنَ
الْمُسَيِّبِ رَاوِي حَدِيثِ { لَا يَحْتَكِرُ إلَّا خَاطِئٌ } قِيلَ لَهُ
فَإِنَّك تَحْتَكِرُ قَالَ إنَّ مَعْمَرًا الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُ بِهَذَا
الْحَدِيثِ كَانَ يَحْتَكِرُ .
قُلْت : قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مِنْ الْأَمْوَالِ مَا لَا
يَحْرُمُ احْتِكَارُهُ كَالثِّيَابِ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْ سَعِيدٍ عَلَيْهَا
أَوْ نَحْوِهَا ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَشَرْطُ تَحْرِيمِ احْتِكَارِ الْقُوتِ
مَا مَرَّ ، فَمِنْ أَيْنَ لَنَا أَنَّهُمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ مَعَ وُجُودِ
تِلْكَ الشُّرُوطِ ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَسَعِيدٌ وَمَعْمَرٌ مُجْتَهِدَانِ
فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى غَيْرِهِمَا بِهِمَا ، ثُمَّ رَأَيْتُ
ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ وَجَمَاعَةً آخَرِينَ غَيْرَهُ قَالُوا مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ
عَنْ سَعِيدٍ وَمَعْمَرٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ
لِأَنَّهُمَا إنَّمَا كَانَا يَحْتَكِرَانِ الزَّيْتَ وَالزَّيْتُ لَيْسَ بِقُوتٍ .
قَالُوا وَكَذَا حَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو
حَنِيفَةَ وَآخَرُونَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : إنَّهُ
الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَجَوَابُ سَعِيدٍ أَنَّ مَعْمَرًا كَانَ
يَحْتَكِرُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَحْتَكِرُ مَا لَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ
كَالزَّيْتِ وَالْأُدُمِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَالْحِكْمَةُ فِي تَحْرِيمِ
الِاحْتِكَارِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ
كَمَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَ إنْسَانٍ طَعَامٌ
وَاضْطُرَّ إلَيْهِ النَّاسُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُمْ .
التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْوَالِدَةِ وَوَلَدِهَا الْغَيْرِ
الْمُمَيِّزِ بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لَا بِنَحْوِ الْعِتْقِ وَالْوَقْفِ أَخْرَجَ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَالدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ
وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { لَعَنْ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدَةِ
وَوَلَدِهَا وَبَيْنَ الْأَخِ وَأَخِيهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلدَّارَقُطْنِيِّ : { مَلْعُونٌ مَنْ فَرَّقَ
} وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي ابْنَ عَيَّاشٍ : هَذَا مُبْهَمٌ هُوَ عِنْدَنَا
فِي السَّبْيِ وَالْوَالِدِ وَفِيهِ - كَاَلَّذِي قَبْلَهُ - انْقِطَاعٌ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَبِفَرْضِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِيهِ إلَّا الْأَوَّلُ
فَفِيهِ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ أَيْضًا ، لِأَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَ
الْإِنْسَانِ وَأَحِبَّتِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَمْرٌ مُشِقٌّ عَلَى النَّفْسِ
جِدًّا .
قُلْت : وَكَمَا أَخَذُوا مِنْ هَذَا حُرْمَةَ التَّفْرِيقِ
الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْهُ الْوَعِيدَ ، كَذَلِكَ نَأْخُذُ مِنْهُ
كَوْنَهُ كَبِيرَةً لِأَنَّهُ حَيْثُ سُلِّمَ أَنَّهُ يُفْهَمُ الْوَعِيدُ
فَذَلِكَ الْوَعِيدُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهَا ظَاهِرُهُ وَعِيدٌ شَدِيدٌ .
فَإِنْ قُلْت : مَا وَجْهُ الْوَعِيدِ فِيهِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى يَقُولُ : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ
وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ
} الْآيَاتِ ، فَظَاهِرُهَا أَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاقِعٌ
لِكُلِّ أَحَدٍ فَكَيْفَ يُفْهَمُ مِنْهُ الْوَعِيدُ ؟ قُلْت : سِيَاقُ الْحَدِيثِ
نَصٌّ فِي أَنَّهُ وَعِيدٌ وَحِينَئِذٍ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ
فِي الْآخِرَةِ ، وَمَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ
يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا } .
وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا يَشْمَلُ
الْجَنَّةَ ، فَمَا فِي الْآيَةِ يَكُونُ فِي الْمَوْقِفِ وَمَا فِي الْحَدِيثِ
يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ ، وَكَمَا أَخَذُوا مِنْ حَدِيثِ الْحَرِيرِ أَنَّ
لُبْسَهُ كَبِيرَةٌ كَمَا مَرَّ ، كَذَلِكَ أَخَذْنَا مِنْ خَبَرِ التَّفْرِيقِ
أَنَّهُ كَبِيرَةٌ بِجَامِعِ أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْجَزَاءَ عَلَى
الْعَمَلِ بِنَظِيرِهِ ، وَكَمَا أَنَّ خَبَرَ الْحَرِيرِ مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
: { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } كَذَلِكَ خَبَرُ التَّفْرِيقِ مُخَصِّصٌ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } وَشَرْطُ حُرْمَةِ التَّفْرِيقِ
أَنْ يَكُونَ بَيْنِ أَمَةٍ وَوَلَدِهَا الْغَيْرِ الْمُمَيِّزِ لِصِغَرٍ أَوْ
جُنُونٍ بِنَحْوِ بَيْعٍ لِغَيْرِ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ أَوْ قِسْمَةٍ أَوْ
فَسْخٍ وَإِنْ رَضِيَتْ الْأُمُّ ، لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا أَيْضًا وَيَبْطُلُ
ذَلِكَ التَّصَرُّفُ ، وَالْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ لِلْأَبِ أَوْ الْأُمِّ
وَإِنْ بَعُدَا كَالْأُمِّ عِنْدَ فَقْدِهَا .
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَلَدِ مَعَ الْأَبِ أَوْ الْجَدِّ
وَكَذَا إنْ مَيَّزَ بِأَنْ صَارَ يَأْكُلُ وَحْدَهُ وَيَشْرَبُ وَحْدَهُ
وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ وَلَا يَتَقَيَّدُ بِسِنٍّ ، فَقَدْ يَحْصُلُ فِي نَحْوِ
الْخَمْسِ وَقَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْ السَّبْعِ وَيُكْرَهُ التَّفْرِيقُ وَلَوْ
بَعْدَ الْبُلُوغِ وَكَذَا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا .
وَيُحَرَّمُ التَّفْرِيقُ بِالسَّفَرِ أَيْضًا بَيْنَ
الْأَمَةِ وَوَلَدِهَا الْغَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَبَيْنَ الزَّوْجَةِ وَوَلَدِهَا
بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ نَحْوَ بَيْعِ وَلَدِ الْبَهِيمَةِ إنْ اسْتَغْنَى عَنْ
اللَّبَنِ أَوْ لَمْ يَسْتَغْنِ لَكِنْ اشْتَرَاهُ لِلذَّبْحِ ، فَإِنْ لَمْ
يَسْتَغْنِ وَلَا قَصَدَ الذَّبْحَ حُرِّمَ وَبَطَلَ نَحْوُ الْبَيْعِ .
الْكَبِيرَةُ التِّسْعُونَ وَالْحَادِيَةُ
وَالثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ
وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ
) : نَحْوُ بَيْعِ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَنَحْوِهِمَا
مِمَّنْ عُلِمَ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا ، وَالْأَمْرَدِ مِمَّنْ عُلِمَ
أَنَّهُ يَفْجُرُ بِهِ ، وَالْأَمَةِ مِمَّنْ يَحْمِلُهَا عَلَى الْبِغَاءِ ، وَالْخَشَبِ
وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ آلَةَ لَهْوٍ ، وَالسِّلَاحِ لِلْحَرْبِيِّينَ
لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى قِتَالِنَا ، وَالْخَمْرِ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ
يَشْرَبُهَا ، وَنَحْوُ الْحَشِيشَةِ مِمَّا مَرَّ مِمَّنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ
يَسْتَعْمِلُهَا وَعَدُّ هَذِهِ السَّبْعِ مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَرَهُ ،
وَلَكِنَّهُ غَيْرُ بَعِيدٍ لِعِظَمِ ضَرَرِهَا مَعَ قَاعِدَةِ أَنَّ
لِلْوَسَائِلِ حُكْمَ الْمَقَاصِدِ ، وَالْمَقَاصِدُ فِي هَذِهِ كُلِّهَا
كَبَائِرُ فَلْتَكُنْ وَسَائِلُهَا كَذَلِكَ ، وَالْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ
قُبَيْلَ كِتَابِ الطَّهَارَةِ فِيمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ
وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ شَاهِدَةٌ
لِذَلِكَ ، وَالظَّنُّ فِي ذَلِكَ كَالْعِلْمِ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّحْرِيمِ .
وَأَمَّا لِلْكَبِيرَةِ فَيَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِيهِ
وَكَذَلِكَ يَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِيمَا لَوْ بَاعَ أَمَتَهُ مِمَّنْ يَحْمِلُهَا
عَلَى الْبِغَاءِ ، وَفِيمَا لَوْ بَاعَ السِّلَاحَ لِبُغَاةٍ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ
عَلَى قِتَالِنَا ، وَفِي بَيْعِ الدِّيكِ لِمَنْ يُهَارِشُ بِهِ وَالثَّوْرِ
لِمَنْ يُنَاطِحُ بِهِ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا يَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِي كَوْنِهَا
كَبَائِرَ وَبَعْضُهَا أَقْرَبُ إلَى الْكَبِيرَةِ مِنْ بَعْضٍ ، ثُمَّ رَأَيْت
شَيْخَ الْإِسْلَامِ الْعَلَائِيَّ قَالَ : نَصَّ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّ
بَيْعَ الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ يَفْسُقُ مُتَعَاطِيهِ وَكَذَا يَكُونُ حُكْمُ
الشِّرَاءِ وَأَكْلِ الثَّمَنِ وَالْحَمْلِ وَالسَّعْيِ انْتَهَى ، وَسَيَأْتِي
ذَلِكَ بِزِيَادَةٍ فِي مَبْحَثِ الْخَمْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّامِنَةُ
وَالتَّاسِعَةُ وَالتِّسْعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ ) : النَّجْشُ وَالْبَيْعُ عَلَى
بَيْعِ الْغَيْرِ وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَائِهِ وَعَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ
كَبَائِرَ مُحْتَمَلٌ لِأَنَّ فِيهَا إضْرَارًا عَظِيمًا بِالْغَيْرِ وَلَا شَكَّ
أَنَّ إضْرَارَ الْغَيْرِ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً يَكُونُ كَبِيرَةً كَمَا
مَرَّتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ مِنْ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ
، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ كَبِيرَةٌ لَكِنَّ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ أَنَّ مِنْ
الصَّغَائِرِ الِاحْتِكَارَ وَالْبَيْعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ ، وَكَذَا السَّوْمُ
وَالْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَتِهِ وَبَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي ، وَتَلَقِّي
الرُّكْبَانِ وَالتَّصْرِيَةُ وَبَيْعُ الْمَعِيبِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ
وَاِتِّخَاذُ الْكَلْبِ الَّذِي لَا يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ وَإِمْسَاكُ الْخَمْرِ
غَيْرِ الْمُحْتَرَمَةِ وَبَيْعُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ ، وَكَذَا الْمُصْحَفُ
وَسَائِرُ كُتُبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ انْتَهَى وَفِي أَكْثَرِهِ نَظَرٌ ،
وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ عَلَى تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ بِأَنَّهَا الَّذِي
فِيهِ الْحَدُّ .
أَمَّا عَلَى تَعْرِيفِهَا بِأَنَّهَا مَا فِيهِ وَعِيدٌ
شَدِيدٌ فَلَا ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي الْغِشِّ الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ وَكَذَا
فِي إيذَاءِ الْمُسْلِمِ الشَّدِيدِ وَمَرَّ فِي الِاحْتِكَارِ ذَلِكَ أَيْضًا ، فَالْأَوْفَقُ
لِلتَّعْرِيفِ بِأَنَّهَا مَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ مَا ذَكَرْته .
ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ أَشَارَ إلَى مَا صَرَّحْت
بِهِ فَقَالَ : وَفِي بَعْضِ مَا أَطْلَقَهُ فِي الرَّوْضَةِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ
صَغِيرَةٌ نَظَرٌ وَكَأَنَّ مَا ذَكَرْته وَأَشَارَ إلَيْهِ الْأَذْرَعِيُّ هُوَ
سَبَبُ حَذْفِ بَعْضِ مُخْتَصَرِي الرَّوْضَةِ لِتِلْكَ الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ
عَنْهَا .
وَالنَّجْشُ هُوَ أَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ لَا
لِرَغْبَةٍ بَلْ لِيَخْدَعَ غَيْرَهُ
.
وَالْبَيْعُ عَلَى الْبَيْعِ هُوَ أَنْ يَقُولَ
لِلْمُشْتَرِي زَمَنَ الْخِيَارِ رُدَّ هَذَا وَأَنَا أَبِيعُك أَحْسَنَ مِنْهُ
بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ أَوْ مِثْلَهُ بِأَنْقَصَ .
وَالشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ أَنْ يَقُولَ لِلْبَائِعِ
زَمَنَ
الْخِيَارِ افْسَخْ لِأَشْتَرِيَ مِنْك هَذَا الْمَبِيعَ
بِأَزْيَدَ .
قَالَ أَئِمَّتُنَا : وَيَحْرُمُ السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ
الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ بِأَنْ يَزِيدَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ أَنْ يُصَرِّحَا بِاسْتِقْرَارِهِ
أَوْ يَعْرِضَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَرْخَصَ مِنْهُ ، وَتَحْرِيمُهُ بَعْدَ
الْبَيْعِ وَقَبْلَ لُزُومِهِ أَشَدُّ وَهُوَ الْبَيْعُ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ
وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ غَيْرِهِ
.
نَعَمْ إنْ رَآهُ مَغْبُونًا جَازَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ
ابْنِ كَجٍّ .
وَالْأَوْجَهُ الْمُوَافِقُ لِإِطْلَاقِهِمْ
وَالْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ ، وَبَيْعُ رَجُلٍ قَبْلَ اللُّزُومِ مِنْ
الْمُشْتَرِي عَيْنًا كَاَلَّتِي اشْتَرَاهَا بِأَقَلَّ كَالْبَيْعِ عَلَى
الْبَيْعِ وَطَلَبُهَا قَبْلَ اللُّزُومِ أَيْضًا مِنْ الْمُشْتَرِي بِأَكْثَرَ
كَالشِّرَاءِ عَلَى الشِّرَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا يُؤَدِّي إلَى الْفَسْخِ
مِنْ الصُّورَتَيْنِ فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ .
( الْكَبِيرَةُ الْمُوَفِّيَةُ الْمِائَتَيْنِ :
الْغِشُّ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ كَالتَّصْرِيَةِ وَهِيَ مَنْعُ حَلْبِ ذَاتِ
اللَّبَنِ إيهَامًا لِكَثْرَتِهِ ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ فَلَيْسَ مِنَّا ، وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ
مِنَّا } .
وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْهُ :
أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ
طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أُصْبُعُهُ بَلَلًا فَقَالَ مَا هَذَا
يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ - أَيْ الْمَطَرُ - يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ أَفَلَا جَعَلْته فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ
النَّاسُ ؟ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَأَبُو دَاوُد : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَسَأَلَهُ كَيْفَ تَبِيعُ ؟
فَأَخْبَرَهُ فَأَوْحَى إلَيْهِ أَنْ أَدْخِلْ يَدَك فِيهِ فَإِذَا هُوَ مَبْلُولٌ
، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ مِنَّا
مَنْ غَشَّ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَرَّ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَعَامٍ وَقَدْ حَسَّنَهُ صَاحِبُهُ
فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَإِذَا الطَّعَامُ رَدِيءٌ ، فَقَالَ بِعْ هَذَا عَلَى
حِدَةٍ وَهَذَا عَلَى حِدَةٍ فَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ
: { خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى السُّوقِ فَرَأَى طَعَامًا
مُصَبَّرًا فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ فَأَخْرَجَ طَعَامًا رَطْبًا قَدْ أَصَابَتْهُ
السَّمَاءُ .
فَقَالَ لِصَاحِبِهِ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا ؟ قَالَ :
وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّهُ لَطَعَامٌ وَاحِدٌ ، قَالَ أَفَلَا عَزَلْت
الرَّطْبَ عَلَى حِدَتِهِ وَالْيَابِسَ عَلَى حِدَتِهِ فَتَتَبَايَعُونَ مَا
تَعْرِفُونَ ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ
ثِقَاتٌ : { مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَقَالَ : يَا
صَاحِبَ الطَّعَامِ أَسْفَلُ هَذَا مِثْلُ أَعْلَاهُ ؟ قَالَ نَعَمْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ
فَلَيْسَ مِنْهُمْ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْأَصْبَهَانِيّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ
بِهِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ أَنَّهُ مَرَّ بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ
فَإِذَا إنْسَانٌ يَحْمِلُ لَبَنًا يَبِيعُهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ أَبُو هُرَيْرَةَ
فَإِذَا هُوَ قَدْ خَلَطَهُ بِالْمَاءِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ : "
كَيْفَ بِك إذَا قِيلَ لَك يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلِّصْ الْمَاءَ مِنْ اللَّبَنِ " .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْبَيْهَقِيُّ :
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ
: وَلَا أَعْلَمُ فِي رِوَايَتِهِ مَجْرُوحًا { أَنَّ
رَجُلًا كَانَ يَبِيعُ الْخَمْرَ فِي سَفِينَةٍ لَهُ وَمَعَهُ قِرْدٌ فِي
السَّفِينَةِ وَكَانَ يَشُوبُ : أَيْ يَخْلِطُ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ فَأَخَذَ
الْقِرْدُ الْكِيسَ فَصَعِدَ الذُّرْوَةَ وَفَتَحَ الْكِيسَ فَجَعَلَ يَأْخُذُ
دِينَارًا فَيُلْقِيهِ فِي السَّفِينَةِ وَدِينَارًا فِي الْبَحْرِ حَتَّى
جَعَلَهُ نِصْفَيْنِ : أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ عِقَابًا لِصَاحِبِهِ لَمَّا خَلَطَ وَغَشَّ } .
وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَشُوبُوا اللَّبَنَ لِلْبَيْعِ } ثُمَّ ذَكَرَ
حَدِيثَ الْمُحَلَّفَةِ ثُمَّ قَالَ مَوْصُولًا بِالْحَدِيثِ : { أَلَا وَإِنَّ
رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ جَلَبَ خَمْرًا إلَى قَرْيَةٍ فَشَابَهَا
بِالْمَاءِ فَأَضْعَفَهُ أَضْعَافًا فَاشْتَرَى قِرْدًا فَرَكِبَ الْبَحْرَ حَتَّى
إذَا لَجَّ فِيهِ أَلْهَمَ اللَّهُ الْقِرْدَ صُرَّةَ الدَّنَانِيرِ فَأَخَذَهَا
وَصَعِدَ الدَّقَلَ فَفَتَحَ الصُّرَّةَ وَصَاحِبُهَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فَأَخَذَ
دِينَارًا فَرَمَى بِهِ فِي الْبَحْرِ وَدِينَارًا فِي السَّفِينَةِ حَتَّى
قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ
قَبْلَكُمْ حَمَلَ خَمْرًا ثُمَّ جَعَلَ فِي كُلِّ رِزْقٍ نِصْفَهُ مَاءً ثُمَّ بَاعَهُ
فَلَمَّا جَمَعَ الثَّمَنَ جَاءَ ثَعْلَبٌ
فَأَخَذَ الْكِيسَ وَصَعِدَ الدَّقَلَ فَجَعَلَ يَأْخُذُ
دِينَارًا وَيَرْمِي بِهِ فِي السَّفِينَةِ وَيَأْخُذُ دِينَارًا فَيَرْمِي بِهِ
فِي الْمَاءِ حَتَّى فَرَغَ مَا فِي الْكِيسِ } وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ هَذِهِ
وَاَلَّتِي قَبْلَهَا لِاحْتِمَالِ تَعَدُّدِ الْقِصَّةِ .
وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { مَنْ غَشَّنَا
فَلَيْسَ مِنَّا } ، وَجَاءَ هَذَا الْمَتْنُ مِنْ رِوَايَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ
صَحَابِيًّا .
وَعَنْ { أَبِي سِبَاعٍ قَالَ : اشْتَرَيْت نَاقَةً مِنْ
دَارِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمَّا خَرَجْت بِهَا
أَدْرَكَنِي يَجُرُّ إزَارَهُ فَقَالَ اشْتَرَيْت ؟ قُلْت نَعَمْ .
قَالَ
: أُبَيِّنُ لَك مَا فِيهَا ؟ قُلْت وَمَا فِيهَا
إنَّهَا لَسَمِينَةٌ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ ، قَالَ أَرَدْت بِهَا سَفَرًا أَوْ
أَرَدْت لَحْمًا ؟ قُلْت أَرَدْت بِهَا الْحَجَّ ، قَالَ ارْتَجِعْهَا ، فَقَالَ
صَاحِبُهَا مَا أَرَدْت إلَى هَذَا أَصْلَحَك اللَّهُ ؟ تُفْسِدُ عَلَيَّ ، قَالَ : إنِّي سَمِعْت
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَبِيعَ
شَيْئًا إلَّا بَيَّنَ مَا فِيهِ ، وَلَا يَحِلُّ لِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إلَّا
بَيَّنَهُ } .
رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَكَذَا ابْنُ مَاجَهْ بِاخْتِصَارِ الْقِصَّةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ عَنْ
وَاثِلَةَ { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
مَنْ بَاعَ عَيْبًا لَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ ، أَوْ لَمْ تَزَلْ
الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي
الْكَبِيرِ وَالْحَاكِمِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا : { الْمُسْلِمُ أَخُو
الْمُسْلِمِ ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ إذَا بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ
عَيْبٌ أَنْ لَا يُبَيِّنَهُ }
.
وَأَبُو الشَّيْخِ ابْنِ حِبَّانَ : { الْمُؤْمِنُونَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ نَصَحَةٌ وَادُّونَ وَإِنْ بَعُدَتْ مَنَازِلُهُمْ
وَأَبْدَانُهُمْ ، وَالْفَجَرَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ غَشَشَةٌ مُتَخَاوِنُونَ
وَإِنْ اقْتَرَبَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ } .
وَمُسْلِمٌ : { إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ قُلْنَا لِمَنْ
يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ
وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ
} .
وَالنَّسَائِيُّ بِلَفْظِ : { إنَّمَا الدِّينُ
النَّصِيحَةُ } الْحَدِيثَ .
وَأَبُو دَاوُد بِلَفْظِ : { إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ
، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ } الْحَدِيثَ .
وَكَذَا التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ
بِلَفْظِ : { رَأْسُ الدِّينِ النَّصِيحَةُ ، قَالُوا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ
؟ قَالَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِدِينِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } .
وَالشَّيْخَانِ { عَنْ جَرِيرٍ : أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت أُبَايِعُك عَلَى الْإِسْلَامِ
فَشَرَطَ عَلَيَّ النُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا ،
وَرَبِّ هَذَا الْمَسْجِدِ إنِّي لَكُمْ لَنَاصِحٌ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْهُ : { بَايَعْت
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ
، وَأَنْ أَنْصَحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ وَكَانَ إذَا بَاعَ الشَّيْءَ أَوْ اشْتَرَاهُ
قَالَ : مَا الَّذِي أَخَذْنَا مِنْك أَحَبُّ إلَيْنَا مِمَّا أَعْطَيْنَاك فَاخْتَرْ } .
وَأَحْمَدُ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ : أَحَبُّ مَا تَعَبَّدَ لِي بِهِ عَبْدِي النُّصْحُ لِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ لَا يَهْتَمُّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ
فَلَيْسَ مِنْهُمْ ، وَمَنْ لَمْ يُصْبِحْ وَيُمْسِي نَاصِحًا لِلَّهِ
وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِإِمَامِهِ وَلِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ
مِنْهُمْ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { لَا يُؤْمِنُ
أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ
حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ بَعْضِ مَا فِي
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ نَفْيِ الْإِسْلَامِ عَنْهُ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَزَلْ فِي
مَقْتِ اللَّهِ أَوْ كَوْنِ الْمَلَائِكَةِ تَلْعَنُهُ ، ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ
صَرَّحَ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ لَكِنَّ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ كَمَا مَرَّ أَنَّهُ
صَغِيرَةٌ وَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا ذُكِرَ
مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ .
وَضَابِطُ الْغِشِّ الْمُحَرَّمِ أَنْ يَعْلَمَ ذُو
السِّلْعَةِ مِنْ نَحْوِ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ فِيهَا شَيْئًا لَوْ اطَّلَعَ
عَلَيْهِ مُرِيدُ أَخْذِهَا مَا أَخَذَهَا بِذَلِكَ الْمُقَابِلِ ، فَيَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِهِ لِيَدْخُلَ فِي أَخْذِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ،
وَيُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثِ وَاثِلَةَ وَغَيْرِهِ مَا صَرَّحَ بِهِ أَصْحَابُنَا
أَنَّهُ يَجِبُ أَيْضًا عَلَى أَجْنَبِيٍّ عَلِمَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبًا أَنْ
يُخْبِرَ بِهِ مُرِيدَ أَخْذِهَا وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهَا ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ
إذَا رَأَى إنْسَانًا يَخْطُبُ امْرَأَةً وَيَعْلَمُ بِهَا أَوْ بِهِ عَيْبًا ،
أَوْ رَأَى إنْسَانًا يُرِيدُ أَنْ يُخَالِطَ آخَرَ لِمُعَامَلَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ
أَوْ قِرَاءَةِ نَحْوِ عِلْمٍ وَعَلِمَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا أَنْ يُخْبِرَ بِهِ
وَإِنْ لَمْ يُسْتَشَرْ بِهِ ، كُلُّ ذَلِكَ أَدَاءٌ لِلنَّصِيحَةِ الْمُتَأَكِّدِ
وُجُوبُهَا لِخَاصَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ .
هَذَا وَقَدْ سَأَلْنَا عَنْ سُؤَالٍ طَوِيلٍ فِيهِ
ذِكْرُ أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ أَحْبَبْت ذِكْرَهُ هُنَا لِعُمُومِ ضَرَرِ مَا فِيهِ
مِمَّا أَلِفَه وَيَفْعَلُهُ مَنْ لَا دِينَ لَهُ لِغَفْلَتِهِ عَنْ اللَّهِ
تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ ، وَهُوَ
: قَدْ اُعْتِيدَ الْآنَ أَنَّ بَعْضَ التُّجَّارِ
يَشْتَرِي الْفِلْفِلَ فِي ظَرْفٍ خَفِيفٍ جِدًّا كَالْخَصْفِ ، ثُمَّ يَجْعَلُهُ
فِي ظَرْفٍ ثَقِيلٍ نَحْوِ خَمْسَةِ أَضْعَافِ الْخَصْفِ لِأَنَّهُ غَالِبًا
ثَلَاثَةُ أَمْنَانٍ ، وَذَلِكَ الظَّرْفُ الثَّقِيلُ يُجْمَعُ مِنْ خَيْشٍ حَتَّى
يَكُونَ نَحْوَ عِشْرِينَ مَنًّا ، ثُمَّ يُبَاعُ ذَلِكَ الظَّرْفُ وَمَا فِيهِ
وَيُوزَنُ جُمْلَةُ الْكُلِّ وَيَكُونُ الثَّمَنُ مُقَابِلًا لِلظَّرْفِ
وَالْمَظْرُوفِ ، فَهَلْ هَذَا الْفِعْلُ جَائِزٌ أَوْ غِشٌّ مُحَرَّمٌ يُعَزَّرُ
فَاعِلُهُ بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنْ ضَرْبٍ وَصَفْعٍ وَطَوَافٍ بِهِ فِي
الْأَسْوَاقِ .
وَحَبْسٍ وَأَخْذِ مَالٍ إنْ كَانَ ذَلِكَ مَذْهَبُ
ذَلِكَ الْحَاكِمِ ؟ وَهَلْ الْبَيْعُ صَحِيحٌ أَوْ بَاطِلٌ ، وَإِذَا كَانَ
بَاطِلًا فَهُوَ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَوْ لَا ؟ وَهَلْ
يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَزْجُرَ التُّجَّارَ وَيَمْنَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ
وَيُعَزِّرَ مَنْ فَعَلَ مِنْهُمْ ذَلِكَ ؟ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُتَّقِينَ
مِنْ التُّجَّارِ إذَا عَلِمُوا مِنْ إنْسَانٍ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَنْ يُخْبِرُوا
بِهِ حُكَّامَ الشَّرِيعَةِ أَوْ السِّيَاسَةِ حَتَّى يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ
الْمَنْعَ الْأَكِيدَ وَيُعَزِّرُوهُ عَلَيْهِ إنْ أَبَى التَّعْزِيرَ الشَّدِيدَ
؟ وَهَلْ يَجْرِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ مِنْ نَظَائِرِهَا كَمَا
يَقَعُ لِبَعْضِ الْعَطَّارِينَ وَالتُّجَّارِ أَنَّهُ يُقَرِّبُ بَعْضَ
الْأَعْيَانِ إلَى الْمَاءِ فَيَكْتَسِبُ مِنْهُ مَائِيَّةً تَزِيدُ فِي وَزْنِهِ
نَحْوَ الثُّلُثِ كَالزَّعْفَرَانِ ، وَبَعْضُهُمْ يَصْطَنِعُ حَوَائِجَ تَصِيرُ
كَصُورَةِ الزُّبَّادِ فَيَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ زُبَّادٌ ، وَبَعْضُ
الْبَزَّازِينَ يَرْفَأُ الثِّيَابَ رَفْئًا خَفِيًّا ثُمَّ يَبِيعُهَا مِنْ غَيْرِ
أَنْ يُبَيِّنَ لَك ، وَكَذَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الْبُسُطِ وَغَيْرِهَا ، وَبَعْضُهُمْ
يَلْبَسُ الثَّوْبَ خَامًا
إلَى أَنْ تَذْهَبَ قُوَّتُهُ جَمِيعًا ثُمَّ
يُقَصِّرُهُ حِينَئِذٍ وَيَجْعَلُ فِيهِ نَشًا يُوهِمُ بِهِ أَنَّهُ جَدِيدٌ
وَيَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ جَدِيدٌ
.
وَبَعْضُهُمْ يَسْعَى فِي إظْلَامِ مَحَلِّهِ إظْلَامًا
كَثِيرًا حَتَّى يَصِيرَ الْغَلِيظُ يُرَى رَقِيقًا وَالْقَبِيحُ حَسَنًا .
وَبَعْضُهُمْ يَصْقُلُ بَزَّهُ بِشَمْعٍ صِقَالًا
جَيِّدًا حَتَّى لَا تَصِيرَ الرُّؤْيَةُ مُحِيطَةً بِهِ مِنْ كَثْرَةِ ذَلِكَ
الشَّمْعِ وَجَوْدَةِ ذَلِكَ الدَّقِّ وَالصِّقَالِ ، وَبَعْضُ الصَّوَّاغِينَ
يَخْلِطُ بِالنَّقْدِ نُحَاسًا وَنَحْوَهُ ثُمَّ يَبِيعُهُ عَلَى أَنَّهُ كُلُّهُ فِضَّةٌ
أَوْ ذَهَبٌ .
وَبَعْضُهُمْ يَأْخُذُ مِمَّنْ يَسْتَأْجِرُ عَلَى
صِيَاغَةٍ وَزْنًا مَعْلُومًا فَيَنْقُصُ مِنْهُ نَقْدًا وَيَجْعَلُ بَدَلَهُ
نُحَاسًا أَوْ نَحْوَهُ ، وَكَثِيرًا مِنْ التُّجَّارِ وَأَهْلِ الْبَهَارِ
وَالْحَبَّابِينَ وَغَيْرِهِمْ يَجْعَلُ أَعْلَى الْبِضَاعَةِ حَسَنًا
وَأَسْفَلَهَا قَبِيحًا ، أَوْ يَخْلِطُ بَعْضَ الْقَبِيحِ فِي الْحَسَنِ حَتَّى
يُرَوَّجَ وَيَنْدَمِجَ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذَ الْقَبِيحَ مِنْ غَيْرِ
أَنْ يَشْعُرَ بِهِ وَلَوْ شَعَرَ بِهِ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا مِنْهُ ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ مِنْ صُوَرِ الْغِشِّ كَثِيرٌ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا لَكُمْ هَذِهِ
الصُّوَرَ لِيُعْلَمَ حُكْمُهَا وَيُقَاسَ عَلَيْهَا مَا لَمْ نَذْكُرْهُ ، وَلَوْ
فَتَّشْت الصِّنَاعَاتِ وَالْحَرْفَ وَالتِّجَارَاتِ وَالْبُيُوعَاتِ
وَالْعِطَارَاتِ وَالصِّيَاغَاتِ وَالْمُصَارَفَاتِ وَغَيْرِهَا لَوَجَدْت
عِنْدَهُمْ مِنْ صُوَرِ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ وَالْخِيَانَةِ وَالْمَكْرِ
وَالتَّحَيُّلِ بِالْحِيَلِ الْكَاذِبَةِ مَا تَنْفِرُ عَنْهُ الطِّبَاعُ
وَتَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ ، لِأَنَّنَا نَجِدُهُمْ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ
كَرَجُلَيْنِ مَعَهُمَا سَيْفَانِ مُتَقَابِلَانِ فَمَتَى قَدَرَ أَحَدُهُمَا
عَلَى الْآخَرِ قَتْلَهُ لِوَقْتِهِ كَذَلِكَ التُّجَّارُ وَالْمُتَبَايِعُونَ الْآنَ
لَا يَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّهُ إنْ ظَفِرَ بِصَاحِبِهِ أَخَذَ
جَمِيعَ مَالِهِ بِحَقٍّ وَبَاطِلٍ وَأَهْلَكَهُ وَصَيَّرَهُ فَقِيرًا لِوَقْتِهِ
، وَإِذَا وَقَعَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَرِحَ بِهِ فَرَحًا
كَثِيرًا ، وَسَوَّلَتْ
لَهُ نَفْسُهُ الْخَبِيثَةُ أَنَّهُ غَلَبَهُ وَظَفِرَ
بِهِ بِمَا غَشَّهُ وَاحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْبَاطِلِ إلَى أَنْ اسْتَأْصَلَ
مَالَهُ وَظَفِرَ بِهِ كَكَلْبٍ ظَفِرَ بِجِيفَةٍ وَأَكَلَ مِنْهَا حَتَّى لَمْ
يُبْقِ مِنْهَا شَيْئًا .
فَهَذَا حَاصِلُ مَا يَقَعُ هُوَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ
الْآنَ .
فَتَفَضَّلُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِبَيَانِ أَحْكَامِ
ذَلِكَ حَتَّى يَعْرِفَهَا النَّاسُ ، لِيَصِيرَ مَنْ خَالَفَهَا قَدْ حَقَّتْ
عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ وَهَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَمَنْ وَافَقَهَا قَدْ
أَسْعَفَتْهُ كَلِمَةُ التَّوْفِيقِ وَأَحْيَا عَنْ بَيِّنَةٍ ، وَابْسُطُوا
الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ بَسْطًا شَافِيًا ، فَإِنَّ النَّاسَ مُضْطَرُّونَ إلَى بَيَانِ
أَحْكَامِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبَعْضَهُمْ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ جَهْلًا
بِحُرْمَتِهِ أَثَابَكُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ .
هَذَا حَاصِلُ هَذَا السُّؤَالِ .
وَلَعَمْرِي إنَّهُ حَقِيقٌ أَنْ يُفْرَدَ
بِالتَّأْلِيفِ لِسَعَةِ أَحْكَامِهِ وَكَثْرَةِ صُوَرِهِ وَاحْتِيَاجِ النَّاسِ ،
بَلْ اضْطِرَارُهُمْ إلَى بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَى كُلِّ صُورَةٍ مِنْ تِلْكَ
الصُّوَرِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا لِغَلَبَةِ
الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ عَلَى الْبَاعَةِ حَتَّى لَا يَسْلَمَ مِنْهُمَا إلَّا
النَّادِرُ الَّذِي حَفِظَهُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ ، وَلَوْ كَانَ
فِي الْوَقْتِ سَعَةٌ لَأَفْرَدْت ذَلِكَ بِتَأْلِيفٍ مُسْتَوْعِبٍ جَامِعٍ
لَكِنِّي أُشِيرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مَا يَنْفَعُ الْمُوَفَّقَ ، وَيُحَذِّرُ
الْعَاصِيَ ، وَمَنْ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ هِدَايَتَهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ .
فَأَقُولُ : أَمَّا مَسْأَلَةُ بَيْعِ الظَّرْفِ مَعَ مَا
فِيهِ فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ مَتَى جَهِلَ وَزْنَ الظَّرْفِ
عَلَى انْفِرَادِهِ ، فَبِيعَ مَعَ مَظْرُوفِهِ كُلُّ رِطْلٍ مِنْ الْجُمْلَةِ
بِكَذَا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مِنْ حَيِّزِ الْغَرَرِ .
وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } ، وَكَذَا لَوْ جَهِلَ وَزْنَ الْمَظْرُوفِ
وَحْدَهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ لِلظَّرْفِ قِيمَةٌ لِاشْتِرَاطِ الْعَقْدِ عَلَى
بَذْلِ
مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ .
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُمْ
مُتَّفِقُونَ فِيمَا ذُكِرَ أَوَّلَ السُّؤَالِ عَلَى بُطْلَانِ الْبَيْعِ فِيهِ
لِأَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ كَمَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ أَنَّ فَسَقَةَ
التُّجَّارِ يَأْخُذُونَ الْفِلْفِلَ مَثَلًا وَيَجْعَلُونَهُ فِي خَيْشٍ
مُرَقَّعٍ مِنْ دَاخِلِهِ بِرُقَعٍ كَثِيرَةٍ تُثْقِلُ جُرْمَهُ ، ثُمَّ
يَبِيعُونَ ذَلِكَ الْفِلْفِلَ أَوْ نَحْوَهُ مَعَ ظَرْفِهِ كُلُّ مَنٍّ بِعَشَرَةٍ
مَثَلًا ، ثُمَّ يَزِنُونَ الظَّرْفَ مَعَ مَظْرُوفِهِ ، فَإِذَا جَاءَتْ الْجُمْلَةُ
مِائَةَ مَنٍّ كَانَتْ بِأَلْفٍ
.
وَوَجْهُ الْبُطْلَانِ فِي هَذِهِ أَنَّهُمْ جَعَلُوا
الظَّرْفَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ وَوَزْنُهُ مَجْهُولٌ بَلْ فِيهِ غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ
مِنْهُمْ ، لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مِنْ دَاخِلِهِ الْمُمَاسِّ لَهُ
الْفِلْفِلُ مَثَلًا رُقَعًا وَنَحْوَهَا مِمَّا يَقْتَضِي وَزْنَهُ فِي الثِّقَلِ
وَيَتْرُكُونَ ظَاهِرَهُ عَلَى حَالِهِ الْمُوهِمِ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ خَفِيفُ
الْوَزْنِ بِحَيْثُ إنْ رَأَيْته تَقْطَعُ عِنْدَ نَظَرِهِ لِظَاهِرِهِ بِأَنَّهُ
لَا يُجَاوِزُ أَرْبَعَةَ أَمْنَانٍ مَثَلًا ، فَإِذَا خَبَرُوهُ بَعْدَ
تَعْرِيفِهِ وَالنَّظَرِ لِبَاطِنِهِ رَأَوْهُ نَحْوَ عِشْرِينَ مَنًّا ،
فَلِأَجْلِ ذَلِكَ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْكُلِّ لِهَذَا الْغَرَرِ الْعَظِيمِ ،
وَهَذَا الْغِشُّ الْبَلِيغُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى خِيَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَخِيَانَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمَرَا بِهِ
وَنَهَيَا عَنْهُ ، وَكَيْفَ سَاغَ لِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْدِمُ عَلَى
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَيَتْرُكُ مَا جَمَعَهُ مِنْ الْحُطَامِ الْفَانِي
لِوَرَثَتِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ ، بَلْ
الْغَالِبُ فِي أَوْلَادِ التُّجَّارِ أَنَّهُمْ يُضَيِّعُونَهُ فِي الْمَعَاصِي
وَالْقَبَائِحِ الَّتِي لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، فَمَنْ هُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ
كَيْفَ يَبْلُغُ خِدَاعُهُ مَعَ أَخِيهِ إلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ
أَخْمَاسِ مَالِهِ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ الْكَاذِبَةِ ، وَهَذَا
يُؤَيِّدُ مَا فِي السُّؤَالِ لِأَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي هَذِهِ
الْأَزْمِنَةِ كُلٌّ مِنْهُمَا تَصِيرُ أَحْوَالُهُ مَعَ
الْآخَرِ كَمُتَقَابِلَيْنِ بِيَدِهِمَا سَيْفَانِ فَمَنْ قَدَرَ مِنْهُمَا عَلَى
قَتْلِ صَاحِبِهِ قَتَلَهُ .
وَهَذَا لَيْسَ بِشَأْنِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا
بِقَانُونِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
: { الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا } .
وَقَوْلُهُ : { الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ لَا
يَظْلِمُهُ وَلَا يَشْتُمُهُ وَلَا يَبْغِي عَلَيْهِ } .
وَنَحْنُ لَا نُحَرِّمُ التِّجَارَةَ وَلَا الْبَيْعَ
وَالشِّرَاءَ ، فَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَتَبَايَعُونَ وَيَتَّجِرُونَ فِي الْبَزِّ وَغَيْرِهِ مِنْ
الْمَتَاجِرِ ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ وَالصُّلَحَاءُ بَعْدَهُمْ مَا زَالُوا
يَتَّجِرُونَ وَلَكِنْ عَلَى الْقَانُونِ الشَّرْعِيِّ وَالْحَالِ الْمَرْضِيِّ
الَّذِي أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ قَائِلًا : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ
التِّجَارَةَ لَا تُحْمَدُ وَلَا تَحِلُّ إلَّا إنْ صَدَرَتْ عَنْ التَّرَاضِي
مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالتَّرَاضِي إنَّمَا يَحْصُلُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ
غِشٌّ وَلَا تَدْلِيسٌ .
وَأَمَّا حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ غِشٌّ وَتَدْلِيسٌ
بِحَيْثُ أُخِذَ أَكْثَرُ مَالِ الشَّخْصِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِفِعْلِ تِلْكَ
الْحِيلَةِ الْبَاطِلَةِ مَعَهُ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْغِشِّ وَمُخَادَعَةِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَذَلِكَ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ مُوجِبٌ لِمَقْتِ
اللَّهِ وَمَقْتِ رَسُولِهِ ، وَفَاعِلُهُ دَاخِلٌ تَحْتَ الْأَحَادِيثِ
السَّابِقَةِ وَالْآتِيَةِ .
فَعَلَى مَنْ أَرَادَ رِضَا اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَسَلَامَةَ
دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمُرُوءَتِهِ وَعِرْضِهِ وَأُخْرَاهُ أَنْ يَتَحَرَّى
لِدِينِهِ ، وَأَنْ لَا يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْبُيُوعِ الْمَبْنِيَّةِ
عَلَى الْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ ، وَأَنْ يُبَيِّنَ وَزْنَ ذَلِكَ الظَّرْفِ
لِلْمُشْتَرِي عَلَى التَّحْرِيرِ وَالصِّدْقِ ، ثُمَّ إذَا بَيَّنَ لَهُ وَزْنَهُ
جَازَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ
الظَّرْفَ وَالْمَظْرُوفَ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ ، حَتَّى
قَالَ الْفُقَهَاءُ لَوْ بَيَّنَ لَهُ ظَرْفَ الْمِسْكِ وَزِنَتَهُ بِأَنْ قَالَ
هَذَا الظَّرْفُ عَشَرَةُ أَمْنَانٍ ، وَهَذَا الْمِسْكُ عِشْرُونَ مَنًّا ،
وَبِعْتُك هَذِهِ الثَّلَاثِينَ مَنًّا بِأَلْفٍ .
فَاشْتَرَى بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَالتَّقْلِيبِ جَازَ
هَذَا الْبَيْعُ ، وَكَانَ بَيْعًا مَبْرُورًا لِسَلَامَتِهِ مِنْ سَائِرِ وُجُوهِ
الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَالتَّدْلِيسِ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ وَزْنَ
الظَّرْفِ وَوَزْنَ الْمِسْكِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ الْمَنَّ مِنْ
الْجَمِيعِ بِأَلْفٍ أَوْ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَإِنَّمَا النَّارُ الْمَوْقُودَةُ وَالْقَبِيحَةُ
الْمُهْلِكَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ عَمَّنْ
يُدَلِّسُ فِي الظَّرْفِ فَيَجْعَلُهُ بِصُورَةِ خَفِيفٍ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ
ثَقِيلٌ جِدًّا فِي نَفْسِهِ .
ثُمَّ يَبِيعُ الْكُلَّ بِثَمَنٍ وَسِعْرٍ وَاحِدٍ مَعَ
جَهْلِ الْمُشْتَرِي بِظَنِّهِ ، وَكَوْنِ الْبَائِعِ تَحَيَّلَ عَلَيْهِ حَتَّى
ظَنَّ أَنَّ وَزْنَهُ يَسِيرٌ وَالْحَالُ أَنَّهُ كَثِيرٌ .
هَذَا حَاصِلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَسْأَلَةِ
الْأُولَى أَعْنِي بَيْعَ الظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ .
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ فِي صُوَرِ الْغِشِّ
الْكَثِيرَةِ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي لَا يُحْكَى نَظِيرُهَا
عَنْ الْكُفَّارِ فَضْلًا عَنْ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ الْمَحْكِيُّ عَنْ
الْكُفَّارِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ أَنَّهُمْ يَتَّجِرُونَ فِي بِيَاعَاتِهِمْ وَلَا يَفْعَلُونَ
فِيهَا ذَلِكَ الْغِشَّ الْكَثِيرَ الظَّاهِرَ الْمَحْكِيَّ فِي السُّؤَالِ ،
فَذَلِكَ أَعْنِي مَا حُكِيَ مِنْ صُوَرِ ذَلِكَ الْغِشِّ الَّتِي يَفْعَلُهَا
التُّجَّارُ وَالْعَطَّارُونَ وَالْبَزَّازُونَ وَالصَّوَّاغُونَ وَالصَّيَارِفَةُ
وَالْحَيَّاكُونَ ، وَسَائِرُ أَرْبَابِ الْبَضَائِعِ وَالْمَتَاجِرِ وَالْحِرَفِ
وَالصَّنَائِعِ كُلُّهُ حَرَامٌ شَدِيدُ التَّحْرِيمِ مُوجِبٌ لِصَاحِبِهِ أَنَّهُ
فَاسِقٌ غَشَّاشٌ خَائِنٌ يَأْكُلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، وَيُخَادِعُ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَا يُخَادِعُ إلَّا نَفْسَهُ ، لِأَنَّ عِقَابَ ذَلِكَ لَيْسَ
إلَّا عَلَيْهِ .
وَكَثْرَةُ ذَلِكَ
تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الزَّمَانِ وَقُرْبِ السَّاعَةِ ،
وَفَسَادِ الْأَمْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ ، وَنَزْعِ الْبَرَكَاتِ مِنْ
الْمَتَاجِرِ وَالْبِيَاعَاتِ وَالزِّرَاعَاتِ ، بَلْ وَمِنْ الْأَرَاضِيِ الْمَزْرُوعَاتِ
، وَتَأَمَّلَ قَوْلَهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ الْقَحْطُ
أَنْ لَا تُمْطَرُوا ، وَإِنَّمَا الْقَحْطُ أَنْ تُمْطَرُوا وَلَا يُبَارَكُ
لَكُمْ فِيهِ } : أَيْ بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الْقَبَائِحِ وَالْعَظِيمَاتِ الَّتِي
أَنْتُمْ عَلَيْهَا فِي تِجَارَاتِكُمْ وَمُعَامَلَاتِكُمْ وَلِهَذِهِ
الْقَبَائِحِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا التُّجَّارُ وَالْمُتَسَبَّبُونَ وَأَرْبَابُ
الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الظَّلَمَةَ فَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ
، وَهَتَكُوا حَرِيمَهُمْ ، بَلْ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارَ فَأَسَرُوهُمْ
وَاسْتَعْبَدُوهُمْ ، وَأَذَاقُوهُمْ الْعَذَابَ وَالْهَوَانَ أَلْوَانًا ،
وَكَثْرَةُ تَسَلُّطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ
وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْحَرِيمِ إنَّمَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ
لَمَّا أَنْ أَحْدَثَ التُّجَّارُ وَغَيْرُهُمْ قَبَائِحَ ذَلِكَ الْغِشِّ الْكَثِيرَةِ
الْمُتَنَوِّعَةِ وَعَظَائِمِ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ وَالْمُخَادَعَاتِ
وَالتَّخَيُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِأَيِّ طَرِيقٍ
قَدَرُوا عَلَيْهَا ، لَا يُرَاقِبُونَ اللَّهَ الْمُطَّلِعَ عَلَيْهِمْ ، وَلَا
يَخْشَوْنَ سَطْوَةَ عِقَابِهِ وَمَقْتِهِ ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ
بِالْمِرْصَادِ : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } وَ
{ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } .
وَلَوْ تَأَمَّلَ الْغَشَّاشُ الْخَائِنُ الْآكِلُ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ مَا جَاءَ فِي إثْمِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ لَرُبَّمَا انْزَجَرَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ ، وَلَوْ لَمْ
يَكُنْ مِنْ عِقَابِهِ إلَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ
الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ مِنْ حَرَامٍ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ
مِنْهُ عَمَلٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ حَرَامٍ
فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ }
.
وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ } .
{ وَقَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ أَكْرَمُ وَأَجَلُّ مِنْ
أَنْ يَقْبَلَ عَمَلَ رَجُلٍ أَوْ صَلَاتَهُ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مِنْ حَرَامٍ } .
{ وَقَوْلُهُ : مَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ
دَرَاهِمَ فِيهَا دِرْهَمٌ مِنْ حَرَامٍ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ
صَلَاةً مَا دَامَ عَلَيْهِ } .
وَقَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ
وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إلَّا مَنْ يُحِبُّ ، وَمَنْ أَعْطَاهُ
اللَّهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ، وَلَا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا
يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ .
قَالُوا وَمَا بَوَائِقُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ
: غِشُّهُ وَظُلْمُهُ } .
{ وَقَوْلُهُ : لَا تُزَالُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ،
وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا
أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ ؟ } .
{ وَقَوْلُهُ : مَنْ اكْتَسَبَ فِي الدُّنْيَا مَالًا
مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ وَأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ أَوْرَدَهُ دَارَ الْهَوَانِ
، ثُمَّ رُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِي مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَقُولُ اللَّهُ { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } } .
{ وَقَوْلُهُ : يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُنَاسٍ
مَعَهُمْ مِنْ الْحَسَنَاتِ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ حَتَّى إذَا جِيءَ
بِهِمْ جَعَلَهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ثُمَّ يَقْذِفُ بِهِمْ فِي النَّارِ
، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : كَانُوا يُصَلُّونَ وَيُزَكُّونَ
وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ ، غَيْرَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا عَرَضَ لَهُمْ شَيْءٌ
مِنْ الْحَرَامِ أَخَذُوهُ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ } .
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ أَيُّهَا الْمَاكِرُ الْمُخَادِعُ الْغَشَّاشُ
الْآكِلُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِتِلْكَ الْبُيُوعَاتِ الْبَاطِلَةِ وَالتِّجَارَاتِ
الْفَاسِدَةِ ، تَعْلَمْ أَنَّهُ لَا صَلَاةَ لَك وَلَا زَكَاةَ وَلَا صَوْمَ
وَلَا حَجَّ كَمَا جَاءَ عَنْ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ الَّذِي
لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ، وَلْيَتَأَمَّلْ الْغَشَّاشُ
بِخُصُوصِهِ قَوْلَهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا }
يَعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الْغِشِّ عَظِيمٌ ، وَأَنَّ عَاقِبَتَهُ وَخِيمَةٌ جِدًّا
فَإِنَّهُ رُبَّمَا أَدَّتْ إلَى الْخُرُوجِ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ
بِاَللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يَقُولُ لَيْسَ مِنَّا إلَّا فِي شَيْءٍ قَبِيحٍ جِدًّا يُؤَدِّي
بِصَاحِبِهِ إلَى أَمْرٍ خَطِيرٍ وَيُخْشَى مِنْهُ الْكُفْرُ ، فَإِنَّ لَمَنْ
يُعَرِّضُ دِينَهُ إلَى زَوَالٍ وَيَسْمَع قَوْله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا } ، وَلَا يَنْتَهِي عَنْ الْغِشِّ
إيثَارًا لِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ وَرِضًا بِسُلُوكِ سَبِيلِ الضَّالِّينَ .
وَلْيَتَأَمَّلْ الْغَشَّاشُ أَيْضًا لَا سِيَّمَا التُّجَّارُ
وَالْعَطَّارُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَجْعَلُ فِي بِضَاعَتِهِ غِشًّا يَخْفَى
عَلَى الْمُشْتَرِي حَتَّى يَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ ، وَلَوْ
عَلِمَ ذَلِكَ الْغِشَّ فِيهِ لَمَا اشْتَرَاهُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ أَصْلًا .
مَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَا مَرَّ : أَنَّهُ { مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ صُبْرَةٌ مِنْ
حَبٍّ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ أَدْخِلْ يَدَك فِيهِ فَفَعَلَ فَأَحَسَّتْ
يَدُهُ الشَّرِيفَةُ بِبَلَلٍ فِي بَاطِنِ تِلْكَ الصُّبْرَةِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ
وَقَالَ مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَصَابَهُ
مَطَرٌ ، قَالَ أَفَلَا جَعَلْت الْمُبْتَلَّ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ
النَّاسُ ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا
} .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { مَرَّ بِطَعَامٍ وَقَدْ حَسَّنَهُ صَاحِبُهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ
فَإِذَا طَعَامٌ رَدِيءٌ جَعَلَهُ أَسْفَلَهُ ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِعْ هَذَا عَلَى حِدَةٍ وَهَذَا عَلَى حِدَةٍ ، مَنْ
غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَمَّا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْحَبِّ وَأَخْرَجَ مِنْهُ الْمَبْلُولَ
قَالَ لَهُ : مَا حَمَلَك عَلَى
هَذَا أَيْ جَعْلِك الْمُبْتَلَّ أَسْفَلَ وَالْجَافَّ
فَوْقَ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنَّهُ لَطَعَامٌ
وَاحِدٌ قَالَ : أَفَلَا عَزَلْت الرَّطْبَ عَلَى حِدَتِهِ وَالْيَابِسَ عَلَى
حِدَتِهِ فَيَتَبَايَعُونَ مَا يَعْرِفُونَ ، مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ
مِنْهُمْ } ، وَسَبَقَتْ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ
خَلَطَ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ ثُمَّ بَاعَهُ : خَلِّصْ الْمَاءَ مِنْ اللَّبَنِ ،
أَيْ وَلَيْسَ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيُوا مَا صَوَّرْتُمْ : أَيْ اُنْفُخُوا الرُّوحَ فِي تِلْكَ
الصُّوَرِ الَّتِي كُنْتُمْ تُصَوِّرُونَهَا فِي الدُّنْيَا تَحْقِيرًا لَهُمْ
وَإِذْلَالًا وَبَيَانًا لِعَجْزِهِمْ وَجُرْأَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ،
فَكَذَلِكَ مَنْ خَلَطَ اللَّبَنَ بِالْمَاءِ يُقَالُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
خَلِّصْ اللَّبَنَ مِنْ الْمَاءِ تَحْقِيرًا لَهُ وَفَضِيحَةً لَهُ عَلَى رُءُوسِ
الْأَشْهَادِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ جَزَاءً عَلَى غِشِّهِ الَّذِي كَانَ
يَفْعَلُهُ فِي الدُّنْيَا ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْغَشَّاشِينَ يَفْضَحُهُمْ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي مُقَابَلَةِ غِشِّهِمْ
لِلْمُسْلِمِينَ .
وَلْيَتَأَمَّلْ الْغَشَّاشُونَ أَيْضًا قَوْلَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إلَّا بَيَّنَ مَا
فِيهِ وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بَيَّنَهُ } ، وَقَوْلُهُ : {
مَنْ بَاعَ عَيْبًا وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَمْ يَزَلْ فِي مَقْتِ اللَّهِ أَوْ لَمْ
تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ
} .
وَقَوْلُهُ
: { الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ نَصَحَةٌ
وَادُّونَ وَإِنْ بَعُدَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ ، وَالْفَجَرَةُ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ غَشَشَةٌ مُتَخَاوِنُونَ وَإِنْ اقْتَرَبَتْ مَنَازِلُهُمْ
وَأَبْدَانُهُمْ } .
وَالْأَحَادِيثُ فِي الْغِشِّ وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ
كَثِيرَةٌ مَرَّ مِنْهَا جُمْلَةٌ ، فَمَنْ تَأَمَّلَهَا وَوَفَّقَهُ اللَّهُ لِفَهْمِهَا
وَالْعَمَلِ بِهَا انْكَفَّ عَنْ الْغِشِّ وَعَلِمَ عَظِيمَ قُبْحِهِ وَخَطَرِهِ
وَأَنَّ اللَّهَ
لَا بُدَّ وَأَنْ يَمْحَقَ مَا حَصَّلَهُ الْغَاشُونَ
بِغِشِّهِمْ ، كَمَا سَبَقَ فِي قِصَّةِ الْقِرْدِ وَالثَّعْلَبِ أَنَّ اللَّهَ
سَلَّطَهُمَا عَلَى غَشَّاشَيْنِ فَأَذْهَبَا جَمِيعَ مَا حَصَّلَاهُ بِالْغِشِّ
بِرَمْيِهِ فِي الْبَحْرِ .
وَمَنْ تَأَمَّلَ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ عَلِمَ أَيْضًا
أَنَّ أَكْثَرَ مَا حُكِيَ فِي السُّؤَالِ مِنْ جُمْلَةِ الْغِشِّ الْمُحَرَّمِ
لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَدْخَلَ
يَدَهُ الْكَرِيمَةَ فِي الْحَبِّ وَرَأَى الْمُبْتَلَّ أَسْفَلَهُ أَنْكَرَ عَلَى
فَاعِلِ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ : هَلَّا جَعَلْت الْمُبْتَلَّ وَحْدَهُ وَبِعْته
وَحْدَهُ وَالْيَابِسَ وَحْدَهُ وَبِعْته وَحْدَهُ ، أَوْ جَعَلْت الْمُبْتَلَّ
فِي ظَاهِرِ الْحَبِّ حَتَّى يَعْرِفَهُ النَّاسُ وَيَشْتَرُوهُ عَلَى بَصِيرَةٍ }
وَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلِمَ بِسِلْعَتِهِ عَيْبًا وَجَبَ عَلَيْهِ
وُجُوبًا مُتَأَكَّدًا بَيَانُهُ لِلْمُشْتَرِي ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ
الْعَيْبَ غَيْرُ الْبَائِعِ كَجَارِهِ وَصَاحِبِهِ وَرَأَى إنْسَانًا يُرِيدُ
أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَيْبَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ
يُبَيِّنَهُ لَهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ
لِأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا إلَّا بَيَّنَ مَا فِيهِ ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ
يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بَيَّنَهُ } وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لَا يَهْتَدُونَ لِذَلِكَ
أَوْ لَا يَعْلَمُونَ ، يَمُرُّ الشَّخْصُ مِنْهُمْ فَيَرَى رَجُلًا غِرًّا
يُرِيدُ شِرَاءَ شَيْءٍ فِيهِ عَيْبٌ وَهُوَ لَا يَدْرِيهِ فَيَسْكُتُونَ عَنْ
نُصْحِهِ حَتَّى يَغُشَّهُ الْبَائِعُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ بِالْبَاطِلِ ، وَمَا
دَرَى السَّاكِتُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ شَرِيكُ الْبَائِعِ فِي الْإِثْمِ
وَالْحُرْمَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَالْفِسْقِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْوَعِيدِ
الشَّدِيدِ ، وَهُوَ أَنَّ الْغَاشَّ الَّذِي لَمْ يُبِنْ الْعَيْبَ لِلْمُشْتَرِي
لَا يَزَالُ فِي مَقْتِ اللَّهِ أَوْ لَا تَزَالُ الْمَلَائِكَةُ تَلْعَنُهُ ، وَيُؤَيِّدُ
ذَلِكَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً
فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
===================
ج6.كتاب : الزواجر عن اقتراف الكبائر أحمد بن محمد بن
حجر المكي الهيتمي
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَاشَّ سَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ
السَّيِّئَةَ وَهُوَ كَتَمَهُ لِلْعَيْبِ فِي ذَلِكَ الْمَبِيعِ فَكُلُّ عَمَلٍ
كَذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَبِيعِ يَكُونُ إثْمُهُ عَلَيْهِ ، وَسَيَأْتِي فِي
بَيَانِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ مَا يَرْدَعُ الْغَشَّاشِينَ ؛ لِأَنَّ الْغِشَّ
مِنْ حَيِّزِ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئ إلَّا بِأَهْلِهِ } { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَالْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي
النَّارِ } أَيْ صَاحِبُهُمَا فِي النَّارِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ
وَالْخِيَانَةُ فِي النَّارِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ } أَيْ
مَاكِرٌ .
وَفِي أُخْرَى : { أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ النَّارِ
رَجُلًا لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إلَّا وَهُوَ يُخَادِعُك فِي أَهْلِك
وَمَالِكِ } .
هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْجَوَابِ .
وَإِنَّمَا بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ رَجَاءَ أَنْ
يَسْمَعَهُ مَنْ فِي قَلْبِهِ إيمَانٌ ، وَمَنْ يَخْشَى عِقَابَ اللَّهِ
وَسَطْوَتَهُ ، وَمَنْ لَهُ دِينٌ وَمُرُوءَةٌ ، وَمَنْ يَخْشَى عَلَى
ذُرِّيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَتَّقِي اللَّهَ وَيَرْجِعُ عَنْ سَائِرِ صُوَرِ
الْغِشِّ الْمَذْكُورِ فِي هَذَا السُّؤَالِ وَغَيْرِهَا ، وَيَعْلَمُ أَنَّ
الدُّنْيَا فَانِيَةٌ وَأَنَّ الْحِسَابَ وَاقِعٌ عَلَى النَّقِيرِ وَالْفَتِيلِ
وَالْقِطْمِيرِ وَأَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ يَنْفَعُ الذُّرِّيَّةَ ، فَقَدْ
جَاءَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا } أَنَّهُ كَانَ
الْجَدُّ السَّابِعُ لِأُمٍّ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ ذَيْنِك الْيَتِيمَيْنِ ، وَأَنَّ
الْعَمَلَ السَّيِّئ يُؤَثِّرُ فِي الذُّرِّيَّةِ قَالَ تَعَالَى : { وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذِهِ
الْآيَةَ خَشِيَ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ مِنْ أَعْمَالِهِ السَّيِّئَةِ وَانْكَفَّ
عَنْهَا حَتَّى لَا يَحْصُلَ لَهُمْ نَظِيرُهَا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
لِلصَّوَابِ وَبِهِ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
قَالَ : فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
.
قُلْت :
خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْمُسْبِلُ
وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْمُسْبِلُ إزَارَهُ وَالْمَنَّانُ
عَطَاءَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ : { ثَلَاثَةٌ لَا
يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
أُشَيْمِطٌ زَانٍ ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ ، وَرَجُلٌ
جَعَلَ اللَّهُ بِضَاعَتَهُ لَا يَشْتَرِي إلَّا بِيَمِينِهِ وَلَا يَبِيعُ إلَّا
بِيَمِينِهِ } ، وَرَوَاهُ فِي الصَّغِيرِ
وَالْأَوْسَطِ بِلَفْظِ : { لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَرُوَاتُهُ مُحْتَجٌّ بِهِمْ فِي الصَّحِيحِ ،
وَالْأُشَيْمِطُ مُصَغَّرُ أَشْمَطَ وَهُوَ مَنْ ابْيَضَّ شَعْرُ رَأْسِهِ كِبَرًا
وَاخْتَلَطَ بِأَسْوَدِهِ ، وَالْعَائِلُ الْفَقِيرُ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ
إلَيْهِمْ غَدًا : شَيْخٌ زَانٍ ، وَرَجُلٌ اتَّخَذَ الْأَيْمَانَ بِضَاعَتَهُ
يَحْلِفُ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، وَفَقِيرٌ مُخْتَالٌ } أَيْ مَنْ هُوَ
مُتَكَبِّرٌ مُعْجَبٌ فَخُورٌ .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { ثَلَاثَةٌ لَا
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { يَقُولُ اللَّهُ لَهُ الْيَوْمَ
أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاك ، وَرَجُلٌ
بَايَعَ رَجُلًا سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ لَأَخَذَهَا
بِكَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَرَجُلٌ بَايَعَ
إمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إلَّا لِلدُّنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ
وَفَى لَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ .
{ وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ
أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ
، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا
مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ
يَدَاك } .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَرْبَعَةٌ
يُبْغِضُهُمْ اللَّهُ : الْبَائِعُ الْحَلَّافُ ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ ،
وَالشَّيْخُ الزَّانِي ، وَالْإِمَامُ الْجَائِرُ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ
وَالْأَرْبَعَةُ بِنَحْوِهِ { : إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ثَلَاثَةً وَيُبْغِضُ
ثَلَاثَةً فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ : قُلْتُ فَمَنْ الثَّلَاثَةُ
الَّذِينَ يُبْغِضُهُمْ اللَّهُ ؟ قَالَ : الْمُخْتَالُ الْفَخُورُ وَأَنْتُمْ
تَجِدُونَهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنْزَلِ : { إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتَالٍ فَخُورٍ } ، وَالْبَخِيلُ ،
وَالْمَنَّانُ ، وَالتَّاجِرُ أَوْ الْبَائِعُ الْحَلَّافُ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ { أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَرَّ أَعْرَابِيٌّ بِشَاةٍ فَقُلْتُ تَبِيعُهَا بِثَلَاثِ
دَرَاهِمَ ؟ قَالَ لَا وَاَللَّهِ ثُمَّ بَاعَهَا ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ
وَاثِلَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
: { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْرُجُ إلَيْنَا وَكُنَّا تُجَّارًا وَكَانَ يَقُولُ : يَا مَعْشَرَ
التُّجَّارِ إيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ
} .
وَالشَّيْخَانِ : { الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ
مُمْحِقَةٌ لِلْكَسْبِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد : { مُمْحِقَةٌ
لِلْبَرَكَةِ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ
الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { التَّاجِرُ
الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ } .
زَادَ ابْنُ مَاجَهْ { الْمُسْلِمُ وَقَالَ مَعَ
الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
} .
وَالْأَصْبَهَانِيّ وَغَيْرُهُ : {
التَّاجِرُ الصَّدُوقُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ : { إنَّ أَطْيَبَ
الْكَسْبِ كَسْبُ التُّجَّارِ الَّذِينَ إذَا حَدَّثُوا لَمْ يَكْذِبُوا ، وَإِذَا
ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا ، وَإِذَا وَعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا ، وَإِذَا
اشْتَرَوْا لَمْ يَذُمُّوا ، وَإِذَا بَاعُوا لَمْ يَمْدَحُوا ، وَإِذَا كَانَ
عَلَيْهِمْ لَمْ يَمْطُلُوا ، وَإِذَا كَانَ لَهُمْ لَمْ يُعَسِّرُوا } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { الْبَيِّعَانِ
بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، فَإِنْ صَدَقَ الْبَيِّعَانِ وَبَيَّنَا
بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا ، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا فَعَسَى أَنْ
يَرْبَحَا وَيُمْحَقَا بَرَكَةَ بَيْعِهِمَا .
الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ
مُمْحِقَةٌ لِلْكَسْبِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ
وَصَحَّحُوهُ : { خَرَجَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمُصَلَّى
فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ ،
فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَفَعُوا
أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ ، فَقَالَ : إنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا إلَّا مَنْ اتَّقَى وَبَرَّ وَصَدَقَ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَالْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ : { إنَّ التُّجَّارَ هُمْ الْفُجَّارُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَلَيْسَ اللَّهُ قَدْ أَحَلَّ الْبَيْعَ ؟ قَالَ بَلَى ، وَلَكِنَّهُمْ
يَحْلِفُونَ فَيَأْثَمُونَ وَيُحَدِّثُونَ فَيَكْذِبُونَ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ
يَذْكُرُوهُ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ
الْمُصَرِّحَةِ بِشِدَّةِ الْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْضَهُمْ
ذَكَرَهُ .
قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ
إلَّا بِأَهْلِهِ } وَمَرَّ الْكَلَامُ عَلَى الْمَكْرِ قَبْلَ كِتَابِ
الطَّهَارَةِ فِي بَحْثِ الْأَمْنِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ .
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ } .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ الْحَسَنِ مُرْسَلًا
مُخْتَصَرًا قَالَ { : الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِيَانَةُ فِي النَّارِ } .
وَفِي حَدِيثٍ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ : أَيْ
مَكَّارٌ ، وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ } .
وَفِي آخَرَ : { الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ وَالْفَاسِقُ
خِبٌّ لَئِيمٌ } .
وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ : { يُخَادِعُونَ
اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أَيْ مُجَازِيهِمْ بِمَا يُشْبِهُ الْخِدَاعَ عَلَى خِدَاعِهِمْ
لَهُ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ نُورًا كَمَا يُعْطَى الْمُؤْمِنُونَ فَإِذَا
مَضَوْا عَلَى الصِّرَاطِ أُطْفِئَ نُورُهُمْ وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ .
وَفِي حَدِيثٍ : { أَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ وَذَكَرَ
مِنْهُمْ رَجُلًا لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إلَّا وَهُوَ مُخَادِعُك عَنْ
أَهْلِك وَمَالِكِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً صَرَّحَ بِهِ
بَعْضُهُمْ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ أَحَادِيثِ الْغِشِّ السَّابِقَةِ وَمِنْ هَذَا
الْحَدِيثِ ، إذْ كَوْنُ الْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ فِي النَّارِ لَيْسَ الْمُرَادُ
بِهِمَا إلَّا أَنَّ صَاحِبَهُمَا فِيهَا وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ .
الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ بَخْسُ
نَحْوِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الذَّرْعِ ) قَالَ تَعَالَى : { وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ } أَيْ الَّذِينَ يَزِيدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ أَمْوَالِ
النَّاسِ بِبَخْسِ الْكَيْلِ أَوْ الْوَزْنِ ، وَلِذَا فَسَّرَهُمْ بِأَنَّهُمْ { الَّذِينَ إذَا
اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ } أَيْ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ { يَسْتَوْفُونَ } حُقُوقَهُمْ مِنْهُمْ
وَلَمْ يَذْكُرْ الْوَزْنَ هُنَا اكْتِفَاءً عَنْهُ بِالْكَيْلِ .
إذْ كُلٌّ مِنْهُمْ يُسْتَعْمَلُ مَكَانَ الْآخَرِ
غَالِبًا .
{ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ } أَيْ إذَا
اكْتَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِ أَنْفُسِهِمْ { يُخْسِرُونَ }
أَيْ يُنْقِصُونَ { أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ } الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ { أَنَّهُمْ
مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } أَيْ هَوْلِهِ وَعَذَابِهِ { يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ } أَيْ مِنْ قُبُورِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ثُمَّ يُحْشَرُونَ
فَمِنْهُمْ الرَّاكِبُ بِجَانِبٍ أَسْرَعَ مِنْ الْبَرْقِ ، وَمِنْهُمْ الْمَاشِي
عَلَى رِجْلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ الْمُنْكَبُّ وَالسَّاقِطُ عَلَى وَجْهِهِ تَارَةً يَمْشِي
وَتَارَةً يَزْحَفُ وَتَارَةً يَتَخَبَّطُ كَالْبَعِيرِ الْهَائِمِ ، وَمِنْهُمْ
الَّذِي يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْأَعْمَالِ إلَى أَنْ
يَقِفُوا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِمْ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ
أَعْمَالِهِمْ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ .
قَالَ السُّدِّيُّ : سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ
بِهَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو جُهَيْنَةَ لَهُ مِكْيَالَانِ يَكِيلُ
بِأَحَدِهِمَا وَيَكْتَالُ بِالْآخَرِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ }
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ
كَيْلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ }
فَأَحْسَنُوا الْمِكْيَالَ بَعْدَ ذَلِكَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ
عَنْهُ قَالَ
: { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ : إنَّكُمْ قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا
فِيهِ هَلَكَتْ الْأُمَمُ السَّالِفَةُ قَبْلَكُمْ } وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ .
وَاعْتَرَضَ بِأَنَّ فِيهِ مَتْرُوكًا وَبِأَنَّ
الصَّحِيحَ وَقْفُهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالْبَزَّارُ
وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ .
عَنْ {
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : أَقْبَلَ
عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا
مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسُ خِصَالٍ إذَا اُبْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاَللَّهِ
أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ فَيُعْلِنُوا
بِهَا إلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ
فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
إلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ ، أَيْ جَمْعُ سَنَةٍ وَهِيَ الْعَامُ الْمُقْحِطُ
الَّذِي لَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ فِيهِ شَيْئًا وَقَعَ مَطَرٌ أَوْ لَا وَشِدَّةُ
الْمُؤْنَةِ وَجَوْرُ السُّلْطَانِ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ
إلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا
، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إلَّا سَلَّطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ،
وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا فِيمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ إلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ } .
وَمَالِكٌ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَالطَّبَرَانِيُّ
وَغَيْرُهُ مَرْفُوعًا : { مَا ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ إلَّا أَلْقَى
اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ ، وَلَا فَشَا الزِّنَا فِي قَوْمٍ إلَّا
كَثُرَ فِيهِمْ الْمَوْتُ ، وَمَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إلَّا
نَقَصَ اللَّهُ عَنْهُمْ الرِّزْقَ ، وَلَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا
فَشَا فِيهِمْ الدَّمُ وَلَا خَتَرَ :
أَيْ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَوْقِيَّةِ
وَالرَّاءِ نَقَضَ وَأَخَلَّ قَوْمٌ
بِالْعَهْدِ إلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
الْعَدُوَّ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ
وَهُوَ أَشْبَهَ وَهُوَ وَغَيْرُهُ بِمَعْنَاهُ مَرْفُوعًا { الْقَتْلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا إلَّا الْأَمَانَةَ ، قَالَ
يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيُقَالُ : أَدِّ أَمَانَتَك فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتْ
الدُّنْيَا ؟ قَالَ فَيُقَالُ انْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْهَاوِيَةِ فَيَنْطَلِقُونَ
بِهِ إلَى الْهَاوِيَةِ وَتُمَثَّلُ لَهُ أَمَانَتُهُ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ دُفِعَتْ
إلَيْهِ فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا فَيَهْوِي فِي أَثَرِهَا حَتَّى يُدْرِكَهَا
فَيَحْمِلَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ خَارِجٌ زَلَّتْ عَنْ
مَنْكِبِهِ فَهُوَ يَهْوِي فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ ، ثُمَّ الصَّلَاةُ
أَمَانَةٌ وَالْوُضُوءُ أَمَانَةٌ وَالْوَزْنُ أَمَانَةٌ وَالْكَيْلُ أَمَانَةٌ
وَأَشْيَاءُ عَدَّدَهَا وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ قَالَ يَعْنِي زَاذَانَ :
فَأَتَيْت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قُلْت أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ قَالَ كَذَا قَالَ كَذَا ؟ قَالَ : صَدَقَ ، أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى
أَهْلِهَا } } .
تَنْبِيهٌ : عُدَّ هَذَا كَبِيرَةً وَهُوَ مَا صَرَّحُوا
بِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ،
وَلِهَذَا اشْتَدَّ الْوَعِيدُ عَلَيْهِ كَمَا عَلِمْته مِنْ الْآيَةِ وَهَذِهِ
الْأَحَادِيثِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّمَا سُمِّيَ مُطَفِّفًا لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ
يَأْخُذُ إلَّا الشَّيْءَ الطَّفِيفَ وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنْ السَّرِقَةِ
وَالْخِيَانَةِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْإِنْبَاءِ عَنْ عَدَمِ الْأَنَفَةِ
وَالْمُرُوءَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمِنْ ثَمَّ عُوقِبَ بِالْوَيْلِ الَّذِي هُوَ
شِدَّةُ الْعَذَابِ أَوْ الْوَادِي فِي جَهَنَّمَ لَوْ سُيِّرَتْ فِيهِ جِبَالُ الدُّنْيَا
لَذَابَتْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ ، وَأَيْضًا فَقَدْ
شَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى عُقُوبَةَ قَوْمِ شُعَيْبٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ عَلَى بَخْسِهِمْ
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ .
فَإِنْ قُلْت
: سَيَأْتِي فِي الْغَصْبِ أَنَّ غَصْبَ مَا دُونَ
رُبْعِ دِينَارٍ لَا يَكُونُ كَبِيرَةً فَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا كَذَلِكَ .
قُلْت : ذَلِكَ مُشْكِلٌ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ بَلْ
حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِهِ
.
وَقَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إنَّهُ تَحْدِيدٌ لَا
مُسْتَنَدَ لَهُ انْتَهَى .
وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ
الْغَصْبَ لَيْسَ مِمَّا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا
يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَقَلِيلُهُ لَا يَدْعُو
لِكَثِيرِهِ بِخِلَافِ هَذَا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيلِ الْمَكْرِ
وَالْخِيَانَةِ وَالْحِيلَةِ فَكَانَ قَلِيلُهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ
فَتَعَيَّنَ التَّنْفِيرُ عَنْهُ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ
كَبِيرَةٌ أَخْذًا مِمَّا قَالُوهُ فِي شُرْبِ الْقَطْرَةِ مِنْ الْخَمْرِ
فَإِنَّهُ كَبِيرَةٌ وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهَا مَفْسَدَةُ الْخَمْرِ لِمَا تَقَرَّرَ
أَنَّ قَلِيلَهُ يَدْعُو إلَى كَثِيرِهِ ، فَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ
إلْحَاقُ جَمَاعَةٍ السَّرِقَةَ بِالْغَصْبِ كَمَا يَأْتِي فِيهَا ، لِأَنَّ
السَّارِقَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الْخَوْفِ فَهُوَ غَيْرُ مُمَكَّنٍ مِنْ مَالِ
غَيْرِهِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ الْقَلِيلَ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ بِخِلَافِ
الْمُطَفِّفِ فَإِنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ ، فَدِعَايَةُ الْقَلِيلِ
فِيهِ إلَى الْكَثِيرِ أَسْهَلُ وَأَظْهَرُ ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ
أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ الْفَرْقَ أَنَّ جَمَاعَةً شَرَطُوا
فِي الْغَصْبِ مَا مَرَّ ، وَمَعَ ذَلِكَ قَالُوا لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي
السَّرِقَةِ وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى مَا ذَكَرْته ، وَبِمَا قَرَّرْته مِنْ
الْفَرْقِ الظَّاهِرِ بَيْنَ هَذَا وَالْغَصْبِ يَنْدَفِعُ جَزْمُ بَعْضِ
الْمُتَأَخِّرِينَ بِأَنَّ التَّطْفِيفَ بِالشَّيْءِ التَّافِهِ صَغِيرَةٌ ، إلَّا
أَنْ يُقَالَ الْمُنَازَعَةُ فِي الْغَصْبِ إنَّمَا هِيَ فِي التَّحْدِيدِ
بِرَفْعِ دِينَارٍ .
وَأَمَّا غَصْبُ الشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي يُسَامَحُ
بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً ، وَكَذَلِكَ
التَّطْفِيفُ
بِالشَّيْءِ التَّافِهِ الَّذِي يُسَامَحُ بِهِ أَكْثَرُ
النَّاسِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَغِيرَةً أَيْضًا فَهَذَا غَيْرُ بَعِيدٍ ،
لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ .
وَمِنْ ثَمَّ حَكَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ
غَصْبَ الْحَبَّةِ وَسَرِقَتَهَا كَبِيرَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ
ذَلِكَ مِنْ إطْلَاقِ الْأَكْثَرِينَ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ ، وَيَأْتِي
لِذَلِكَ مَزِيدٌ فِي الْغَصْبِ فَرَاجِعْهُ .
قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : دَخَلْت عَلَى
جَارٍ لِي وَقَدْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَجَعَلَ يَقُولُ جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ
جَبَلَيْنِ مِنْ نَارٍ .
قَالَ : قُلْت لَهُ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ : يَا أَبَا
يَحْيَى كَانَ لِي مِكْيَالَانِ كُنْت أَكِيلُ بِأَحَدِهِمَا وَأَكْتَالُ
بِالْآخَرِ .
قَالَ مَالِكٌ : فَقُمْتُ فَجَعَلْتُ أَضْرِبُ أَحَدَهُمَا
بِالْآخَرِ .
فَقَالَ يَا أَبَا يَحْيَى كُلَّمَا ضَرَبْتَ
أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ازْدَادَ الْأَمْرُ عِظَمًا وَشِدَّةً فَمَاتَ فِي
مَرَضِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أَشْهَدُ عَلَى كُلِّ
كَيَّالٍ أَوْ وَزَّانٍ بِالنَّارِ لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ إلَّا مَنْ
عَصَمَ اللَّهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : دَخَلْتُ عَلَى مَرِيضٍ قَدْ
نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَجَلَعْتُ أُلَقِّنُهُ الشَّهَادَةَ وَلِسَانُهُ لَا
يَنْطِقُ بِهَا ، فَلَمَّا أَفَاقَ قُلْت لَهُ يَا أَخِي مَالِي أُلَقِّنُكَ
الشَّهَادَةَ وَلِسَانُك لَا يَنْطِقُ بِهَا ؟ قَالَ يَا أَخِي لِسَانُ
الْمِيزَانِ عَلَى لِسَانِي يَمْنَعُنِي مِنْ النُّطْقِ بِهَا ، فَقُلْت لَهُ : بِاَللَّهِ
أَكُنْتَ تَزِنُ نَاقِصًا ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ ، وَلَكِنِّي كُنْتَ أَقِفُ
مُدَّةً لَا أَعْتَبِرُ صَنْجَةَ مِيزَانِي ، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ مَنْ لَا
يَعْتَبِرُ صَنْجَةَ مِيزَانِهِ ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ يَزِنُ نَاقِصًا .
وَقَالَ نَافِعٌ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا يَمُرُّ بِالْبَائِعِ يَقُولُ اتَّقِ اللَّهَ وَأَوْفِ الْكَيْلَ
وَالْوَزْنَ ، فَإِنَّ الْمُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ حَتَّى إنَّ الْعَرَقَ
لَيُلَجِّمُهُمْ إلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ .
وَكَالْكَيَّالِينَ وَالْوَزَّانِينَ فِيمَا مَرَّ
التَّاجِرُ إذَا شَدَّ يَدَهُ فِي الذِّرَاعِ وَقْتَ
الْبَيْعِ وَأَرْخَاهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ ، وَهَذَا
مِنْ تَطْفِيفِ فَسَقَةِ الْبَزَّازِينَ وَالتُّجَّارِ .
وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ مَنْ قَالَ : الْوَيْلُ ثُمَّ
الْوَيْلُ لِمَنْ يَبِيعُ بِحَبَّةٍ يُنْقِصُهَا جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ ، وَيَشْتَرِي بِحَبَّةٍ يَزِيدُهَا وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ يُذِيبُ
جِبَالَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
.
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ :
الْقَرْضُ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ ، وَذِكْرُ هَذِهِ مِنْ
الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ رِبًا كَمَا مَرَّ فِي
بَابِهِ فَجَمِيعُ مَا مَرَّ فِي الرِّبَا مِنْ الْوَعِيدِ يَشْمَلُ فَاعِلَ
ذَلِكَ فَاعْلَمْهُ )
( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ : الِاسْتِدَانَةُ مَعَ نِيَّتِهِ عَدَمَ الْوَفَاءِ أَوْ عَدَمَ
رَجَائِهِ بِأَنْ لَمْ يُضْطَرَّ وَلَا كَانَ لَهُ جِهَةٌ ظَاهِرَةٌ يَفِي مِنْهَا
وَالدَّائِنُ جَاهِلٌ بِحَالِهِ
) .
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { مَنْ أَخَذَ
أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ إتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ ادَّانَ دَيْنًا وَهُوَ أَنْ
يَنْوِيَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ
اسْتَدَانَ دَيْنًا وَهُوَ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ فَمَاتَ قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : ظَنَنْت أَنِّي لَا آخُذُ لِعَبْدٍ
بِحَقِّهِ فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَيُجْعَلُ فِي حَسَنَاتِ الْآخَرِ فَإِنْ لَمْ
تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ الْآخَرِ فَيُجْعَلُ عَلَيْهِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ
لَا بَأْسَ بِهِ إلَّا أَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ فِي أَحَدِ رُوَاتِهِ فِيهِ
نَظَرٌ : { أَيُّمَا رَجُلٍ يَدِينُ دَيْنًا وَهُوَ مُجْمِعٌ أَنْ لَا يُوَفِّيَهُ
لَقِيَ اللَّهَ سَارِقًا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَتْرُوكٌ : {
وَأَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَنَوَى أَنْ لَا يُعْطِيَهَا مِنْ صَدَاقِهَا
شَيْئًا مَاتَ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ زَانٍ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ اشْتَرَى مِنْ
رَجُلٍ بَيْعًا يَنْوِي أَنْ لَا يُعْطِيَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا مَاتَ يَوْمَ
يَمُوتُ وَهُوَ خَائِنٌ وَالْخَائِنُ فِي النَّارِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { مَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ
وَلَا دِرْهَمٌ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { الدَّيْنُ دَيْنَانِ فَمَنْ مَاتَ
وَهُوَ يَنْوِي قَضَاءَهُ فَأَنَا وَلِيُّهُ ، وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ لَا يَنْوِي
قَضَاءَهُ فَذَلِكَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ لَيْسَ يَوْمَئِذٍ دِينَارٌ
وَلَا دِرْهَمٌ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ
بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مَا
قَلَّ مِنْ الْمَهْرِ أَوْ كَثُرَ لَيْسَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهَا
حَقَّهَا خَدَعَهَا فَمَاتَ وَلَمْ
يُؤَدِّ إلَيْهَا حَقَّهَا لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَهُوَ زَانٍ ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ اسْتَدَانَ دَيْنًا لَا يُرِيدُ أَنْ
يُؤَدِّيَهُ إلَى صَاحِبِهِ خَدَعَهُ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ فَمَاتَ وَلَمْ
يُؤَدِّ إلَيْهِ دَيْنَهُ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ سَارِقٌ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو
نُعَيْمٍ وَإِسْنَادُ أَحَدِهِمْ حَسَنٌ : { يَدْعُو اللَّهُ بِصَاحِبِ الدَّيْنِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ
فِيمَ أَخَذْت هَذَا الدَّيْنَ ؟ وَفِيمَ ضَيَّعْتَ حُقُوقَ النَّاسِ ؟ فَيَقُولُ
يَا رَبِّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي أَخَذْتُهُ فَلَمْ آكُلْ وَلَمْ أَشْرَبْ وَلَمْ
أَلْبَسْ وَلَمْ أُضَيِّعْ .
وَلَكِنْ إمَّا حَرَقٌ وَإِمَّا سَرَقٌ وَإِمَّا وَضِيعَةٌ
: أَيْ بَيْعٌ بِأَقَلَّ مِمَّا اشْتَرَى بِهِ .
فَيَقُولُ اللَّهُ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَحَقُّ مَنْ
قَضَى عَنْكَ فَيَدْعُو اللَّهُ بِشَيْءٍ فَيَضَعُهُ فِي كِفَّةِ مِيزَانِهِ ،
فَتَرْجَحُ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ
} .
وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ { عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْكُفْرِ
وَالدَّيْنِ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْدِلُ الْكُفْرَ بِالدَّيْنِ
؟ قَالَ : نَعَمْ } وَالطَّبَرَانِيُّ : { صَاحِبُ الدَّيْنِ مَأْسُورٌ بِدَيْنِهِ
يَشْكُو إلَى اللَّهِ الْوَحْدَةَ
} .
وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ أَعْظَمَ
الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ أَنْ يَلْقَاهُ بِهَا عَبْدٌ بَعْدَ الْكَبَائِرِ
الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا أَنْ يَمُوتَ رَجُلٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَدَعُ
لَهُ قَضَاءً } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ
لَيِّنٍ .
الْحَدِيثُ الْآتِي بِطُولِهِ فِي الْغِيبَةِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِيهِ : {
أَرْبَعَةٌ يُؤْذُونَ أَهْلَ النَّارِ عَلَى مَا بِهِمْ
مِنْ الْأَذَى يَسْعُونَ مَا بَيْنَ الْحَمِيمِ وَالْجَحِيمِ يَدْعُونَ
بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ ، يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ النَّارِ لِبَعْضٍ مَا بَالُ هَؤُلَاءِ
قَدْ آذَوْنَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ
الْأَذَى
.
قَالَ
: فَرَجُلٌ مُعَلَّقٌ عَلَيْهِ تَابُوتٌ مِنْ جَمْرٍ ،
وَرَجُلٌ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ ، وَرَجُلٌ يَسِيلُ فُوهُ قَيْحًا وَدَمًا ،
وَرَجُلٌ يَأْكُلُ لَحْمَهُ فَيُقَالُ لِصَاحِبِ التَّابُوتِ : مَا بَالُ
الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى ؟ فَيَقُولُ إنَّ
الْأَبْعَدَ قَدْ مَاتَ وَفِي عُنُقِهِ أَمْوَالُ النَّاسِ لَا يَجِدُ لَهَا
قَضَاءً أَوْ وَفَاءً } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
عَنْ جَابِرٍ قَالَ : { تُوُفِّيَ رَجُلٌ فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَحَنَّطْنَاهُ
، ثُمَّ أَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُصَلِّي عَلَيْهِ ، فَقُلْنَا تُصَلِّي عَلَيْهِ فَخَطَا خُطْوَةً ثُمَّ قَالَ :
أَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قُلْنَا دِينَارَانِ فَانْصَرَفَ فَتَحَمَّلَهُمَا أَبُو
قَتَادَةَ فَأَتَيْنَاهُ فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ الدِّينَارَانِ عَلَيَّ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : قَدْ أَوْفَى اللَّهُ حَقَّ الْغَرِيمِ وَبَرِئَ مِنْهُمَا الْمَيِّتُ
قَالَ نَعَمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ
.
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ مَا فَعَلَ
الدِّينَارَانِ ؟ قُلْت إنَّمَا مَاتَ أَمْسِ قَالَ فَعَادَ إلَيْهِ مِنْ الْغَدِ
فَقَالَ قَدْ قَضَيْتُهُمَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : الْآنَ كَمَا بَرِئَتْ جِلْدَتُهُ } .
وَكَوْنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يُصَلِّي عَلَى الْمَدِينِ صَحِيحٌ لَكِنَّهُ نُسِخَ .
فَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْتَى بِالْمَيِّتِ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيَسْأَلُ
هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ قَضَاءً ؟ فَإِنْ حَدَثَ أَنَّهُ تَرَكَ وَفَاءً يُصَلِّي عَلَيْهِ
وَإِلَّا قَالَ صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ ، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ
الْفُتُوحَ قَالَ أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، فَمَنْ
تُوُفِّيَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ ، مَنْ تَرَكَ مَالًا فَهُوَ
لِوَرَثَتِهِ } .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ سُئِلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مَدِينٍ فَقَالَ مَا يَنْفَعُكُمْ أَنْ
أُصَلِّيَ عَلَى رَجُلٍ رُوحُهُ مُرْتَهَنٌ فِي قَبْرِهِ لَا
تَصْعَدُ رُوحُهُ إلَى السَّمَاءِ فَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ
دَيْنَهُ قُمْت فَصَلَّيْت عَلَيْهِ فَإِنَّ صَلَاتِي تَنْفَعُهُ } .
وَصَحَّ :
{ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ : أَيْ
مَحْبُوسَةٌ عَنْ مَقَامِهَا الْكَرِيمِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ دَيْنُهُ } .
وَصَحَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ : { إنَّ صَاحِبَكُمْ حُبِسَ
عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ بِدَيْنٍ كَانَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ
وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ إلَى عَذَابِ اللَّهِ } .
وَصَحَّ : { إنَّ اللَّهَ مَعَ الْمَدِينِ حَتَّى
يَقْضِيَ دَيْنَهُ مَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ ، وَإِنَّ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ لِخَازِنِهِ :
اذْهَبْ فَخُذْ لِي بِدَيْنٍ ، فَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَبِيتَ لَيْلَةً إلَّا
وَاَللَّهُ مَعِي إذْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ } .
وَصَحَّ : { مَنْ حَمَلَ مِنْ أُمَّتِي دَيْنًا ثُمَّ
جَهِدَ فِي قَضَائِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ فَأَنَا وَلِيُّهُ .
مَا مِنْ أَحَدٍ يُدَانُ دَيْنًا يَعْلَمُ اللَّهُ
أَنَّهُ يُرِيدُ قَضَاءَهُ إلَّا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا }
رَوَتْهُ مَيْمُونَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا لِيمَتْ
عَلَى إكْثَارِهَا مِنْ الدَّيْنِ ، وَلَمَّا لِيمَتْ عَائِشَةُ أَيْضًا عَلَى الِاسْتِدَانَةِ .
وَلَهَا عَنْهَا مَنْدُوحَةٌ رَوَتْ : { مَا مِنْ عَبْدٍ
كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي أَدَاءِ دَيْنِهِ إلَّا كَانَ لَهُ مِنْ اللَّهِ عَوْنٌ .
قَالَتْ فَأَنَا أَلْتَمِسُ الْعَوْنَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
} رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا .
وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ نَظَرٌ .
وَقَالَ : { كَانَ لَهُ مِنْ اللَّهِ عَوْنٌ وَسَبَّبَ
لَهُ رِزْقًا } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ
حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ ، وَمَنْ مَاتَ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ وَلَكِنَّهَا
الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ .
وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ لَمْ يَزَلْ
فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ
حُبِسَ فِي
رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ
مِمَّا قَالَ } .
وَجَاءَ عِنْدَ الْبَزَّارِ وَابْنِ مَاجَهْ : { إنَّ
مِمَّنْ يَقْضِي اللَّهُ عَنْهُ دَيْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ ضَعُفَتْ
قُوَّتُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاسْتَدَانَ لِيَقْوَى بِهِ عَلَى عَدُوِّ اللَّهِ
وَعَدُوِّهِ .
وَمَنْ مَاتَ عِنْدَهُ مُسْلِمٌ لَا يَجِدُ مَا
يُكَفِّنُهُ وَيُوَارِيهِ بِهَا إلَّا بِدَيْنٍ ، وَمَنْ خَافَ الْعُزُوبَةَ
فَنَكَحَ خَشْيَةً عَلَى دِينِهِ
} .
وَصَحَّ : { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ قُتِلَ رَجُلٌ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ عَاشَ ثُمَّ قُتِلَ ثُمَّ عَاشَ ثُمَّ قُتِلَ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَا دَخَلَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ } .
وَصَحَّ { لَا تُخِيفُوا أَنْفُسَكُمْ بَعْدَ أَمْنِهَا
قَالُوا وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ الدَّيْنُ } .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ : { أَقِلَّ مِنْ الذُّنُوبِ
يَهُنْ عَلَيْك الْمَوْتُ ، وَأَقِلَّ مِنْ الدَّيْنِ تَعِشْ حُرًّا } .
وَصَحَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ
وَاهِيًا : { الدَّيْنُ رَايَةُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ
يَذِلَّ عَبْدًا وَضَعَهُ فِي عُنُقِهِ
} .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ ذَيْنِك كَبِيرَتَيْنِ هُوَ وَإِنْ
لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ صَرِيحُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ
مِنْ أَنَّهُ يَلْقَى اللَّهَ سَارِقًا
.
وَالْحَدِيثَانِ يَشْمَلَانِ ذَيْنِك .
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَوَاضِحٌ وَأَمَّا الثَّانِي :
فَكَذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ {
خَدَعَهُ حَتَّى أَخَذَ مَالَهُ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ أَخَذَ دَيْنًا لَا
يَرْجُو لَهُ وَفَاءً مِنْ جِهَةِ ظَاهِرِهِ وَالدَّائِنُ جَاهِلٌ بِحَالِهِ
فَقَدْ خَدَعَ الْآخِذَ مِنْهُ حَتَّى أَعْطَاهُ مَالَهُ ، إذْ لَوْلَا خَدِيعَتُهُ
لَهُ لَمْ يُعْطِهِ لَهُ ، وَجَمِيعُ التَّغْلِيظَاتِ فِي الدَّيْنِ
الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا يَنْبَغِي حَمْلُهَا عَلَى
إحْدَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرَتْهُمَا فِي التَّرْجَمَةِ
أَوْ عَلَى مَا لَوْ اسْتَدَانَهُ لِيَصْرِفَهُ فِي مَعْصِيَةٍ وَمَا جَاءَ فِيهِ
مِنْ التَّخْفِيفِ كَالْإِعَانَةِ وَالْقَضَاءِ عَنْهُ وَغَيْرِهِمَا يَنْبَغِي
حَمْلُهُ عَلَى مَا لَوْ اسْتَدَانَهُ فِي طَاعَةٍ
نَاوِيًا أَدَاءَهُ وَلَهُ وَجِهَةٌ ظَاهِرَةٌ يُؤَدِّي مِنْهَا أَوْ وَالدَّائِنُ
عَالِمٌ بِحَالِهِ ، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْته وَإِنْ لَمْ أَرَهُ تَجْتَمِعُ
الْأَحَادِيثُ وَيَزُولُ مَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُهَا مِنْ التَّعَارُضِ عِنْدَ مَنْ
لَمْ يَتَأَمَّلْ فِيهَا عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْته ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
مُهِمٌّ .
( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ :
مَطْلُ الْغَنِيِّ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ) .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ } : أَيْ بِضَمٍّ
فَسُكُونٍ أُحِيلَ .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَتَشْدِيدُ الْمُحَدِّثِينَ
التَّاءَ خَطَأٌ { أَحَدُكُمْ عَلَيَّ مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ : { لَيُّ الْوَاجِدِ
} : أَيْ مَطْلُ الْقَادِرِ عَلَى وَفَاءِ دَيْنِهِ {
يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } : أَيْ يُبِيحُ أَنْ يُذْكَرَ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْمَطْلِ وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ لَا غَيْرِهِمَا ، إذْ الْمَظْلُومُ لَا يَجُوزُ
لَهُ أَنْ يَذْكُرَ ظَالِمَهُ إلَّا بِالنَّوْعِ الَّذِي ظَلَمَهُ بِهِ دُونَ
غَيْرِهِ ، وَيُبِيحُ أَيْضًا عُقُوبَتَهُ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ وَغَيْرِهِمَا .
وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ بِسَنَدٍ
فِيهِ مَنْ وُثِّقَ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي الْمُتَابَعَاتِ : { إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْغَنِيَّ
الظَّلُومَ ، وَالشَّيْخَ الْجَهُولَ ، وَالْعَائِلَ الْمُخْتَالَ } : أَيْ
الْفَقِيرَ الْمُتَكَبِّرَ .
وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ أَبُو دَاوُد وَابْنُ خُزَيْمَةَ
فِي صَحِيحِهِ ، وَكَذَا النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ : {
مَا قَدَّسَ اللَّهُ أُمَّةً لَا يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا الْحَقَّ مِنْ قَوِيِّهَا غَيْرَ
مُتَعْتَعٍ ، ثُمَّ قَالَ : مَنْ انْصَرَفَ غَرِيمُهُ وَهُوَ عَنْهُ رَاضٍ صَلَّتْ
عَلَيْهِ دَوَابُّ الْأَرْضِ وَنُونُ الْمَاءِ : أَيْ حُوتُهُ وَلَيْسَ مِنْ
عَبْدٍ يُلَوِّي غَرِيمَهُ وَهُوَ يَجِدُ إلَّا كُتِبَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ وَجُمُعَةٍ وَشَهْرٍ ظُلْمٌ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مِنْ اُخْتُلِفَ فِي
تَوْثِيقِهِ وَأَحْمَدُ بِنَحْوِهِ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ جَيِّدٍ عَنْ خَوْلَةَ
زَوْجَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسْقُ تَمْرٍ فَأَمَرَ
أَنْصَارِيًّا أَنْ يَقْضِيَهُ فَقَضَاهُ دُونَ تَمْرِهِ
فَأَبَى أَنْ يَقْبِضَهُ فَقَالَ أَتَرُدُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَمَنْ أَحَقُّ بِالْعَدْلِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاكْتَحَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُمُوعِهِ ، ثُمَّ قَالَ صَدَقَ ، وَمَنْ
أَحَقُّ بِالْعَدْلِ مِنِّي لَا قَدَّسَ اللَّهُ أُمَّةً لَا يَأْخُذُ ضَعِيفُهَا
حَقَّهُ مِنْ شَدِيدِهَا وَلَا يُتَعْتِعُهُ ، ثُمَّ قَالَ يَا خَوْلَةُ عُدِّيهِ
وَاقْضِيهِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ غَرِيمٍ يَخْرُجُ مِنْ عِنْدِهِ غَرِيمُهُ
رَاضِيًا إلَّا صَلَّتْ عَلَيْهِ دَوَابُّ الْأَرْضِ وَنُونُ الْبِحَارِ ،
وَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يُلَوِّي غَرِيمَهُ وَهُوَ يَجِدُ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إثْمًا } ، وَتَعْتَعَهُ بِفَوْقِيَّتَيْنِ وَمُهْمَلَتَيْنِ
: أَقْلَقَهُ وَأَتْعَبَهُ بِكَثْرَةِ تَرَدُّدِهِ إلَيْهِ وَمَطْلِهِ إيَّاهُ ،
وَيُلَوِّي : يَمْطُلُ وَيُسَوِّفُ
.
وَصَحَّ أَيْضًا .
{ لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يُعْطَى الضَّعِيفُ فِيهَا
حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ بِقِصَّةٍ ، وَهِيَ : { أَنَّ
أَعْرَابِيًّا كَانَ لَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَيْنٌ فَتَقَاضَاهُ إيَّاهُ وَاشْتَدَّ حَتَّى قَالَ أُحَرِّجُ عَلَيْك إلَّا
قَضَيْتَنِي فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ ، فَقَالُوا وَيْحَك تَدْرِي مَنْ
تُكَلِّمُ ؟ قَالَ إنِّي أَطْلُبُ حَقِّي .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ ؟ ثُمَّ أَرْسَلَ إلَى خَوْلَةَ فَقَالَ
لَهَا إنْ كَانَ عِنْدَك تَمْرٌ فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرٌ
فَنَقْضِيَك ، فَقَالَتْ : نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَأَقْرَضَتْهُ ، فَقَضَى الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ فَقَالَ أَوْفَيْتَ
أَوْفَى اللَّهُ لَك فَقَالَ أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ إنَّهُ لَا قُدِّسَتْ
أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ } .
تَنْبِيهٌ : عُدَّ هَذَا كَبِيرَةً لَمْ أَرَهُ
لَكِنَّهُ صَرِيحُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ ، إذْ الظُّلْمُ
وَحِلُّ الْعِرْضِ وَالْعُقُوبَةِ مِنْ أَكْبَرِ
الْوَعِيدِ ، بَلْ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَزَعَمُوا فِيهِ
الِاتِّفَاقَ بِأَنَّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ مَعَ قُدْرَتِهِ
عَلَيْهِ بَعْدَ أَمْرِ الْحَاكِمِ لَهُ بِهِ ، لِلْحَاكِمِ أَنْ يُشَدِّدَ
عَلَيْهِ فِي الْعُقُوبَةِ فَيَنْخُسَهُ بِحَدِيدَةٍ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ أَوْ
يَمُوتَ كَمَا قِيلَ بِنَظَرِهِ فِي تَارِكِ الصَّلَاةِ عَلَى وَجْهٍ .
قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : إنَّهُ مَقِيسٌ عَلَى مَا
هُنَا ، فَهُوَ قِيَاسُ ضَعِيفٍ عَلَى ضَعِيفٍ لِأَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ يَكُونُ
عَلَى ضَعِيفٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ الرَّدُّ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ فَهِمُوا مِمَّا تَوَهَّمُوهُ
أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ أَنَّ مَا هُنَا
مُعْتَمَدٌ حَيْثُ جُعِلَ أَصْلًا مَقِيسًا عَلَيْهِ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ :
أَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ) قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ
سَعِيرًا } { قَالَ قَتَادَةُ : نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ غَطَفَانَ وُلِّيَ مَالَ
ابْنِ أَخِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ يَتِيمٌ فَأَكَلَهُ } .
وَقَوْلُهُ { ظُلْمًا } : أَيْ لِأَجْلِهِ أَوْ حَالَ
كَوْنِهِمْ ظَالِمِينَ ، وَخَرَجَ بِهِ أَكْلُهَا بِحَقٍّ كَأَكْلِ الْوَالِي بِشُرُوطِهِ
الْمُقَرَّرَةِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ
.
قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أَيْ
بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ فَحَسْبُ ، أَوْ بِأَنْ يَأْخُذَ قَرْضًا أَوْ بِقَدْرِ
أُجْرَةِ عَمَلِهِ أَوْ إنْ اُضْطُرَّ فَإِنْ أَيْسَرَ قَضَاهُ وَإِلَّا فَهُوَ
فِي حِلِّ أَقْوَالٍ أَرْبَعَةٍ ، الصَّحِيحُ مِنْهَا عِنْدَنَا أَنَّ الْوَلِيَّ
إذَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِالنَّظَرِ لَهُ فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يَأْخُذْ
مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ، فَإِنْ كَانَ وَصِيًّا وَشَغَلَهُ عَنْ كَسْبِهِ
النَّظَرُ فِي مَالِ مَحْجُورِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ وَلَوْ بِلَا قَاضٍ
أَقَلَّ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أُجْرَتِهِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ فِي ذَلِكَ وَمِنْ
مُؤْنَتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ عُرْفًا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ
أَكْثَرَ مِنْ الْأَقَلِّ .
أَمَّا الْقَاضِي فَلَا يَأْخُذُ شَيْئًا مُطْلَقًا .
وَأَمَّا الْأَبُ وَالْجَدُّ وَالْأُمُّ الْوَصِيَّةُ
فَلَهُمْ الْكِفَايَةُ إذْ تَجِبُ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْوَلَدِ ، وَلَوْ
تَضَجَّرَ الْأَبُ أَوْ الْجَدُّ مِنْ النَّظَرِ فِي مَالِ وَلَدِهِ نَصَّبَ لَهُ
الْقَاضِي قَيِّمًا أَوْ نَصَّبَهُ الْقَاضِي وَقَدَّرَ لَهُ أُجْرَةً مِنْ مَالِ الْوَلَدِ
حَيْثُ لَا مُتَبَرِّعَ ، وَلَيْسَ لَهُ مُطَالَبَةُ الْقَاضِي بِتَقْدِيرِ
أُجْرَةٍ لَهُ وَلَوْ فَقِيرًا ، وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْلِطَ طَعَامَهُ بِطَعَامِ
الْيَتِيمِ ، وَأَنْ يُضَيِّفَ مِنْ الْمَخْلُوطِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ
لَهُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ كَأَنْ يَكُونُ أَوْفَرَ عَلَيْهِ مِمَّا لَوْ أَكَلَ
وَحْدَهُ ، وَأَنْ تَكُونَ الضِّيَافَةُ مِمَّا زَادَ عَلَى
قَدْرِ مَا يَخُصُّ الْيَتِيمَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، وَ
{ إنَّمَا } إلَخْ خَبَرُ ( إنَّ ) ، وَ { فِي بُطُونِهِمْ } مُتَعَلِّقٌ
بِيَأْكُلُونَ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَهُ أَوْ حَالٌ مِنْ نَارٍ : أَيْ نَارًا
كَائِنَةً فِي بُطُونِهِمْ ، وَذُكِرَ تَأْكِيدًا أَوْ مُبَالَغَةً عَلَى حَدِّ {
يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ } {
وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } وَأَفَادَ
كَوْنُهُ ظَرْفًا لِيَأْكُلُونَ أَنَّ بُطُونَهُمْ أَوْعِيَةُ النَّارِ ، إمَّا
حَقِيقَةً بِأَنْ يَخْلُقَ اللَّهُ لَهُمْ نَارًا يَأْكُلُونَهَا فِي بُطُونِهِمْ أَوْ
مَجَازًا مِنْ إطْلَاقِ الْمُسَبَّبِ وَإِرَادَةِ السَّبَبِ لِكَوْنِهِ يُفْضِي
إلَيْهِ وَيَسْتَلْزِمُهُ .
وَالْمُرَادُ سَائِرُ أَنْوَاعِ الْإِتْلَافِ ، فَإِنَّ
ضَرَرَ الْيَتِيمِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ إتْلَافِ مَالِهِ بِأَكْلٍ أَوْ
غَيْرِهِ وَخَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ عَامَّةَ أَمْوَالِهِمْ فِي
ذَلِكَ الْوَقْتِ الْأَنْعَامُ ، وَهِيَ يُؤْكَلُ لَحْمُهَا وَيُشْرَبُ لَبَنُهَا
، أَوْ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ، وَالسَّعِيرُ الْجَمْرُ
الْمُتَّقِدُ مِنْ سَعَّرْت النَّارَ أَوْقَدْتهَا وَلِشِدَّةِ الْوَعِيدِ الَّذِي
تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : أَكْلُ مَالِ
الْيَتِيمِ مُجَرَّبٌ لِسُوءِ الْخَاتِمَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ .
وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ تَحَرَّجَ
الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَامْتَنَعُوا مِنْ مُخَالَطَةِ
الْيَتَامَى حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ } وَزَعْمُ أَنَّ هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِتِلْكَ وَهْمٌ فَاحِشٌ
لِأَنَّ تِلْكَ فِي مَنْعِ أَكْلِهَا ظُلْمًا وَهَذَا لَا يُنْسَخُ وَإِنَّمَا
الْمُرَادُ أَنَّ مُخَالَطَتَهُمْ الْمَمْنُوعَةَ الشَّدِيدَةَ الْوَعِيدِ
وَالْعِقَابِ وَالْعَلَامَةَ عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ وَتَأْبِيدِ الْعَذَابِ
هِيَ الَّتِي عَلَى وَجْهِ الظُّلْمِ وَإِلَّا كَانَتْ مِنْ أَعْظَمِ الْبِرِّ .
فَالْآيَةُ الْأُولَى فِي الشِّقِّ الْأَوَّلِ
وَالثَّانِيَةُ فِي الشِّقِّ الثَّانِي وَهَذَا ظَاهِرٌ جَلِيٌّ ، وَقَدْ جَمَعَ
تَعَالَى بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ قَائِلًا : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ
الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } : وَقَدْ نَبَّهَ
تَعَالَى عَلَى تَأَكُّدِ حَقِّ الْأَيْتَامِ وَمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ
بِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ
خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } إذْ الْمُرَادُ بِشَهَادَةِ السِّيَاقِ خِلَافًا
لِمَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى أَنَّهَا فِي الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ مِنْ
الثُّلُثِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ الْحَمْلِ لِمَنْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمٌ عَلَى
أَنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِ حَتَّى فِي الْخِطَابِ ، فَلَا يُخَاطِبُهُ إلَّا
بِنَحْوِ يَا بُنَيَّ مِمَّا يُخَاطِبُ بِهِ أَوْلَادَهُ ، وَيَفْعَلُ مَعَهُ مِنْ
الْبِرِّ وَالْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ وَالْقِيَامِ فِي مَالِهِ مَا يَجِبُ أَنْ
يَفْعَلَ بِمَالِهِ وَبِذُرِّيَّتِهِ مِنْ بَعْدِهِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ
جِنْسِ الْعَمَلِ { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } أَيْ الْجَزَاءِ .
كَمَا تَدِينُ تُدَانُ : أَيْ كَمَا تَفْعَلُ يُفْعَلُ
مَعَك .
بَيْنَمَا الْإِنْسَانُ آمِنٌ مُتَصَرِّفٌ فِي مَالِ
الْغَيْرِ وَعَلَى أَوْلَادِ غَيْرِهِ ، وَإِذَا بِالْمَوْتِ قَدْ حَلَّ بِهِ
فَيَجْزِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَالِهِ وَذُرِّيَّتِهِ وَعِيَالِهِ وَسَائِرِ
تَعَلُّقَاتِهِ بِنَظِيرِ مَا فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ ، إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ،
وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ .
فَلْيَخْشَ الْعَاقِلُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَمَالِهِ إنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ خَشْيَةٌ عَلَى دِينِهِ ، وَيَتَصَرَّفُ عَلَى الْأَيْتَامِ
الَّذِينَ فِي حِجْرِهِ بِمَا يَجِبُ أَنْ يَتَصَرَّفَ وَلِيُّ أَوْلَادِهِ لَوْ
كَانُوا أَيْتَامًا عَلَيْهِمْ فِي مَالِهِ .
وَجَاءَ :
{ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى دَاوُد صَلَّى
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ : يَا دَاوُد كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ
الرَّحِيمِ ، وَكُنْ لِلْأَرْمَلَةِ كَالزَّوْجِ الشَّفِيقِ } .
وَاعْلَمْ أَنَّك كَمَا تَزْرَعُ كَذَا تَحْصُدُ : أَيْ
كَمَا تَفْعَلُ يُفْعَلُ مَعَك ، إذْ لَا بُدَّ أَنْ تَمُوتَ وَيَبْقَى لَك وَلَدٌ
يَتِيمٌ وَامْرَأَةٌ أَرْمَلَةٌ
.
وَجَاءَ فِي التَّشْدِيدِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالظُّلْمِ
فِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مُوَافِقَةٌ لِمَا فِي الْآيَةِ مِنْ ذَلِكَ
الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ تَحْذِيرًا لِلنَّاسِ عَنْ هَذِهِ
الْفَاحِشَةِ الْوَخِيمَةِ الْمُهْلِكَةِ .
مِنْهَا :
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي
أَرَاك ضَعِيفًا ، وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي ، لَا تَأَمَّرَنَّ
عَلَى اثْنَيْنِ ، وَلَا تَلِيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { اجْتَنِبُوا السَّبْعَ
الْمُوبِقَاتِ أَيْ الْمُهْلِكَاتِ
.
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ ؟ قَالَ
الشِّرْكُ بِاَللَّهِ وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ
إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ } الْحَدِيثَ .
وَالْبَزَّارُ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ الْإِشْرَاكُ
بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ
مَالِ الْيَتِيمِ } الْحَدِيثَ
.
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { أَرْبَعٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ
أَنْ لَا يُدْخِلَهُمْ الْجَنَّةَ وَلَا يُذِيقَهُمْ نَعِيمَهَا : مُدْمِنُ خَمْرٍ
، وَآكِلُ الرِّبَا ، وَآكِلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْعَاقُّ
لِوَالِدَيْهِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { إنَّ مِنْ جُمْلَةِ كِتَابِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَرْسَلَهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ : وَإِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ
بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ
، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَةِ ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ
مَالِ الْيَتِيمِ } .
وَأَبُو يَعْلَى : { يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
قَوْمٌ فِي قُبُورِهِمْ تُأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا ، فَقِيلَ مَنْ هُمْ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } } .
وَفِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ عِنْدَ مُسْلِمٍ : { فَإِذَا
أَنَا بِرِجَالٍ قَدْ وُكِّلَ بِهِمْ رِجَالٌ يَفُكُّونَ لِحَاهُمْ ، وَآخَرُونَ يَجِيئُونَ
بِالصُّخُورِ مِنْ النَّارِ فَيَقْذِفُونَهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ فَتَخْرُجُ مِنْ
أَدْبَارِهِمْ .
فَقُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ :
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا } .
وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ رَأَيْت لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي قَوْمًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ
، وَقَدْ وُكِّلَ بِهِمْ مَنْ يَأْخُذُ مَشَافِرَهُمْ ، ثُمَّ يَجْعَلُ فِي
أَفْوَاهِهِمْ صَخْرًا مِنْ نَارٍ تَخْرُجُ مِنْ أَسَافِلِهِمْ .
فَقُلْت يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : هُمْ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ
لِمَا ذُكِرَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَكْلِ قَلِيلِهِ
وَكَثِيرِهِ وَلَوْ حَبَّةً عَلَى مَا مَرَّ فِي بَخْسِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ
وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا سَيَأْتِي عَنْهُمْ فِي الْغَصْبِ
وَالسَّرِقَةِ بِنَظِيرِ مَا فَرَّقْت بِهِ بَيْنَ ذَيْنِك وَالتَّطْفِيفِ كَمَا
مَرَّ آنِفًا فِيهِ مِنْ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ
الْيَتِيمِ ، فَلَوْ لَمْ يُحْكَمْ فِي الْقَلِيلِ بِكَوْنِهِ كَبِيرَةً لَجَرَّهُ
ذَلِكَ إلَى الْكَثِيرِ إذْ لَا مَانِعَ لَهُ لِأَنَّهُ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْكُلِّ
فَتَعَيَّنَ الْحُكْمُ بِالْكَبِيرَةِ عَلَى أَخْذِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
بِخِلَافِهِ فِي ذَيْنِك فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ كَمَا
بَسَطْته فِي التَّنْظِيفِ قَرِيبًا فَرَاجِعْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ ، وَبِهِ
يَنْدَفِعُ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَخْذَ التَّافِهِ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ صَغِيرَةٌ
، وَسَيَأْتِي فِي الْغَصْبِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ .
خَاتِمَةٌ :
فِي كَفَالَةِ الْيَتِيمِ وَالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ ،
وَالسَّعْيِ عَلَى الْأَرْمَلَةِ : أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ : { أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ
فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا ، وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى
وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا } .
وَمُسْلِمٌ : { كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ
أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ
وَالْوُسْطَى } .
وَالْبَزَّارُ : { مَنْ كَفَلَ يَتِيمًا لَهُ ذُو
قَرَابَةٍ أَوْ لَا قَرَابَةَ لَهُ فَأَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ
وَضَمَّ إصْبَعَيْهِ .
وَمَنْ سَعَى عَلَى ثَلَاثِ بَنَاتٍ فَهُوَ فِي
الْجَنَّةِ ، وَكَانَ لَهُ كَأَجْرِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَائِمًا
قَائِمًا } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ عَالَ ثَلَاثَةً مِنْ
الْأَيْتَامِ كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ وَغَدَا وَرَاحَ
شَاهِرًا سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكُنْت أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ
أَخَوَانِ ، كَمَا أَنَّ هَاتَيْنِ أُخْتَانِ ، وَأَلْصَقَ إصْبَعَيْهِ
السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ : { مَنْ قَبَضَ يَتِيمًا
مِنْ بَيْنِ مُسْلِمِينَ إلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ
الْجَنَّةَ أَلْبَتَّةَ إلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ لَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ : { حَتَّى
يَسْتَغْنِيَ عَنْهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ أَلْبَتَّةَ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { خَيْرُ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ
بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُحْسَنُ إلَيْهِ ، وَشَرُّ بَيْتٍ فِي الْمُسْلِمِينَ
بَيْتٌ فِيهِ يَتِيمٌ يُسَاءُ إلَيْهِ
} .
وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { أَنَا أَوَّلُ مَنْ
يَفْتَحُ بَابَ الْجَنَّةِ إلَّا أَنِّي أَرَى امْرَأَةً تُبَادِرُنِي ، فَأَقُولُ
مَا لَك وَمَنْ أَنْتِ ؟ تَقُولُ : أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدْت عَلَى أَيْتَامٍ لِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا
وَاحِدًا وَمَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْمَتْرُوكِ : { وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ
لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ رَحِمَ الْيَتِيمَ وَلَانَ لَهُ
فِي الْكَلَامِ وَرَحِمَ يُتْمَهُ وَضَعْفَهُ ، وَلَمْ يَتَطَاوَلْ عَلَى جَارِهِ
بِفَضْلِ مَا آتَاهُ اللَّهُ }
.
وَأَحْمَدُ
وَغَيْرُهُ : { مَنْ مَسَحَ عَلَى رَأْسِ يَتِيمٍ لَمْ
يَمْسَحْهُ إلَّا لِلَّهِ كَانَتْ لَهُ فِي كُلِّ شَعْرَةٍ مَرَّتْ عَلَيْهَا
يَدُهُ حَسَنَاتٌ .
وَمَنْ أَحْسَنَ إلَى يَتِيمٍ أَوْ يَتِيمَةٍ عِنْدَهُ
كُنْت أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ } الْحَدِيثَ .
وَأَخْرَجَ جَمَاعَةٌ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ عَلَى
احْتِمَالٍ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِيَعْقُوبَ إنَّ سَبَبَ ذَهَابِ
بَصَرِهِ وَانْحِنَاءِ ظَهْرِهِ وَفِعْلِ إخْوَةِ يُوسُفَ بِهِ مَا فَعَلُوا
أَنَّهُ أَتَاهُ يَتِيمٌ مِسْكِينٌ صَائِمٌ جَائِعٌ وَقَدْ ذَبَحَ هُوَ وَأَهْلُهُ
شَاةً فَأَكَلُوهَا وَلَمْ يُطْعِمُوهُ ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ
لَمْ يُحِبَّ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ حُبَّهُ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْنَعَ طَعَامًا وَيَدْعُوَ الْمَسَاكِينَ فَفَعَلَ } .
وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ
وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْسَبُهُ قَالَ
وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ
كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَاَلَّذِي يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ
النَّهَارَ } .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كُنْتُ فِي بَدْءِ أَمْرِي
سِكِّيرًا مُكِبًّا عَلَى الْمَعَاصِي ، فَرَأَيْتُ يَوْمًا يَتِيمًا
فَأَكْرَمْتُهُ كَمَا يُكْرَمُ الْوَلَدُ بَلْ أَكْثَرَ ، ثُمَّ نِمْتُ فَرَأَيْتُ
الزَّبَانِيَةَ أَخَذُونِي أَخْذًا مُزْعِجًا إلَى جَهَنَّمَ وَإِذَا بِالْيَتِيمِ
قَدْ اعْتَرَضَنِي ، فَقَالَ دَعُوهُ حَتَّى أُرَاجِعَ رَبِّي فِيهِ فَأَبَوْا .
فَإِذَا النِّدَاءُ خَلُّوا عَنْهُ فَقَدْ وَهَبْنَا
لَهُ مَا كَانَ مِنْهُ بِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَبَالَغْتُ فِي
إكْرَامِ الْيَتَامَى مِنْ يَوْمَئِذٍ
.
وَكَانَ لِبَعْضِ مَيَاسِيرِ الْعَلَوِيِّينَ بَنَاتٌ
مِنْ عَلَوِيَّةٍ فَمَاتَ وَاشْتَدَّ بِهِنَّ الْفَقْرُ إلَى أَنْ رَحَلْنَ عَنْ
وَطَنِهِنَّ خَوْفَ الشَّمَاتَةِ ، فَدَخَلْنَ مَسْجِدَ بَلَدٍ مَهْجُورًا
فَتَرَكَتْهُنَّ أُمُّهُنَّ فِيهِ وَخَرَجَتْ تَحْتَالُ لَهُنَّ فِي الْقُوتِ
فَمَرَّتْ بِكَبِيرِ الْبَلَدِ وَهُوَ مُسْلِمٌ ،
فَشَرَحَتْ لَهُ حَالَهَا فَلَمْ يُصَدِّقْهَا وَقَالَ : لَا بُدَّ أَنْ تُقِيمِي
عِنْدِي الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ
.
فَقَالَتْ أَنَا غَرِيبَةٌ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ، ثُمَّ مَرَّتْ
بِمَجُوسِيٍّ فَشَرَحَتْ لَهُ ذَلِكَ فَصَدَّقَ ، وَأَرْسَلَ بَعْضَ نِسَائِهِ
فَأَتَتْ بِهَا وَبِبَنَاتِهَا إلَى دَارِهِ فَبَالَغَ فِي إكْرَامِهِنَّ ،
فَلَمَّا مَضَى نِصْفُ اللَّيْلِ رَأَى ذَلِكَ الْمُسْلِمُ الْقِيَامَةَ قَدْ
قَامَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْقُودٌ عَلَى رَأْسِهِ
لِوَاءُ الْحَمْدِ وَعِنْدَهُ قَصْرٌ عَظِيمٌ .
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ ؟ قَالَ
لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ، قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ مُوَحِّدٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَقِمْ عِنْدِي الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ فَتَحَيَّرَ ، فَقَصَّ
لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ الْعَلَوِيَّةَ ، فَانْتَبَهَ
الرَّجُلُ فِي غَايَةِ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ إذْ رَدَّهَا ، ثُمَّ بَالَغَ فِي
الْفَحْصِ عَنْهَا حَتَّى دُلَّ عَلَيْهَا بِدَارِ الْمَجُوسِيِّ فَطَلَبَهَا
مِنْهُ فَأَبَى وَقَالَ قَدْ لَحِقَنِي مِنْ بَرَكَاتِهِنَّ ، فَقَالَ خُذْ أَلْفَ
دِينَارٍ وَسَلِّمْهُنَّ إلَيَّ فَأَبَى ، فَأَرَادَ أَنْ يُكْرِهَهُ ، فَقَالَ الَّذِي
تُرِيدُهُ أَنَا أَحَقُّ بِهِ ، وَالْقَصْرُ الَّذِي رَأَيْته فِي النَّوْمِ
خُلِقَ لِي ، أَتَفْخَرُ عَلَيَّ بِإِسْلَامِك ، فَوَاَللَّهِ مَا نَمُتْ أَنَا
وَأَهْلُ دَارِي حَتَّى أَسْلَمْنَا كُلُّنَا عَلَى يَدِ الْعَلَوِيَّةِ ،
وَرَأَيْتُ مِثْلَ مَنَامِكَ .
وَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : الْعَلَوِيَّةُ وَبَنَاتُهَا عِنْدَك ؟ قُلْت نَعَمْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ .
قَالَ : الْقَصْرُ لَك وَلِأَهْلِ دَارِك فَانْصَرَفَ
الْمُسْلِمُ وَبِهِ مِنْ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ
تَعَالَى .
( الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ :
إنْفَاقُ مَالٍ وَلَوْ فَلْسًا فِي مُحَرَّمٍ وَلَوْ صَغِيرَةً ) وَعَدِّي
لِهَذِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَرَهُ لَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ
، فَإِنَّهُمْ عَدُّوا ذَلِكَ سَفَهًا وَتَبْذِيرًا مُوجِبًا لِلْحَجْرِ ،
وَصَرَّحُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّ السَّفِيهَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَا تَصِحُّ
شَهَادَتُهُ وَلَا يَلِي نَحْوَ نِكَاحِ ابْنَتِهِ ، وَمَنْعُ الشَّهَادَةِ مَعَ
نَحْوِ الْوِلَايَةِ يُنْبِئُ عَنْ الْفِسْقِ ، وَمِنْ لَازِمِ كَوْنِ ذَلِكَ
فِسْقًا أَنَّهُ كَبِيرَةٌ فَظَهَرَ مَا ذَكَرْتُهُ ، وَيُوَجَّهُ مِنْ حَيْثُ
الْمَعْنَى بِأَنَّهُ لَا أَعَزُّ عِنْدَ النَّفْسِ مِنْ الْمَالِ ، فَإِذَا هَانَ
عَلَيْهَا صَرْفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ دَلَّ عَلَى الِانْهِمَاكِ التَّامِّ فِي
مَحَبَّةِ الْمَعَاصِي ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِانْهِمَاكَ يَنْشَأُ عَنْهُ
مَفَاسِدُ عَظِيمَةٌ جِدًّا ، فَاتَّجَهَ أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى
أَيْضًا .
الْكَبِيرَةُ الْعَاشِرَةُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) :
إيذَاءُ الْجَارِ وَلَوْ ذِمِّيًّا كَأَنْ يُشْرِفَ عَلَى حُرَمِهِ أَوْ يَبْنِيَ
مَا يُؤْذِيهِ مِمَّا لَا يُسَوَّغُ لَهُ شَرْعًا أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا
يُؤْذِي جَارَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيُكْرِمْ
ضَيْفَهُ ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيَقُلْ
خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ } .
وَمُسْلِمٌ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيُحْسِنْ إلَى جَارِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ سَنَدُهَا حَسَنٌ : { فَلْيُكْرِمْ
جَارَهُ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ
وَالطَّبَرَانِيُّ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لِأَصْحَابِهِ : مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا ؟ قَالُوا حَرَامٌ حَرَّمَهُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ فَهُوَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَأَنْ يَزْنِيَ
الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ
جَارِهِ .
قَالَ فَمَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ ؟ قَالُوا
حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
قَالَ : لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ
أَبْيَاتٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ : { وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ
، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، قَالُوا مَنْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ : الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } ، زَادَ أَحْمَدُ
: { قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ شَرُّهُ } .
وَالشَّيْخَانِ : { وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ،
وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ .
قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ مَنْ
هَذَا ؟ قَالَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ : قَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّهِ وَمَا بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ شَرُّهُ } .
وَأَبُو يَعْلَى : { مَا هُوَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَا
يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ }
.
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { إنَّ
الرَّجُلَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَأْمَنَ
جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، يَبِيتُ حِينَ يَبِيتُ وَهُوَ آمِنٌ مِنْ شَرِّهِ ، وَإِنَّ
الْمُؤْمِنَ الَّذِي نَفْسُهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ } .
وَمُسْلِمٌ
: { وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ
حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَزَلْتُ فِي
مَحَلَّةِ بَنِي فُلَانٍ ، وَإِنَّ أَشَدَّهُمْ لِي أَذًى أَقْرَبُهُمْ لِي
جِوَارًا ، فَبَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ
وَعَلِيًّا يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ فَيَقُومُونَ عَلَى بَابِهِ فَيَصِيحُونَ أَلَا
إنَّ أَرْبَعِينَ دَارًا جَارٌ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ خَافَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { لَا يَسْتَقِيمُ
إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى
يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ
بَوَائِقَهُ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَأَبُو يَعْلَى
وَالْبَزَّارُ : { الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ
سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ ،
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ
بَوَائِقَهُ } .
وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : { إنَّ اللَّهَ قَسَمَ
بَيْنَكُمْ أَخْلَاقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ ، وَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي
الدِّينَ إلَّا مَنْ أَحَبَّ ، فَمَنْ أَعْطَاهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ ،
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يَسْلَمَ قَلْبُهُ
وَلِسَانُهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ، قُلْتُ وَمَا
بَوَائِقُهُ ؟ قَالَ غِشُّهُ وَظُلْمُهُ ، وَلَا يَكْسِبُ مَالًا مِنْ حَرَامٍ
فَيُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلُ
مِنْهُ وَلَا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إلَّا كَانَ زَادَهُ إلَى النَّارِ .
إنَّ اللَّهَ لَا يَمْحُو السَّيِّئ
بِالسَّيِّئِ وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّئ بِالْحَسَنِ ،
إنَّ الْخَبِيثَ لَا يَمْحُو الْخَبِيثَ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ بْنِ حِبَّانَ : { مَنْ أَذَى جَارَهُ
فَقَدْ أَذَانِي ، وَمَنْ أَذَانِي فَقَدْ أَذَى اللَّهَ ، وَمَنْ حَارَبَ جَارَهُ
فَقَدْ حَارَبَنِي ، وَمَنْ حَارَبَنِي فَقَدْ حَارَبَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَفِيهِ نَكَارَةٌ .
{ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ فَقَالَ : لَا يَصْحَبُنَا الْيَوْمَ مَنْ أَذَى جَارَهُ .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ أَنَا بُلْت فِي أَصْلِ
حَائِطِ جَارِي ، فَقَالَ لَا تَصْحَبُنَا الْيَوْمَ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ
مُسْلِمٍ وَابْنِ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ
الْمُقَامَةِ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ } .
وَأَحْمَدُ وَاللَّفْظُ لَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو جَارَهُ فَقَالَ اطْرَحْ مَتَاعَك
عَلَى الطَّرِيقِ فَطَرَحَهُ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ
وَيَلْعَنُونَهُ ، فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَقِيتُ مِنْ النَّاسِ ، فَقَالَ : وَمَا لَقِيتُ
مِنْهُمْ ؟ قَالَ يَلْعَنُونِي قَالَ : لَقَدْ لَعَنَكَ اللَّهُ قَبْلَ النَّاسِ
قَالَ : إنِّي لَا أَعُودُ فَجَاءَ الَّذِي شَكَاهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ارْفَعْ مَتَاعَكَ فَقَدْ كُفِيتَ } .
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ بِنَحْوِ
إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { ضَعْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ
الطَّرِيقِ فَوَضَعَهُ ، فَكَانَ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِهِ قَالَ مَا شَأْنُكَ قَالَ
جَارِي يُؤْذِينِي فَيَدْعُو عَلَيْهِ فَجَاءَ جَارُهُ فَقَالَ : رُدَّ مَتَاعَكَ
فَلَا أُؤْذِيك أَبَدًا } .
وَأَبُو دَاوُد وَاللَّفْظُ لَهُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : { جَاءَ رَجُلٌ
يَشْكُو
جَارَهُ فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فَاصْبِرْ ، فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ
أَوْ ثَلَاثًا ، فَقَالَ اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَك فِي الطَّرِيقِ فَفَعَلَ ،
فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ وَيَسْأَلُونَهُ وَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَ جَارِهِ
فَجَعَلُوا يَلْعَنُونَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ ، وَبَعْضُهُمْ يَدْعُو
عَلَيْهِ فَجَاءَ إلَيْهِ جَارُهُ فَقَالَ ارْجِعْ فَإِنَّك لَنْ تَرَى مِنِّي
شَيْئًا تَكْرَهُهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
: { قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فُلَانَةَ
تُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصِيَامِهَا غَيْرَ أَنَّهَا
تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا قَالَ هِيَ فِي النَّارِ ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
فَإِنَّ فُلَانَةَ تُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَإِنَّهَا
تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا قَالَ هِيَ
فِي الْجَنَّةِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ أَيْضًا : { فُلَانَةُ
تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا قَالَ هِيَ فِي
النَّارِ .
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ فُلَانَةُ تُصَلِّي
الْمَكْتُوبَاتِ وَتَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ : أَيْ بِالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ
ثَوْرٍ وَهُوَ الْقِطْعَةُ مِنْ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا قَالَ هِيَ
فِي الْجَنَّةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ { عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ :
قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الْجَارِ عَلَى جَارِهِ ؟ قَالَ : إنْ مَرِضَ
عُدْتَهُ ، وَإِنْ مَاتَ شَيَّعْتَهُ ، وَإِنْ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ ،
وَإِنْ أَعْوَرَ سَتَرْتَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي الشَّيْخِ : { وَإِنْ اسْتَعَانَك
أَعَنْته ، وَإِنْ احْتَاجَ أَعْطَيْتَهُ ، هَلْ تَفْقَهُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ
لَنْ يُؤَدِّيَ حَقَّ الْجَارِ إلَّا قَلِيلٌ مِمَّنْ رَحِمَ اللَّهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْخَرَائِطِيِّ : { وَإِذَا افْتَقَرَ
عُدْتَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّيْتَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ
مُصِيبَةٌ عَزَّيْته ، وَإِذَا مَاتَ اتَّبَعْت جِنَازَتَهُ ، وَلَا تَسْتَطِلْ
عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ فَتَحْجُبُ عَنْهُ الرِّيحَ إلَّا بِإِذْنِهِ ، وَلَا
تُؤْذِهِ بِفَائِحِ قِدْرِك إلَّا أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا
، وَإِنْ
اشْتَرَيْت فَاكِهَةً فَأَهْدِ لَهُ مِنْهَا ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا
سِرًّا ، وَلَا يَخْرُجُ بِهَا وَلَدُك لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ } وَرَوَاهُ
الْأَصْبَهَانِيُّ بِنَحْوِهِ .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ .
: وَلَا يَخْفَى أَنَّ كَثْرَةَ هَذِهِ الطُّرُقِ
تُكْسِبُهُ قُوَّةً .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { مَا آمَنَ بِي
مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا وَجَارُهُ جَائِعٌ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ { : لَيْسَ الْمُؤْمِنُ
الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ } وَالطَّبَرَانِيُّ : { جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ اُكْسُنِي فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
اُكْسُنِي فَقَالَ أَمَا لَك جَارٌ لَهُ فَضْلُ ثَوْبَيْنِ ؟ قَالَ : بَلَى غَيْرُ
وَاحِدٍ قَالَ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَك وَبَيْنَهُ فِي الْجَنَّةِ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعَلِّقٍ
بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا لِمَ أَغْلَقَ عَنِّي
بَابَهُ ، وَمَنَعَنِي فَضْلَهُ }
.
وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مَوْصُولًا وَمَقْطُوعًا
بِضَعْفٍ فِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذِهِ
الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ فَقُلْت
أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ
تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ أَغْنَى
النَّاسِ ، وَأَحْسِنْ إلَى جَارِك تَكُنْ مُؤْمِنًا ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا
تُحِبُّ لِنَفْسِك تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَلَا تُكْثِرُ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ
الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ }
.
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ وَابْنَا
خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ
مُسْلِمٍ : { خَيْرُ الْأَصْحَابِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ
، وَخَيْرُ الْجِيرَانِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ } .
وَفِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ : { إنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ
يُحِبُّهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَجُلٌ كَانَ
لَهُ جَارُ سُوءٍ يُؤْذِيهِ فَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُ
حَتَّى يَكْفِيَهُ اللَّهُ إيَّاهُ بِحَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ } .
وَالشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا : { مَا زَالَ جِبْرِيلُ
يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ
{ عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ : خَرَجْتُ مَعَ أَهْلِي أُرِيدُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا بِهِ قَائِمٌ وَإِذَا
رَجُلٌ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ حَاجَةً فَجَلَسْتُ ،
فَوَاَللَّهِ لَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى جَعَلْتُ أَرْثِي لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ فَقُمْتُ
إلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ قَامَ بِكَ هَذَا الرَّجُلُ حَتَّى جَعَلْتُ
أَرْثِي لَك مِنْ طُولِ الْقِيَامِ
.
قَالَ أَتَدْرِي مَنْ هَذَا ؟ قُلْت لَا قَالَ هَذَا
جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ
، أَمَا إنَّكَ لَوْ سَلَّمْتَ عَلَيْهِ لَرَدَّ عَلَيْك السَّلَامَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ { عَنْ أَبِي
أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْجَدْعَاءِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
يَقُولُ : أُوصِيكُمْ بِالْجَارِ حَتَّى أَكْثَرَ ، فَقُلْت إنَّهُ يُوَرِّثُهُ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ
: { إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذُبِحَتْ لَهُ
شَاةٌ فِي أَهْلِهِ ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ أَهْدَيْتُمْ لِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ
؟ قُلْنَا : لَا .
قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت
أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ } .
وَطُرُقُ هَذَا الْمَتْنِ كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ { مِنْ
سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْجَارُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ وَالْمَسْكَنُ
الْوَاسِعُ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : { أَرْبَعٌ مِنْ
السَّعَادَةِ : الْمَرْأَةُ
الصَّالِحَةُ ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ ، وَالْجَارُ
الصَّالِحُ ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ
.
وَأَرْبَعٌ مِنْ الشَّقَاءِ الْجَارُ السُّوءُ ،
وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ ، وَالْمَسْكَنُ الضَّيِّقُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالْأَوْسَطِ : {
إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ عَنْ مِائَةِ
أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الْبَلَاءَ ، ثُمَّ قَرَأَ : { وَلَوْلَا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الْأَرْضُ } } .
وَالْبَيْهَقِيُّ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْتُ بِهِ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ؟ فَقَالَ
: كُنْ مُحْسِنًا .
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَعْلَمُ أَنِّي
مُحْسِنٌ ؟ قَالَ : سَلْ جِيرَانَك ، فَإِنْ قَالُوا إنَّك مُحْسِنٌ فَأَنْتَ
مُحْسِنٌ ، أَوْ قَالُوا إنَّك مُسِيءٌ فَأَنْتَ مُسِيءٌ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ صَرِيحُ مَا فِي
الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّحِيحَةِ وَبِهِ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ .
فَإِنْ قُلْت : إيذَاءُ الْمُسْلِمِ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا
فَمَا وَجْهُ تَخْصِيصِ الْجَارِ ؟ قُلْت : كَأَنَّ وَجْهَ التَّخْصِيصِ أَنَّ إيذَاءَ
غَيْرِ الْجَارِ لَا بُدَّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَقْعٌ بِحَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ
عَادَةً بِخِلَافِ إيذَاءِ الْجَارِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهِ
كَبِيرَةً أَنْ يَصْدُقَ عَلَيْهِ عُرْفًا أَنَّهُ إيذَاءٌ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِمَا عُلِمَ
مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ تَأَكُّدِ حُرْمَةِ الْجَارِ
وَالْمُبَالَغَةِ فِي رِعَايَةِ حُقُوقِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِيرَانَ ثَلَاثَةٌ : قَرِيبٌ مُسْلِمٌ
فَلَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ : حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ
الْقَرَابَةِ .
وَمُسْلِمٌ فَقَطْ فَلَهُ الْحَقَّانِ الْأَوَّلَانِ ،
وَذِمِّيٌّ فَلَهُ الْحَقُّ الْأَوَّلُ فَيَتَعَيَّنُ صَوْنُهُ عَنْ إيذَائِهِ ،
وَيَنْبَغِي الْإِحْسَانُ إلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُنْتِجُ خَيْرًا كَثِيرًا كَمَا
فَعَلَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ بِجَارِهِ الْمَجُوسِيِّ فَإِنَّهُ انْفَتَحَ مِنْ خَلَائِهِ
مَحَلٌّ لِدَارِ سَهْلٍ يَتَسَاقَطُ مِنْهُ الْقَذَرُ ، فَأَقَامَ سَهْلٌ مُدَّةً
يُنَحِّي
لَيْلًا مِمَّا يَجْتَمِعُ مِنْهُ فِي بَيْتِهِ نَهَارًا
فَلَمَّا مَرِضَ أَحْضَرَ الْمَجُوسِيَّ وَأَخْبَرَهُ وَاعْتَذَرَ بِأَنَّهُ
خَشِيَ مِنْ وَرَثَتِهِ أَنَّهُمْ لَا يَحْتَمِلُونَ ذَلِكَ فَيُخَاصِمُونَهُ ،
فَعَجِبَ الْمَجُوسِيُّ مِنْ صَبْرِهِ عَلَى هَذَا الْإِيذَاءِ الْعَظِيمِ قَالَ
لَهُ تُعَامِلُنِي بِذَلِكَ مُنْذُ هَذَا الزَّمَانِ الطَّوِيلِ وَأَنَا مُقِيمٌ
عَلَى كُفْرِي مُدَّ يَدَك لِأُسْلِمَ فَمَدَّ يَدَهُ فَأَسْلَمَ ، ثُمَّ مَاتَ سَهْلٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَتَأَمَّلْ نَتِيجَةَ الصَّبْرِ وَعَاقِبَتَهُ
وَفَّقَنَا اللَّهُ لِذَلِكَ وَغَيْرِهِ آمِينَ .
( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ : الْبِنَاءُ فَوْقَ الْحَاجَةِ لِلْخُيَلَاءِ ) أَخْرَجَ ابْنُ
أَبِي الدُّنْيَا عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ : " إذَا رَفَعَ
الرَّجُلُ بِنَاءً فَوْقَ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ نُودِيَ يَا أَفْسَقَ الْفَاسِقِينَ
إلَى أَيْنَ ؟ " وَرُوِيَ حَدِيثًا مَرْفُوعًا لَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ .
وَأَبُو دَاوُد عَنْ { أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ
مَعَهُ فَرَأَى قُبَّةً مُشْرِفَةً فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟ قَالَ أَصْحَابُهُ هَذِهِ
لِفُلَانٍ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَسَكَتَ وَحَمَلَهَا فِي نَفْسِهِ حَتَّى
إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، سَلَّمَ
عَلَيْهِ فِي النَّاسِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، صَنَعَ ذَلِكَ مِرَارًا حَتَّى عَرَفَ
الرَّجُلُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ وَالْإِعْرَاضَ عَنْهُ ، فَشَكَا ذَلِكَ إلَى
أَصْحَابِهِ فَقَالَ وَاَللَّهِ إنِّي لَأُنْكِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالُوا خَرَجَ فَرَأَى قُبَّتَكَ ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلَى
قُبَّتِهِ فَهَدَمَهَا حَتَّى سَوَّاهَا بِالْأَرْضِ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ يَرَهَا قَالَ مَا
فَعَلَتْ الْقُبَّةُ ؟ قَالُوا شَكَا إلَيْنَا صَاحِبُهَا إعْرَاضَكَ عَنْهُ فَأَخْبَرْنَاهُ
فَهَدَمَهَا ، فَقَالَ : أَمَا إنَّ كُلَّ بِنَاءٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا
مَا لَا } : أَيْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ
.
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَرَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقُبَّةٍ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟
قَالُوا قُبَّةٌ بَنَاهَا فُلَانٌ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ مَا
كَانَ هَكَذَا فَهُوَ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَبَلَغَ
الْأَنْصَارِيَّ ذَلِكَ فَوَضَعَهَا فَمَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَعْدُ فَلَمْ يَرَهَا ، فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ أَنَّهُ وَضَعَهَا
لِمَا بَلَغَهُ عَنْهُ فَقَالَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ } وَالطَّبَرَانِيُّ
بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ
بِبِنْيَةِ قُبَّةٍ لِرَجُلٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ فَقَالَ مَا هَذِهِ ؟ قَالُوا : قُبَّةٌ
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ بِنَاءٍ وَأَشَارَ بِيَدِهِ
الشَّرِيفَةِ عَلَى رَأْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَهُوَ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَلَهُ شَوَاهِدُ : { كُلُّ بُنْيَانٍ
وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَا كَانَ هَكَذَا وَأَشَارَ بِكَفِّهِ ، وَكُلُّ عِلْمٍ
وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ بِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي ، الثَّلَاثَةِ بِإِسْنَادٍ
جَيِّدٍ : { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا أَحْضَرَ لَهُ اللَّبِنَ
وَالطِّينَ حَتَّى يَبْنِيَ } وَفِي الْأَوْسَطِ : { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ هَوَانًا
أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْبُنْيَانِ
} .
وَفِي الْكَبِيرِ مُرْسَلًا بِسَنَدٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ :
{ مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَفِي الْكَبِيرِ مُرْسَلًا بِسَنَدٍ جَيِّدٍ : { إنَّ
الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَنَى قُبَّةً ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اهْدِمْهَا أَوْ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا فَقَالَ
أَهْدِمُهَا } .
وَصَحَّ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَاكِمُ : { كُلُّ
مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ
صَدَقَةً ، وَمَا أَنْفَقَ الْمُؤْمِنُ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّ خَلَفَهَا عَلَى
اللَّهِ ، وَاَللَّهُ ضَامِنٌ إلَّا مَا كَانَ فِي بُنْيَانٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ } .
وَصَحَّ : { يُؤْجَرُ الْمَرْءُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا
إلَّا التُّرَابَ أَوْ قَالَ فِي الْبِنَاءِ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ { النَّفَقَةُ كُلُّهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا الْبِنَاءَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ } .
وَأَبُو دَاوُد مُرْسَلًا : { إنَّ شَرَّ مَا ذَهَبَ
فِيهِ مَالُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ الْبُنْيَانُ } .
وَفِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ
عَلَيْهِ : { إنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ تَطَاوُلُ رِعَاءِ الشَّاءِ فِي
الْبُنْيَانِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ }
: أَيْ الْفُقَرَاءَ { رِعَاءَ الشَّاءِ } .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ لَمْ أَرَهُ لَكِنْ
صَرِيحُ مَا فِي الْأَثَرِ الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ
الْأَثَرَ لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ ، وَمَا
جَاءَ عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إذْ لَا
مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي بَعْدَهُ مِنْهَا مَا
هُوَ صَرِيحٌ فِي الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُشِيرٌ إلَى ذَلِكَ .
إذْ غَضَبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَدَمُ رَدِّهِ السَّلَامَ وَعَدَمُ رِضَاهُ إلَّا بِالْهَدْمِ صَرِيحٌ فِي
أَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ، لَكِنْ يَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْته فِي
التَّرْجَمَةِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ إنْ قُصِدَ بِهِ الْخُيَلَاءُ أَوْ نَحْوُهُ
وَكَذَا التَّعْبِيرُ بِالْوَبَالِ وَالْهَوَانِ وَالشَّرِّ كُلُّهُ صَرِيحٌ أَوْ كَالصَّرِيحِ
فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ .
( تَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ ) أَخْرَجَ أَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ { عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ : حَدَّثَنِي
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ ، قُلْت
: مَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ
اللَّهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى
مُحْدِثًا ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ } ، وَالْمُرَادُ بِهِ
عَلَامَاتُ حُدُودِهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الْآتِي فِي اللِّوَاطِ ،
وَلَفْظُهُ : { مَلْعُونٌ مَنْ غَيَّرَ حُدُودَ الْأَرْضِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ صَرِيحُ
هَذَا الْحَدِيثِ ، وَبِهِ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ وَوَجْهُهُ أَنَّ فِيهِ أَكْلَ
أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ أَوْ إيذَاءَ الْمُسْلِمِينَ الْإِيذَاءَ
الشَّدِيدَ أَوْ التَّسَبُّبَ إلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلِلْوَسَائِلِ حُكْمُ
الْمَقَاصِدِ ، فَشَمَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ أَوْ
الْأَجَانِبِ وَمَنْ تَسَبَّبَ إلَى ذَلِكَ كَأَنْ اتَّخَذَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ
مَمْشًى يَصِيرُ بِسُلُوكِهِ طَرِيقًا وَإِلَّا جَازَ حَيْثُ لَا ضَرَرَ وَقَدْ وَقَعَ
لِلْقَفَّالِ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُ كَانَ رَاكِبًا بِجَانِبِ مَلِكٍ
وَبِالْجَانِبِ الْآخَرِ إمَامٌ حَنَفِيٌّ فَضَاقَتْ الطَّرِيقُ فَسَلَكَ
الْقَفَّالُ غَيْرَهَا ، فَقَالَ الْحَنَفِيُّ لِلْمَلِكِ : سَلْ الشَّيْخَ
أَيَجُوزُ سُلُوكُ أَرْضِ الْغَيْرِ ؟ فَسَأَلَهُ الْمَلِكُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ
إذَا لَمْ تَصِرْ بِهِ طَرِيقًا أَيْ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا نَحْوُ زَرْعٍ
يَضُرُّهُ السُّلُوكُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
( إضْلَالُ الْأَعْمَى عَنْ الطَّرِيقِ ) رَوَى
أَصْحَابُ السُّنَنِ أَنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُعِنَ مَنْ أَضَلَّ
أَعْمَى عَنْ الطَّرِيقِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ
بَعْضِهِمْ وَكَأَنَّهُ أَخَذَهُ مِمَّا ذَكَرْته لِمَا مَرَّ أَنَّ اللَّعْنَ
مِنْ عَلَامَاتِ الْكَبِيرَةِ وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ، لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي
إيذَاءِ النَّاسِ الْإِيذَاءَ الْبَلِيغَ الَّذِي لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً ، لِأَنَّ
مَنْ يُضِلُّ الْأَعْمَى عَنْ الطَّرِيقِ يَتَسَبَّبُ إلَى وُقُوعِهِ فِي مَضَارَّ
وَمَخَاوِفَ كَثِيرَةٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ فَلَمْ يَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ السَّبَبُ
إلَى ذَلِكَ كَبِيرَةً .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةَ وَالْخَامِسَةَ وَالسَّادِسَةَ
عَشَرَ ، بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : التَّصَرُّفُ فِي الطَّرِيقِ الْغَيْرِ
النَّافِذِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الشَّارِعِ بِمَا يَضُرُّ
الْمَارَّةَ إضْرَارًا بَلِيغًا غَيْرُ سَائِغٍ شَرْعًا ، وَالتَّصَرُّفُ فِي
الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ بِمَا لَا يُحْتَمَلُ عَادَةً
عِنْدَ مَنْ قَالَ بِحُرْمَةِ ذَلِكَ
.
وَذِكْرِي لِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِهِمْ
وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَذِيَّةِ
النَّاسِ الْأَذِيَّةَ الْبَالِغَةَ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى حُقُوقِهِمْ
تَعَدِّيًا وَظُلْمًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلًّا مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ
الْعَامَّيْنِ أَعْنِي الْأَذِيَّةَ وَالِاسْتِيلَاءَ الْمَذْكُورَيْنِ يَشْمَلُ
هَذِهِ الثَّلَاثَةَ وَغَيْرَهَا فَذِكْرُهَا إنَّمَا هُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا عُلِمَ
مِنْ كَلَامِهِمْ كَمَا تَقَرَّرَ ، وَالْأَدِلَّةُ الْآتِيَةُ فِي بَحْثَيْ الْغَصْبِ
وَالظُّلْمِ وَغَيْرِهِمَا تَشْمَلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فَلَا يَغِبْ عَنْك
اسْتِحْضَارُهَا هُنَا ، وَسَيَأْتِي فِي الْغَصْبِ خَبَرُ { مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ
شِبْرًا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } .
( الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ ) : امْتِنَاعُ الضَّامِنِ ضَمَانًا صَحِيحًا فِي عَقِيدَتِهِ مِنْ
أَدَاءِ مَا ضَمِنَهُ لِلْمَضْمُونِ لَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ
أَضَمِنَ بِإِذْنٍ أَمْ لَا وَذِكْرِي لِهَذِهِ فِي الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ
الضَّامِنَ يَثْبُتُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ أَيْضًا حَقِيقَةً فَهُوَ مَدِينٌ
فَفِيهِ جَمِيعُ مَا مَرَّ فِي مَطْلِ الْغَنِيِّ ، لَكِنَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ
هَذَا بِالذِّكْرِ خَفَاؤُهُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ ، لِظَنِّهِمْ أَنَّ
تَبَرُّعَهُ بِالضَّمَانِ لَا يُوقِعُهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ الْعَظِيمَةِ
وَلَيْسَ كَمَا ظَنُّوا لِأَنَّهُ وَإِنْ تَبَرَّعَ بِالضَّمَانِ يَصِيرُ
مَدْيُونًا حَقِيقَةً حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا كَمَا
اقْتَضَاهُ إطْلَاقُ الْأَئِمَّةِ
.
الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةَ وَالتَّاسِعَةَ عَشْرَةَ
بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : خِيَانَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ أَوْ
الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ النُّعْمَانِ
بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ خَانَ شَرِيكًا فِيمَا ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ
وَاسْتَرْعَاهُ لَهُ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْهُ } ، وَوَرَدَ : { مَنْ خَانَ مَنْ
ائْتَمَنَهُ فَأَنَا خَصْمُهُ }
.
وَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : { أَرْبَعٌ
مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةً مِنْهُنَّ
كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ،
وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : {
يَقُولُ اللَّهُ أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا
صَاحِبَهُ ، فَإِذَا خَانَ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا } ،
.
وَزَادَ رَزِينٌ : { وَجَاءَ الشَّيْطَانُ } .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { يَدُ اللَّهِ عَلَى الشَّرِيكَيْنِ
مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ
رَفَعَهَا عَنْهُمَا } ، وَهَذَا
كَاَلَّذِي قَبْلَهُ كِنَايَةٌ عَنْ إنْزَالِ الْبَرَكَةِ وَالْحِفْظِ
وَالنُّمُوِّ مَا دَامَا جَارِيَيْنِ عَلَى قَانُونِ الصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ ،
وَعَنْ مَحْقِ الْبَرَكَةِ وَتَسْلِيطِ الْآفَاتِ عَلَى الْمَالِ إذَا وَقَعَتْ
مِنْ أَحَدِهِمَا خِيَانَةٌ .
وَالْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ لَا
بَأْسَ بِهِ : { الْمُؤْمِنُ إذَا حَدَّثَ صَدَقَ ، وَإِذَا عَاهَدَ لَمْ يَغْدِرْ
، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ لَمْ يَخُنْ
} .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ
مِنْ الْأَحَادِيثِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ بِخُصُوصِهِ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مِنْ
الْكَبَائِرِ مَا يَشْمَلُهُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي مَوَاضِعَ .
وَسَيَأْتِي فِي الْوَدِيعَةِ أَحَادِيثُ أُخَرُ
تَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ .
( الْكَبِيرَةُ الْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) :
الْإِقْرَارُ لِأَحَدِ وَرَثَتِهِ كَذِبًا أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ أَوْ
عَيْنٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : " الْإِضْرَارُ
فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ
" .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : الصَّحِيحُ وَقْفُهُ .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ الْخَيْرِ سَبْعِينَ سَنَةً
وَإِذَا أَوْصَى جَارَ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ
النَّارَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الشَّرِّ سَبْعِينَ
سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ
الْجَنَّةَ ، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ { تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ
: { عَذَابٌ مُهِينٌ } } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ
أَوْ الْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ
فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ ، ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } إلَى
قَوْلِهِ : { الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } } قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَسَنٌ غَرِيبٌ .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ كَبِيرَةً هُوَ
مَا صَرَّحَ بِهِ كَثِيرُونَ وَمِنْهُ مَا ذَكَرْته هُنَا ، وَسَيَأْتِي
تَتْمِيمُهُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ مَعَ الْكَلَامِ عَلَى الْآيَةِ الَّتِي
أَشَارَ إلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَةَ
.
تَرْكُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ
الدُّيُونِ أَوْ عِنْدَهُ مِنْ الْأَعْيَانِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ
الْوَرَثَةِ مَنْ يُثْبِتُ بِقَوْلِهِ وَعَدِّي لِهَذَا كَبِيرَةً ظَاهِرٌ وَإِنْ
لَمْ يَذْكُرُوهُ لِأَنَّ تَرْكَ الْإِقْرَارِ بِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ
فِيهِ تَسَبُّبٌ ظَاهِرٌ إلَى ضَيَاعِ حَقِّ الْغَيْرِ وَضَيَاعُ حَقِّ الْغَيْرِ
كَبِيرَةٌ ، فَكَذَا التَّسَبُّبُ إلَيْهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ
الْمَقَاصِدِ ، وَسَيَأْتِي فِي عَاصِرِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِ مَا يُصَرِّحُ
بِذَلِكَ .
الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ
بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ الْإِقْرَارُ بِنَسَبٍ كَذِبًا أَوْ جَحْدُهُ كَذَلِكَ
أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ كَفَرَ مَنْ تَبَرَّأَ مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ أَوْ ادَّعَى نَسَبًا لَا
يُعْرَفُ } .
وَعَمْرُو بْنِ شُعَيْبِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِيهِ كَلَامٌ طَوِيلٌ وَالْجُمْهُورُ عَلَى
تَوْثِيقِهِ وَعَلَى الِاحْتِجَاجِ بِرِوَايَتِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ رِوَايَةِ
الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَثَّقَهُ كَثِيرُونَ وَبَالَغُوا فِي الثَّنَاءِ
عَلَيْهِ .
عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ ادَّعَى نَسَبًا لَا يُعْرَفُ كَفَرَ بِاَللَّهِ ، وَمَنْ
انْتَفَى مِنْ نَسَبٍ وَإِنْ دَقَّ كَفَرَ بِاَللَّهِ } .
وَأَحْمَدُ : { إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَا يُكَلِّمُهُمْ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، قِيلَ وَمَنْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ
مُتَبَرِّئٌ مِنْ وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا ، وَمُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ ،
وَرَجُلٌ أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } وَالْمُرَادُ
الْإِنْعَامُ بِالْعِتْقِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ : { مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ
إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلٌ وَلَا صَرْفٌ } .
تَنْبِيهٌ : ثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ
الصَّحِيحَيْنِ وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ جِدًّا
مَا ذَكَرْته وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ مِنْ أَنَّ كُلًّا مِنْ ذَيْنِك
كَبِيرَةٌ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا مِرْيَةَ فِيهِ لِعِظَمِ ضَرَرِ كُلٍّ مِنْهُمَا
وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْقَبَائِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَتَغْيِيرِ مَا
شَرَعَهُ اللَّهُ ، لِأَنَّ الْوَلَدَ إذَا أُنْكِرَ كَذِبًا
صَارَ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيِّ بِالنِّسْبَةِ
لِلْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ ، وَالْأَجْنَبِيُّ إذَا جُعِلَ وَلَدًا يَثْبُتُ لَهُ
أَحْكَامُ الْوَلَدِ ظَاهِرًا ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ مَا
لَا يَخْفَى ، ثُمَّ رَأَيْت الْجَلَالَ الْبُلْقِينِيَّ عَدَّ مِنْ الْكَبَائِرِ ادِّعَاءَ
الْأَبِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ وَاسْتَدَلَّ بِخَبَرِ
الصَّحِيحَيْنِ : { مَنْ ادَّعَى أَبًا فِي الْإِسْلَامِ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ
أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ
} .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ
وَالسَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : اسْتِعْمَالُ الْعَارِيَّةِ
فِي غَيْرِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي اسْتَعَارَهَا لَهَا أَوْ إعَارَتُهَا مِنْ
غَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا أَوْ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِمَنْعِهَا أَوْ اسْتِعْمَالِهَا
بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِهَا وَتَصْرِيحِي بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ
كَبَائِرُ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِمْ ، لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْغَصْبِ
وَالظُّلْمِ الْآتِيَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا كَبِيرَةٌ إجْمَاعًا إذْ فِيهِ ظُلْمٌ
لِلْمَالِكِ ، وَاسْتِيلَاءٌ عَلَى حَقِّهِ وَمَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَكُلُّ
مَا وَرَدَ فِيهِمَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ
تَشْمَلُ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ وَنَحْوَهَا .
الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ
) : الْغَصْبُ ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ ظُلْمًا أَخْرَجَ
الشَّيْخَانِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ ظَلَمَ قَيْدَ شِبْرٍ مِنْ
أَرْضٍ : أَيْ قَدْرَهُ ، طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } .
قِيلَ أَرَادَ طَوْقَ التَّكْلِيفِ لَا طَوْقَ
التَّقْلِيدِ ، وَهُوَ أَنْ يُطَوَّقَ حَمْلَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَالْأَصَحُّ كَمَا قَالَهُ الْبَغَوِيّ أَنَّهُ
يُخْسَفُ بِهِ الْأَرْضُ فَتَصِيرُ الْبُقْعَةُ فِي عُنُقِهِ كَالطَّوْقِ .
وَمِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ خَبَرُ الطَّبَرَانِيِّ
وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ الْآتِي قَرِيبًا ، وَخَبَرُ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ : {
مَنْ أَخَذَ مِنْ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ
} .
وَمُسْلِمٌ : { لَا يَأْخُذُ أَحَدٌ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ
بِغَيْرِ حَقِّهِ إلَّا طَوَّقَهُ اللَّهُ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ : { مَنْ أَخَذَ مِنْ
الْأَرْضِ شِبْرًا بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ : { أَيُّمَا رَجُلٍ ظَلَمَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ كَلَّفَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَحْفِرَ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ بِهِ سَبْعَ أَرَضِينَ ثُمَّ
يُطَوِّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ أَخَذَ أَرْضًا
بِغَيْرِ حَقِّهَا كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَ تُرَابَهَا إلَى الْمَحْشَرِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ : { مَنْ ظَلَمَ مِنْ
الْأَرْضِ شِبْرًا كُلِّفَ أَنْ يَحْفِرَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءَ ، ثُمَّ
يَحْمِلَهُ إلَى الْمَحْشَرِ }
.
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ أَخَذَ شَيْئًا
مِنْ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ
صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ حَسَنٍ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي
الْكَبِيرِ { عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ ظُلْمٍ
أَظْلَمُ ، فَقَالَ : ذِرَاعٌ مِنْ الْأَرْضِ يَنْتَقِصُهَا الْمَرْءُ
الْمُسْلِمُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَيْسَ حَصَاةٌ مِنْ
الْأَرْضِ يَأْخُذُهَا إلَّا طُوِّقَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى قَعْرِ
الْأَرْضِ ، وَلَا يَعْلَمُ قَعْرَهَا إلَّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَهَا } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { أَعْظَمُ الْغُلُولِ عِنْدَ اللَّهِ
ذِرَاعٌ فِي الْأَرْضِ تَجِدُونَ الرَّجُلَيْنِ جَارَيْنِ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي الدَّارِ
فَيَقْتَطِعُ أَحَدُهُمَا مِنْ حَظِّ صَاحِبِهِ ذِرَاعًا إذَا اقْتَطَعَهُ
طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ غَصَبَ رَجُلًا أَرْضًا
ظُلْمًا لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ : { مَنْ
أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شِبْرًا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَحْمِلُهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ }
.
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ
السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ
بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ }
.
قَالَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ مِنْ مَالِ
الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ
.
تَنْبِيهٌ : اعْتَبَرَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ فِي
كَوْنِ الْغَصْبِ كَبِيرَةً أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَغْصُوبُ رُبْعَ دِينَارٍ .
وَحَكَى الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ أَنَّ بَعْضَ
الْمُعْتَزِلَةِ اشْتَرَطَ أَنْ يَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ .
وَعَنْ الْجُبَّائِيِّ أَنَّهُ اشْتَرَطَ أَنْ يَبْلُغَ
عَشَرَةَ دَرَاهِمَ .
وَعَنْ الْجُبَّائِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ اشْتَرَطَ
بُلُوغَهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ .
وَعَنْ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُمْ اشْتَرَطُوا بُلُوغَهُ
دِرْهَمًا .
وَقَالَ الْحَلِيمِيُّ : إنْ كَانَ شَيْئًا تَافِهًا
فَصَغِيرَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَهُ لَا غِنَى بِهِ عَنْهُ فَكَبِيرَةٌ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَاشْتِرَاطُ رُبْعِ دِينَارٍ
هُوَ مَا فِي إشْرَافِ الْهَرَوِيِّ وَغَيْرِهِ وَنُسَخِ الرَّافِعِيِّ
الصَّحِيحَةِ وَوَقَعَ فِي نُسَخٍ مِنْهُ وَفِي الرَّوْضَةِ أَنْ يَبْلُغَ
دِينَارًا وَهُوَ تَحْرِيفٌ مِنْ نَاقِلِهِ انْتَهَى .
وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ
السَّلَامِ : كَوْنُ شَهَادَةِ الزُّورِ كَبِيرَةً كَمَا فِي
الْخَبَرِ ظَاهِرٌ إنْ وَقَعَتْ فِي مَالٍ خَطِيرٍ ،
فَإِنْ وَقَعَتْ فِي مَالٍ يَسِيرٍ كَزَبِيبَةٍ أَوْ تَمْرَةٍ فَيَجُوزُ أَنْ
يُجْعَلَ مِنْ الْكَبَائِرِ فَطْمًا عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ، كَمَا جُعِلَ
شُرْبُ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ كَبِيرَةً وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةُ
، وَيَجُوزُ أَنْ يُضْبَطَ ذَلِكَ الْمَالُ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ .
قَالَ : وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي أَكْلِ مَالِ
الْيَتِيمِ .
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَيَشْهَدُ لِلثَّانِي مَا
سَبَقَ عَنْ الْهَرَوِيِّ .
وَقَالَ فِي التَّوَسُّطِ : وَأَلْحَقَ شُرَيْحٌ الرُّويَانِيُّ
وَغَيْرُهُ أَنَّ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَغَيْرِهِمْ بِالْبَاطِلِ مِنْ
الْكَبَائِرِ ، كَأَخْذِهَا رِشْوَةً ، وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَنْ يَبْلُغَ
ذَلِكَ رُبْعَ دِينَارٍ أَوْ لَا ، وَكَذَا أَطْلَقَ صَاحِبُ الْعُدَّةِ أَكْلَ مَالِ
الْيَتَامَى وَأَخْذَ الرِّشْوَةِ وَجَرَى عَلَى إطْلَاقِهِ فِيهَا وَفِي
الْخِيَانَةِ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ الشَّيْخَانِ .
وَفِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ مَا يَشْهَدُ لَهُ وَذَلِكَ
يُورِثُ ضَعْفَ التَّقْيِيدِ فِي الْمَغْصُوبِ بِرُبْعِ دِينَارٍ انْتَهَى .
وَقَالَ أَيْضًا : وَقَوْلُ صَاحِبِ الْعُدَّةِ وَمَنْعُ
الزَّكَاةِ كَبِيرَةٌ ، قَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْعِ الْقَلِيلِ
مِنْهَا وَالْكَثِيرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ .
وَقِيَاسُ اعْتِبَارِ الْهَرَوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنْ
يَكُونَ الْمَغْصُوبُ رُبْعَ دِينَارٍ أَنَّ مَنْعَ مَا دُونَ ذَلِكَ .
لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ ، وَلَكِنَّهُ تَحْدِيدٌ لَا
مُسْتَنَدَ لَهُ انْتَهَى .
وَقَوْلُهُ : لَا مُسْتَنَدَ لَهُ ظَاهِرٌ .
بَلْ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا
عَلَى أَنَّ غَصْبَ الْحَبَّةِ وَسَرِقَتَهَا كَبِيرَةٌ انْتَهَى .
وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ أَجْمَعَ أَهْلُ
السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ أَكَلَ مَالًا حَرَامًا ، وَلَوْ مَا يَصْدُقُ
عَلَيْهِ اسْمُ أَكْلٍ فَسَقَ .
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ
: يَفْسُقُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَابْنُ الْجُبَّائِيِّ بِدِرْهَمٍ فَصَاعِدًا
انْتَهَى .
وَكَأَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ لَمْ يَعْتَدَّ
بِمُقَابَلَةِ الْبَغَوِيِّ وَالْهَرَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا السَّابِقَةِ لِضَعْفِ
مَدْرَكِهَا وَلِأَنَّهُ لَا مُسْتَنَدَ لَهَا كَمَا
تَقَرَّرَ .
إذْ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي وَعِيدِ الْغَاصِبِ
وَشَاهِدِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالرِّشْوَةِ وَالْمُطَفِّفِ
وَالسَّارِقِ وَمَانِعِ الزَّكَاةِ مُطْلَقَةٌ فَتَتَنَاوَلَ قَلِيلَ ذَلِكَ
وَكَثِيرَهُ ، فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهَا إلَّا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ إذْ
الْحُكْمُ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْمُقْتَضِي لِلْكَبِيرَةِ عَلَى أَحَدِ التَّعَارِيفِ
السَّابِقَةِ إنَّمَا يُتَلَقَّى مِنْ الشَّارِعِ ، فَإِذَا صَحَّ وَعِيدٌ شَدِيدٌ
فِي شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِقَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ وَجَبَ إجْرَاءُ ذَلِكَ
عَلَى إطْلَاقِهِ وَعَدَمُ تَقْيِيدِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ سَمْعِيٌّ أَيْضًا
، وَحَيْثُ لَا دَلِيلَ لِذَلِكَ فَلَا مُسْتَنَدَ لِذَلِكَ التَّحْدِيدِ كَمَا
قَالَهُ الْأَذْرَعِيُّ ، فَبَانَ أَنَّ الْوَجْهَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَيْدَ فِي الْمَسَائِلِ
الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا ضَعِيفٌ وَأَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي
الْحُكْمِ عَلَيْهَا بِكَوْنِهَا كَبَائِرَ وَأَنَّ فَاعِلَهَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ
الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بَيْنَ الْقَلِيلِ مِنْهَا وَالْكَثِيرِ .
نَعَمْ الشَّيْءُ التَّافِهُ جِدًّا الَّذِي تَقْضِي
الْعَادَةُ بِالْمُسَامَحَةِ بِهِ كَزَبِيبَةٍ أَوْ عِنَبَةٍ يُمْكِنُ أَنْ
يُقَالَ إنَّ غَصْبَهُ صَغِيرَةٌ ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ السَّابِقَ ذِكْرُهُ عَنْ
ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الَّذِي إنْ لَمْ نَحْمِلْهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ حَمَلْنَاهُ
عَلَى إجْمَاعِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَرُدُّ ذَلِكَ وَيُصَرِّحُ
بِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ مُطْلَقًا ، لِأَنَّ أَمْوَالَ النَّاسِ وَحُقُوقَهُمْ
وَإِنْ قَلَّتْ لَا يُسَامَحُ فِيهَا بِشَيْءٍ نَعَمْ غَصْبُ نَحْوِ كَلْبِ
الْغَيْرِ لَا يَكُونُ كَبِيرَةً كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُهُمْ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ .
وَلَمَّا ذَكَرَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ بَعْضَ
الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي غَصْبِ الْأَرْضِ قَالَ : هَلْ يُلْحَقُ
بِالْأَرْضِ غَيْرُهَا إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ فِي التَّحْرِيمِ ، فَكَمَا اسْتَوَيَا
فِي التَّحْرِيمِ اسْتَوَيَا فِي الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ أَوْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ الْغَصْبَ
فِي الْأَرْضِ يَعْظُمُ ضَرَرُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهَا ، هَذَا
مَوْضِعُ نَظَرٍ ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ
: { ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فَإِنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا {
رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ
} فَقَدْ تَوَعَّدَ بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي غَصْبِ حَقِّهِ مِنْ
الْأُجْرَةِ انْتَهَى .
وَهَذَا إنَّمَا ذَكَرَهُ نَظَرًا لِلدَّلِيلِ وَإِلَّا
فَالْأَصْحَابُ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي كَوْنِ الْغَصْبِ كَبِيرَةً
بَيْنَ الْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ .
عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْجَلَالَ لَمْ يَرَ الْحَدِيثَ
الْأَخِيرَ الَّذِي ذَكَرْته قُبَيْلَ التَّنْبِيهِ إذْ هُوَ مُصَرِّحٌ فِي
الْعَصَا بِمَا يُفِيدُ الْوَعِيدَ ، فَإِذَا انْضَمَّ إلَى الْحَدِيثِ الَّذِي
ذَكَرَهُ فِي الْأُجْرَةِ أَفَادَ أَنَّ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ جَاءَ فِي غَيْرِ
الْأَرْضِ أَيْضًا .
( الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ ) : تَأْخِيرُ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ أَوْ مَنْعُهُ مِنْهَا بَعْدَ
فَرَاغِ عَمَلِهِ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ { عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَنْ
كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا
فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ أُسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ
يُعْطِهِ أَجْرَهُ } .
وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالطَّبَرَانِيِّ عَنْ جَابِرٍ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ
عَرَقُهُ } .
تَنْبِيهٌ : مَا ذُكِرَ مِنْ كَوْنِ هَذَا كَبِيرَةً
هُوَ ظَاهِرٌ مَعْلُومٌ مِمَّا مَرَّ فِي الْغَصْبِ وَمَطْلِ الْغَنِيِّ ،
وَلِوُرُودِ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ بِخُصُوصِهِ أَفْرَدْته
بِالذِّكْرِ ، ثُمَّ رَأَيْتَ بَعْضَهُمْ عَدَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَفْرَدَهُ
بِالذِّكْرِ كَمَا فَعَلْتُ .
مَرَّ أَنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ مَنْعَ فَضْلِ الْمَاءِ
كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ .
الْبِنَاءُ بِعَرَفَةَ أَوْ مُزْدَلِفَةَ أَوْ مِنًى
عِنْدَ مَنْ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ وَذِكْرُ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ بِنَاءً عَلَى
الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ مِنْ
غَصْبِ الْأَرْضِ ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَمَا مَرَّ فِيهِ مِنْ
الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ ، فَيَأْتِي ذَلِكَ كُلُّهُ فِيمَنْ فَعَلَ هَذَا
مُعْتَقِدًا لِتَحْرِيمِهِ .
مَنْعُ النَّاسِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ لَهُمْ
عَلَى الْعُمُومِ أَوْ الْخُصُوصِ كَالْأَرْضِ الْمَيْتَةِ الَّتِي يَجُوزُ
لِكُلِّ أَحَدٍ إحْيَاؤُهَا ، وَكَالشَّوَارِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالرُّبُطِ
وَالْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ أَوْ الظَّاهِرَةِ فَمَنْعُ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ عَنْ
أَنْ يُنْتَفَعَ بِهِ مِنْ الْوَجْهِ الْجَائِزِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً
لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالْغَصْبِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ مُنِعَ الْإِنْسَانُ مِنْ
مِلْكِهِ إذْ اسْتِحْقَاقُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
كَاسْتِحْقَاقِهِ لِلِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ .
فَكَمَا أَنَّ مَنْعَ الْمِلْكِ كَبِيرَةٌ فَكَذَا
مَنْعُ هَذَا .
إكْرَاءُ شَيْءٍ مِنْ الشَّارِعِ وَأَخْذُ أُجْرَتِهِ
وَإِنْ كَانَ حَرِيمَ مِلْكِهِ أَوْ دُكَّانَهُ وَعَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا
وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي هَذَا الْبَابِ حَيْثُ قَالُوا
إنَّهُ فِسْقٌ وَضَلَالٌ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْأَذْرَعِيُّ فِيمَا يَفْعَلُهُ
وُكَلَاءُ بَيْتِ الْمَالِ فِي الشَّوَارِعِ مِنْ نَحْوِ أَخْذِ أَجْرِهِ مِنْ
الْجَالِسِينَ فِيهَا : لَا أَدْرِي بِأَيِّ وَجْهٍ يَلْقَى اللَّهَ مَنْ يَفْعَلُ
ذَلِكَ .
الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَاءٍ مُبَاحٍ وَمَنْعُهُ ابْنَ
السَّبِيلِ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ثَلَاثَةٌ
لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ : رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ
السَّبِيلِ } .
الْحَدِيثَ ، وَقَدْ مَرَّ وَيَأْتِي .
تَنْبِيهٌ :
هَذَا هُوَ صَرِيحُ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَلِذَا جَزَمَ
كَثِيرُونَ بِعَدِّ ذَلِكَ كَبِيرَةً ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ
بِمَنْعٍ يُؤَدِّي إلَى تَضَرُّرٍ شَدِيدٍ ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ الْمَنْعِ وَالتَّضَرُّرِ
الْخَفِيفِ لَا يَقْتَضِي كَوْنَ ذَلِكَ كَبِيرَةً .
( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ : مُخَالَفَةُ شَرْطِ الْوَاقِفِ ) وَذِكْرِي لِهَذَا مِنْ
الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ ، لِأَنَّ مُخَالَفَتَهُ
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ، وَهُوَ كَبِيرَةٌ .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْخَامِسَةُ
وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ ) : أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي اللُّقَطَةِ
قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَرَائِطِ تَعْرِيفِهَا ، وَتَمَلُّكِهَا ، وَكَتْمِهَا مِنْ
رَبِّهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ ، وَكَوْنُ كُلٍّ مِنْ هَذَيْنِ كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرٌ
لِأَنَّهُ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .
( الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ : تَرْكُ الْإِشْهَادِ عِنْدَ أَخْذِ اللَّقِيطِ ) وَكَوْنُ
هَذِهِ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ الزَّرْكَشِيُّ ، وَبِهِ يُعْلَمُ أَنَّ
مَا ذَكَرْته فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِنْ الْكَبَائِرِ
ظَاهِرٌ لِأَنَّهَا أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ هَذَا لِعِظَمِ مَفَاسِدِهَا ، وَإِنْ
كَانَ فِي هَذِهِ مَفْسَدَةٌ أَيْضًا وَهِيَ أَنَّ تَرْكَ الْإِشْهَادِ رُبَّمَا
أَدَّاهُ إلَى ادِّعَاءِ رِقِّهِ ، فَإِذَا كَانَ مَا يُؤَدِّي إلَى مَفْسَدَةٍ
هِيَ ادِّعَاءُ الرِّقِّ كَبِيرَةً لِكَوْنِهِ يُؤَدِّي إلَى كَبِيرَةٍ وَهِيَ
ادِّعَاءُ رِقِّ الْحُرِّ وَلَوْ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَالدَّار كَمَا فِي
اللَّقِيطِ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِحُرِّيَّتِهِ إنَّمَا هُوَ كَذَلِكَ ، وَذَلِكَ
لِأَنَّ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ فَأَوْلَى مَا ذَكَرْته مِمَّا سَبَقَ فَإِنَّهُ
بِنَفْسِهِ مَفْسَدَةٌ أَيُّ مَفْسَدَةٍ ، أَوْ يُؤَدِّي إلَى مَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ
أَوْ أَقْرَبَ وُقُوعًا مِنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ .
فَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَك عَدِّي لِكَثِيرٍ مِمَّا سَبَقَ
مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ ، أَوْ ذَكَرُوا مَا قَدْ يُوهِمُ
خِلَافَهُ ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ
الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ : الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ ) قَالَ تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ
وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ اللَّهِ
وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ } أَيْ فِي شَأْنِ الْمَوَارِيثِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ،
وَالْأَحْسَنُ بَقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أَيْ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ مِنْ الْمَوَارِيثِ عَلَى مَا
قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَفِيهِ مَا مَرَّ
: { يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا } أَيْ أَبَدًا
إنْ اسْتَحَلَّ وَإِلَّا فَالْمُرَادُ بِالْخُلُودِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ {
وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ
الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَقَّبَهُ
بِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ كَذَا قِيلَ وَفِيهِ قُصُورٌ ، عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
رَوَى ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَدْ خَرَّجَ
النَّسَائِيُّ عَنْهُ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ } ثُمَّ تَلَا : { تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ } { فَقَدْ صَرَّحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ
الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَسِيَاقُ الْآيَةِ شَاهِدٌ
لِذَلِكَ ، وَمِنْ ثَمَّ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وَغَيْرُهُمْ بِأَنَّ
ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ } .
قَالَ ابْنُ عَادِلٍ فِي تَفْسِيرِهِ : اعْلَمْ أَنَّ
الْإِضْرَارَ فِي الْوَصِيَّةِ يَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ : مِنْهَا أَنْ يُوصِيَ
بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، أَوْ يُقِرَّ بِكُلِّ مَالِهِ أَوْ بَعْضِهِ لِأَجْنَبِيٍّ
، أَوْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ دَفْعًا لِلْمِيرَاثِ
عَنْ الْوَرَثَةِ ، أَوْ يُقِرَّ بِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي كَانَ لَهُ عَلَى
فُلَانٍ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ ، أَوْ يَبِيعَ شَيْئًا بِثَمَنٍ رَخِيصٍ ،
وَيَشْتَرِي شَيْئًا بِثَمَنٍ غَالٍ كُلُّ ذَلِكَ لِغَرَضِ أَنْ لَا يَصِلَ
الْمَالُ
إلَى الْوَرَثَةِ ، أَوْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ لَا
لِوَجْهِ اللَّهِ لَكِنْ لِغَرَضِ تَنْقِيصِ الْوَرَثَةِ فَهَذَا هُوَ
الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ
.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
لَوْ أَنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً وَحَافَ
فِي وَصِيَّتِهِ خُتِمَ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ
لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ
فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ } .
{ وَقَالَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامُ :
مَنْ قَطَعَ مِيرَاثًا فَرَضَهُ اللَّهُ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ
الْجَنَّةِ } .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ
الْآيَةِ : { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } قَالَ ، ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْوَصِيَّةِ :
{ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
} .
قَالَ فِي الْوَصِيَّةِ : وَأَيْضًا فَمُخَالَفَةُ
أَمْرِ اللَّهِ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنْ الْمَوْتِ تَدُلُّ عَلَى الْخَسَارَةِ
الشَّدِيدَةِ ، وَذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ انْتَهَى .
وَجَرَى عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الزَّرْكَشِيُّ ، فَإِنَّ بَعْضَ
الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَ : رَأَيْت بِخَطِّ الزَّرْكَشِيّ مَا لَفْظُهُ وَسَاقَ
مَا ذَكَرْته عَنْ ابْنِ عَادِلٍ جَمِيعَهُ إلَّا قَلِيلًا مِنْهُ ، وَهُوَ
عَجِيبٌ مِنْ الزَّرْكَشِيّ فَإِنَّ مَا أَطْلَقَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِأَكْثَرَ
مِنْ الثُّلُثِ لَا يَأْتِي عَلَى قَوَاعِدِنَا لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا
مَكْرُوهٌ لَا حَرَامٌ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كَبِيرَةً .
نَعَمْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ إنْ
قَصَدَ حِرْمَانَ وَرَثَتِهِ ، وَعَلِمَ أَنَّ مَنْ أَوْصَى لَهُ يَسْتَوْلِي
عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَبْعُدُ
أَنْ تُعَدَّ وَصِيَّتُهُ حِينَئِذٍ كَبِيرَةً لِأَنَّ فِيهِ أَبْلَغَ
الْإِضْرَارِ بِالْوَرَثَةِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي يَصْدُقُ
فِيهَا الْكَاذِبُ ، وَيَتُوبُ فِيهَا الْفَاجِرُ ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى ذَلِكَ
دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قَسْوَةِ قَلْبِهِ وَفَسَادِ لُبِّهِ ، وَغَايَةِ
جُرْأَتِهِ ، فَلِذَلِكَ يُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ عَمَلِهِ
فَيَدْخُلُ النَّارَ كَمَا مَرَّ فِي الْحَدِيثِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلِ
الْإِقْرَارِ ظَاهِرٌ وَقَدْ قَدَّمْت الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْإِقْرَارِ
، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ يُقَيِّدُهُ الَّذِي ذَكَرَهُ .
يَأْتِي فِيهِ مَا قَدَّمْته فِي الْوَصِيَّةِ
بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ .
وَمِنْ الْإِضْرَارِ فِي الْوَصِيَّةِ أَنْ يُوصِيَ
عَلَى نَحْوِ أَطْفَالِهِ مَنْ يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ مَالَهُمْ
أَوْ يَكُونُ سَبَبًا لِضَيَاعِهِ لِكَوْنِهِ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِيهِ
أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، وَمَا ذَكَرْته مِنْ الْحَدِيثَيْنِ فَالْأَوَّلُ رَوَاهُ ابْنُ
مَاجَهْ بِلَفْظِ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
سَبْعِينَ سَنَةً فَإِذَا أَوْصَى خَانَ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِشَرِّ
الْعَمَلِ فَيَدْخُلُ النَّارَ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
الشَّرِّ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيُخْتَمُ لَهُ بِخَيْرِ
عَمَلِهِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ
} .
وَالثَّانِي رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا بِلَفْظِ : { مَنْ فَرَّ
بِمِيرَاثِ وَارِثِهِ قَطَعَ اللَّهُ مِيرَاثَهُ مِنْ الْجَنَّةِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } : وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ خَبَرُ أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ
وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ
الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أَوْ الْمَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَبْعِينَ
سَنَةً ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيَضُرَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ
لَهُمَا النَّارُ ثُمَّ قَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنْ
اللَّهِ } حَتَّى بَلَغَ { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } } .
تَتِمَّةٌ : يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِالْوَصِيَّةِ
بِالْعَدْلِ .
أَمَّا الثَّانِي فَلِمَا ذُكِرَ ، وَأَمَّا الْأَوَّلُ
فَلِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا : { مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ
شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { ثَلَاثَ لَيَالٍ
إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ } ، .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : "
مَا مَضَتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّةٌ مَكْتُوبَةٌ ، وَابْنُ مَاجَهْ : {
مَنْ مَاتَ عَلَى وَصِيَّةٍ مَاتَ عَلَى سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ وَمَاتَ عَلَى تُقًى وَشَهَادَةٍ
وَمَاتَ مَغْفُورًا لَهُ } .
وَأَبُو يَعْلَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { الْمَحْرُومُ
مَنْ حُرِمَ وَصِيَّتَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { تَرْكُ الْوَصِيَّةِ عَارٌ فِي
الدُّنْيَا وَنَارٌ وَشَنَارٌ فِي الْآخِرَةِ } ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ
لَاسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ تَرْكَ الْوَصِيَّةِ كَبِيرَةٌ .
وَحِينَئِذٍ فَيُحْمَلُ عَلَى مَنْ عَلِمَ أَنَّ تَرْكَ
الْوَصِيَّةِ يَكُونُ سَبَبًا لِاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ عَلَى مَالِهِ وَأَخْذِهِ
مِنْ وَرَثَتِهِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ :
{ لَأَنْ يَتَصَدَّقَ الرَّجُلُ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ بِدِرْهَمٍ خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمِائَةٍ } .
( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ :
الْخِيَانَةُ فِي الْأَمَانَاتِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ أَوْ
الْمُسْتَأْجَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
) { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } نَزَلَتْ فِي
عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ الْحَجَبِيِّ الدَّارِيِّ ، كَانَ سَادِنَ الْكَعْبَةِ
يَوْمَ الْفَتْحِ ، فَلَمَّا دَخَلَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِينَئِذٍ أَغْلَقَ بَابَ الْكَعْبَةِ وَامْتَنَعَ مِنْ إعْطَاءِ مِفْتَاحِهَا ،
زَاعِمًا أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَا مَنَعَهُ ، فَلَوَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَهُ وَأَخَذَهُ مِنْهُ
وَفَتَحَ الْبَابَ وَدَخَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى فِيهَا .
فَلَمَّا خَرَجَ سَأَلَهُ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنْ يُعْطِيَهُ الْمِفْتَاحَ لِيَجْتَمِعَ لَهُ السِّدَانَةُ مَعَ
السِّقَايَةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ ، فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلِيًّا أَنْ يَرُدَّهُ إلَى عُثْمَانَ وَيَعْتَذِرَ إلَيْهِ .
فَقَالَ لَهُ أَكْرَهْت وَآذَيْت ثُمَّ جِئْت تَرْفُقُ
فَقَالَ لَهُ : لَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي شَأْنِك قُرْآنًا وَقَرَأَ عَلَيْهِ
الْآيَةَ فَأَسْلَمَ وَكَانَ الْمِفْتَاحُ مَعَهُ ، فَلَمَّا مَاتَ دَفَعَهُ إلَى
أَخِيهِ شَيْبَةَ ، فَالسِّدَانَةُ فِي أَوْلَادِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوهَا خَالِدَةً تَالِدَةً لَا
يَنْزِعُهَا مِنْكُمْ إلَّا ظَالِمٌ } وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ جَمِيعُ
الْأَمَانَاتِ .
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ :
وَمِمَّنْ قَالَ إنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي الْجَمِيعِ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ
وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ قَالُوا : الْأَمَانَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ
فِي الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْكَيْلِ
وَالْوَزْنِ وَالْوَدَائِعِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يُرَخِّصْ اللَّهُ لِمُعْسِرٍ
وَلَا لِمُوسِرٍ أَنْ يَمْسِكَ الْأَمَانَةَ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى فَرْجَ
الْإِنْسَانِ وَقَالَ هَذِهِ أَمَانَةٌ
خَبَّأْتهَا عِنْدَك فَاحْفَظْهَا إلَّا بِحَقِّهَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مُعَامَلَةُ الْإِنْسَانِ
أَمَانَةٌ مَعَ رَبِّهِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ ،
وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ أَمَانَةٌ .
فَأَمَانَةُ اللِّسَانِ أَنْ لَا يَسْتَعْمِلَهُ فِي
كَذِبٍ وَغِيبَةٍ وَلَا نَمِيمَةٍ وَلَا بِدْعَةٍ وَلَا فُحْشٍ وَلَا نَحْوِهَا .
وَالْعَيْنِ أَنْ لَا يَنْظُرَ بِهَا إلَى مُحَرَّمٍ .
وَالْأُذُنِ أَنْ لَا يُصْغِيَ بِهَا إلَى سَمَاعِ
مُحَرَّمٍ ، وَهَكَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ .
وَأَمَّا مَعَ النَّاسِ بِنَحْوِ رَدِّ الْوَدَائِعِ ،
وَتَرْكِ التَّطْفِيفِ فِي كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ ، وَبِعَدْلِ الْأُمَرَاءِ
فِي الرَّعِيَّةِ ، وَالْعُلَمَاءِ فِي الْعَامَّةِ بِأَنْ يَحْمِلُوهُمْ عَلَى الطَّاعَةِ
وَالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالِاعْتِقَادَاتِ الصَّحِيحَةِ ، وَيَنْهَوْهُمْ
عَنْ الْمَعَاصِي وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ ، كَالتَّعَصُّبَاتِ الْبَاطِلَةِ ،
وَالْمَرْأَةِ فِي حَقِّ زَوْجِهَا بِأَنْ لَا تَخُونَهُ فِي فِرَاشِهِ أَوْ
مَالِهِ وَالْقِنِّ فِي حَقِّ سَيِّدِهِ بِأَنْ لَا يُقَصِّرَ فِي خِدْمَتِهِ ،
وَلَا يَخُونَهُ فِي مَالِهِ .
وَقَدْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ذَلِكَ
بِقَوْلِهِ : { كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } .
وَأَمَّا مَعَ النَّفْسِ بِأَنْ لَا يَخْتَارَ لَهَا إلَّا
الْأَنْفَعَ وَالْأَصْلَحَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ فِي
مُخَالَفَةِ شَهَوَاتِهَا وَإِرَادَاتِهَا فَإِنَّهَا السُّمُّ النَّاقِعُ
الْمُهْلِكُ لِمَنْ أَطَاعَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
{ قَالَ أَنَسٌ : قَلَّمَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَالَ : لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ
وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ
} .
وَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ } نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لَمَّا حَصَرَهُمْ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا يَمِيلُونَ إلَى
أَبِي لُبَابَةَ لِكَوْنِ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِيهِمْ .
فَقَالُوا لَهُ : هَلْ تَرَى أَنْ نَنْزِلَ عَلَى حُكْمِ
مُحَمَّدٍ ؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى حَلْقِهِ : أَيْ إنَّهُ الذَّبْحُ فَلَا
تَفْعَلُوا ، فَكَانَتْ تِلْكَ مِنْهُ خِيَانَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ .
قَالَ فَمَا زَالَتْ قَدَمَايَ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى
عَلِمْت أَنِّي قَدْ خُنْت اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الْمَسْجِدِ
وَرَبَطَ نَفْسَهُ ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يَحِلَّهَا أَحَدٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ لَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى أَنْزَلَ
اللَّهُ تَوْبَتَهُ فَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ
الشَّرِيفَةِ ، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } عَطْفٌ
عَلَى النَّهْيِ أَيْ وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْأَمَانَاتُ الْأَعْمَالُ
الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْعِبَادَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : أَمَّا خِيَانَةُ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ فَمَعْصِيَتُهُمَا
.
وَأَمَّا خِيَانَةُ الْأَمَانَاتِ فَكُلُّ أَحَدٍ
مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا كَلَّفَهُ اللَّهُ بِهِ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُوقِفُهُ
بَيْنَ يَدَيْهِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَسَائِلُهُ عَنْ ذَلِكَ
هَلْ حَفِظَ أَمَانَةَ اللَّهِ فِيهِ أَوْ ضَيَّعَهَا ؟ فَلْيَسْتَعِدَّ
الْإِنْسَانُ بِمَاذَا يُجِبْ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ إذَا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ
لَا مَسَاغَ لِلْجَحْدِ وَلَا لِلْإِنْكَارِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ،
وَلْيَتَأَمَّلْ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ
الْخَائِنِينَ } أَيْ لَا يُرْشِدُ كَيْدَ مَنْ خَانَ أَمَانَتَهُ بَلْ يَحْرِمُهُ
هِدَايَتَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَيَفْضَحُهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ فِي
الْعُقْبَى ، فَالْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، لَكِنَّ بَعْضَهَا
أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ بَعْضٍ ، إذْ مَنْ خَانَك فِي فَلْسٍ لَيْسَ كَمَنْ
خَانَك فِي أَهْلِك .
وَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمْرَ
الْأَمَانَةِ تَعْظِيمًا بَلِيغًا ، وَأَكَّدَهُ تَأْكِيدًا شَدِيدًا .
فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ
} أَيْ التَّكَالِيفَ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا
عِبَادَهُ مِنْ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ
النَّوَاهِي { عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ } أَيْ آدَم صَلَّى
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا } أَيْ لِنَفْسِهِ
بِقَبُولِهِ تِلْكَ التَّكْلِيفَاتِ الشَّاقَّةِ جِدًّا { جَهُولًا } أَيْ بِمَشَقَّتِهَا
الَّتِي لَا تَتَنَاهَى .
وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الدُّنْيَا
كَالْبُسْتَانِ ، وَزَيَّنَهَا بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ : بِعِلْمِ الْعُلَمَاءِ ،
وَعَدْلِ الْأُمَرَاءِ ، وَعِبَادَةِ الصَّالِحِينَ ، وَنَصِيحَةِ الْمُسْتَشَارِ
، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ .
فَقَرَنَ إبْلِيسُ مَعَ الْعِلْمِ الْكِتْمَانَ ، وَمَعَ
الْعَدْلِ الْجَوْرَ ، وَمَعَ الْعِبَادَةِ الرِّيَاءَ ، وَمَعَ النَّصِيحَةِ
الْغِشَّ ، وَمَعَ الْأَمَانَةِ الْخِيَانَةَ : وَفِي الْحَدِيثِ : { يُطْبَعُ
الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ لَيْسَ الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ } .
وَفِيهِ أَيْضًا : { أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ النَّاسِ
الْأَمَانَةُ ، وَآخِرُ مَا يَبْقَى الصَّلَاةُ ، وَرُبَّ مُصَلٍّ وَلَا خَيْرَ
فِيهِ } وَذُكِرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ
النَّارِ { رَجُلًا لَازَمَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إلَّا خَانَهُ } .
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ
: { تَقَبَّلُوا لِي سِتًّا أَتَقَبَّلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ ، إذَا حَدَّثَ
أَحَدُكُمْ فَلَا يَكْذِبْ ، وَإِذَا وَعَدَ فَلَا يُخْلِفْ وَإِذَا اُؤْتُمِنَ
فَلَا يَخُنْ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { اضْمَنُوا لِي سِتًّا أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ ،
اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ ، وَأَدُّوا إذَا
اُؤْتُمِنْتُمْ } الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ : { اُكْفُلُوا لِي
سِتًّا أَكْفُلْ لَكُمْ الْجَنَّةَ
: الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْأَمَانَةَ وَالْفَرْجَ
وَالْبَطْنَ وَاللِّسَانَ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ { حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ
، أَيْ
بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ أَصْلُهَا ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ
فَعَلِمُوا مِنْ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ ، ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ
رَفْعِ الْأَمَانَةِ فَقَالَ : يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ
الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا فِي قَلْبِهِ مِثْلُ الْوَكْتِ :
أَيْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ فَفَوْقِيَّةٍ : الْأَثَرُ الْيَسِيرُ ، ثُمَّ يَنَامُ الرَّجُلُ
النَّوْمَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ
الْمَجْلِ : أَيْ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ لِلْجِيمِ تَنَفُّطُ الْيَدِ مِنْ الْعَمَلِ
وَغَيْرِهِ ، كَجَمْرٍ دَحْرَجْته عَلَى رِجْلِك فَنَفَطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِزًا :
أَيْ بِالزَّايِ مُرْتَفِعًا }
.
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ
لَهُ ، وَلَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا طَهُورَ لَهُ } الْحَدِيثَ .
وَالْبَزَّارُ عَنْ { عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ
قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، فَطَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَالِيَةِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِأَشَدِّ شَيْءٍ فِي هَذَا الدِّينِ وَأَلْيَنِهِ ؟ فَقَالَ : أَلْيَنُهُ
شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ
، وَأَشَدُّهُ يَا أَخَا الْعَالِيَةِ الْأَمَانَةُ ، إنَّهُ لَا دِينَ لِمَنْ لَا
أَمَانَةَ لَهُ ، وَلَا صَلَاةَ وَلَا زَكَاةَ } الْحَدِيثَ .
وَالشَّيْخَانِ : { وَخَيْرُكُمْ قَرْنِي ، ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ
قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ ، يَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ ،
وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ } .
وَالشَّيْخَانِ : { آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ
كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ } ، زَادَ مُسْلِمٌ : { وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى
وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } .
وَالشَّيْخَانِ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ
مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ
خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا : إذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا
حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ
غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ { :
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك
مِنْ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ ، وَأَعُوذُ بِك مِنْ الْخِيَانَةِ
فَإِنَّهَا بِئْسَ الْبِطَانَةُ
} .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي
الْأَوْسَطِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { مَا خَطَبَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَالَ : لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ
لَهُ ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : خَطَبَنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ .
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ
عَشْرَةَ خَصْلَةً فَقَدْ حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ .
وَقِيلَ وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إذَا
كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا ، وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا ، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا ،
وَأَطَاعَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ ، وَعَقَّ أُمَّهُ ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ ، وَجَفَا أَبَاهُ
، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ أَرْذَلَهُمْ
، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ ، وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ وَشُهِدَ
بِالزُّورِ وَلُبِسَ الْحَرِيرُ وَاُتُّخِذَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ ،
وَلَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ
رِيحًا حَمْرَاءَ ، أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ { فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ
رِيحًا وَمَسْخًا وَخَسْفًا وَقَذْفًا وَآيَاتٍ تَتَابَعَ كَنِظَامٍ بَالٍ قُطِعَ
سِلْكُهُ فَتَتَابَعَ .
} .
وَالْبَزَّارُ : { ثَلَاثٌ مُتَعَلِّقَاتٌ بِالْعَرْشِ
: الرَّحِمُ تَقُولُ اللَّهُمَّ إنِّي بِك فَلَا أُقْطَعُ ، وَالْأَمَانَةُ
تَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي بِك فَلَا أُخَانُ ، وَالنِّعْمَةُ تَقُولُ :
اللَّهُمَّ إنِّي بِك فَلَا أُكْفَرُ
} .
وَصَحَّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : " الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ كُلَّهَا
إلَّا الْأَمَانَةَ قَالَ : يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ قُتِلَ
فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَيُقَالُ لَهُ أَدِّ أَمَانَتَك ، فَيَقُولُ
أَيْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ ذَهَبَتْ الدُّنْيَا ؟ فَيُقَالُ انْطَلَقُوا بِهِ إلَى
الْهَاوِيَةِ ، وَتُمَثَّلُ لَهُ الْأَمَانَةُ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ دُفِعَتْ
إلَيْهِ فَيَرَاهَا فَيَعْرِفُهَا فَيَهْوِي فِي أَثَرِهَا حَتَّى يُدْرِكَهَا
فَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنْكِبِهِ ، حَتَّى إذَا ظَنَّ أَنَّهُ خَارِجٌ زَلَّتْ عَنْ
مَنْكِبِهِ فَهُوَ يَهْوِي فِي أَثَرِهَا أَبَدَ الْآبِدِينَ ، ثُمَّ قَالَ :
الصَّلَاةُ أَمَانَةٌ وَالْوُضُوءُ أَمَانَةٌ وَالْوَزْنُ أَمَانَةٌ وَالْكَيْلُ
أَمَانَةٌ ، وَأَشْيَاءُ عَدَّدَهَا وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدَائِعُ " .
قَالَ زَاذَانُ : فَأَتَيْت زَيْدَ بْنَ عَامِرٍ فَقُلْت
أَلَا تَرَى إلَى مَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ؟ قَالَ : كَذَا وَكَذَا .
قَالَ : صَدَقَ .
أَمَا سَمِعْت اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { إنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ مَا ذُكِرَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ
غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ { قَدْ
جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ( قُرْآنٌ كَرِيمٌ ) .
كِتَابُ النِّكَاحِ ( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : التَّبَتُّلُ : أَيْ تَرْكُ
التَّزَوُّجِ ) وَعَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ صَرِيحُ كَلَامِ بَعْضِ
الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا أَنَّ مِنْ إمَارَاتِ الْكَبِيرَةِ :
اللَّعْنَ ، وَذَكَرَ هَذَا الْإِمَامُ فِي بَابٍ عَقَدَهُ لِمَنْ لَعَنَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { وَلَعَنَ
اللَّهُ الْمُتَبَتِّلِينَ مِنْ الرِّجَالِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا نَتَزَوَّجُ
، وَالْمُتَبَتِّلَاتِ اللَّاتِي يَقُلْنَ ذَلِكَ } ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَأْتِي
عَلَى قَوَاعِدِنَا إذْ لَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَنَا عَلَى الْأَصَحِّ وُجُوبُ النِّكَاحِ
إلَّا بِالنَّذْرِ ، وَأَمَّا عِنْدَ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِهِ فِي بَعْضِ الْحَالَاتِ
كَأَنْ ظَنَّ مِنْ نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا وَنَحْوِهِ إنْ لَمْ
يَتَزَوَّجْ فَلَا يُعَدُّ فِي عَدِّ التَّبَتُّلِ لَهُ كَبِيرَةً عَلَى هَذَا
بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْمَهْرِ وَالْمُؤَنِ وَيَخْشَى ، بَلْ يَظُنُّ
مِنْ نَفْسِهِ الزِّنَا أَوْ نَحْوِهِ إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ فَتَرْكُ التَّزَوُّجِ
حِينَئِذٍ فِيهِ مَفَاسِدُ فَلَا يُعَدُّ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً .
( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ
وَالثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ : نَظَرُ الْأَجْنَبِيَّةِ بِشَهْوَةٍ مَعَ خَوْفِ فِتْنَةٍ ،
وَلَمْسُهَا كَذَلِكَ ، وَكَذَا الْخَلْوَةُ بِهَا بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا
مَحْرَمٌ لِأَحَدِهِمَا يَحْتَشِمُهُ ، وَلَوْ امْرَأَةٌ كَذَلِكَ وَلَا زَوْجَ لِتِلْكَ
الْأَجْنَبِيَّةِ ) أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكُ ذَلِكَ لَا
مَحَالَةَ ؛ الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا
الِاسْتِمَاعُ ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ
، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا ، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ
ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ
} .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : { وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ
فَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ ،
وَالْفَمُ يَزْنِي فَزِنَاهُ الْقُبَلُ
} .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ
، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالْفَرْجُ يَزْنِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { لَأَنْ يُطْعَنَ
فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ
} - أَيْ بِنَحْوِ إبْرَةٍ أَوْ مِسَلَّةٍ وَهُوَ
بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتْحِ ثَالِثِهِ - { مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ
يَمَسَّ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْخَلْوَةَ
بِالنِّسَاءِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَلَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا
دَخَلَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا ، وَلَأَنْ يَزْحَمُ رَجُلًا خِنْزِيرٌ
مُتَلَطِّخٌ بِطِينٍ أَوْ حَمَأَةٍ - أَيْ طِينٍ أَسْوَدَ مُنْتِنٍ - خَيْرٌ لَهُ
مِنْ أَنْ يَزْحَمَ مَنْكِبُهُ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَتَغُضُّنَّ أَبْصَارَكُمْ
وَلَتَحْفَظُنَّ فُرُوجَكُمْ أَوْ لَيَكْشِفَنَّ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ غَرِيبٌ : { يَا
عَلِيُّ إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا ، أَيْ مَالِكٌ
طَرَفَيْهَا السَّالِكُ فِي
جَمِيعِ نَوَاحِيهَا تَشْبِيهًا بِذِي الْقَرْنَيْنِ ،
فَإِنَّهُ قِيلَ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقَطْعِهِ الْأَرْضَ وَبُلُوغِهِ
قَرْنَيْ الشَّمْسِ شَرْقًا وَغَرْبًا
.
فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّمَا لَك
الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَاعْتُرِضَ
بِأَنَّ فِيهِ وَاهِيًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَعْنِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ
وَجَلَّ : { النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ مَنْ تَرَكَهَا مِنْ مَخَافَتِي
أَبْدَلْته إيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ } .
وَأَحْمَدُ :
{ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ
ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ
حَلَاوَتَهَا فِي قَلْبِهِ } .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : إنَّمَا أَرَادَ إنْ صَحَّ - وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ - أَنْ يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَيَصْرِفُ
بَصَرَهُ عَنْهَا تَوَرُّعًا .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَعَيْنًا سَهِرَتْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَعَيْنًا خَرَجَ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ فِيهِ
مَجْهُولًا : { ثَلَاثَةٌ لَا تَرَى أَعْيُنُهُمْ النَّارَ عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ كَفَّتْ عَنْ
مَحَارِمِ اللَّهِ } .
وَصَحَّ عِنْدَ الْحَاكِمِ ، وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ
انْقِطَاعًا : { اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنُ لَكُمْ
الْجَنَّةَ : اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ ، وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ ، وَأَدُّوا إذَا
ائْتُمِنْتُمْ ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ، وَكُفُّوا
أَيْدِيَكُمْ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَرِيرٍ : سَأَلْت رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظَرِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ : {
اصْرِفْ بَصَرَك } .
وَصَحَّ : { مَا مِنْ صَبَاحٍ إلَّا وَمَلَكَانِ
يُنَادِيَانِ : وَيْلٌ لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ ، وَوَيْلٌ لِلنِّسَاءِ مِنْ
الرِّجَالِ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا
مَحْرَمٌ } .
وَالشَّيْخَانِ : { إيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى
النِّسَاءِ .
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَفَرَأَيْت الْحَمْوَ ؟ - أَيْ بِوَاوٍ وَهَمْزَةٍ أَوْ تَرْكِهِمَا : أَبُو الزَّوْجِ
أَوْ الزَّوْجَةِ وَمَنْ أَدْلَى بِهِ وَقِيلَ الْأَوَّلُ فَقَطْ وَهُوَ الْمُرَادُ
هُنَا ، وَقِيلَ الثَّانِي فَقَطْ - قَالَ : الْحَمْوُ الْمَوْتُ } .
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : يَعْنِي فَلْيَمُتْ وَلَا يَفْعَلَنَّ
ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ هَذَا دَأْبُهُ فِي أَبِي الزَّوْجِ وَهُوَ مَحْرَمٌ
فَكَيْفَ بِالْغَرِيبِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ
الْكَبَائِرِ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَكَأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ
مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ ، لَكِنَّ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ
الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ مُقَدَّمَاتِ الزِّنَا لَيْسَتْ كَبَائِرَ ،
وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ هَذَا عَلَى مَا إذَا انْتَفَتْ الشَّهْوَةُ ،
وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ ، وَالْأَوَّلُ عَلَى مَا إذَا وُجِدَتَا فَمِنْ ثَمَّ
قَيَّدْت بِهِمَا الْأَوَّلَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ نَوْعُ اتِّجَاهٍ ، وَأَمَّا
إطْلَاقُ الْكَبِيرَةِ وَلَوْ مَعَ انْتِفَاءِ ذَيْنِك فَبَعِيدٌ جِدًّا .
( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ
وَالسَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : فِعْلُ هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ مَعَ الْأَمْرَدِ الْجَمِيلِ مَعَ الشَّهْوَةِ وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ
) وَعَدُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ بِنَاءً عَلَى طَرِيقَةِ
الْعَادِّينَ الثَّلَاثَةِ قَبْلَهَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْفِتْنَةَ بِالْأَمْرَدِ
أَقْرَبُ وَأَقْبَحُ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا يَأْتِي مِنْ عَدِّ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ
كَبِيرَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَكَذَا مُقَدَّمَاتُهُمَا .
ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ قَالَ : أَقَرَّ
الشَّيْخَانِ صَاحِبَ الْعُدَّةِ عَلَى أَشْيَاءَ عَدَّهَا صَغَائِرَ : مِنْهَا
النَّظَرُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ وَأَمْرَدَ
، فَقَدْ أَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَهُ بِشَهْوَةٍ
لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَسَقَ وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، وَكَذَا لَوْ عَاوَدَهُ عَبَثًا
لَا لِشَهْوَةٍ فِيهِ ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا
يَفْسُقُ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ إذَا غَلَبَتْ طَاعَاتُهُ كَمَا قَرَّرْنَاهُ
فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ تُخْرِجُ مِنْ الْعَدَالَةِ نَعَمْ لَوْ ظَنَّ
الْفِتْنَةَ ثُمَّ اقْتَحَمَ النَّظَرَ فَيَظْهَرُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً .
انْتَهَى
.
وَمَا ذَكَرَهُ آخِرًا مُوَافِقٌ لِمَا بَحَثْته
وَجَمَعْت بِهِ بَيْنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ ، وَالْقَوْلُ
بِأَنَّهُ غَيْرُ كَبِيرَةٍ فَتَأَمَّلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ ، وَإِنَّمَا
قَيَّدْت هُنَا وَفِيمَا مَرَّ بِالشَّهْوَةِ وَخَوْفِ الْفِتْنَةِ لِيَقْرُبَ
عَدُّ تِلْكَ السِّتَّةِ مِنْ الْكَبَائِرِ كَمَا مَرَّ لَا لِكَوْنِ الْحُرْمَةِ
مُقَيَّدَةٌ بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الْأَصَحَّ حُرْمَةُ هَذِهِ كُلِّهَا مَعَ
الْمَرْأَةِ وَالْأَمْرَدِ وَلَوْ بِلَا شَهْوَةٍ وَإِنْ أَمِنَ الْفِتْنَةَ
حَسْمًا لِمَادَّةِ الْفَسَادِ مَا أَمْكَنَ ، إذْ لَوْ جَازَ نَحْوُ النَّظَرِ وَلَوْ
مَعَ الْأَمْنِ لَجَرَّ إلَى الْفَاحِشَةِ ، وَأَدَّى إلَى الْفَسَادِ ، فَكَانَ
اللَّائِقُ بِمَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ الْإِعْرَاضَ عَنْ تَفَاصِيلِ الْأَحْوَالِ
وَسَدِّ بَابِ الْفِتْنَةِ وَمَا يُؤَدِّي إلَيْهَا مُطْلَقًا ، وَمِنْ ثَمَّ
حَرَّمَ أَئِمَّتُنَا النَّظَرَ
لِقُلَامَةِ ظُفُرِ الْمَرْأَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَلَوْ
مَعَ يَدِهَا بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ حُرْمَةِ نَظَرِ الْيَدَيْنِ
وَالْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا عَوْرَةٌ فِي النَّظَرِ مِنْ الْمَرْأَةِ وَلَوْ
أَمَةً عَلَى الْأَصَحِّ وَإِنْ كَانَا لَيْسَا عَوْرَةً مِنْ الْحُرَّةِ فِي
الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ سَائِرُ مَا انْفَصَلَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ
رُؤْيَةَ الْبَعْضِ رُبَّمَا جَرَّ إلَى رُؤْيَةِ الْكُلِّ فَكَانَ اللَّائِقُ حُرْمَةَ
نَظَرِهِ مُطْلَقًا أَيْضًا ، وَكَمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ
لِلْمَرْأَةِ كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهَا أَنْ تَرَى شَيْئًا مِنْهُ وَلَوْ بِلَا
شَهْوَةٍ وَلَا خَوْفِ فِتْنَةٍ ، نَعَمْ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ
بِنَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ نَظَرَ كُلٌّ إلَى مَا عَدَا مَا بَيْنَ
سُرَّةِ الْآخَرِ وَرُكْبَتَهُ وَحَلَّتْ الْخَلْوَةُ لِانْتِفَاءِ مَظِنَّةِ
الْفَسَادِ حِينَئِذٍ ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الذَّكَرُ مَمْسُوحًا بِأَنْ لَمْ
يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ ذَكَرِهِ وَلَا بَقِيَتْ فِيهِ شَهْوَةٌ وَمَيْلٌ لِلنِّسَاءِ
، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَبْدُهَا وَهِيَ وَهُوَ ثِقَتَانِ عَدْلَانِ وَلَا يَكْفِي
كَوْنُهُمَا عَفِيفَيْنِ عَنْ الزِّنَا فَقَطْ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ صِفَةِ
الْعَدَالَةِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلَيْسَ الشَّيْخُ الْفَانِي وَالْمَرِيضُ
وَالْعِنِّينُ وَالْخَصِيُّ وَالْمَجْبُوبُ كَذَلِكَ فَيَحْرُمُ عَلَى كُلٍّ مِنْ
هَؤُلَاءِ نَظَرُهَا وَعَلَيْهَا نَظَرُهُ مُطْلَقًا كَالْفَحْلِ وَعَلَى وَلِيِّ
الْمُرَاهِقِ وَالْمُرَاهِقَةِ مَنْعُهُمَا مِمَّا يُمْنَعُ مِنْهُ الْبَالِغُ
وَالْبَالِغَةُ .
وَعَلَى النِّسَاءِ الِاحْتِجَابُ مِنْهُ ، كَمَا يَجِبُ
عَلَى الْمُسْلِمَةِ أَنْ تَحْتَجِبَ مِنْ الذِّمِّيَّةِ لِئَلَّا تَصِفَهَا إلَى
فَاسِقٍ أَوْ كَافِرٍ تُفْتَتَنُ بِهِ ، وَمِثْلُهَا فِي ذَلِكَ الْفَاسِقَةُ
بِزِنًا أَوْ سِحَاقٍ فَيَجِبُ عَلَى الْعَفِيفَةِ الِاحْتِجَابُ مِنْهَا لِئَلَّا
تَجُرَّهَا إلَى مِثْلِ قَبَائِحِهَا ، وَإِذَا اضْطَرَّتْ الْمَرْأَةُ إلَى
مُدَاوَاةٍ أَوْ شَهَادَةٍ أَوْ تَعْلِيمٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ جَازَ
نَظَرُهَا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ بِتَفَاصِيلِ ذَلِكَ الْمَبْسُوطَةِ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ ، وَقَدْ قَدَّمْت
عَنْ الْأَذْرَعِيِّ أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ
الْمَاوَرْدِيِّ مَا يُصَرِّحُ بِمَا ذَكَرَتْهُ فِي تِلْكَ السِّتِّ حَيْثُ قَالَ
أَقَرَّ الشَّيْخَانِ صَاحِبَ الْعُدَّةِ عَلَى عِدَّةِ أَشْيَاءَ مِنْ
الصَّغَائِرِ ، وَفِيهَا نَظَرٌ
: مِنْهَا النَّظَرُ إلَى مَا لَا يَجُوزُ النَّظَرُ
إلَيْهِ مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ أَمْرَدَ ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَقَدْ أَطْلَقَ الْمَاوَرْدِيُّ
وَغَيْرُهُ أَنَّهُ إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَسَقَ
وَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَكَذَا لَوْ عَاوَدَهُ عَبَثًا لَا لِشَهْوَةٍ فِيهِ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا
يَفْسُقُ بِذَلِكَ بِمُجَرَّدِهِ إذَا غَلَبَتْ طَاعَاتُهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ
كَبِيرَةً تُخْرِجُ عَنْ الْعَدَالَةِ
.
نَعَمْ لَوْ ظَنَّ الْفِتْنَةَ ثُمَّ اقْتَحَمَ
النَّظَرَ فَيَظْهَرُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً .
انْتَهَى
.
وَرَأَيْت بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَشَارَ لِمَا
ذَكَرْته أَيْضًا حَيْثُ قَالَ
: وَالنَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إلَى الْمَرْأَةِ
وَالْأَمْرَدِ زِنًا لِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { زِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ ،
وَزِنَا الْيَدِ الْبَطْشُ ، وَزِنَا الرِّجْلِ الْخُطَا وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي } .
وَلِأَجْلِ ذَلِكَ بَالَغَ الصَّالِحُونَ فِي الْإِعْرَاضِ
عَنْ الْمُرْدِ وَعَنْ النَّظَرِ إلَيْهِمْ وَعَنْ مُخَالَطَتِهِمْ
وَمُجَالَسَتِهِمْ .
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ : لَا تُجَالِسُوا أَوْلَادَ
الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا كَصُوَرِ الْعَذَارَى وَهُمْ أَشَدُّ
فِتْنَةً مِنْ النِّسَاءِ وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ : مَا أَنَا بِأَخْوَفَ
عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ مِنْ سَبُعٍ ضَارٍ مِنْ الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ
يَقْعُدُ إلَيْهِ وَكَانَ يَقُولُ : لَا يَبِيتَنَّ رَجُلٌ مَعَ أَمْرَدَ فِي
مَكَان وَاحِدٍ ، وَحَرَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْخَلْوَةَ مَعَ الْأَمْرَدِ فِي
بَيْتٍ أَوْ حَانُوتٍ أَوْ حَمَّامٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا خَلَا رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إلَّا
كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } ، وَفِي الْمُرْدِ مَنْ يَفُوقُ النِّسَاءَ
بِحُسْنِهِ
فَالْفِتْنَةُ بِهِ أَعْظَمُ وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ فِي
حَقِّهِ مِنْ الشَّرِّ مَا لَا يُمْكِنُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَيَسْهُلُ فِي
حَقِّهِ مِنْ طُرُقِ الرِّيبَةِ وَالشَّرِّ مَا لَا يَسْهُلُ فِي حَقِّ
الْمَرْأَةِ فَهُوَ بِالتَّحْرِيمِ أَوْلَى .
وَأَقَاوِيلُ السَّلَفِ فِي التَّنْفِيرِ مِنْهُمْ وَالتَّحْذِيرِ
مِنْ رُؤْيَتِهِمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَرَ وَسَمُّوهُمْ الْأَنْتَانَ ؛
لِأَنَّهُمْ مُسْتَقْذَرُونَ شَرْعًا ، وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ
نَظَرُ الْمَنْسُوبِ إلَى الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ .
وَدَخَلَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْحَمَّامَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ
صَبِيٌّ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ : أَخْرِجُوهُ عَنِّي فَإِنِّي أَرَى مَعَ كُلِّ
امْرَأَةٍ شَيْطَانًا وَمَعَ كُلِّ أَمْرَدَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَيْطَانًا .
وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَمَعَهُ صَبِيٌّ
حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ لَهُ : مَنْ هَذَا مِنْك ؟ فَقَالَ ابْنُ أُخْتِي .
قَالَ : لَا تَجِيءَ بِهِ إلَيْنَا مَرَّةً أُخْرَى ،
وَلَا تَمْشِ مَعَهُ بِطَرِيقٍ لِئَلَّا يَظُنُّ بِك مَنْ لَا يَعْرِفُك وَيَعْرِفُهُ
سُوءًا .
وَرُوِيَ لَكِنْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ كَمَا عَبَّرَ بِهِ
بَعْضُهُمْ بَلْ وَاهٍ كَمَا عَبَّرَ بِهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَسْقَلَانِيُّ
: { أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ أَمْرَدُ حَسَنٌ فَأَجْلَسَهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ ظَهْرِهِ وَقَالَ : إنَّمَا كَانَتْ فِتْنَةُ
دَاوُد مِنْ النَّظَرِ } .
وَكَانَ يُقَالُ النَّظَرُ بَرِيدُ الزِّنَا .
وَيُؤَيِّدُهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ أَنَّهُ سَهْمٌ
مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إبْلِيسَ
.
( الْكَبِيرَةُ الثَّامِنَةُ وَالتَّاسِعَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ : الْغِيبَةُ وَالسُّكُوتُ عَلَيْهَا
رِضًا وَتَقْرِيرًا ) .
قَالَ -
تَعَالَى - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ
مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلَا
تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ
تَوَّابٌ رَحِيمٌ } وَالسُّخْرِيَةُ : النَّظَرُ إلَى الْمَسْخُورِ مِنْهُ
بِعَيْنِ النَّقْصِ : أَيْ لَا تَحْتَقِرْ غَيْرَك عَسَى أَنْ يَكُونَ عِنْدَ
اللَّهِ خَيْرًا مِنْك وَأَفْضَلَ وَأَقْرَبَ .
{ رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ
لَهُ وَلَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } .
وَقَدْ احْتَقَرَ إبْلِيسُ اللَّعِينُ آدَمَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ - فَبَاءَ بِالْخَسَارِ الْأَبَدِيِّ وَفَازَ
آدَم بِالْعِزِّ الْأَبَدِيِّ ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِعَسَى يَصِيرُ : أَيْ لَا تَحْتَقِرْ غَيْرَك فَإِنَّهُ رُبَّمَا
صَارَ عَزِيزًا وَصِرْت ذَلِيلًا فَيَنْتَقِمُ مِنْك : لَا تُهِينُ الْفَقِيرَ
عَلَّك أَنْ تَرْكَعَ يَوْمًا وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهُ { وَلَا تَلْمِزُوا
أَنْفُسَكُمْ } : أَيْ لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَاللَّمْزُ
بِالْقَوْلِ وَغَيْرِهِ ، وَالْهَمْزُ بِالْقَوْلِ فَقَطْ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ
الْهَمْزَ بِالْعَيْنِ وَالشَّدْقِ وَالْيَدِ ، وَاللَّمْزُ بِاللِّسَانِ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَبَلَغَنِي عَنْ اللَّيْثِ
أَنَّهُ قَالَ : اللُّمَزَةُ الَّذِي يَعِيبُك فِي وَجْهِك ، وَالْهُمَزَةُ
الَّذِي يَعِيبُك بِالْغَيْبِ .
وَفِي الْإِحْيَاءِ قَالَ مُجَاهِدٌ : { وَيْلٌ لِكُلِّ
هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } الْهُمَزَةُ : الطَّعَّانُ فِي النَّاسِ
،
وَاللُّمَزَةُ : الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاس وَالنَّبْزُ : الطَّرْحُ .
وَاللَّقَبُ :
مَا أَشَعَرَ بِرِفْعَةِ الْمُسَمَّى أَوْ ضِعَتِهِ :
أَيْ لَا تَتَرَامَوْا بِهَا وَهُوَ هُنَا أَنْ يُدْعَى الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ مَا
سُمِّيَ بِهِ أَوْ بِنَحْوِ يَا مُنَافِقُ أَوْ يَا فَاسِقُ وَقَدْ تَابَ مِنْ
فِسْقِهِ أَقْوَالٌ أَوَّلَهَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ .
وَقُدِّمَتْ السُّخْرِيَةُ ؛ لِأَنَّهَا أَبْلُغُ
الثَّلَاثَةِ فِي الْأَذِيَّةِ لِاسْتِدْعَائِهَا تَنْقِيصَ ، الْمَرْءِ فِي
حَضْرَتِهِ .
ثُمَّ اللَّمْزُ ؛ لِأَنَّهُ الْعَيْبُ بِمَا فِي
الْإِنْسَانِ ، وَهَذَا دُونَ الْأَوَّلِ ثُمَّ النَّبْزُ وَهَذَا نِدَاؤُهُ بِلَقَبِهِ
وَهُوَ دُونَ الثَّانِي إذْ لَا يَلْزَمُ مُطَابَقَةُ مَعْنَاهُ لِلَقَبِهِ فَقَدْ
يُلَقَّبُ الْحَسَنُ بِالْقَبِيحِ وَعَكْسِهِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَا
تَتَكَبَّرُوا فَتَسْتَحْقِرُوا إخْوَانَكُمْ بِحَيْثُ لَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِمْ
أَصْلًا ، وَأَيْضًا فَلَا تَعِيبُوهُمْ طَلَبًا لِحَطِّ دَرَجَتِهِمْ ، وَأَيْضًا
فَلَا تُسَمُّوهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَهُ ؛ وَنَبَّهَ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : {
أَنْفُسَكُمْ } عَلَى دَقِيقَةٍ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهَا ، وَهِيَ أَنَّ
الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَنِ الْوَاحِدِ إذْ اشْتَكَى
بَعْضُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ .
فَمَنْ عَابَ غَيْرَهُ فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا عَابَ
نَفْسَهُ نَظَرًا لِذَلِكَ ، وَأَيْضًا فَتَعْيِيبُهُ لِلْغَيْرِ تَسَبُّبٌ إلَى تَعْيِيبِ
الْغَيْرِ لَهُ فَكَأَنَّهُ الَّذِي عَابَ نَفْسَهُ فَهُوَ عَلَى حَدِّ الْخَبَرِ
الْآتِي : { لَا يَسُبَّنَّ أَحَدُكُمْ أَبَاهُ ، قَالُوا : وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَاهُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ } وَعَلَى حَدِّ
قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } وَغَايَرَ بَيْنَ صِيغَتَيْ تَلْمِزُوا
وَتَنَابَزُوا ؛ لِأَنَّ الْمَلْمُوزَ قَدْ لَا يَقْدِرُ فِي الْحَالِ عَلَى
عَيْبٍ يَلْمِزُ بِهِ لَامِزَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى تَتَبُّعِ أَحْوَالِهِ حَتَّى
يَظْفَرَ بِبَعْضِ عُيُوبِهِ بِخِلَافِ النَّبْزِ ، فَإِنَّ مَنْ لُقِّبَ بِمَا
يَكْرَهُ قَادِرٌ عَلَى تَلْقِيبِ الْآخَرِ بِنَظِيرِ ذَلِكَ حَالًا فَوَقَعَ
التَّفَاعُلُ
، وَمَعْنَى { بِئْسَ الِاسْمُ
} إلَخْ : أَنَّ مَنْ فَعَلَ إحْدَى الثَّلَاثَةِ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْفِسْقِ
وَهُوَ غَايَةُ النَّقْصِ بَعْدَ أَنْ كَانَ كَامِلًا بِالْإِيمَانِ .
وَضَمَّ تَعَالَى إلَى هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ
قَوْلَهُ : { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } لِلْإِشَارَةِ
إلَى عَظَمَةِ إثْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ ، ثُمَّ عَقَّبَ
تَعَالَى بِأَمْرِهِ بِاجْتِنَابِ الظَّنِّ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إثْمٌ وَهُوَ مَا تَخَيَّلْت وُقُوعَهُ مِنْ غَيْرِك مِنْ غَيْرِ
مُسْتَنِدٍ يَقِينِيٍّ لَك عَلَيْهِ وَقَدْ صَمَّمَ عَلَيْهِ قَلْبُك أَوْ
تَكَلَّمَ بِهِ لِسَانُك مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ
أَكْذَبُ الْحَدِيثِ } .
فَالْعَاقِلُ إذَا وَقَفَ أَمْرُهُ عَلَى الْيَقِينِ قَلَّمَا
يَتَيَقَّنُ فِي أَحَدٍ عَيْبًا يَلْمِزُهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَصِحُّ
ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا وَعَكْسُهُ فَلَا يَنْبَغِي حِينَئِذٍ التَّعْوِيلُ عَلَى
الظَّنِّ ، وَبَعْضُ الظَّنِّ لَيْسَ بِإِثْمٍ بَلْ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ
كَظُنُونِ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْفُرُوعِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الْأَدِلَّةِ
الشَّرْعِيَّةِ فَيَلْزَمُهُمْ الْأَخْذُ بِهَا .
وَمِنْهُ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ظُنُّوا بِالْمُؤْمِنِ خَيْرًا } ، وَمَا هُوَ
مُبَاحٌ ، وَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْحَزْمَ وَالرَّأْيَ ، وَهُوَ مَحْمَلُ خَبَرِ :
{ إنَّ مِنْ الْحَزْمِ سُوءَ الظَّنِّ } أَيْ بِأَنْ يُقَدَّرَ الْمُتَوَهَّمُ
وَاقِعًا كَمَطْلِ مُعَامِلِهِ الَّذِي يَجْهَلُ حَتَّى يُسْلِمَ بِسَبَبِ ذَلِكَ
مِنْ أَنْ يَلْحَقَهُ أَذًى مِنْ غَيْرِهِ أَوْ خَدِيعَةٌ ، فَنَتِيجَةُ هَذَا الظَّنِّ
لَيْسَ إلْحَاقُ النَّقْصِ بِالْغَيْرِ بَلْ الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ النَّفْسِ
وَآثَارِهَا عَلَى أَنْ يَلْحَقَهَا سُوءٌ .
وَالتَّجَسُّسُ : التَّتَبُّعُ ، وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ
وَالْمُرَادُ تَتَبُّعُ عُيُوبِ النَّاسِ ، وَالتَّحَسُّسُ بِالْمُهْمَلَةِ
الْإِحْسَاسُ وَالْإِدْرَاكُ ، وَمِنْهُ الْحَوَاسُّ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ
، وَقُرِئَ شَاذًّا
بِالْمُهْمَلَةِ فَقِيلَ مُتَّحِدَانِ وَمَعْنَاهُمَا
طَلَبُ مَعْرِفَةِ الْأَخْبَارِ
.
وَقِيلَ مُخْتَلِفَانِ فَالْأَوَّلُ تَتَبُّعُ
الظَّوَاهِرِ ، وَالثَّانِي تَتَبُّعُ الْبَوَاطِنِ .
وَقِيلَ :
الْأَوَّلُ الشَّرُّ وَالثَّانِي الْخَيْرُ وَفِيهِ
نَظَرٌ ، وَبِفَرْضِ صِحَّتِهِ هُوَ غَيْرُ مُرَادٍ هُنَا ، وَقِيلَ الْأَوَّلُ
أَنْ تَفْحَصَ عَنْ الْغَيْرِ بِغَيْرِك .
وَالثَّانِي أَنْ تَفْحَصَ عَنْهُ بِنَفْسِك ؛ وَعَلَى
كُلٍّ فَفِي الْآيَةِ النَّهْيُ الْأَكِيدُ عَنْ الْبَحْثِ عَنْ أُمُورِ النَّاسِ
الْمَسْتُورَةِ وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا
تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا
مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَفِضْ الْإِيمَانُ إلَى قَلْبِهِ : لَا
تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّ مَنْ
يَتَّبِعْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ
يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ } .
وَقِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَلْ
لَك فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ وَلِحْيَتُهُ تَقْطُرُ خَمْرًا ؟ فَقَالَ :
إنَّمَا نُهِينَا عَنْ التَّجَسُّسِ فَإِنْ يُظْهِرْ لَنَا شَيْئًا أَخَذْنَاهُ
بِهِ .
وَقَوْلُهُ :
{ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } أَيْ لَا
يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي حَقِّ أَحَدٍ فِي غَيْبَتِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ
مِمَّا يَكْرَهُهُ ، وَأَلْحَقَ بِهِ مَا عَلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ
فِي التَّكَلُّمِ فِي حَضْرَتِهِ بِذَلِكَ بَلْ هُوَ أَبْلَغُ فِي الْأَذِيَّةِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَتَدْرُونَ
مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : ذِكْرُك
أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ ، قِيلَ أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟
قَالَ : إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ
} .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَطُرُقُهُ
كَثِيرَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِهَا مَعَ أَنَّهَا صِدْقٌ
الْمُبَالَغَةُ فِي حِفْظِ عِرْضِ الْمُؤْمِنِ ، وَالْإِشَارَةُ إلَى عَظِيمِ
تَأَكُّدِ حُرْمَتِهِ وَحُقُوقِهِ ، وَزَادَ تَعَالَى ذَلِكَ تَأْكِيدًا
وَتَحْقِيقًا بِتَشْبِيهِ عِرْضِهِ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ مَعَ الْمُبَالَغَةِ فِي
ذَلِكَ أَيْضًا بِالتَّعْبِيرِ فِيهِ بِالْأَخِ ، فَقَالَ - عَزَّ قَائِلًا - : { أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } وَوَجْهُ التَّشْبِيهِ أَنَّ
الْإِنْسَانَ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ مِنْ قَرْضِ عِرْضِهِ ، كَمَا يَتَأَلَّمُ
بَدَنُهُ مِنْ قَطْعِ لَحْمِهِ لِأَكْلِهِ بَلْ أَبْلُغُ ؛ لِأَنَّ عِرْضَ
الْعَاقِلِ عِنْدَهُ أَشْرَفُ مِنْ لَحْمِهِ وَدَمِهِ .
وَكَمَا أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ مِنْ الْعَاقِلِ أَكْلُ لُحُومِ
النَّاسِ لَا يَحْسُنُ مِنْهُ قَرْضُ عِرْضِهِمْ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ؛
لِأَنَّهُ آلَمْ ، وَوَجْهُ الْآكَدِيَّةِ فِي لَحْمِ أَخِيهِ أَنَّ الْأَخَ لَا
يُمْكِنُهُ مَضْغُ لَحْمِ أَخِيهِ فَضْلًا عَنْ أَكْلِهِ بِخِلَافِ الْعَدُوِّ
فَإِنَّهُ يَأْكُلُ لَحْمَ عَدُوِّهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ مِنْهُ فِي ذَلِكَ ،
وَانْدَفَعَ بِمَيِّتًا الْحَالُ مِنْ لَحْمٍ أَوْ أَخِيهِ مَا قَدْ يُقَالُ
إنَّمَا تَحْرُمُ الْغِيبَةُ فِي الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُؤْلِمُ حِينَئِذٍ
بِخِلَافِهَا فِي الْغِيبَةِ فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِلْمُغْتَابِ عَلَيْهَا ،
وَوَجْهُ انْدِفَاعِ هَذَا أَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْأَخِ ، وَهُوَ مَيِّتٌ لَا
يُؤْلِمُ أَيْضًا ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ فِي غَايَةِ الْقُبْحِ كَمَا أَنَّهُ لَوْ
فُرِضَ الِاطِّلَاعُ لَتَأَلَّمَ بِهِ ، فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَوْ أَحَسَّ بِأَكْلِ
لَحْمِهِ لَآلَمَهُ فَكَذَا الْغِيبَةُ تَحْرُمُ فِي الْغَيْبَةِ ؛ لِأَنَّ
الْمُغْتَابَ لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهَا لَتَأَلَّمَ وَأَيْضًا فَفِي الْعِرْضِ
حَقٌّ مُؤَكَّدٌ لِلَّهِ تَعَالَى
.
فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْغِيبَةَ وَقَعَتْ بِحَيْثُ لَا
يُمْكِنُ الْمُغْتَابُ الْعِلْمَ بِهَا حَرُمَتْ أَيْضًا رِعَايَةً لِحَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى وَفَطْمًا لِلنَّاسِ عَنْ الْأَعْرَاضِ وَالْخَوْضِ فِيهَا
بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ اللَّهُمَّ إلَّا لِلْأَسْبَابِ
الْآتِيَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَحَلُّ ضَرُورَةٍ فَتُبَاحُ حِينَئِذٍ
؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ كَمَا أَشَارَتْ الْآيَةُ إلَى ذَلِكَ أَيْضًا بِذِكْرِ
" مَيْتًا " ، إذْ لَحْمُ الْمَيِّتِ إنَّمَا يَحِلُّ لِلضَّرُورَةِ
إلْحَاقُهُ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً أُخْرَى مَعَ مَيْتَةِ
الْآدَمِيِّ لَمْ تَحِلَّ لَهُ مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ بِخِلَافِ مَا لَوْ لَمْ
يَجِدْ إلَّا مَيْتَةَ الْآدَمِيِّ
.
وقَوْله تَعَالَى : { فَكَرِهْتُمُوهُ } تَقْدِيرُهُ
فَقَدْ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ الْأَكْلَ أَوْ اللَّحْمَ فَلَا تَفْعَلُوا مَا هُوَ شَبِيهٌ
بِهِ ، وَإِلَى هَذَا يُؤَوَّلُ قَوْلُ مُجَاهِدٍ لَمَّا قِيلَ لَهُمْ : { أَيُحِبُّ
أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } قَالُوا لَا ، قِيلَ : {
فَكَرِهْتُمُوهُ } أَيْ فَكَمَا كَرِهْتُمْ هَذَا فَاجْتَنِبُوا ذِكْرَهُ
بِالسُّوءِ .
لَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَكْلَ ذَلِكَ إذَا هَمَزَهُ
أَيُحِبُّ لِلْإِنْكَارِ فَكَرِهْتُمُوهُ إذًا فَاكْرَهُوا هَذَا كَذَلِكَ ،
وَقِيلَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ فَكَرِهْتُمُوهُ مَحْذُوفٌ أَيْ عُرِضَ عَلَيْكُمْ
ذَلِكَ فَكَرِهْتُمُوهُ أَيْ يُعْرَضُ عَلَيْكُمْ فَتَكْرَهُونَهُ ، وَيَصِحُّ
أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ فَكَرِهْتُمُوهُ لِلْمَيِّتِ وَكَأَنَّهُ صِفَةٌ لَهُ ،
فَحِينَئِذٍ يُفِيدُ زِيَادَةَ مُبَالَغَةٍ فِي التَّحْذِيرِ أَيْ : أَنَّ
الْمَيْتَةَ ، وَإِنْ أُكِلَتْ فِي النُّدْرَةِ لَكِنَّهَا إذَا أَنْتَنَتْ
كَرِهَهَا كُلُّ أَحَدٍ وَيَفِرُّ مِنْهَا بِحَيْثُ يَبْعُدُ عَنْ مَحَلِّهَا ،
وَلَا يَسْتَطِيعُ دُخُولُهُ فَكَيْفَ يَقْرَبُهُ بِحَيْثُ يَأْكُلُهُ .
فَكَذَا حَالُ الْغِيبَةِ يَنْبَغِي الْمُبَاعَدَةُ
عَنْهَا كَنَهْيٍ عَنْ الْمَيْتَةِ الْمُتَغَيِّرَةِ ؛ فَتَأَمَّلْ مَا أَفَادَتْهُ
هَذِهِ الْآيَةُ ، وَاَلَّتِي قَبْلَهَا وَأَمْعِنْ فِكْرَك فِيهِ تَغْنَمْ
وَتَسْلَمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى بِحَقَائِقِ تَنْزِيلِهِ أَعْلَمُ ؛ وَتَأَمَّلْ أَيْضًا
أَنَّهُ تَعَالَى خَتَمَ كُلًّا مِنْ الْآيَتَيْنِ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ رَحْمَةً
بِعِبَادِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَيْهِمْ ، لَكِنْ لَمَّا بُدِئَتْ الْأُولَى
بِالنَّهْيِ خُتِمَتْ بِالنَّفْيِ { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ } لِتَقَارُبِهِمَا ،
وَلَمَّا بُدِئَتْ الثَّانِيَةُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْأَمْرِ فِي
اجْتَنِبُوا خُتِمَتْ بِهِ فِي إنَّ اللَّهَ إلَخْ
وَكَأَنَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ التَّهْدِيدُ الشَّدِيدُ فِي الْأُولَى فَقَطْ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ }
أَنَّ مَا فِيهَا أَفْحَشُ ؛ لِأَنَّهُ إيذَاءٌ فِي الْحَضْرَةِ بِالسُّخْرِيَةِ
أَوْ اللَّمْزِ أَوْ النَّبْزِ بِخِلَافِهِ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ
بِأَمْرٍ خَفِيٍّ إذْ كُلٌّ مِنْ الظَّنِّ وَالتَّجَسُّسِ وَالْغِيبَةِ يَقْتَضِي
الْإِخْفَاءَ وَعَدَمَ الْعِلْمِ بِهِ غَالِبًا .
وَإِذَا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِ هَاتَيْنِ
الْآيَتَيْنِ الْمُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى آدَابٍ وَأَحْكَامٍ وَحِكَمٍ
وَتَشْدِيدَاتٍ وَتَهْدِيدَاتٍ لَا يُحْصِيهَا إلَّا مُنْزِلُهَا ، فَلْنَذْكُرْ
بَعْضَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الْغِيبَةِ وَمُتَعَلِّقَاتهَا .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي
خُطْبَةِ الْوَدَاعِ : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي
بَلَدِكُمْ هَذَا ، أَلَا هَلْ بَلَّغْت } .
وَمُسْلِمٌ : { كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ
حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ
} .
وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ قَوِيٍّ : { مِنْ أَرْبَى
الرِّبَا اسْتِطَالَةُ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ } .
وَهُوَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي دَاوُد إلَّا أَنَّهُ
قَالَ : { إنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ
مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } الْحَدِيثَ
.
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { الرِّبَا سَبْعُونَ حُوبًا
- أَيْ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ إثْمًا - وَأَيْسَرُهَا كَنِكَاحِ الرَّجُلِ أُمَّهُ
وَأَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ } .
وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { أَتَدْرُونَ
أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ :
فَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُ
عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا
اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } } .
وَأَبُو دَاوُد : { إنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا
الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَكَرَ أَمْرَ الرِّبَا وَعَظَّمَ شَأْنَهُ وَقَالَ : إنَّ الدِّرْهَمَ
يُصِيبُهُ الرَّجُلُ مِنْ الرِّبَا أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ فِي الْخَطِيئَةِ مِنْ
سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا الرَّجُلُ ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا
عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { الرِّبَا اثْنَانِ وَسَبْعُونَ
بَابًا أَدْنَاهَا مِثْلُ إتْيَانِ الرَّجُلِ أُمَّهُ ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا
اسْتِطَالَةُ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ أَخِيهِ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ
: { إنَّ الرِّبَا نَيِّفٌ وَسَبْعُونَ بَابًا أَهْوَنُهُنَّ بَابًا مِنْ الرِّبَا
مِثْلُ مَنْ أَتَى أُمَّهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَدِرْهَمُ رِبًا أَشَدُّ مِنْ
خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً ، وَأَشَدُّ الرِّبَا وَأَرْبَى الرِّبَا وَأَخْبَثُ
الرِّبَا انْتِهَاكُ عِرْضِ الْمُسْلِمِ وَانْتِهَاكُ حُرْمَتِهِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : {
قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبُك مِنْ صَفِيَّةَ
كَذَا وَكَذَا - قَالَ بَعْضُ الرُّوَاةِ تَعْنِي قَصِيرَةً فَقَالَ : لَقَدْ
قُلْت كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ أَيْ لَأَنْتَنَتْهُ
وَغَيَّرَتْ رِيحَهُ قَالَتْ : وَحَكَيْت لَهُ إنْسَانًا فَقَالَ : مَا أُحِبُّ
أَنِّي حَكَيْت إنْسَانًا وَإِنَّ لِي كَذَا وَكَذَا } .
وَأَبُو دَاوُد عَنْ سُمَيَّةَ عَنْهَا وَسُمَيَّةُ لَمْ
تُنْسَبْ أَنَّهُ اعْتَلَّ بَعِيرٌ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ وَعِنْدَ زَيْنَبَ فَضْلُ
ظَهْرٍ { فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبِ :
أَعْطِيهَا بَعِيرًا .
فَقَالَتْ : أَنَا أُعْطِي تِلْكَ الْيَهُودِيَّةَ ؟
فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَجَرَهَا ذَا
الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمَ وَبَعْضَ صَفَرٍ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْهَا قَالَتْ : { قُلْت لِامْرَأَةٍ
مَرَّةً وَأَنَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ
هَذِهِ لَطَوِيلَةُ الذَّيْلِ ، فَقَالَ : الْفِظِي الْفِظِي أَيْ ارْمِي مَا فِي
فِيكِ - فَلَفَظَتْ بُضْعَةً - أَيْ قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ } .
وَأَبُو دَاوُد وَالطَّيَالِسِيُّ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا
وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَقَالَ : لَا يُفْطِرَنَّ أَحَدٌ
مِنْكُمْ
حَتَّى آذَنَ لَهُ ، فَصَامَ النَّاسُ حَتَّى إذَا
أَمْسَوْا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي
ظَلَلْت صَائِمًا فَأْذَنْ لِي فَأُفْطِرُ فَيَأْذَنُ لَهُ وَالرَّجُلُ حَتَّى
جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتَاتَانِ مِنْ أَهْلِك ظَلَّتَا
صَائِمَتَيْنِ وَإِنَّهُمَا يَسْتَحْيِيَانِ أَنْ يَأْتِيَاك فَأْذَنْ لَهُمَا فَلْيُفْطِرَا
فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ عَاوَدَهُ فَأَعْرَضَ
عَنْهُ فَقَالَ : إنَّهُمَا لَمْ يَصُومَا ، وَكَيْفَ صَامَ مَنْ ظَلَّ هَذَا
الْيَوْمَ يَأْكُلُ لَحْمَ النَّاسِ اذْهَبْ فَمُرْهُمَا إنْ كَانَتَا
صَائِمَتَيْنِ فَلْتَتَقَيَّآ فَرَجَعَ إلَيْهِمَا فَأَخْبَرَهُمَا
فَاسْتِقَاءَتَا فَقَاءَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَقَةً مِنْ دَمٍ ، فَرَجَعَ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : وَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ بَقِيَتَا فِي بُطُونِهِمَا لَأَكَلَتْهُمَا النَّارُ } .
وَرَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا
وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ عَنْ عُبَيْدٍ
مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِهِ إلَّا
أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ : فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا { قِيئِي فَقَاءَتْ قَيْحًا وَدَمًا
وَصَدِيدًا وَلَحْمًا حَتَّى مَلَأَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ .
ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى قِيئِي فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ
وَدَمٍ وَصَدِيدٍ وَلَحْمٍ عَبِيطٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى مَلَأَتْ الْقَدَحَ .
ثُمَّ قَالَ : إنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ
اللَّهُ لَهُمَا وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ، جَلَسَتْ إحْدَاهُمَا
إلَى الْأُخْرَى فَجَعَلَتَا تَأْكُلَانِ مِنْ لُحُومِ النَّاسِ } .
وَأَبُو يَعْلَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ
رَجُلٌ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَعْجَزَ أَوْ قَالُوا مَا أَضْعَفَ
فُلَانًا .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
اغْتَبْتُمْ صَاحِبَكُمْ وَأَكَلْتُمْ لَحْمَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنْ عِنْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوْا فِي قِيَامِهِ
عَجْزًا ، فَقَالُوا مَا أَعْجَزَ فُلَانًا ، فَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَكَلْتُمْ أَخَاكُمْ وَاغْتَبْتُمُوهُ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { ذَكَرُوا عِنْدَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالُوا لَا يَأْكُلُ
حَتَّى يُطْعَمَ وَلَا يَرْحَلُ حَتَّى يُرَحَّلَ لَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اغْتَبْتُمُوهُ ، قَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّمَا حَدَّثَنَا بِمَا فِيهِ } .
وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَاللَّفْظُ
لَهُ وَرُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ : { كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ رَجُلٌ
، فَوَقَعَ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِهِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَلَّلْ .
فَقَالَ : وَمِمَّ أَتَخَلَّلُ ؟ مَا أَكَلْت لَحْمًا .
قَالَ : إنَّك أَكَلْت لَحْمَ أَخِيك } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { أَرْبَعَةٌ يُؤْذُونَ أَهْلَ النَّارِ عَلَى مَا بِهِمْ مِنْ
الْأَذَى يَسْعَوْنَ مَا بَيْنَ الْحَمِيمِ وَالْجَحِيمِ يَدْعُونَ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ
يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ النَّارِ لِبَعْضٍ مَا بَالُ هَؤُلَاءِ قَدْ آذَوْنَا عَلَى
مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى .
قَالَ : فَرَجُلٌ مُغْلَقٌ عَلَيْهِ تَابُوتٌ مِنْ
جَمْرٍ ، وَرَجُلٌ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ ، وَرَجُلٌ يَسِيلُ فُوهُ قَيْحًا وَدَمًا
، وَرَجُلٌ يَأْكُلُ لَحْمَهُ .
فَيُقَالُ لِصَاحِبِ التَّابُوتِ : مَا بَالُ
الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى ، فَيَقُولُ : إنَّ
الْأَبْعَدَ قَدْ مَاتَ وَفِي عُنُقِهِ أَمْوَالُ النَّاسِ .
ثُمَّ يُقَالُ لِلَّذِي يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ : مَا بَالُ
الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى .
فَيَقُولُ : إنَّ الْأَبْعَدَ كَانَ لَا يُبَالِي أَيْنَ
أَصَابَ الْبَوْلَ مِنْهُ .
ثُمَّ يُقَالُ لِلَّذِي يَسِيلُ فُوهُ قَيْحًا وَدَمًا :
مَا بَالُ الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا مِنْ الْأَذَى ؟ فَيَقُولُ :
إنَّ الْأَبْعَدَ كَانَ يَنْظُرُ إلَى كَلِمَةٍ فَيَسْتَلِذُّهَا كَمَا يَسْتَلِذُّ
الرَّفَثَ .
ثُمَّ يُقَالُ لِلَّذِي يَأْكُلُ لَحْمَهُ
: مَا بَالُ الْأَبْعَدِ قَدْ آذَانَا عَلَى مَا بِنَا
مِنْ الْأَذَى .
فَيَقُولُ : إنَّ الْأَبْعَدَ كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ
النَّاسِ بِالْغِيبَةِ وَيَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ } .
وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ :
{ مَنْ أَكَلَ لَحْمَ أَخِيهِ فِي الدُّنْيَا قُرِّبَ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
فَيُقَالُ لَهُ : كُلْهُ مَيِّتًا كَمَا أَكَلْته حَيًّا } .
فَيَأْكُلُهُ وَيَكْلَحُ أَيْ يَعْبَسُ وَيَقْبِضُ
وَجْهَهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ وَيَضِجُّ أَيْ بِالْمُعْجَمَةِ وَالْجِيمِ ، وَفِي
رِوَايَةٍ : " وَيَصِيحُ " وَهُمَا مُتَقَارِبَتَانِ وَالْأُولَى
أَبْلُغُ لِإِشْعَارِهَا بِزِيَادَةِ الْفَزَعِ وَالْقَلِقِ .
وَأَبُو الشَّيْخِ وَغَيْرُهُ عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ " أَنَّهُ مَرَّ عَلَى بَغْلٍ
مَيِّتٍ فَقَالَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ : لَأَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ مِنْ هَذَا
حَتَّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ " .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { جَاءَ الْأَسْلَمِيُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْهَدُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ
شَهَادَاتٍ يَقُولُ : أَتَيْت امْرَأَةً حَرَامًا ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُعْرِضُ
عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
إلَى أَنْ قَالَ : { فَمَا تُرِيدُ بِهَذَا الْقَوْلِ ؟ قَالَ أُرِيدُ أَنْ
تُطَهِّرَنِي ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنْ يُرْجَمَ فَرُجِمَ ، فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ .
اُنْظُرْ إلَى هَذَا الَّذِي سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ
فَلَمْ يَدَعْ نَفْسَهُ حَتَّى رُجِمَ رَجْمَ الْكَلْبِ ، قَالَ فَسَكَتَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ سَارَ سَاعَةً فَمَرَّ بِجِيفَةِ
حِمَارٍ شَائِلٍ بِرِجْلَيْهِ فَقَالَ أَيْنَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ؟ فَقَالَا نَحْنُ
بِالنُّقَارِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ لَهُمَا كُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا
الْحِمَارِ ، فَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَنْ
يَأْكُلُ مِنْ هَذَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ هَذَا الرَّجُلِ آنِفًا أَشَدُّ
مِنْ أَكْلِ هَذِهِ الْجِيفَةِ ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ الْآنَ فِي
أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَنْغَمِسُ فِيهَا } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إلَّا مُخْتَلَفًا فِيهِ
وَثَّقَهُ كَثِيرُونَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : {
لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرَ
فِي النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ قَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ يَا
جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَرَأَى
رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ جِدًّا قَالَ مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا عَاقِرُ
النَّاقَةِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ
لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْت
مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ
النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ مَوْصُولًا وَمُرْسَلًا : { لَمَّا
عُرِجَ بِي مَرَرْت بِرِجَالٍ تُقْرَضُ جُلُودُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ
فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ الَّذِينَ يَتَزَيَّنُونَ
لِلزِّينَةِ ، قَالَ ثُمَّ مَرَرْت بِجُبٍّ مُنْتِنِ الرِّيحِ فَسَمِعْت فِيهِ
أَصْوَاتًا شَدِيدَةً فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ نِسَاءٌ كُنَّ
يَتَزَيَّنَّ لِلزِّينَةِ وَيَفْعَلْنَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُنَّ .
ثُمَّ مَرَرْت عَلَى نِسَاءٍ وَرِجَالٍ مُعَلَّقِينَ
بِثَدْيِهِنَّ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ هَؤُلَاءِ
الْهَمَّازُونَ وَاللَّمَّازُونَ وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : { وَيْلٌ
لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } } وَمَرَّ آنِفًا مَعْنَاهُمَا .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَارْتَفَعَتْ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ
يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ }
.
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { الْغِيبَةُ
أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا ، قِيلَ وَكَيْفَ ؟ قَالَ الرَّجُلُ يَزْنِي ثُمَّ يَتُوبُ
فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَإِنَّ صَاحِبَ الْغِيبَةِ لَا يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى
يَغْفِرَ لَهُ صَاحِبُهُ } .
وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ غَيْرَ مَرْفُوعٍ .
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ : وَهُوَ الْأَشْبَهُ .
وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي
بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { بَيْنَمَا أَنَا أُمَاشِي رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي وَرَجُلٌ عَلَى
يَسَارِهِ فَإِذَا نَحْنُ بِقَبْرَيْنِ أَمَامَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ
وَبَكَى فَأَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِجَرِيدَةٍ فَاسْتَبَقْنَا فَسَبَقْته فَأَتَيْته
بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا نِصْفَيْنِ فَأَلْقَى عَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً
وَعَلَى ذَا الْقَبْرِ قِطْعَةً ، قَالَ إنَّهُ يُهَوَّنُ عَلَيْهِمَا مَا
كَانَتَا رَطْبَتَيْنِ ، وَمَا يُعَذَّبَانِ إلَّا فِي الْغِيبَةِ وَالْبَوْلِ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا عَاصِمًا
أَحَدَ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ قَبِلَهُ جَمَاعَةٌ وَرَدَّهُ آخَرُونَ
وَحَدِيثُهُ حَسَنٌ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى
قَبْرٍ يُعَذَّبُ صَاحِبُهُ فَقَالَ : إنَّ هَذَا كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ
ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ رَطْبَةٍ فَوَضَعَهَا عَلَى الْقَبْرِ وَقَالَ لَعَلَّهُ
أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ مَا دَامَتْ هَذِهِ رَطْبَةً } .
وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : { أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَقِيعَ الْغَرْقَدِ فَوَقَفَ عَلَى قَبْرَيْنِ ثَرَيَيْنِ فَقَالَ أَدَفَنْتُمْ
فُلَانًا وَفُلَانَةَ أَوْ قَالَ فُلَانًا وَفُلَانًا قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، قَالَ لَقَدْ أُقْعِدَ فُلَانٌ الْآنَ فَضُرِبَ ، ثُمَّ قَالَ : وَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ ضُرِبَ ضَرْبَةً مَا بَقِيَ مِنْهُ عُضْوٌ إلَّا
انْقَطَعَ وَلَقَدْ تَطَايَرَ قَبْرُهُ نَارًا وَلَقَدْ صَرَخَ صَرْخَةً سَمِعَهَا
الْخَلَائِقُ إلَّا الثَّقَلَيْنِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ ، وَلَوْلَا
تَمْرِيجٌ فِي قُلُوبِكُمْ وَتَزَيُّدُكُمْ فِي
الْحَدِيثِ لَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ ، ثُمَّ قَالَ الْآنَ يُضْرَبُ هَذَا ،
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا ذَنْبُهُمَا ؟ قَالَ أَمَّا فُلَانٌ فَإِنَّهُ
كَانَ لَا يَسْتَبْرِئُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا فُلَانٌ أَوْ قَالَ فُلَانَةُ فَإِنَّهُ
كَانَ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ
} .
وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جَرِيرٍ أَحْمَدُ لَكِنْ
بِلَفْظٍ آخَرَ يَأْتِي فِي النَّمِيمَةِ وَزَادَ فِيهِ : { قَالُوا يَا نَبِيَّ
اللَّهِ حَتَّى مَتَى هُمَا يُعَذَّبَانِ ؟ قَالَ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا
اللَّهُ تَعَالَى } .
وَطُرُقُ هَذَا الْحَدِيثِ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الصِّحَاحِ وَغَيْرِهَا .
وَقَدَّمْت مِنْهَا طَرَفًا أَوَائِلَ كِتَابِ
الطَّهَارَةِ ، وَبِتَأَمُّلِهَا يُعْلَمُ أَنَّ الْقِصَّةَ مُتَعَدِّدَةٌ ،
وَبِهِ يَنْدَفِعُ مَا يُوهِمُهُ ظَوَاهِرُهَا مِنْ التَّعَارُضِ .
ثُمَّ رَأَيْت الْحَافِظَ الْمُنْذَرِيَّ أَشَارَ
لِبَعْضِ ذَلِكَ فَقَالَ أَكْثَرُ الطُّرُقِ أَنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ فِي
النَّمِيمَةِ وَالْبَوْلِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ اتَّفَقَ مُرُورُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبُ أَحَدُهُمَا بِالنَّمِيمَةِ
وَالْآخَرُ فِي الْبَوْلِ ، وَمَرَّةً أُخْرَى بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبُ أَحَدُهُمَا
فِي الْغِيبَةِ وَالْآخَرُ فِي الْبَوْلِ .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { الْغِيبَةُ وَالنَّمِيمَةُ
يَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يَعْضِدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ } .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ : { أَتَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ
: قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ :
إنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ
وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ
هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ
وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا
عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيُؤْتَى
كِتَابُهُ مَنْشُورًا فَيَقُولُ يَا
رَبِّ فَأَيْنَ حَسَنَاتُ كَذَا وَكَذَا عَمِلْتهَا
لَيْسَتْ فِي صَحِيفَتِي ، فَيَقُولُ لَهُ : مُحِيَتْ بِاغْتِيَابِك النَّاسَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { مَنْ ذَكَرَ
امْرَأً بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ لِيَعِيبَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَادِ مَا قَالَ فِيهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى
رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِكَلِمَةٍ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يَشِينُهُ بِهَا فِي
الدُّنْيَا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُذِيبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي
النَّارِ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَادِ مَا قَالَ فِيهِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ مَا
لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ
} زَادَ الطَّبَرَانِيُّ .
" وَلَيْسَ بِخَارِجٍ " وَرَدْغَةُ الْخَبَالِ
بِرَاءٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُعْجَمَتَيْنِ سَاكِنَةٍ فَمَفْتُوحَةٍ : عُصَارَةُ
أَهْلِ النَّارِ ، كَذَا جَاءَ مُفَسَّرًا مَرْفُوعًا .
وَأَحْمَدُ :
{ خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ : الشِّرْكُ
بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَبَهْتُ مُؤْمِنٍ ،
وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَيَمِينٌ صَابِرَةٌ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا
بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَجَمَاعَةٌ : { مَنْ
ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ
يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { مَنْ رَدَّ عَنْ
عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ
رَدَّ اللَّهُ عَنْهُ عَذَابَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَتَلَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } } .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَمَى عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ
فِي الدُّنْيَا بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَحْمِيهِ مِنْ النَّارِ } .
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ
فَاسْتَطَاعَ نُصْرَتَهُ فَنَصَرَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
، وَإِنْ
لَمْ يَنْصُرْهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ } .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرُهُمَا
: { مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ
تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إلَّا خَذَلَهُ
اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ
يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ
مِنْ حُرْمَتِهِ إلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ } .
قَالَ قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ ثَلَاثَةُ
أَثْلَاثٍ : ثُلُثٌ مِنْ الْغِيبَةِ ، وَثُلُثٌ مِنْ الْبَوْلِ ، وَثُلُثٌ مِنْ
النَّمِيمَةِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : وَاَللَّهِ لَلْغِيبَةُ أَسْرَعُ
فَسَادًا فِي دِينِ الْمَرْءِ مِنْ الْأَكَلَةِ فِي الْجَسَدِ ، وَكَانَ يَقُولُ :
ابْنُ آدَمَ إنَّك لَنْ تَبْلُغَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى لَا تَعِيبَ
النَّاسَ بِعَيْبٍ هُوَ فِيك ، وَحَتَّى تَبْدَأَ بِصَلَاحِ ذَلِكَ الْعَيْبِ
فَتُصْلِحَهُ مِنْ نَفْسِك ، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ كَانَ شَغْلُك فِي خَاصَّةِ
نَفْسِك .
وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ مَنْ كَانَ هَكَذَا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَدْرَكْنَا السَّلَفَ الصَّالِحَ
وَهُمْ لَا يَرَوْنَ الْعِبَادَةَ فِي الصَّوْمِ وَلَا فِي الصَّلَاةِ وَلَكِنْ
فِي الْكَفِّ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ
.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا أَرَدْت أَنْ تَذْكُرَ
عُيُوبَ صَاحِبِك فَاذْكُرْ عُيُوبَك
.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ
الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ وَلَا يُبْصِرُ الْجِذْعَ فِي عَيْنِ نَفْسِهِ ،
وَسَمِعَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَجُلًا يَغْتَابُ
آخَرَ فَقَالَ : إيَّاكَ وَالْغِيبَةَ ، فَإِنَّهَا إدَامُ كِلَابِ النَّاسِ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَلَيْكُمْ
بِذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ شِفَاءٌ ، وَإِيَّاكُمْ وَذِكْرَ النَّاسِ فَإِنَّهُ
دَاءٌ .
تَنْبِيهَاتٌ : مِنْهَا : عَدُّ الْغِيبَةِ
الْمُحَرَّمَةِ كَبِيرَةٌ هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ كَثِيرُونَ وَيَلْزَمُ مِنْهُ
أَنَّ السُّكُوتَ عَلَيْهَا - رِضًا بِهَا - كَبِيرَةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ
يَأْتِي أَنَّ تَرْكَ إنْكَارِ الْمُنْكَرِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَالْغِيبَةُ
مِنْ عَظَائِمِ الْمُنْكَرَاتِ كَمَا يَأْتِي فَظَهَرَ مَا ذَكَرْته فِي
التَّرْجَمَةِ ، ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ صَرَّحَ بِهِ حَيْثُ قَالَ :
وَأَمَّا السُّكُوتُ عَلَى الْغِيبَةِ - رِضًا بِهَا - مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى
دَفْعِهَا فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَهَا ، نَعَمْ لَوْ لَمْ
يُمْكِنْهُ دَفْعُهَا فَيَلْزَمُهُ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مُفَارَقَةُ الْمُغْتَابِ
، وَتَبِعَهُ الزَّرْكَشِيُّ فَقَالَ
: وَالْأَشْبَهُ أَنَّ السُّكُوتَ عَلَى الْغِيبَةِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَى دَفْعِهَا كَبِيرَةٌ
.
انْتَهَى
.
وَأَمَّا تَقْرِيرُ الشَّيْخَيْنِ صَاحِبَ الْعُدَّةِ
عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ صَغِيرَةٌ وَكَذَا السُّكُوتُ عَلَيْهَا فَاعْتَرَضُوهُ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا
مِنْ الصَّغَائِرِ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ
الْمُفَسِّرُ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ
وَيُوَافِقُهُ كَلَامُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا سَبَقَ فِي حَدِّ
الْكَبِيرَةِ ، وَقَدْ غُلِّظَ أَمْرُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمَنْ
تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ فِيهَا عَلِمَ أَنَّهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَمْ أَرَ
مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ غَيْرَ الْغَزَالِيِّ وَصَاحِبَ
الْعُدَّةِ ، وَالْعَجَبُ أَنَّهُ أَطْلَقَ أَنَّ تَرْكَ النَّهْيَ عَنْ
الْمُنْكَرِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ عَنْ
النَّهْيِ عَنْهَا مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ هِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْمُنْكَرَاتِ لَا
سِيَّمَا غِيبَةُ الْأَوْلِيَاءِ وَأَهْلِ الْكَرَامَاتِ ، وَأَقَلُّ الدَّرَجَاتِ
أَنَّهُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ إجْمَاعٌ أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَ غِيبَةٍ وَغِيبَةٍ ، فَإِنَّ
مَرَاتِبَهَا وَمَفَاسِدَهَا وَالتَّأَذِّي بِهَا يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا
بِحَسَبِ خِفَّتِهَا ، وَثِقَلِهَا وَإِيذَائِهَا ، وَقَدْ قَالُوا إنَّهَا ذِكْرُ
الْإِنْسَانِ بِمَا فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ فِي دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ أَوْ نَفْسِهِ
أَوْ خُلُقِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ خَادِمِهِ أَوْ
مَمْلُوكِهِ أَوْ عِمَامَتِهِ أَوْ ثَوْبِهِ أَوْ مَشْيِهِ أَوْ حَرَكَتِهِ
وَبَشَاشَتِهِ وَخَلَاعَتِهِ
وَعُبُوسَتِهِ وَطَلَاقَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا
يَتَعَلَّقُ بِهِ .
فَأَمَّا الْبَدَنُ : فَكَقَوْلِهِ أَعْمَى أَعْرَجُ
أَعْمَشُ أَقْرَعُ قَصِيرٌ طَوِيلٌ أَسْوَدُ أَصْفَرُ .
وَأَمَّا الدِّينُ فَكَقَوْلِك فَاسِقٌ سَارِقٌ خَائِنٌ
ظَالِمٌ مُتَهَاوَنٌ بِالصَّلَاةِ مُتَسَاهِلٌ فِي النَّجَاسَاتِ لَيْسَ بَارًّا
بِوَالِدِيهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ ذِكْرُهُ ؛ وَلَا شَكَّ أَنَّ
الْإِيذَاءَ وَالتَّأَذِّي يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بِاخْتِلَافِ
الْغِيبَةِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ ، فَيَقْرُبُ أَنْ يُقَالَ ذِكْرُ الْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ
وَالْأَصْفَرِ وَالْأَسْوَدِ وَعَيْبِ الْعِمَامَةِ وَالْمَلْبُوسِ وَالدَّابَّةِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الصَّغَائِرِ لِخِفَّةِ التَّأَذِّي بِالْوَصْفِ بِهَا
بِخِلَافِ الْوَصْفِ بِالْفِسْقِ وَالْفُجُورِ وَالظُّلْمِ وَعُقُوقِ
الْوَالِدَيْنِ وَالتَّهَاوُنِ بِالصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَظَائِمِ
الْمَعَاصِي ، وَيَجُوزُ أَنْ لَا يُفْصَلَ سَدًّا لِلْبَابِ كَمَا فِي الْخَمْرِ
وَيُقَالُ لِلْغِيبَةِ حَلَاوَةٌ كَحَلَاوَةِ التَّمْرِ وَضَرَاوَةٌ كَضَرَاوَةِ
الْخَمْرِ ، عَافَانَا اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِنْهَا وَقَضَى عَنَّا
حُقُوقَ أَرْبَابِهَا فَلَا يُحْصِيهِمْ غَيْرُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَا خَفَاءَ
أَنَّ الْكَلَامَ حَيْثُ لَا سَبَبَ يُبِيحُهَا أَوْ يُوجِبُهَا بَلْ تَفَكُّهًا
أَوْ إيذَاءً بِالْمُغْتَابِ .
انْتَهَى كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ .
وَتَبِعَهُ تِلْمِيذُهُ فِي الْخَادِمِ فَقَالَ :
الصَّوَابُ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا نَقَلَهُ الْكَرَابِيسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفُ
بِأَدَبِ الْقَضَاءِ مِنْ الْقَدِيمِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا }
وَجَزَمَ بِهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيُّ فِي عَقِيدَتِهِ
فِي الْفَصْلِ الْمَعْقُودِ لِلْكَبَائِرِ ، وَكَذَا الْجِيلِيُّ فِي شَرَحَ
التَّنْبِيهِ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَكَذَا الْكَوَاشِيُّ فِي
تَفْسِيرِهِ وَهُوَ مَعْدُودٌ مِنْ
الشَّافِعِيَّةِ وَقَالَ إنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ
، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهَا صَغِيرَةٌ وَلَمْ يُقَفْ عَلَى هَذَا النَّصِّ .
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ
وَلَا يَعُدُّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةً ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ
أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَيِّتًا ، وَقَدْ جَزَمَ
الرَّافِعِيُّ قَبْلَ هَذَا بِأَنَّ الْوَقِيعَةَ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ
الْقُرْآنِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَفَسَّرُوا الْوَقِيعَةَ بِالْغِيبَةِ .
وَالْقُرْآنُ وَالْأَحَادِيثُ مُتَظَافِرَةٌ عَلَى
ذَلِكَ أَيْ كَوْنِهَا كَبِيرَةً مُطْلَقًا ، وَفِي الصَّحِيحِ : { سِبَابُ
الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ } .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الرَّجُلِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ
مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ : { إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ
هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا } .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى
بِأَدَبِ الْعِبَادَةِ قَدْ حَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْغِيبَةَ مُوَدِّعًا بِذَلِكَ أُمَّتَهُ وَقَرَنَ تَحْرِيمَهَا إلَى تَحْرِيمِ
الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ ، ثُمَّ زَادَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ تَأْكِيدًا
بِإِعْلَامِهِ بِأَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ كَحُرْمَةِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فِي
الشَّهْرِ الْحَرَامِ .
وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ
الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّوْبَةُ
مِنْهَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِكَوْنِهَا
صَغِيرَةً إلَّا صَاحِبَ الْعُدَّةِ وَالْغَزَالِيَّ ، وَالْعَجَبُ مِنْ سُكُوتِ الرَّافِعِيِّ
عَلَيْهِ .
وَقَدْ نَقَلَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْوَقِيعَةَ فِي
أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ هُنَا إنَّ السُّكُوتَ
عَنْ الْغِيبَةِ صَغِيرَةٌ ، وَقَدْ نُقِلَ فِيمَا قَبْلُ أَنَّ السُّكُوتَ عَلَى
تَرْكِ الْمُنْكَرِ كَبِيرَةٌ انْتَهَى .
وَمَالُ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ إلَى أَنَّهَا
صَغِيرَةٌ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ بَعْضَ مَا مَرَّ عَنْ
الْأَذْرَعِيِّ وَرَدَّهُ ، وَحَاصِلُ عِبَارَتِهِ : وَأَمَّا الْوَقِيعَةُ فِي
أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ مِنْ الصَّغَائِرِ يَعْنِي
إذَا قُلْنَا الْغِيبَةُ مِنْ الْكَبَائِرِ فَلَا خُصُوصِيَّةَ لِذَلِكَ وَصَاحِبُ
الْعُدَّةِ يَرَاهَا مِنْ الصَّغَائِرِ ، قَالَ : وَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا مِنْ
الصَّغَائِرِ ضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ ، وَقَدْ نَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ الْمُفَسِّرُ
وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَيُوَافِقُهُ كَلَامُ
جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ ، وَقَدْ غَلُظَ أَمْرُهَا فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ الْأَحَادِيثَ فِيهَا عَلِمَ أَنَّهَا مِنْ
الْكَبَائِرِ قَالَ : وَلَمْ أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِأَنَّهَا مِنْ الصَّغَائِرِ
غَيْرَ الْغَزَالِيِّ وَصَاحِبَ الْعُدَّةِ .
وَالْعَجَبُ أَنَّهُ أَطْلَقَ أَنَّ تَرْكَ النَّهْيِ
عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَقَضِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ عَنْ
النَّهْيِ عَنْهَا مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ هِيَ مِنْ أَقْبَحِ الْمُنْكَرَاتِ
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَاَلَّذِي يَظْهَرُ خِلَافُ مَا قَالَهُ فَلَيْسَتْ
الْوَقِيعَةُ فِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ مِنْ الْغِيبَةِ بَلْ
هِيَ دَاخِلَةٌ فِي سَبِّ الْمُسْلِمِ وَالِاسْتِطَالَةِ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ يُحْتَجُّ لِذَلِكَ بِمَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُنْفَرِدًا بِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ
بِالْحَرْبِ } .
وَالْغِيبَةُ هِيَ أَنْ تَذْكُرَ الْإِنْسَانَ بِمَا لَا
يَرْضَى اسْتِمَاعُهُ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
الْوَقِيعَةَ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِنَقْصٍ وَذَلِكَ دَاخِلٌ فِي سَبِّ
الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ : { أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ ذِكْرُك أَخَاك بِمَا
يَكْرَهُ } الْحَدِيثَ السَّابِقَ
.
وَجَعْلُ الْغِيبَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ فِيهِ نَظَرٌ
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا شَبَّهَهَا بِكَرَاهِيَةِ أَكْلِ لَحْمِ
الْمَيْتَةِ فَقَالَ : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا }
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : قِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا بُدَّ أَنْ يُجِيبُوا بِأَنْ
يَقُولُوا لَا أَحَدَ يُحِبُّ ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : {
فَكَرِهْتُمُوهُ } .
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَلَمْ أَرَ فِيهَا ذِكْرًا
لِلْغِيبَةِ وَلَا وَعِيدًا بِعَذَابٍ ، وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْت بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ
وَصُدُورَهُمْ فَقُلْت مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ } انْتَهَى .
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً إنَّمَا
يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا وَالتَّنْفِيرِ عَنْهَا وَالزَّجْرِ عَلَيْهَا .
انْتَهَى كَلَامُ الْجَلَالِ وَقَدْ اسْتَرْوَحَ فِيهِ
رَحِمَهُ اللَّهُ .
أَمَّا قَوْلُهُ : وَاَلَّذِي يَظْهَرُ خِلَافُ مَا
قَالَهُ فَلَيْسَتْ الْوَقِيعَةُ إلَخْ ، فَيُرَدُّ بِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ
دَاخِلَةً فِي سَبِّ الْمُسْلِمِ فَلِمَ أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ مَعَ ذِكْرِ سَبِّ
الْمُسْلِمِ .
فَمَا أَوْرَدَهُ الْأَذْرَعِيُّ عَلَى مَنْ أَفْرَدَهَا
عَنْ الْغِيبَةِ فَجَعَلَهَا كَبِيرَةً وَالْغِيبَةُ صَغِيرَةٌ يُرَدُّ نَظِيرُهُ
عَلَى مَا قَالَهُ الْجَلَالُ لِأَنَّ الْوَقِيعَةَ إذَا أُرِيدَ بِهَا السَّبُّ
فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَلَوْ فِي غَيْرِ الْعُلَمَاءِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ ،
فَكَيْفَ يَسُوغُ التَّخْصِيصُ بِهَا فَالْحَقُّ أَنَّ إفْرَادَ الْوَقِيعَةِ
بِكَوْنِهَا كَبِيرَةً مُشْكِلٌ مُطْلَقًا .
أَمَّا عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْغِيبَةَ صَغِيرَةٌ
وَيُرِيدُ بِالْوَقِيعَةِ الْغِيبَةَ فَوَاضِحٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ شَرَفَ
ذَيْنِك اقْتَضَى التَّغْلِيظَ فِي أَمْرِهِمَا ؛ لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْهُ .
وَأَمَّا عَلَى مَنْ يَقُولُ إنَّ الْغِيبَةَ
كَبِيرَةٌ أَوْ يُفَسِّرُ الْوَقِيعَةَ بِالسَّبِّ فَلَا
فَائِدَةَ لِإِفْرَادِ الْوَقِيعَةِ بِالذِّكْرِ إلَّا مُجَرَّدَ الِاعْتِنَاءِ
وَالتَّأْكِيدِ فِي تَغْلِيظِهَا عَلَى أَنَّهُ سَبَقَ عَنْ الزَّرْكَشِيّ
أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْوَقِيعَةَ بِالْغِيبَةِ ، وَبِهِ يَزِيدُ إيضَاحُ رَدِّ
مَا قَالَهُ الْجَلَالُ .
وَأَمَّا تَنْظِيرُهُ فِي كَوْنِ الْغِيبَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ
بِمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَيُرَدُّ بِمَا قَدَّمْته فِي مَعْنَاهَا
الْمُفِيدِ لِغَايَةِ الزَّجْرِ وَالتَّغْلِيظِ فِي أَمْرِ الْغِيبَةِ
وَلِكَوْنِهَا كَبِيرَةً ؛ لِأَنَّ أَكْلَ لَحْمِ الْمَيْتَةِ كَبِيرَةٌ فَكَذَا
مَا شُبِّهَ بِهِ بَلْ هُوَ أَبْلَغُ فِي الْمَفْسَدَةِ مِنْهُ ، وَمِنْ ثَمَّ
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ كَمَا مَرَّ عَنْهُ : وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ أَكْلَ
الْمَيْتَةِ كَبِيرَةً وَلَا يَعُدُّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةً وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَنْزَلَهَا مَنْزِلَةَ أَكْلِ لَحْمِ الْآدَمِيِّ إلَى آخِرِ مَا مَرَّ عَنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَعْنِي الْجَلَالَ إنَّهُ لَمْ
يَرِدْ فِي الْأَحَادِيثِ وَعِيدٌ عَلَى الْغِيبَةِ بِعَذَابٍ ، وَأَنَّ
الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا كَبِيرَةً بَلْ عَلَى
تَحْرِيمِهَا وَالزَّجْرِ عَنْهَا فَهُوَ فِي غَايَةِ الْعَجَبِ .
أَمَّا الثَّانِي فَوَاضِحٌ إذْ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا
الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَقَدْ مَرَّ فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ
أَنَّهَا مَا قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ .
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَوَاضِحٌ أَيْضًا إذْ مَنْ
تَأَمَّلَ الْأَحَادِيثَ الَّتِي قَدَّمْتهَا فِيهَا عَلِمَ أَنَّ فِيهَا أَعْظَمَ
الْعَذَابِ وَأَشَدَّ النَّكَالِ ، فَقَدْ صَحَّ فِيهَا أَنَّهَا أَرْبَى الرِّبَا
وَأَنَّهَا لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ أَنْتَنَتْهُ وَغَيَّرَتْ رِيحَهُ ،
وَأَنَّ أَهْلَهَا يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ فِي النَّارِ ، وَأَنَّ لَهُمْ رَائِحَةً
مُنْتِنَةً فِيهَا وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ ، وَبَعْضُ هَذِهِ كَافِيَةٌ
فِي الْكَبِيرَةِ فَكَيْفَ إذَا اجْتَمَعَتْ ، هَذَا مَا فِي الْأَحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ .
وَأَمَّا مَا مَرَّ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ أَعْظَمَ
وَأَشَدُّ ، فَظَهَرَ أَنَّ الَّذِي دَلَّتْ
عَلَيْهِ الدَّلَائِلُ الْكَثِيرَةُ الصَّحِيحَةُ
الظَّاهِرَةُ أَنَّهَا كَبِيرَةٌ لَكِنَّهَا تَخْتَلِفُ عِظَمًا وَضِدَّهُ
بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَفْسَدَتِهَا كَمَا مَرَّ فِي كَلَامِ الْأَذْرَعِيِّ ،
وَظَهَرَ أَيْضًا أَنَّهَا الدَّاءُ الْعُضَالُ وَالسُّمُّ الَّذِي فِي
الْأَلْسُنِ أَحْلَى مِنْ الزُّلَالِ وَقَدْ جَعَلَهَا مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ
الْكَلِمِ عَدِيلَةَ غَصْبِ الْمَالِ وَقَتْلِ النَّفْسِ بِقَوْلِهِ : { كُلُّ الْمُسْلِمِ
عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ } .
وَالْغَصْبُ وَالْقَتْلُ كَبِيرَتَانِ إجْمَاعًا فَكَذَا
ثَلْمُ الْعَرْضِ ، وَفِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ { فَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا
عِنْدَ اللَّهِ اسْتِحْلَالُ عِرْضِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ثُمَّ تَلَا : {
وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا
فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } } وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ
وَالطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا : { الْغِيبَةُ أَشَدُّ مِنْ الزِّنَا } .
قَالَ فِي الْخَادِمِ وَهَلْ تُعْطَى غِيبَةُ الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ حُكْمَ غِيبَةِ الْمُكَلَّفِ ؟ لَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهَا
إلَّا ابْنَ الْقُشَيْرِيِّ فِي الْمُرْشِدِ فَقَالَ : وَقَدْ أَوْجَبَ الِاعْتِذَارَ إلَى
مَنْ اغْتَابَهُ وَهَذَا الِاعْتِذَارُ إنَّمَا يَجِبُ إذَا كَانَ الْمُسَاءُ
إلَيْهِ مِمَّنْ يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ مَوْضِعَ الْإِسَاءَةِ ، فَأَمَّا
الطِّفْلُ وَالْمَجْنُونُ فَلَا يَجِبُ الِاعْتِذَارُ إلَيْهِ وَهَذَا مَحَلُّ
التَّأَمُّلِ ، وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ يَبْقَى حَقُّ ذَلِكَ الْمُسَاءِ إلَيْهِ
وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
لِتَحَقُّقِ النَّدَمِ .
انْتَهَى كَلَامُ الْخَادِمِ .
وَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ
عَدَمِ وُجُوبِ الِاعْتِذَارِ حِلُّ غَيْبَتِهِمَا ظَاهِرٌ جَلِيٌّ إذْ لَا وَجْهَ
لِلتَّلَازُمِ ، فَالْوَجْهُ حُرْمَةُ غِيبَتِهِمَا ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْهَا
فَتَتَوَقَّفُ عَلَى أَرْكَانِهَا الْآتِيَةِ حَتَّى الِاعْتِذَارِ لَكِنَّهُ إنْ
فَاتَ بِنَحْوِ مَوْتٍ وَوُجِدَتْ شُرُوطُ التَّوْبَةِ الْبَاقِيَةِ سَقَطَ حَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى ، وَبَقِيَ حَقُّ الْآدَمِيِّ كَمَا
يَأْتِي ذَلِكَ مَبْسُوطًا فِي مَبْحَثِ التَّوْبَةِ
مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ .
وَمِنْهَا :
الْأَصْلُ فِي الْغِيبَةِ الْحُرْمَةُ وَقَدْ تَجِبُ
أَوْ تُبَاحُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ شَرْعِيٍّ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِهَا ، وَتَنْحَصِرُ
فِي صِحَّتِهِ أَبْوَابٌ : الْأَوَّلُ : الْمُتَظَلِّمُ فَلِمَنْ ظُلِمَ أَنْ
يَشْكُوَ لِمَنْ يَظُنُّ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى إزَالَةِ ظُلْمِهِ أَوْ
تَخْفِيفِهِ .
الثَّانِي : الِاسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ
الْمُنْكَرِ بِذِكْرِهِ لِمَنْ يَظُنُّ قُدْرَتَهُ عَلَى إزَالَتِهِ بِنَحْوِ
فُلَانٍ يَعْمَلُ كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ بِقَصْدِ التَّوَصُّلِ إلَى إزَالَةِ
الْمُنْكَرِ وَإِلَّا كَانَ غِيبَةً مُحَرَّمَةً مَا لَمْ يَكُنْ الْفَاعِلُ
مُجَاهِرًا لِمَا يَأْتِي .
الثَّالِثُ :
الِاسْتِفْتَاءُ بِأَنْ يَقُولَ لِمُفْتٍ ظَلَمَنِي
بِكَذَا فُلَانٌ ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ وَمَا طَرِيقِي فِي خَلَاصِي مِنْهُ أَوْ
تَحْصِيلِ حَقِّي أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُبْهِمَهُ فَيَقُولَ
مَا تَقُولُ فِي شَخْصٍ أَوْ زَوْجٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا ؛ لِحُصُولِ الْغَرَضِ
بِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّصْرِيحُ بِاسْمِهِ مَعَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
الْمُفْتِيَ قَدْ يُدْرِكُ مِنْ تَعْيِينِهِ مَعْنًى لَا يُدْرِكُهُ مَعَ إبْهَامِهِ
فَكَانَ فِي التَّعْيِينِ نَوْعُ مَصْلَحَةٍ وَلِمَا يَأْتِي فِي خَبَرِ هِنْدٍ
زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
الرَّابِعُ : تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرِّ وَنَصِيحَتُهُمْ
كَجَرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ وَالْمُصَنِّفِينَ وَالْمُتَصَدِّينَ
لِإِفْتَاءٍ أَوْ إقْرَاءٍ مَعَ عَدَمِ أَهْلِيَّةٍ أَوْ مَعَ نَحْوِ فِسْقٍ أَوْ
بِدْعَةٍ ، وَهُمْ دُعَاةٌ إلَيْهَا وَلَوْ سِرًّا فَيَجُوزُ إجْمَاعًا بَلْ
يَجِبُ وَكَأَنْ يُشِيرَ وَإِنْ لَمْ يُسْتَشَرْ عَلَى مُرِيدِ تَزَوُّجٍ أَوْ
مُخَالَطَةٍ لِغَيْرِهِ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ ، وَقَدْ عَلِمَ فِي
ذَلِكَ الْغَيْرِ قَبِيحًا مُنَفِّرًا كَفِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ أَوْ طَمَعٍ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ كَفَقْرٍ فِي الزَّوْجِ لِمَا يَأْتِي فِي مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ بِتَرْكِ تَزْوِيجِهِ أَوْ مُخَالَطَتِهِ ، ثُمَّ إنْ اكْتَفَى بِنَحْوِ
لَا يَصْلُحُ لَك لَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ وَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَى ذِكْرِ عَيْبٍ
ذَكَرَهُ ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ
أَوْ عَيْبَيْنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا وَهَكَذَا ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ كَإِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فَلَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ
شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ .
نَعَمْ الشَّرْطُ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ بَذْلَ
النَّصِيحَةِ لِوَجْهِ اللَّهِ - تَعَالَى - دُونَ حَظٍّ آخَرَ ، وَكَثِيرًا مَا
يَغْفُلُ الْإِنْسَانُ عَنْ ذَلِكَ فَيُلَبِّسُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ
وَيَحْمِلُهُ عَلَى التَّكَلُّمِ بِهِ حِينَئِذٍ لَا نُصْحًا وَيُزَيِّنُ لَهُ
أَنَّهُ نُصْحٌ وَخَيْرٌ .
وَمِنْ هَذَا أَنْ يَعْلَمَ مِنْ ذِي وِلَايَةٍ قَادِحًا
فِيهَا كَفِسْقٍ أَوْ تَغَفُّلٍ فَيَجِبُ ذِكْرُ ذَلِكَ لِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى
عَزْلِهِ وَتَوْلِيَةِ غَيْرِهِ أَوْ عَلَى نُصْحِهِ وَحَثِّهِ عَلَى
الِاسْتِقَامَةِ .
الْخَامِسُ
: أَنْ يَتَجَاهَرَ بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ
كَالْمَكَّاسِينَ وَشَرَبَةِ الْخَمْرِ ظَاهِرًا وَذَوِي الْوِلَايَاتِ
الْبَاطِلَةِ ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُمْ بِمَا تَجَاهَرُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ
فَيَحْرُمُ ذِكْرُهُمْ بِعَيْبٍ آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ آخَرُ
مِمَّا مَرَّ .
قَالَ الْأَذْرَعِيُّ : وَفِي أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ
مِمَّا يُبَاحُ مِنْ الْغِيبَةِ أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ
بِدْعَتِهِ كَالْمُجَاهَرَةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَمُصَادَرَةِ النَّاسِ وَأَخْذِ الْمَكْسِ
وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ ظُلْمًا ، فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا تَجَاهَرَ بِهِ
وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْعُيُوبِ .
انْتَهَى
.
وَهُوَ مُتَابِعٌ فِي ذَلِكَ لَلْغَزَالِيِّ وَفِي
الْجَوَازِ لَا لِغَرَضِ شَرْعِيٍّ وَإِطْلَاقُ كَثِيرِينَ يَأْبَاهُ انْتَهَى .
وَسَيَأْتِي كَلَامُ الْقَفَّالِ فِي ذَلِكَ بِمَا فِيهِ .
السَّادِسُ :
التَّعْرِيفُ بِنَحْوِ لَقَبٍ كَالْأَعْوَرِ
وَالْأَعْمَشِ وَالْأَصَمِّ وَالْأَقْرَعِ فَيَجُوزُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَعْرِيفُهُ
بِغَيْرِهِ تَعْرِيفَهُ بِهِ عَلَى جِهَةِ التَّعْرِيفِ لَا التَّنْقِيصِ
وَالْأَوْلَى بِغَيْرِهِ إنْ سَهُلَ ، وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ السِّتَّةِ مَجْمَعٌ
عَلَيْهِ ، وَيَدُلُّ لَهَا مِنْ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مَشْهُورَةٌ
كَاَلَّذِي اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : {
ائْذَنُوا لَهُ بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ }
، مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي جَوَازِ غِيبَةِ أَهْلِ الْفَسَادِ
وَأَهْلِ الرِّيَبِ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ خَبَرَ : { مَا أَظُنُّ فُلَانًا
وَفُلَانًا يَعْرِفَانِ مِنْ دِينِنَا شَيْئًا } ، قَالَ اللَّيْثُ : كَانَا
مُنَافِقَيْنِ هُمَا مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الْقُرَشِيُّ
وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ
.
قَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
: { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت يَا رَسُولَ
اللَّهِ : إنَّ أَبَا جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةَ خَطَبَانِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ ،
وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ } مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : { وَأَمَّا أَبُو
الْجَهْمِ فَضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ }
، وَبِهِ
يُرَدُّ تَفْسِيرُ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةِ أَسْفَارِهِ .
وَلَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ
اللَّعِينُ فِي سَفَرٍ أَصَابَ النَّاسَ فِيهِ شِدَّةٌ { لَا تُنْفِقُوا عَلَى
مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا } .
وَقَالَ :
{ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ
الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ } { أَتَى زَيْدُ بْنُ أَرَقْمَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ
، فَأَرْسَلَ إلَى ابْنِ أُبَيٍّ فَاجْتَهَدَ فِي الْيَمِينِ أَنَّهُ مَا فَعَلَ
فَقَالُوا كَذَبَ زَيْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَهُ فِي سُورَةِ
الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ دَعَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَلَوَّوْا رُءُوسَهُمْ } مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَتْ هِنْدُ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَان رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ
شَحِيحٌ وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إلَّا مَا أَخَذْت مِنْهُ
وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، قَالَ : خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ }
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَمِنْهَا
:
عُلِمَ مِنْ خَبَرِ مُسْلِمٍ السَّابِقِ مَعَ مَا
صَرَّحَ بِهِ الْأَئِمَّةُ أَنَّ الْغِيبَةَ أَنْ تَذْكُرَ مُسْلِمًا أَوْ
ذِمِّيًّا عَلَى مَا يَأْتِي مُعِينًا لِلسَّامِعِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا بِمَا
يَكْرَهُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ بِحَضْرَتِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ ، وَالتَّعْبِيرُ
بِالْأَخِ فِي الْخَبَرِ كَالْآيَةِ لِلْعَطْفِ وَالتَّذْكِيرِ بِالسَّبَبِ
الْبَاعِثِ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ مُتَأَكَّدٌ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ أَكْثَرُ ؛
لِأَنَّهُ أَشْرَفُ وَأَعْظَمُ حُرْمَةً ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُهُ
فِي بَدَنِهِ كَأَحْوَلَ أَوْ قَصِيرٍ أَوْ أَسْوَدَ أَوْ ضِدَّهَا ، أَوْ فِي
نَسَبِهِ كَأَبُوهُ هِنْدِيٍّ أَوْ إسْكَافٍ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا يَكْرَهُهُ
كَيْفَ كَانَ ، أَوْ خُلُقِهِ كَسَيْءِ الْخُلُقِ عَاجِزٍ ضَعِيفٍ .
أَوْ فِعْلِهِ الدِّينِيِّ كَكَذَّابٍ أَوْ مُتَهَاوَنٍ
بِالصَّلَاةِ أَوْ لَا يُحْسِنُهَا ، أَوْ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ ، أَوْ لَا
يُعْطِي الزَّكَاةَ أَوْ لَا يُؤَدِّيهَا لِمُسْتَحِقِّيهَا .
أَوْ الدُّنْيَوِيِّ كَقَلِيلِ الْأَدَبِ ، أَوْ لَا
يَرَى لِأَحَدٍ حَقًّا عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ كَثِيرِ الْأَكْلِ أَوْ النَّوْمِ .
أَوْ ثَوْبِهِ كَطَوِيلِ الذَّيْلِ قَصِيرِهِ وَسَخِهِ .
أَوْ دَارِهِ كَقَلِيلَةِ الْمَرَافِقِ أَوْ دَابَّتِهِ
كَجَمُوحٍ ، أَوْ وَلَدِهِ كَقَلِيلِ التَّرْبِيَةِ ، أَوْ زَوْجَتِهِ كَكَثِيرَةِ
الْخُرُوجِ أَوْ عَجُوزٍ أَوْ تَحْكُمُ عَلَيْهِ أَوْ قَلِيلَةِ النَّظَافَةِ ،
أَوْ خَادِمِهِ كَآبِقٍ .
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ
يَكْرَهُهُ لَوْ بَلَغَهُ .
وَقَالَ قَوْمٌ لَا غِيبَةَ فِي الدِّينِ ؛ لِأَنَّهُ
ذَمُّ مَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى
.
وَلِأَنَّهُ {
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ كَثْرَةُ
عِبَادَةِ امْرَأَةٍ وَأَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا فَقَالَ هِيَ فِي النَّارِ } ، وَعَنْ امْرَأَةٍ أَنَّهَا بَخِيلَةٌ فَقَالَ :
" فَمَا خَيْرُهَا إذًا
" .
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛
لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْكُرُونَ ذَلِكَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى مَعْرِفَةِ
الْأَحْكَامِ بِالسُّؤَالِ ، وَلَمْ يَكُنْ غَرَضُهُمْ التَّنْقِيصَ ، وَلَا يُحْتَاجُ
إلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْمَاعُ
الْأُمَّةِ أَنَّ مَنْ ذَكَرَ غَيْرَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ فَهُوَ مُغْتَابٌ ؛
لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا ذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِّ
الْغِيبَةِ ، وَمَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِمَنْ قَالَ عَنْ امْرَأَةٍ إنَّهَا قَصِيرَةٌ ، وَعَنْ رَجُلٍ
مَا أَعْجَزَهُ إنَّ ذَلِكَ غِيبَةٌ ، قَالَ الْحَسَنُ وَذِكْرُ الْغَيْرِ غِيبَةٌ
أَوْ بُهْتَانٌ أَوْ إفْكٌ ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - .
فَالْغِيبَةُ أَنْ تَقُولَ مَا فِيهِ ، وَالْبُهْتَانُ
مَا لَيْسَ فِيهِ ، وَالْإِفْكُ أَنْ تَقُولَ مَا بَلَغَك .
وَمِنْهَا :
مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْغِيبَةِ
بَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْبَةِ الْمُغْتَابِ أَوْ بِحَضْرَتِهِ هُوَ
الْمُعْتَمَدُ .
وَفِي الْخَادِمِ وَمِنْ الْمُهِمِّ ضَابِطُ الْغِيبَةِ
هَلْ هِيَ ذِكْرُ الْمَسَاوِئِ فِي الْغِيبَةِ كَمَا يَقْتَضِيهِ اسْمُهَا ، أَوْ
لَا فَرْقَ بَيْنَ الْغِيبَةِ وَالْحُضُورِ ، وَقَدْ دَارَ هَذَا السُّؤَالُ
بَيْنَ جَمَاعَةٍ ، ثُمَّ رَأَيْت أَبَا فُورَكٍ ذَكَرَ فِي مُشْكِلِ الْقُرْآنِ فِي
تَفْسِيرِ الْحُجُرَاتِ ضَابِطًا حَسَنًا فَقَالَ : الْغِيبَةُ ذِكْرُ الْغَيْرِ
بِظَهْرِ الْغَيْبِ .
وَكَذَا قَالَ سُلَيْمُ الرَّازِيّ فِي تَفْسِيرِ
الْغِيبَةِ أَنْ تَذْكُرَ الْإِنْسَانَ مِنْ خُلُقِهِ بِسُوءٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِ .
انْتَهَى
.
وَفِي الْمُحْكَمِ : لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ وَرَائِهِ ،
وَوَجَدْت بِخَطِّ الْإِمَامِ تَقِيِّ الدِّينِ بْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ أَنَّهُ
رَوَى بِسَنَدِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا كَرِهْت
أَنْ تُوَاجِهَ بِهِ أَخَاك فَهُوَ غِيبَةٌ } ، وَخَصَّصَهَا الْقَفَّالُ فِي
فَتَاوِيهِ بِالصِّفَاتِ الَّتِي تُذَمُّ شَرْعًا بِخِلَافِ نَحْوِ الزِّنَا
فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُذْكُرُوا
الْفَاسِقَ بِمَا فِيهِ يَحْذَرْهُ النَّاسُ } غَيْرَ أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ
السِّتْرُ حَيْثُ لَا غَرَضَ ، وَإِلَّا كَتَجْرِيحِهِ أَوْ إخْبَارِ مُخَالِطِهِ
فَيَلْزَمُ بَيَانُهُ .
انْتَهَى
.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجَوَازِ فِي الْأَوَّلِ لَا
لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ ضَعِيفٌ لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ
ضَعِيفٌ وَقَالَ أَحْمَدُ : مُنْكَرٌ
.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنْ صَحَّ
حُمِلَ عَلَى فَاجِرٍ مُعْلِنٍ بِفُجُورِهِ أَوْ يَأْتِي بِشَهَادَةٍ أَوْ لِمَنْ
يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ حَالِهِ لِئَلَّا يَقَعَ
الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ انْتَهَى
.
وَهَذَا الَّذِي حَمَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهِ
مُتَعَيَّنٌ ، وَنَقَلَ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ أَنَّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَأَوْرَدَهُ بِلَفْظِ : { لَيْسَ لِلْفَاسِقِ غِيبَةٌ }
وَيَقْضِي عَلَيْهِ عُمُومُ خَبَرِ مُسْلِمٍ فِيهِ حَدُّ الْغِيبَةِ بِأَنَّهَا
ذِكْرُك أَخَاك مَا يَكْرَهُ
وَحَدَّهَا فِي الْإِحْيَاءِ بِمَا مَرَّ عَنْهُ ،
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهَا ذِكْرُهُ بِمَا يَكْرَهُ ، وَبِهِ جَاءَ
الْحَدِيثُ ، وَهَذَا كُلُّهُ يَرُدُّ مَا قَالَهُ الْقَفَّالُ .
وَمِمَّا يُبِيحُ الْغِيبَةَ : أَنْ يَكُونَ
مُتَجَاهِرًا بِالْفِسْقِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ
كَالْمُخَنَّثِ وَالْمَكَّاسِ وَمُصَادِرِ النَّاسِ فَلَا إثْمَ بِذِكْرِ مَا
يَتَظَاهَرُ بِهِ لِلْخَبَرِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ : { مَنْ أَلْقَى جِلْبَابَ
الْحَيَاءِ فَلَا غِيبَةَ لَهُ
} .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَاءُ
إلَى الْإِنْسَانِ بِالتَّنْقِيصِ لَهُ يَقُومُ مَقَامَ الْقَوْلِ فِيهِ ، ثُمَّ
ذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَمَّا أَشَارَتْ إلَى الْمَرْأَةِ أَنَّهَا قَصِيرَةٌ
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَدْ اغْتَبْتِيهَا قُومِي
فَتَحَلَّلِيهَا } انْتَهَى كَلَامُ الْخَادِمِ مُلَخَّصًا .
وَأُخِذَ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا مَرَّ عَنْ الْقَفَّالِ
مِنْ قَوْلِ شَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ لَا لِغَرَضٍ
شَرْعِيٍّ ضَعِيفٌ بِمَرَّةٍ ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ ،
وَلَوْ صَحَّ لَتَعَيَّنَ حَمْلُهُ عَلَى حَالَةِ الْحَاجَةِ .
وَقَالَ فِي التَّوَسُّطِ : وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ
أَيْ فِي كَلَامِ الْقَفَّالِ لَا أَصْلَ لَهُ يُرْجَعُ إلَيْهِ .
وَسُئِلَ الْغَزَالِيُّ فِي فَتَاوِيهِ عَنْ غِيبَةِ
الْكَافِرِ .
فَقَالَ :
هِيَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ مَحْذُورَةٌ لِثَلَاثِ
عِلَلٍ : الْإِيذَاءُ وَتَنْقِيصُ خَلْقِ اللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَالِقٌ
لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ ، وَتَضْيِيعُ الْوَقْتِ بِمَا لَا يُعْنِي .
قَالَ : وَالْأُولَى تَقْتَضِي التَّحْرِيمُ ،
وَالثَّانِيَةُ الْكَرَاهَةُ ، وَالثَّالِثَةُ خِلَافُ الْأَوْلَى .
وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَكَالْمُسْلِمِ فِيمَا يَرْجِعُ
إلَى الْمَنْعِ مِنْ الْإِيذَاءِ ، ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ عَصَمَ عِرْضَهُ وَدَمَهُ
وَمَالَهُ .
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَالْأُولَى هِيَ الصَّوَابُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سَمَّعَ يَهُودِيًّا
أَوْ نَصْرَانِيًّا فَلَهُ النَّارُ } ، وَمَعْنَى سَمَّعَهُ أَسْمَعَهُ بِمَا
يُؤْذِيهِ ، وَلَا كَلَامَ بَعْدَ هَذَا أَيْ لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ عَلَى
الْحُرْمَةِ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَأَمَّا الْحَرْبِيُّ فَلَيْسَ
بِمُحَرَّمٍ عَلَى الْأُولَى وَيُكْرَهُ عَلَى الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ ،
وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَإِنْ كَفَرَ فَكَالْحَرْبِيِّ وَإِلَّا فَكَالْمُسْلِمِ
، وَأَمَّا ذِكْرُهُ بِبِدْعَتِهِ فَلَيْسَ مَكْرُوهًا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ } فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ مَنْ لَيْسَ أَخَاك مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَوْ سَائِرِ أَهْلِ
الْمِلَلِ ، أَوْ مَنْ أَخْرَجَتْهُ بِدْعَةٌ ابْتَدَعَهَا إلَى غَيْرِ دِينِ
الْإِسْلَامِ لَا غِيبَةَ لَهُ
.
انْتَهَى
.
قَالَ فِي الْخَادِمِ : وَهَذَا قَدْ يُنَازِعُ فِيهِ
مَا قَالُوهُ فِي السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَنَحْوِهِ .
ا هـ وَالْمُنَازَعَةُ وَاضِحَةٌ .
فَالْوَجْهُ بَلْ الصَّوَابُ تَحْرِيمُ غِيبَةِ
الذِّمِّيِّ كَمَا تَقَرَّرَ أَوَّلًا
.
وَمِنْهَا :
قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ حَدِّهِمْ السَّابِقِ لِلْغِيبَةِ
أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِاللِّسَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ
تَحْرِيمِهَا الْإِيذَاءُ بِتَفْهِيمِ الْغَيْرِ نُقْصَانَ الْمُغْتَابِ ، وَهَذَا
مَوْجُودٌ حَيْثُ أَفْهَمْت الْغَيْرَ مَا يَكْرَهُهُ الْمُغْتَابُ وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ
أَوْ الْفِعْلِ أَوْ
الْإِشَارَةِ أَوْ الْإِيمَاءِ أَوْ الْغَمْزِ أَوْ
الرَّمْزِ أَوْ الْكِتَابَةِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ بِلَا خَوْفٍ وَكَذَا سَائِرُ مَا
يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى فَهْمِ الْمَقْصُودِ كَأَنْ يَمْشِيَ مِشْيَتَهُ فَهُوَ
غِيبَةٌ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْغِيبَةِ كَمَا قَالَ الْغَزَالِيُّ ؛
لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّصْوِيرِ وَالتَّفْهِيمِ وَأَنْكَى لِلْقَلْبِ .
وَذِكْرُ الْمُصَنِّفِ شَخْصًا مُعَيَّنًا وَرَدُّ
كَلَامِهِ غِيبَةً إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ أَحَدُ الْأَسْبَابِ السِّتَّةِ
الْمُبِيحَةِ لَهَا وَقَدْ مَرَّتْ ، وَكَذَا مِنْهَا قَوْلُك فَعَلَ كَذَا بَعْضُ
مَنْ مَرَّ بِنَا الْيَوْمَ إذَا فَهِمَ مِنْهُ الْمُخَاطَبُ مُعَيَّنًا وَلَوْ
بِقَرِينَةٍ خَفِيَّةٍ وَإِلَّا لَمْ يَحْرُمْ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قُلْت : يُنَافِيهِ قَوْلُهُمْ تَحْرُمُ
الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ أَيْضًا فَلَا عِبْرَةَ بِفَهْمِ الْمُخَاطَبِ .
قُلْت :
الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ هِيَ أَنْ تَظُنَّ بِهِ السُّوءَ
، وَتُصَمِّمَ عَلَيْهِ بِقَلْبِك مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي ذَلِكَ إلَى
مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ
بِالْغِيبَةِ بِالْقَلْبِ وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحِكَايَةِ مِنْ مُبْهَمٍ لِمُخَاطِبِك
، وَلَكِنَّهُ مُعَيَّنٌ عِنْدَك فَلَيْسَ فِيهِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ
وَالتَّصْمِيمُ فَافْتَرَقَا ، ثُمَّ رَأَيْت مَا سَأَذْكُرُهُ عَنْ الْإِحْيَاءِ
الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْته ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ
حَمْلُ كَلَامِهِمْ عَلَيْهِ ؛ وَمِنْ أَخْبَثِ أَنْوَاعِ الْغِيبَةِ غِيبَةُ مَنْ
يُفْهِمُ الْمَقْصُودَ بِطَرِيقَةِ الصَّالِحِينَ إظْهَارًا لِلتَّعَفُّفِ عَنْهَا
، وَلَا يَدْرِي بِجَهْلِهِ أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ فَاحِشَتَيْ الرِّيَاءِ وَالْغِيبَةِ
، كَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْمُرَائِينَ أَنَّهُ يُذْكَرُ عِنْدَهُ إنْسَانٌ
فَيَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَا ابْتَلَانَا بِقِلَّةِ الْحَيَاءِ أَوْ
بِالدُّخُولِ عَلَى السَّلَاطِينِ ، وَلَيْسَ قَصْدُهُ بِدُعَائِهِ إلَّا أَنْ
يُفْهِمَ عَيْبَ الْغَيْرِ .
وَقَدْ يَزِيدُ خُبْثُهُ فَيُقَدِّمُ مَدْحَهُ حَتَّى
يُظْهِرَ تَنَصُّلَهُ مِنْ الْغِيبَةِ فَيَقُولُ كَانَ مُجْتَهِدًا فِي
الْعِبَادَةِ أَوْ الْعِلْمِ لَكِنَّهُ فَتَرَ وَابْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِينَا
بِهِ كُلُّنَا وَهُوَ قِلَّةُ الصَّبْرِ فَيَذْكُرُ نَفْسَهُ ، وَمَقْصُودُهُ
ذَمُّ غَيْرِهِ وَالتَّمَدُّحُ بِالتَّشَبُّهِ بِالصَّالِحِينَ فِي ذَمِّ
نُفُوسِهِمْ ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ ثَلَاثِ فَوَاحِشَ : الْغِيبَةُ وَالرِّيَاءُ وَتَزْكِيَةُ
النَّفْسِ بَلْ أَرْبَعَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ
مِنْ الصَّالِحِينَ الْمُتَعَفِّفِينَ عَنْ الْغِيبَةِ وَمَنْشَأُ ذَلِكَ
الْجَهْلِ ، فَإِنَّ مَنْ تَعَبَّدَ عَلَى جَهْلٍ لَعِبَ بِهِ الشَّيْطَانُ
وَضَحِكَ عَلَيْهِ وَسَخِرَ بِهِ ، فَأَحْبَطَ عَمَلَهُ وَضَيَّعَ تَعَبَهُ
وَأَرْدَاهُ إلَى دَرَجَاتِ الْبَوَارِ وَالضَّلَالِ ؛ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ
سَاءَنِي مَا وَقَعَ لِصَدِيقِنَا مِنْ كَذَا ،
فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُثَبِّتَهُ وَهُوَ كَاذِبٌ فِي
ذَلِكَ .
وَمَا دَرَى الْجَاهِلُ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى
خُبْثِ ضَمِيرِهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ تَعَرَّضَ بِذَلِكَ لِمَقْتِ اللَّهِ أَعْظَمَ
مِمَّا يَتَعَرَّضُ الْجُهَّالُ إذَا جَاهَرُوا ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِصْغَاءُ لِلْمُغْتَابِ
عَلَى جِهَةِ التَّعَجُّبِ ؛ لِيَزْدَادَ نَشَاطُهُ فِي الْغِيبَةِ ، وَمَا دَرَى
الْجَاهِلُ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْغِيبَةِ غِيبَةٌ ، بَلْ السَّاكِتُ عَلَيْهَا
شَرِيكُ الْمُغْتَابِ كَمَا فِي خَبَرٍ : { الْمُسْتَمِعُ أَحَدُ الْمُغْتَابِينَ
} ، فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الشَّرِكَةِ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ بِلِسَانِهِ وَلَوْ
بِأَنْ يَخُوضَ فِي كَلَامٍ آخَرَ فَإِنْ عَجَزَ فَبِقَلْبِهِ ، وَيَلْزَمُهُ
مُفَارَقَةُ الْمَجْلِسِ إلَّا لِضَرُورَةٍ ، وَلَا يَنْفَعُهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ
اُسْكُتْ وَقَلْبُهُ مُشْتَهٍ لِاسْتِمْرَارِهِ ، وَلَا أَنْ يُشِيرَ بِنَحْوِ
يَدِهِ وَلَوْ عَظُمَ الْإِنْكَارُ بِلِسَانِهِ لَأَفَادَ ، وَمَرَّ فِي
الْحَدِيثِ : { إنَّ مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَاسْتَطَاعَ
نَصْرَهُ فَنَصَرَهُ نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنْ لَمْ
يَنْصُرْهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَمَرَّتْ أَخْبَارٌ
أُخَرُ بِنَحْوِ ذَلِكَ .
وَفِي حَدِيثٍ : { مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ
بِالْغِيبَةِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ } .
وَمِنْهَا : الْبَوَاعِثُ عَلَى الْغِيبَةِ كَثِيرَةٌ .
إمَّا تَشَفِّي الْغَيْظِ بِذِكْرِ مَسَاوِئِ مَنْ
أَغْضَبَك ، وَقَدْ لَا يَشْفِيهِ ذَلِكَ فَيُحْقَنُ الْغَضَبُ فِي بَاطِنِهِ
وَيَصِيرُ حِقْدًا ثَابِتًا فَيَكُونُ سَبَبًا دَائِمًا لِذِكْرِ الْمَسَاوِئِ ،
وَالْحِقْدُ وَالْغَضَبُ مِنْ الْبَوَاعِثِ الْعَظِيمَةِ عَلَى الْغِيبَةِ .
وَإِمَّا مُوَافَقَةُ الْإِخْوَانِ وَمُجَامَلَتُهُمْ
بِالِاسْتِرْسَالِ مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ أَوْ إبْدَاءِ نَظِيرِ مَا
أَبْدُوهُ خَشْيَةَ أَنَّهُ لَوْ سَكَتَ أَوْ أَنْكَرَ اسْتَثْقَلُوهُ وَنَفَرُوا
عَنْهُ ، وَيَظُنُّ بِجَهْلِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمُجَامَلَةِ فِي الصُّحْبَةِ
بَلْ قَدْ يَغْضَبُ لِغَضَبِهِمْ إظْهَارًا لِلْمُسَاهَمَةِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ
، فَيَخُوضُ مَعَهُمْ فِي ذِكْرِ الْمَسَاوِئِ وَالْعُيُوبِ فَيَهْلِكُ .
وَإِمَّا أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ غَيْرِهِ أَنَّهُ
يُرِيدُ تَنْقِيصَهُ أَوْ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ عِنْدَ كَبِيرٍ فَيَسْبِقُهُ بِذِكْرِ
مَسَاوِئِهِ عِنْدَ ذَلِكَ الْكَبِيرِ ؛ لِيُسْقِطَهُ مِنْ عَيْنِهِ ، وَرُبَّمَا
رَوَّجَ كَذَبَهُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِذِكْرِ الصِّدْقِ مِنْ عُيُوبِهِ ثُمَّ
يَتَدَرَّجُ لِلْغَيْرِ ؛ لِيَسْتَشْهِدَ بِصِدْقِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ صَادِقٌ
فِي الْكُلِّ .
وَإِمَّا أَنْ يُنْسَبَ لِقَبِيحٍ فَيَتَبَرَّأُ مِنْهُ
بِأَنَّ فَاعِلَهُ هُوَ فُلَانٌ ، وَكَانَ مِنْ حَقِّهِ التَّبَرُّؤُ مِنْهُ
بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ فَاعِلِهِ ، وَقَدْ يُمَهِّدُ
عُذْرَهُ بِأَنَّ فُلَانًا شَرِيكَهُ فِيهِ وَهُوَ قَبِيحٌ أَيْضًا ، وَإِمَّا
التَّصَنُّعُ وَإِرَادَةُ رِفْعَةِ نَفْسِهِ وَخَفْضِ غَيْرِهِ كَفُلَانٍ جَاهِلٍ
أَوْ فَهْمُهُ رَكِيكٌ تَدْرِيجًا إلَى إظْهَارِ فَضْلِ نَفْسِهِ بِسَلَامَتِهِ عَنْ
تِلْكَ النَّقَائِصِ .
وَإِمَّا الْحَسَدُ لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ
وَمَحَبَّتِهِمْ لَهُ ، فَيُرِيدُ أَنْ يُثْنِيَهُمْ عَنْهُ بِالْقَدَحِ فِيهِ
حَتَّى تَزُولَ عَنْهُ نِعْمَةُ ثَنَاءِ النَّاسِ وَمَحَبَّتُهُمْ ، وَإِمَّا
اللَّعِبُ وَالْهَزْلُ فَيَذْكُرُ عَنْ غَيْرِهِ مَا يَضْحَكُ النَّاسُ بِهِ .
وَإِمَّا السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِهِ فِي
غَيْبَتِهِ كَهُوَ فِي حَضْرَتِهِ تَحْقِيرًا لَهُ ، هَذِهِ هِيَ
الْأَسْبَابُ الْعَامَّةُ .
وَبَقِيَ أَسْبَابٌ خَاصَّةٌ هِيَ أَشَرُّ وَأَخْبَثُ
كَأَنْ يَتَعَجَّبَ ذُو دِينٍ مِنْ مُنْكَرٍ فَيَقُولُ : مَا أَعْجَبَ مَا رَأَيْت
مِنْ فُلَانٍ ، فَهُوَ وَإِنْ صَدَقَ فِي تَعَجُّبِهِ مِنْ الْمُنْكَرِ لَكِنْ
كَانَ حَقُّهُ أَنْ لَا يُعَيِّنَ فُلَانًا بِذَكَرِ اسْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِهِ
مُغْتَابًا آثِمًا مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي ، وَمِنْ ذَلِكَ عَجِيبٌ مِنْ فُلَانٍ
كَيْفَ يُحِبُّ أَمَتَهُ وَهِيَ قَبِيحَةٌ ، وَكَيْفَ يَقْرَأُ عَلَى فُلَانٍ
الْجَاهِلِ ، وَكَأَنْ يَغْتَمَّ مِمَّا اُبْتُلِيَ بِهِ ، فَيَقُولُ مِسْكِينٌ
فُلَانٌ سَاءَنِي بَلْوَاهُ بِكَذَا
.
فَهُوَ وَإِنْ صَدَقَ فِي اغْتِمَامِهِ لَهُ ، لَكِنْ
كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ لَا يَذْكُرَ اسْمَهُ فَغَمُّهُ وَرَحْمَتُهُ خَيْرٌ ،
وَلَكِنَّهُ سَاقَهُ إلَى شَرٍّ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي أَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ
دُونَ ذِكْرِ اسْمِهِ فَهَيَّجَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى ذِكْرِ اسْمِهِ ؛ لِيُبْطِلَ
بِهِ ثَوَابَ اغْتِمَامِهِ وَتَرَحُّمِهِ ، وَكَأَنْ يَغْضَبَ لِلَّهِ مِنْ أَجْلِ
مُقَارَفَةِ غَيْرِهِ لِمُنْكَرٍ فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ ،
وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَلَا يُظْهِرَهُ عَلَى غَيْرِهِ أَوْ يَسْتُرَ اسْمَهُ وَلَا يَذْكُرَهُ
بِالسُّوءِ .
فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِمَّا يَغْمُضُ دَرْكُهَا عَنْ
الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعَوَامّ ، لِظَنِّهِمْ أَنَّ التَّعَجُّبَ
وَالرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ إذَا كَانَ لِلَّهِ كَانَ عُذْرًا فِي ذِكْرِ الِاسْمِ
وَهُوَ خَطَأٌ ، بَلْ الْمُرَخِّصُ فِي الْغِيبَةِ الْأَعْذَارُ السَّابِقَةُ
فَقَطْ ، وَالْفَرْضُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْهَا هُنَا .
وَمِنْهَا : يَتَعَيَّنُ عَلَيْك مَعْرِفَةُ عِلَاجِ
الْغِيبَةِ ، وَهُوَ إمَّا إجْمَالِيٌّ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّك قَدْ تَعَرَّضَتْ
بِهَا لِسَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُقُوبَتِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ
وَالْأَخْبَارُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا ، وَأَيْضًا فَهِيَ تُحْبِطُ حَسَنَاتِك
لِمَا مَرَّ فِي خَبَرِ مُسْلِمٍ فِي الْمُفْلِسِ مِنْ أَنَّهُ تُؤْخَذُ
حَسَنَاتُهُ إلَى أَنْ تَفْنَى ، فَإِنْ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ وُضِعَ عَلَيْهِ
مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ .
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ
كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ سَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ،
فَإِنْ اسْتَوَيَا فَمِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ ، فَاحْذَرْ
أَنْ تَكُونَ الْغِيبَةُ سَبَبًا لِفِنَاءِ حَسَنَاتِك وَزِيَادَةِ سَيِّئَاتِك
فَتَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ : { أَنَّ الْغِيبَةَ
وَالنَّمِيمَةَ تَحُتَّانِ الْإِيمَانَ كَمَا يَعْضِدُ الرَّاعِي الشَّجَرَةَ } .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ رَجُلٌ لِلْحَسَنِ : بَلَغَنِي
أَنَّك تَغْتَابُنِي .
فَقَالَ مَا بَلَغَ قَدْرُك عِنْدِي أَنِّي أُحَكِّمُك
فِي حَسَنَاتِي .
وَمَنْ آمَنَ بِتِلْكَ الْأَخْبَارِ فَطَمَ نَفْسَهُ
عَنْ الْغِيبَةِ فَطْمًا كُلِّيًّا ، خَوْفًا مِنْ عِقَابِهَا الْمُرَتَّبِ
عَلَيْهَا فِي الْأَخْبَارِ .
وَمِمَّا يَنْفَعُك أَيْضًا أَنَّك تَتَدَبَّرُ فِي عُيُوبِك
، وَتَجْتَهِدُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْهَا ؛ لِتَدْخُلَ تَحْتَ مَا رُوِيَ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَيَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَلْيَسَعْهُ بَيْتُهُ
وَلْيَبْكِ عَلَى خَطِيئَتِهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا لِيَغْنَمَ ، أَوْ لِيَسْكُتْ عَنْ شَرٍّ فَيَسْلَمَ } .
وَتَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ تَذُمَّ غَيْرَك بِمَا أَنْتَ
مُتَلَبِّسٌ بِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَمْرًا خِلْقِيًّا فَالذَّمُّ
لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ ، إذْ مَنْ ذَمَّ صَنْعَةً ذَمَّ صَانِعَهَا .
قَالَ رَجُلٌ لِحَكِيمٍ يَا قَبِيحَ الْوَجْهِ .
فَقَالَ مَا كَانَ خَلْقُ وَجْهِي إلَيَّ فَأُحْسِنُهُ ،
فَإِنْ لَمْ تَجِدْ لَك عَيْبًا وَهُوَ بَعِيدٌ فَاشْكُرْ اللَّهَ
إذْ تَفَضَّلَ عَلَيْك بِالنَّزَاهَةِ عَنْ الْعُيُوبِ
فَلَا تَسْمُ نَفْسُك بِتَعْظِيمِهَا
.
وَيَنْفَعُك أَيْضًا أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ تَأَذِّي
غَيْرِك بِالْغِيبَةِ كَتَأَذِّيك بِهَا ، فَكَيْفَ تَرْضَى لِغَيْرِك مَا
تَتَأَذَّى بِهِ .
وَإِمَّا تَفْصِيلِيٌّ بِأَنْ تَنْظُرَ فِي بَاعِثِهَا
فَتَقْطَعُهُ مِنْ أَصْلِهِ ، إذْ عِلَاجُ الْعِلَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بِقَطْعِ
سَبَبِهَا ، وَإِذَا اسْتَحْضَرْت الْبَوَاعِثَ عَلَيْهَا السَّابِقَةَ ظَهَرَ لَك
السَّعْيُ فِي قَطْعِهَا كَأَنْ تَسْتَحْضِرَ فِي الْغَضَبِ أَنَّك إنْ أَمْضَيْت غَضَبَك
فِيهِ بِغِيبَةٍ أَمْضَى اللَّهُ غَضَبَهُ فِيك لِاسْتِخْفَافِك بِنَهْيِهِ ،
وَجُرْأَتِك عَلَى وَعِيدِهِ .
وَفِي حَدِيثٍ : { إنَّ لِجَهَنَّمَ بَابًا لَا
يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظُهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَفِي الْمُرَافَقَةِ : إنَّك إذَا أَرْضَيْت
الْمَخَالِيقَ بِغَضَبِ اللَّهِ عَاجَلَك بِعُقُوبَتِهِ ، إذْ لَا أَغْيَرَ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى .
وَفِي الْحَسَدِ : أَنَّك جَمَعَتْ بَيْنَ خَسَارِ
الدُّنْيَا بِحَسَدِك لَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ وَكَوْنِك مُعَذَّبًا بِالْحَسَدِ ،
وَالْآخِرَةِ ؛ لِأَنَّك نَصْرَتَهُ بِإِهْدَاءِ حَسَنَاتِك إلَيْهِ ، أَوْ طَرْحِ
سَيِّئَاتِهِ عَلَيْك ، فَصِرْت صَدِيقَهُ وَعَدُوَّ نَفْسِك فَجَمَعْت إلَى
خُبْثِ حَسَدِك جَهْلَ حَمَاقَتِك ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْك سَبَبَ
انْتِشَارِ فَضْلِهِ كَمَا قِيلَ : وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ
طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ .
وَفِي قَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَتَزْكِيَةِ النَّفْسِ
أَنَّك بِمَا ذَكَرْته فِيهِ أَبْطَلْت فَضْلَك عِنْدَ اللَّهِ ، وَأَنْتَ لَسْت
عَلَى ثِقَةٍ مِنْ اعْتِقَادِ النَّاسِ فِيك ، بَلْ رُبَّمَا مَقَتُوك إذَا
عَرَفُوك بِثَلْبِ الْأَعْرَاضِ وَقُبْحِ الْأَغْرَاضِ ، فَقَدْ بِعْت مَا عِنْدَ
اللَّهِ يَقِينًا بِمَا عِنْدَ الْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ وَهْمًا ، وَفِي الِاسْتِهْزَاءِ
أَنَّك إذَا أَخْزَيْت غَيْرَك عِنْدَ النَّاسِ فَقَدْ أَخْزَيْت نَفْسَك عِنْدَ
اللَّهِ ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَهُمَا وَعِلَاجُ بَقِيَّةِ الْبَوَاعِثِ ظَاهِرٌ
مِمَّا تَقَرَّرَ فَلَا حَاجَةَ لِلْإِطَالَةِ بِهِ .
وَمِنْهَا : قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْغِيبَةَ بِالْقَلْبِ
حَرَامٌ ،
وَبَيَانُ مَعْنَاهُ ، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ
الْإِحْيَاءِ بَيَانُ تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ بِالْقَلْبِ .
اعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ حَرَامٌ مِثْلُ سُوءِ
الْقَوْلِ ، وَلَسْت أَعْنِي بِهِ إلَّا عَقْدَ الْقَلْبِ وَحُكْمَهُ عَلَى
غَيْرِهِ بِالسُّوءِ ، فَأَمَّا الْخَوَاطِرُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ فَهُوَ
مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، بَلْ الشَّكُّ أَيْضًا مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، وَلَكِنَّ
الْمَنْهِيَّ عَنْهُ أَنْ تَظُنَّ ، وَالظَّنُّ عِبَارَةٌ عَمَّا تَرْكَنُ إلَيْهِ
النَّفْسُ ، وَيَمِيلُ إلَيْهِ الْقَلْبُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ
الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } وَسَبَبُ تَحْرِيمِهِ أَنَّ أَسْبَابَ
الْقُلُوبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، فَلَيْسَ لَك أَنْ
تَعْقِدَ فِي غَيْرِك سُوءًا إلَّا إذَا انْكَشَفَ لَك بِعِبَارَةٍ لَا تَحْتَمِلُ
التَّأْوِيلَ .
فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُك أَلَّا تَعْتَقِدَ مَا
عَلِمْته وَشَاهَدْته وَمَا لَمْ تُشَاهِدْهُ بِعَيْنِك وَلَمْ تَسْمَعْهُ
بِأُذُنِك ثُمَّ وَقَعَ فِي قَلْبِك ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِيهِ إلَيْك ،
فَيَنْبَغِي أَنْ تُكَذِّبَهُ فَإِنَّهُ أَفْسَقُ الْفُسَّاقِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى أَوَّلَ سُورَةِ تِلْكَ الْآيَةِ
: { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } الْآيَةَ .
وَلَا تَغْتَرَّ بِمَخِيلَةِ فَسَادٍ إذَا احْتَمَلَ
خِلَافَهَا ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ يَجُوزُ أَنْ يَصْدُقَ فِي خَبَرِهِ لَكِنْ لَا
يَجُوزُ لَك تَصْدِيقُهُ ؛ وَمِنْ ثَمَّ لَمْ تَحُدَّ أَئِمَّتُنَا بِرَائِحَةِ الْخَمْرِ
لِإِمْكَانِ أَنَّهَا مِنْ غَيْرِهَا
.
وَتَأَمَّلْ خَبَرَ : { إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنْ
الْمُسْلِمِ دَمَهُ وَمَالَهُ ، وَأَنْ تَظُنَّ بِهِ السُّوءَ } .
فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَسُوغُ لَك ظَنُّ السُّوءِ
بِهِ إلَّا مَا يَسُوغُ لَك أَخْذُ مَالِهِ مِنْ يَقِينِ مُشَاهَدَةٍ أَوْ
بَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ ، وَإِلَّا فَبَالِغْ فِي دَفْعِ الظَّنِّ عَنْك مَا
أَمْكَنَك لِاحْتِمَالِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَأَمَارَةُ سُوءِ الظَّنِّ
الْمُحَقَّقَةِ لَهُ أَنْ يَتَغَيَّرَ قَلْبُك عَلَيْهِ عَمَّا كَانَ فَتَنْفِرَ
عَنْهُ وَتَسْتَثْقِلَهُ وَتَفْتُرَ عَنْ مُرَاعَاتِهِ .
وَفِي الْخَبَرِ : { ثَلَاثٌ فِي الْمُؤْمِنِ وَلَهُ
مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ ، فَمَخْرَجُهُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ أَنْ لَا يُحَقِّقَهُ } .
أَيْ لَا يُحَقِّقُ مُقْتَضَاهُ فِي
نَفْسِهِ بِعَقْدِ الْقَلْبِ بِتَغْيِيرِهِ إلَى
النُّفْرَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَلَا بِفِعْلِ الْجَوَارِحِ بِإِعْمَالِهَا
بِمُوجِبِهِ ، وَالشَّيْطَانُ قَدْ يُقَرِّرُ عَلَى الْقَلْبِ بِأَدْنَى
مُخْيَلَةٍ مَسَاءَةَ النَّاسِ ، وَيُلْقِي إلَيْهِ أَنَّ هَذَا مِنْ مَزِيدِ فِطْنَتِك
وَسُرْعَةِ تَنَبُّهِك ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ وَهُوَ
عَلَى التَّحْقِيقِ نَاظِرٌ بِنُورِ الشَّيْطَانِ وَظُلْمَتِهِ ، وَإِذَا أَخْبَرَك
عَدْلٌ فَمِلْت إلَى تَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ كُنْت جَانِيًا عَلَى
أَحَدِهِمَا بِاعْتِقَادِ السُّوءِ فِي الْمُخْبَرِ عَنْهُ أَوْ الْكَذِبِ فِي
الْمُخْبِرِ .
فَعَلَيْك أَنْ تَبْحَثَ هَلْ ثَمَّ تُهْمَةٌ فِي
الْمُخْبِرِ بِنَحْوِ عَدَاوَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ وَجَدْتهَا فَتَوَقَّفَ
وَابْقَ الْمُخْبِرِ عَنْهُ عَلَى مَا كَانَ عِنْدَك مِنْ عَدَمِ ظَنِّ السُّوءِ ،
وَلَا تُصْغِ لِمَنْ دَأْبُهُ الْكَلَامُ فِي النَّاسِ مُطْلَقًا .
وَيَنْبَغِي لَك إذَا وَرَدَ عَلَيْك خَاطِرُ سُوءٍ
بِمُسْلِمٍ أَنْ تُبَادِرَ بِالدُّعَاءِ لَهُ بِالْخَيْرِ ؛ لِتَغِيظَ
الشَّيْطَانَ ، وَتَقْطَعَ عَنْهُ إلْقَاءَهُ إلَيْك ذَلِكَ مِنْ دُعَائِك لَهُ .
وَإِذَا عَرَفْت هَفْوَةَ مُسْلِمٍ أَنْ تَنْصَحَهُ
سِرًّا قَاصِدًا تَخْلِيصَهُ مِنْ الْإِثْمِ مُظْهِرًا لِحُزْنِك عَلَى مَا
أَصَابَهُ كَمَا تَحْزَنُ لَوْ أَصَابَك لِتَجْمَعَ بَيْنَ أَجْرِ الْوَعْظِ
وَأَجْرِ الْهَمِّ وَالْإِعَانَةِ لَهُ عَلَى دِينِهِ .
وَمِنْ ثَمَرَاتِ سُوءِ الظَّنِّ التَّجَسُّسُ فَإِنَّ الْقَلْبَ
لَا يَقْنَعُ بِالظَّنِّ بَلْ يَطْلُبُ الْيَقِينَ فَيَتَجَسَّسُ ، وَمَرَّ
النَّهْيُ عَنْ التَّجَسُّسِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْخَلْقَ تَحْتَ
سَرِيرَتِهِمْ فَيُتَوَصَّلُ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا لَوْ دَامَ سِتْرُهُ
عَنْك كَانَ أَسْلَمَ لِقَلْبِك وَدِينِك ، وَجَمَعَ مَعَ الْغِيبَةِ سُوءَ
الظَّنِّ فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ التَّلَازُمِ غَالِبًا .
وَمِنْهَا : يَجِبُ عَلَى الْمُغْتَابِ أَنْ يُبَادِرَ
إلَى التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا فَيُقْلِعَ وَيَنْدَمَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ -
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - لِيُخْرِجَ مِنْ حَقِّهِ ثُمَّ يَسْتَحِلَّ الْمُغْتَابَ
خَوْفًا أَيْضًا لِيَحِلَّهُ فَيَخْرُجَ عَنْ مَظْلِمَتِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَكْفِيهِ الِاسْتِغْفَارُ عَنْ الِاسْتِحْلَالِ
، وَاحْتَجَّ بِخَبَرِ : { كَفَّارَةُ مَنْ اغْتَبْتَهُ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ } .
وَقَالَ الْحَسَنُ : كَفَّارَةُ ذَلِكَ أَنْ تُثْنِيَ
عَلَيْهِ وَتَدْعُوَ لَهُ بِالْخَيْرِ
.
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِحْلَالِ ،
وَزَعْمُ أَنَّ الْعِرْضَ لَا عِوَضَ لَهُ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِحْلَالُ مِنْهُ
بِخِلَافِ الْمَالِ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ وَجَبَ فِي الْعِرْضِ حَدُّ الْقَذْفِ .
قِيلَ بَلْ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْأَمْرُ
بِالِاسْتِحْلَالِ مِنْ الْمَظَالِمِ قَبْلَ يَوْمٍ لَا دِرْهَمٌ فِيهِ وَلَا
دِينَارٌ ، وَإِنَّمَا هِيَ حَسَنَاتُ الظَّالِمِ تُؤْخَذُ لِلْمَظْلُومِ ، وَسَيِّئَاتُ
الْمَظْلُومِ تُطْرَحُ عَلَى الظَّالِمِ فَتَعَيَّنَ الِاسْتِحْلَالُ ، نَعَمْ
الْغَائِبُ وَالْمَيِّتُ يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ لَهُمَا مِنْ الِاسْتِغْفَارِ
وَالدُّعَاءِ .
وَيُنْدَبُ لِمَنْ سُئِلَ فِي التَّحَلُّلِ وَهُوَ
الْعَفْوُ أَنْ يُحَلِّلَ وَلَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ مِنْهُ
وَفَضْلٌ ، وَكَانَ جَمْعٌ مِنْ السَّلَفِ يَمْتَنِعُونَ مِنْ التَّحْلِيلِ ،
وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ خَبَرُ
: { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي
ضَمْضَمٍ كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قَالَ : إنِّي تَصَدَّقْت بِعِرْضِي
عَلَى النَّاسِ } ، وَمَعْنَاهُ لَا
أَطْلُبُ مَظْلِمَةً مِنْهُ وَلَا أُخَاصِمُهُ فِي الْقِيَامَةِ ؛ لِأَنَّ
الْغِيبَةَ تَصِيرُ حَلَالًا ؛ لِأَنَّ فِيهَا حَقًّا لِلَّهِ ، وَلِأَنَّهُ
عَفْوٌ ، وَإِبَاحَةٌ لِلشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِهِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَسْقُطْ
بِهِ الْحَقُّ فِي الدُّنْيَا .
وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَنْ أَبَاحَ
الْقَذْفَ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ حَدِّهِ وَمَظْلِمَتِهِ لَا فِي الدُّنْيَا
وَلَا فِي الْآخِرَةِ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَبْحَثِ بَسْطٌ فِي مَبْحَثِ التَّوْبَةِ
مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ .
( الْكَبِيرَةُ الْخَمْسُونَ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ :
التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ الْمَكْرُوهَةِ ) .
قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ
هُمْ الظَّالِمُونَ } تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ
مَعَ عَدِّ الْغِيبَةِ أَيْضًا وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَعْضِ
أَقْسَامِهَا كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ ، وَكَأَنَّهُمْ اقْتَدُوا
بِأُسْلُوبِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّهُ ذُكِرَ فِيهَا كُلٌّ مِنْ
التَّنَابُزِ وَالْغِيبَةِ ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ بَيْنَهُمَا نَوْعَ تَغَايُرٍ إلَّا
أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ سَبَبَ إفْرَادِ التَّنَابُزِ بِالذِّكْرِ ، وَإِنْ كَانَ
مِنْ أَفْرَادِ الْغِيبَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا فَإِنَّهُ مِنْ أَفْحَشِ
أَنْوَاعِهَا ، فَقَصَدَ بِإِفْرَادِهِ تَقْبِيحَ شَأْنِهِ مُبَالَغَةً فِي
الزَّجْرِ عَنْهُ .
وَفِي أَذْكَارِ النَّوَوِيِّ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ
عَلَى تَحْرِيمِ تَلْقِيبِ الْإِنْسَانِ بِمَا يَكْرَهُهُ سَوَاءٌ كَانَ صِفَةً
لَهُ أَوْ لِأَبِيهِ أَوْ لِأُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَكْرَهُ .
( الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ : السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ بِالْمُسْلِمِ ) .
قَالَ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ
مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ
عَلَى تَفْسِيرِهَا قَرِيبًا ، وَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ
بِالنَّاسِ يُفْتَحُ لِأَحَدِهِمْ فِي الْآخِرَةِ بَابٌ مِنْ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ
لَهُ هَلُمَّ هَلُمَّ فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ فَإِذَا جَاءَهُ أُغْلِقَ
دُونَهُ ، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ آخَرُ فَيُقَالُ لَهُ هَلُمَّ هَلُمَّ
فَيَجِيءُ بِكَرْبِهِ وَغَمِّهِ فَإِذَا جَاءَهُ أُغْلِقَ دُونَهُ ، فَمَا يَزَالُ
كَذَلِكَ حَتَّى يُفْتَحَ لَهُ الْبَابُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ
هَلُمَّ فَمَا يَأْتِيهِ مِنْ الْإِيَاسِ } .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ
يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً
إلَّا أَحْصَاهَا } الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّمُ ، وَالْكَبِيرَةُ الضَّحِكُ
بِحَالَةِ الِاسْتِهْزَاءِ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى :
{ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } مَنْ لَقَّبَ أَخَاهُ وَسَخِرَ
بِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ .
وَالسُّخْرِيَةُ الِاسْتِحْقَارُ وَالِاسْتِهَانَةُ ، وَالتَّنْبِيهُ
عَلَى الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ يَوْمَ يَضْحَكُ مِنْهُ ، وَقَدْ يَكُونُ
بِالْمُحَاكَاةِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ أَوْ الْإِشَارَةِ أَوْ الْإِيمَاءِ
أَوْ الضَّحِكِ عَلَى كَلَامِهِ إذَا تَخَبَّطَ فِيهِ أَوْ غَلَطَ أَوْ عَلَى
صَنْعَتِهِ أَوْ قَبِيحِ صُورَتِهِ .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ
مَعَ ذِكْرِهِ لِلْغِيبَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْرَادِهَا كَمَا
عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فِيهَا ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَهُ اقْتِدَاءً بِأُسْلُوبِ
الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَإِنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ ذَكَرَ الْغِيبَةِ ،
وَتَنْبِيهًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الزَّجْرِ عَنْهُ نَظِيرُ مَا تَقَرَّرَ
فِي الَّذِي قَبْلَهُ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ بَعْدَ
الْمِائَتَيْنِ : النَّمِيمَةُ
) .
قَالَ تَعَالَى : { هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } ثُمَّ
قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أَيْ دَعِيٍّ ، وَاسْتَنْبَطَ
مِنْهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ ، فَعَدَمُ
كَتْمِهِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْمَشْيِ بِالنَّمِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فَاعِلَ
ذَلِكَ وَلَدُ زِنَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ
} قِيلَ اللُّمَزَةُ النَّمَّامُ
.
وَقَالَ تَعَالَى : { حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } قِيلَ
كَانَتْ نَمَّامَةٌ حَمَّالَةٌ لِلْحَدِيثِ إفْسَادًا بَيْنَ النَّاسِ ،
وَسُمِّيَتْ النَّمِيمَةُ حَطَبًا ؛ لِأَنَّهَا تَنْشُرُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ
النَّاسِ كَمَا أَنَّ الْحَطَبَ يَنْشُرُ النَّارَ .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا
عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } أَيْ ؛ لِأَنَّ امْرَأَةَ نُوحٍ كَانَتْ تَقُولُ
عَنْهُ مَجْنُونٌ ، وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتْ تُخْبِرُ قَوْمَهَا بِضِيفَانِهِ
حَتَّى يَقْصِدُوهُمْ لِتِلْكَ الْفَاحِشَةِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي اخْتَرِعُوهَا
حَتَّى أَهْلَكَتْهُمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ الْفَظِيعِ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
نَمَّامٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : " قَتَّاتٌ " وَهُوَ
النَّمَّامُ .
وَقِيلَ : النَّمَّامُ الَّذِي يَكُونُ مَعَ جَمْعٍ
يَتَحَدَّثُونَ حَدِيثًا فَيَنِمُّ عَلَيْهِمْ .
وَالْقَتَّاتُ : الَّذِي يَسْتَمِعُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ
لَا يَعْلَمُونَ ثُمَّ يَنِمُّ
.
وَالشَّيْخَانِ وَالْأَرْبَعَةُ وَغَيْرُهُمْ : { مَرَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ فَقَالَ إنَّهُمَا
يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ - أَيْ أَمْرٍ شَاقٍّ عَلَيْهِمَا
لَوْ فَعَلَاهُ بَلْ إنَّهُ كَبِيرٌ أَيْ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ - أَمَّا أَحَدُهُمَا
فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ
مِنْ بَوْلِهِ } .
الْحَدِيثُ
.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ طُرُقُهُ فِي مَوَاضِعَ ، وَأَنَّ
ثُلُثَ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنْ الْغِيبَةِ وَثُلُثَهُ مِنْ النَّمِيمَةِ ،
وَثُلُثَهُ مِنْ الْبَوْلِ .
وَأَحْمَدُ : { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ نَحْوَ بَقِيعِ
الْغَرْقَدِ ، فَكَانَ النَّاسُ يَمْشُونَ خَلْفَهُ ، فَلَمَّا سَمِعَ صَوْتَ
النِّعَالِ وَقَرَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ، فَجَلَسَ حَتَّى قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ
لِئَلَّا يَقَعَ فِي نَفْسِهِ شَيْءٌ مِنْ الْكِبْرِ ، فَلَمَّا مَرَّ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ
إذْ بِقَبْرَيْنِ قَدْ دَفَنُوا فِيهِمَا رَجُلَيْنِ ، فَوَقَفَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَنْ دَفَنْتُمْ الْيَوْمَ هَاهُنَا ؟ قَالُوا
فُلَانٌ وَفُلَانٌ .
قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ :
أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ
فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ، وَأَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا ثُمَّ
جَعَلَهَا عَلَى الْقَبْرَيْنِ
.
قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ لِمَ فَعَلْت هَذَا ؟ قَالَ
لِيُخَفَّفَ عَنْهُمَا .
قَالُوا يَا نَبِيَّ اللَّهِ حَتَّى مَتَى يُعَذَّبَانِ
؟ قَالَ : غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَلَوْلَا تَمَزُّعُ قُلُوبِكُمْ
وَتَزَيُّدُكُمْ فِي الْحَدِيثِ لَسَمِعْتُمْ مَا أَسْمَعُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { النَّمِيمَةُ وَالشَّتِيمَةُ
وَالْحَمِيَّةُ فِي النَّارِ }
.
وَفِي لَفْظٍ : { النَّمِيمَةُ وَالْحِقْدُ فِي النَّارِ
لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ مُسْلِمٍ
} .
وَأَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَتْرُوكَانِ مُتَّهَمَانِ بِالْوَضْعِ : { أَلَا أَنَّ
الْكَذِبَ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ ، وَالنَّمِيمَةَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { كُنَّا نَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَرْنَا بِقَبْرَيْنِ فَقَامَ فَقُمْنَا مَعَهُ فَجَعَلَ
لَوْنُهُ يَتَغَيَّرُ حَتَّى رَعَدَ كُمُّ قَمِيصِهِ فَقُلْنَا مَالَك يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ فَقَالَ أَمَا تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ ، فَقُلْنَا وَمَا ذَاكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ هَذَانِ رَجُلَانِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا
عَذَابًا شَدِيدًا فِي ذَنْبٍ هَيِّنٍ أَيْ فِي ظَنِّهِمَا لَا فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ لِلتَّصْرِيحِ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَهُوَ مَجْمَعٌ
عَلَيْهِ
قُلْنَا فِيمَ ذَلِكَ ؟ قَالَ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا
يَتَنَزَّهُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَكَانَ الْآخَرُ يُؤْذِي النَّاسَ بِلِسَانِهِ
وَيَمْشِي بَيْنَهُمْ بِالنَّمِيمَةِ ، فَدَعَا بِجَرِيدَتَيْنِ مِنْ جَرِيدِ
النَّخْلِ فَجَعَلَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً قُلْنَا وَهَلْ يَنْفَعُهُمْ
ذَلِكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا دَامَتَا رَطْبَتَيْنِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَيْسَ مِنِّي ذُو حَسَدٍ وَلَا
نَمِيمَةٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا أَنَا مِنْهُ ، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا
بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا
} } .
وَأَحْمَدُ : { خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إذَا رُءُوا
ذُكِرَ اللَّهُ ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ ،
الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ } وَفِي
رِوَايَةٍ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا : { الْمُفْسِدُونَ
بَيْنَ الْأَحِبَّةِ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { الْهَمَّازُونَ وَاللَّمَّازُونَ
وَالْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ يَحْشُرُهُمْ
اللَّهُ فِي وُجُوهِ الْكِلَابِ
} .
وَعَنْ
.
جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مِنْ أَحَبِّكُمْ إلَيَّ
وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا } .
الْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ أَحَبَّكُمْ إلَيَّ
أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا الَّذِينَ يَأْلَفُونَ
وَيُؤْلَفُونَ ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَى اللَّهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ
الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْمُلْتَمِسُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ } .
وَفِي أُخْرَى : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشِرَارِكُمْ ؟
قَالُوا بَلَى إنْ شِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : شِرَارُكُمْ الَّذِي
يَنْزِلُ وَحْدَهُ ، وَيَجْلِدُ عَبْدَهُ ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ ، أَفَلَا
أُنَبِّئُكُمْ بِشَرِّ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا بَلَى إنْ شِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ
، قَالَ : مَنْ يُبْغِضُ النَّاسَ
وَيُبْغِضُونَهُ .
قَالَ
: أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالُوا
بَلَى إنْ شِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الَّذِينَ لَا يُقِيلُونَ عَثْرَةً
، وَلَا يَقْبَلُونَ مَعْذِرَةً ، وَلَا يَغْفِرُونَ ذَنْبًا .
قَالَ : أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ ؟
قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : مَنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ وَلَا
يُؤْمَنُ شَرُّهُ } ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ : { أَلَّا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ
وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا بَلَى ، قَالَ : إصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ،
فَإِنَّ إفْسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ } .
وَيُرْوَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنْ
تَحْلِقُ الدِّينَ } .
وَفِي خَبَرٍ : { أَيُّمَا رَجُلٍ أَشَاعَ عَلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ
بِكَلِمَةٍ وَهُوَ مِنْهَا بَرِيءٌ يَشِينُهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا ، كَانَ حَقًّا
عَلَى اللَّهِ أَنْ يُذِيبَهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ حَتَّى
يَأْتِيَ بِنَفَاذِ مَا قَالَ }
.
وَرَوَى كَعْبٌ : أَنَّهُ أَصَابَ بَنِي إسْرَائِيلَ
قَحْطٌ ، فَاسْتَسْقَى مُوسَى -
صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ -
مَرَّاتٍ فَمَا أُجِيبَ ، فَأَوْحَى اللَّهُ - تَعَالَى - إلَيْهِ أَنِّي لَا
أَسْتَجِيبُ لَك وَلَا لِمَنْ مَعَك وَفِيكُمْ نَمَّامٌ قَدْ أَصَرَّ عَلَى النَّمِيمَةِ .
فَقَالَ مُوسَى يَا رَبِّ مَنْ هُوَ حَتَّى نُخْرِجَهُ مِنْ
بَيْنِنَا ؟ فَقَالَ يَا مُوسَى : أَنْهَاكُمْ عَنْ النَّمِيمَةِ وَأَكُونُ
نَمَّامًا فَتَابُوا بِأَجْمَعِهِمْ فَسُقُوا .
وَزَارَ بَعْضَ السَّلَفِ أَخُوهُ فَنَمَّ لَهُ عَنْ
صَدِيقِهِ .
فَقَالَ لَهُ يَا أَخِي أَطَلْت الْغَيْبَةَ وَجِئْتَنِي
بِثَلَاثِ جِنَايَاتٍ : بَغَّضْت إلَيَّ أَخِي ، وَشَغَلْت قَلْبِي بِسَبَبِهِ ، وَاتَّهَمْت
نَفْسَك الْأَمِينَةَ .
وَقِيلَ مَنْ أَخْبَرَك بِشَتْمِ غَيْرِك لَك فَهُوَ
الشَّاتِمُ لَك ، وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا فَنَمَّ لَهُ عَنْ شَخْصٍ فَقَالَ اذْهَبْ بِنَا إلَيْهِ فَذَهَبَ
مَعَهُ وَهُوَ
يَرَى أَنَّهُ يَنْتَصِرُ لِنَفْسِهِ ، فَلَمَّا وَصَلَ
إلَيْهِ قَالَ يَا أَخِي إنْ كَانَ مَا قُلْت فِي حَقًّا يَغْفِرُ اللَّهُ لِي ،
وَإِنْ كَانَ مَا قُلْت فِي بَاطِلًا يَغْفِرُ اللَّهُ لَك .
وَيُقَالُ : عَمَلُ النَّمَّامِ أَضَرُّ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ ، فَإِنَّ عَمَلَ الشَّيْطَانِ بِالْوَسْوَسَةِ ، وَعَمَلَ
النَّمَّامِ بِالْمُوَاجَهَةِ ، وَنُودِيَ عَلَى عَبْدٍ يُرَادُ بَيْعُهُ لَيْسَ
بِهِ عَيْبٌ إلَّا أَنَّهُ نَمَّامٌ ، فَاشْتَرَاهُ مَنْ اسْتَخَفَّ بِهَذَا
الْعَيْبِ فَلَمْ يَمْكُثْ عِنْدَهُ أَيَّامًا حَتَّى نَمَّ لِزَوْجَتِهِ أَنَّهُ
يُرِيدُ التَّزَوُّجَ أَوْ التَّسَرِّيَ وَأَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ الْمُوسَى
وَتَحْلِقَ بِهَا شَعَرَاتٍ مِنْ حَلْقِهِ لِيَسْحَرَهُ لَهَا فِيهِنَّ ،
فَصَدَّقَتْهُ وَعَزَمَتْ عَلَى ذَلِكَ فَجَاءَ إلَيْهِ وَنَمَّ لَهُ عَنْهَا
أَنَّهَا اتَّخَذَتْ لَهَا خِدْنًا أَحَبَّتْهُ وَتُرِيدُ ذَبْحَك اللَّيْلَةَ
فَتَنَاوَمْ لِتَرَى ذَلِكَ فَصَدَّقَهُ فَتَنَاوَمَ فَجَاءَتْ لِتَحْلِقَ فَقَالَ
صَدَقَ الْغُلَامُ ، فَلَمَّا هَوَتْ إلَى حَلْقِهِ أَخَذَ الْمُوسَى مِنْهَا وَذَبَحَهَا
بِهِ ، فَجَاءَ أَهْلُهَا فَرَأَوْهَا مَقْتُولَةً فَقَتَلُوهُ فَوَقَعَ
الْقِتَالُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِشُؤْمِ ذَلِكَ النَّمَّامِ .
وَلَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قُبْحِ
تَصْدِيقِ النَّمَّامِ وَعَظِيمِ الشَّرِّ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
- عَزَّ قَائِلًا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا } أَوْ فَتَثَبَّتُوا { أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } عَافَانَا اللَّهُ
مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ .
تَنْبِيهَاتٌ : مِنْهَا : عَدُّ النَّمِيمَةِ مِنْ
الْكَبَائِرِ هُوَ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، وَبِهِ صَرَّحَ الْحَدِيثُ
الصَّحِيحُ السَّابِقُ بِقَوْلِهِ : " بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ " كَمَا
مَرَّ فِيهِ .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ
النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - .
انْتَهَى
.
وَخَبَرُ : { مَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ } ،
أَجَابُوا عَنْهُ بِأَجْوِبَةٍ مِنْهَا فِي كَبِيرٍ تَرْكُهُ وَالِاحْتِرَازُ عَنْهُ ، أَوْ لَيْسَ كَبِيرًا
فِي اعْتِقَادِكُمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ
عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } .
أَوْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَيْسَ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ ،
وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي خَبَرِ الْبُخَارِيِّ السَّابِقِ : " بَلَى
إنَّهُ كَبِيرٌ " كَمَا تَقَرَّرَ
.
وَمِنْهَا : عَرَّفُوا النَّمِيمَةَ بِأَنَّهَا نَقْلُ
كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ بَيْنَهُمْ .
وَقَالَ فِي الْإِحْيَاءِ هَذَا هُوَ الْأَكْثَرُ وَلَا
يَخْتَصُّ بِذَلِكَ بَلْ هِيَ كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ سَوَاءٌ أَكْرَهَهُ
الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوْ إلَيْهِ أَوْ ثَالِثٌ ، وَسَوَاءٌ كَانَ كَشْفُهُ
بِقَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ رَمْزٍ أَوْ إيمَاءٍ ، وَسَوَاءٌ فِي الْمَنْقُولِ
كَوْنُهُ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا عَيْبًا أَوْ نَقْصًا فِي الْمَقُولِ عَنْهُ أَوْ
غَيْرِهِ ، فَحَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ ، وَهَتْكُ السِّتْرِ
عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ ، وَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي السُّكُوتُ عَنْ حِكَايَةِ
كُلِّ شَيْءٍ شُوهِدَ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ إلَّا مَا فِي حِكَايَتِهِ نَفْعٌ لِمُسْلِمٍ
أَوْ دَفْعُ ضُرٍّ ، كَمَا لَوْ رَأَى مَنْ يَتَنَاوَلُ مَالَ غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ
أَنْ يَشْهَدَ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ رَأَى مَنْ يُخْفِي مَالَ نَفْسِهِ
فَذَكَرَهُ فَهُوَ نَمِيمَةٌ وَإِفْشَاءٌ لِلسِّرِّ ، فَإِنْ كَانَ مَا يَنُمُّ
بِهِ نَقْصًا أَوْ عَيْبًا فِي الْمَحْكِيِّ عَنْهُ فَهُوَ غِيبَةٌ وَنَمِيمَةٌ
انْتَهَى .
وَمَا ذَكَرَهُ إنْ أَرَادَ بِكَوْنِهِ نَمِيمَةً
أَنَّهُ كَبِيرَةٌ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ الَّتِي ذَكَرَهَا فَفِيهِ
بِإِطْلَاقِهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ مَا فَسَّرُوا بِهِ النَّمِيمَةَ لَا
يَخْفَى أَنَّ وَجْهَ كَوْنِهِ كَبِيرَةً مَا فِيهِ مِنْ الْإِفْسَادِ
الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَضَارِّ وَالْمَفَاسِدِ مَا لَا يَخْفَى .
وَالْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ كَذَلِكَ بِأَنَّهُ
كَبِيرَةٌ ظَاهِرٌ جَلِيٌّ وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ بَلْ وَلَا قَرِيبًا مِنْهُ
مُجَرَّدُ الْإِخْبَارِ بِشَيْءٍ عَمَّنْ يَكْرَهُ كَشْفُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ
يَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ وَلَا هُوَ عَيْبٌ وَلَا نَقْصٌ ، فَاَلَّذِي
يُتَّجَهُ فِي هَذَا
أَنَّهُ وَإِنْ سَلَّمَ لَلْغَزَالِيِّ تَسْمِيَتَهُ
نَمِيمَةً لَا يَكُونُ كَبِيرَةً ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ نَفْسُهُ شَرَطَ فِي
كَوْنِهِ غِيبَةً كَوْنَهُ عَيْبًا وَنَقْصًا حَيْثُ قَالَ : فَإِنْ كَانَ مَا
يَنُمُّ بِهِ نَقْصًا إلَخْ ، فَإِذَنْ لَمْ تُوجَدْ الْغِيبَةُ إلَّا مَعَ
كَوْنِهِ نَقْصًا ، فَالنَّمِيمَةُ الْأَقْبَحُ مِنْ الْغِيبَةِ ، يَنْبَغِي
أَلَّا تُوجَدَ بِوَصْفِ كَوْنِهَا كَبِيرَةً إلَّا إذَا كَانَ فِيمَا يَنُمُّ
بِهِ مَفْسَدَةٌ تُقَارِبُ مَفْسَدَةَ الْإِفْسَادِ الَّتِي صَرَّحُوا بِهَا .
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ
عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَنْقُلُونَ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ وَلَا يَتَعَرَّضُونَ
لِمَا فِيهِ مِمَّا نَبَّهْت عَلَيْهِ
.
نَعَمْ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْغِيبَةَ كَبِيرَةٌ
مُطْلَقًا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي النَّمِيمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ
فِيهَا مَفْسَدَةٌ كَمَفْسَدَةِ الْغِيبَةِ وَإِنْ لَمْ تَصِلْ إلَى مَفْسَدَةِ
الْإِفْسَادِ بَيْنَ النَّاسِ .
وَمِنْهَا
: الْبَاعِثُ عَلَى النَّمِيمَةِ مِنْهُ إرَادَةُ
السُّوءِ بِالْمَحْكِيِّ عَنْهُ أَوْ الْحَبُّ لِلْمَحْكِيِّ لَهُ ، أَوْ
الْفَرَحُ بِالْخَوْضِ فِي الْفُضُولِ ، وَعِلَاجُهَا بِنَحْوِ مَا مَرَّ فِي
الْغِيبَةِ ، ثُمَّ عَلَى مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ النَّمِيمَةُ كَفُلَانٍ قَالَ
فِيك أَوْ عَمَلَ فِي حَقِّك كَذَا سِتَّةُ أُمُورٍ أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ ؛
لِأَنَّ النَّمَّامَ فَاسِقٌ إجْمَاعًا
.
وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : { إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ } الْآيَةَ .
وَأَنْ يَنْهَاهُ عَنْ الْعَوْدِ لِمِثْلِ هَذَا
الْقَبِيحِ دِينًا وَدُنْيَا ، وَأَنْ يُبْغِضَهُ فِي اللَّهِ إنْ لَمْ يُظْهِرْ
لَهُ التَّوْبَةَ ، وَأَنْ لَا يَظُنَّ بِالْمَنْقُولِ عَنْهُ سُوءًا ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّ مَا نُقِلَ إلَيْهِ عَنْهُ صُدِرَ مِنْهُ ، وَأَنْ لَا يَحْمِلَهُ
مَا حُكِيَ لَهُ عَلَى التَّجَسُّسِ وَالْبَحْثِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ
وَلَا تَجَسَّسُوا } وَأَنْ لَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ مَا نَهَى النَّمَّامَ عَنْهُ
فَلَا يَحْكِي نَمِيمَتَهُ ، فَيَقُولُ : قَدْ حَكَى لِي فُلَانٌ كَذَا فَإِنَّهُ
يَكُونُ بِهِ نَمَّامًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق