ج13.وج14.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ
أولا : ج13.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ
== لَمْ تَدْخُلْ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى صِفَتُهُ .وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَلَوْ لَمْ يُرِدْ إذْنَ حَدِيثٍ
أَصْلًا بِصَلَاةِ الرَّغَائِبِ بِعَيْنِهَا وَوَصْفِهَا لَكَانَ فِعْلُهَا
مَشْرُوعًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي عُمُومِ الصَّلَاةِ
، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ ذَاتُهَا فَمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ
مِنْ بَابِ أَوْلَى فَبَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ كَمَا ذَكَرَ ،
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ
مَوْضُوعٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فَلَا يُنْكَرُ الْعَمَلُ بِهِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ
.
وَقَوْلُهُ وَكَمْ مِنْ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ
مُشْتَمِلَةٍ عَلَى وَصْفٍ خَاصٍّ لَمْ يَرِدْ بِوَصْفِهَا ذَلِكَ نَصٌّ خَاصٌّ
مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ثُمَّ لَا يُقَالُ إنَّهَا بِدْعَةٌ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ
إنَّهَا بِدْعَةٌ لَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ لِكَوْنِهَا
رَاجِعَةً إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ
لَيْسَ بِوَاقِعٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى جَمِيعِ
أَنْوَاعِهَا بَيَّنَهَا الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
وَبَيَّنَ أَوْقَاتَهَا وَأَسْمَاءَهَا وَجَمِيعَ صِفَاتِهَا حَتَّى الْقِرَاءَةَ
فِيهَا فَمَا زَادَ عَلَى بَيَانِهِ فَهُوَ حَدَثٌ فِي الدِّينِ فَإِذَا أَتَى
الْمُصَلِّي بِذَلِكَ كُلِّهِ حَكَمَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ
مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْقَبُولِ أَوْ الرَّدِّ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمَا
وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَشْرُوعَةُ
الَّتِي بِهَا قِوَامُ الدِّينِ فَمَا بَالُك بِصَلَاةٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ فِي
الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ فِيهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ
وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَالضَّلَالَةُ لَا تَكُونُ مُتَقَبَّلَةً .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِابْنِهِ عَبْدِ
اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا قَالَ لَهُ هَنِيئًا لَك يَا أَبَتِ
تَصَدَّقْت الْيَوْمَ بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ : وَاَللَّهِ لَوْ عَلِمَ
أَبُوك أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَقَبَّلَ مِنْهُ حَسَنَةً
وَاحِدَةً مَا كَانَ شَيْءٌ أَشْهَى لَهُ مِنْ الْمَوْتِ .
هَذَا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْقَبُولِ
الْقَبُولَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مُرَادُهُ
الْقَبُولَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَالْعُلَمَاءُ لَا يَقْبَلُونَ إلَّا مَا وَرَدَ
فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ أَنَّ
هَذِهِ الصَّلَاةَ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ
فَكَلَامُهُ مَرْدُودٌ وَالْبِدْعَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَا اخْتَرَعَهُ
الْمَرْءُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ غَيْرُهُ فَإِذَا صَلَّى
صَلَاةً لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا لَا
تُؤْخَذُ إلَّا مِنْ بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَنْ فَعَلَهَا
وُصِفَ فِعْلُهُ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهَا
بِدْعَةٌ لَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ
وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْغَفْلَةِ مَا أَشَدَّهَا ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ
عِنْدَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ فَحَكَمَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْعُلَمَاءِ
بِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } فَمَنْ زَادَ وَصْفًا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ
فَقَدْ زَادَ عَلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالزِّيَادَةُ
مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ
مَكْرُوهًا وَالْمَكْرُوهُ ضِدُّ الْحَسَنِ فَكَيْفَ يَحْكُمُ هَذَا الْقَائِلُ
عَلَى كُلٍّ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يَصِفُهَا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً حَسَنَةً .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ الْبِدْعَةَ الْحَسَنَةَ
مِثْلُ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَمَا أَشْبَهَهَا .
وَقَالُوا فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ إنَّهَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ
وَأَنْكَرُوهَا إنْكَارًا شَدِيدًا
.
حَتَّى أَنَّ مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ هَذَا الْقَائِلِ
، وَهُوَ الْإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنْكَرَهَا إنْكَارًا شَدِيدًا فِي فَتَاوِيه ، وَهَذَا لَفْظُهَا .
قَالَ : مَسْأَلَةٌ
: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أَوَّلِ
جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ أَوْ بِدْعَةٌ .
الْجَوَابُ هِيَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ أَشَدَّ
إنْكَارٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرَاتٍ فَعُيِّنَ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ عَنْهَا
، وَإِنْكَارُهَا عَلَى فَاعِلِهَا وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ اللَّهُ
تَعَالَى مَنْعُ النَّاسِ مِنْ فِعْلِهَا فَإِنَّهُ رَاعٍ وَكُلُّ رَاعٍ مَسْئُولٌ
عَنْ رَعِيَّتِهِ وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ كُتُبًا فِي إنْكَارِهَا وَذَمِّهَا
وَتَسْفِيهِ فَاعِلِهَا وَلَا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْفَاعِلِينَ لَهَا فِي
كَثِيرٍ مِنْ الْبُلْدَانِ وَلَا بِكَوْنِهَا مَذْكُورَةً فِي قُوتِ الْقُلُوبِ
وَإِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ
رَدٌّ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {
مِنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَقَدْ أَمَرَنَا
اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرُّجُوعِ إلَى كِتَابِهِ فَقَالَ
تَعَالَى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
} وَلَمْ يَأْمُرْنَا بِاتِّبَاعِ الْجَاهِلِينَ وَلَا بِالِاغْتِرَارِ
بِغَلَطَاتِ الْمُخْطِئِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِكَوْنِهَا رَاجِعَةً
إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ
تَوْقِيفِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ
.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْخُرُوجِ إلَيْهَا وَالتَّكْبِيرِ
فِيهَا وَكَذَلِكَ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ
وَصَلَاةَ الْخَوْفِ وَالرَّوَاتِبِ مَعَ الصَّلَوَاتِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالِاسْتِخَارَةِ
وَالتَّهَجُّدِ وَصَلَاةَ الْمَرِيضِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَأَوْضَحَهَا بِالْفِعْلِ
وَالْقَوْلِ فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا
وَلَا يُنْقِصَ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى
فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِدْعَةً مَمْنُوعَةً فَأَوْلَى
بِالْمَنْعِ إذَا أُحْدِثَتْ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ تَسْمِيَةٌ وَوَقْتٌ خَاصٌّ هِيَ
بِهَا وَصَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا شَائِعًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا إلَّا فِي
الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ
الِاجْتِمَاعِيَّةِ يَفْتَقِرُ اسْتِحْبَابُهَا إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ
مُسْتَقِلٍّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إقَامَتِهَا جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ
وَالْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ
.
وَقَوْلُهُ وَمِنْ أَمْثَالِ هَذَا مَا إذَا صَلَّى إنْسَانٌ
فِي جُنْحِ اللَّيْلِ خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَرَأَ
فِي كُلِّ رَكْعَةٍ آيَةً فَآيَةً مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً عَلَى التَّوَالِي
وَخَصَّ كُلَّ رَكْعَةٍ مِنْهَا بِدُعَاءٍ خَاصٍّ فَهَذِهِ صَلَاةٌ مَقْبُولَةٌ
غَيْرُ مَرْدُودَةٍ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ صَلَاةٌ مُبْتَدَعَةٌ
مَرْدُودَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كِتَابٌ وَلَا
سُنَّةٌ وَلَوْ وَضَعَ أَحَدٌ حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهَا بِهِ لَأَبْطَلْنَا
الْحَدِيثَ وَأَنْكَرْنَاهُ وَلَمْ نُنْكِرْ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلِهَذَا شَوَاهِدُ وَنَظَائِرُ لَا تُحْصَى مِنْ
سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ
.
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ
الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَقَالَ عَنْهَا إنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي كِتَابٍ
وَلَا سُنَّةٍ فَكَفَى غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ : مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَيْهِ إذْ
أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَالْبِدْعَةُ مَكْرُوهَةٌ
لِمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَهَذِهِ صَلَاةٌ مَقْبُولَةٌ غَيْرُ
مَرْدُودَةٍ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ
وَكَمْ مِنْ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرَ
اللَّهُ تَعَالَى وَيُحْسِنَ النِّيَّةَ مَا اسْتَطَاعَ وَيَتَّبِعَ السُّنَّةَ
فِي عَمَلِهِ وَيَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ
الْقَبُولَ مِنْ فَضْلِ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ ، وَقَدْ
أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ بِفَضْلِهِ أَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ
وَاتَّبَعَ أَمْرَهُ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ تَقَبَّلَ مِنْهُ وَنَجَّاهُ ، وَأَمَّا
إنْ فَعَلَ فِعْلًا لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ فَلَا نِزَاعَ فِي
أَنَّ فِعْلَ هَذَا حَدَثٌ وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ
قَوْلُ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ
إلَى الْكُوعَيْنِ لَتَوَضَّأْت كَذَلِكَ ، وَإِنْ كُنْت أَقْرَؤُهَا إلَى
الْمَرَافِقِ .
وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فَمَنْ
ادَّعَى غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ
الثَّوَابَ إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانُوا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ يَمْتَثِلُونَ السُّنَّةَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَيَخَافُونَ مَعَ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْخَوْفُ عَلَى
الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَفْضَلُ مِنْ الْعَمَلِ ، وَهَذَا الْقَائِلُ قَدْ ذَكَرَ
صُورَةً لَمْ تَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَجَعَلَهَا دَلِيلًا يُسْتَدَلُّ
بِهِ عَلَى مَا رَامَهُ مِنْ صِحَّةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ
وَقَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ آيَةً فَآيَةً مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً .
فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مَكْرُوهًا فِي صَلَاتِهِ مُسْتَدِلًّا بِفِعْلِ {
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا
أَنْ بَلَغَ إلَى قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ أَخَذَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُعْلَةٌ فَرَكَعَ وَلَمْ يَقْرَأْ بِبَعْضِ سُورَةٍ فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ السُّورَةِ لِلْعُذْرِ الَّذِي
ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ فَمَا بَالُك بِآيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَهُوَ مَعَ
ذَلِكَ يَخْتَارُهَا فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ وَأَيْنَ الِاتِّبَاعُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَلَوْ وَضَعَ لَهَا أَحَدٌ
حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهَا بِهِ
لَأَبْطَلْنَا الْحَدِيثَ وَأَنْكَرْنَاهُ وَلَمْ
نُنْكِرْ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ مِنْ غَيْرِ
فَرْقٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ،
وَهُوَ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي التَّنَفُّلِ الَّتِي
اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَأَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ زَادَ عَلَى
رَكْعَتَيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ
أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ سَهْوًا فَإِنَّهُ
يَرْجِعُ لِلْجُلُوسِ مَا لَمْ يَرْكَعْ فَإِنْ رَكَعَ مَضَى فِي صَلَاتِهِ حَتَّى
يُتِمَّهَا أَرْبَعًا وَيَسْجُدَ قَبْلَ السَّلَامِ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ وَقَامَ
إلَى خَامِسَةٍ سَهْوًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مَتَى ذَكَرَ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ
الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَكْثَرَ
مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ فَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ { خَرَجَ مَعَ صَفِيَّةَ لَيْلًا فَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ
مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَسْرَعَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا
صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ
: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيت
أَنْ يَقْذِفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا أَوْ قَالَ شَيْئًا } .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَيْنِ
الْأَصْلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ أَحَدُهُمَا عِصْمَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْأَصْلُ الثَّانِي قُوَّةُ
إيمَانِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ حَتَّى بَيَّنَ
لَهُمَا مَا الْحَالُ عَلَيْهِ ، فَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ كَافِيًا
لَمْ يَحْتَجْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمَا ذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِهَذَا شَوَاهِدُ وَنَظَائِرُ لَا
تُحْصَى مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ عَنْهَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الشَّوَاهِدِ
وَالنَّظَائِرِ الَّتِي قَالَ عَنْهَا وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ أَعْنِي عَلَى
مُقْتَضَى الِاتِّبَاعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَنْقُولَةٌ مَحْفُوظَةٌ لَا
عَقْلِيَّةٌ وَلَا قِيَاسِيَّةٌ
.
نَعَمْ الْفُقَهَاءُ يُعَلِّلُونَ الْأَحْكَامَ
الشَّرْعِيَّةَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَأَمَّا أَنْ
يَخْتَرِعَ الْإِنْسَانُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ شَيْئًا وَيُعَلِّلَهُ بِعَقْلِهِ
فَبَعِيدٌ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ غَيْرُ مَعْقُولٍ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ .
عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى
أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ فَتْحُ بَابٍ عَظِيمٍ لِاسْتِحْسَانِ
الْبِدَعِ وَالزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ إذْ أَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا يَسْتَنِدُ
لِهَذَا الْقَوْلِ فَيُعَلِّلُ مَا اسْتَحْسَنَهُ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ
مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ؛
لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَأَنْزَلْنَا
إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَقَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا وَإِنِّي قَدْ بَلَّغْت مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَأَكْثَرَ
} عَلَى هَذَا فَالْأَصْلُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ
بَيَّنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ
تَوْقِيفِيَّةٌ فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ بِالْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ ،
فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ مُتَعَيِّنٌ وَلَا يُطَالَبُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ
بِدَلِيلٍ غَيْرِهِ فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ صَلَاةً أَوْ شِعَارًا فَهُوَ
الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذُكِرَ
فِيهَا مَعَ ضَعْفِهِ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ صَدْرِ الْأُمَّةِ فَهِمَ
أَنْ يُجْمَعَ لَهَا وَلَا أَنْ تُعْمَلَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ
الْمَشْهُورَةِ
وَكَذَلِكَ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ إلَى الْقَرْنِ
الْخَامِسِ وَشَيْءٌ لَمْ يُوجَدْ مِنْ هَؤُلَاءِ فَاطِّرَاحُهُ مُتَعَيِّنٌ .
وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَكَيْفِيَّتَهَا وَوَقَّتَ
لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَتَغَيَّرُ كَمَا تَقَدَّمَ ،
فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ وَلَا يُنْقِصَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الشَّارِعُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
وَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ كَافِيًا كَمَا
ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَمَا دَعَتْ حَاجَةٌ إلَى بَيَانِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ صَلَاةٍ عَلَى حِدَتِهَا وَمَا تَخْتَصُّ بِهِ وَمَا
يَنُوبُ الْمَرْءُ فِيهَا ، وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ، فَإِنَّ النَّفْسَ
مِنْ طَبْعِهَا أَنَّهَا لَا تُرِيدُ الدُّخُولَ تَحْتَ الْأَحْكَامِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى تَمَرُّدِهِ فِي
كُفْرِهِ لَا يُنَازِعُ الرُّبُوبِيَّةَ وَالنَّفْسَ تُنَازِعُهَا فَكُلُّ فِعْلٍ
كَانَتْ بِهِ مَأْمُورَةً لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِمُجَاهِدَةٍ قَوِيَّةٍ بِخِلَافِ
مَا تَبْتَدِعُهُ وَتُحْدِثُهُ مِنْ قِبَلِهَا ، فَإِنَّهَا تَنْشَطُ فِيهِ
وَتَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ وَالْخَطَرَ لِكَوْنِهَا آمِرَةً غَيْرَ مَأْمُورَةٍ ،
وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُهَا فِيهِ التَّعَبُ ، فَإِنَّهُ حُلْوٌ عِنْدَهَا بِسَبَبِ
أَنَّهَا آمِرَةٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتْ الْعِبَادَةُ
بِالْعَادَةِ ، وَلَا بِالِاسْتِحْسَانِ ، وَلَا بِالِاخْتِيَارِ ، وَإِنَّمَا
هِيَ رَاجِعَةٌ إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ
بَيَانِ رَسُولِهِ الْمَعْصُومِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَحَيْثُ مَشَى مَشَيْنَا وَحَيْثُ وَقَفَ وَقَفْنَا
، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إلَى مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ وَأَفَادُوهُ
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِمَّا لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ .
اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بِكَرَمِك يَا
كَرِيمُ وَأَيْضًا فَمَا حَدَثَ بَعْدَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوهُ
وَعَلِمُوا أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ ، وَلَمْ
يَعْمَلُوا بِهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ يَلْزَمُ
مِنْهُ تَنْقِيصُهُمْ وَتَفْضِيلُ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِمْ وَمَعْلُومٌ
أَنَّهُمْ أَكْمَلُ النَّاسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَشَدُّهُمْ اتِّبَاعًا .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ
بِهِ لَمْ يَتْرُكُوا إلَّا لِمُوجِبٍ أَوْجَبَ تَرْكَهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ فِعْلُهُ
هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لَمْ يَعْلَمُوهُ فَيَكُونَ
مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ بَعْدَهُمْ أَعْلَمَ مِنْهُمْ وَأَفْضَلَ وَأَعْرَفَ
بِوُجُوهِ الْبِرِّ وَأَحْرَصَ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَعَلِمُوهُ
وَلَظَهَرَ لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَعْقَلُ النَّاسِ وَأَعْلَمُهُمْ .
وَقَدْ قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الشِّخِّيرِ عُقُولُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ أَزْمِنَتِهِمْ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ
إشْكَالٌ فِي الدِّينِ ، وَلَا فِي الِاعْتِقَادَاتِ لِوُفُورِ عُقُولِهِمْ ،
وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الشُّبَهُ بَعْدَهُمْ لَمَّا خَالَطَتْ الْعُجْمَةُ
الْأَلْسُنَ فَلِنُقْصَانِ عُقُولِ مَنْ بَعْدَهُمْ عَنْ عُقُولِهِمْ وَقَعَ مَا
وَقَعَ .
وَقَوْلُهُ وَاَلَّذِي يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ أَنَّهُ كَذَلِكَ أُمُورٌ نَذْكُرُهَا وَنُبَيِّنُ بِالدَّلِيلِ
الْوَاضِحِ كَوْنَهَا سَالِمَةً مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : أَحَدُهَا : مَا فِيهَا مِنْ تَكْرَارِ السُّورَةِ وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ
لَيْسَ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ
تَكْرَارُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ هِيَ فَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ نَعُدُّهُ مِنْ
الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَا وَرَدَ
عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ كَرَاهَةِ نَحْوِ ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى
الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ
قَدْ أُطْلِقَتْ عَلَى مَعَانٍ وَذَلِكَ أَحَدُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ وُقُوعِ التَّوَهُّمِ
لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هِيَ مَسَائِلُ عَدِيدَةٌ صَحِيحَةٌ خَالَفَ فِيهَا
نَقْلَ الْعُلَمَاءِ
فَبَدَأَ بِتَكْرَارِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
وَاسْتَدَلَّ عَلَى فِعْلِهَا بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَكْرَارِ سُورَةِ
الْإِخْلَاصِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ قَالُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ يُكَرِّرُهَا
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا لَا يُكَرِّرُونَهَا مَعَ عِلْمِهِمْ
بِفَضِيلَتِهَا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
تَكْرَارِ السُّورَةِ لِحَافِظِ الْقُرْآنِ .
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قِرَاءَةِ قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ مِرَارًا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ
مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِهَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ لِلَّذِي يَحْفَظُ الْقُرْآنَ أَنْ يُكَرِّرَ { قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ } فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِرَارًا لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّ أَجْرَ
مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَأَجْرِ مَنْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ تَأْوِيلًا لِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ { أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } إذْ لَيْسَ ذَلِكَ
مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ
لَاقْتَصَرُوا عَلَى قِرَاءَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فِي الصَّلَوَاتِ
بَدَلًا مِنْ قِرَاءَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ ، وَلَكَرَّرُوهَا فِي الرَّكْعَةِ
الْوَاحِدَةِ مِنْ فَرَائِضِهِمْ وَنَوَافِلِهِمْ وَلَاقْتَصَرُوا عَلَى
قِرَاءَتِهَا مِنْ دُونِ سَائِرِ الْقُرْآنِ فِي تِلَاوَتِهِمْ .
فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فِي رَكْعَةٍ
وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُسَاوِي أَجْرَ مَنْ أَحْيَا اللَّيْلَ وَقَامَ
فِيهِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ تَكْرِيرَهَا
فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَرَأَى ذَلِكَ بِدْعَةً ،
وَهُوَ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ تَكْرِيرَهَا
فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةٍ طَوِيلَةٍ تَزِيدُ
فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ تَكْرِيرِهَا الْمَرَّاتِ
الَّتِي كَرَّرَهَا فِيهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ } يُكَرِّرُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَانَ الرَّجُلُ
يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } إذْ قَدْ
يَحْتَمِلُ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يُرَدِّدُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ سِوَاهَا
وَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ ذَلِكَ
مِنْ فِعْلِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ ، وَإِنَّمَا
أَعْلَمَ بِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّجُلَ
كَانَ يَتَقَالُّهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ السَّلَفُ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ
كُلٌّ عَلَى قَدْرِ وِرْدِهِ الَّذِي اعْتَادَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَرْجِيعُ
الْقُرْآنِ لِلتَّفَهُّمِ وَالتَّدَبُّرِ .
هَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ إنْ كُنَّا
صَالِحِينَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ لَمْ
نَعُدَّهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى ذَلِكَ ،
فَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ السُّورَةِ لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا
تَقَدَّمَ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تَكْرَارَهَا
مَكْرُوهٌ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ إنَّمَا تُرَادُ لِلثَّوَابِ
وَالْقِرَاءَةُ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّبَاعِ هِيَ أَكْثَرُ ثَوَابِهَا ، وَفِيهَا
تَرْكُ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ ، وَهُوَ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَالْمَكْرُوهُ الْمُنْكَرُ
لَيْسَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَتْ عَلَى
وَجْهِهَا بَلْ الْكَرَاهَةُ هُنَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَحَدُّ الْمَكْرُوهِ مَا
فِي تَرْكِهِ ثَوَابٌ ، وَلَيْسَ
فِي فِعْلِهِ عِقَابٌ ، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ
ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهِ فِيهِ ، فَتَرْكُهُ يَتَأَكَّدُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ
يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَحْفَظْ الْقُرْآنَ فَلَا بَأْسَ إذَنْ بِتَكْرَارِ
السُّورَةِ فِي النَّافِلَةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ
الْحَدِيثِ مِنْ كَرَاهَةِ نَحْوِ ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ الَّتِي
هِيَ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَوْلَى ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ قَدْ أُطْلِقَتْ عَلَى
مَعَانٍ وَذَلِكَ أَحَدُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ تَرْكَ الْأَوْلَى فِي تِلَاوَةِ
كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ يَتَأَكَّدُ تَرْكُهُ إذْ لَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى
ارْتِكَابِ مِثْلِ هَذَا فِي تِلَاوَةِ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
قَوْلُهُ الثَّانِي السَّجْدَتَانِ الْمُفْرَدَتَانِ
عَقِبَ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي كَرَاهَةِ مِثْلِ
ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُنَازِعُ يَخْتَارُ قَوْلَ مَنْ يَكْرَهُهُمَا
فَسَبِيلُهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا فَحَسْبُ لَا أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مِنْ أَصْلِهَا .
وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي تَكْرَارِ السُّورَةِ سَوَاءٌ
بَقِيَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ لِبَقَاءِ مُعْظَمِهَا أَوْ لَمْ
يَبْقَ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ إبْقَاءَ النَّاسِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ
شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ وَصِيَانَتِهِمْ عَنْ التَّرْكِ لَا إلَى
خَلَفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا يُرَادُ بِهَا
التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَرُّبُ إنَّمَا يَكُونُ بِالِامْتِثَالِ
لَا بِالِابْتِدَاعِ وَلَا بِالْمَكْرُوهِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي
كَرَاهَةِ مِثْلِ ذَلِكَ وَالْعُلَمَاءُ إنَّمَا أَجَازُوا السُّجُودَ
الْمُنْفَرِدَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا :
أَحَدُهُمَا : سُجُودُ التِّلَاوَةِ
.
وَالثَّانِي : سُجُودُ الشُّكْرِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ
يَرَاهُ .
وَلَيْسَتْ هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ مِنْهُمَا ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
فَبَطَلَ مَا حَكَاهُ مِنْ الْخِلَافِ فِي إجَازَةِ مِثْلِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ الْمُنَازِعُ يَخْتَارُ قَوْلَ مَنْ يَكْرَهُهُمَا
فَسَبِيلُهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا فَحَسْبُ ، لَا أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مِنْ
أَصْلِهَا فَهَذَا لَا يَنْهَضُ لَهُ أَيْضًا ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ
؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ السَّجْدَتَيْنِ الْمُفْرَدَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ
الرَّغَائِبِ عَلَى صِفَتِهَا بِكَمَالِهَا فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ
صَلَاةَ رَغَائِبَ ، وَإِنْ سَجَدَهُمَا فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ لِغَيْرِ
ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَمَا سَبَقَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي
تَكْرَارِ السُّورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ سَوَاءٌ بَقِيَ عَلَى الصَّلَاةِ
اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ لِبَقَاءِ مُعْظَمِهَا أَوْ لَمْ يَبْقَ فَهَذَا الَّذِي
ذَكَرَهُ لَا يَخْلُو أَنْ
يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ
صَلَاةَ الرَّغَائِبِ أَوْ صَلَاةَ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَإِنْ كَانَ
مُرَادُهُ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ لِنُقْصَانِ
السَّجْدَتَيْنِ الْمُفْرَدَتَيْنِ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ
مُرَادُهُ صَلَاةَ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ هُوَ
صِفَةُ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ وَأَيْضًا فَهُوَ لَمْ يَنْوِهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ
لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ إبْقَاءَ النَّاسِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا
الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ .
لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ بِلَفْظَةِ الْمَقْصُودِ
الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنْ أَرَادَ الْمَقْصُودَ
الشَّرْعِيَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا
هُوَ الِامْتِثَالُ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ كَمَا
سَبَقَ ، وَإِنْ أَرَادَ مَا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى لَفْظَةِ
النَّاسِ ، وَمَاذَا أُرِيدَ بِهَا وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ
مَا اعْتَادُوهُ الْعَادَةَ الْمُوَافِقَةَ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ أَوْ
الْمُخَالِفَةَ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْمُوَافِقَةَ لِلشَّرْعِ فَلَيْسَ
مَا أُحْدِثَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ بِمُوَافِقٍ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ ،
وَإِنْ أَرَادَ بِمَا اعْتَادُوهُ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ فَهُوَ بَاطِلٌ
مَرْدُودٌ فَالْكَلَامُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى كِلَا التَّقْرِيرَيْنِ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا
الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ يُثْبِتُ صَلَاةً بِعَمَلِ أَهْلِ
الْقَرْنِ الْخَامِسِ ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِعَمَلِ
عُلَمَاءِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ
كَوْنِهِمْ الْجَمَّ الْغَفِيرَ ، وَفِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ ذَهَابُ السُّنَنِ
عَنْهُمْ وَلَا يُتَّهَمُونَ فِي تَرْكِ سُنَّةٍ وَلَا فِي إحْدَاثِ بِدْعَةٍ
وَلَا يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا حُجَّةٍ وَهُمْ الَّذِينَ
رَوَوْا الْحَدِيثَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ مُعَارِضٌ لِعَمَلِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ
الْعُلَمَاءُ : إنَّ الرَّاوِيَ
يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي فَهْمِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ
لَهُ ، وَيَكُونُ تَرْجِيحًا مُقَدَّمًا عَلَى فَهْمِ مَنْ عَدَاهُ فَكَيْفَ
يَحْكُمُ بِعَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فِي بَعْضِ
الْأَمَاكِنِ ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ
فَالْعِبَادَةُ إنَّمَا هِيَ بِالِاتِّبَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَشَغْلُ هَذَا
الْوَقْتِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ مِنْ
التَّنَفُّلِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ ، وَإِنْ شَغَرَ الْوَقْتَ عَنْ
الْعَمَلِ .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ
أَفْضَلُ أَعْمَالِهِمْ النَّوْمَ وَأَفْضَلُ عُلُومِهِمْ الصَّمْتَ "
يَعْنِي لِفَسَادِ الْأَعْمَالِ وَلِاشْتِبَاهِ الْعِلْمِ " وَأَفْضَلُ أَحْوَالِهِمْ
الْجُوعَ لِانْتِشَارِ الْحَرَامِ وَغُمُوضِ الْحَلَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَصِيَانَتِهِمْ عَنْ التَّرْكِ لَا
إلَى خَلَفٍ .
فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ
الرَّغَائِبِ بَقِيَ بِدُونِ عَمَلٍ وَشُغُورُ هَذَا الْوَقْتِ عَنْ فِعْلِ
الْبِدْعَةِ أَفْضَلُ وَأَعْلَى بَلْ نَوْمُهُ أَفْضَلُ إذَا تَوَقَّعَ بِدْعَةً
فِي عَمَلِهِ أَوْ دَسِيسَةً فَمَا بَالُك بِهِ مَعَ تَحَقُّقِهَا .
فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا إلَى خَلَفٍ أَنَّهُمْ
لَا يَشْتَغِلُونَ فِي وَقْتِهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ فَقَدْ تَقَدَّمَ
جَوَابُهُ ، وَإِنْ أَرَادَ لَا إلَى خَلَفٍ عَنْهَا ، وَإِنْ اشْتَغَلُوا فِي
وَقْتِهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ صَلَاةِ
نَافِلَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ تَفَكُّرٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةِ مُسْلِمٍ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ
، فَهُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى ؛ لِأَنَّهُ فِي عَمَلٍ مَشْرُوعٍ يُثَابُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّوْمَ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ
الْبِدْعَةِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ مَشْرُوعٍ كَانَتْ الْفَضِيلَةُ مِنْ
بَابِ أَوْلَى
وَأَحْرَى
.
وَقَوْلُهُ الثَّالِثُ مَا فِيهَا مِنْ التَّقْيِيدِ
بِعَدَدٍ خَاصٍّ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ فَهَذَا قَرِيبٌ وَاضِحٌ رَاجِعٌ إلَى مَا
سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَقَيَّدُ بِقِرَاءَةِ سُبْعِ
الْقُرْآنِ أَوْ رُبُعِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَكَتَقْيِيدِ الْعَابِدِينَ
بِأَوْرَادِهِمْ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَلَا
يَنْقُصُونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ
بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلَا بُدَّ
مِنْ نَصٍّ فِي عَدَدِهَا بِعَيْنِهَا وَخُصُوصِهَا ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا
يَدْخُلُهَا إذْ أَنَّ أَفْرَادَهَا كُلَّهَا قَدْ بَيَّنَهَا صَاحِبُ
الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدِهَا
فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، فَهَذَا قَرِيبٌ ،
وَهُوَ حُكْمٌ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَقَيَّدُ
بِقِرَاءَةِ سُبْعِ الْقُرْآنِ أَوْ رُبُعِهِ كُلَّ يَوْمٍ .
فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا
ذَكَرَهُ مِنْ الْأَوْرَادِ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى مَا
الْتَزَمَهُ الْمَرْءُ مِنْ الْأَوْرَادِ الشَّرْعِيَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَاعْلَمُوا
أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ ، وَإِنْ قَلَّ } فَتَضَمَّنَ
هَذَا الْحَدِيثُ حَضَّ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ
مِنْ الْعِبَادَةِ كَيْفَمَا كَانَ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً .
الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةِ الْوِتْرِ
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِحَالِهِ وَلَا
مُخَالِفَ لَهُ فَكَانَ إجْمَاعًا
.
فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ فِي تَقْدِيرِ الْأَوْرَادِ
عَلَى مَا يَخْتَارُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَا تُقَاسُ
الْبِدْعَةُ عَلَى هَذَا .
وَقَوْلُهُ الرَّابِعُ أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ عَدَدِ
السُّوَرِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِمَا مَكْرُوهٌ لِشَغْلِ الْقَلْبِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَهُوَ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَدُّ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ
عَائِشَةَ وَطَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ
وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ .
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ
بَعْدَ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي
مَنْصُوصَاتِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرُهُمْ .
وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثُ صَلَاةِ
التَّسَابِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ
فِعْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي عَدِّ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ فِيهِ
دَلِيلٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ
فِي زَمَانِهِمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ
الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
{ تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قُلْت كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ
وَالسُّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً } .
وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ
وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ
آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ } ، فَهَذِهِ عَادَتُهُمْ بِخِلَافِ
عَادَتِنَا الْيَوْمَ فَكَانَ الْحَافِظُ مِنْهُمْ لِلْقُرْآنِ إذَا أَحْرَمَ
بِالصَّلَاةِ فَهُوَ يَعْلَمُ كَمْ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ وَعَلَى أَيِّ آيَةٍ
يَقِفُ كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ جَلِيٌّ لَا خَفَاءَ بِهِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ
إلَى حِسَابٍ وَلَا عَدٍّ ، وَإِنَّمَا تُرِكَ ذَلِكَ حِينَ أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ
تَحْزِيبَ الْقُرْآنِ فَرَجَعُوا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى الْأَحْزَابِ
وَالْأَنْصَافِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَثْمَانِ وَالْأَسْبَاعِ وَنَحْوِهَا وَمَنْ
أَحْرَمَ فِي الصَّلَاةِ
عَلِمَ كَمْ مِنْ حِزْبٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَهُ وَعَرَفَ
مَا يَقِفُ عَلَيْهِ مِنْهَا كَمَا كَانَ أُولَئِكَ يَعْلَمُونَ بِالْآيَاتِ ،
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ شَغْلٌ عَنْ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ
بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِي أَيِّ
وَقْتٍ يُتِمُّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ إلَّا بِحِسَابِ وَعَدٍّ عَلَى أَنَامِلِهِ
، وَذَلِكَ شَغْلٌ فِي الصَّلَاةِ مُتَحَقِّقٌ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ فِيهَا
وَالْمَطْلُوبُ فِي الصَّلَاةِ الْخُشُوعُ لَا عَدَدُ الرَّكَعَاتِ وَالْأَذْكَارِ
فَافْتَرَقَا .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ
الْمَشْرُوعَةِ .
وَصَلَاةُ الرَّغَائِبِ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ فَلَا
يُقَاسَ مَا هُوَ بِدْعَةٌ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ
مُسَلَّمٍ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ .
فَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ
الْغَالِبَ شَغْلُ الْقَلْبِ بِمَا يُعَدُّ وَيُحْسَبُ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { سِيرُوا بِسَيْرِ ضُعَفَائِكُمْ }
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُرَاعَى أَحْوَالُ الْقُلُوبِ وَالنَّاسِ بَلْ حَالُ
الضَّعِيفِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ فَلَا يَسِيرُ
الْقَوِيُّ إلَّا بِسَيْرِ الضَّعِيفِ
.
فَعَلَى هَذَا فَقَدْ صَارَتْ الْحَالَةُ وَاحِدَةً .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ
حَدِيثُ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ
.
فَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ
التَّسَابِيحِ قَدْ وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا فِيهِ ،
فَهِيَ إذَنْ مِنْ الصَّلَاةِ الْمُبَيَّنَةِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَلَا يُقَاسُ مَا هُوَ مُحْدَثٌ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُدَاوَمُ عَلَيْهَا وَلَا يُجْمَعُ
لَهُمَا فِي مَسْجِدٍ وَلَا فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ
عَلَى بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ
صِحَّةِ حَدِيثِ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ
.
فَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ الْمُنْذِرِيُّ
فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ لَهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فِي صَلَاةِ
التَّسَابِيحِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَبِيرُ شَيْءٍ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو
الْعُقَيْلِيُّ الْحَافِظُ لَيْسَ فِي صَلَاةِ التَّسَابِيحِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ .
وَقَوْلُهُ الْخَامِسُ فِعْلُهَا فِي جُمْلَةٍ مَعَ
أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي النَّوَافِلِ مَخْصُوصَةٌ بِالْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ
وَالِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَوِتْرِهَا .
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ أَنَّ
الْجَمَاعَةَ لَا تُسَنُّ إلَّا فِي هَذِهِ السِّتَّةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ
مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ النَّوَافِلِ .
وَفِي مُخْتَصَرِ الرَّبِيعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
قَالَ : لَا بَأْسَ بِالْإِمَامَةِ فِي النَّوَافِلِ .
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ بَاتَ
عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَوَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَأَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ { بِأَنَّهُ
قَامَ يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا مِنْ اللَّيْلِ } .
وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي دَارِهِمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ
وَصَلَّى بِهِ وَبِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأُمِّ حَرَامٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد { فَصَلَّى بِنَا
رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا .
} .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ نَحْوُهُ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فِيهِ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَوَاتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ
نَفْلًا لَيْلًا كَانَتْ أَوْ نَهَارًا فَذًّا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ مَوْقُوفٌ عَلَى
بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَحَيْثُ
جَمَعَ جَمَعْنَا وَمَا لَا فَلَا
.
وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
صَلُّوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ
وَصِفَاتِهَا وَأَوْقَاتِهَا عَلَى مَا سَبَقَ .
وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ
أَتَمَّ بَيَانٍ فَمَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَذًّا أَوْ فِي
جَمَاعَةٍ فَلْيَفْعَلْهُ الْمُكَلَّفُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ
الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } فَدَلَّ عُمُومُ
هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّافِلَةِ أَنْ تُصَلَّى فِي
الْبُيُوتِ فَشَرَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَمَاعَةَ فِي مَوَاضِعَ
مَخْصُوصَةٍ ، فَلَا يَتَعَدَّى بِهَا غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ
وَالتَّجْمِيعُ فِي النَّوَافِلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ فِي
النَّافِلَةِ فِي بَيْتِهِ وَفِي بَيْتِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ
فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا يَتَعَدَّى مَا شَرَعَهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ دَلِيلٌ حَتَّى يُقَاسَ عَلَى النَّوَافِلِ الْمَشْرُوعَةِ ، وَإِذَا
بَطَلَتْ فِي نَفْسِهَا فَكَيْفَ تُقَاسُ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ .
وَقَوْلُهُ السَّادِسُ إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَارَتْ
شِعَارًا ظَاهِرًا حَادِثًا ، وَيُمْنَعُ إحْدَاثُ شِعَارٍ ظَاهِرٍ وَجَوَابُهُ
أَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا أَصْلٌ فِي
الشَّرِيعَةِ ظَهَرَتْ وَكَثُرَتْ الرَّغَائِبُ فِيهَا ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ
يُعَكَّرَ عَلَيْهَا بِاجْتِثَاثِهَا مِنْ أَصْلِهَا فَإِنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ
عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ
مِنْ التَّأْصِيلِ وَالتَّفْصِيلِ وَالتَّفْرِيعِ وَالتَّصْنِيفِ وَالتَّدْرِيسِ شِعَارٌ
ظَاهِرٌ حَدَثٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَلِمَ لَا
يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَعٌ يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ وَشِعَارٌ ظَاهِرٌ
مُحْدَثٌ يُعَيَّنُ اجْتِنَابُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ أَنَّ صَلَاةَ
الرَّغَائِبِ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ ، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ
الْأَمْرِ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ ، وَأَنَّ أَنْوَاعَ الصَّلَاةِ كُلَّهَا
وَصِفَاتِهَا لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَقَدْ بَيَّنَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُخِذَتْ
عَنْهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا أَصْلَ لَهَا كَمَا
ادَّعَاهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ظَهَرَتْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ظُهُورِ مَا حَدَثَ
أَنْ يُلْحَقَ بِالْمَشْرُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَكَثُرَتْ
الرَّغَائِبُ فِيهَا .
فَالرَّغَبَاتُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا
رَغَبَاتِ الْعُلَمَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ أَرَادَ الْعُلَمَاءَ ، فَهُوَ
بَاطِلٌ إذْ الْعُلَمَاءُ قَدْ أَنْكَرُوهَا كَمَا سَبَقَ ، وَإِنْ أَرَادَ
غَيْرَهُمْ فَلَا عِبْرَةَ بِرَغَبَاتِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ
: لَوْ اخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْعَصْرِ
لَانْحَلَّ نِظَامُ الشَّرِيعَةِ
.
وَكَيْفَ تُعْتَبَرُ رَغَبَاتُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ
فِيمَا يُحْدِثُونَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَأَوَانٍ وَقَدْ حَفِظَ اللَّهُ الشَّرِيعَةَ
بِالْعُلَمَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يُعَكَّرَ
عَلَيْهَا بِاجْتِثَاثِهَا مِنْ
أَصْلِهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ
عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ
إلَخْ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا رَامَهُ مِنْ تَقْرِيرِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ
وَإِظْهَارِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا
لَهُ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَعُمْدَتَهُ إنَّمَا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ
فَهُوَ مَنْبَعُ الْعُلُومِ وَكُلُّ الْعُلُومِ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ وَمِنْ بَيَانِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
.
وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُونَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الصُّحُفِ وَفِي الْجَرِيدِ
وَفِي غَيْرِهِمَا عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ
وَذَلِكَ خِيفَةً مِنْهُمْ مِنْ طُرُوِّ النِّسْيَانِ عَلَيْهِمْ أَوْ الْوَهْمِ
فِي شَيْءٍ مِنْهُ .
وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ { كُنْت أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي
قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا قَالَ فَأَمْسَكْت عَنْ
الْكِتَابَةِ حَتَّى ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إلَى فِيهِ وَقَالَ اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا حَقٌّ } فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا
عَظِيمًا لِكَتْبِ الْعِلْمِ وَالتَّحَفُّظِ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَدْخُلَهُ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ
وَسَبَبًا قَوِيًّا لِحِفْظِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِهَا وَصِيَانَتِهَا
مِنْ أَنْ يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْهَا
.
فَجَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ مَا فَعَلَهُ أَصْحَابُ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنِهِ وَأَجْمَعُوا
عَلَيْهِ وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى كَتْبِهِ وَأَخَذَ
النَّاسُ عَنْهُمْ ذَلِكَ بِالْكَتْبِ
وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَكَانَ
مِنْ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ الْمُتَعَيِّنِ عَلَى الْأُمَّةِ كَافَّةً بِدْعَةً .
فَأَلْزَمَ هَذَا الْقَائِلُ الْعُلَمَاءَ بِأَنْ
يَقُولُوا عَنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ إنَّ ذَلِكَ
بِدْعَةٌ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ
يَصِحَّ هَذَا الْإِلْزَامُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ
أَنْكَرُوا صَلَاةَ الرَّغَائِبِ
.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ
قَالَ { قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكُتُبِ } فَإِذَا لَمْ يُقَيِّدُوهُ فَقَدْ
تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَكَانَتْ الشَّرِيعَةُ تَضِيعُ ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ أَمْرٌ خَطَرٌ لَوْ عَلِمَ مَا فِيهِ مَا قَالَهُ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ
إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ ، وَهُوَ أَنَّهُ رَامَ إثْبَاتَ
بِدْعَةٍ حَدَثَتْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فَوَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي
هَذَا الْأَمْرِ الْمَهُولِ ، وَهُوَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ السَّلَفُ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ بِدْعَةٌ فَإِنَّا لِلَّهِ ،
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاَلَّتِي حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ
أَثْبَتَهَا وَقَالَ عَنْهَا إنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ وَقَوْلُهُ وَقَدْ
احْتَجَّ الْمُنَازِعُ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ لَا تُسَاوِي الذِّكْرَ وَمِمَّا
يُجَابُ بِهِ عَنْهَا أَنْ يُقَالَ لَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَجَنَّبْ
وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ مَحْذُورٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِيمَا سَبَقَ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا
اللَّفْظِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ مَا أَعْجَبَهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ
الْعُلَمَاءِ إذَا عَارَضَهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ مِمَّا
قَامَ لَهُمْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ بِأَدَبٍ
وَاحْتِرَامٍ وَتَلَطُّفٍ وَاحْتِجَاجٍ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِمْ يُعَظِّمُونَهُ
وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَالَ
عَنْهَا إنَّهَا لَا تُسَاوِي الذِّكْرَ وَهِيَ مِمَّا وَجَبَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ اجْتِنَابُهُ وَيَفْسُقُ مَنْ
فَعَلَهُ أَوْ حَضَرَهُ أَوْ رَضِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، وَهِيَ اجْتِمَاعُ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُخْتَلِطِينَ بِسَبَبِ صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ فَوَجَدُوا الْوَسِيلَةَ فِيهَا إلَى أَغْرَاضِهِمْ الْخَسِيسَةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ وَمَا يَجْرِي فِيهَا وَفِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
وَغَيْرِهِمَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَرْضَاهُ
أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْهَا أَنْ
يُقَالَ لَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت
أَنَّهُ مَحْذُورٌ وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا
: تَكْرَارُ السُّورَةِ .
ثَانِيهَا : السَّجْدَتَانِ الْمُفْرَدَتَانِ عَقِبَ
هَذِهِ الصَّلَاةِ .
ثَالِثُهَا : مَا فِيهَا مِنْ التَّقَيُّدِ بِعَدَدٍ
خَاصٍّ بِغَيْرِ نَصٍّ .
رَابِعُهَا : مَا فِيهَا مِنْ أَنَّ عَدَّ السُّوَرِ
وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِمَا مَكْرُوهٌ لِشَغْلِ الْقَلْبِ .
خَامِسُهَا : فِعْلُهَا جَمَاعَةً .
سَادِسُهَا : كَوْنُهَا صَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا
حَادِثًا وَيُمْنَعُ إحْدَاثُ شِعَارٍ ظَاهِرٍ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ
أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ
ضَعِيفًا كَمَا سَبَقَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ لَكِنْ عَلَى الصِّفَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَأَمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْمَسَاجِدِ
جَمَاعَةً أَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَإِذَا تَجَنَّبَهَا بِمَا
فِيهَا لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ
جَمَاعَةً بِمَا فِيهَا ، وَلَا تُصَلِّهَا وَهِيَ كَذَلِكَ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ
بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَمْرٌ مِنْهُ لَهُ
بِفِعْلِهَا وَقَوْلُهُ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ
مَحْذُورٌ نَهْيٌ مِنْهُ عَنْ إيقَاعِهَا ؛ لِأَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ خَالِيَةً
عَنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ ، فَلَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي
يُنَازَعُ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ، وَهُوَ مُعْتَدٌّ مِنْهَا
بِقَوْلِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ اخْتِصَاصَ لَيْلَةِ
الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حَالِ مَنْ يُصَلِّي صَلَاةَ الرَّغَائِبِ أَنْ
يَدَعَ فِي بَاقِي لَيَالِيِهِ صَلَاةَ اللَّيْلِ ، وَمَنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ
يَكُنْ مُخَصِّصًا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّهُ
إذَا قَامَ لَيْلَةً غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ مُخَصِّصًا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
بِالْقِيَامِ فَتِلْكَ الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِهَا
كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ فَقَدْ صَحَّ بِمَا بَيَّنَّاهُ
وَأَصَّلْنَاهُ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ غَيْرُ مُلْحَقَةٍ بِالْبِدَعِ
الْمُنْكَرَةِ ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ ذَوَاتُ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَبِهَةٍ
فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ كَانَ بِصَدَدِ إلْحَاقِ الشَّيْءِ مِنْهَا بِغَيْرِ
نَظِيرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا رَامَهُ
مِنْ فِعْلِهَا وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْقَرْنِ
الْخَامِسِ عَلَى مَا ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَأَنَّ الْحَوَادِثَ ذَوَاتُ
وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَبِهَةٍ
.
فَقَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ
الْمُنْكَرَةِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْ الْعُلَمَاءِ فِي إنْكَارِهَا ، وَهُمْ أَعْلَمُ
بِالْحَوَادِثِ ، وَوُجُوهِهَا ، وَمِنْ أَيِّ قِسْمٍ هُوَ مَا حَدَثَ وَقَدْ
عَدُّوهَا مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُنْكَرَةِ لَا مِنْ الْحَوَادِثِ
الْمُسْتَحَبَّةِ أَوْ الْجَائِزَةِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ كَانَ بِصَدَدِ
إلْحَاقِ الشَّيْءِ مِنْهَا بِغَيْرِ نَظِيرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَعِبَارَتُهُ هَذِهِ تُفْهِمُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ
الْعُلَمَاءِ لَمْ يُمَيِّزُوا أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا الشَّيْءَ بِغَيْرِ نَظِيرِهِ
، وَأَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ مَا لَمْ يُمَيِّزُوا ، وَأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ
عَلَيْهِمْ مَا وَهَمُوا فِيهِ وَغَلِطُوا وَأَلْحَقَ الشَّيْءَ بِنَظِيرِهِ
فَأَصَابَ دُونَهُمْ عَلَى زَعْمِهِ وَقَوْلُهُ ،
فَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ يَتَضَاءَلُ بِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ الْعَظِيمُ خِلَافُ الْمُخَالِفِ ، وَيَتَبَدَّلُ بِهِ وَصْفُهُ إذَا لَمْ
يُعَانِدْ بِوَصْفِ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالِفِ يَعْنِي أَنَّهُ بَيَانٌ شَافٍ
عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِي إنْكَارِهَا ،
وَالْجَوَابُ عَمَّا أَتَى بِهِ كُلِّهِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى إعَادَتِهِ ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ إذَا لَمْ يُعَانِدْ إلَخْ فِيهِ مَا فِيهِ إذْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ
مُبَرَّءُونَ عَنْ الْعِنَادِ ؛ لِأَنَّ الْعِنَادَ هُوَ رَدُّ الْحَقِّ بَعْدَ
الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ
.
وَقَوْلُهُ وَلَا تَبْقَى لَهُ إلَّا جَعْجَعَةٌ لَا
طَائِلَ وَرَاءَهَا وَقَعْقَعَةٌ وَإِيهَامَاتٌ لَا يَغْتَرُّ بِهَا إلَّا
شِرْذِمَةٌ أَفْسَدَتْ أَهْوَاؤُهَا آرَاءَهَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ هَذِهِ
الْأَلْفَاظِ بَعِيدٌ مِنْ أَوْصَافِ الْعُلَمَاءِ إذْ أَنَّ الْعَالِمَ يُنَزِّهُ
لِسَانَهُ عَنْ أَنْ يَصِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الذَّمِيمَةِ أَحَدًا مِنْ
عَامَّةِ النَّاسِ ، فَكَيْفَ يَصِفُ بِهَا الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ سِيَّمَا
الْمُتَّبِعِينَ مِنْهُمْ الْمُحَافِظِينَ عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّابِّينَ عَنْهَا ، وَأَظُنُّ هَذَا الْكَلَامَ
إنَّمَا هُوَ مُرْتَجَلٌ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ فِي
مِثْلِ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسُّنَّةِ وَلَا
قَدْرَ الْوَعِيدِ لِمَنْ وَقَعَ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَوْ تَنَقَّصَهُ
أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
مَعَ أَنَّ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُغْنِي عَنْ
كُلِّ مَا ذَكَرَ قَبْلُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَيُّهَا
النَّاسُ إنَّهُ كَانَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ
وَالْآنَ قَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّهَا تُبَاعُ فَقَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ : رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ
عِنْدَنَا أَوْلَى مِنْ رَأْيِك وَحْدَك فَسَكَتَ عَلِيٌّ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا .
فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ
فَالرُّجُوعُ إلَى رَأْيِ
الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذِهِ الصَّلَاةَ
وَمَنْ تَبِعَهُمْ أَوْجَبُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى رَأْيِ هَذَا الْقَائِلِ
وَحْدَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَقُومُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى سَاقٍ سِيَّمَا مَعَ
إثْبَاتِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ ،
وَأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِيهَا مَوْضُوعٌ .
، وَإِنَّمَا
طَالَتْ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ
أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى الْجَوَابَ عَنْ كَلَامِهِ كُلِّهِ ، وَلَعَلَّ فِيهِ
حُجَّةٌ لِمَا ادَّعَاهُ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى نَقْلِ كَلَامِهِ بِعَيْنِهِ .
وَوَقَعَ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِفَضْلِ
اللَّهِ وَعَوْنِهِ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَقْتِ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا
مُحَمَّدِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدَ السَّلَامِ بْنَ أَبِي الْقَاسِمِ
السُّلَمِيَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَى
مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْ فَعَلَهَا لَكِنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ
مُطْلَقٍ ، وَلَمْ يَتَّبِعْ أَلْفَاظَ الْقَائِلِ بِهَا .
فَقَالَ مَا هَذَا لَفْظُهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ
الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ .
الْآخَرِ الَّذِي لَا تَحْوِيهِ مَعْرِفَةُ عَارِفٍ .
جَلَّ رَبُّنَا عَنْ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِهِ ، وَكُلُّ
خَلْقِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ ، أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي سُلْطَانِهِ ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثَ بِحُجَّتِهِ
وَبُرْهَانِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ
أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْبِدَعَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا : مَا كَانَ
مُبَاحًا كَالتَّوَسُّعِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ
وَالْمَنَاكِحِ فَلَا بَأْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ حَسَنًا ، وَهُوَ كُلُّ
مُبْتَدَعٍ مُوَافِقٍ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا
كَبِنَاءِ الرُّبُطِ وَالْخَانْقَاهْ وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
أَنْوَاعِ الْبِرِّ
الَّتِي لَمْ تُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ،
فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ اصْطِنَاعِ
الْمَعْرُوفِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَكَذَلِكَ
الِاشْتِغَالُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ مُبْتَدَعٌ ، وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى
تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَفَهْمُ مَعَانِيهِ إلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ كَانَ
ابْتِدَاعُهُ مُوَافِقًا لِمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِ
مَعَانِيهِ ، وَكَذَلِكَ تَدْوِينُ الْأَحَادِيثِ وَتَقْسِيمُهَا إلَى الْحَسَنِ
وَالصَّحِيحِ وَالْمَوْضُوعِ وَالضَّعِيفِ مُبْتَدَعٌ حَسَنٌ لِمَا فِيهِ مِنْ
حِفْظِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَدْخُلَهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ تَأْسِيسُ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ
كُلُّ ذَلِكَ مُبْتَدَعٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ غَيْرُ مُخَالِفٍ
لِشَيْءٍ مِنْهَا .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ
الشَّرِيفِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
فَمِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ ، فَإِنَّهَا
مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذِبٌ
عَلَيْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
الطُّرْطُوشِيُّ إنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَّا بَعْدَ
ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ
مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ مِنْ وُجُوهٍ يَخْتَصُّ الْعَالِمُ بِبَعْضِهَا
وَبَعْضُهَا يَعُمُّ الْعَالِمَ وَالْجَاهِلَ .
فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَالِمُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّ الْعَالِمَ إذَا صَلَّاهَا كَانَ مُوهِمًا لِلْعَامَّةِ أَنَّهَا مِنْ
السُّنَنِ فَيَكُونُ كَاذِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَلِسَانُ الْحَالِ قَدْ يُقَدَّمُ عَلَى لِسَانِ
الْمَقَالِ الثَّانِي : أَنَّ الْعَالِمَ إذَا فَعَلَهَا كَانَ مُتَسَبِّبًا فِي
أَنْ تَكْذِبَ الْعَامَّةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ : هَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ السُّنَنِ وَالتَّسَبُّبُ فِي
الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ ، وَأَمَّا مَا يَعُمُّ الْعَالِمَ وَالْجَاهِلَ
فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِعْلَ الْبِدَعِ مِمَّا يُغْرِي الْمُبْتَدَعِينَ
الْوَاضِعِينَ عَلَى وَضْعِهَا وَافْتِرَائِهَا وَالْإِغْرَاءُ بِالْبَاطِلِ ، وَالْإِعَانَةُ
عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ وَإِطْرَاحُ الْبِدَعِ وَالْمَوْضُوعَاتِ
زَاجِرٌ عَنْ وَضْعِهَا وَابْتِدَاعِهَا وَالزَّجْرُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ
أَعْلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ
.
الثَّانِي :
أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ السُّكُونِ فِي
الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا تَعْدَادَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ مَرَّةً وَتَعْدَادَ سُورَةِ الْقَدْرِ وَلَا يَتَأَتَّى عَدُّهُ فِي
الْغَالِبِ إلَّا بِتَحْرِيكِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَيُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي تَسْكِينِ
أَعْضَائِهِ .
الثَّالِثُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ خُشُوعِ
الْقَلْبِ وَخُضُوعِهِ وَحُضُورِهِ فِي الصَّلَاةِ وَتَفْرِيغِهِ لِلَّهِ
وَمُلَاحَظَةِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِي
الْقِرَاءَةِ وَالْأَذْكَارِ فَإِنَّهُ إذَا لَاحَظَ عَدَدَ السُّوَرِ بِقَلْبِهِ
كَانَ مُلْتَفِتًا عَنْ اللَّهِ مُعْرِضًا عَنْهُ بِأَمْرٍ لَمْ يُشْرَعْ فِي
الصَّلَاةِ وَالِالْتِفَاتُ بِالْوَجْهِ قَبِيحٌ شَرْعًا ، فَمَا الظَّنُّ
بِالِالْتِفَاتِ عَنْهُ بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ
النَّوَافِلِ ، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ
مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ كَصَلَاةِ
الِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ ، وَقَدْ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا
الْمَكْتُوبَةَ } .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ
الِانْفِرَادِ بِالنَّوَافِلِ فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الِانْفِرَادُ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ
الشَّارِعُ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الْمُخْتَلَقَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ السُّنَّةَ فِي
تَعْجِيلِ الْفِطْرِ إذْ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزَالُ
أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ } .
السَّابِعُ :
أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ فِي تَفْرِيغِ
الْقَلْبِ عَنْ الشَّوَاغِلِ الْمُقْلِقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ ،
فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ يَدْخُلُ فِيهَا ، وَهُوَ جَوْعَانُ ظَمْآنُ وَلَا سِيَّمَا
فِي أَيَّامِ الْحَرِّ الشَّدِيدِ
.
وَالصَّلَوَاتُ الْمَشْرُوعَةُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَعَ
وُجُودِ شَاغِلٍ يُمْكِنُ دَفْعُهُ
.
الثَّامِنُ :
أَنَّ سَجْدَتَيْهَا مَكْرُوهَتَانِ فَإِنَّ
الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِسَجْدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ لَا سَبَبَ لَهَا ، فَإِنَّ
الْقُرَبَ لَهَا أَسْبَابٌ وَشَرَائِطُ وَأَوْقَاتٌ وَأَرْكَانٌ لَا تَصِحُّ
بِدُونِهَا فَكَمَا لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْوُقُوفِ
بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
مِنْ غَيْرِ نُسُكٍ وَاقِعٍ فِي وَقْتِهِ بِأَسْبَابِهِ وَشَرَائِطِهِ فَكَذَلِكَ
لَا يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ
قُرْبَةً إلَّا إذَا كَانَ لَهَا سَبَبٌ صَحِيحٌ ؛ وَلِذَلِكَ يُتَقَرَّبُ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ
وَرُبَّمَا تَقَرَّبَ الْجَاهِلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ مُبْعِدٌ
عَنْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ
.
التَّاسِعُ : لَوْ كَانَتْ السَّجْدَتَانِ مَشْرُوعَتَيْنِ
لَكَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فِي خُشُوعِهِمَا وَخُضُوعِهِمَا بِمَا يَشْتَغِلُ
بِهِ مِنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ فِيهِمَا بِبَاطِنِهِ أَوْ بِظَاهِرِهِ أَوْ
بِبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ .
الْعَاشِرُ :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ
اللَّيَالِيِ وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ
الْأَيَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ } ، وَهَذَا
الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ الْحَادِيَ
عَشَرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِيمَا اخْتَارَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَذْكَارِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ { لَمَّا
نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { سَبِّحْ اسْمَ
رَبِّك الْأَعْلَى } قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } .
وَقَوْلُ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ إنْ صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ أَفْرَدَهَا
بِدُونِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ، وَلَا أَنَّهُ وَظَّفَهَا عَلَى أُمَّتِهِ
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُوَظِّفُ إلَّا الْأَوْلَى مِنْ الذِّكْرَيْنِ .
وَفِي قَوْلِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى مِنْ
الثَّنَاءِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاعِ هَذِهِ الصَّلَاةِ
أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ
دَوَّنَ الْكُتُبَ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ
الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ
هَذِهِ الصَّلَاةَ وَلَا دَوَّنَهَا فِي كِتَابِهِ وَلَا تَعَرَّضَ لَهَا فِي
مَجْلِسِهِ وَالْعَادَةُ تُحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا سُنَّةً وَتَغِيبُ
عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَقُدْوَةُ الْمُؤْمِنِينَ
وَهُمْ الَّذِينَ إلَيْهِمْ الرُّجُوعُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مِنْ
الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ .
وَهَذِهِ الصَّلَاةُ لَا يُصَلِّيهَا أَهْلُ الْمَغْرِبِ
الَّذِينَ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَائِفَةٍ
مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ .
وَكَذَلِكَ لَا تُفْعَلُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ
بِالسُّنَّةِ وَلَمَّا صَحَّ عِنْدَ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُفْتَرَيَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَلَهَا مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
فَطُوبَى لِمَنْ تَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَأَعَانَ عَلَى
إمَاتَةِ الْبِدَعِ وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ .
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الصَّلَاةُ
خَيْرُ مَوْضُوعٍ }
فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِصَلَاةٍ لَا تُخَالِفُ
الشَّرْعَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَأَيُّ خَيْرٍ فِي
مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ
بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَفَّقْنَا اللَّهُ لِلْإِجَابَةِ وَالِاتِّبَاعِ وَجَنَّبَنَا
الزَّيْغَ وَالِابْتِدَاعَ .
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ تَصَدَّيَا
لِلْفُتْيَا مَعَ بُعْدِهِمَا عَنْهَا سَعَيَا فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ
وَأَفْتَيَا بِتَحْسِينِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِمَّا عُهِدَ مِنْ
خَطَئِهِمَا وَزَلَلِهِمَا فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا فَمَا حَمَلَهُمَا عَلَى
ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمَا قَدْ صَلَّيَاهَا مَعَ النَّاسِ مِنْ جَهْلِهِمَا بِمَا
فِيهَا مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ فَخَافَا وَفَرَّقَا إنْ نَأَيَا عَنْهَا أَنْ
يُقَالَ لَهُمَا فَلِمَ صَلَّيْتُمَاهَا فَحَمَلَهُمَا اتِّبَاعُ الْهَوَى عَلَى أَنْ
حَسَّنَا مَا لَمْ تُحَسِّنْهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ نُصْرَةً لِهَوَاهُمَا
عَلَى الْحَقِّ وَلَوْ أَنَّهُمَا رَجَعَا إلَى الْحَقِّ وَآثَرَاهُ عَلَى
هَوَاهُمَا وَأَفْتَيَا بِالصَّوَابِ لَكَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى
مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَزْعُمُ
أَنَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَيُفْتِي بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُسَوِّغُ مُوَافَقَةَ وُضَّاعِهَا
عَلَيْهَا وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا إعَانَةٌ لِلْكَذَّابِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ اتَّبَعَ الْهَوَى ضَلَّ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ثُمَّ أَفْتَيَا بِصِحَّتِهَا مَعَ
اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِحَّةِ مِثْلِهَا
، فَإِنَّ مَنْ نَوَى صَلَاةً وَوَصَفَهَا فِي نِيَّتِهِ بِصِفَةٍ فَاخْتَلَفَتْ
تِلْكَ الصِّفَةُ فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ تَنْعَقِدُ
نَفْلًا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ،
فَإِنَّ مَنْ يُصَلِّيهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ
السُّنَنِ الْمُوَظَّفَةِ الرَّاتِبَةِ
.
وَهَذِهِ الصِّفَةُ مُتَخَلِّفَةٌ عَنْهَا ، فَأَقَلُّ
مَرَاتِبِهَا أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْخِلَافِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى
آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا
فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَالْكَلَامُ عَلَيْهَا كَالْكَلَامِ عَلَى
مَا سَبَقَ مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي الْمَنْعِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَحْدَثُوهُ
مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَبْلُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ
عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَبِيرًا
اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ النِّيَّةَ
النَّافِعَةَ هِيَ أَنْ يَقْصِدَ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى
سَوَاءٌ كَانَتْ النَّفْسُ تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَشْتَهِيهِ أَوْ تَبْغَضُهُ
وَتَقْلِيهِ فَإِنَّ السُّنَّةَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ تَرِدْ بِمُخَالَفَةِ
النَّفْسِ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ بِاتِّبَاعِهَا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ
وَأَنَّهَا مَحْكُومٌ عَلَيْهَا لَا حَاكِمَةٌ مَأْمُورَةٌ لَا آمِرَةٌ .
فَإِنْ صَادَفَ الِامْتِثَالُ غَرَضَهَا وَاخْتِيَارَهَا
وَشَهْوَتَهَا لَمْ يَضُرَّ الْعَامِلَ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ
فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } فَإِذَا تَزَوَّجَ الْإِنْسَانُ
لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ وَالْمُمْتَثِلُ فِي
أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ
.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ
عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ
الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ } فَقَدْ سَوَّى رَسُولُ
اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النَّاكِحِ الْمُتَعَفِّفِ وَالْمُجَاهِدِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي إعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { يُؤْجَرُ أَحَدُكُمْ حَتَّى فِي بُضْعِهِ لِامْرَأَتِهِ .
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا
شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ مَأْجُورًا قَالَ أَرَأَيْتُمْ إنْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ
أَكَانَ مَأْثُومًا .
قَالُوا نَعَمْ .
قَالَ كَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ يَكُونُ
مَأْجُورًا } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ
لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا تَكُونَ فِيهِ
شَهْوَةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى فِعْلِ الْعَمَلِ بَلْ
يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حُظُوظُ النَّفْسِ
وَشَهَوَاتُهَا تَابِعَةً لِلنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَتَكُونَ النِّيَّةُ
جَمِيعُهَا مُتَوَجِّهَةً لِمُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يُؤْمِنُ
أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ } أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ صَائِمًا
وَرَأَى مِنْ إحْدَى جَوَارِيهِ بِالنَّهَارِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ مِنْهُنَّ إذَا
غَرَبَتْ الشَّمْسُ جَامَعَ وَاغْتَسَلَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
يُفْطِرُ مَعَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا
فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ يُعْتِقُ رَقَبَةً فَلَوْلَا
الْفَضِيلَةُ الْعَظِيمَةُ وَالنِّيَّةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ فِي
الْبُدَاءَةِ بِالْوَطْءِ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لَمَا فَعَلَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ
عَلَى أَنَّ شَهْوَةَ الْإِنْسَانِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا بِطَبْعِهِ لَا
تَقْدَحُ فِي نِيَّتِهِ أَلْبَتَّةَ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْتِي
بِعَمَلٍ إلَّا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ دَوَاعِي النَّفْسِ وَخَوَاطِرِهَا
لَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ عَلَى الْأُمَّةِ فِي
أَمْرِ دِينِهَا .
وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ
الْأُمَّةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
.
قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَقَالَ تَعَالَى {
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
عَنْ أَبِي مُوسَى { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً
فَرَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ
قَائِمًا فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنْ
ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ { أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إلَّا
مُقَاتِلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ طَبِيعَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً
وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ احْتِسَابًا فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الشَّهِيدُ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
هَذِهِ الْخِصَالِ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ } قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ نَصٌّ جَلِيٌّ
عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ عَمَلِهِ لِلَّهِ وَعَلَى ذَلِكَ عَقَدَ نِيَّتَهُ
لَمْ تَضُرَّهُ الْخَطَرَاتُ الَّتِي تَقَعُ بِالْقَلْبِ وَلَا تُمْلَكُ عَلَى مَا
قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُحِبُّ
أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ
السُّوقِ فَقَالَ إذَا كَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِابْنِهِ : لَأَنْ تَكُونَ
قُلْتهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا إذْ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ وَقَعَ
فِي قَلْبِهِ مِنْ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي مَثَّلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَسَأَلَ أَصْحَابَهُ عَنْهَا
فَوَقَعُوا فِي شَجَرِ الْبَوَادِي هِيَ النَّخْلَةُ .
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا
إلَّا أَمْرٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يُمْلَكُ وَذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ
الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يُكْسِلُهُ
عَنْ التَّمَادِي عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يُؤْيِسُهُ مِنْ الْأَجْرِ
وَلِيَدْفَعْ الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ وَيُجَرِّدْ النِّيَّةَ
لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرُوِيَ
أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {
إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ
بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ يَدٌ } وَيُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ .
فَقَالَ رَجُلٌ إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ
ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ
الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطْرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } قَالَ الْعُلَمَاءُ
بَطْرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ .
فَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الشَّهَوَاتِ إذَا
كَانَتْ تَابِعَةً لِلِامْتِثَالِ كَانَ صَاحِبُهَا مُمْتَثِلًا .
وَقَدْ ضَيَّقَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ
إنَّ النِّيَّةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ وَرَأَى أَنَّهُ إنْ جَامَعَ
أَوْ فَعَلَ مَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ وَغَيْرَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ أَنَّ
ذَلِكَ يَكُونُ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ
.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَرُدُّهُ
وَلِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ قِيلَ بِهِ جَاءَ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا
لَا يُطَاقُ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ الْمُتَّفَقِ
عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْقُنُوطُ وَالْإِيَاسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمِنْ عَمَلٍ
يَتَخَلَّصُ لِلْعَبْدِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ
الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ { لَوْ كُنْت مُعَجِّلًا عُقُوبَةً
لَعَجَّلْتهَا عَلَى الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي } فَيَدْخُلُ الْمُكَلَّفُ فِي
الْعَمَلِ عَلَى تَحْقِيقِ تَخْلِيصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ
الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِيهِ فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ بَلَائِهِ
بِمَنِّهِ .
وَالشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ
عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ
كُلٌّ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَ عِبَادَتِهِ
وَلَمْ يُكَلِّفْهُ مِنْ الْعَمَلِ فَوْقَ طَاقَتِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { يَسِّرُوا وَلَا
تُعَسِّرُوا } وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّهُ قَالَ { إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدَّيْنَ أَحَدٌ إلَّا
غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا } الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا
تَسْعَى إذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فَأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ
بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ
تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ
هَذِهِ بِوَلَدِهَا } .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ وَأَطَأهُنَّ
وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَ رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مِنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ
الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اتِّبَاعِهِ
وَمَحَبَّتِهِ لِلِامْتِثَالِ فَرَجَعَتْ شَهَوَاتُهُ كُلُّهَا تَابِعَةً
لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا مَتْبُوعَةً لَهُ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ لَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ لَا تَدْخُلُ
تَحْتَ الِاخْتِيَارِ لَمَا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَعْمَالِ
الِاخْتِيَارِيَّةِ ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ الْإِطْنَابِ فِيهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ وَالْعُقَلَاءُ مِنْ كُلِّ
طَائِفَةٍ عَلَى التَّكَلُّمِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ .
وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ ضَرُورِيَّةً وَالْعَمَلُ
اخْتِيَارِيًّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَرْجِيحٌ
فَصْلٌ إذَا دَخَلَ الْمُكَلَّفُ فِي عَمَلٍ مِنْ
أَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْعِلْمِ فِيهِ .
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعِلْمُ
إمَامٌ وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ } وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ ، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ تَتَبُّعِ عَوَائِدِ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي
هَذَا الزَّمَانِ وَمَا رَكَنُوا إلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ حَدَثَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ
تَكُنْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ مَنُوطٌ بِالِاتِّبَاعِ
لَهُمْ وَتَرْكِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ اعْتِقَادٍ أَوْ
عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ قَدْ نَدَرَ وُقُوعُهُ
فَنُظِرَ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ فِيمَا يُشْبِهُ
ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْتُمْ الْيَوْمَ
فِي زَمَانٍ خَيْرُكُمْ فِيهِ الْمُسَارِعُ وَيَأْتِي بَعْدَكُمْ زَمَانٌ يَكُونُ
خَيْرُكُمْ فِيهِ الْمُتَثَبِّتُ الْمُتَبَيِّنُ يَعْنِي لِبَيَانِ الْحَقِّ
وَالْيَقِينِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَلِكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ وَالِالْتِبَاسِ
فِي زَمَانِنَا هَذَا وَدُخُولِ الْمُحْدَثَاتِ مَدَاخِلَ اللَّيْلِ فِي السِّتْرِ
وَقَدْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ إلَّا عَلَى الْفَرْدِ الَّذِي يَعْرِفُ طَرَائِقَ
السَّلَفِ فَيَجْتَنِبُ الْحَدَثَ كُلَّهُ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْكُنَ إلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ
الْهَوَاتِفِ الَّتِي تَهْتِفُ بِهِ فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ وَمِنْ الرُّجُوعِ
إلَى سَهْوِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الصَّدْرُ
الْأَوَّلُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْكُنُ إلَى رُؤْيَا يَرَاهَا فِي مَنَامِهِ
تَكُونُ مُخَالِفَةً لِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاتِّبَاعِ لَهُمْ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا
الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَنَامِهِ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَيَنْتَبِهُ مِنْ
نَوْمِهِ فَيُقْدِمُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ بِمُجَرَّدِ الْمَنَامِ دُونَ أَنْ
يَعْرِضَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى قَوَاعِدِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ تَعَالَى
فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ أَيْ : إلَى
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَالرَّسُولِ أَيْ : إلَى
الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى مَا قَالَهُ
الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا لَا شَكَّ فِيهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي } عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ .
لَكِنْ لَمْ يُكَلِّفْ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ
بِشَيْءٍ مِمَّا يَقَعُ لَهُمْ فِي مَنَامِهِمْ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُفِعَ
الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ وَعَدَّ فِيهِمْ النَّائِمَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ } ؛
لِأَنَّهُ إذَا كَانَ نَائِمًا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَلَا يَعْمَلُ
بِشَيْءٍ يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ هَذَا وَجْهٌ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالرِّوَايَةَ
لَا يُؤْخَذَانِ إلَّا مِنْ مُتَيَقِّظٍ حَاضِرِ الْعَقْلِ وَالنَّائِمُ لَيْسَ
كَذَلِكَ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَنَامِ
مُخَالِفٌ لِقَوْلٍ صَاحِبِ
الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
حَيْثُ قَالَ { تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ
بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي } وَفِي رِوَايَةٍ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي .
فَجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النَّجَاةَ
مِنْ الضَّلَالَةِ فِي التَّمَسُّكِ بِهَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ فَقَطْ لَا ثَالِثَ
لَهُمَا ، وَمَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مَا يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ فَقَدْ زَادَ لَهُمَا ثَالِثًا
فَعَلَى هَذَا مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَنَامِهِ وَأَمَرَهُ بِشَيْءٍ أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
عَرْضُ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إنَّمَا كَلَّفَ أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِمَا .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا
فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } الْحَدِيثَ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ
وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ،
فَإِذَا عَرَضَهَا عَلَى شَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ
وَافَقَتْهَا عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ ، وَأَنَّ الْكَلَامَ حَقٌّ وَتَبْقَى
الرُّؤْيَا تَأْنِيسًا لَهُ ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ
، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي وَقَعَ لَهُ فِيهِ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ لَهُ فِي
ذِهْنِهِ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُوَسْوِسَانِ لَهُ فِي حَالِ
يَقَظَتِهِ فَكَيْفَ فِي حَالِ نَوْمِهِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عُلَمَاؤُنَا
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ غَيْرَ مَا مَرَّةٍ نَقْلًا عَنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَأَمَرَ بِشَيْءٍ
أَوْ نَهَى عَنْ شَيْءٍ فَالْوَاجِبُ فِيهِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى وَسُنَّةِ
نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنْ وَافَقَ
عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ وَأَنَّ الْكَلَامَ حَقٌّ وَتَكُونُ الرُّؤْيَا
تَأْنِيسًا لِلرَّائِي وَبِشَارَةً لَهُ ، وَإِنْ خَالَفَتْ عَلِمَ أَنَّ
الرُّؤْيَا حَقٌّ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْصَلَ إلَى سَمْعِ الرَّائِي غَيْرَ مَا
تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ
الْمَنَامُ مِمَّا يُتَعَبَّدُ بِهِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَبَّهَ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ وَلَوْ مَرَّةً
وَاحِدَةً كَمَا فَعَلَ فِي غَيْرِهِ
.
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا
يَحْيَى النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ تَهْذِيبِ
الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ قَالَ وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآهُ حَقًّا
فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُعْمَلُ
بِمَا يَسْمَعُهُ الرَّائِي مِنْهُ فِي الْمَنَامِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ
بِالْأَحْكَامِ خِلَافَ مَا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ لِعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي
لَا لِلشَّكِّ فِي الرُّؤْيَا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِنْ
ضَابِطٍ مُكَلَّفٍ وَالنَّائِمُ بِخِلَافِهِ فَعَلَى هَذَا فَمَنْ رَأَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ وَخَاطَبَهُ
وَكَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى ذِهْنِ الرَّائِي لَفْظٌ أَوْ أَلْفَاظٌ مِنْ
الْعَوَائِدِ الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي زَمَنِ الرَّائِي أَوْ قَبْلَهُ
وَتَكُونُ مُخَالِفَةً لِشَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا
يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ التَّدَيُّنُ بِهَا وَلَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ
مَا وَصَلَ إلَى ذِهْنِهِ فِي مَنَامِهِ مِمَّا خَالَفَ الشَّرِيعَةَ
الْمُطَهَّرَةَ أَنَّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ تَنْزِيهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ وَمَا شَاكَلَهُ إلَيْهِ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ .
إذْ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ إلَّا دُونَ مَا يَكُونُ مِنْ
الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ .
سِيَّمَا وَقَدْ نَقَلَ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِ الذَّخِيرَةِ لَهُ قَالَ قَالَ
الْعُلَمَاءُ : لَا تَصِحُّ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَطْعًا إلَّا لِرَجُلَيْنِ صَحَابِيٌّ رَآهُ أَوْ حَافِظٌ لِصِفَتِهِ حِفْظًا
يَحْصُلُ لَهُ مِنْ السَّمَاعِ مَا يَحْصُلُ لِلرَّائِيِّ لَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ الرُّؤْيَا حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ
مِثَالُهُ مِنْ كَوْنِهِ أَسْوَدَ أَوْ أَبْيَضَ أَوْ شَيْخًا أَوْ شَابًّا إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الرَّائِي الَّتِي تَظْهَرُ فِيهِ كَمَا تَظْهَرُ فِي
الْمِرْآةِ أَحْوَالُ الرَّائِينَ
.
وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ صِفَةُ الرَّائِينَ لَا صِفَةُ
الْمِرْآةِ فَإِذَا كَانَتْ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الَّتِي ضَمِنَ فِيهَا عَدَمَ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ عَلَى
الرَّائِي إذَا رَآهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى
صِفَةِ الرَّائِي وَحَالِهِ وَالْجَنَابُ الْكَرِيمُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ وَأَشْبَاهِهِ
فَمَا بَالُك بِسَمَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي لَمْ تُضْمَنْ الْعِصْمَةُ فِيهِ
لِلرَّائِي .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ ضَمِنَتْ الْعِصْمَةَ فِيهَا لِلرَّائِي
فَيُقَاسُ عَلَيْهَا سَمَاعُ الْكَلَامِ .
فَالْجَوَابُ مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ
الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ
آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَيُوَسْوِسُ لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فِي الْيَقَظَةِ
وَالْمَنَامِ فَجَاءَ النَّصُّ فِي عِصْمَتِهِ إذَا رَأَى الرَّائِي صُورَتَهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَنَامِهِ وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ لَا
يُؤْمَنُ فِيهِ تَلْبِيسُ الشَّيْطَانِ عَلَى الرَّائِي .
وَمِنْ الْإِكْمَالِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَوْلُهُ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي
} وَفِي رِوَايَةٍ { فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي
لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { مَنْ
رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ } قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَلَفَ
الْمُحَقِّقُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَذَهَبَ الْقَاضِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى
أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآنِي فِي
الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي } أَنَّهُ رَأَى الْحَقَّ وَأَنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ
أَضْغَاثًا وَلَا مِنْ تَشْبِيهَاتِ الشَّيْطَانِ وَعَضَّدَ مَا قَالَهُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ { مَنْ رَآنِي
فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ } إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ
مِنْ الْمَنَامِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي } إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ
رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ أَضْغَاثًا ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَقًّا .
وَقَدْ يَرَاهُ الرَّائِي عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ الْمَنْقُولَةِ
إلَيْنَا كَمَا لَوْ رَآهُ شَيْخًا أَبْيَضَ اللِّحْيَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِ
لَوْنِهِ أَوْ يَرَاهُ رَائِيَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ
وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ وَيَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَهُ فِي مَكَانِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى
ظَاهِرِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَقْلَ يُحِيلُهُ
حَتَّى يَضْطَرَّ إلَى صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَأَمَّا الِاعْتِلَالُ
بِأَنَّهُ يُرَى عَلَى خِلَافِ صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَفِي مَكَانَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ مَعًا فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي صِفَاتِهِ وَتَخَيُّلٌ لَهَا
عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ
.
وَقَدْ تُظَنُّ بَعْضُ الْخَيَالَاتِ مَرْئِيَّاتٍ لِكَوْنِ
مَا يُتَخَيَّلُ مُرْتَبِطًا بِمَا يُرَى فِي الْعَادَةِ فَتَكُونُ ذَاتُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْئِيَّةً وَصِفَاتُهُ مُتَخَيَّلَةً غَيْرَ
مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحْدِيقُ الْأَبْصَارِ
وَلَا قُرْبَ الْمَسَافَاتِ وَلَا كَوْنَ الْمَرْئِيِّ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ
وَلَا ظَاهِرًا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَلَمْ
يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ جِسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ
جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ اخْتِلَافُ
الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ بِمُرَاءَاتِهَا الدَّلَالَاتِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ فِي بَابِ رُؤْيَا
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا رُئِيَ شَيْخًا فَهُوَ عَامُ سِلْمٍ ، وَإِذَا رُئِيَ شَابًّا
فَهُوَ عَامُ حَرْبٍ .
وَكَذَلِكَ أَحَدُ جَوَابِهِمْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رُئِيَ آمِرًا بِقَتْلِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ فَإِنَّ
ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا الْمَرْئِيَّةِ وَجَوَابُهُمْ
الثَّانِي مَنْعُ وُقُوعِ مِثْلِ هَذِهِ وَلَا وَجْهَ عِنْدِي لِمَنْعِهِمْ
إيَّاهُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِتَخَيُّلِ الصِّفَاتِ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ
مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي فَقَدْ
رَأَى الْحَقَّ إذَا رَأَوْهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي
حَيَاتِهِ لَا عَلَى صِفَةٍ مُضَادَّةٍ لِحَالِهِ فَإِنْ رُئِيَ عَلَى غَيْرِ
هَذَا كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيلٍ لَا رُؤْيَا حَقِيقِيَّةٍ فَإِنَّ مِنْ الرُّؤْيَا
مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِهِ وَمِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وَعِبَارَةٍ .
ثُمَّ قَالَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ
رُؤْيَا اللَّهِ فِي الْمَنَامِ ، وَإِنْ رُئِيَ عَلَى صِفَةٍ لَا تَلِيقُ بِجَلَالِهِ
مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ لِتَحَقُّقِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَرْئِيَّ غَيْرُ ذَاتِ
اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّجْسِيمُ وَلَا اخْتِلَافُ
الْحَالَاتِ بِخِلَافِ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النَّوْمِ فَكَانَتْ رُؤْيَاهُ تَعَالَى كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الرُّؤْيَا مِنْ التَّمْثِيلِ
وَالتَّخْيِيلِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : رُؤْيَا اللَّهِ
تَعَالَى فِي النَّوْمِ أَوْهَامٌ وَخَوَاطِرُ فِي الْقَلْبِ بِأَمْثَالٍ لَا
تَلِيقُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَتَعَالَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا
وَهِيَ دَلَالَاتٌ لِلرَّائِي عَلَى أُمُورٍ مِمَّا كَانَ وَيَكُونُ كَسَائِرِ
الْمَرْئِيَّاتِ .
قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي
الْيَقَظَةِ أَوْ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ } فَإِنْ كَانَ
الْمَحْفُوظُ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ فَتَأْوِيلُهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا
تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ فَيَحْتَمِلُ
أَنْ يُرِيدَ أَهْلَ عَصْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ إذَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ
وَيَكُونُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُؤْيَا الْمَنَامِ عَلَمًا عَلَى
رُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ وَأَوْحَى بِذَلِكَ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَرَى تَصْدِيقَ
تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ وَصِحَّتَهَا .
وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ
فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ أَيْ : فِي الْآخِرَةِ إذْ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ
جَمِيعُ أُمَّتِهِ مَنْ رَآهُ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَبْعُدُ
عِنْدِي أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِهَذَا وَأَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ فِي النَّوْمِ عَلَى
الصِّفَةِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا وَوُصِفَ عَلَيْهَا مُوجِبَةً لِكَرَامَتِهِ فِي
الْآخِرَةِ وَرُؤْيَتُهُ إيَّاهُ رُؤْيَةً خَاصَّةً مِنْ الْقُرْبِ
مِنْهُ وَالشَّفَاعَةِ السَّابِقَةِ فِيهِ وَنَحْوِ
هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّةِ الرُّؤْيَةِ
.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا أَيْ : لَا
يَجْتَمِعَانِ فِي الْآخِرَةِ وَيَبْعُدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ
وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُعَاقِبَ اللَّهُ بَعْضَ الْمُذْنِبِينَ فِي الْقِيَامَةِ بِمَنْعِهِمْ
رُؤْيَةَ مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَشَفِيعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِنْ الذَّخِيرَةِ لِلْقَرَافِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى قَالَ الْكَرْمَانِيُّ الرُّؤْيَا ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ سَبْعَةٌ لَا
تُعَبَّرُ وَوَاحِدَةٌ تُعَبَّرُ فَقَطْ .
فَالسَّبْعَةُ مَا نَشَأَ عَنْ الْأَخْلَاطِ الْأَرْبَعَةِ
الْغَالِبَةِ عَلَى الرَّائِي .
فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ رَأَى اللَّوْنَ
الْأَحْمَرَ وَالْحَلَاوَاتِ وَأَنْوَاعَ الطَّرَبِ أَوْ الصَّفْرَاءُ رَأَى
الْحَرُورَ وَالْأَلْوَانَ الصُّفْرَ وَالْمَرَارَاتِ .
أَوْ الْبَلْغَمُ رَأَى الْمِيَاهَ وَالْأَلْوَانَ
الْبِيضَ وَالْبُرُدَ .
أَوْ السَّوْدَاءُ رَأَى الْأَلْوَانَ السُّودَ
وَالْمَخَاوِفَ وَالطُّعُومَ الْحَامِضَةَ .
وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْأَدِلَّةِ الطِّبِّيَّةِ
الدَّالَّةِ عَلَى غَلَبَةِ ذَلِكَ الْخَلْطِ عَلَى ذَلِكَ الرَّائِي .
الْخَامِسُ : مَا هُوَ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ
وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِجَوَلَانِهِ فِي النَّفْسِ فِي الْيَقَظَةِ .
السَّادِسُ :
مَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَيُعْرَفُ بِكَوْنِهِ
يَأْمُرُ بِمُنْكَرٍ أَوْ مَعْرُوفٍ يُؤَدِّي إلَى مُنْكَرٍ كَمَا إذَا أَمَرَهُ
بِالتَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ فَيُضَيِّعُ عَائِلَتَهُ وَأَبَوَيْهِ السَّابِعُ : مَا
يَكُونُ فِيهِ احْتِلَامٌ .
وَاَلَّذِي يُعَبَّرُ هُوَ مَا يَنْقُلُهُ مَلَكُ
الرُّؤْيَا مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ
يَنْقُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أُمُورَ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ مِنْ اللَّوْحِ
الْمَحْفُوظِ كَذَلِكَ .
انْتَهَى مَا قَالَهُ الْكَرْمَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مُسْلِمٍ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ قُتَيْبَةَ فِي تَأْلِيفِهِ الَّذِي أَجَابَ
فِيهِ عَنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهَا التَّنَاقُضُ وَالِاخْتِلَافُ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى
أَقْسَامِ الرُّؤْيَا فَقَالَ : وَإِنَّمَا يَكُونُ الرُّؤْيَا الصَّحِيحَةُ
الَّتِي يَأْتِي بِهَا الْمَلَكُ مِنْ نُسْخَةِ أُمِّ الْكِتَابِ فِي الْحِينِ
بَعْدَ الْحِينِ .
ثُمَّ قَالَ حَدَّثَنِي سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي
الْأَصْمَعِيُّ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ أَوْ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ كُنْت
أَحْضُرُ ابْنَ سِيرِينَ يَسْأَلُ عَنْ الرُّؤْيَا فَكُنْت أُحْرِزُهُ
يُعَبِّرُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ وَاحِدَةً ، وَهَذِهِ
الصَّحِيحَةُ هِيَ الَّتِي تَجُولُ حَتَّى يُعَبِّرَهَا الْعَالِمُ بِالْقِيَاسِ
الْحَافِظُ لِلْأُصُولِ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ ، فَإِذَا عَبَّرَهَا وَقَعَتْ
كَمَا قَالَ .
{ فَصْلٌ } إذَا كَانَتْ الرُّؤْيَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ التَّفْصِيلِ وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْهَا قِسْمٌ وَاحِدٌ
فَكَيْفَ يُمْكِنُ السُّكُونُ إلَى مَا يَرَاهُ الرَّائِي فِي نَوْمِهِ مَعَ
وُجُودِ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ أَوْ الْإِقْدَامُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا يَرَاهُ
الرَّائِي فِي نَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
الْمَضْمُونُ لَهُ الْعِصْمَةُ فِي اتِّبَاعِهَا هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ .
وَقَدْ قَالَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ضَمِنَ لَك الْعِصْمَةَ
فِي جَانِبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَمْ يَضْمَنْهَا لَك فِي الْكَشْفِ
وَالْإِلْهَامِ .
هَذَا ، وَهُوَ فِي حَالِ الْيَقَظَةِ الَّتِي هِيَ
مَحَلُّ التَّكْلِيفِ ؛ لِأَنَّ الْكَشْفَ فِيهِ أَجْلَى مِنْ النَّوْمِ فَمَا
بَالُك بِمَنْ هُوَ غَيْرُ حَاضِرِ الْعَقْلِ ، وَقَدْ رُفِعَ عَنْهُ الْخِطَابُ
فِي حَالِ نَوْمِهِ .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
يَرَوْنَ فِي الْيَقَظَةِ أَشْيَاءَ ثُمَّ لَا يَرْجِعُونَ إلَيْهَا إلَّا بَعْدَ
عَرْضِهِمْ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ
وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ إمَامُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ
الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ
وَيَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
يَطِيرُ مِنْ الْمَشْرِقِ إلَى الْمَغْرِبِ وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ ، وَلَكِنْ
اُنْظُرُوا فِي اتِّبَاعِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا
يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا أَوْ كَمَا قَالَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ قَدْ شُرِعَ الْأَذَانُ بِسَبَبِ
الْمَنَامِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ مِنْ عَرْضِ الرُّؤْيَا عَلَى الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَإِذَا
وَافَقَتْ أُمْضِيَتْ ، وَإِنْ خَالَفَتْ تُرِكَتْ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَمْ
يَعْمَلُوا بِمَا رَأَوْهُ حَتَّى عَرَضُوهُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَشَرَّعَ بِمَا رَآهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ .
قَالَ تَعَالَى { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ
الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَالْوَحْيُ
عَلَى قِسْمَيْنِ وَحْيٌ بِوَاسِطَةِ الْمَلَكِ وَوَحْيُ إلْهَامٍ ؛ لِأَنَّ مَا
يَرَاهُ الرَّائِي يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَاضِي وَيَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْتَقْبَلِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا حَكَاهُ أَصْحَابُ عِلْمِ
التَّعْبِيرِ فِي كُتُبِهِمْ فَوَجَبَ أَنْ يُرْجَعَ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ انْتِقَالِهِ
إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ
سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَيَقُولُ مَنْ رَأَى
مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَالَ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ رُؤْيَا قَصَّهَا
فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ هَلْ رَأَى
أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا قُلْنَا لَا قَالَ لَكِنِّي رَأَيْت اللَّيْلَةَ
رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي } الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا يُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا قَدْ تَكُونُ وَحْيًا مِنْ اللَّهِ
تَعَالَى إمَّا فِي حَقِّ الرَّائِي نَفْسِهِ أَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُمْ لِيَقِفَ بِذَلِكَ عَلَى مَا رَأَوْهُ فَيَعْلَمَ مَا هُوَ
مِنْ جِهَةِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِالرُّؤْيَا مِنْ غَيْرِهِ وَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ
بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالرَّائِي وَمَا
هُوَ لِغَيْرِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِهَا فَكَانُوا يَرْجِعُونَ
إلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا إلَى مَا رَأَوْهُ فَكَذَلِكَ
الْحُكْمُ بَعْدَ انْتِقَالِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَالرُّجُوعُ
إلَى شَرِيعَتِهِ لَا إلَى الْمَرْئِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِذَا
عُرِضَتْ الرُّؤْيَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَوَافَقَتْ فَهُوَ حَقٌّ
وَبِشَارَةٌ لِلرَّائِي أَوْ مَنْ رَآهَا لَهُ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْ
النُّبُوَّةِ إلَّا الْمُبَشِّرَاتُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى
لَهُ } وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَعْرِضَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا يَجْرِي
عَلَى يَدِي الْمُبَارِكِينَ الْمُتَّبِعِينَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ مِنْ خَرْقِ الْعَادَةِ مِثْلُ الْقَلِيلِ يَصِيرُ كَثِيرًا وَمِثْلُ
الطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَصَفَاءِ الْبَاطِنِ
وَالنَّظَرِ بِالنُّورِ وَسَمَاعِ الْخِطَابِ وَالْهَوَاتِفِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ أَحْوَالِهِمْ السُّنِّيَّةِ ، فَإِذَا عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ فَوَافَقَ كَانَ بِشَارَةً ، وَتَأْنِيسًا لِمَنْ وَقَعَ لَهُ أَوْ
فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْكُنْ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ ، فَإِنْ
سَكَنَ خِيفَ عَلَيْهِ وَقَدْ قَالُوا إنَّ الْكَرَامَةَ كَرَامَةٌ مَا لَمْ
يُحَدِّثْ بِهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَدَّتْ إلَى ذَلِكَ أَوْ يَزْهُو بِهَا .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ الشُّكْرُ عَلَى مَا
خُلِعَ عَلَيْهِ مِنْ عَلَامَاتِ الْقَبُولِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ } وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخَوْفُ
خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجًا أَوْ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ .
وَقَدْ قَالَ سُرِّيُّ السَّقَطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
لَوْ أَنَّ وَاحِدًا دَخَلَ بُسْتَانًا فِيهِ أَشْجَارٌ كَثِيرَةٌ وَعَلَى كُلِّ
شَجَرَةٍ طَيْرٌ يَقُولُ لَهُ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا وَلِيَّ
اللَّهِ فَلَمْ يَخَفْ أَنَّهُ مَكْرٌ لَكَانَ مَمْكُورًا بِهِ .
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو
عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ فِي { قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَيْثُ قِيلَ لَهُ إنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ ازْدَادَ يَقِينًا لَمَشَى فِي الْهَوَاءِ
} فَقَالَ إنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَشَارَ بِهَذَا الْقَوْلِ إلَى نَفْسِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ ؛ لِأَنَّ فِي
لَطَائِفِ
الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ أَنَّهُ قَالَ فَلَمَّا
بَلَغْت الرَّفْرَفَ رَأَيْت الْبُرَاقَ قَدْ بَقِيَ وَمَشَيْت يَعْنِي أَنَّهُ
مَشَى فِي الْهَوَاءِ إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى .
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ
قَالَ قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى الْمَاءِ وَمَاتَ بِالْعَطَشِ
أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا وَقَوْلُهُ مَشَى فِي الْهَوَاءِ إلَى الْمَلِكِ
الْأَعْلَى يُرِيدُ مَعَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ عَنْ الْجِهَةِ وَالْمَكَانِ
وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنَّ أَكْبَرَ
الْكَرَامَاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَالْعَضُّ عَلَيْهَا
بِالنَّوَاجِذِ وَالتَّشْمِيرُ لِامْتِثَالِ مَا وَرَدَتْ بِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ
وَأَوَانٍ وَتَرْكُ الْبِدَعِ وَقِلَاهَا وَتَرْكُ الِالْتِفَاتِ لِمَنْ
يَتَعَاطَاهَا أَوْ يَرْضَى بِهَا إذْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ زَمَانَ ذَلِكَ وَلَيْسَ
ثَمَّ أَسْبَابٌ تُعِينُ عَلَيْهِ إلَّا فَضْلُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
فِي هَذَا الزَّمَانِ لِعَدَمِ الْيَقِينِ وَضَعْفِ الْإِيمَانِ لَا يَسْكُنُونَ
لِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الِاتِّبَاعِ وَلُزُومِ الْخَيْرِ
وَالْمُسَارَعَةِ إلَيْهِ حَتَّى يَرَوْا كَرَامَةً أَوْ رُؤْيَا مَنَامٍ وَكُلُّ
ذَلِكَ مُهْمَلٌ يَحْتَمِلُ لِأَشْيَاءَ وَالِاتِّبَاعُ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا
وَجْهًا وَاحِدًا ، وَهُوَ التَّوْفِيقُ ؛ لِأَنَّهُ خُلْعَةٌ مُحَقَّقَةٌ
خُلِعَتْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَرَاهَا
إلَّا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ
فَصْلٌ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ وَمَشْيِهِمْ عَلَى
قَانُونِ الشَّرِيعَةِ وَتَرْكِ مَا عَدَاهَا وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لَهُ
.
اعْلَمْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ
وَقَلْبَهُ الطَّاهِرَ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ
نَقْشٍ وَصُورَتِهِ ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ نَقْشٍ وَقَابِلٌ لِكُلِّ مَا
يُمَالُ بِهِ إلَيْهِ فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ
وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ يُشَارِكُهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ
وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ
إهْمَالَ الْبَهَائِمِ شَقِيَ وَهَلَكَ ، وَكَانَ الْوِزْرُ فِي رَقَبَةِ الْقَيِّمِ
بِهِ وَالْوَلِيِّ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { قُوا أَنْفُسَكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } وَمَهْمَا كَانَ الْأَبُ يَصُونُهُ مِنْ نَارِ الدُّنْيَا
فَيَنْبَغِي أَنْ يَصُونَهُ مِنْ نَارِ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ أَوْلَى وَصِيَانَتُهُ
بِأَنْ يُؤَدِّبَهُ وَيُهَذِّبَهُ وَيُعَلِّمَهُ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ
وَيَحْفَظَهُ مِنْ الْقُرَنَاءِ السُّوءِ وَلَا يُعَوِّدَهُ التَّنَعُّمَ وَلَا
يُحَبِّبَ إلَيْهِ الزِّينَةَ وَأَسْبَابَ الرَّفَاهِيَةِ فَيُضَيِّعَ عُمُرَهُ
فِي طَلَبِهَا إذَا كَبُرَ وَيَهْلِكَ هَلَاكَ الْأَبَدِ .
بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُرَاقِبَهُ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ
فَلَا يُشْغِلُ فِي حَضَانَتِهِ وَإِرْضَاعِهِ إلَّا امْرَأَةٌ صَالِحَةٌ
مُتَدَيِّنَةٌ تَأْكُلُ الْحَلَالَ فَإِنَّ اللَّبَنَ الْحَاصِلَ مِنْ الْحَرَامِ
لَا بَرَكَةَ فِيهِ فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ نَشْأَةُ الصَّبِيِّ عَجَنَتْ طِينَتَهُ
فَيَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى مَا يُنَاسِبُ الْخَبَائِثَ وَمَهْمَا بَدَتْ فِيهِ
مَخَايِلُ التَّمْيِيزِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْسِنَ مُرَاقَبَتَهُ وَأَوَّلُ ذَلِكَ
ظُهُورُ أَوَائِلِ الْحَيَاءِ فَإِذَا كَانَ يَحْتَشِمُ وَيَسْتَحِي وَيَتْرُكُ
بَعْضَ الْأَفْعَالِ فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِإِشْرَاقِ نُورِ الْعَقْلِ عَلَيْهِ
حَتَّى رَأَى بَعْضَ الْأَشْيَاءِ قَبِيحَةً وَمُخَالِفَةً لِبَعْضِهَا فَصَارَ
يَسْتَحِي مِنْ شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ
إلَيْهِ وَبِشَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْأَخْلَاقِ وَصَفَاءِ
الْقَلْبِ ، وَهُوَ مُبَشِّرٌ بِكَمَالِ الْعَقْلِ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَالصَّبِيُّ
الْمُسْتَحِي لَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْمَلَ بَلْ يُعَانُ عَلَى تَأْدِيبِهِ
بِكَمَالِ حَيَائِهِ وَتَمْيِيزِهِ
.
وَأَوَّلُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ شَرَهُ
الطَّعَامِ فَيُعَلِّمُهُ مَتَى يَأْكُلُ وَيُعَلِّمُهُ أَنَّهُ لَا يُسْرِعُ فِي
الْأَكْلِ وَيَمْضُغُ الطَّعَامَ مَضْغًا جَيِّدًا وَلَا يُوَالِي بَيْنَ
اللُّقَمِ وَلَا يُلَطِّخُ يَدَهُ وَلَا ثَوْبَهُ وَيُعَوِّدُهُ الْخُبْزَ
الْقِفَارَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يَصِيرَ بِحَيْثُ يَرَى الْإِدَامَ
حَتْمًا وَيُقَبِّحُ عِنْدَهُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ بِأَنْ يُشَبِّهَ مِنْ يُكْثِرُ
الْأَكْلَ بِالْبَهَائِمِ وَأَنْ يَذُمَّ بَيْنَ يَدَيْهِ الصَّبِيَّ الَّذِي يُكْثِرُ
الْأَكْلَ وَيَمْدَحُ بَيْنَ يَدَيْهِ الصَّبِيَّ الْمُتَأَدِّبَ الْقَلِيلَ
الْأَكْلِ وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ الْإِيثَارَ بِالطَّعَامِ وَقِلَّةَ الْمُبَالَاةِ
وَالْقَنَاعَةَ بِالطَّعَامِ الْخَشِنِ أَيَّ طَعَامٍ كَانَ وَيُحَبِّبَ إلَيْهِ
مِنْ الثِّيَابِ الْأَبْيَضَ دُونَ الْمُلَوَّنِ وَالْإِبْرَيْسَمِ وَيُقَرِّرَ
عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ لِبَاسُ النِّسَاءِ وَالْمُخَنَّثِينَ مِنْ الرِّجَالِ
وَمَهْمَا رَأَى عَلَى الصَّبِيِّ ثَوْبًا مِنْ إبْرَيْسَمٍ أَوْ مُلَوَّنٍ
فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنْكِرَهُ وَيَذُمَّ ذَلِكَ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ
إلَى الْمَكْتَبِ وَيُشْغَلَ بِتَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَبِأَحَادِيثِ الْأَنْبِيَاءِ
وَحِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَالْأَخْيَارِ وَمَا قَارَبَ ذَلِكَ وَيُمْنَعَ مِنْ
سَمَاعِ الْأَشْعَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ الْعِشْقِ وَأَهْلِهِ وَيُحْفَظَ مِنْ
مُخَالَطَةِ الْأُدَبَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الظَّرْفِ
وَرِقَّةِ الطَّبْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَغْرِسُ فِي قُلُوبِ الصِّبْيَانِ الْفَسَادَ
ثُمَّ مَهْمَا ظَهَرَ مِنْ الصَّبِيِّ خُلُقٌ جَمِيلٌ وَفِعْلٌ مَحْمُودٌ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرَّمَ وَيُجَازَى عَلَيْهِ بِمَا يَفْرَحُ بِهِ وَيُمْدَحَ
بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مَرَّةً فَيَنْبَغِي
أَنْ يُتَغَافَلَ عَنْهُ وَلَا يُهْتَكَ سِتْرُهُ وَلَا
يُكَاشَفَهُ وَلَا يُظْهَرَ أَنَّهُ يَتَصَوَّرُ أَنَّ
أَحَدًا يَتَحَاشَى عَنْ مِثْلِهِ لَا سِيَّمَا إذَا سَتَرَهُ الصَّبِيُّ
وَاجْتَهَدَ فِي إخْفَائِهِ فَإِنَّ إظْهَارَ ذَلِكَ رُبَّمَا يُفِيدُهُ جَسَارَةً
حَتَّى لَا يُبَالِي بِالْمُكَاشَفَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ عَادَ ثَانِيًا فَيَنْبَغِي
أَنْ يُعَاقَبَ سِرًّا وَيُعَظَّمَ الْأَمْرُ فِيهِ وَيُقَالَ لَهُ إنْ يُطَّلَعْ
عَلَيْك فِي مِثْلِ هَذَا تَفْتَضِحْ بَيْنَ يَدَيْ النَّاسِ وَلَا يُكْثِرُ
الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِالْعِتَابِ فِي كُلِّ حِينٍ فَإِنَّهُ يُهَوِّنُ عَلَيْهِ
سَمَاعَ الْمَلَامَةِ وَرُكُوبَ الْقَبَائِحِ وَيُسْقِطُ وَقْعَ الْكَلَامِ مِنْ
قَلْبِهِ ، وَلَكِنَّ الْأَبَ حَافِظًا هَيْبَةَ الْكَلَامِ مَعَهُ لَا
يُوَبِّخُهُ إلَّا أَحْيَانًا وَالْأُمَّ تُخَوِّفُهُ بِالْأَبِ وَتَزْجُرُهُ عَنْ
الْقَبَائِحِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ النَّوْمَ نَهَارًا ،
فَإِنَّهُ يُورِثُ الْكَسَلَ وَلَا يُمْنَعَ النَّوْمَ لَيْلًا ، وَلَكِنْ
يُمْنَعَ الْفُرُشَ الْوَطِيئَةَ حَتَّى تَصْلُبَ أَعْضَاؤُهُ وَلَا يُخَصِّبُ
بَدَنَهُ فَلَا يَصْبِرُ عَنْ التَّنَعُّمِ بَلْ يُعَوِّدُهُ الْخُشُونَةَ مِنْ
الْفُرُشِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ
.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مِنْ كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ فِي
خُفْيَةٍ إلَّا ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ قَبِيحٌ فَإِذَا تُرِكَ تَعَوَّدَ
فِعْلَ الْقَبِيحِ .
وَيُعَوَّدُ فِي بَعْضِ النَّهَارِ الْمَشْيَ
وَالْحَرَكَةَ وَالرِّيَاضَةَ حَتَّى لَا يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْكَسَلُ .
وَيُعَوَّدُ ذَلِكَ بِكَشْفِ أَطْرَافِهِ وَلَا يُسْرِعُ
الْمَشْيَ وَلَا يُرْخِي يَدَيْهِ بَلْ يَضُمُّهُمَا إلَى صَدْرِهِ .
وَيُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَفْتَخِرَ عَلَى أَقْرَانِهِ
بِشَيْءٍ مِمَّا يَمْلِكُهُ وَالِدَاهُ وَبِشَيْءٍ مِنْ مَطَاعِمِهِ وَمَلَابِسِهِ
وَمَلْذُوذَاتِهِ .
وَيُعَوَّدُ التَّوَاضُعَ وَالْإِكْرَامَ لِكُلِّ مَنْ
عَاشَرَهُ وَالتَّلَطُّفَ فِي الْكَلَامِ مَعَهُمْ .
وَيُمْنَعُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الصِّبْيَانِ شَيْئًا
بِدَايَةً إنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُحْتَشِمِينَ بَلْ يُعَلَّمُ أَنَّ
الرِّفْعَةَ فِي الْإِعْطَاءِ لَا فِي الْأَخْذِ وَأَنَّ الْأَخْذَ لُؤْمٌ ،
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْفُقَرَاءِ فَيُعَلَّمُ أَنَّ الْأَخْذَ
وَالطَّمَعَ
مَهَانَةٌ وَمَذَلَّةٌ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَأْبِ
الْكَلْبِ فَإِنَّهُ يُبَصْبِصُ فِي انْتِظَارِ لُقْمَةٍ .
وَبِالْجُمْلَةِ يُقَبَّحُ إلَى الصِّبْيَانِ حُبُّ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعُ فِيهِمَا وَيُحَذَّرُ مِنْهُمَا أَكْثَرُ مِنْ
التَّحْذِيرِ مِنْ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ ، فَإِنَّ آفَةَ حُبِّ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالطَّمَعِ فِيهِمَا أَكْثَرُ مِنْ آفَةِ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ
عَلَى الصِّبْيَانِ بَلْ عَلَى الْكِبَارِ أَيْضًا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّدَ أَنْ لَا يَبْصُقَ فِي
الْمَجَالِسِ وَلَا يَتَمَخَّطَ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ وَلَا يَضَعَ رِجْلًا عَلَى
رِجْلٍ وَلَا يَضْرِبَ بِكَفِّهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ وَلَا يَسْتَدْبِرُ غَيْرَهُ
وَلَا يَغْمِزُ رَأْسَهُ بِسَاعِدِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلُ الْكَسَلِ
وَيُعَلَّمُ كَيْفِيَّةَ الْجُلُوسِ
.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ كَثْرَةَ الْكَلَامِ
وَيُبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْوَقَاحَةِ وَأَنَّهُ عَادَةُ
أَبْنَاءِ اللِّئَامِ .
وَيُمْنَعُ الْيَمِينَ رَأْسًا صِدْقُهَا وَكَذِبُهَا
حَتَّى لَا يَتَعَوَّدَهُ فِي الصِّغَرِ .
وَيُمْنَعُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِالْكَلَامِ وَيُعَوَّدُ
أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ إلَّا جَوَابًا وَأَنْ يُحْسِنَ الِاسْتِمَاعَ مَهْمَا
تَكَلَّمَ غَيْرُهُ مِمَّنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا وَيُوَسِّعُ لِمَنْ
فَوْقَهُ الْمَكَانَ وَيَجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ .
وَيُمْنَعُ مِنْ لَغْوِ الْكَلَامِ وَفُحْشِهِ وَعَنْ
اللَّعِبِ وَالشَّتْمِ وَمِنْ مُخَالَطَةِ مَنْ يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ شَيْءٌ
مِنْ الْفَوَاحِشِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْرِي لَا مَحَالَةَ مِنْ الْقُرَنَاءِ
السُّوءِ .
وَيَنْبَغِي إذَا ضَرَبَهُ الْمُعَلِّمُ أَنْ لَا
يُكْثِرَ عَلَيْهِ الصُّرَاخَ وَالشَّغَبَ وَلَا يَسْتَشْفِعَ بِأَحَدٍ بَلْ
يَصْبِرَ وَيُذَكَّرُ أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُ الشِّجْعَانِ وَالرِّجَالِ وَأَنَّ
كَثْرَةَ الصُّرَاخِ دَأْبُ الْمَمَالِيكِ وَالنِّسْوَانِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ
الْمَكْتَبِ أَنْ يَلْعَبَ لَعِبًا جَمِيلًا يَسْتَرِيحُ إلَيْهِ مِنْ تَعَبِ
الْأَدَبِ بِحَيْثُ لَا يَتْعَبُ فِي اللَّعِبِ فَإِنَّ مَنْعَ الصَّبِيِّ مِنْ
اللَّعِبِ وَإِرْهَاقَهُ إلَى التَّعْلِيمِ دَائِمًا يُمِيتُ قَلْبَهُ وَيُبْطِلُ
فِكْرَهُ
وَذَكَاءَهُ وَيُبْغِضُ إلَيْهِ ذَلِكَ وَيُنَغِّصُ
عَيْشَهُ حَتَّى يَطْلُبَ الْحِيلَةَ فِي الْخَلَاصِ مِنْهُ رَأْسًا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمَ طَاعَةَ وَالِدَيْهِ
وَمُعَلِّمِهِ وَمُؤَدِّبِهِ وَكُلِّ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا مِنْ
قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ وَأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الْجَلَالَةِ
وَالتَّعْظِيمِ وَأَنْ يَتْرُكَ اللَّعِبَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ .
وَمَهْمَا بَلَغَ سِنَّ التَّمْيِيزِ يَنْبَغِي أَنْ لَا
يُسَامَحَ فِي تَرْكِ الطَّهَارَةِ وَيُؤْمَرُ بِالصِّيَامِ فِي بَعْضِ
الْأَيَّامِ مِنْ رَمَضَانَ وَبِتَجَنُّبِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَيُعَلَّمُ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ حُدُودِ الشَّرْعِ
وَيُخَوَّفُ مِنْ السَّرِقَةِ وَأَكْلِ الْحَرَامِ وَمِنْ الْكَذِبِ
وَالْخِيَانَةِ وَالْفُحْشِ وَكُلِّ مَا يَغْلِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ شِدَّةِ
الْكَلَامِ مِنْ لِسَانِهِ فَإِذَا وَقَعَتْ نَشْأَتُهُ فِي صِبَاهُ انْتَفَعَ
بِذَلِكَ وَمَهْمَا قَارَبَ الْبُلُوغَ أَمْكَنَ أَنْ يُعَرَّفَ أَسْرَارَ هَذِهِ
الْأُمُورِ فَيُذْكَرُ لَهُ أَنَّ الْأَطْعِمَةَ أَدْوِيَةٌ ، وَإِنَّمَا
الْمَقْصُودُ مِنْهَا أَنْ يَتَقَوَّى الْإِنْسَانُ بِهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ
وَأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا لَا أَصْلَ لَهَا إذْ لَا بَقَاءَ لَهَا وَأَنَّ
الْمَوْتَ يَقْطَعُ نَعِيمَهَا وَأَنَّهَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مُقَرٍّ
وَأَنَّ الْمَوْتَ مُنْتَظَرٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَنَّ الْكَيِّسَ الْعَاقِلَ
مَنْ تَزَوَّدَ مِنْ الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ حَتَّى تَعْظُمَ عِنْدَ اللَّهِ
دَرَجَتُهُ وَتَتَّسِعَ فِي الْجِنَانِ نِعَمُهُ .
فَإِذَا كَانَتْ نَشْأَتُهُ صَالِحَةً كَانَ هَذَا
الْكَلَامُ عِنْدَ الْبُلُوغِ وَاقِعًا مُؤَثِّرًا ثَابِتًا يَثْبُتُ فِيهِ كَمَا
يَثْبُتُ النَّقْشُ فِي الْحَجَرِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ النَّشْأَةُ بِخِلَافِ ذَلِكَ
حَتَّى أَلِفَ الصِّبَا وَاللَّعِبَ وَالْفُحْشَ وَالْوَقَاحَةَ وَشَرِهَ
الطَّعَامَ وَاللِّبَاسَ وَالتَّزَيُّنَ وَالتَّفَاخُرَ نَبَا قَلْبُهُ عَنْ
قَبُولِ الْحَقِّ نُبُوَّ الْحَائِطِ عَنْ التُّرَابِ الْيَابِسِ فَأَوَائِلُ
الْأُمُورِ هِيَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تُرَاعَى فَإِنَّ الصَّبِيَّ خُلِقَ جَوْهَرَةً
قَابِلًا لِنَقْشِ الْخَيْرِ
وَالشَّرِّ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا أَبَوَاهُ يَمِيلَانِ
بِهِ إلَى أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ
.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ
يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ }
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ التَّكَسُّبِ وَكَيْفِيَّةِ مَا
يُحَاوِلُهُ الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ زَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ
التَّكَسُّبَ هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ
جُبِلَتْ عَلَى حُبِّ الدُّنْيَا وَاكْتِسَابِهَا .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ
خَطِيئَةٍ } وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الذَّمَّ إنَّمَا وَرَدَ فِي نَفْسِ
الْحُبِّ لَهَا لَا فِي نَفْسِ التَّكَسُّبِ فَكَمْ مِنْ مُتَكَسِّبٍ زَاهِدٍ
وَكَمْ مِنْ تَارِكٍ رَاغِبٍ عَلَى أَنَّ مِقْدَارَ الضَّرُورَةِ لَيْسَ مِنْ
الدُّنْيَا عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ بَلْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الِاشْتِغَالِ
بِأُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَوْ تَكَسَّبَ الْإِنْسَانُ بِنِيَّةِ أَنْ يَكْفِي إخْوَانَهُ
الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِضَرُورَاتِهِ ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَكَانَ فِي
أَجَلِّ الْأَعْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ فَرْضٍ وَنَفْلٍ .
أَمَّا الْفَرْضُ فَهُوَ قِوَامُ بِنْيَتِهِ وَسَتْرُ عَوْرَتِهِ
وَتَجَمُّلُهُ الشَّرْعِيُّ ، وَأَمَّا النَّفَلُ فَهُوَ رَفْعُ مَا يَحْتَاجُ
إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ رَأَى ثَلَاثَةَ نَفَرٍ فِي الْمَسْجِدِ مُنْقَطِعِينَ
لِلْعِبَادَةِ فَسَأَلَ أَحَدَهُمْ مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ ؟ فَقَالَ : أَنَا عَبْدُ
اللَّهِ ، وَهُوَ يَأْتِينِي بِرِزْقِي كَيْفَ شَاءَ فَتَرَكَهُ وَمَضَى إلَى الثَّانِي
فَسَأَلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ لَهُ أَخًا يَحْتَطِبُ فِي الْجَبَلِ
فَيَبِيعُ مَا يَحْتَطِبُهُ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَأْتِيه بِكِفَايَتِهِ فَقَالَ
لَهُ : أَخُوك أَعْبَدُ مِنْك ثُمَّ أَتَى الثَّالِثَ فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ :
إنَّ النَّاسَ يَرَوْنِي فَيَأْتُونِي بِكِفَايَتِي فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ
وَقَالَ لَهُ اُخْرُجْ إلَى السُّوقِ أَوْ كَمَا قَالَ .
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّكَسُّبَ أَفْضَلُ مِنْ
الِانْقِطَاعِ لِلْعِبَادَةِ إذَا كَانَ عَالَةً عَلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ
وَمِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِجَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ،
فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَأَقَلُّ مَا يَكُونُ رَفْعُ
الْكُلْفَةِ عَنْهُمْ وَالْمُتَسَبِّبُ قَدْ رَفَعَ كُلْفَتَهُ عَنْ إخْوَانِهِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَفِي ذَلِكَ إدْخَالُ الرَّاحَةِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ
الْمُتَسَبِّبُ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى
يَقِينٍ مِنْ قُوتِهِ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِتَحَرُّزِهِ فِي كَسْبِهِ
مِمَّا تَأْبَاهُ الشَّرِيعَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ أَوْ تَكْرَهُهُ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ
مُسْتَغْرَقَةً فِي التَّعَبُّدِ فَانْقِطَاعُهُ أَوْلَى بِهِ وَأَفْضَلُ .
وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَنَّهُ عَمِلَ فَتْوَى وَدَارَ بِهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِهِ
وَفِيهَا مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ فِي فَقِيرٍ مُنْقَطِعٍ
لِلْعِبَادَةِ هَلْ التَّسَبُّبُ لَهُ أَفْضَلُ أَوْ الِانْقِطَاعُ لَهُ أَفْضَلُ
أَوْ كَمَا قَالَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : انْقِطَاعُهُ
أَفْضَلُ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ التَّسَبُّبُ لَهُ أَفْضَلُ وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ
فَقَالَ : إنْ كَانَ الْفَقِيرُ لَيْسَتْ لَهُ فَتْرَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ
فَيُكْرَهُ فِي حَقِّهِ التَّسَبُّبُ أَوْ يَحْرُمُ بِحَسَبِ الْحَالِ ، وَإِنْ
كَانَ لَهُ وَقْتُ رَاحَةٍ فَيَجْعَلُهُ فِي التَّسَبُّبِ فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ
وَرَجَعُوا إلَيْهِ فِيمَا أَفْتَى بِهِ .
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا جَرَى لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَرْكِهِ الْأَوَّلَ مِنْ الثَّلَاثَةِ نَفَرٍ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ إذَنْ بَيْنَ
الْمُتَسَبِّبِ وَالْمُنْقَطِعِ فِي الْعِبَادَةِ فِي الْفَضِيلَةِ إذَا حَسُنَتْ
نِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ عَدَمِ الِاسْتِشْرَافِ وَعَدَمِ تَعَلُّقِ
الْقَلْبِ بِالْمَخْلُوقِ دُونَ الْخَالِقِ ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ مَعَ وُجُودِ
السَّلَامَةِ فِي السَّبَبِ الَّذِي هُوَ يَتَسَبَّبُ فِيهِ وَسَلَامَتِهِ مِمَّا
يُدْخِلُ عَلَيْهِ الْخَلَلَ فِيهِ بِلِسَانِ الْعِلْمِ .
وَقَدْ تَعَذَّرَتْ الْأَسْبَابُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
فِي الْغَالِبِ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ السَّبَبَ بِدُونِ غِشٍّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ
عَمِلَ مَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ أَكَلَ الْحَرَامَ ، وَإِنْ لَمْ يَغُشَّ فِيهِ
لَمْ يَرْضَوْا بِهِ فَصَارَ التَّسَبُّبُ فِي حَيِّزِ
الْحَرَامِ لِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ فِي حَيِّزِ الْمَكْرُوهِ بِحَسَبِ
الْحَالِ فَصَارَ الِانْقِطَاعُ أَفْضَلَ وَأَوْجَبَ لَكِنْ بَيْنَ هَذَا
الِانْقِطَاعِ وَانْقِطَاعِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَرْقٌ ظَاهِرٌ
بَيِّنٌ ، وَهُوَ أَنَّ انْقِطَاعَ السَّلَفِ كَانَ اخْتِيَارِيًّا طَلَبًا
لِلْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ عِنْدَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ وَتَسَبُّبَهُمْ
كَذَلِكَ ، وَأَمَّا الِانْقِطَاعُ الْيَوْمَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الضَّرُورَةِ لَا اخْتِيَارَ
لِلْمَرْءِ فِيهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَهُ فِيهِ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ ؛ لِأَنَّهُ
إنَّمَا تَرَكَهُ هُرُوبًا مِنْ الْوُقُوعِ فِيمَا تَتَعَمَّرُ بِهِ ذِمَّتُهُ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ أَحْوَالِنَا الْيَوْمَ ؛
لِأَنَّ الْمُتَسَبِّبَ لَا يُبَالِي مِنْ أَيْنَ دَخَلَ عَلَيْهِ كَسْبُهُ
وَالْمُنْقَطِعَ نَاظِرٌ إلَى الْمَخْلُوقِينَ مُتَطَلِّعٌ لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ
رَاغِبٌ فِيهِمْ رَاهِبٌ مِنْهُمْ وَلِأَجْلِ هَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ
عَلَى أَبْوَابِ الْمُتَسَبِّبِينَ يَا لَيْتَهُمْ لَوْ اقْتَصَرُوا عَلَى ذَلِكَ بَلْ
تَجِدُ مَنْ انْغَمَسَ مِنْهُمْ فِي الْجَهْلِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يُرْضَى
حَالُهُ فِي الْوَقْتِ فَصِرْنَا كَمَا قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ يُمْنُ بْنُ
رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا نَعْرِفُ الْعُقَلَاءَ مِنْ كَثْرَةِ الْحَمْقَى ،
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا كَانَ فِي زَمَانِهِ ، وَأَمَّا
الْيَوْمَ فَقَدْ عَمَّ الْأَمْرُ وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ إلَّا عَلَى الْفَرْدِ
النَّادِرِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ لَوْلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا
تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ
مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ } لِأَيِسَ الْإِنْسَانُ فِي
هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنْ يَجِدَ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ
يَرُدُّ هَذَا الْإِيَاسَ أَوْ كَمَا قَالَ لَكِنَّهُمْ فِي الْقِلَّةِ بِحَيْثُ
إنَّهُمْ لَا يُعْرَفُونَ فَطُوبَى لِمَنْ عَرَفَ وَاحِدًا مِنْهُمْ ، وَرَآهُ
بِعَيْنِ
التَّعْظِيمِ فَهُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ
جَلِيسُهُمْ .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ
بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ
فَصْلٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { أَنْتُمْ فِي زَمَانٍ مَنْ تَرَكَ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ هَلَكَ
وَسَيَأْتِي زَمَانٌ مَنْ فَعَلَ عُشْرَ مَا أُمِرَ بِهِ نَجَا } رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ .
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ قَدْ يَخْفَى مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى بَعْضِ مَنْ يَسْمَعُهُ مِنْ
أَجْلِ ظَاهِرِهِ وَذَلِكَ أَنَّا قَدْ اسْتَوَيْنَا نَحْنُ وَإِيَّاهُمْ فِي
إقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَشْرُوعَةِ فَمَنْ
تَرَكَ مِنَّا وَمِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَالْحُكْمُ فِيهِ مَعْلُومٌ
وَمَنْ ارْتَكَبَ مِنَّا وَمِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَالْحُكْمُ
فِيهِ مَعْلُومٌ فَمَا هَذَا الَّذِي إنْ فَعَلْنَا عُشْرَهُ نَجَوْنَا ، وَإِنْ
تَرَكُوا عُشْرَهُ هَلَكُوا .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْفَرَائِضَ بِالنِّسْبَةِ
إلَى الْمَنْدُوبَاتِ تَكُونُ الْعُشْرَ أَوْ نَحْوَهُ فَإِذَا اقْتَصَرْنَا عَلَى
الْفَرَائِضِ نَجَوْنَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى مَا يَعْتَوِرُ
الْمُكَلَّفَ فِي الْعِبَادَاتِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا حَضَرَ
وَلِيمَةً وَفِيهَا مِنْ الثَّوَابِ مَا فِيهَا يَشْهَدُ مِنْ الْبِدَعِ
وَالْمُحَرَّمَاتِ أَوْ هُمَا مَعًا شَيْئًا كَثِيرًا ، وَكَذَلِكَ عِيَادَةُ
الْمَرِيضِ وَحُضُورُ الْجَنَائِزِ وَزِيَارَةُ الْإِخْوَانِ وَحُضُورُ مَجَالِسِ
الْعِلْمِ وَالْبَحْثُ فِيهَا وَلِقَاءُ الْمَشَايِخِ وَالِاهْتِدَاءُ
بِهَدْيِهِمْ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَجِدُ الْمُكَلَّفُ فِي مُبَاشَرَتِهَا
أَشْيَاءَ عَدِيدَةً تَمْنَعُهُ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْهَا فَإِذَنْ قَدْ
اضْطَرَّ الْمُكَلَّفُ الْيَوْمَ إلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى الْفَرَائِضِ وَتَوَابِعِهَا
دُونَ غَيْرِهَا وَتَبْقَى الْعِبَادَةُ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ
وَجَلَّ لَيْسَ إلَّا وَذَلِكَ هُوَ الْعُشْرُ أَوْ نَحْوُهُ بِخِلَافِ مَنْ
تَقَدَّمَ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
فَإِنَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ السُّنَنِ الْمَذْكُورَةِ
وَغَيْرِهَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ مَانِعٌ لِوُجُودِهَا عَلَى مَا
يَنْبَغِي مِنْ الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ
الِابْتِدَاعِ فَلَا يَتْرُكُهَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا رَغْبَةً
عَنْهَا وَمَنْ تَرَكَ الْمَنْدُوبَ اخْتِيَارًا فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا
يُوفِيَ بِالْفَرَائِضِ فَيَهْلِكُ
.
يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ
حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى فِي مَنَامِهِ رَجُلًا مُضْطَجِعًا عَلَى قَفَاهُ
وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ أَوْ صَخْرَةٍ يَشْدَخُ بِهَا رَأْسَهُ
فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ فَيَنْطَلِقُ إلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا
يَرْجِعُ إلَى هَذَا إلَّا وَيَلْتَئِمُ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ
إلَيْهِ فَضَرَبَهُ } الْحَدِيثَ فَفَسَّرَ لَهُ الْمَلَكَانِ عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ
بِاللَّيْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ بِالنَّهَارِ يُصْنَعُ بِهِ هَذَا إلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَيْسَ بِفَرْضٍ
وَلَا يُعَذَّبُ الْمُكَلَّفُ عَلَى تَرْكِ الْمَنْدُوبِ لَكِنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ
مَنْدُوبًا فَهُوَ يُجْبَرُ بِهِ مَا وَقَعَ مِنْ الْخَلَلِ فِي الْفَرَائِضِ .
وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ فِيهِ
بِالنَّهَارِ وَتَرْكُ عَمَلِهِ بِهِ فِيهِ خَلَلٌ فِي فَرَائِضِهِ ، وَهُوَ لَمْ
يَقُمْ بِهِ فِي اللَّيْلِ حَتَّى يُجْبَرَ بِهِ الْفَرْضُ فَالْعَذَابُ فِي
الْحَقِيقَةِ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى تَرْكِ الْفَرْضِ لَا عَلَى تَرْكِ
الْمَنْدُوبِ .
فَعَلَى هَذَا فَمَنْ تَرَكَ الْمَنْدُوبَ خِيفَ
عَلَيْهِ أَنْ يَقَعَ الْخَلَلُ فِي فَرَائِضِهِ وَلَا يُوجَدُ مَنْدُوبٌ
يَجْبُرُهُ فَصَارَتْ أَكْثَرُ عَادَةِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ بِالتَّرْكِ ؛
لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتْرُكُونَهَا امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
فَهُمْ فِي أَسْنَى الْأَعْمَالِ ، وَإِنْ كَانُوا فِي الظَّاهِرِ تَارِكِينَ فَتَخَيَّرَ
لَهُمْ الْفَرَائِضَ بِهَذِهِ النِّيَّةِ الْجَمِيلَةِ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ ،
فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا
تَقَدَّمَ .
{ تَنْبِيهٌ
} وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ
أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَهُ عَنْ اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ يَقُولُ
لَا يُمْكِنُنِي ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِئَلَّا يَقَعَ النَّاسُ فِي عِرْضِي
وَيَتَكَلَّمُونَ فِي فَأَكُونُ سَبَبًا فِي إيقَاعِهِمْ فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ
الْمَكْرُوهَاتِ ، وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْقَوْمِ مَا هُوَ إذْ
أَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمْ التَّصَدُّقُ بِعِرْضِهِمْ عَلَى مَنْ نَالَ مِنْهُمْ
مِنْ إخْوَانِهِمْ الْمُسْلِمِينَ وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِذَلِكَ كُلِّهِ
وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ
كَأَبِي ضَمْضَمٍ .
كَانَ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ قَالَ اللَّهُمَّ
إنِّي تَصَدَّقْت بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِك } فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُرِيدِ
الطَّالِبِ لِخَلَاصِ مُهْجَتِهِ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
وَأَشْبَاهِهَا وَيَعُدُّ الْخَلْقَ كَأَنَّهُمْ مَوْتَى لَا يَحْسَبُ إلَّا
حِسَابَ السُّنَّةِ فَيَتَتَبَّعُهَا وَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمِنْ سَخِطَ
فَلَهُ السَّخَطُ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَا يَصْدُرُ مِنْ النَّاسِ يَشْغَلُ
الْخَاطِرَ وَيُكْثِرُ الْوَسْوَاسَ وَالْحِقْدَ وَيَقْطَعُ عَنْ الِاتِّبَاعَ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا
أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ ابْنَهُ السُّلُوكَ أَنْ يَفْطِمَهُ عَنْ النَّظَرِ إلَى
الْخَلْقِ فَخَرَجَ رَاكِبًا عَلَى دَابَّةٍ هُوَ وَوَلَدُهُ فَقَالَ بَعْضُ
النَّاسِ : اُنْظُرُوا إلَى هَذَيْنِ كَيْفَ رَكِبَا عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ
وَهِيَ لَا تُطِيقُ فَنَزَلَ وَلَدُهُ عَنْهَا وَبَقِيَ الْوَالِدُ رَاكِبًا
فَقَالُوا : اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الرَّجُلِ كَيْفَ هُوَ رَاكِبٌ وَوَلَدُهُ
يَمْشِي وَكَانَ الْوَلَدُ أَوْلَى مِنْهُ بِالرُّكُوبِ فَنَزَلَ الْوَالِدُ
وَرَكِبَ الْوَلَدُ فَقَالُوا : اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْوَلَدِ مَا أَقَلَّ
أَدَبَهُ أَبُوهُ يَمْشِي عَلَى أَقْدَامِهِ ، وَهُوَ رَاكِبٌ فَقَالَ لِوَلَدِهِ
: انْزِلْ فَنَزَلَ عَنْ الدَّابَّةِ وَمَشَيَا عَلَى أَرْجُلِهِمَا وَتَرَكَا الدَّابَّةَ
تَمْشِي دُونَ رَاكِبٍ
عَلَيْهَا فَقَالُوا : مَا أَقَلَّ عَقْلَ هَذَانِ
يَمْشِيَانِ عَلَى أَقْدَامِهِمَا وَالدَّابَّةُ لَا رَاكِبَ عَلَيْهَا أَوْ كَمَا
جَرَى فَقَالَ لِوَلَدِهِ اُنْظُرْ إلَى هَذَا الْأَمْرِ وَاعْتَبِرْ بِهِ
فَإِنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ فِيهِ ، وَإِنْ عَمِلَ
مَا عَمِلَ وَقَدْ رَأَيْته عِيَانًا فَعَلَّمَ وَلَدَهُ تَرْكَ النَّظَرِ
لِلْمَخْلُوقِ بِالْفِعْلِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَكَابِرِ السَّلَفِ نَظَرْت إلَى
النَّاسِ فَرَأَيْتهمْ مَوْتَى فَكَبَّرْت عَلَيْهِمْ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ
فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ أَخَذَ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى الِامْتِثَالِ
بِكُلِّيَّتِهِ وَتَرَكَ الِالْتِفَاتَ لِلْمَخْلُوقِ حَتَّى لَا يَخْطِرَ لَهُ
غَيْرُ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ ، فَإِذَا رَأَى
الْبِدَعَ تَكْثُرُ وَالْعَوَائِدَ تُفْعَلُ وَبَعْضَ النَّاسِ يَسْخَرُونَ بِهِ
وَيَسْتَهْزِئُونَ مِنْهُ فَلِيَشُدَّ يَدَهُ عَلَى مَا مَنَّ اللَّهُ بِهِ
عَلَيْهِ مِنْ الِامْتِثَالِ وَيَحْرِصْ عَلَى الزِّيَادَةِ مِمَّا هُوَ فِيهِ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ مَعِي } وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { لِلْعَامِلِ مِنْهُمْ أَجْرُ خَمْسِينَ قَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّهِ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ قَالَ بَلْ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى
الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَلَا يَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا } وَلِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَيْفَ بِك يَا حُذَيْفَةُ إذَا تَرَكْت
بِدْعَةً قَالُوا تَرَكَ سُنَّةً } وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ
النَّقْلِ .
وَأَمَّا مَا هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ ، فَإِنَّ
الْفَارِسَ الشُّجَاعَ لَا يُعْرَفُ إلَّا وَقْتَ الْهَزِيمَةِ وَأَيُّ هَزِيمَةٍ
أَعْظَمُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا أَنْ كَتَبَ إلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ
اُكْتُبْ إلَيَّ سِيرَةَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّاسِ فَإِنِّي
أُحِبُّ أَنْ أَسِيرَ بِهَا فَكَتَبَ إلَيْهِ .
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك لَسْت فِي زَمَانِ عُمَرَ وَلَا
لَك رِجَالٌ
كَرِجَالِ عُمَرَ فَإِنْ عَمِلْت فِي زَمَانِك هَذَا
وَرِجَالِك هَؤُلَاءِ بِسِيرَةِ عُمَرَ فَأَنْتَ خَيْرٌ مِنْ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ سِيرَتِهِ الْحَسَنَةِ فَمَا بَالُك بِزَمَانِنَا
هَذَا فَيَحْتَاجُ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ السُّنَنِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُحَافِظَ
عَلَيْهَا وَيَعْمَلَ بِهَا وَيُعَلِّمَهَا .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَمِيلَ إلَى الْغُرُورِ
وَالْأَمَانِي لِمَا يَرَى مِنْ الْعَوَائِدِ الْمُتْلِفَةِ وَوُقُوعِ الْمَهَالِكِ
بَلْ يَغْتَنِمُ مَا سَبَقَ لَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ الْعَظِيمَةِ ؛
لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَ بِالسُّنَّةِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ
أَمْرَيْنِ .
إمَّا أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ أَوْ لَا .
فَإِنْ قُبِلَ مِنْهُ حَصَلَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ مِنْ
صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِالْمَعِيَّةِ
مَعَهُ فِي الْجَنَّةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ
أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَنِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي
كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ } وَيَنْبَغِي أَنْ يَرَى الْفَضِيلَةَ لِمَنْ
قَبِلَهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ عَلَى إحْيَاءِ السُّنَّةِ وَإِقَامَتِهَا
، وَمَنْ أَعَانَ عَلَى الْخَيْرِ كَانَ شَرِيكًا لِعَامِلِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ
الْإِعَانَةَ حَاصِلَةٌ لِمَنْ قَبِلَ وَامْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ أَوْ نُهِيَ
عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَصَلَتْ لَهُ الشَّهَادَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ
صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَقْدِرْ هُوَ وَغَيْرُهُ
عَلَيْهِ وَلَا يَصِلَا إلَيْهِ
.
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
الْعَمَلُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ مَعِي } كَمَا تَقَدَّمَ .
وَالْهِجْرَةُ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَا يَفُوقُهَا غَيْرُهَا وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعَ هَذَا اسْتِصْغَارُ
النَّفْسِ وَحَقَارَتُهَا إذْ أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِ بِمِنَّةٍ لَا يَقْدِرُ
عَلَى الْقِيَامِ بِشُكْرِ بَعْضِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ
بِالْعَكْسِ ، وَهُوَ أَنَّ أَحَدًا يَأْمُرُ بِالسُّنَّةِ وَيَحُضُّ عَلَيْهَا
وَلَمْ يَرْجِعْ هُوَ
إلَيْهِ وَلَمْ يَقْبَلْهَا مِنْهُ لَكَانَ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ
وَأَمْرٍ مَهُولٍ فَلِيُكْثِرْ الشُّكْرَ عَلَى مَا أَوْلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى
مِنْ هَذِهِ النِّعْمَةِ امْتِثَالًا لِأَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
حَيْثُ يَقُولُ { قَيِّدُوا النِّعَمَ بِالشُّكْرِ } نَسْأَلُ اللَّهَ الْكَرِيمَ
أَنْ يُوَفِّقَنَا لِذَلِكَ بِمَنِّهِ
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { حَاسِبُوا
أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا } ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ لَا يُقْدِمَ عَلَى فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ حَتَّى
يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ وَيَعْلَمَ مِنْ أَيِّ قِسْمٍ هُوَ أَعْنِي مِنْ
الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ حَتَّى يَكُونَ
عَمَلُهُ كُلُّهُ جَلِيًّا أَمْرُهُ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فَإِنْ
لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ لِعُذْرٍ وَقَعَ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لَهُ
سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مِنْ النَّهَارِ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ فِيهَا عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ عَمِلَهُ أَوْ تَكَلَّمَ بِهِ فَيَعْرِضُهُ عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَمَا
كَانَ مِنْ خَيْرٍ حَمِدَ اللَّهَ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ الْقَبُولَ وَمَا كَانَ
مِنْ غَيْرِهِ نَزَعَ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مَعَ وُجُودِ النَّدَمِ
وَالْإِقْلَاعِ ، فَإِنْ وَجَدَ فِي قَوْلِهِ أَوْ فِي فِعْلِهِ شَيْئًا
تَعَمَّرَتْ بِهِ ذِمَّتُهُ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ
فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَرِيضُ أَنْفَعَ
مِنْ الْحَمِيَّةِ ثُمَّ الدَّوَاءُ بَعْدَهَا فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى
الْحَمِيَّةِ دُونَ الدَّوَاءِ نَفَعَهُ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى ،
وَإِنْ اسْتَعْمَلَ الدَّوَاءَ دُونَ حَمِيَّةٍ لَمْ يَنْفَعْهُ بَلْ يَعُودُ
بِالضَّرَرِ عَلَيْهِ فَأَصْلُ الْحَمِيَّةِ وَرَأْسُهَا تَخْلِيصُ الذِّمَّةِ
مِنْ حُقُوقِ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا يَتَمَيَّزُ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا بِمُحَاسَبَةِ
النَّفْسِ وَوُقُوفِهَا عِنْدَ كُلِّ فِعْلٍ وَقَوْلٍ وَاعْتِقَادٍ .
فَإِذَا كَانَتْ لَهُ سَاعَةٌ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ
يُحَاسِبُ نَفْسَهُ فِيهَا أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدْرِكَ مَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ
الْخَلَلِ وَيَتَوَجَّهَ بَعْدُ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ
التَّبِعَاتِ .
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِذَلِكَ بِمَنِّهِ
وَكَرَمِهِ
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ النَّظَرِ إلَى الْمُسْلِمِينَ
بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ وَرُؤْيَةِ الْفَضْلِ لَهُمْ عَلَيْهِ
يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا النَّظَرِ
الْحَسَنِ .
فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَجَدَهُمْ عَلَى
طَبَقَاتٍ ثَلَاثٍ لَهُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْهَا سُلُوكٌ إلَى رَبِّهِ عَزَّ
وَجَلَّ .
أَمَّا الطَّبَقَةُ الْأُولَى ، فَإِنَّهُ إذَا نَظَرَ
مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَعْلَمُ أَوْ أَكْثَرُ عِبَادَةً
وَانْقِطَاعًا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلِمَ أَنَّ لَهُ فَضِيلَةً عَلَيْهِ
بِسَبْقِهِ لِلْإِسْلَامِ أَوْ مَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْخِصَالِ
الْحَمِيدَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَعَلِمَ تَقْصِيرَهُ فِي نَفْسِهِ
فَيَحْتَرِمُهُ وَيُعَظِّمُهُ وَيَرَى فَضْلَهُ عَلَيْهِ وَسَبْقَهُ .
الطَّبَقَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَرَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ
فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَهُ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ
سَالِمًا مِنْ الذُّنُوبِ أَوْ تَكُونُ لَهُ ذُنُوبٌ لَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى
الرَّائِي لَهُ أَقَلُّ إذْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ ذُنُوبَهُ عَلَى
الْحَقِيقَةِ ، وَلَا يَعْرِفُ ذُنُوبَ غَيْرِهِ ، وَلَعَلَّهُ إذَا اطَّلَعَ
عَلَى ذَنْبٍ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِوَى مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَهُ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْضِيلِ
لَهُ عَلَى نَفْسِهِ الطَّبَقَةُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَرَى مَنْ هُوَ أَصْغَرُ
مِنْهُ سِنًّا فَيَقُولُ هَذَا أَقَلُّ مِنِّي ذُنُوبًا لِأَنِّي قَدْ سَبَقْته
إلَى الدُّنْيَا وَارْتَكَبْت فِيهَا مَا ارْتَكَبْت ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَكُنْ
مُكَلَّفًا فَلَا ذُنُوبَ عَلَيْهِ فَإِنْ رَأَى مَنْ هُوَ مُبْتَلًى فِي دِينِهِ
وَضَاقَ عَلَيْهِ سُلُوكُ بَابِ التَّأْوِيلِ فِي حَقِّهِ فَلْيَرْجِعْ إذْ ذَاكَ
لِنَفْسِهِ وَلْيَنْظُرْ مِنَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فِي
كَوْنِهِ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِمَا تَلَبَّسَ بِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَكَوْنِهِ
سَالِمًا مِمَّا ابْتَلَى بِهِ غَيْرَهُ مِمَّا هُوَ مَحْظُورٌ فِي الشَّرْعِ
الشَّرِيفِ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يُذَكِّرُ نَفْسَهُ بِالْخَاتِمَةِ ،
فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يُخْتَمُ لَهُ فَإِنَّهُ
إنْ عُومِلَ بِالْعَدْلِ فَلَا يُخَلِّصُهُ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ
أَفْعَالِ الْقُرَبِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ ، وَإِنْ عُومِلَ مَنْ رَآهُ بِالْفَضْلِ
قُضِيَتْ عَنْهُ التَّبِعَاتُ وَقُبِلَ مِنْهُ الْيَسِيرُ مِنْ الْحَسَنَاتِ
فَإِنَّ فَضْلَ اللَّهِ لَا يَنْحَصِرُ فِي جِهَةٍ وَعَدْلَهُ لَا يُؤْمَنُ فِي
حَالٍ .
فَإِذَا نَظَرَ إلَى النَّاسِ بِحُسْنِ هَذَا النَّظَرِ
رَبِحَ وَعَادَتْ عَلَيْهِ بَرَكَةُ تَحْسِينِ ظَنِّهِ بِإِخْوَانِهِ
الْمُسْلِمِينَ حَالًا وَمَآلًا وَكَانَ اجْتِمَاعُهُ بِهِمْ رَحْمَةً فِي حَقِّهِ
وَحَقِّهِمْ وَكَذَالِك الْفِرَارُ مِنْهُمْ وَالْهُرُوبُ مِنْ خُلْطَتِهِمْ
بِهَذَا النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارُ بِهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ سُلُوكٌ إلَى رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ أَسْلَمُ وَآمَنُ عَاقِبَةً لِمَنْ
قَدَرَ عَلَيْهِ سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ إذَا
رَأَى مُبْتَلًى فِي دِينِهِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ سَطْوَةَ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّأْوِيلِ الْحَسَنِ فِي حَقِّهِ لَهُ فَإِنْ عَجَزَ
ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُهُ الْهِجْرَانُ لَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ
مَا مَوْضِعٍ
أَسْبَابُ تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ بَعْضَ الْإِخْوَانِ قَصَدَنِي فِي تَلْخِيصِ شَيْءٍ
أَذْكُرُ فِيهِ بِأَيِّ نِيَّةٍ يَخْرُجُ بِهَا الْمَرْءُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى
الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَإِلَى حُضُورِ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَإِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِ
مِنْ السُّوقِ وَغَيْرِهِ وَبِأَيِّ نِيَّةٍ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ وَبِأَيِّ
نِيَّةٍ يَمْكُثُ فِيهِ فَأَسْعَفْته بِذَلِكَ حَتَّى بَلَغْت فِيهِ إلَى
الْكُرَّاسِ الثَّانِيَ عَشَرَ مِنْهُ ثُمَّ حَصَلَ لِي قَلَقٌ وَانْزِعَاجٌ فِي
أَخْذِ الْعِلْمِ عَنِّي وَلَسْت عِنْدَ نَفْسِي أَهْلًا لِذَلِكَ .
فَعَزَمْت عَلَى أَنْ أُعْدِمَ تِلْكَ الْكَرَارِيسَ فَأَخَذْتهَا
وَشَدَدْت عَلَيْهَا وَدَفَعْتهَا لِبَعْضِ الْإِخْوَانِ وَقُلْت لَهُ
يُثَقِّلُهَا بِحَجَرٍ وَيُلْقِيهَا فِي الْبَحْرِ فَمَكَثْت عِنْدَهُ أَكْثَرَ
مِنْ عَامٍ .
ثُمَّ جَاءَ الْفَقِيهُ الْخَطِيبُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمُعْطِي الْمَعْرُوفُ بِابْنِ سَبُعٍ خَطِيبُ جَامِعِ
الظَّاهِرِ بِالْحُسَيْنِيَّةِ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَإِيَّانَا فَطَلَبَ
الْكَرَارِيسَ فَأَخْبَرْته بِمَا جَرَى فَشَقَّ عَلَيْهِ وَقَالَ لِي : اسْأَلْ
عَنْهَا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرْته بِهِ إلَى الْآنَ
فَقُلْت لَهُ : إنَّ لَهُ مُدَّةً فَقَالَ : وَلَعَلَّ أَنْ تَكُونَ قَدْ بَقِيَتْ
فَسَأَلْت الشَّخْصَ الَّذِي أَمَرْته بِتَغْرِيقِهَا فَقَالَ : لِي هِيَ
بَاقِيَةٌ إلَى الْآنَ فَسَأَلْته عَنْ مُوجِبِ تَرْكِهِ لَهَا فَأَخْبَرَ أَنَّهُ
وَضَعَهَا فِي مَوْضِعٍ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يَتَفَرَّغَ فَيُلْقِيَهَا فِي الْبَحْرِ .
قَالَ فَعَزَمْت عَلَى ذَلِكَ مِرَارًا ثُمَّ إنِّي
أَنْسَى وَهِيَ إلَى الْآنَ عِنْدِي لَمْ أُغْرِقْهَا بَعْدُ .
فَطَلَبْتهَا مِنْهُ وَأَخَذْتهَا وَدَفَعْتهَا إلَى
الْفَقِيهِ الْخَطِيبِ الْمَذْكُورِ فَطَالَعَهَا ثُمَّ أَتَانِي بِهَا فَقَالَ
لِي : يَحْرُمُ عَلَيْك إتْلَافُهَا وَحَضَّنِي عَلَى إتْمَامِهَا وَسَأَلَنِي
مِرَارًا أَنْ أُعَيِّنَ اسْمَهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ دَاخِلًا فِي جُمْلَةِ
مِنْ أَعَانَ عَلَيْهَا لِكَيْ يُدْعَى لَهُ لِكَوْنِهِ كَانَ سَبَبًا فِي إتْمَامِهَا .
خَاتِمَةُ الْمُؤَلِّفِ : وَهَذَا
دُعَاءٌ أَخْتِمُ بِهِ الْكِتَابَ رَجَاءَ
الِاسْتِجَابَةِ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ
لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْت وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدُّ مِنْك
الْجَدُّ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى
إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ
مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي
الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ
.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ صَدَّقَهُ .
بِتَوْفِيقِك وَاتَّبَعَهُ بِإِرْشَادِك وَتَسْدِيدِك
وَأَمِتْنَا عَلَى مِلَّتِهِ بِنِعْمَتِك وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ بِرَحْمَتِك .
اللَّهُمَّ بِنُورِك اهْتَدَيْنَا وَبِفَضْلِك
اسْتَغْنَيْنَا وَفِي كَنَفِك أَصْبَحْنَا وَأَمْسَيْنَا أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَا
شَيْءَ قَبْلَك وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَك نَعُوذُ بِك مِنْ
الْفَشَلِ وَالْكَسَلِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْغِنَى وَالْفَقْرِ
اللَّهُمَّ نَبِّهْنَا بِذِكْرِك فِي أَيَّامِ الْغَفْلَةِ وَاسْتَعْمِلْنَا
بِطَاعَتِك فِي أَيَّامِ الْمُهْلَةِ وَانْهَجْ لَنَا إلَى رَحْمَتِك طَرِيقًا
سَهْلَةً .
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ آمَنَ بِك فَهَدَيْته
وَتَوَكَّلَ عَلَيْك فَكَفَيْته وَسَأَلَك فَأَعْطَيْته .
اللَّهُمَّ يَا عَالَمَ الْخَفِيَّاتِ وَيَا بَاعِثَ
الْأَمْوَاتِ وَيَا سَامِعَ الْأَصْوَاتِ وَيَا مُجِيبَ الدَّعَوَاتِ وَيَا
قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَيَا خَالِقَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ أَنْتَ اللَّهُ
الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ الْجَوَّادُ الَّذِي لَا يَبْخَلُ وَالْحَلِيمُ
الَّذِي لَا يَعْجَلُ لَا رَادَّ لِأَمْرِك وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِك رَبُّ كُلِّ
شَيْءٍ وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُقَدِّرُ كُلِّ شَيْءٍ
نَسْأَلُك أَنْ تَرْزُقَنَا عِلْمًا نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وَقَلْبًا
خَاشِعًا وَلِسَانًا صَادِقًا وَعَمَلًا زَاكِيًا وَإِيمَانًا خَالِصًا وَأَنْ
تَهَبَ لَنَا إنَابَةَ الْمُخْلِصِينَ وَخُشُوعَ الْمُخْبِتِينَ وَأَعْمَالَ الصَّالِحِينَ
وَيَقِينَ الصَّادِقِينَ وَسَعَادَةَ الْمُتَّقِينَ وَدَرَجَاتِ الْفَائِزِينَ
وَالْعَابِدِينَ يَا أَفْضَلَ مَنْ قُصِدَ وَأَكْرَمَ مَنْ
سُئِلَ وَأَحْلَمَ مَنْ عُصِيَ مَا أَحْلَمَك عَلَى مَنْ
عَصَاك وَأَقْرَبَك مِمَّنْ دَعَاك وَأَعْطَفَكَ عَلَى مَنْ سَأَلَك لَك الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ إنْ أَطَعْنَاك فَبِفَضْلِك ، وَإِنْ عَصَيْنَاك فَبِحِلْمِك لَا
مَهْدِيَّ إلَّا مَنْ هَدَيْت وَلَا ضَالَّ إلَّا مِنْ أَضْلَلْت وَلَا مَسْتُورَ
إلَّا مَنْ سَتَرْت نَسْأَلُك أَنْ تَهَبَ لَنَا جَزِيلَ عَطَائِك وَالسَّعَادَةَ بِلِقَائِك
وَالْفَوْزَ بِجِوَارِك وَالْمَزِيدَ مِنْ آلَائِك وَأَنْ تَجْعَلَ لَنَا نُورًا
فِي حَيَاتِنَا وَنُورًا فِي مَمَاتِنَا وَنُورًا فِي قُبُورِنَا وَنُورًا فِي
حَشْرِنَا وَنُورًا نَتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْك وَنُورًا نَفُوزُ بِهِ لَدَيْك
فَإِنَّا بِبَابِك سَائِلُونَ وَلِنَوَالِك مُتَعَرِّضُونَ وَلِأَفْضَالِك
رَاجُونَ .
اللَّهُمَّ اهْدِنَا إلَى الْحَقِّ وَاجْعَلْنَا مِنْ
أَهْلِهِ وَانْصُرْنَا فِيهِ وَأَعْلِنَا بِهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْ شُغْلَ
قُلُوبِنَا بِذِكْرِ عَظَمَتِك وَأَفْرِغْ أَبْدَانَنَا فِي شُكْرِ نِعْمَتِك
وَأَنْطِقْ أَلْسِنَتنَا بِوَصْفِ مِنَّتِك وَقِنَا نَوَائِبَ الزَّمَانِ
وَصَوْلَةَ السُّلْطَانِ وَوَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ وَاكْفِنَا مُؤْنَةَ
الِاكْتِسَابِ وَارْزُقْنَا بِغَيْرِ حِسَابٍ .
اللَّهُمَّ اخْتِمْ بِالْخَيْرِ آجَالَنَا وَحَقِّقْ
بِالرَّجَاءِ آمَالَنَا وَسَهِّلْ فِي بُلُوغِ رِضَاك سَبِيلَنَا وَحَسِّنْ فِي
جَمِيعِ الْأَحْوَالِ أَعْمَالَنَا
.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلِآبَائِنَا كَمَا
رَبَّوْنَا صِغَارًا وَاغْفِرْ لَهُمْ مَا ضَيَّعُوا مِنْ حَقِّك وَاغْفِرْ لَنَا
مَا ضَيَّعْنَا مِنْ حُقُوقِهِمْ وَاغْفِرْ لِخَاصَّتِنَا وَعَامَّتِنَا
وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ فَإِنَّك جَوَّادٌ بِالْخَيْرَاتِ يَا
مُنْقِذَ الْغَرْقَى وَيَا مُنْجِيَ الْهَلْكَى وَيَا شَاهِدَ كُلِّ نَجْوَى وَيَا
مُنْتَهَى كُلِّ شَكْوَى وَيَا حَسَنَ الْعَطَاءِ وَيَا قَدِيمَ الْإِحْسَانِ
وَيَا دَائِمَ الْمَعْرُوفِ وَيَا مَنْ لَا غِنَى لِشَيْءٍ عَنْهُ وَلَا بُدَّ
لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهُ وَيَا مَنْ رِزْقُ كُلِّ حَيٍّ عَلَيْهِ وَمَصِيرُ كُلِّ شَيْءٍ
إلَيْهِ إلَيْك ارْتَفَعَتْ أَيْدِي السَّائِلِينَ وَامْتَدَّتْ أَعْنَاقُ
الْعَابِدِينَ وَشَخَصَتْ أَبْصَارُ الْمُجْتَهِدِينَ نَسْأَلُك أَنْ تَجْعَلَنَا
فِي كَنَفِك وَجِوَارِك
وَعِيَاذِك وَسِتْرِك وَأَمَانِك .
اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ
وَدَرَكِ الشَّقَاءِ وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ .
اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ الدُّنْيَا مَا
تُغْنِينَا بِهِ عَنْ أَهْلِهَا وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا مِنْ السَّلْوِ عَنْهَا
وَالْمَقْتِ لَهَا وَالزُّهْدِ فِيهَا وَالتَّبَصُّرِ بِعُيُوبِهَا مِثْلَ مَا
جَعَلْت فِي قُلُوبِ مَنْ فَارَقَهَا زُهْدًا فِيهَا وَرَغْبَةً عَنْهَا مِنْ أَوْلِيَائِك
الْمُخْلِصِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ .
اللَّهُمَّ لَا تَدَعْ لَنَا فِي مَقَامِنَا هَذَا
ذَنْبًا إلَّا غَفَرْته وَلَا هَمًّا إلَّا فَرَّجْته وَلَا كَرْبًا إلَّا
كَشَفْته وَلَا دَيْنًا إلَّا قَضَيْته وَلَا عَدُوًّا إلَّا كَفَيْته وَلَا
عَيْبًا إلَّا أَصْلَحْته وَلَا مَرِيضًا إلَّا شَفَيْته وَلَا غَائِبًا إلَّا
رَدَدْتَهُ وَلَا خَلَّةً إلَّا سَدَدْتهَا وَلَا حَاجَةً مِنْ حَوَائِجِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَنَا فِيهَا خَيْرٌ إلَّا قَضَيْتهَا ، فَإِنَّك تَهْدِي
السَّبِيلَ وَتَجْبُرُ الْكَسِيرَ وَتُغْنِي الْفَقِيرَ .
اللَّهُمَّ إنَّ لَنَا إلَيْك حَاجَةً وَبِنَا إلَيْك
فَاقَةً فَمَا كَانَ مِنَّا مِنْ تَقْصِيرٍ فَاجْبُرْهُ بِسَعَةِ عَفْوِك
وَتَجَاوَزْ عَنْهُ بِفَضْلِ رَحْمَتِك وَاقْبَلْ مِنَّا مَا كَانَ صَالِحًا وَأَصْلِحْ
مِنَّا مَا كَانَ فَاسِدًا فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا
مَنَعْت إلَيْك نَشْكُو قَسَاوَةَ قُلُوبِنَا وَجُمُودَ عُيُونِنَا وَطُولَ
آمَالِنَا وَاقْتِرَابَ آجَالِنَا وَكَثْرَةَ ذُنُوبِنَا فَنِعْمَ الْمَشْكُوِّ
إلَيْهِ أَنْتَ فَارْحَمْ ضَعْفَنَا
.
وَأَعْطِنَا لِمَسْكَنَتِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا
لِقِلَّةِ شُكْرِنَا فَمَا لَنَا إلَيْك شَافِعٌ أَرْجَى فِي أَنْفُسِنَا مِنْك
فَارْحَمْ تَضَرُّعَنَا وَاجْعَلْ خَوْفَنَا كُلَّهُ مِنْك وَرَجَاءَنَا كُلَّهُ
فِيك نَسْأَلُك اللَّهُمَّ بِكَرَمِك وَإِحْسَانِك أَنْ تَغْفِرَ لَنَا
وَلِوَالِدَيْنَا وَلِوَالِدَيْ وَالِدَيْنَا إلَى مُنْتَهَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ
تَغْفِرَ لِمَشَايِخِنَا وَمَشَايِخِهِمْ إلَى مُنْتَهَى الْإِسْلَامِ وَأَنْ تَغْفِرَ
لِمَنْ قَرَأَ عَلَيْنَا أَوْ قَرَأْنَا عَلَيْهِ وَاسْتَفَدْنَا مِنْهُ
وَاسْتَفَادَ مِنَّا وَاغْفِرْ لَنَا بِرَحْمَتِك وَكَرَمِك وَإِحْسَانِك
يَا ذَا الْجُودِ وَالْكَرَمِ وَالْإِحْسَانِ
وَالِامْتِنَانِ .
وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ
الْعَظِيمِ أَنْ يَجْعَلَهُ لِوَجْهِهِ خَالِصًا وَأَنْ يَنْفَعَ بِهِ مَنْ
طَلَبَهُ أَوْ كَتَبَهُ أَوْ قَرَأَهُ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ أَوْ عَمِلَ بِشَيْءٍ
مِنْهُ وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا بِالْعَمَلِ بِهِ وَأَنْ يَجْعَلَهُ
حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا وَأَنْ يَخْتِمَ لَنَا بِخَيْرٍ أَجْمَعِينَ وَنَسْأَلُهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَرِيمَ الْمَنَّانَ أَنْ يُخَلِّصَنَا وَيُخَلِّصَ
بِنَا وَيَكْفِيَنَا وَيَكْفِيَ بِنَا وَأَنْ يُعَافِيَنَا مِنْ شُرُورِ
أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا آمِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَاتَمِ
النَّبِيِّينَ وَإِمَامِ الْمُرْسَلِينَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إلَى يَوْمِ الدِّينِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا حَوْلَ وَلَا
قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
---------------------------
ج14. كتاب : المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ
إلَى فِعْلِ الطَّهَارَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا
فَعَلَتْهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ وَيَجِبُ عَلَيْهَا النُّزُولُ لِأَدَاءِ
الصَّلَاةِ وَتَسْتَتِرُ جَهْدَهَا وَيَحْرُمُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ النَّظَرُ
إلَيْهَا .
هَذَا حُكْمُ الْفَرَائِضِ .
وَأَمَّا السُّنَنُ فَجَائِزٌ فِعْلُهَا عَلَى
الرَّاحِلَةِ إلَى الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ يُومِئُ إيمَاءً } .
وَكَذَلِكَ صَلَاةُ اللَّيْلِ إلَّا الْفَرَائِضَ
وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُتَقَرَّبُ إلَى
اللَّهِ إلَّا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَتُهُ فِعْلُ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ أَوْ تَرْكُ
مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ .
فَمِنْ تَقْوَاهُ تَقْدِيمُ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ مِنْ
الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ وَتَقْدِيمُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ اجْتِنَابِ
الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى تَرْكِ الْمَكْرُوهَاتِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ
الْجَاهِلُونَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ يَتَقَرَّبُونَ
وَهُمْ مِنْهُ مُبْتَعِدُونَ فَيُضَيِّعُ أَحَدُهُمْ الْوَاجِبَاتِ حِفْظًا
لِلْمَنْدُوبَاتِ وَيَرْتَكِبُ الْمُحَرَّمَاتِ صَوْنًا عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ ،
وَلَا يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا ذَوُو الضَّلَالَاتِ وَأَهْلُ الْجَهَالَاتِ انْتَهَى .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ
أَنْ يُقَدِّمَ مَا قَدَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيُؤَخِّرَ مَا
أَخَّرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
.
فَآكَدُ الْفَرَائِضِ وَأَعْلَاهَا وَأَعْظَمُهَا بَعْدَ
الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَبِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إقَامَةُ الصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ بَيْنَ
الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ } وَقَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ صَلَّى صَلَاتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا
وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا
فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَمَنْ
أَبَى فَهُوَ كَافِرٌ وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَوْضِعُ الصَّلَاةِ مِنْ الدِّينِ مَوْضِعُ الرَّأْسِ مِنْ
الْجَسَدِ } وَإِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فِي الشَّرْعِ
الشَّرِيفِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا يَفْعَلُهُ
بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يُسَافِرُونَ لِلْحَجِّ وَيُضَيِّعُونَ الصَّلَاةَ فِي
الْغَالِبِ وَمَنْ يُضَيِّعُهَا مِنْهُمْ عَلَى أَقْسَامٍ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَتْرُكُهَا أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُقِيمَ وَحِينَئِذٍ يُصَلِّي وَمِنْهُمْ مَنْ
يُوقِعُهَا فِي وَقْتِهَا بِالتَّيَمُّمِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ
وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُبِحْ التَّيَمُّمَ
إلَّا مَعَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ لَهُ .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا
} وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَتَيَمَّمُ وَالْقِرَبُ
مَعَهُ مَلْآنَةُ بِالْمَاءِ وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّهُمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ
اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ عَطْشَانُ مَعَهُمْ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْقُونَ
غَيْرَهُمْ وَإِنْ سَقَى بَعْضُهُمْ فَقَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ وَالْغَالِبُ
عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ الْمَاءَ الثَّانِي وَالْمَاءُ الْأَوَّلُ
أَكْثَرُهُ بَاقٍ مَعَهُمْ وَالتَّيَمُّمُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ مَمْنُوعٌ شَرْعًا
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَلْ يَزِيدُ مَنْ انْغَمَسَ مِنْهُمْ
فِي الْجَهْلِ بِأَنْ يَتَيَمَّمَ وَهُوَ نَازِلٌ عَلَى الْمَاءِ وَيَعْتَلُّونَ
لِجَهْلِهِمْ بِأَنَّ نَفْسَ وُجُودِ السَّفَرِ يُبِيحُ لَهُمْ التَّيَمُّمَ مَعَ وُجُودِ
الْمَاءِ وَهَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ مِمَّنْ ارْتَكَبَهُ وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا
وَأَمْثَالِهِ مُتَعَيَّنٌ وَمَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَحْذُورَ فِي
عَدَمِ السُّؤَالِ وَفِي إيقَاعِهِ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ
الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ
الْعِبَادَاتِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ .
( فَصْلٌ ) وَهَذِهِ الْعِبَادَةُ أَعْنِي عِبَادَةَ
الْحَجِّ افْتَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ
ثُمَّ عَذَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي تَرْكِهَا الْأَعْذَارَ تَلْحَقُ
الْمُكَلَّفَ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
: إنَّ شُرُوطَ وُجُوبِ الْحَجِّ سِتَّةٌ : وَهِيَ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ
وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ وَإِمْكَانُ السَّيْرِ فَإِنْ
عُدِمَ وَاحِدٌ مِنْهَا لَمْ يَجِبْ ، وَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ بِخِلَافِ
أَمْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِإِيقَاعِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ
عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنْ عَدِمَ الْمَاءَ تَيَمَّمَ
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُيَمِّمُهُ أَوْمَأَ إلَى
الْأَرْضِ بِالتَّيَمُّمِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِيمَاءُ بِالسُّجُودِ إلَيْهَا ، وَذَلِكَ
مُتَعَيِّنٌ فِي مِثْلِ الْمَرْبُوطِ وَالْمَصْلُوبِ فَإِنْ وَجَدَ السَّبِيلَ
إلَى الْأَرْضِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَمَسَّهَا لِمَرَضٍ بِهِ أَوْ رَبْطٍ أَوْ
صَلْبٍ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ أَنْ يُيَمِّمَهُ وَيَنْوِيَ
هُوَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِنَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا
وَنَوَاهَا مَنْ يَمَّمَهُ عَنْهُ فَلَا تُجْزِيهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ
فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ السُّورَةَ الَّتِي مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ وَيَقْرَأُ
بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهَا ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ
يُصَلِّيَ قَائِمًا مُسْتَنِدًا إلَى جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِ وَيَقْرَأَ مَعَ
ذَلِكَ أَوْ يَسْتَنِدَ إلَى رَجُلٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ امْرَأَةٍ مِنْ ذَوَاتِ
مَحَارِمِهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى جَالِسًا يُومِئُ بِالرُّكُوعِ
وَيَسْجُدُ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ السُّجُودِ عَلَيْهَا أَوْمَأَ بِالسُّجُودِ
إلَى الْأَرْضِ وَيَكُونُ إيمَاؤُهُ بِالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ ،
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْجُلُوسِ صَلَّى مُسْتَنِدًا عَلَى حُكْمِ مَا مَرَّ فِي
صَلَاةِ الْقَائِمِ الْمُسْتَنِدِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى مُضْطَجِعًا مُسْتَقْبِلَ
الْقِبْلَةِ ، وَهُوَ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فَإِنْ
عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهِ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ ، وَهَذَا
فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ إنَّمَا هُوَ مُسْتَقْبِلٌ
السَّمَاءَ لَكِنَّهُ لَوْ جَلَسَ لَكَانَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ ،
وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فِي حَقِّ هَذَا إنَّمَا هُوَ بِالْإِيمَاءِ بِعَيْنِهِ
إذْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ وَمَعَهُ
شَيْءٌ مِنْ عَقْلِهِ وَذَلِكَ فِيهَا بِخِلَافِ الْحَجِّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
أَنَّهُ إنْ عُدِمَ شَرْطٌ مِنْ تِلْكَ الشُّرُوطِ لَمْ يَأْثَمْ الْمُكَلَّفُ
بِتَرْكِهِ ، بَلْ هُوَ مَأْجُورٌ عَلَى الِاتِّبَاعِ لِلِسَانِ الْعِلْمِ فِي
فِعْلِ الْعِبَادَةِ ، وَفِي تَرْكِهَا
.
وَلِأَجْلِ تَرْكِ النَّظَرِ إلَى مَا قَرَّرَهُ الْعُلَمَاءُ
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَفَهِمُوهُ مِنْ الْمُكَلَّفِ وَبِالدُّخُولِ فِيهَا
مِثْلَ أَنْ يَسْمَعَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ فَيَظُنَّ
لِجَهْلِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ ؛ لِكَوْنِهِ لَمْ يَسْأَلْ أَحَدًا
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَيَدْخُلُ فِيهِ ، وَهُوَ بَرِيءُ الذِّمَّةِ مِنْ
فَرْضِهِ عَلَيْهِ فَيُكَلِّفُ نَفْسَهُ مَا لَا يَفِي بِهِ وَلَا تَتَخَلَّصُ
الذِّمَّةُ بِإِيقَاعِهِ لِتَعَذُّرِ فِعْلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فِيهِ
لِكَثْرَةِ الشَّوَائِبِ الَّتِي تَعْتَوِرُ الْعَمَلَ سِيَّمَا الْحَجُّ الَّذِي
لَا يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ لِظُهُورِهِ وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ لِفَاعِلِهِ وَتَعْظِيمِهِمْ
لَهُ لِأَجْلِهِ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا لَوْ نُهِيَ النَّاسُ عَنْ جَاحِمِ الْجَمْرِ لَقَالَ قَائِلٌ
لَوْ ذُقْته .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ لَا يَرْجِعُ إلَيْهَا فِي
الْغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الدِّينِ وَالْعَقْلِ وَالْمُرُوءَةِ .
وَمِنْ كِتَابِ مَرَاقِي الزُّلْفَى لِلْقَاضِي أَبِي
بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي آخِرِ
الزَّمَانِ يَكْثُرُ الْحَاجُّ بِالْبَيْتِ يَهُونُ عَلَيْهِمْ السَّفَرُ
وَيُبْسَطُ عَلَيْهِمْ الرِّزْقُ وَيَرْجِعُونَ مَحْرُومِينَ مَسْلُوبِينَ يَهْوِي
بِأَحَدِهِمْ بَعِيرُهُ
بَيْنَ الْقِفَارِ وَالرِّمَالِ وَجَارُهُ مَأْسُورٌ إلَى
جَنْبِهِ لَا يُوَاسِيهِ .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ يُوَدِّعُ
بِشْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَقَالَ قَدْ عَزَمْت عَلَى الْحَجِّ أَفَتَأْمُرُنِي
بِشَيْءٍ فَقَالَ لَهُ بِشْرٌ : كَمْ أَعْدَدْت لِلنَّفَقَةِ ؟ فَقَالَ : أَلْفَيْ
دِرْهَمٍ قَالَ بِشْرٌ فَأَيُّ شَيْءٍ تَبْتَغِي بِحَجِّك نُزْهَةً أَوْ
اشْتِيَاقًا إلَى الْبَيْتِ أَوْ ابْتِغَاءَ مَرِضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ ابْتِغَاءَ
مَرِضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ فَإِنْ أَصَبْت رِضَا اللَّهِ وَأَنْتَ فِي
مَنْزِلِك وَتُنْفِقُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَتَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ مَرِضَاتِ
اللَّهِ تَعَالَى تَفْعَلُ ذَلِكَ قَالَ نَعَمْ قَالَ اذْهَبْ فَأَعْطِهَا
عَشْرَةَ أَنْفُسٍ .
مَدِينٌ تَقْضِي دَيْنَهُ وَفَقِيرٌ تَرُمُّ شَعَثَهُ
وَمُعِيلٌ تُحْيِي عِيَالَهُ وَمُرَبًّى يَتِيمٌ تُفَرِّحُهُ وَتُغِيثُ لَهْفَانَ
وَتَكْشِفُ ضُرَّ مُحْتَاجٍ وَتُعِينُ رَجُلًا ضَعِيفَ الْيَقِينِ ، وَإِنْ قَوِيَ
قَلْبُك أَنْ تُعْطِيَهَا لِوَاحِدٍ فَافْعَلْ ، فَإِنَّ إدْخَالَك السُّرُورَ عَلَى
قَلْبِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةٍ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةِ
الْإِسْلَامِ قُمْ فَأَخْرِجْهَا كَمَا أَمَرْنَاك ، وَإِلَّا قُلْ لَنَا مَا فِي
قَلْبِك فَقَالَ يَا أَبَا نَصْرٍ سَفَرِي أَقْوَى فِي قَلْبِي فَتَبَسَّمَ بِشْرٌ
وَقَالَ لَهُ الْمَالُ إذَا جُمِعَ مِنْ وَسَخِ التِّجَارَاتِ وَالشُّبُهَاتِ
اقْتَضَتْ النَّفْسُ أَنْ تَقْضِيَ بِهِ وَطَرًا تُسْرِعُ إلَيْهِ تَظَاهُرًا
بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَقَدْ آلَى اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا
يَقْبَلَ إلَّا عَمَلَ الْمُتَّقِينَ .
وَقَدْ كَانَ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا إذَا نَظَرُوا إلَى الْمُتْرَفِينَ
قَدْ خَرَجُوا إلَى مَكَّةَ يَقُولُونَ لَا تَقُولُوا خَرَجَ فُلَانٌ حَاجًّا
وَلَكِنْ قُولُوا خَرَجَ مُسَافِرًا
.
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَحْكِي أَنَّ شَابًّا مِنْ الْمَغَارِبَةِ جَاءَ إلَى الْحَجِّ فَلَمَّا أَنْ
وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْبِلَادِ فَرَغَ مَا بِيَدِهِ وَكَانَ يُحْسِنُ الْخِيَاطَةَ
فَجَاءَ إلَى خَيَّاطٍ وَجَلَسَ يَخِيطُ عِنْدَهُ بِالْأُجْرَةِ وَكَانَ عَلَى دِينٍ
وَخَيْرٍ وَكَانَ جُنْدِيٌّ يَأْتِي إلَى الدُّكَّانِ
فَيَقْعُدُ عِنْدَهُ فَيَتَكَلَّمُونَ وَالشَّابُّ لَا
يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ ، بَلْ مُقْبِلٌ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ فَحَصَلَ
لِلْجُنْدِيِّ فِيهِ حُسْنُ ظَنٍّ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ أَوَانُ خُرُوجِ .
الرَّكْبِ إلَى الْحَجِّ سَأَلَهُ الْجُنْدِيُّ لِمَ لَا
تَحُجُّ فَقَالَ لَيْسَ لِي شَيْءٌ أَحُجُّ بِهِ فَجَاءَ الْجُنْدِيُّ
بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَ لَهُ خُذْ هَذِهِ فَحُجَّ بِهَا فَرَفَعَ
الشَّابُّ رَأْسَهُ إلَيْهِ وَقَالَ لَهُ كُنْت أَظُنُّك مِنْ الْعُقَلَاءِ
فَقَالَ : وَمَا رَأَيْت مِنْ عَدَمِ عَقْلِي ؟ ، فَقَالَ لَهُ : أَنَا أَقُولُ
لَك كُنْت فِي بَلَدِي بَيْنَ أَهْلِي وَفَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيَّ الْحَجَّ
فَلَمَّا أَنْ وَصَلْت إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِّي
لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِي جِئْت أَنْتَ بِدَرَاهِمِك تُرِيدُ أَنْ تُوجِبَ عَلَيَّ شَيْئًا
أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنِّي ، وَذَلِكَ لَا أَفْعَلُهُ أَوْ كَمَا قَالَ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ أَيْضًا جَاءَ إلَى
هَذِهِ الْبِلَادِ فَفَرَغَ مَا بِيَدِهِ فَبَقِيَ يَعْمَلُ بِالْقِرْبَةِ عَلَى
ظَهْرِهِ وَكَانَ يَحْصُلُ لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلُّ
أَوْ أَكْثَرُ فَيَأْكُلُ مِنْهَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي
وَكَانَ لَهُ مَالٌ بِبَلَدِهِ فَجَاءَ بَعْضُ مَعَارِفِهِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ
وَسَأَلُوهُ أَنْ يَمْضِيَ مَعَهُمْ إلَى الْحِجَازِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ
فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيَّ الْحَجَّ الْآنَ لِعَدَمِ قُدْرَتِي عَلَى الزَّادِ
وَمَا أَحْتَاجُهُ فِي الْحَجِّ فَقَالُوا : خُذْ مِنَّا مَا تَخْتَارُ فَقَالَ :
لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَمْ أُنْدَبْ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ نَحْنُ
نُقْرِضُك إلَى أَنْ تَرْجِعَ إلَى بَلَدِك فَقَالَ وَمَنْ يَضْمَنُ لِي
الْحَيَاةَ حَتَّى تَأْخُذُوا قَرْضَكُمْ فَقَالُوا لَهُ نَجْعَلُك فِي حِلٍّ
مِنْهُ فَقَالَ لَهُمْ لَا يَجِبُ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَا أُنْدَبُ إلَيْهِ
فَقَالُوا لَهُ فَوَفِّرْ مِمَّا تُحَصِّلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا تَحُجُّ بِهِ
وَتَرْجِعُ إلَى بَلَدِك وَمَالِك فَقَالَ لَهُمْ تَفُوتُنِي حَسَنَاتٌ
مُعَجَّلَةٌ لِشَيْءٍ
لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ الْآنَ وَلَا أَدْرِي هَلْ أَعِيشُ
لِذَلِكَ الزَّمَانِ أَمْ لَا أَوْ كَمَا قَالَ .
وَقَدْ مَنَعَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ بِمَالٍ
يَأْخُذُهُ قَرْضًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِ مَعَ رَغْبَةِ صَاحِبِ الْمَالِ
فِي ذَلِكَ وَتَلَهُّفِهِ عَلَيْهِ وَصَبْرِهِ إلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَالِ
الْمُقْتَرِضِ فِي بَلَدِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ إلَيْهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ
أَيْضًا رَاغِبٌ فِي أَنْ لَا يَأْخُذَ عَرْضَهُ لَوْ رَضِيَ الْمُقْتَرِضُ .
وَعَلَّلَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَلِكَ
بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عِمَارَةُ الذِّمَّةِ بِشَيْءٍ لَا يَدْرِي هَلْ يَفِي بِهِ
أَمْ لَا ؟ إنْ كَانَ قَرْضًا .
وَالثَّانِي : الْمِنَّةُ فِيهِ فَإِنْ أَخَذَهُ عَلَى
جِهَةِ الْهِبَةِ فَفِيهِ الْمِنَّةُ أَكْثَرُ .
فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ سَيِّدِي الشَّيْخِ : لَهُ
أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَا يَمُنُّ ، بَلْ يُمَنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَقَالَ
رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ لَمْ يَمُنَّ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ فِي بَلَدِهِ
فَقَالَ لَهُ قَدْ لَا يَرْجِعُ هُوَ لِلْبَلَدِ يَعْنِي الْمُقْتَرِضَ فَقَالَ الشَّيْخُ
رَحِمَهُ اللَّهُ : تَقَعُ الْمِنَّةُ عَلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ فَإِنْ لَمْ
يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَدْ يَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ
أَحْجَجَ فُلَانًا ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمِنَّةِ مَا فِيهِ بِشَيْءٍ لَمْ يَجِبْ
عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُنْدَبْ إلَيْهِ أَوْ كَمَا قَالَ .
هَذَا فِعْلُهُمْ فِي الْحَجَّةِ الْأُولَى فَمَا بَالُك
بِهِمْ فِي التَّطَوُّعِ هَذَا حَالُ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي خَلَاصِ
ذِمَمِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي ذَلِكَ وَالْجَاهِلُ الْمِسْكِينُ يَتَدَايَنُ
وَيَحْتَالُ وَيَطْلُبُ مِنْ النَّاسِ بِسَبَبِ الْحَجِّ حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ
لَيَطْلُبُ مِنْ الظَّلَمَةِ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ
يَتَعَيَّنُ هِجْرَانُهُمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِزِيَادَةِ طُغْيَانِهِمْ لِكَوْنِهِمْ
يَرَوْنَ بَعْضَ مَنْ يَعْتَقِدُونَهُ وَيَظُنُّونَ بِهِ خَيْرًا عَلَى
أَبْوَابِهِمْ وَيُعَامِلُهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ وَيَطْلُبُ مِنْ فَضَلَاتِ
أَوْسَاخِهِمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ الْقَذِرَةِ الْمُحَرَّمَةِ .
وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ الْجَهْلُ فَتُسَوِّلُ
لَهُ نَفْسُهُ أَوْ يَغُرُّهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عَلَى
طَاعَةٍ وَخَيْرٍ ، وَهُوَ بِالْعَكْسِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ .
وَبَعْضُ مَنْ يَطْلُبُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِسَبَبِ
الْحَجِّ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَعِدَهُمْ بِالدُّعَاءِ لَهُمْ فِي تِلْكَ
الْمَوَاطِنِ الشَّرِيفَةِ .
وَبَعْضُهُمْ يَتْرُكُ أَهْلَهُ ضِيَاعًا وَيَمْضِي إلَى
الْحَجِّ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كَفَى
بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ } وَبَعْضُ مَنْ انْغَمَسَ
مِنْهُمْ فِي الْجَهْلِ يَفْعَلُ مَا ذُكِرَ فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ وَبَعْضُهُمْ
قَدْ اتَّخَذَ ذَلِكَ دُكَّانًا يَجْبِي بِهِ أَمْوَالَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ
فِي حَقِّ مَنْ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ .
وَبَعْضُهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ
بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلَيْهِمْ فَيَتَشَفَّعُ
عِنْدَهُمْ بِمَنْ يَرْجُو أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ أَوْ يَرْجِعُوا إلَى قَوْلِهِ
وَيُثْنِي الشَّافِعُ عَلَى مَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُمْ إذْ ذَاكَ بِأَنَّهُ
مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لِيَتَعَطَّفُوا بِالدَّفْعِ إلَيْهِمْ فَيَأْكُلُوا
الدُّنْيَا وَالدِّينَ ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
وَبَعْضُهُمْ لَا يَصِلُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ وَلَا يَقْدِرُ
عَلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ فَيَخْرُجُ بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا
مَرْكُوبٍ فَتَطْرَأُ عَلَيْهِ أُمُورٌ عَدِيدَةٌ كَانَ عَنْهَا فِي غِنًى .
مِنْهَا عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ ،
وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ .
وَمِنْهَا عَدَمُ الْقُوتِ وَالْوُقُوعُ فِي
الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ وَتَكَلُّفِ النَّاسِ الْقِيَامَ بِقَوْلِهِ وَسَقْيِهِ
وَرُبَّمَا آلَ أَمْرُهُ إلَى الْمَوْتِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَتَجِدُهُمْ فِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ طَرْحَى مَيِّتِينَ بَعْدَ أَنْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ
تَعَالَى فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْقَعُوا إخْوَانَهُمْ الْمُسْلِمِينَ
مِمَّنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الرَّكْبِ فِي إثْمِهِمْ وَكَذَلِكَ يَأْثَمُ
كُلُّ مَنْ أَعَانَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَكْفِيهِمْ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ أَوْ
سَعَى لَهُمْ فِيهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ
أَنَّ غَيْرَهُ يُعِينُهُمْ بِشَيْءٍ تَتِمُّ بِهِ
كِفَايَتُهُمْ فِي الذَّهَابِ وَالْعَوْدِ فَلَا بَأْسَ إذَنْ .
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ
الْإِعْطَاءُ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِدُخُولِهِمْ فِيمَا لَا قُدْرَةَ
لَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَالْإِفْضَاءِ إلَى
الْمَوْتِ ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا وَقَعَ بِهِمْ
وَفِيمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ السُّخْطِ وَالضَّجَرِ وَالسَّبِّ ، وَهَذَا
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا فِي الطَّرِيقِ عَلَى هَذَا الْحَالِ ، فَإِنَّهُ
يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ إعَانَتُهُمْ بِمَا تَيَسَّرَ فِي
الْوَقْتِ ، وَلَوْ بِالشَّرْبَةِ وَالشَّرْبَتَيْنِ وَاللُّقْمَةِ
وَاللُّقْمَتَيْنِ وَيُعَرِّفُهُمْ أَنَّ مَا ارْتَكَبُوهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ
لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ سَبَبُهُ
الْجَهْلُ بِحَقِيقَةِ الْعِبَادَةِ وَمَا يَجِبُ فِيهَا ، وَمَا يُمْنَعُ وَمَا
يُنْدَبُ وَمَا يُكْرَهُ .
وَقَدْ جَاءَ هَذَا بِالنَّصِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَحُجُّ أَغْنِيَاؤُهُمْ
لِلنُّزْهَةِ وَأَوْسَطُهُمْ لِلتِّجَارَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ لِلرِّيَاءِ
وَفُقَرَاؤُهُمْ لِلْمَسْأَلَةِ } قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : الْقُرَّاءُ هُمْ
الْمُتَعَبِّدُونَ .
وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمَعَانِي وَمَا شَاكَلَهَا قَالَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ طَاعَةُ الْجَاهِلِ شَهْوَةٌ وَطَاعَةُ
الْعَارِفِ امْتِثَالٌ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى
الْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
فَيُبَادِرَ إلَى فِعْلِهِ بِشَرْطِ سَلَامَتِهِ مِنْ الشَّوَائِبِ وَلْيَحْذَرْ
أَنْ يَقَعَ فِيمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ يَتَدَايَنُونَ حَتَّى
يُوجِبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَرْضَ الْحَجِّ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يُوفُونَ
مَا تَعَمَّرَتْ بِهِ ذِمَّتُهُمْ
.
ثُمَّ إنَّ الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ
لَا يَعْرِفُونَ الْأَحْكَامَ فِي عِبَادَتِهِمْ فَيَقَعُ الْخَلَلُ فِي حَجِّهِمْ
وَلَرُبَّمَا
يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ
حُكْمًا لِمَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ
قَوْله تَعَالَى { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا } نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
فَلَيْسَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْتَالَ فِي
تَحْصِيلِ شَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ غَالِبًا فِي
بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ الْآنَ بَرِيئَةٌ فَلَا يَشْغَلُهَا بِشَيْءٍ
لَمْ يَتَحَقَّقْ بَرَاءَتُهَا مِنْهُ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
الْمُكَلَّفُ فِي نَفْسِهِ يُحِبُّ الْحَجَّ وَيَنْوِيهِ وَيَخْتَارُهُ ؛ لِأَنَّ
شَأْنَ الْمُسْلِمِ أَنْ يَخْتَارَ طَاعَةَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُحِبَّهَا
لَكِنْ يُقَيِّدُ مَحَبَّتَهُ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ الشَّرْعُ
بِأَنْ يُوَفِّرَ وَيَحْتَالَ وَيَتَسَبَّبَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ
بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ ،
فَإِنْ تَرَكَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَهُوَ عَاصٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ
ذَلِكَ بِسَبَبِ رِضَا وَالِدَيْهِ لِئَلَّا يَعُقَّهُمَا فَيَتَرَبَّصَ
عَلَيْهِمَا الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ أَوْ يَكُونُ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ
وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى السَّنَةِ الْآتِيَةِ .
، وَإِذَا
وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يُنْفِقُهُ
فِيهِ وَيَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ هُوَ
بِهَا مُتَطَوِّعٌ وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَالتَّطَوُّعُ لَا يَسُدُّ مَسَدَّ
الْوَاجِبِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْفِيرُ وَالِاحْتِيَالُ
عَلَى تَحْصِيلِ مَا يَحُجُّ بِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ
فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ وَمَا يَلْزَمُهُ فِيهِ مِنْ
الْأَفْعَالِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يَحْرُمُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يُكْرَهُ
أَوْ يُبَاحُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتَعَبَّدْ أَحَدًا بِالْجَهْلِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى { فَاسْأَلُوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ
كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } قَالَ
الْمُحَقِّقُونَ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَا وَجَبَ عَلَيْك عَمَلُهُ وَجَبَ عَلَيْك الْعِلْمُ
بِهِ .
فَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ الْمُكَلَّفُ إذَا
وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فِي أَمْرِ الزَّادِ وَمَا يُنْفِقُهُ فِي حَجِّهِ
فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ أَطْيَبِ جِهَةٍ تُمْكِنُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ يُعِينُ
عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ
أَطَاعَ اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ شَاءَ
أَوْ أَبَى } وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَتْرُكُونَ
سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ أَنْ يَقَعُوا فِي بَابٍ مِنْ
الْحَرَامِ هَذَا وَهُمْ لَمْ يَتَلَبَّسُوا بِفِعْلِ الْحَجِّ الَّذِي يُرِيدُ
هَذَا أَنْ يَتَلَبَّسَ بِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الَّذِي يَحُجُّ بِمَالٍ حَرَامٍ
أَنَّهُ إذَا قَالَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ يَقُولُ لَهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ لَا لَبَّيْكَ وَلَا سَعْدَيْكَ حَتَّى تَرُدَّ مَا فِي يَدَيْك .
فَمَنْ يُجَابُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ كَيْفَ
يُقْبَلُ مِنْهُ حَجُّهُ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ الشُّبُهَاتِ فَإِنْ
عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَقْتَرِضْ مَالًا حَلَالًا لِيَحُجَّ بِهِ ، فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ : أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ بْنُ عَبْدُوسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ
الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ
وَاعْمَلُوا صَالِحًا إنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } } قَالَ
سَحْنُونَ الطَّيِّبُ هُوَ الْحَلَالُ
.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَبْدُوسٍ : وَاعْلَمْ أَنَّ
عِمَادَ الدِّينِ وَقِوَامَهُ هُوَ طَيِّبُ الْمَطْعَمِ فَمَنْ طَابَ مَكْسَبُهُ
زَكَا عَمَلُهُ وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْ
طَيِّبَ مَكْسَبِهِ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا تُقْبَلَ
صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَحَجُّهُ وَجِهَادُهُ وَجَمِيعُ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ { إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ
الْمُتَّقِينَ } وَنَظَرَ عُمَرُ إلَى الْمُصَلِّينَ فَقَالَ : لَا يَغُرُّنِي
كَثْرَةُ رَفْعِ أَحَدِكُمْ رَأْسِهِ وَخَفْضِهِ الدِّينُ الْوَرَعُ فِي دِينِ اللَّهِ
وَالْكَفُّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ وَالْعَمَلُ بِحَلَالِ اللَّهِ وَحَرَامِهِ .
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ { مَنْ أَمْسَى وَانِيًا فِي طَلَبِ الْحَلَالِ كَانَ مَغْفُورًا لَهُ }
وَقَالَ الْحَسَنُ الذِّكْرُ ذِكْرَانِ ذِكْرٌ بِاللِّسَانِ وَذِكْرٌ بِالْقَلْبِ
وَذَلِكَ حَسَنٌ وَأَفْضَلُ مِنْهُ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ أَدَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْحَرَامِ
سُتْرَةً مِنْ الْحَلَالِ وَلَا أُحَرِّمُهَا وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ ابْنُ
عُمَرَ وَغَيْرُهُ مِنْ كَرَمِ الرَّجُلِ طِيبُ زَادِهِ فِي سَفَرِهِ وَكَانَ يَقُولُ
أَفْضَلُ الْحُجَّاجِ أَخْلَصُهُمْ نِيَّةً وَأَزْكَاهُمْ نَفَقَةً وَأَحْسَنُهُمْ
يَقِينًا وَيُرْوَى لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ إذَا حَجَجْت بِمَالٍ أَصْلُهُ سُحْتٌ
فَمَا حَجَجْت وَلَكِنْ حَجَّتْ الْعِيرُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي آدَابِ
الْمُسَافِرِ لِلتِّجَارَةِ مَا تَقَدَّمَ فَفِي حَقِّ هَذَا آكَدُ ؛ لِأَنَّ
سَفَرَهُ لِمَحْضِ الْعِبَادَةِ فَيَكُونُ النَّظَرُ فِي تَخْلِيصِ مَا يُنْفِقُهُ
فِي حَجِّهِ أَوْجَبَ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الدِّرْهَمُ الَّذِي
يُنْفِقُهُ فِي الْحَجِّ بِسَبْعِمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ .
وَرَوَى يَزِيدُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا } ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَنْبَغِي لِمَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ أَوَّلًا فِي الِاسْتِخَارَةِ
كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُسَافِرِ لَكِنَّ الِاسْتِخَارَةَ هُنَا لَيْسَتْ كَمَا
تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخَارَةَ فِي فِعْلِ الْوَاجِبِ لَا مَحَلَّ لَهَا
وَكَذَلِكَ الِاسْتِخَارَةُ فِي تَرْكِ الْمُحَرَّمِ وَالْمَكْرُوهِ ،
وَإِنَّمَا تَكُونُ الِاسْتِخَارَةُ هُنَا هَلْ
يَفْعَلُهُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ السَّنَةِ الْآتِيَةِ وَهَلْ يُرَافِقُ
فُلَانًا أَمْ لَا وَهَلْ يَكْتَرِي مَعَ فُلَانٍ أَمْ لَا وَهَلْ يَشْتَرِي
الْمَرْكُوبَ أَوْ يَكْتَرِيهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ
وَالشَّظَفُ فِي الْحَجِّ أَوْلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ
؛ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ
.
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيَرْكَبَ
فِي الْمَحْمَلِ ، وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ
الضَّرُورَةِ وَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ ،
وَإِنَّمَا كَانَ بِدْعَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ
الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فَرَكِبَ النَّاسُ سُنَّتَهُ وَكَانَ الْعُلَمَاءُ فِي
وَقْتِهِ يُنْكِرُونَهَا وَيَكْرَهُونَ الرُّكُوبَ فِيهَا .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَخَافُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ مِنْ تَمَاوُتِ
الْإِبِلِ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَهُ لِثِقَلِ الْمَحْمَلِ وَثِقَلُهُ عَدْلُ
أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ وَزِيَادَةٍ مَعَ طُولِ الْمَشَقَّةِ وَقِلَّةِ الْمَطْعَمِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا نَظَرَ إلَى
مَا أَحْدَثَ الْحَجَّاجِ مِنْ الزِّينَةِ وَالْمَحَامِلِ يَقُولُ إنَّ الْحَجَّ
قَلِيلٌ وَالرَّكْبَ كَثِيرٌ .
فَإِذَا اسْتَخَارَ اللَّهَ تَعَالَى وَاسْتَشَارَ فَانْشَرَحَ
صَدْرُهُ عَقِيبَ اسْتِخَارَتِهِ لِفِعْلِ الْحَجِّ بَادَرَ إلَى الشُّرُوعِ فِي
أَسْبَابِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَارَعَةَ إلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ أَوْجَبُ ؛
لِأَنَّهُ قَدْ تَتَغَيَّرُ الْأَحْوَالُ فَلَا يَجِدُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ
بَعْدُ .
وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
مَنْ مَلَكَ رَاحِلَةً وَزَادًا يُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ
وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا }
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ
أَبَوَانِ يَمْنَعَانِهِ أَوْ أَحَدُهُمَا شَفَقَةً عَلَيْهِ فَلْيَتَرَبَّصْ عَلَيْهِمَا
الْعَامَ وَالْعَامَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَهَذَا مَا لَمْ يَبْلُغْ عُمُرُهُ
السِّتِّينَ فَإِنْ بَلَغَهَا تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ الْمُبَادَرَةُ إلَى الْحَجِّ
عَلَى
الْفَوْرِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ لِأَجْلِ الْوَالِدَيْنِ
وَلَا غَيْرِهِمَا وَلَا يَسْتَخِيرُ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَخِيرُ فِي الْمَنْدُوبَاتِ هَلْ
يَفْعَلُهَا أَوْ لَا ، بَلْ يَسْتَخِيرُ فِي فِعْلِ أَحَدِهِمَا إذَا ضَاقَ
الْوَقْتُ عَنْ فِعْلِهِمَا مَعًا
.
وَلَا يَسْتَخِيرُ الْإِنْسَانُ إلَّا فِيمَا هُوَ
مَعْلُومٌ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ
.
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا
هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ }
الْحَدِيثَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ
النَّاسِ مِنْ أَنَّهُ إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْ
الِاسْتِخَارَةِ لِكُلِّ مَا يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالْأَمْرِ } ، وَهَذَا لَمْ يَهُمَّ بَعْدُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ
أَوْ هَمَّ بِالْبَعْضِ فَلَا اسْتِخَارَةَ فِي مِثْلِ هَذَا وَمَا وَضَعَهُ
الشَّرْعُ لِشَيْءٍ فَالتَّعَدِّي بِهِ لِغَيْرِهِ بِدْعَةٌ .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ
أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى جَنَائِزِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا فِي أَقْطَارِ
الْأَرْضِ صَلَاةَ الْغَائِبِ بَعْدَ الْغُرُوبِ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ ، وَهَذَا
مُخَالِفٌ لِفِعْلِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ فَعَلَ هَذَا فَيَسَعُنَا
مَا وَسِعَهُمْ إنْ كُنَّا صَالِحِينَ
.
فَإِذَا شَرَعَ فِي شِرَاءِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
حَجُّهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يُمَاكِسَ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ .
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الدِّرْهَمَ الَّذِي
يُنْفَقُ فِي الْحَجِّ مُضَاعَفٌ بِسَبْعِمِائَةٍ أَوْ أَكْثَرَ فَإِذَا مَاكَسَ
فَوَّتَ نَفْسَهُ ثَوَابًا كَثِيرًا لِأَجْلِ مَا يُنْقِصُ مِنْ النَّفَقَةِ
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ السَّلَفِ تَرْكَ الْمُمَاكَسَةِ وَالْمُحَاكَّةِ فِي
تَحْصِيلِ أَسْبَابِ سَفَرِ الْحَجِّ وَقَالَ لَا يُمَاكِسُ فِي كُلِّ شَيْءٍ يَتَقَرَّبُ
بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْجِدَّةِ ، وَأَمَّا
إنْ كَانَ مِمَّنْ يَخْشَى أَنْ لَا يَقُومَ بِهِ مَا بِيَدِهِ إذَا لَمْ
يُمَاكِسْ فَلَا بَأْسَ بِالْمُمَاكَسَةِ إذَنْ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يُمَاكِسُ عِنْدَ شِرَائِهِ الْحَاجَةَ فَلَمَّا أَنْ اشْتَرَى مَا احْتَاجَ
إلَيْهِ لِلْحَجِّ كَانَ لَا يُمَاكِسُ أَحَدًا مِمَّنْ يَشْتَرِي مِنْهُ فَرُبَّمَا
سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أَوْ ابْتَدَأَ هُوَ بِهِ فَقَالَ : إنَّ دِرْهَمَ الْحَجِّ
بِسَبْعِمِائَةٍ فَلَوْ مَاكَسْت لَنَقَصَ لِي مِنْ الثَّوَابِ أَوْ كَمَا قَالَ
بِخِلَافِ غَيْرِ الْحَجِّ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالْمُمَاكَسَةِ
لِلْبَاعَةِ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
مَاكِسُوا الْبَاعَةَ فَإِنَّ فِيهِمْ الْأَرْذَلِينَ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ .
ثُمَّ يَكُونُ فِي مُبَاشَرَتِهِ لِكُلِّ مَا
يَشْتَرِيهِ لِحَجِّهِ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ
وَالْوَقَارِ } وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُمَا
رُكْنَانِ عَظِيمَانِ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ الْخَمْسَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا
الْإِسْلَامُ .
وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْخُشُوعَ
فِي الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ وَاجِبٌ فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ ؛
لِأَنَّهُ خَارِجٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَإِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى مَسْجِدِهِ فَالسَّكِينَةُ
آكَدُ فِي حَقِّهِ مِمَّنْ يَخْرُجُ إلَى مَسْجِدٍ سِوَاهُمَا لَكِنَّ طَلَبَ
السَّكِينَةِ فِي بَعْضِهَا آكَدُ مِنْ بَعْضٍ فَالْخُشُوعُ وَالسَّكِينَةُ
وَالْوَقَارُ عِنْدَ الْخُرُوجِ آكَدُ مِنْهُ فِي شِرَاءِ حَوَائِجِهِ ، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ
إذَا وَصَلُوا إلَى مَضِيقٍ فِي الطَّرِيقِ تَزَاحَمُوا وَتَضَارَبُوا وَتَشَاتَمُوا
وَظَهَرَتْ مِنْهُمْ عَوْرَاتٌ كَثِيرَةٌ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَعِنْدَ وُرُودِ
الْمِيَاهِ أَكْثَرُ وَأَشْنَعُ فَلْيَحْذَرْ إذْ ذَاكَ عِنْدَ الْمِيَاهِ مِنْ
الْمُشَاتَمَةِ وَالْمُضَارَبَةِ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ رَآهُمْ أَوْ
سَمِعَ عَنْهُمْ .
وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ النَّاسِ مَحْمُولِينَ قَدْ
قُطِعَتْ بَعْضُ أَطْرَافِهِمْ لِأَجْلِ الْمُزَاحَمَةِ عِنْدَ الْمِيَاهِ وَقَدْ
تُزْهَقُ نُفُوسُ بَعْضِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا يُلَاقِي ، وَهَذَا
مُحَرَّمٌ قَبِيحٌ لَوْ كَانَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ فَكَيْفَ بِهِ فِي الْحَجِّ ؛
لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَمَا أَشْبَهَهَا ضِدُّ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ ؛
لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالْإِغْضَاءِ عَنْ مَسَاوِئِ النَّاسِ
وَالنَّظَرِ فِي مَصَالِحِهِمْ وَبَعْضُ النَّاسِ عَلَى الْمِيَاهِ لَا يُبَالُونَ
بِكَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ .
وَقَدْ وَرَدَ { النَّاظِرُ وَالْمَنْظُورُ
مَلْعُونَانِ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَلْيَتَحَفَّظْ جَهْدَهُ مِنْ كُلِّ
الْقَبَائِحِ الَّتِي تَفْجَؤُهُ فَيَتَلَقَّاهَا
بِالِامْتِثَالِ لِأَمْرِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا عِلْمَ
عِنْدَهُ وَلَا يَسْأَلُ الْعُلَمَاءَ عَمَّا يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَقَعَ
لَهُ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُزَيِّنُونَ الْجَمَلَ بِالْحُلِيِّ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْأَسَاوِرِ وَالْقَلَائِدِ وَيُلْبِسُونَهُ الْحَرِيرَ يَفْعَلُونَ بِهِ
ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الْعَقَبَةِ
وَكَذَلِكَ عِنْدَ وُصُولِهِمْ إلَى الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ وَكَذَلِكَ
يَفْعَلُونَ فِي الرُّجُوعِ مِثْلَهُ وَهُمْ آثِمُونَ فِي ذَلِكَ وَيُشَارِكُهُمْ
فِي الْإِثْمِ مَنْ تَطَاوَلَ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ وَهُمْ كَثِيرٌ وَمَنْ أَعْجَبَهُ
ذَلِكَ مِنْهُمْ أَوْ اسْتَحْسَنَهُ فَإِثْمُهُ أَكْثَرُ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ
بَعْضَ النِّسْوَةِ إذَا كَانَ لَهُنَّ قَرِيبٌ أَوْ مَعَارِفُ يَخْرُجُونَ إلَى
الْحَجِّ يَخْرُجْنَ لَيْلًا يَمْشِينَ فِي الطُّرُقِ وَفِي بَعْضِ الْأَسْوَاقِ
وَيَرْفَعْنَ عَقِيرَتَهُنَّ بِمَا يَقُلْنَهُ مِنْ التَّحْنِينِ وَالرِّجَالُ يَسْمَعُونَ
وَيَنْظُرُونَ إلَى فِعْلِهِنَّ وَلَا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِنَّ ، وَهَذَا قَبِيحٌ
مِنْ الْفِعْلِ مُحَرَّمٌ سِيَّمَا فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ
الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَجِبُ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ ، وَهِيَ الْحَجُّ .
وَمِثْلُ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ
مِنْ الْحَجِّ إذَا وَصَلُوا إلَى بُيُوتِهِمْ وَيُضْرَبُ إذْ ذَاكَ عِنْدَ
أَبْوَابِهِمْ بِالطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ وَالْمَزَامِيرِ وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ
بِتَهْنِئَةِ الْحَاجِّ وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ كَانَ آثِمًا وَكَذَلِكَ مَنْ
شَارَكَهُمْ بِالْإِعْطَاءِ لَهُمْ أَوْ بِالْوُقُوفِ وَالنَّظَرِ أَوْ صَغَى
إلَيْهِمْ أَوْ أَعْجَبَهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُنْكَرٌ يَتَعَيَّنُ
عَلَى الْمُكَلَّفِ تَغْيِيرُهُ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَأَقَلُّ مَا يُمْكِنُ
فِي حَقِّهِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَمَنْ صَغَى أَوْ نَظَرَ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَلْبِهِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّغْيِيرَ بِالْقَلْبِ هُوَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ
فَمَاذَا يَبْقَى بَعْدَ الضَّعِيفِ إنْ
ذَهَبَ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
فَإِذَا وَصَلَ إلَى مَوْضِعِ الْإِحْرَامِ فَلْيَحْذَرْ
مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يُحْرِمُونَ مِنْ رَابِغٍ ،
وَهُوَ مَوْضِعٌ قَبْلَ الْجُحْفَةِ فَيَبْدَءُونَ الْحَجَّ بِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ ،
وَهُوَ الْإِحْرَامُ قَبْلَ الْمِيقَاتِ وَالْحَجُّ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي الْعُمُرِ
وَيَعْتَلُّونَ بِأَنَّ الْجُحْفَةَ الَّتِي جُعِلَتْ لَهُمْ مِيقَاتًا لَيْسَ
فِيهَا مَاءٌ يَغْتَسِلُونَ بِهِ لِلْإِحْرَامِ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فِي رَابِغٍ
، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي الْحَجِّ إنَّمَا هُوَ عَلَى
سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنَّهُ
سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَيَتْرُكُونَ السُّنَّةَ لِأَجْلِ مُسْتَحَبٍّ .
وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ مِنْ
شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ ، بَلْ لَوْ
اغْتَسَلَ فِي رَابِغٍ عِنْدَ إرَادَتِهِمْ الرَّحِيلَ ثُمَّ سَارَ إلَى
الْجُحْفَةِ وَأَحْرَمَ مِنْهَا لَكَانَ قَدْ حَصَّلَ السُّنَّةَ وَالْمُسْتَحَبَّ .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ
اغْتَسَلَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
ثُمَّ خَرَجَ إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَحْرَمَ مِنْهَا فَقَالَ : إنَّ غُسْلَهُ
صَحِيحٌ أَوْ كَمَا قَالَ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْحُلَيْفَةِ مَسَافَةٌ
أَكْثَرُ مِنْ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ رَابِغٍ وَالْجُحْفَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْجُحْفَةَ لَا
يَدْخُلُهَا الرَّكْبُ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فَهُوَ
يَمُرُّ بِهَا ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِحْرَامِ أَنْ لَا يُحْرِمَ حَتَّى
يَدْخُلَهَا ، بَلْ إذَا حَاذَاهَا أَحْرَمَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
فَيَغْتَسِلُ فِي رَابِغٍ عِنْدَ إرَادَةِ النَّاسِ الرَّحِيلَ ثُمَّ يَسِيرُ
مَعَهُمْ إلَى أَنْ يُحَاذِيَ الْجُحْفَةَ فَإِذَا حَاذَاهَا نَزَلَ عَنْ
رَاحِلَتِهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ ثُمَّ تَعَرَّى مِنْ الْمَخِيطِ
وَلَبِسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ
مِنْ رَابِغٍ ثُمَّ يَتْرُكَ الْإِحْرَامَ حَتَّى يُحَاذِيَ الْجُحْفَةَ فَلَهُ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ
الْجُحْفَةِ
بِمَا يُرِيدُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هُمَا
مَعًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَحْرَمَ مِنْ وَسَطِهَا أَوْ مِنْ آخِرِهَا ،
فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ الْأَوْلَى ، وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَهَا
فَمَكْرُوهٌ وَعَلَيْهِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً إذْ أَنَّ الدَّمَ
جَبْرٌ لِمَا فَاتَهُ مِنْ فَضِيلَةِ فِعْلِ السُّنَّةِ كَمَا أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ
فِي الصَّلَاةِ جَبْرٌ لِلْخَلَلِ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى
حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى هَذِهِ
الصِّفَةِ ، وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ لُبْسِ ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ إلَى لُبْسِ
ثِيَابِ الْأَمْوَاتِ ؛ لِأَنَّ تَجَرُّدَهُ مِنْ الْمَخِيطِ وَلُبْسَهُ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ
شَبِيهٌ بِالْمَيِّتِ حِينَ يُدْرَجُ فِي أَكْفَانِهِ وَقَوْلُ الْحَاجِّ
لَبَّيْكَ شَبِيهٌ بِقِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِي
الَّذِي يَدْعُوهُمْ إلَى الْمَحْشَرِ وَالْغُسْلُ لِلْإِحْرَامِ شَبِيهٌ بِغُسْلِ
الْمَيِّتِ وَوُقُوفُهُمْ بِعَرَفَةَ شَبِيهٌ بِوُقُوفِهِمْ فِي الْمَحْشَرِ
وَرَمْيُ الْجِمَارِ وَغَيْرُهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ شَبِيهٌ بِالْمَوَاقِفِ
الَّتِي لَهُمْ فِي الْمَحْشَرِ وَالسُّؤَالُ عِنْدَ كُلِّ مَوْقِفٍ وَكَوْنُ
بَرَكَةِ بَعْضِهِمْ تَعُمُّ عَلَى بَعْضٍ شَبِيهٌ بِالْمَحْشَرِ أَيْضًا فَإِنَّ بَرَكَةَ
الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ
تَعُودُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أُمَمِهِمْ ، وَالصَّالِحُ مِنْ الْأُمَمِ
تَعُودُ بَرَكَتُهُ عَلَى غَيْرِهِ بِحَسْبِ حَالِهِ وَحَالِهِمْ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى
حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَيْضًا فِي أَمْرِهِ بِالِاجْتِمَاعِ لِلصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ فِي جَمَاعَةٍ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمَا وَرَدَ { مَنْ صَلَّى خَلْفَ مَغْفُورٍ لَهُ
غُفِرَ لَهُ } فَأُمِرَ بِالصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ .
وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مَنْ هُوَ
مَغْفُورٌ لَهُ فَأُمِرَ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
لِيَحْصُلَ لِأَهْلِ الْبَلَدِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعِبَادَةِ مَعَ مَنْ هُوَ
مَغْفُورٌ لَهُ فَيُغْفَرُ
لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِهِ .
وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي أَهْلِ الْبَلَدِ مَنْ اتَّصَفَ
بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَأُمِرَ بِصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ لِيَأْتِيَهَا أَهْلُ
الْبَلَدِ وَمَنْ هُوَ حَوَالَيْهَا فَيَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي هَذِهِ
الْعِبَادَةِ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِ مَنْ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ مِنْهُمْ
، وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الْبَلَدِ وَلَا حَوَالَيْهَا مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ فَأُمِرَ بِالِاجْتِمَاعِ فِي الْحَجِّ وَفِيهِ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ ،
وَهُوَ مُعْظَمُهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَأَهْلُ الْمَغْرِبِ
وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِ
الْمُتَّصِفِ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ وَالرِّضَا عَنْهُ ، وَهَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ
عَامٌّ لِلْأُمَّةِ فَيَتَعَيَّنُ التَّحَفُّظُ عَلَى حُضُورِ تِلْكَ
الْجَمَاعَاتِ وَتِلْكَ الشَّعَائِرِ كُلِّهَا لِيَفُوزَ مَنْ حَضَرَهَا مَعَ
الْفَائِزِينَ .
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بِمَنِّهِ
{ فَصْلٌ } وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ مَا
يَلْزَمُهُ فِي حَجِّهِ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَبَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } وَقَدْ
تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَجِّهِ مَعْرِفَةُ
الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ وَمَا يَجْتَنِبُهُ فِي إحْرَامِهِ وَمَا
يُفْسِدُهُ وَمَا يَجْبُرُهُ .
فَفَرَائِضُ الْحَجِّ خَمْسَةٌ ، وَهِيَ النِّيَّةُ
وَالْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ .
زَادَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ وَالْوُقُوفُ بِالْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ
{ فَصْلٌ } وَسُنَنُهُ الْمُوجِبَاتُ لِلدَّمِ عَلَى
مَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ إفْرَادُ الْحَجِّ
وَالْإِحْرَامُ مِنْ مَكَانِ الْمِيقَاتِ وَتَرْكُ التَّمَتُّعِ وَالتَّلْبِيَةِ
وَطَوَافُ الْقُدُومِ وَرَكْعَتَا الطَّوَافِ وَأَنْ لَا يَقِفَ بِعَرَفَةَ
بِلَيْلٍ مُخْتَارًا لِذَلِكَ وَالْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارِ
وَأَنْ لَا يَرْمِيَ الْجِمَارَ بِلَيْلٍ وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِيَ
الْجِمَارِ وَالْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ وَأَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّمْيِ
وَوُقُوعُ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ
عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ
{ فَصْلٌ } وَفَضَائِلُهُ عِشْرُونَ ، وَهِيَ أَنْ يُحْرِمَ
فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلُبْسُ الْبَيَاضِ فِي الْإِحْرَامِ وَاغْتِسَالَاتُ
الْحَجِّ كُلُّهَا وَالْإِكْثَارُ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَالرَّمَلِ فِي
الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثِ مِنْ أَوَّلِ الطَّوَافِ وَالسَّعْيُ فِي بَاقِيهِ
وَالرَّمَلُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ فِي السَّعْيِ .
وَالْإِسْرَاعُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ ، وَهُوَ مَا
بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى .
وَأَنْ يَمُرَّ فِي طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ فِي
الذَّهَابِ وَالْعَوْدِ " وَهُمَا جَبَلَانِ بَيْنَ مُزْدَلِفَةَ وَعَرَفَةَ "
وَالتَّطَوُّعُ بِالْهَدْيِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ .
وَالْوُقُوفُ بِأَرْضِ عَرَفَةَ دُونَ جَبَلِهَا .
وَأَنْ يَبْدَأَ يَوْمَ النَّحْرِ بِرَمْيِ جَمْرَةِ
الْعَقَبَةِ ثُمَّ يَنْحَرَ ثُمَّ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ .
وَتَأْخِيرُ النَّفْرِ الثَّانِي إلَى آخِرِ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ .
وَالصَّلَاةُ فِي الْمُحَصَّبِ وَطَوَافُ الْوَدَاعِ .
وَتَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَاسْتِلَامُ
الرُّكْنِ الْيَمَانِي .
وَدُخُولُ الْبَيْتِ وَالرُّكُوعُ فِي الْمَقَامِ
{ فَصْلٌ } يَخْتَصُّ الْحَرَمُ بِخَمْسَةِ أَحْكَامٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهُ إلَّا أَنْ يَبْغُوا فَفِيهِ خِلَافٌ .
الثَّانِي : تَحْرِيمُ صَيْدِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ
وَالْمُحِلُّ مِنْ أَهْلِهِ وَمِمَّنْ طَرَأَ عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : تَحْرِيمُ قَطْعِ شَجَرِهِ الَّذِي
أَنْبَتَهُ اللَّهُ فِيهِ .
الرَّابِعُ :
أَنْ لَا يَدْخُلَهُ حَلَالٌ حَتَّى يُهِلَّ بِحَجٍّ
أَوْ عُمْرَةٍ يَتَحَلَّلُ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَكْثُرُ
التَّرَدُّدُ إلَيْهِ كَالْحَطَّابِينَ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ .
الْخَامِسُ : أَنْ لَا يَدْخُلَهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ لَا
مَارًّا وَلَا مُقِيمًا
{ فَصْلٌ } قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ الْحُرُمَاتُ
خَمْسٌ الْكَعْبَةُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ
وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَالْمُحْرِمُ حَتَّى يَحِلَّ وَالشَّعَائِرُ سَبْعٌ
الرُّكْنُ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَالْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَالْبُدْنُ وَالْجِمَارُ
وَعَرَفَةُ
{ فَصْلٌ } اغْتِسَالَاتُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ : الْأَوَّلُ
: لِلْإِحْرَامِ ، وَهُوَ آكَدُهَا
.
الثَّانِي : لِدُخُولِ مَكَّةَ .
الثَّالِثُ : لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ .
وَذَلِكَ عَلَى كُلِّ مَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ
الْإِحْرَامَ إلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ ، فَإِنَّهُمَا لَا يَغْتَسِلَانِ
لِدُخُولِ مَكَّةَ إذْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا الطَّوَافُ وَيَغْتَسِلَانِ
لِلْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ وَمَنْ اغْتَسَلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَلِلْوُقُوفِ
فَلَا يَتَدَلَّكُ إلَّا تَدْلِيكًا خَفِيفًا بِحَيْثُ يَسْلَمُ مِنْ قَتْلِ دَوَابِّ
رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ
{ فَصْلٌ } الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ يَمْنَعُ خَمْسَةَ عَشَرَ
شَيْئًا لُبْسَ الْمَخِيطِ كُلِّهِ وَتَغْطِيَةَ الرَّأْسِ وَلُبْسَ الْخُفَّيْنِ
مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَحَلْقَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَغَيْرِهِ مِنْ
جَمِيعِ الْبَدَنِ وَإِزَالَةَ الشَّعْرِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَقَصَّ
الْأَظْفَارِ وَالطِّيبَ وَقَتْلَ الْقَمْلِ وَالِاصْطِيَادَ وَقَتْلَ الصَّيْدِ
وَإِمْسَاكَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اصْطَادَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْخِطْبَةَ
وَعَقْدَ النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَمَغِيبَ الْحَشَفَةِ ، وَإِنْزَالَ
الْمَاءِ الدَّافِقِ فِي الْيَقِظَةِ
.
وَالْمَرْأَةُ مُسَاوِيَةٌ لِلرَّجُلِ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ حَاشَا ثَلَاثٍ : لُبْسُ الْمَخِيطِ وَتَغْطِيَةُ الرَّأْسِ وَلُبْسُ
الْخُفَّيْنِ
{ فَصْلٌ } وَالطَّوَافُ فِي الْحَجِّ ثَلَاثٌ .
طَوَافُ الْقُدُومِ ، وَهُوَ سُنَّةٌ وَطَوَافُ
الْإِفَاضَةِ ، وَهُوَ فَرْضٌ وَطَوَافُ الْوَدَاعِ ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
{ فَصْلٌ } الْجِمَارُ ثَلَاثٌ الْجَمْرَةُ الْأُولَى
الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى وَالْوُسْطَى وَجَمْرَةُ الْعَقَبَةِ .
{ فَصْلٌ } وَالرَّمْيُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ .
يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةُ
{ فَصْلٌ } الْهَدْيُ ثَلَاثٌ إبِلٌ وَبَقَرٌ وَغَنَمٌ
وَعَلَامَاتُهُ ثَلَاثٌ تَقْلِيدٌ وَإِشْعَارٌ وَتَجْلِيلٌ وَذَلِكَ كُلُّهُ
يَجْتَمِعُ فِي الْإِبِلِ ، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَتُقَلَّدُ وَلَا تُشْعَرُ إلَّا
أَنْ يَكُونَ لَهَا أَسْنِمَةٌ وَلَا يُفْعَلُ فِي الْغَنَمِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
{ فَصْلٌ } يُؤْكَلُ مِنْ الْهَدْيِ كُلِّهِ وَاجِبِهِ وَتَطَوُّعِهِ
إلَّا أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ جَزَاءَ الصَّيْدِ وَفِدْيَةَ الْأَذَى وَنَذْرَ
الْمَسَاكِينِ وَمَا عَطِبَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ مَحَلِّهِ
{ فَصْلٌ } يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا
كَانَ سَبَبًا لِقَتْلِ الصَّيْدِ فِي سَبْعَةِ مَوَاضِعَ : أَحَدُهَا : إذَا نَصَبَ
فُسْطَاطًا فَتَعَلَّقَ بِأَطْنَابِهِ صَيْدٌ فَعَطِبَ .
الثَّانِيَةُ : إذَا فَرَّ الصَّيْدُ لِرُؤْيَتِهِ
فَعَطِبَ .
الثَّالِثَةُ : إذَا نَصَبَ شِرَاكًا لِسَبُعٍ فَعَطِبَ
فِيهِ صَيْدٌ .
الرَّابِعَةُ : إذَا دَلَّ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا عَلَى
صَيْدِهِ فَقَتَلَهُ .
الْخَامِسَةُ : إذَا أَعْطَى سَوْطَهُ أَوْ رُمْحَهُ
لِمَنْ يَقْتُلُ بِهِ صَيْدًا .
السَّادِسَةُ : إذَا أَمَرَ غُلَامَهُ عِنْدَ
إحْرَامِهِ بِإِرْسَالِ صَيْدٍ فَظَنَّ الْغُلَامُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِقَتْلِهِ
فَقَتَلَهُ .
السَّابِعَةُ : إذَا قَتَلَ صَيْدًا حَلَالًا ، وَهُوَ
فِي يَدِهِ .
{ فَصْلٌ } التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ
يُوجِبُ الْهَدْيَ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَعْتَمِرَ فِي
أَشْهُرِ الْحَجِّ .
الثَّانِي : أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ .
الثَّالِثُ : أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ أَوْ إلَى
مِثْلِ بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ
.
الرَّابِعُ : أَنْ تَكُونَ الْعُمْرَةُ مُقَدَّمَةً
عَلَى الْحَجِّ .
{ فَصْلٌ } وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ
مِنْ أَنَّهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى يَعْقِرُوا
حُلُوقَهُمْ وَبَعْضُهُمْ يَخْفِضُونَ أَصْوَاتَهُمْ حَتَّى يَكَادَ أَنْ لَا
يُسْمَعَ وَالسُّنَّةُ فِي ذَلِكَ التَّوَسُّطُ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ حَتَّى يَتَأَذَّى
وَلَا يَخْفِضُهُ بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ إذْ أَنَّ شَعِيرَةَ الْحَجِّ لَا
تَظْهَرُ بِذَلِكَ ، وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَتَعَيَّنُ الْجَهْرُ
فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ أَوَّلَ الْكِتَابِ وَيُلَبِّي بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ
الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَعِنْدَ لِقَاءِ الرِّفَاقِ وَعِنْدَ صُعُودِ جَبَلٍ أَوْ
نُزُولٍ مِنْهُ وَيُلَبِّي سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ لَكِنَّ ذَلِكَ بِشَرْطٍ
يُشْتَرَطُ فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَفْعَلُوا ذَلِكَ صَوْتًا وَاحِدًا إذْ أَنَّ
ذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ ، بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ يُلَبِّي لِنَفْسِهِ دُونَ أَنْ
يَمْشِيَ عَلَى صَوْتِ غَيْرِهِ ثُمَّ تَكُونُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ مُسْتَصْحَبَةً
مَعَهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِإِهْلَالِهِ دَخَلَ فِي هَذِهِ
الْعِبَادَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْحُضُورِ وَالْأَدَبِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ
حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حَجِّهِ لِئَلَّا يَفُوتَهُ مَا أُعِدَّ لَهُ مِنْ
الثَّوَابِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ
وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ
وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي
{ فَصْلٌ } وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ
مِنْ أَنَّهُمْ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ وَيَتْرُكُونَ الْمَحَامِلَ وَالْحُجُفَ مُسَوَّرَةً
عَلَى حَالِهَا وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْنَعُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي
مَعْنَى تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ، بَلْ يَكْشِفُ عَنْهَا حَتَّى يَتَّصِفَ بِصِفَةِ
الْحَجِّ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
الْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَإِذَا كَانَ فِي الظِّلِّ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَإِنْ وَقَعَ
ذَلِكَ مِنْهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ
.
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ
اسْتَظَلَّ رَاكِبًا وَقَالَ : أُضْحِ لِمَنْ أَحْرَمْت لَهُ .
ثُمَّ نَقَلَا عَنْ الرِّيَاشِيِّ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت
أَحْمَدَ بْنَ الْمُعَدَّلِ الْفَقِيهَ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ مُحْرِمًا
بِالْحَجِّ ، وَهُوَ ضَاحٍ لِلشَّمْسِ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ هَذَا
أَمْرٌ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ فَلَوْ أَخَذْت بِالتَّوْسِعَةِ فَأَنْشَأَ يَقُولُ ضَحَّيْت
لَهُ كَيْ أَسْتَظِلَّ بِظِلِّهِ إذَا الظِّلُّ أَمْسَى فِي الْقِيَامَةِ قَالِصَا
فَيَا أَسَفَا إنْ كَانَ سَعْيِ بَاطِلًا وَيَا حَسْرَتَا إنْ كَانَ حَجِّي
نَاقِصًا نَقَلَهُ صَاحِبُ الْجَوَاهِرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفُسْطَاطِ وَمَا
أَشْبَهَهُ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ تَحْتَهُ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَدُومُ بِخِلَافِ الْمَحَامِلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ كَالْبَيْتِ الْمَبْنِيِّ
وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ الْحِمْلِ ، وَهُوَ مَاشٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
لَا يَدُومُ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ
مِمَّا لَا يَدُومُ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَظِلَّ بِظِلِّ الشَّجَرَةِ
وَالْحَائِطِ إذْ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لَا يَدُومُ .
{ فَصْلٌ } فَإِذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ وَأَشْرَفَ عَلَى
الْبَيْتِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِزِيَادَةِ الْأَدَبِ
وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَالْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ وَالِاحْتِرَامِ لِبَيْتِ
رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِابْتِهَالِ بِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَالِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ بِالدُّعَاءِ
وَطَلَبِ مَا يَحْتَاجُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضِيقٌ وَزَحْمَةٌ فَلَا بَأْسَ بِالدُّخُولِ مِنْ
غَيْرِهَا إذْ أَنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ أَوْجَبُ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمِ ؛
لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدُّخُولُ
إلَّا مِنْ هَذِهِ الثَّنِيَّةِ فَتَقَعُ الزَّحْمَةُ وَيَمُوتُ بَعْضُ النَّاسِ
بِسَبَبِ ذَلِكَ وَشَيْءٌ يَئُولُ إلَى مِثْلِ هَذَا فَتَرْكُهُ مُتَعَيِّنٌ وَالْمُسْتَحَبُّ
إذَا تُرِكَ فَلَا عَتْبَ عَلَى تَارِكِهِ وَلَا ذَمَّ فِي حَقِّهِ .
فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَلْيَقْصِدْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ
فَيَدْخُلُهُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ
فَيُقَبِّلُهُ وَتَقْبِيلُهُ أَنْ يَضَعَ فَمَه عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ
وَالتَّصْوِيتُ بِهِ بِدْعَةٌ وَلْيُزَاحِمْ عَلَى تَقْبِيلِ الْحَجَرِ مَا لَمْ
يَكُنْ أَذًى فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ كَبَّرَ حِينَ يُقَابِلُهُ وَمَضَى .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ
الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ يَتَزَاحَمُونَ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَقَعُ
الِانْضِغَاطُ بَيْنَهُمْ فَقَدْ يَأْتِي فَمُ الرَّجُلِ عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ
وَبِالْعَكْسِ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ مِنْ شَرْطِهِ الطَّهَارَةُ فَتَنْتَقِضُ
الطَّهَارَةُ عَلَى كُلِّ مَنْ الْتَذَّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى مَنْ لَمْ يَلْتَذَّ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَالْغَالِبُ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَصِحُّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا بِوُجُودِ الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ أَوْ بِبُعْدِ
الطَّائِفِ الْخَائِفِ عَلَى نَفْسِهِ الْمَسَافَةَ وَإِلَّا فَيُخِلُّ
بِطَوَافِهِ غَالِبًا .
وَلْيَحْذَرْ
مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُ
يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَالنَّاسُ يَصُبُّونَ عَلَى الْحَجَرِ مَاءَ الْوَرْدِ وَفِيهِ
الْمِسْكُ فَيُصِيبُهُ مِنْهُ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلْيَتَحَفَّظْ مِنْ ذَلِكَ
جَهْدَهُ وَاَللَّهُ الْمَسْئُولُ فِي التَّجَاوُزِ بِمَنِّهِ
{ فَصْلٌ
} وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ
أَنَّهُ يَأْتِي لِلْحَجَرِ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ وَبَعْضُ
الْحَجَرِ خَلْفَهُ ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَسْتَكْمِلْ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، بَلْ سِتَّةً فَإِنْ كَانَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ وَجَبَ
عَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَطَلَ طَوَافُهُ وَوَجَبَ
عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ ، وَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ
فِي كُلِّ مَا يَقَعُ لَهُ مِمَّا يُخَالِفُ إحْرَامَهُ مَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ
فِي ذَلِكَ هَذَا إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ التَّدَارُكُ .
وَكَيْفِيَّةُ مَا يَفْعَلُ حَتَّى يَسْلَمَ مِمَّا
ذُكِرَ هُوَ أَنْ يَمْشِيَ ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ أَوْ نَحْوِهَا مِنْ نَاحِيَةِ
الرُّكْنِ الْيَمَانِي ثُمَّ يَرِدُ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي
الطَّوَافِ فَيَكُونُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ إكْمَالِ الطَّوَافِ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ
يُفْعَلُ فِي الشَّوْطِ الْأَخِيرِ يَمْشِي فِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْحَجَرَ
خَلْفَهُ بِخُطْوَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ لِكَيْ يَثِقَ بِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ .
ثُمَّ إذَا أَخَذَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ فَلْيَرْمُلْ
فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ مِنْ أَوَّلِهِ وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ مَعَ
ذَلِكَ لَا يُفَارِقَانِهِ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ أَتَى
بِبَاقِي الطَّوَافِ مَاشِيًا الْهُوَيْنَا وَالْخُشُوعُ فِي ذَلِكَ مَطْلُوبٌ
لَكِنَّهُ أُجِيزَ لِلطَّائِفِ الْكَلَامُ فِيهِ وَالْأَوْلَى تَرْكُهُ إلَّا
لِضَرُورَةٍ تَقَعُ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ ، وَهُوَ
أَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ ، وَهُمْ يَجْرُونَ فِي السَّبْعَةِ
الْأَشْوَاطِ كُلِّهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمَارَاتِ الْخُشُوعِ شَيْءٌ ،
بَلْ ضِدُّهُ فَيُخَالِفُونَ السُّنَّةَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الشَّرِيفِ فِي
ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ : الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ فِي كَوْنِهِمْ يَزِيدُونَ عَلَى
الرَّمَلِ الْمَشْرُوعِ فِي الثَّلَاثَةِ الْأَشْوَاطِ الْأُوَلِ ؛ لِأَنَّهُمْ
يَجْرُونَ فِيهَا جَرْيًا وَالْمَوْضِعُ الثَّانِي أَنَّهُمْ يُوقِعُونَ الطَّوَافَ
كُلَّهُ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي الْجَرْيِ وَالِاسْتِبَاقِ وَالْمَوْضِعُ
الثَّالِثُ عَدَمُ الْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ
وَالْوَقَارِ فِي طَوَافِهِمْ ، وَذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ
{ فَصْلٌ } وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَطُوفَ مِنْ دَاخِلِ
الْحَجَرِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ نَفْسِ الْبَيْتِ وَلَا يَتِمُّ الطَّوَافُ
بِالْبَيْتِ كُلِّهِ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ وَلَا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ
اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَيْتَ
لَمْ يَتِمَّ هُنَاكَ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمْ يَسْتَلِمْهُمَا
.
فَإِذَا أَتَى الرُّكْنَ الْيَمَانِي وَقَفَ عِنْدَهُ
وَلَمَسَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ
أَنَّهُمْ يُقَبِّلُونَ الرُّكْنَ الْيَمَانِي كَمَا يُقَبِّلُونَ الْحَجَرَ
الْأَسْوَدَ وَالسُّنَّةُ اسْتِلَامُ الْيَمَانِيِ بِالْيَدِ لَا بِالْفَمِ
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يَحْتَرِزُ فِي طَوَافِهِ مِنْ أَشْيَاءَ
أَحَدُهَا وَالثَّانِي مَا تَقَدَّمَ فِي الشَّوْطِ الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الطَّوَافِ فِي
دَاخِلِ الْحِجْرِ .
الرَّابِعُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الشَّاذَرْوَانِ أَنْ
يَمِيلَ بِشَيْءٍ مِنْ بَدَنِهِ فِي دَاخِلِهِ ، وَهُوَ فِي الطَّوَافِ وَالشَّاذَرْوَانُ
هُوَ الَّذِي بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الْيَمَانِي .
الْخَامِسُ : أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الطِّيبِ الَّذِي
يُصَبُّ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْهُ شَيْءٌ .
السَّادِسُ : أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ لَمْسِ النِّسَاءِ .
ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ ، وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى
ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدُّعَاءِ بِمَا أَحَبَّ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ أَحَبَّ وَلِلْمُسْلِمِينَ
وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ سِرًّا فِي نَفْسِهِ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ
لِئَلَّا يَشْغَلَ غَيْرَهُ .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ
الطَّائِفِ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك فَقَالَ : هَذِهِ بِدْعَةٌ
وَلَمْ يَحُدَّ فِي ذَلِكَ حَدًّا مِنْ قَوْلٍ مَخْصُوصٍ أَوْ دُعَاءٍ ، بَلْ
يَدْعُو بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ
فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْ أَنَّهُمْ يَسْتَصْحِبُونَ مَعَهُمْ مَنَاسِكَ الْحَجِّ
وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَشْتَغِلُ إلَّا بِأَنْ
يَقُولَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ كَذَا وَعِنْدَ
دُخُولِ مَكَّةَ كَذَا وَعِنْدَ الطَّوَافِ كَذَا وَعِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ
كَذَا وَعِنْدَ بَابِ الْبَيْتِ كَذَا وَعِنْدَ الْمُلْتَزَمِ كَذَا وَعِنْدَ
الرُّكْنِ الْيَمَانِي كَذَا ، وَإِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ يَقُولُ كَذَا وَفِي الْمَقَامِ
كَذَا وَفِي الصَّفَا كَذَا وَفِي الْمَرْوَةِ كَذَا وَفِي السَّعْيِ كَذَا وَفِي
مِنًى كَذَا وَفِي عَرَفَاتٍ كَذَا إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَيَشْتَغِلُونَ فِي
طَرِيقِهِمْ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَدْعِيَةِ وَيَتْرُكُونَ مَا يَلْزَمُهُمْ
فِي حَجِّهِمْ مِنْ مُفْسِدَاتِهِ وَمُصَحِّحَاتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَإِذَا
فَرَغَ مِنْ طَوَافٍ قَبَّلَ الْحَجَرَ كَمَا تَقَدَّمَ ثُمَّ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْ
الطَّوَافِ .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْكَعَهُمَا فِي الْمَقَامِ مَا
لَمْ تَكُنْ مُزَاحَمَةٌ فَإِذَا كَانَتْ رَكَعَ فِي غَيْرِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ
رُكُوعِهِ عَادَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَقَبَّلَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ
بَابِ الصَّفَا فَيَأْتِي إلَيْهَا فَيَصْعَدُ فِي أَعْلَاهَا حَتَّى يَنْظُرَ
إلَى الْبَيْتِ فَيُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ بِمَا
تَيَسَّرَ لَهُ ثُمَّ يُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ الشَّرْعِيَّةَ ثُمَّ يَدْعُوَ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ
لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِأَقَارِبِهِ وَلِإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ
ثُمَّ يَنْزِلَ مِنْهَا ، وَيَأْخُذَ فِي السَّعْيِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى
الْمِيلِ الْأَوَّلِ فَيَرْمُلَ إذْ ذَاكَ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْمِيلِ
الثَّانِي ثُمَّ يَمْشِيَ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَرْوَةِ فَيَفْعَلَ فِيهَا
مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ
بِالْمَرْوَةِ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْجَرْيِ
وَالْإِسْرَاعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي الطَّوَافِ
، بَلْ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي هَذَا أَشَدُّ ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَسْعَوْنَ
وَهُمْ رُكْبَانٌ عَلَى الدَّوَابِّ
.
وَقَدْ كَرِهَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الرُّكُوبَ فِي
السَّعْيِ أَشَدَّ كَرَاهَةٍ وَهُمْ يَجْرُونَ بِهَا الْجَرْيَ الَّذِي
اعْتَادُوهُ فِي بِلَادِهِمْ فَيُؤْذُونَ بِذَلِكَ غَيْرَهُمْ مِنْ الْحُجَّاجِ
وَمَنْ فِي السُّوقِ مِمَّنْ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَقَدْ يَئُولُ ذَلِكَ إلَى مَفَاسِدَ
تَقَعُ لَهُمْ كَانُوا عَنْهَا فِي غِنًى ، وَهَذَا ضِدُّ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ
الْخُشُوعِ وَالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْعَى عَلَى رِجْلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَشَاعِرِ إلَّا فِي
الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَإِنَّ الرُّكُوبَ فِيهِمَا
أَفْضَلُ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
يَمْشِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَالْمَشَاعِرُ وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ إلَى جَانِبِهِ .
وَقَدْ نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ
أَنَّهُ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَالْمَشْيُ فِي الْمَنَاسِكِ وَالْمَشَاعِرِ
أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا ، وَهِيَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى عَرَفَاتٍ
ثُمَّ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ ثُمَّ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ إلَى مِنًى
ثُمَّ إلَى الْمُحَصَّبِ ثُمَّ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ فَإِنْ احْتَاجَ
إلَى الرُّكُوبِ رَكِبَ وَمَشَى بِالرِّفْقِ وَالْأَنَاةِ خِيفَةً مِنْ الْوُقُوعِ
فِي شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ ، وَهَذَا السَّعْيُ أَحَدُ الْأَرْكَانِ الْوَاجِبَةِ
فِي الْحَجِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا
.
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ
بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّ الطَّهَارَةَ فِيهِ وَاجِبَةٌ فَلَوْ أَحْدَثَ فِي
أَثْنَاءِ سَعْيِهِ مَضَى فِيهِ حَتَّى يُتِمَّهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ
أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ تَطَهَّرَ وَابْتَدَأَ طَوَافَهُ وَالرَّمَلُ
فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الْمِيلَيْنِ وَفِي وَادِي مُحَسِّرٍ
مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَإِنْ كَانَ آفَاقِيًّا فَيُسْتَحَبُّ
لَهُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَيْلًا وَنَهَارًا لَا يَسْتَثْنِي
مِنْهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا وَقْتَانِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ
الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ
الشَّمْسُ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَطُوفَ فِي هَذَيْنِ
الْوَقْتَيْنِ إلَّا لِحَاجَةٍ تَدْعُوهُ لِلطَّوَافِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛
لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ أَنْ يَأْتِيَ عُقْبَةُ بِرَكْعَتَيْنِ .
وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا فِي
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُؤَخِّرَ الرُّكُوعَ لَهُ إلَى بَعْدِ طُلُوعِ
الشَّمْسِ أَوْ مَغِيبِهَا وَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ فِي حَوَائِجِهِ وَضَرُورَاتِهِ .
فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا رَجَعَ إلَى الطَّوَافِ فَإِنْ
تَعِبَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ فِي مَوْضِعِ مُصَلَّاهُ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ
فَيَحْصُلُ لَهُ النَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ عِبَادَةٌ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
النَّظَرُ إلَى الْبَيْتِ عِبَادَةٌ وَيَحْصُلُ لَهُ اسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ
} فَإِذَا ذَهَبَ تَعَبُهُ قَامَ وَشَرَعَ فِي الطَّوَافِ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَيْلًا
وَنَهَارًا إلَى الْيَوْمِ السَّابِعِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّ
الْمُسْتَحَبَّ لَهُمْ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْآفَاقِيَّ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مَعْدُومَةٌ
عِنْدَهُ فَيَغْتَنِمُهَا بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ
عَلَيْهِمْ طُولَ سَنَتِهِمْ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُمْ إلَى مُزَاحَمَةِ النَّاسِ
فِي الْمَوْسِمِ ، فَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ جَلَسَ لِسَمَاعِ
الْخُطْبَةِ وَيُصْغِي لِمَا يَقُولُ الْإِمَامُ
مِنْ تَعْلِيمِ أَحْكَامِ الْحَجِّ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَرْكِ
حُضُورِ الْخُطْبَةِ وَاسْتِمَاعِهَا فَيَتْرُكُ سُنَّةً مَعْمُولًا بِهَا فَإِذَا
فَرَغَ الْخَطِيبُ مِنْ خُطْبَتِهِ وَانْصَرَفَ النَّاسُ فَلْيَأْخُذْ فِي الْخُرُوجِ
إلَى مِنًى فَيُصَلِّي بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ثُمَّ يَرْحَلُ
مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى عَرَفَةَ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ
يَرْحَلُونَ مِنْ مِنًى فَيَأْتُونَ عَرَفَةَ لَيْلًا فَيُوقِدُونَ الشَّمْعَ
وَيَصْعَدُونَ بِهِ إلَى جَبَلِ عَرَفَةَ فَيَأْتُونَ الْقُبَّةَ الَّتِي
يُسَمُّونَهَا قُبَّةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُدِيرُونَ بِهَا الشَّمْعَ
مَوْقُودًا وَيَطُوفُونَ بِهَا كَطَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ
الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ مَنْعُهُمْ
وَزَجْرُهُمْ وَتَفْرِيقُ جَمْعِهِمْ عَنْ هَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ لَيْلًا كَانَ
أَوْ نَهَارًا وَلَهُ فِي ذَلِكَ ثَوَابُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً وَأَخْمَدَ بِدْعَةً
فَكَيْفَ بِبِدَعٍ كَمَا سَبَقَ
.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَجْلِسُوا بِمِنًى حَتَّى تَطْلُعَ
الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَمَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى وَبَاتَ بِعَرَفَةَ
فَقَدْ تَرَكَ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَابْتَدَعَ .
فَإِذَا وَصَلُوا إلَى عَرَفَةَ أَخَذُوا فِي قَضَاءِ
ضَرُورَاتِهِمْ إلَى الزَّوَالِ فَيَغْتَسِلُونَ وَيَأْتُونَ إلَى مَوْضِعِ
الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ أَنْ
يُصَلُّوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ بِنَمِرَةَ وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي الْغَالِبِ
إلَّا عِنْدَ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَقَدْ صَارُوا
يُصَلُّونَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ بِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ .
فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ مِنْ صَلَاتِهِ أَتَى
لِمَوْضِعِ الْوُقُوفِ فَخَطَبَ النَّاسَ .
وَخُطَبُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ هَذِهِ وَالْخُطْبَةُ
الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْخُطْبَةُ الثَّالِثَةُ فِي ثَانِي يَوْمِ النَّحْرِ
وَمُعْظَمُ مَا فِي الْخُطَبِ الثَّلَاثِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَالْمَقْصُودُ
مِنْهُنَّ تَعْلِيمُ الْحُجَّاجِ مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَجِّهِمْ وَمَا يُنْدَبُ
لَهُمْ فِيهِ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ وَمَا يُكْرَهُ لَهُمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْمَفَاسِدَ
الَّتِي تَعْتَوِرُهُمْ وَكَيْفِيَّةَ التَّحَرُّزِ مِنْهَا وَيَحُضُّهُمْ عَلَى
اتِّبَاعِ السُّنَّةِ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْ أَمْرِ حَجِّهِمْ
بِقَدْرِ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ
وَالِابْتِهَالِ ، وَكَذَلِكَ النَّاسُ يَقْتَدُونَ بِهِ فِي كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ
وَوَاسِعٌ فِي حَقِّهِمْ أَنْ يُؤَمِّنُوا عَلَى دُعَاءِ الْإِمَامِ مَنْ قَرُبَ
مِنْهُ وَمَنْ بَعُدَ عَنْهُ ، وَأَنْ يَدْعُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِمَا أَحَبُّوا
وَلِمَنْ يَخْتَارُوهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ .
وَلَيْسَ مِنْ صِفَةِ الْوُقُوفِ أَنْ لَا يَزَالَ
قَائِمًا إلَى الْغُرُوبِ ، بَلْ إذَا تَعِبَ مِنْ الْوُقُوفِ جَلَسَ ، وَهُوَ
يَفْعَلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَقِفَ رَاكِبًا ،
وَهَذَا الْمَوْضِعُ مُسْتَثْنًى مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ اتِّخَاذِ ظُهُورِ
الدَّوَابِّ مَسَاطِبَ يَجْلِسُ عَلَيْهَا وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِالرَّاحِلَةِ
كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِقْبَالِ إذَا كَانَ بِالْأَرْضِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَكُلُّ مَنْ حَضَرَ بِعَرَفَةَ كَانَ
جَالِسًا أَوْ مُضْطَجِعًا أَوْ نَائِمًا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْوُقُوفُ لَكِنَّ
الْأَفْضَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ
وَتَحَقَّقَ غُرُوبُهَا وَأَقْبَلَ ظَلَامُ اللَّيْلِ فَلْيُمْهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ
قَلِيلًا ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ بِاللَّيْلِ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْوُقُوفُ بِالنَّهَارِ سُنَّةٌ وَلَا تُجْزِئُ السُّنَّةُ
عَنْ الْفَرْضِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ أَنْ
يَأْخُذُوا مِنْ اللَّيْلِ جُزْءًا بِعَرَفَةَ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ ، وَهُوَ
أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ
فِي الرَّحِيلِ بَعْدَ الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ
فَيَشُدُّونَ الرِّحَالَ وَيَحْمِلُونَ عَلَيْهَا الْأَحْمَالَ ثُمَّ يَأْتُونَ
إلَى الْعَلَمَيْنِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْهُمَا فَيَقِفُونَ هُنَاكَ فَإِذَا سَقَطَ قُرْصُ
الشَّمْسِ أَسْرَعُوا بِالْخُرُوجِ مِنْ بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ وَقَدْ يَكُونُ
قُرْصُهَا بَعْدُ لَمْ يَكْمُلْ مَغِيبُهُ فَيَدْخُلُ الْخَلَلُ فِي حَجِّهِمْ
لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ فِي جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ هُوَ الْوَاجِبُ
عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ .
وَكَثْرَةُ الدُّعَاءِ فِي عَرَفَةَ وَالْإِلْحَاحِ بِهِ
وَالِابْتِهَالُ وَالتَّضَرُّعُ هُوَ السُّنَّةُ عُمُومًا .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ
الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَأَفْضَلُ مَا قُلْت أَنَا وَالنَّبِيُّونَ
مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ } وَلَا يَتْرُكُ
ذَلِكَ إلَّا لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَعْلَى .
وَذَلِكَ مِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ
عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ وَالنَّاسُ يَدْعُونَ
وَيَبْتَهِلُونَ ، وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ فَلَمَّا أَنْ نَفَرَ النَّاسُ
قَبَضَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ وَقَالَ وَاسَوْأَتَاهُ ، وَإِنْ غُفِرَتْ ثُمَّ
نَفَرَ مَعَ النَّاسِ فَلَحْظَةٌ مِنْ هَذَا السُّكُوتِ وَالْوَقَارِ وَالْخُشُوعِ
وَالْحُضُورِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ { إنَّ اللَّهَ لَا
يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ } فَإِنْ قَالَ
قَائِلٌ : كَيْفَ يَكُونُ السُّكُوتُ أَفْضَلَ مِنْ الدُّعَاءِ الَّذِي هُوَ مُخُّ
الْعِبَادَةِ ؟ فَجَوَابُهُ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إخْبَارًا عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ { مَنْ شَغَلَهُ
ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْته أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ }
فَإِذَا كَانَ مَنْ اشْتَغَلَ بِذِكْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَفْضَلَ مِنْ
الدَّاعِي فَمَا بَالُك بِمَنْ أُلْبِسَ خِلْعَةَ التَّضَرُّعِ وَالِافْتِقَارِ
وَالِانْكِسَارِ فَهُوَ أَفْضَلُ مَقَامًا سِيَّمَا مَعَ الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ وَالْفِكَرِ
السُّنِّيَّةِ الْجَلِيلَةِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { تَفَكُّرُ
سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ
} وَقِيلَ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الدَّهْرِ .
فَإِذَا تَبَيَّنَ لَك ذَلِكَ عَلِمْت أَنَّ الْخُشُوعَ
وَالسُّكُوتَ وَالْحُضُورَ وَاسْتِصْغَارَ النَّفْسِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ
الْعَظِيمِ آكَدُ الْأَشْيَاءِ عَلَى الْمُكَلَّفِ ، وَإِنْ كَانَ الْعُلَمَاءُ
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَفْضَلُ الرِّضَا
وَالتَّسْلِيمُ أَوْ الدُّعَاءُ وَالتَّضَرُّعُ .
وَجَوَابُهُ مَا تَقَدَّمَ قَبْلُ ؛ وَلِأَنَّ الرِّضَا
وَالتَّسْلِيمَ أَجَلُّ الْمَقَامَاتِ وَأَعْلَاهَا
وَذَلِكَ لَا يَقُومُ فِيهِ إلَّا وَاحِدُ عَصْرِهِ .
نَعَمْ لَا بُدَّ مِنْ امْتِثَالِ السُّنَّةِ فِي
الْمَوَاضِعِ الَّتِي أُمِرَ فِيهَا الْمُكَلَّفُ بِالدُّعَاءِ كَالِاسْتِسْقَاءِ
وَفِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْهَا ، وَهِيَ
بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْقِرَاءَةِ وَفِي الرُّكُوعِ وَفِي الْجُلُوسِ قَبْلَ
التَّشَهُّدِ .
وَكَذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَوَاتِ سِرًّا وَعِنْدَ الْأَذَانِ
وَحَضْرَةِ الْقِتَالِ لِقَوْلِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ سَاعَتَانِ
تُفْتَحُ لَهُمَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ عَلَيْهِ دَعْوَتُهُ
حَضْرَةُ النِّدَاءِ إلَى الصَّلَاةِ وَالصَّفُّ الْأَوَّلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا مَرَّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ فِي
التِّلَاوَةِ وَقَفَ وَسَأَلَ ، وَإِذَا مَرَّ بِآيَةِ عَذَابٍ وَقَفَ
وَاسْتَجَارَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَشْرُوعِ فِيهَا
الدُّعَاءُ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ كُلُّ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ امْتِثَالًا لِلسُّنَّةِ
وَإِظْهَارًا لِلْفَاقَةِ وَالِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ
رَاضٍ عَنْ رَبِّهِ يَخْتَارُ مَا اخْتَارَهُ مَوْلَاهُ لَهُ وَلَا يَسْكُنُ إلَى
غَيْرِهِ كَائِنًا مَا كَانَ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ مُرَاعَاةِ الْأَدَبِ الْمَشْرُوعِ
فِي الدُّعَاءِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَجْتَنِبَ رَفْعَ الصَّوْتِ بِحَيْثُ يَعْقِرُ
حَلْقَهُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ { أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا } وَمِنْ الْبَيَانِ
وَالتَّحْصِيلِ قَالَ مَالِكٌ بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ رَأَى رَجُلًا
قَائِمًا عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَدْعُو بِصَوْتٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ
فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ وَقَالَ لَا تُقَلِّصُوا تَقْلِيصَ الْيَهُودِ فَقِيلَ لَهُ
مَا أَرَادَ بِتَقْلِيصِ الْيَهُودِ قَالَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالدُّعَاءِ وَرَفْعُ
الْيَدَيْنِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تَجْهَرْ
بِصَلَاتِك وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ ، وَأَمَّا رَفْعُ
الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ ، فَإِنَّمَا أُنْكِرَ الْكَثِيرُ مِنْهُ مَعَ
رَفْعِ الصَّوْتِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ ، وَأَمَّا رَفْعُهَا إلَى
اللَّهِ عِنْدَ الرَّغْبَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِكَانَةِ فَصِفَتُهُ أَنْ تَكُونَ
ظُهُورُهُمَا إلَى الْوَجْهِ وَبُطُونُهُمَا إلَى الْأَرْضِ .
وَقِيلَ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {
وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا } أَنَّ الرَّغَبَ تَكُونُ بُطُونُ الْأَكُفِّ
إلَى السَّمَاءِ وَالرَّهَبُ بُطُونُهُمَا إلَى الْأَرْضِ .
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُشُوعِ وَالْحُضُورِ إذْ
ذَاكَ تَسَبَّبَ فِي حُصُولِهِ بِاسْتِدْعَاءِ بَوَاعِثِهِ وَاسْتِجْلَابِ دَوَاعِيهِ
وَالِافْتِقَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ .
فَمِنْ بَوَاعِثِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذُنُوبَهُ وَمَا ارْتَكَبَ
مِنْ قُبْحِ عَمَلِهِ حَتَّى يَنْدَمَ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ إلَى
حَدِّ الْقُنُوطِ وَيَذْكُرُ الْخَوْفَ مَعَ الرَّجَاءِ وَسَعَةِ الرَّحْمَةِ
وَيُحْسِنُ ظَنَّهُ بِمَوْلَاهُ الْكَرِيمِ سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ
الشَّرِيفَةِ وَيَدْعُو بِالْأَلْفَاظِ اللَّائِقَةِ بِحَالِهِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا } { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ
نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي
أَمْرِنَا } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدْعِيَةِ الْوَارِدَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
، وَهِيَ كَثِيرَةٌ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِذُرِّيَّتِهِ
وَلِإِخْوَانِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ السَّجْعِ فِي الدُّعَاءِ
وَالتَّنْمِيقِ فِي أَلْفَاظِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ الْخُشُوعِ فِي شَيْءٍ
، وَهُوَ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ خُضُوعٍ وَانْكِسَارٍ
وَذَلِكَ يُنَافِيهِ .
{ فَصْلٌ } فَإِذَا دُفِعَ مِنْ عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ
الشَّمْسِ فَلْيَمْشِ الْهُوَيْنَا وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ وَالْخُشُوعُ
، وَهُوَ يَتَضَرَّعُ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ .
وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا مِنْ
بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا جُعِلَا عَلَمًا عَلَى حَدِّ
عَرَفَةَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ فَلَا
حَرَجَ .
فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُهُمْ فِي هَذَا
الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ إلَّا مِنْ بَيْنِ الْعَلَمَيْنِ
وَيَرَوْنَ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا حَجَّ لَهُ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ
ذَلِكَ الزَّحْمَةُ الْعَظِيمَةُ وَالضَّرَرُ الْكَثِيرُ لِلنَّاسِ سِيَّمَا
الضُّعَفَاءُ وَالْمُشَاةُ وَرُبَّمَا يَنْكَسِرُ بَعْضُ الْمَحَارِّ وَالْحُجُفِ هُنَاكَ
وَيَقَعُ بَعْضُ الرُّكْبَانِ وَيَقَعُ بَيْنهمْ رَفْعُ الْأَصْوَاتِ بِالسِّبَابِ
وَالشَّتْمِ وَمَا لَا يَلِيقُ عَقِبَ أَعْظَمِ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْمُعَظَّمِ ،
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى
لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِيَسْلَمَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَالثَّانِي : لِيَعْلَمَ مَنْ يَرَاهُ مِنْ النَّاسِ
أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ .
وَصِفَةُ الدَّفْعِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الصِّفَةِ
الَّتِي نُقِلَتْ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهِيَ { أَنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دُفِعَ ، وَهُوَ رَاكِبٌ عَلَى نَاقَتِهِ
الْقَصْوَاءِ وَقَدْ شُنِقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامُ حَتَّى أَنَّ رَأْسَهَا
لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ ، وَهُوَ يَقُولُ بِيَدِهِ أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ
السَّكِينَةَ وَكُلَّمَا أَتَى جَبَلًا مِنْ الْجِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلًا
حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا
شَيْئًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى { أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ دُفِعَ مِنْ عَرَفَةَ قَالَ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ
الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ
أَمَامَك } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ لَمَّا
أَنْ وَصَلُوا إلَى الْمُزْدَلِفَةِ أَذَّنَ وَأَقَامَ وَالرِّحَالُ قَائِمَةٌ
فَلَمَّا أَنْ فَرَغُوا مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ حَطُّوا الرِّحَالَ وَأَقَامُوا
الصَّلَاةَ وَصَلَّوْا الْعِشَاءَ ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي هَذَا
الزَّمَانِ حَتَّى صَارَتْ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ فَطُوبَى لِمَنْ أَحْيَاهَا
وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ صَلَّى الْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَيَظُنُّونَ أَنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ كَالْجَمْعِ
بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي عَرَفَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي
الْمَطَرِ فِي الْأَقَالِيمِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، بَلْ السُّنَّةُ فِي الْجَمْعِ
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ كَمَا وُصِفَ فَتَتَعَيَّنُ
الْمُبَادَرَةُ إلَى امْتِثَالِ سُنَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى
مَا امْتَثَلَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ الْمُكَرَّمَةِ
وَفِي حَقِّ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّمَا
فَعَلَ فِعْلًا فِي الْحَجِّ يَقُولُ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَأَكْثَرُ
أَفْعَالِ الْحَجِّ إنَّمَا هِيَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَبُّدِ ، وَهَذَا مِنْهَا .
وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يَلْتَقِطَ الْحَصَى فِيمَا
بَيْنَ عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فَلَا
بَأْسَ .
وَلَا يَأْخُذُ حَجَرًا كَبِيرًا فَيَكْسِرُهُ فَإِنْ
فَعَلَ جَازَ وَعَدَدُهَا سَبْعُونَ حَصَاةً ، وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ
{ فَصْلٌ } وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يُحْيِيَ
لَيْلَةَ الْعِيدِ بِالصَّلَاةِ
.
وَقَدْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُومُ تِلْكَ
اللَّيْلَةَ كُلَّهَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ .
وَقَدْ اسْتَحَبَّ الْعُلَمَاءُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ
الْأَقْطَارِ .
لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ أَحْيَا لَيْلَتَيْ
الْعِيدِ أَحْيَا اللَّهُ قَلْبَهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ } وَذَلِكَ بِشَرْطِ
أَنْ لَا يَكُونَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ كَمَا يَفْعَلُ
فِي رَمَضَانَ ، بَلْ كُلُّ إنْسَانٍ فِي بَيْتِهِ لِنَفْسِهِ وَلَا بَأْسَ أَنْ
يَأْتَمَّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ
{ فَصْلٌ } وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ
بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَلَا يَنْتَظِرُ بِهَا أَحَدًا ؛
لِأَنَّهَا السُّنَّةُ الْمَعْمُولُ بِهَا .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ
قَالَ { مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى
صَلَاةً لِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ
وَالْعِشَاءِ وَصَلَّى الصُّبْحَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا } .
يَعْنِي بِالْجَمْعِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَالصُّبْحِ
بِهَا وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الْوَقْتَ الَّذِي عَادَتُهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ يُوقِعُهَا فِيهِ فَكَانَ يُبَكِّرُ بِهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ
طُلُوعِ الْفَجْرِ دُونَ مُهْلَةٍ
.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَيْمُونَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَنْ حَجَّتْ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَطَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ قَالَتْ عِنْدَ
ذَلِكَ : إنْ أَصَابَ عُثْمَانُ السُّنَّةَ فَهُوَ يُصَلِّي الْآنَ فَمَا أَتَمَّتْ
كَلَامَهَا إلَّا وَالْمُؤَذِّنُ يُقِيمُ الصَّلَاةَ .
ثُمَّ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ بِهَا دُفِعَ إلَى
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَالْمَشْعَرَ عَلَى يَسَارِهِ
فَيُثْنِي عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ وَيُصَلِّي عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ
وَلِوَالِدَيْهِ وَلِأَوْلَادِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِجَمِيعِ مَعَارِفِهِ
وَلِلْمُسْلِمِينَ وَيَبْتَهِلُ وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ
الدُّعَاءَ هُنَاكَ مَأْمُورٌ بِهِ ، وَهُوَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَرْجُوِّ
فِيهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ وَيَنْوِي بِذَلِكَ كُلِّهِ امْتِثَالَ السُّنَّةِ يَفْعَلُ
ذَلِكَ إلَى أَنْ يُسْفِرُ الْوَقْتُ الْإِسْفَارَ الْبَيِّنَ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ أَكْثَرُ
الْحُجَّاجِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَرْحَلُونَ مِنْ
الْمُزْدَلِفَةِ وَيَأْتُونَ إلَى مِنًى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقِفُوا بِالْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ فَيَتْرُكُونَ هَذِهِ السُّنَّةَ الْعُظْمَى وَفِيهَا مِنْ
الْخَيْرَاتِ وَالْبَرَكَاتِ مَا لَا يُحْصَى وَكَفَى بِهَا أَنَّهَا سُنَّةٌ
مَاضِيَةٌ مَشْرُوعَةٌ ، وَقَدْ تَرَكَهَا أَكْثَرُهُمْ وَمَنْ أَحْيَا سُنَّةً
مِنْ السُّنَنِ فَلَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ .
ثُمَّ يُدْفَعُ إلَى مِنًى فَإِذَا وَصَلَ بَطْنَ
مُحَسِّرٍ رَمَلَ قَدْرَ رَمْيَةِ الْحَجَرِ وَيَنْوِي بِذَلِكَ امْتِثَالَ
السُّنَّةِ أَيْضًا وَإِحْيَاءَهَا ثُمَّ يَمْشِي الْهُوَيْنَا إلَى أَنْ يَصِلَ
إلَى مِنًى فَيَأْتِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيَهَا مِنْ أَسْفَلِهَا ،
وَهُوَ رَاكِبٌ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَرْمِيَ فِي جِدَارِ
الْجَمْرَةِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْتَسِبْ بِهِ .
وَكَذَلِكَ لَا يَرْمِيهَا بِقُوَّةٍ وَلَا يَضَعُهَا
وَضْعًا وَلَكِنْ يَكُونُ رَمْيًا مُتَوَسِّطًا ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَيْسَتْ
لَهُ رَاحِلَةٌ فَلْيَرْمِ ، وَهُوَ قَائِمٌ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّاكِبُ إنْ
تَوَقَّعَ هُنَاكَ زَحْمَةً أَوْ غَيْرَهَا فَيُسَامَحُ فِي الرَّمْيِ ، وَهُوَ نَازِلٌ
بِالْأَرْضِ قَائِمًا ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ رَمْيِهِ رَجَعَ إلَى مِنًى فَنَزَلَ
بِهَا ثُمَّ يَنْحَرُ إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَأَفْضَلُ مَا فِي الْحَجِّ بَعْدَ
فَرَائِضِهِ نَحْرُ الْهَدْيِ ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ قَلَّ فَاعِلُهَا فِي هَذَا
الزَّمَانِ وَفِيهَا النَّفْعُ الْمُتَعَدِّي .
وَكَيْفِيَّةُ مَا يُفْعَلُ فِيهِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ يُشْعِرُهُ وَيُقَلِّدُهُ وَيَكْسُوهُ كَمَا
فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ
بِالْإِبِلِ ، وَأَمَّا الْبَقَرُ فَتُقَلَّدُ وَلَا تُشْعَرُ وَقِيلَ إنْ كَانَتْ
لَهَا أَسْنِمَةٌ أُشْعِرَتْ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُفْعَلُ فِي الْغَنَمِ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَسْتَصْحِبُ الْهَدْيَ مَعَهُ إلَى أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ
سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ ثُمَّ يَأْتِي بِهِ
إلَى مِنًى ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْحَرُهُ فِيهِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ هَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ قَدْ تُرِكَتْ وَقَلَّ الْعَمَلُ وَالْعِلْمُ
بِهَا فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى فِعْلِهَا حَتَّى تَحْيَا هَذِهِ
السُّنَّةُ الَّتِي أُمِيتَتْ فَيَحْصُلُ لِمَنْ أَحْيَاهَا الشَّهَادَةُ مِنْ
صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِالْمَعِيَّةِ مَعَهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ قَالَ { مَنْ أَحْيَا
سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ فَكَأَنَّمَا أَحْيَانِي وَمَنْ أَحْيَانِي
كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ } وَالْغَالِبُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي
الْحَجِّ يَتْرُكُونَ جُمْلَةً مِنْ سُنَنِهِ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .
فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ مَعَ النَّاسِ فِي تَرْكِ
هَذَا وَأَمْثَالِهِ ، بَلْ يَكُونُ مُحَافِظًا عَلَى
سُنَّةِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ نَحْرِ هَدْيِهِ يَحْلِقُ
أَوْ يُقَصِّرُ وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالتَّقْصِيرُ
إنَّمَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ وَالتَّقْصِيرُ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِنَّ وَعَلَى
مَنْ فَعَلَهُ مِنْ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ
كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ فَالْحَلْقُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَيْسَرُ
مِنْهُ ثُمَّ يُفْطِرُ عَلَى هَدْيِهِ نَاوِيًا بِذَلِكَ اتِّبَاعَ سُنَّةِ
نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ ، وَإِنْ أَفْطَرَ
عَلَى زِيَادَةِ الْكَبِدِ فَحَسَنٌ وَيَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِمَا شَاءَ وَيَتَصَدَّقُ
بِجِلَالِهِ وَجِلْدِهِ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { أَمَرَنِي رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلَالِ الْبُدْنِ
الَّتِي نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا } وَتَقْدِيمُ النَّحْرِ عَلَى الْحَلْقِ هُوَ الْمُسْتَحَبُّ
وَلَوْ قُدِّمَ الْحَلْقُ عَلَى النَّحْرِ فَلَا حَرَجَ .
وَلْيَكُنْ فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ قَوِيَّ الرَّجَاءِ
فِي فَضْلِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَرْمِهِ وَإِحْسَانِهِ فِي قَبُولِهِ مِنْهُ
مَا تَعَبَّدَهُ بِهِ .
لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى يَقُولُ { أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } وَمَا هُوَ فِيهِ مَقَامٌ عَظِيمٌ
فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ قُوَّةُ الرَّجَاءِ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ
الْمَقْبُولِينَ أَوْ مِمَّنْ غُفِرَ لَهُ بِسَبَبِ مُشَارَكَتِهِ
لِلْمَقْبُولِينَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعُظْمَى .
وَانْظُرْ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي
كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ لِأُمَّتِهِ الْبَابَ
لِيَدْخُلَ بَعْضُهُمْ فِي بَرَكَةِ بَعْضٍ حَتَّى لَا يَهْلَكَ عَلَى اللَّهِ
إلَّا هَالِكٌ أَلَا تَرَى إلَى صَلَاةِ النَّاسِ فِي الْأَقَالِيمِ فِي
الْمَسَاجِدِ الْمُتَفَرِّقَةِ كُلُّ إنْسَانٍ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي
يَلِي بَيْتَهُ أَوْ مَوْضِعَ سَبَبِهِ أَوْ صَنْعَتِهِ .
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِيهِمْ مَنْ
هُوَ
مَقْبُولٌ فَيُغْفَرُ لِلْبَاقِينَ بِسَبَبِهِ ؛ لِأَنَّ
الصَّلَاةَ تُرْفَعُ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ لَا
يَكُونُ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ فَأَمَرَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ
وَأَمَرَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ وَمَنْ كَانَ خَارِجَهَا بِالْحُضُورِ
إلَيْهَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ
فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَقْبُولٌ فَيُغْفَرُ لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ
وَقَدْ لَا يَكُونُ فِي الْبَلَدِ مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ فَيَأْتِي أَهْلُ
الْآفَاقِ إلَى الْحَجِّ فَيَجْتَمِعُونَ فِي الْمَوْقِفِ جَمِيعًا
وَيَتَشَارَكُونَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْعُظْمَى فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ
مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَوْجُودًا فِيهِمْ فَيُغْفَرُ
لِلْجَمِيعِ بِسَبَبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَأَظُنُّهُ مُقَاتِلَ
بْنَ سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا أَنْ حَجَّ وَبَاتَ
بِالْمُزْدَلِفَةِ أَخَذَتْهُ سِنَةٌ فَرَأَى مَلَكَيْنِ أَحَدُهُمَا يَقُولُ
لِلْآخَرِ كَمْ حَجَّ بَيْتَ رَبِّنَا فِي هَذَا الْعَامِ فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ
سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ فَقَالَ لَهُ فَكَمْ قُبِلَ مِنْهُمْ قَالَ سِتَّةٌ
فَاسْتَفَاقَ مِنْ سِنَتِهِ مَرْعُوبًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إنْ كَانَتْ مِنْك
فَأَعِدْهَا عَلَيَّ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الشَّيْطَانِ فَأَبْعِدْهَا عَنِّي
فَنَامَ فَرَآهُمَا كَذَلِكَ ثُمَّ اسْتَفَاقَ فَقَالَ مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ نَامَ
فَرَآهُمَا فَلَمَّا أَنْ قَالَ الْمَلَكُ تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْهُمْ سِتَّةً
قَالَ فَقُلْت لَهُ وَبَاقِي النَّاسِ مَا خَبَرُهُمْ أَمَرْدُودُونَ ؟ ، ، أَوْ كَمَا
قَالَ فَقَالَ الْمَلَكُ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْ السِّتَّةِ مِائَةَ أَلْفٍ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَيْضًا
أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَجِّ فَرَأَى شَابًّا وَعَلَيْهِ آثَارُ الْخَيْرِ فَحَصَلَ
لَهُ بِهِ حُسْنُ ظَنٍّ فَبَقِيَ يَتَفَقَّدُ فِي كُلِّ مَقَامٍ مِنْ الْحَجِّ قَالَ
فَرَأَيْته لَمَّا أَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَرَجَعَ إلَى مِنًى قَالَ
إلَهِي
وَسَيِّدِي إنَّ النَّاسَ يَتَقَرَّبُونَ إلَيْك
بِهَدَايَاهُمْ ، وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ أَتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْك إلَّا رُوحِي
فَخُذْهَا إلَيْك فَخَرَّ مَيِّتًا وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى
وَأَشْبَاهِهِ كَثِيرَةٌ أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ
بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَتَتَعَيَّنُ تَقْوِيَةُ
الرَّجَاءِ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا لَعَلَّهُ أَنْ
يَكُونَ مِنْ الْمُتَقَبَّلِ مِنْهُمْ أَوْ الْمَغْفُورِ لَهُمْ .
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ
بِكَرَمِهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ
{ فَصْلٌ } وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَأْتِيَ بِطَوَافِ
الْإِفَاضَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ بَعْدَ أَنْ يَفْرُغَ مِمَّا ذُكِرَ ، فَإِذَا
فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَحَلَّ لَهُ كُلُّ مَا
كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِمَكَّةَ أَوْ
فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ وَلَيْسَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ رَمَلٌ
وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْعُدَ فِي مَكَّةَ حَتَّى يُصَلِّيَ فِيهَا ، بَلْ إنْ
صَادَفَهُ وَقْتُ الصَّلَاةِ صَلَّى بِهَا وَإِلَّا فَلَا ثُمَّ يَرْجِعُ فِي
بَقِيَّةِ يَوْمِهِ إلَى مِنًى فَيَبِيتُ بِهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِهَا مِنْ السُّنَنِ
الْمُؤَكَّدَةِ فَيَجِبُ الدَّمُ عَلَى مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِهَا لَيْلَةً
مِنْ لَيَالِيِهَا أَوْ أَكْثَرَهَا ثُمَّ يُقِيمُ بِهَا إلَى الْيَوْمِ
الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَى الْجِمَارَ
الثَّلَاثَ عَلَى سُنَّةِ الرَّمْيِ
.
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ وَلَا
يَتْرُكُ التَّكْبِيرَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ وَكَذَلِكَ لَا يَدْعُ التَّكْبِيرَ
بِمِنًى طُولَ مَقَامِهِ فِيهَا سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ
رَفْعًا مُتَوَسِّطًا بِحَيْثُ لَا يَعْقِرُ حَلْقَهُ ، وَهَذَا مِنْ الْمَوَاضِعِ
الَّتِي شُرِعَ الذِّكْرُ فِيهَا جَهْرًا ثُمَّ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
التَّعْجِيلِ وَالْإِقَامَةِ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْإِقَامَةُ أَفْضَلُ
فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ مِنْ التَّعْجِيلِ لَكِنْ فِي هَذَا الزَّمَانِ
يَتَعَذَّرُ فَبَقِيَ التَّعْجِيلُ مُتَعَيَّنًا ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقَامَ مِنْهُمْ
إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ أَكْثَرُهُمْ يَرْمُونَ قَبْلَ الزَّوَالِ ثُمَّ
يَرْحَلُونَ وَمَنْ فَعَلَ هَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ
قَبْلَ الزَّوَالِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ وَقْتِهِ كَمَا
لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَمَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ
بِمِنًى وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِهَا وَالْإِقَامَةُ إلَى الزَّوَالِ حَتَّى
يَرْمِيَ بَعْدَهُ وَلَا تُمْكِنُ الْإِقَامَةُ فِي الْغَالِبِ بَعْدَ رَحِيلِ
النَّاسِ مِنْ مِنًى إلَّا بِخَطَرٍ وَغَرَرٍ ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ
لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهِ .
فَإِذَا رَحَلَ مِنْ مِنًى قَاصِدًا مَكَّةَ
فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَتْرُكَ النُّزُولَ بِالْمُحَصَّبِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ فَعَلَ فَيُصَلِّيَ فِيهِ
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بَعْدَ دُخُولِ أَوْقَاتِهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ غَالِبُهَا
التَّعَبُّدُ فَيَفْعَلُ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَفْعَلُ .
وَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ قَدْ تُرِكَتْ فَمَنْ
أَحْيَاهَا حَصَلَ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَالْغَالِبُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فِي هَذَا الزَّمَانِ
أَنَّهُمْ إذَا رَحَلُوا مِنْ مِنًى لَا يَنْزِلُونَ إلَّا بِمَكَّةَ
وَيَتَعَلَّلُونَ بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ ، وَهَذَا
لَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَنَا بِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ هُوَ الَّذِي نَزَلَ
بِالْمُحَصَّبِ وَصَلَّى فِيهِ ، وَهُوَ الْمُشَرِّعُ لِأُمَّتِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْعَالِمُ بِمَا هُوَ الْأَفْضَلُ وَالْأَرْجَحُ
عِنْدَ رَبِّهِ فَتَتَعَيَّنُ الْمُبَادَرَةُ إلَى تَقْدِيمِ مَا قَدَّمَ وَتَأْخِيرُ
مَا أَخَّرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
ثُمَّ يَدْخُلُ مَكَّةَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَعْدَ
الْعِشَاءِ فَإِذَا دَخَلَهَا فَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ
أَنَّهُمْ يَأْتُونَ بِالْعُمْرَةِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ .
وَالْعُمْرَةُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
جَائِزَةٌ فِي كُلِّ السَّنَةِ إلَّا فِي حَقِّ الْحَاجِّ ، فَإِنَّهُ لَا
يَفْعَلُهَا إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ، فَإِنْ
أَحْرَمَ بِهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِهَا وَلَا يَجُوزُ لَهُ
أَنْ يَأْتِيَ بِهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ ،
فَإِنْ فَعَلَهَا قَبْلَ غُرُوبِهَا لَمْ تُجْزِهِ ، وَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا وَلَا
يُحْدِثُ لَهَا إحْرَامًا جَدِيدًا
.
فَعَلَى مَذْهَبِهِ مَنْ فَعَلَهَا فِي الْيَوْمِ
الرَّابِعِ بَعْدَ الرَّمْيِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إحْرَامِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ
مِنْهُ بَعْدُ وَيَلْزَمُهُ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُهُ حُكْمُ الْمُحْرِمِ فِيمَا
يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَوْ يُكْرَهُ فِي حَقِّهِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ أَرَادَ أَنْ
يَخْرُجَ مِنْ هَذَا أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْإِتْيَانِ بِالْعُمْرَةِ بَعْدَ أَنْ
يُصَلِّيَ الْعَصْرَ بِمَكَّةَ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِذَا أَتَى الْحِلَّ
اغْتَسَلَ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ وَانْتَظَرَ غُرُوبَ الشَّمْسِ فَإِذَا
غَرَبَتْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِالْحِلِّ ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا وَمِنْ
الرُّكُوعِ بَعْدَهَا رَكَعَ رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ ثُمَّ أَحْرَمَ
بِالْعُمْرَةِ ، وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عَقِبَ الْفَرْضِ صَحَّ ،
وَيَنْوِي الدُّخُولَ فِيهَا وَيُلَبِّي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ .
فَإِذَا أَتَى إلَى مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ
وَقَدْ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ وَيُدْرِكُ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ
أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ فَتَحْصُلُ لَهُ الْعُمْرَةُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِيهَا وَيُدْرِكُ
السَّفَرَ مَعَ النَّاسِ إنْ رَحَلَ الرَّكْبُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَنَاسِكِ حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ .
وَالْغَالِبُ أَنَّ الرَّكْبَ لَا يَرْحَلُ إلَّا فِي
الْيَوْمِ الْخَامِسِ لَكِنَّهُ قَدْ يَرْحَلُ فِي لَيْلَتِهِ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ وَمَنْ فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ كَانَ مُتَأَهِّبًا
لِلسَّفَرِ مَعَ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ،
فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الذُّنُوبَ وَالْفَقْرَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ
وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا
الْجَنَّةَ } زَادَ التِّرْمِذِيُّ { وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ يَظَلُّ يَوْمَهُ
مُحْرِمًا إلَّا غَابَتْ الشَّمْسُ بِذُنُوبِهِ }
ثُمَّ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ فَلْيَطُفْ
بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْوَدَاعِ فَإِنْ اشْتَغَلَ بَعْدَهُ بِشُغْلٍ كَثِيرٍ أَوْ
طَالَ مَقَامُهُ بِهَا وَأَرَادَ السَّفَرَ فَلْيُعِدْهُ عِنْدَ إرَادَةِ الْخُرُوجِ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ
، وَهُوَ أَنَّهُمْ إذَا خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ مِنْ الْمَسْجِدِ
الْقَهْقَرَى وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَدَاعِهِمْ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ وَذَلِكَ مِنْ الْبِدَعِ
الْمَكْرُوهَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلَا
فَعَلَهَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُمْ
أَشَدُّ النَّاسِ حِرْصًا عَلَى اتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
ثُمَّ أَدَّتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الَّتِي أَحْدَثُوهَا
وَعَلَّلُوهَا إلَى أَنْ صَارُوا يَفْعَلُونَهَا مَعَ مَشَايِخِهِمْ وَمَعَ
كُبَرَائِهِمْ وَعِنْدَ الْمَقَابِرِ الَّتِي يَحْتَرِمُونَهَا وَيُعَظِّمُونَ
أَهْلَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَصْلٌ }
فَإِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَلْتَكُنْ نِيَّتُهُ
وَعَزِيمَتُهُ وَكُلِّيَّتُهُ فِي زِيَارَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَزِيَارَةِ مَسْجِدِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ كُلِّهِ
لَا يُشْرِكُ مَعَهُ غَيْرَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مَقْصِدِهِ أَوْ قَضَاءِ
شَيْءٍ مِنْ حَوَائِجِهِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ مَتْبُوعٌ لَا تَابِعٌ فَهُوَ رَأْسُ الْأَمْرِ الْمَطْلُوبِ وَالْمَقْصُودِ
الْأَعْظَمِ .
فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ عَلَى
سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ
بِالْمُعَرَّسِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ خَارِجَ الْمَدِينَةِ حَتَّى يَتَأَهَّبَ
لِلدُّخُولِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَتَطَهَّرَ وَيَرْكَعَ
وَيَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَيَتَطَيَّبَ وَيُجَدِّدَ التَّوْبَةَ ثُمَّ
يَدْخُلَ ، وَهُوَ مَاشٍ عَلَى رِجْلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الذِّلَّةِ
وَالْمَسْكَنَةِ وَالِاحْتِيَاجِ وَالِاضْطِرَارِ .
وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا
أَنْ قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَادَرُوا
إلَيْهِ كُلُّهُمْ إلَّا سَيِّدَهُمْ فَإِنَّهُ اغْتَسَلَ وَلَبِسَ أَحْسَنَ
ثِيَابِهِ ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيك خَصْلَتَانِ يُحِبُّهُمَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ كَيْفِيَّةُ زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِحَسْبِ مَا حَضَرَ فِي الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ الْآدَابَ
مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى لِعَظِيمِ
أَمْرِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ زِيَارَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ فِيمَا يُرِيدُهُ وَذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا الْمُجَاوَرَةُ أَوْ السَّفَرُ إلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى أَوْ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ .
أَمَّا الْمُجَاوَرَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ تُتْرَكَ فِي
هَذَا الزَّمَانِ لِوُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ
الْعَجْزُ عَنْ الْقِيَامِ بِآدَابِ الْمُجَاوَرَةِ مَعَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إذْ الْجَنَابُ عَظِيمٌ فَاحْتِرَامُهُ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ عَظِيمٌ
وَلَا يَخْلُو الْإِنْسَانُ مِنْ الْهَفَوَاتِ وَالْكَسَلِ الَّذِي يَطْرَأُ
عَلَيْهِ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ هَذَا وَجْهٌ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ
سُئِلَ أَيُّمَا أَحَبُّ إلَيْك الْمُجَاوَرَةُ أَوْ الْقُفُولُ فَأَجَابَ بِأَنْ
قَالَ : السُّنَّةُ
الْحَجُّ ثُمَّ الْقُفُولُ وَلَا شَكَّ أَنَّ اتِّبَاعَ
السُّنَّةِ أَوْلَى .
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إذَا فَرَغَ مِنْ حَجِّهِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْيَمَنِ يَمَنُكُمْ وَيَا
أَهْلَ الْعِرَاقِ عِرَاقُكُمْ وَيَا أَهْلَ الشَّامِ شَامُكُمْ وَيَا أَهْلَ
مِصْرَ مِصْرُكُمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ
جَاوَرَ بِمَكَّةَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَمْ يَبُلْ فِي الْحَرَمِ وَلَمْ يَضْطَجِعْ
فَمِثْلُ هَذَا تُسْتَحَبُّ لَهُ الْمُجَاوَرَةُ أَوْ يُؤْمَرُ بِهَا
وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ رِبْحٍ لَا مَوْضِعُ خَسَارَةٍ فَيَحْرِمُ نَفْسَهُ
الرِّبْحَ لِقِلَّةِ الْأَدَبِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُ وَقِلَّةِ الِاحْتِرَامِ
سِيَّمَا حِينَ يَكُونُ الرَّكْبُ نَازِلًا بِالْمَدِينَةِ الشَّرِيفَةِ فَتَجِدُ
الْعَذِرَةُ وَالْبَوْلُ فِي الطُّرُقِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَسْجِدِ الْمُعَظَّمِ
بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَيَمْشِي بَعْضُ النَّاسِ عَلَيْهَا فَتَتَنَجَّسُ
نَعْلُهُ أَوْ قَدَمُهُ بِذَلِكَ ثُمَّ يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ الشَّرِيفَ عَلَى
تِلْكَ الْحَالَةِ وَقَدْ حَكَى لِي السَّيِّدُ الْجَلِيلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْفَاسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ احْتَاجَ إلَى قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ
، وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ فَخَرَجَ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ وَعَزَمَ
أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ فِيهِ فَسَمِعَ هَاتِفًا يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ :
الْحُجَّاجُ يَعْمَلُونَ هَذَا فَأَجَابَهُ الْهَاتِفُ بِأَنْ قَالَ وَأَيْنَ
الْحُجَّاجُ وَأَيْنَ الْحُجَّاجُ وَأَيْنَ الْحُجَّاجُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَخَرَجَ
عَنْ الْبَلَدِ حَتَّى قَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ رَجَعَ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُشَاهِدُ مَا فُعِلَ
هُنَاكَ مِنْ الْمِيضَاءَاتِ الَّتِي عُمِلَتْ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ
وَلَهَا سَرَابَاتٌ وَالْمِيَاهُ تُسْكَبُ وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ الْحُجْرَةِ
الشَّرِيفَةِ ، وَهُوَ مُشَاهَدٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ يَسْرِي فِي
الْأَرْضِ سَرِيعًا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَيَجِبُ تَغْيِيرُهُ
بِزَوَالِهِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ بَقِيَ عَلَيْهِ
التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ وَمِنْ التَّغْيِيرِ بِالْقَلْبِ الْهَرَبُ مِنْ
مَوْضِعٍ
يُبَاشَرُ مِثْلُ هَذَا فِيهِ ثُمَّ إنَّ فِي
النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي تُقَابِلُ الْمِيضَاءَاتِ رُطُوبَاتٍ وَفِيهَا
سَرَابَاتٌ وَكُلُّ ذَلِكَ يُخَافُ مِنْهُ الْوُصُولُ إلَى الْمَوْضِعِ الشَّرِيفِ
فَيَجِبُ تَغْيِيرُهُ بِحَسْبِ حَالِ الْمُغَيِّرِ .
وَسَبَبُ الْوُقُوعِ فِي هَذَا وَأَشْبَاهِهِ أَنَّ
الْغَالِبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْحَسَنَةَ مِنْ
حَيْثُ هِيَ حَسَنَةٌ وَيَفْعَلُونَهَا وَلَا يُفَكِّرُونَ فِيمَا يَصْدُرُ
عَنْهَا مِنْ السَّيِّئَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْطِنُ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي
الْغَالِبِ إلَّا أَهْلُ الْعِلْمِ الْمُرَاقِبُونَ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ
الْمُتَحَفِّظُونَ مِمَّا يُتَوَقَّعُ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ الْفَسَادِ وَفِعْلُ
هَذَا بِجِوَارِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ مِنْ أَكْبَرِ السَّيِّئَاتِ ، وَإِنْ كَانَ
فَاعِلُهُ يَقْصِدُ بِهِ الْحَسَنَةَ ؛ لِأَنَّهُ نَظَرَ لِمَا كَانَ يُفْعَلُ
هُنَاكَ فِي الطَّرِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَأَرَادَ إزَالَتَهُ بِفِعْلِ
الْمِيضَاءَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرُّبُطِ فَوَقَعَ فِي أَكْثَرَ مِمَّا
تَحَفَّظَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَذْهَبُ
بِالشَّمْسِ وَالرِّيحِ وَالْإِزَالَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا فُعِلَ مِنْ
الْمِيضَاءَاتِ وَالرُّبُطِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ فَإِنَّهُ
يَجْتَمِعُ الْأَذَى فِي الْكُنُفِ مَعَ انْصِبَابِ الْمَاءِ فَيَسْرِي تَحْتَ
الْأَرْضِ .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّهُ يَسْمَعُ وَيُشَاهِدُ
قِرَاءَتَهُمْ لِتِلْكَ الْأَسْبَاعِ حَلَقًا حَلَقًا فِي الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ
وَكَذَلِكَ الْأَحْزَابُ وَالْأَذْكَارُ وَقَدْ تَقَدَّمَ كَرَاهَةُ ذَلِكَ .
الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّهُمْ إذَا فَرَغُوا مِنْ
هَذِهِ الْوَظَائِفِ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ فِي الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ تَارَةً
بِالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَتَارَةً بِقَوْلِهِمْ جَرَى لِفُلَانٍ كَذَا
وَوَقَعَ لِفُلَانٍ كَذَا وَاتَّفَقَ فِي الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ كَذَا ثُمَّ
إنَّ بَعْضَهُمْ يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِذَلِكَ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ
عَاقِلٌ عِنْدَ قَبْرِ وَلِيٍّ فَكَيْفَ يُفْعَلُ عِنْدَ الْحُجْرَةِ الْكَرِيمَةِ .
الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ
سُوقَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فِي الصِّغَرِ عَلَى مَا
قَدْ عُلِمَ وَيُؤْتَى إلَى السُّوقِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا تَجُوزُ مِنْ
الْغَنَمِ الَّتِي نُهِبَتْ وَغَيْرِهَا مِنْ السِّلَعِ .
الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ وَذَاعَ
أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ مَنْ لَهُ اعْتِقَادٌ لَا تَرْضَاهُ الشَّرِيعَةُ
الْمُحَمَّدِيَّةُ فَيُخَافُ أَنْ يَصِلَ هَذَا السُّمُّ لِمَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ
أَوْ خَالَطَهُمْ فَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّهُ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ لَا
يَسْلَمُ مِنْهُ وَلَدُهُ وَأَهْلُهُ وَأَصْحَابُهُ وَمَعَارِفُهُ وَالْغَالِبُ
أَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ لِتَعَذُّرِهِ .
الْوَجْهُ الثَّامِنُ : مَا يَفْعَلُ بَعْضُ النَّاسِ
مِنْ الْبَوْلِ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
وَقَدْ وَقَعَ لِي لَمَّا أَنْ حَجَجْت كُنْت أُصَلِّي
مُبَاشِرًا لِلْأَرْضِ فَقَالَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَالْفِقْهِ وَالْأَمَانَةِ وَالدِّينِ لَا تَفْعَلْ وَنَهَانِي عَنْ ذَلِكَ
وَقَالَ لَا بُدَّ لَك مِنْ خِرْقَةٍ تُصَلِّي عَلَيْهَا فَسَأَلْته عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ
فَقَالَ إنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَبِيتُونَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ
فَيَبُولُونَ فِيهِ بِاللَّيْلِ حَتَّى يَكْثُرَ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَيَجِيءَ
الْمَطَرُ فَيَنْزِلَ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى الْمَسْجِدِ الشَّرِيفِ فَإِذَا كَانَتْ
هَذِهِ الْمَفْسَدَةُ فِي عِمَادِ الدِّينِ وَرَأْسِهِ ، وَهِيَ الصَّلَاةُ
فَكَيْفَ يُمْكِنُ الْمَقَامُ مَعَهَا وَقَدْ كُنْت عَزَمْت أَنْ أُجَاوِرَ بِهَا
، وَكَانَتْ الْمُجَاوَرَةُ تَيَسَّرَتْ عَلَيَّ فَقَالَ مَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُجَاوِرَ
فَقُلْت لَهُ وَلِمَ ؟ فَقَالَ لِي مَنْ يَنْظُرُ مِنْ أَيْنَ تَدْخُلُ عَلَيْهِ
الْمَفْسَدَةُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْكُنَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ لِتَعَذُّرِ
ذَلِكَ فِيهَا فَقُلْت لَهُ فَلِمَ جَاوَرْت أَنْتَ بِهَا فَقَالَ لِي جَاوَرْت
اضْطِرَارًا لَا اخْتِيَارًا وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُجَاوِرَ مُخْتَارًا
فَانْظُرْ لِنَفْسِك وَالسَّلَامُ أَوْ كَمَا قَالَ .
فَتَرَكْت الْمُجَاوَرَةَ لِنُصْحِهِ وَشَفَقَتِهِ عَلَى
عَادَتِهِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي كُنْت أَعْهَدُ مِنْهُ .
ثُمَّ لَوْ فُرِضَ أَنَّ الْمُجَاوِرَ لَا يُبَاشِرُ
شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ حِينَئِذٍ تَكُونُ الْمُجَاوَرَةُ
مُسْتَحَبَّةً فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَخِلَّ بِعِبَادَةٍ أُخْرَى هِيَ أَكْبَرُ
مِنْهَا كَالِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ فِيهَا
وَكَالْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَجِبُ
عَلَيْهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ لِمَنْ يُحِبُّ ذَلِكَ بِالْحُضُورِ مَعَهُ دُونَ إرْسَالِ
السَّلَامِ بِالْكِتَابَةِ وَغَيْرِهَا وَالْمَقْصُودُ أَنْ يُقَدِّمَ امْتِثَالَ
الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَيُقَدِّمَ مَا قَدَّمَهُ وَيُؤَخِّرَ مَا أَخَّرَهُ
فَالْمُجَاوَرَةُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاتِّبَاعِ
أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ هَذِهِ هِيَ
الْمُجَاوَرَةُ .
وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْهَجُ بِهَذَا
الْبَيْتِ كَثِيرًا وَخَيْرُ أُمُورِ الدِّينِ مَا كَانَ سُنَّةً وَشَرُّ
الْأُمُورِ الْمُحْدَثَاتِ الْبَدَائِعُ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
{ إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ
} فَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ قَرِيبٌ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى وَكَمْ مِنْ
قَرِيبِ الدَّارِ بَعِيدٌ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ كَمْ مَنْ هُوَ مَعَنَا وَلَيْسَ هُوَ مَعَنَا وَكَمْ مَنْ هُوَ بَعِيدٌ
عَنَّا ، وَهُوَ مَعَنَا .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ كَانَتْ السَّعَادَةُ بِالْهَيَاكِلِ وَالصُّوَرِ مَا
ظَفِرَ بِهَا بِلَالٌ الْحَبَشِيُّ وَحُرِمَهَا أَبُو لَهَبٍ الْقُرَشِيُّ .
وَقَدْ نَظَمَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ
وَكَمْ مِنْ بَعِيدِ الدَّارِ نَالَ مُرَادَهُ وَكَمْ مِنْ قَرِيبِ الدَّارِ مَاتَ
كَئِيبًا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ الشَّيْءُ لِمَنْ خُبِّئَ لَهُ إنَّمَا هُوَ
لِمَنْ قُسِمَ لَهُ .
فَالْمُجَاوَرَةُ بِالْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَيْثُ كَانَ الْمَرْءُ مِنْ الْأَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ
الْمُجَاوَرَةِ بِالْأَشْبَاحِ
.
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ كَمْ
مِنْ رَجُلٍ بِأَرْضِ خُرَاسَانَ أَقْرَبُ إلَى هَذَا الْبَيْتِ مِمَّنْ يَطُوفُ
بِهِ وَكَانَ بَعْضُهُمْ
يَقُولُ لَأَنْ تَكُونَ بِبَلَدِك وَقَلْبُك مُشْتَاقٌ مُتَعَلِّقٌ
بِهَذَا الْبَيْتِ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَكُونَ فِيهِ وَأَنْتَ مُتَبَرِّمٌ
بِمَقَامِك أَوْ قَلْبُك مُتَعَلِّقٌ إلَى بَلَدٍ غَيْرِهِ .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : إنْ كَانَ مِمَّنْ يُرِيدُ السَّفَرَ
إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ مُرَغَّبٌ فِيهِ .
فَإِذَا عَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْوِي مَا تَقَدَّمَ
مِنْ النِّيَّاتِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْمَسْجِدِ وَيَنْوِي مَعَ ذَلِكَ
نِيَّةَ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ وَيَزِيدُ هُنَا مِنْ النِّيَّاتِ فِيهِ
الِامْتِثَالَ لِمَا أُمِرَ بِهِ مِنْ شَدِّهِ الرِّحَالَ إلَى هَذَا الْمَسْجِدِ
، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ حِينَ خُرُوجِهِ إلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
وَيَنْوِي الصَّلَاةَ فِيهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُشْرِكَ فِي نِيَّتِهِ الرُّجُوعَ إلَى وَطَنِهِ ، وَإِنْ
كَانَ عِبَادَةً عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ
كَانَ وَطَنُهُ فِي طَرِيقِهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَادَةِ .
فَإِذَا بَلَغَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى فَالسُّنَّةُ
فِيهِ كَسُنَّةِ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ أَعْنِي فِي ابْتِدَائِهِ بِالتَّحِيَّةِ
بِالصَّلَاةِ بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنَّ تَحِيَّتَهُ بِالطَّوَافِ
قَبْلَ الصَّلَاةِ فِيهِ لِلْقَادِمِ إلَيْهِ .
ثُمَّ الْآدَابُ الْمَطْلُوبَةُ فِي الْمَسَاجِدِ
تَتَأَكَّدُ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَيَسْتَصْحِبُ الْخُشُوعَ
وَالْهَيْبَةَ وَإِظْهَارَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَتَكُونُ عَلَيْهِ
السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ .
فَإِذَا فَرَغَ مِنْ تَحِيَّتِهِ أَخَذَ فِي الدُّعَاءِ
لَهُ وَلِمَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ
.
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ هَذِهِ
الْبِدْعَةِ الْمُسْتَهْجَنَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَطُوفُونَ بِالصَّخْرَةِ كَمَا
يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ
.
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ
أَنَّهُمْ يَتَعَمَّدُونَ الصَّلَاةَ خَلْفَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَجْمَعُوا فِي صَلَاتِهِمْ
بِنِيَّاتِهِمْ بَيْنَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَتَيْنِ الْكَعْبَةِ وَالصَّخْرَةِ
وَاسْتِقْبَالُ الصَّخْرَةِ مَنْسُوخٌ
بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَمَنْ نَوَى ذَلِكَ فَهُوَ
بِدْعَةٌ ، بَلْ يَنْوِي اسْتِقْبَالَ الْكَعْبَةِ فَقَطْ دُونَ أَنْ يَخْلِطَ
مَعَهَا مَا ذُكِرَ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ لَا خَيْرَ
فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَأْتُونَ إلَى مَوْضِعٍ هُنَاكَ يُسَمُّونَهُ سُرَّةَ
الدُّنْيَا فَمَنْ لَمْ يَكْشِفْ عَنْ سُرَّتِهِ وَيَضَعْهَا عَلَيْهِ وَإِلَّا
وَقَعَ فِي زِيَارَتِهِ الْخَلَلُ عَلَى زَعْمِهِمْ فَأَدَّى ذَلِكَ إلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ
مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ ، وَهُوَ كَشْفُ أَبْدَانِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ
لِوَضْعِهَا عَلَيْهِ .
وَالْبِدَعُ الَّتِي تُعْمَلُ هُنَاكَ كَثِيرَةٌ وَقَدْ
تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى بَعْضِهَا .
ثُمَّ إذَا فَرَغَ مِنْ زِيَارَةِ الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَالدُّعَاءِ فَيُقَوِّي رَجَاءَهُ فِي فَضْلِ
اللَّهِ تَعَالَى وَإِحْسَانِهِ بِأَنْ يُنْجِزَ لَهُ مَا وَعَدَهُ عَلَى لِسَانِ
الصَّادِقِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
لِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
خِلَالًا ثَلَاثًا سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ
فَأُوتِيَهُ وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَاغِهِ مِنْ
بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ
فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } فَعَلَى
هَذَا فَمَنْ خَرَجَ إلَيْهِ بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ لَيْسَ إلَّا خَرَجَ مِنْ
ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ
.
وَقَدْ خَرَجَ إلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنْ
الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فَلَمَّا أَنْ
وَصَلَ إلَيْهِ صَلَّى فِيهِ وَرَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ حِينَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ
الشَّرِيفَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَنْ يَنْوِيَ
السَّفَرَ إلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى بِنِيَّةِ الصَّلَاةِ فِيهِ وَزِيَارَةِ
الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخُرُوجِ مِنْ
مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ أَنَّهُ يَنْوِي زِيَارَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَيْسَ ثَمَّ مَوْضِعُ نَبِيٍّ مَقْطُوعٌ بِهِ بَعْدَ مَوْضِعِ نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَوْضِعَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَعْنِي مَا دَارَ بِهِ الْبِنَاءُ فَإِنَّهُ مُحَقَّقٌ أَنَّهُ فِي
دَاخِلِهِ .
وَقَدْ نَقَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نَبِيَّ
اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قِيلَ لَهُ فِي نَوْمِهِ
ابْنِ عَلَى قَبْرِ خَلِيلِي بِنَاءً يُعْرَفُ بِهِ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ نَظَرَ
فَلَمْ يَعْرِفْ الْمَكَانَ الَّذِي قِيلَ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قِيلَ لَهُ فِي اللَّيْلَةِ
الثَّانِيَةِ مِثْلُهُ ثُمَّ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَقَالَ : يَا رَبِّ
لَا أَعْرِفُ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ فِيهِ فَقِيلَ لَهُ إذَا خَرَجْت فَانْظُرْ
إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَصْعَدُ مِنْهُ النُّورُ إلَى السَّمَاءِ فَابْنِ
عَلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ نَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِالنُّورِ الَّذِي قِيلَ
لَهُ عَنْهُ قَدْ ظَهَرَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَعَلَّمَ عَلَيْهِ وَبَنَتْهُ
الْجَانُّ لَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا تَرَى كُلَّ حَجَرٍ مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ
قَلَّ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى حَمْلِهِ عَشْرَةٌ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ أَكْثَرُ
فَلَمَّا أَنْ فَرَغَ مِنْ بِنَائِهِ اسْتَوَى عَلَى سَرِيرِهِ وَصَعِدَتْ بِهِ
الرِّيحُ إلَى أَنْ خَرَجَ مِنْ فَوْقِهِ فَلَمْ يَعْمَلْ لَهُ بَابًا يَدْخُلُ
إلَيْهِ مِنْهُ وَلَا يَخْرُجُ وَكَانَ النَّاسُ إذَا أَتَوْا إلَى زِيَارَةِ
الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَزُورُونَهُ مِنْ خَارِجِ
الْبِنَاءِ وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ
وَفَتَحَ الْمُسْلِمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَغَيْرَهُ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ وَبَقِيَ
الْأَمْرُ فِي الزِّيَارَةِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ إلَى أَنْ
تَغَلَّبَ الْفِرِنْجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَخَذُوهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ سَنَةَ
سَبْعٍ وَثَمَانِينَ
وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَبَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ إلَى
تَمَامِ خَمْسِمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو شَامَةَ
فِي كِتَابِ الرَّوْضَتَيْنِ فَعَمَدَ الْكُفَّارُ لَمَّا أَنْ كَانَ
بِأَيْدِيهِمْ إلَى فَتْحِ بَابٍ فِي ذَلِكَ الْبِنَاءِ وَجَعَلُوهُ كَنِيسَةً
وَصَوَّرُوا فِي دَاخِلِ الْبِنَاءِ قُبُورًا فَيَقُولُونَ هَذَا قَبْرُ
الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا قَبْرُ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ هَذَا قَبْرُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا قَبْرُ يُوسُفَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا قَبْرُ سَارَةَ ثُمَّ أَخَذَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
أَيْدِيهِمْ فِي التَّارِيخِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرُ فَتَرَكُوا الْبَابَ عَلَى
حَالِهِ مَفْتُوحًا وَاِتَّخَذُوهُ جَامِعًا وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ إلَى
الْآنَ .
فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا لِمَنْ أَتَى إلَى زِيَارَةِ الْخَلِيلِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَزُورَهُ مِنْ خَارِجِ الْبِنَاءِ كَمَا
كَانَ عَلَيْهِ الْحَالُ أَوَّلًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَلْيَحْذَرْ أَنْ
يَزُورَ مِنْ دَاخِلِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ خَطَرٌ إذْ يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ قَبْرُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عِنْدَ الْبَابِ أَوْ
مَا قَابَلَهُ أَوْ مَا بَيْنَ ذَلِكَ فَيَدُوسَ عَلَيْهِ حِينَ مَشْيِهِ
وَاحْتِرَامُهُ وَاجِبٌ مُتَعَيَّنٌ فَلَا يَزُورُ إلَّا مِنْ خَارِجِهِ كَمَا
سَبَقَ ، وَإِنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ هُنَاكَ فَلْيُصَلِّ خَارِجَهُ
وَيَبْسُطْ شَيْئًا يُصَلِّي عَلَيْهِ إذْ أَنَّ خَارِجَهُ مَوْضِعُ الْأَقْدَامِ
، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْخَطَرُ فِي نَفْسِ الدُّخُولِ إلَيْهِ فَمَا بَالُك
بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ الْيَوْمَ مِنْ الْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ فِي كُلِّ يَوْمٍ
بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ عَنْ الْعَدَسِ
الَّذِي يُفَرِّقُونَهُ فِيهِ هَذِهِ ضِيَافَةُ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَيُفْرِدُونَهُ بِالذِّكْرِ فَقَدْ يُوهِمُ ذَلِكَ أَنَّ
ضِيَافَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَتْ بِالْعَدَسِ لَيْسَ إلَّا
وَكَانَتْ ضِيَافَتُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ الْبَقَرِ ، وَهَذَا لَفْظٌ
يَنْبَغِي أَنْ يُنْهَى عَنْهُ قَائِلُهُ وَقَدْ شَاعَ هَذَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ
الْمَوْضِعِ مِنْ الْبِلَادِ تَسْمَعُهُمْ يُنَادُونَ عَلَى الْعَدَسِ
الْمَطْبُوخِ فِي الْأَسْوَاقِ عَدَسُ الْخَلِيلِ عَدَسُ الْخَلِيلِ قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } ، وَإِذَا فَعَلَ
ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَحَ إخْوَانَهُ
الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْبَلُ مِنْهُ نَصِيحَتَهُ وَإِلَّا
فَلْيَعْتَزِلْهُمْ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ بِخَاصَّةِ نَفْسِهِ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُصْغِيَ أَوْ يَنْظُرَ أَوْ يَرْضَى بِمَا
يُفْعَلُ هُنَاكَ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ الضَّرْبِ بِالطَّبْلِ
وَالْأَبْوَاقِ وَالْمَزَامِيرِ وَيَرْقُصُ بَعْضُ النَّاسِ هُنَاكَ عِنْدَ
ضَرْبِهِمْ بِهَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِنَوْبَةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَمُنْكَرٌ ظَاهِرٌ تَتَعَيَّنُ
إزَالَتُهُ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بِشَرْطِهِ وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا
يَحْضُرُهُ لِئَلَّا يُشَارِكَهُمْ فِي إثْمِ مَا ارْتَكَبُوهُ وَيَذْهَبُ عَنْهُ
التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ، وَهُوَ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْإِنْكَارِ .
وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ مِمَّنْ
يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَمِعُ نَصِيحَتَهُ أَوْ يَرْجُو ذَلِكَ مِنْهُ مِنْ
إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِهِ .
وَأَشْنَعُ مِنْ ضَرْبِهِمْ بِالطَّبْلِ وَتَصْوِيتِهِمْ
بِالْمَزَامِيرِ وَالْأَبْوَاقِ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ يَتَقَرَّبُونَ
بِهَا إلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ .
كَانَ النَّاسُ يَتَقَرَّبُونَ بِالْحَسَنَاتِ وَهُمْ
مَعَ ذَلِكَ وَجِلُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ فَانْعَكَسَ الْحَالُ
وَصَارُوا يَتَقَرَّبُونَ بِالسَّيِّئَاتِ وَيَزْعُمُونَ
أَنَّهَا حَسَنَاتٌ مُتَقَبَّلَةٌ مِنْهُمْ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ .
وَالْبِدَعُ الَّتِي تُفْعَلُ فِيهِ وَفِي الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى قَلَّ أَنْ تُحْصَرَ وَفِي التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ
فَاللَّبِيبُ الْعَاقِلُ مَنْ أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَأَنْقَذَ
مُهْجَتَهُ مِنْ غَمَرَاتِ الْعَوَائِدِ الْمَذْمُومَةِ وَأَقْبَلَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ
وَمَا يَنْفَعُهُ لِيَوْمِ مَعَادِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ زِيَارَةِ الْخَلِيلِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا يُخَلِّي نَفْسَهُ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ الَّتِي
هُنَاكَ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَكَذَلِكَ قُبُورُ الْأَوْلِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَالصُّلَحَاءِ
الَّذِينَ فِي طَرِيقِهِ إنْ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ
حَقًّا فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الثَّوَابُ الْجَزِيلُ وَالْبَرَكَاتُ الْعَظِيمَةُ
وَيُقَوِّي الرَّجَاءَ فِي إجَابَةِ دُعَائِهِ عِنْدَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ
فَقَدْ حَصَلَ لَهُ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ نِيَّتُهُ الْجَمِيلَةُ .
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُقِيمَ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى
لِفَضِيلَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ إنْ سَلِمَ مِمَّا يَعْتَوِرُهُ فِيهِ وَعَجَزَ عَنْ
الْإِنْكَارِ كَمَا تَقَدَّمَ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَخَافَ عَوْرَةَ أَهْلِهِ
فَالسَّفَرُ إلَيْهِمْ إذَنْ مُتَعَيَّنٌ فَيَنْوِي بِالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ مَا تَقَدَّمَ
وَصْفُهُ فِي رُجُوعِ الْعَالِمِ إلَى بَيْتِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ إذَا صَلَّى
فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَكِنَّ اسْتِحْضَارَهُ تِلْكَ النِّيَّاتِ آكَدُ لِأَجْلِ
طُولِ غَيْبَتِهِ وَتَعَلُّقِ خَوَاطِرِ الْأَهْلِ بِمَا يَتَوَقَّعُونَ مِنْ
غَرَرِ الطَّرِيقِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي تَحْدُثُ لَهُ ، وَكَذَلِكَ هُوَ ؛
لِأَنَّهُمْ رَعِيَّتُهُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَنُوبُ
عَنْهُ لِقَضَاءِ ضَرُورَاتِهِمْ وَحَوَائِجِهِمْ لَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ
تَتَغَيَّرَ الْأَحْوَالُ وَلَيْسَ حُضُورُهُ كَغَيْبَتِهِ ، وَإِذَا كَانَ
سَفَرُهُ إلَيْهِمْ بِهَذِهِ النِّيَّةِ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا بِحَسَبِ الْحَالِ .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقْصِدَ الرُّجُوعَ
إلَى وَطَنِهِ فَيَنْوِيَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ مَعَهُ هَدِيَّةً
لِيُدْخِلَ بِهَا السُّرُورَ عَلَى أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ وَمَعَارِفِهِ إنْ
تَيَسَّرَتْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّفَهَا ، وَهِيَ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ
فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَفْعَلُ حِينَ قُدُومِهِ إلَى وَطَنِهِ تِلْكَ الْآدَابَ الْمُتَقَدِّمَةَ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ
إذَا جَاءُوا مِنْ سَفَرِ الْحَجِّ جَاءَ بَعْضُ السُّفَهَاءِ فَيَضْرِبُونَ
عِنْدَ بَابِهِ بِالطَّارِّ الْمُصَرْصِرِ وَالطَّبْلِ وَالْأَبْوَاقِ
وَالْمَزَامِيرِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ
فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ .
ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ
تَحْصِيلِ عِلْمٍ وَعِبَادَةٍ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُجَانِسُهُمَا ؛ لِأَنَّ
الْمَانِعَ مِنْ تَحْصِيلِ الْحَسَنَاتِ إنَّمَا هُوَ ارْتِكَابُ السَّيِّئَاتِ ،
وَهُوَ الْآنَ قَدْ عُرِّيَ عَنْهَا فَهُوَ قَابِلٌ لِتَحْصِيلِ الْحَسَنَاتِ إذْ
هِيَ خَفِيفَةٌ عَلَيْهِ وَثَقُلَتْ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ فَيَسْتَصْحِبُ هَذَا
الْحَالَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ فَإِنَّهُ عَلَامَةٌ عَلَى مَنْ تُقُبِّلَ حَجُّهُ
وَيَسْتَعْمِلُ الْجَدَّ وَالِاجْتِهَادَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ لَعَلَّهُ أَنْ
يَكُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا سَيِّئَةَ لَهُمْ ؛
لِأَنَّ السَّيِّئَاتِ قَدْ غُفِرَتْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى
الْحَالَةِ الْمُرْضِيَةِ بِفَضْلِ اللَّهِ وَنِعْمَتِهِ فَمَتَى فَجَأَهُ
الْمَوْتُ وَجَدَهُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَالسَّلَامَةِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا
الْجَنَّةُ } وَقَالَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ
يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ
وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ قَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ جَمَاعَةً بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ .
لَكِنْ اُحْتِيجَ إلَى إعَادَتِهَا ؛ لِأَنَّ بَعْضَ
الْمُتَأَخِّرِينَ زَعَمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِدْعَةً ، وَأَنَّ فِعْلَهَا فِي
الْمَسَاجِدِ جَمَاعَةً جَائِزٌ وَأَلَّفَ تَأْلِيفًا رَدَّ فِيهِ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ
مِنْ الْعُلَمَاءِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فِي قَوْلِهِمْ إنَّهَا بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ
بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ يَسْتَدِلُّ فِيهِ بِشَيْءٍ عَلَيْهِ لَا لَهُ كَمَا
سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ أَبَدًا جَارِيَةً فِيمَنْ
يُحَاوِلُ إخْمَادَ سُنَّةٍ وَإِظْهَارَ بِدْعَةٍ أَنَّ كَلَامَهُ يَكُونُ
مُتَنَاقِضًا مُتَبَايِنًا فَالرَّدُّ عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ فَكَفَى الْغَيْرَ
مُؤْنَةُ ذَلِكَ إذْ أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ لَا يَتَغَيَّرُ وَلَا يَزِيدُ وَلَا
يَنْقُصُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } فَكُلُّ مَا
هُوَ مِنْ اللَّهِ فَهُوَ وَاحِدٌ
.
فَبَدَأَ فِي رَدِّهِ بِخُطْبَةٍ هَذَا نَصُّهَا
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبَانَ مَنَارَ الْحَقِّ وَأَنَارَهُ .
وَأَزَالَ مَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِهِ وَأَبَارَهُ .
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَوْفَرَانِ عَلَى
سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّالِحِينَ مَا اعْتَرَى
ضِيَاءٌ ظَلَامًا فَأَغَارَهُ .
سَأَلْتُمْ أَرْشَدَكُمْ اللَّهُ وَإِيَّايَ عَمَّا رَامَهُ
بَعْضُ النَّاسِ مِنْ إزَالَةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَتَعْطِيلِهَا وَمَنْعِ
النَّاسِ مِنْ عِبَادَةٍ اعْتَادُوهَا فِي لَيْلَةٍ شَرِيفَةٍ لَا شَكَّ فِي
تَفْضِيلِهَا ، وَاحْتِجَاجُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِهَا
ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُهَا
وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَمْرِ الْمَطْرُوحِ الْمَدْفُوعِ وَغُلُوُّهُ فِي ذَلِكَ
وَإِسْرَافُهُ ، وَغُلُوُّ النَّاسِ فِي مُشَاقَّتِهِ وَخِلَافِهِ حَتَّى ضُرِبَ
لَهُ الْمَثَلُ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا
إذَا صَلَّى } إلَى { كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَرَغِبْتُمْ
فِي أَنْ أُبَيِّنَ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَأُوَضِّحَهُ
أُزَيِّفَ الزَّائِفَ مِنْهُ وَأُزَحْزِحَهُ فَاسْتَعَنْتُ بِاَللَّهِ تَعَالَى
عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَخَرْته ، وَأَوْجَزْت الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَصَرْته وَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْت
وَإِلَيْهِ أُنِيبُ .
وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
أَمَّا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ خُطْبَتِهِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَبَانَ مَنَارَ الْحَقِّ وَأَنَارَهُ .
فَهَذَا اللَّفْظُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ
عِنْدَهُ إقَامَةُ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَإِشَاعَتُهَا فِي الْمَسَاجِدِ فِي
جَمَاعَةٍ وَكَيْفَ تَكُونُ مِنْ الْحَقِّ النَّيِّرِ الْمُبِينِ ، وَهُوَ قَدْ
نَقَلَ أَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ بِهَا مَوْضُوعٌ ، وَأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ
الْخَامِسِ فَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الْبَيِّنَ هُوَ
الَّذِي لَا نَكِيرَ لَهُ ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ الَّتِي أَرَادَ إثْبَاتَهَا قَدْ
أَنْكَرَهَا الْعُلَمَاءُ .
وَقَوْلُهُ وَأَزَالَ مَنْ حَادَ عَنْ سَبِيلِهِ
وَأَبَارَهُ فَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ مِنْ
صِحَّتِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ
أَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا مُحْدَثَةٌ وَهُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ
إلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ أَنْكَرُوهَا غَلِطُوا فِي ذَلِكَ وَنِسْبَةُ الْغَلَطِ
إلَيْهِ أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّ مَا خَالَفَ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ كُلُّهُ
بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ هُوَ الزَّائِفُ الَّذِي لَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْهُ عَلَى
سَاقٍ .
وَقَوْلُهُ سَأَلْتُمْ أَرْشَدَكُمْ اللَّهُ وَإِيَّايَ
عَمَّا رَامَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ إزَالَةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ
وَتَعْطِيلِهَا .
فَقَوْلُهُ وَتَعْطِيلِهَا ، التَّعْطِيلُ إنَّمَا
يُطْلَقُ عَلَى أَمْرٍ مَشْرُوعٍ عُطِّلَ هَذَا هُوَ التَّعْطِيلُ الْمَعْرُوفُ ،
وَأَمَّا تَعْطِيلُ مَا أُحْدِثَ فَلَيْسَ بِتَعْطِيلٍ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ .
وَقَوْلُهُ وَمَنْعِ النَّاسِ مِنْ عِبَادَةٍ
اعْتَادُوهَا الْعِبَادَةُ هِيَ مَا قَرَّرَهَا الشَّرْعُ الشَّرِيفُ
وَبَيَّنَهَا ، وَمَا لَمْ يُقَرِّرْهُ فَلَيْسَ
بِعِبَادِهِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
ثُمَّ لَا يَخْلُو الْمَانِعُ لَهَا إمَّا أَنْ
يَمْنَعَهَا لِكَوْنِ الْحَدِيثِ عِنْدَهُ مَوْضُوعًا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ
فَيَمْنَعُهَا أَلْبَتَّةَ ، وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ عِنْدَهُ ضَعِيفًا فَيَمْنَعُهَا
جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ وَيَجُوزُ فِعْلُهَا
فِي الْبَيْتِ مَا لَمْ يَتَّخِذْهَا عَادَةً لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا ثَبَتَ
بِدَلِيلٍ صَحِيحٍ وَضِدِّهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : اعْتَادُوهَا فَهَذَا رَدٌّ مِنْهُ
عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَمْ تُشْرَعْ قَطُّ بِالْعَادَةِ إلَّا
مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ }
وَصَلَاةُ الرَّغَائِبِ لَمْ يَرِدْ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَامَهُ شَرْعٌ
فَهِيَ مَرْدُودَةٌ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا
كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
فِي الْجَمَاعَةِ يَجْتَمِعُونَ فِي مَسْجِدٍ أَوْ فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ
يُقَدِّمُونَ وَاحِدًا يُصَلِّي بِهِمْ جَمَاعَةً إنَّ ذَلِكَ يُمْنَعُ إنْ كَانَ
مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حَدَثٌ فِي الدِّينِ
، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمَنْعُ فِي حَقِّهِمْ وَهُمْ لَمْ يَزِيدُوا وَلَمْ
يُنْقِصُوا فِي التَّنَفُّلِ الْمَشْرُوعِ شَيْئًا إلَّا أَنَّهُمْ أَوْقَعُوا
صَلَاةَ النَّافِلَةِ جَمَاعَةً فِي غَيْرِ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي
مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ فَكَيْفَ بِهِمْ فِي مَنْعِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ لِمَا احْتَوَتْ
عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
: لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ إلَى الْكُوعَيْنِ لَفَعَلْت
كَفِعْلِهِمْ وَإِنْ كُنْت أَقْرَؤُهَا إلَى الْمَرَافِقِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَرْبَابُ
الْعِلْمِ وَأَحْرَصُ خَلْقِ اللَّهِ عَلَى اتِّبَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُتَّهَمُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ الدِّينِ وَلَا
يَظُنُّ ذَلِكَ بِهِمْ إلَّا ذُو رِيبَةٍ فِي دِينِهِ أَوْ كَمَا
قَالَ فَكُلُّ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ إذَا فُعِلَ
بَعْدَهُمْ كَانَ نَقْصًا فِي الدِّينِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ
} فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ رَدَّ عَلَى نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ
مَشْرُوعِيَّتَهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَامَهُ بِالْعَادَةِ لَا بِالشَّرْعِ .
وَقَوْلُهُ : فِي لَيْلَةٍ شَرِيفَةٍ لَا شَكَّ فِي
تَفْضِيلِهَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهَا لَيْلَةٌ شَرِيفَةٌ لَا
شَكَّ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُعْبَدُ فِيهَا بِالْعَادَةِ بَلْ يُعَظِّمُهَا
الْمُكَلَّفُ بِالِامْتِثَالِ لَا بِالِابْتِدَاعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ
مُتَلَقَّاةٌ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا تَفْعَلُهُ أُمَّتُهُ فِي كُلِّ
زَمَانٍ وَأَوَانٍ وَأَيْضًا فَيَسَعُنَا فِيهَا مَا وَسِعَ السَّلَفَ إنْ كُنَّا
صَالِحِينَ ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الشَّعَائِرِ وَاحْتِرَامَهَا عَنْهُمْ يُؤْخَذُ
وَمِنْهُمْ يُتَلَقَّى لَا بِمَا سَوَّلَتْ لَنَا أَنْفُسُنَا وَمَضَتْ عَلَيْهَا
عَادَتُنَا ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ فَهُوَ الَّذِي يُتَّبَعُ
لَا الْعَوَائِدُ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .
قَوْلُهُ وَاحْتِجَاجُهُ لِذَلِكَ بِأَنَّ الْحَدِيثَ
الْوَارِدَ بِهَا ضَعِيفٌ بَلْ مَوْضُوعٌ .
فَهَذَا أَيْضًا يُبَيِّنُ أَنَّهَا بِدْعَةٌ وَمَا
كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ كَيْفَ يَرُومُ إثْبَاتَهُ وَالتَّقَرُّبُ بِهِ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَوْلُهُ :
وَدَعْوَاهُ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ رَفْعُهَا
وَإِلْحَاقُهَا بِالْأَمْرِ الْمَطْرُوحِ الْمَدْفُوعِ قَدْ تَقَدَّمَ
التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِهَا مَوْضُوعًا أَوْ
ضَعِيفًا فَمَنْ طَرَحَهَا وَأَنْكَرَهَا لَمْ يَسْتَنِدْ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ وَلَا
لَفِعْلِهِ بَلْ لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ
الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ فِي الدِّينِ
بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ الْجَسَدِ وَقَوْلُهُ وَغُلُوُّهُ فِي ذَلِكَ
وَإِسْرَافُهُ .
هَذَا الَّذِي قَالَهُ لَفْظٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ لَا
يَنْبَغِي أَنْ
يُقَالَ فِي حَقِّ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَيْفَ
بِصُلَحَائِهِمْ وَخِيَارِهِمْ فَكَيْفَ بِالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ مِنْهُمْ
وَلَفْظُ الْغُلُوِّ يُسْتَعْمَلُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا
عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ } فَاَللَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ فَقَالُوا ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ
فَزَادُوا مَا كَفَرُوا بِهِ مِنْ ذِكْرِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ فَغَلَوْا فِي
دِينِهِمْ فَمَنْ زَادَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ الَّذِي يُنْسَبُ
إلَى الْغُلُوِّ بِخِلَافِ مَنْ تَرَكَ الْبِدْعَةَ وَذَمَّهَا فَإِنَّهُ لَمْ
يَزِدْ شَيْئًا عَلَى مَا قَرَّرَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ
تَعَالَى الْمُسْرِفِينَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ { إنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ } فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ أَنْ يُطْلِقَ هَذَا اللَّفْظَ فِي حَقِّ
مَنْ ذَبَّ عَنْ السُّنَّةِ وَحَمَاهَا أَسْأَلُ اللَّهُ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ لُحُومُ الْعُلَمَاءِ
مَسْمُومَةٌ وَعَادَةُ اللَّهِ فِيمَنْ آذَاهُمْ أَبَدًا مَعْلُومَةٌ .
وَكَيْفَ لَا ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ النَّاصِرُ لَهُمْ
وَالْمُقَاتِلُ عَنْهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مِنْ يَنْصُرُهُ } وَقَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } أَيْ إنْ
تَنْصُرُوا دِينَهُ وَقَالَ تَعَالَى { إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَاَلَّذِينَ آمَنُوا
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } فَضَمِنَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى نَصْرَهُ مَنْ نَصَرَ دِينَهُ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّهُ قَالَ { لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ
وَلَا الْبَذِيءِ } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ
بَذَاءَةِ اللِّسَانِ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ فِي حَقِّ آحَادِ عَامَّةِ النَّاسِ
فَكَيْفَ بِهَا فِي حَقِّ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَرَثَةِ الْأَنْبِيَاءِ
وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ لَمْ
يُنْكِرُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بَلْ إنَّهُمْ
مُسْتَنِدُونَ فِي ذَلِكَ لِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَلِاتِّبَاعِ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إذْ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَمْ تُعْرَفْ
عِنْدَهُمْ حَتَّى حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ كَمَا وَافَقَ عَلَيْهِ
وَقَرَّرَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَوْ
كَانَتْ مِنْ الدِّينِ لَمْ تَتَأَخَّرْ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ
قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهِ لَقَدْ
جِئْتُمْ بِبِدْعَةٍ ظُلْمًا وَلَقَدْ فُقْتُمْ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عِلْمًا
وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَقَلَّ مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ ، وَهُوَ اجْتِمَاعُهُمْ
لِلذِّكْرِ جَمَاعَةً فَمَا بَالُك بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَعَلُوهُ شِعَارًا
ظَاهِرًا فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يَنْهَوْا عَنْهُ وَيَزْجُرُوا فَاعِلَهُ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهُ لَنْ
يَأْتِيَ آخِرُ هَذِهِ الْأَمَةِ بِأَهْدَى مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَوَّلُهَا .
وَقَوْلُهُ :
وَغُلُوُّ النَّاسِ فِي مُشَاقَّتِهِ وَخِلَافِهِ هَذَا
اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعُلَمَاءَ وَغَيْرَهُمْ قَدْ خَالَفُوا
الْقَائِلَ بِأَنَّهَا بِدْعَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
قَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ إنَّمَا هُمْ الْعُلَمَاءُ
فَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ وَعَلَى ذَلِكَ أَدْرَكْت النَّاسَ
وَرَأَيْت النَّاسَ وَمَا هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ يَعْنِي بِهِ الْعُلَمَاءَ
وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ إنَّمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَةَ النَّاسِ عَلَى
الْعُلَمَاءِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا عِبْرَةَ بِمُشَاقَّةِ
غَيْرِهِمْ إذْ لَوْ اُعْتُبِرَ قَوْلُ غَيْرِ الْعُلَمَاءِ أَوْ عَادَتُهُمْ
لَكَانَ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمَعَالِمِ الشَّرِيعَةِ وَنَسْخٌ لَهَا ، وَهَذِهِ الشَّرِيعَةُ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مَحْفُوظَةٌ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ .
وَقَوْلُهُ حَتَّى ضُرِبَ لَهُ الْمَثَلُ فِي ذَلِكَ
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إذَا صَلَّى }
إلَى { كَلًّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ
تَعَالَى وَإِيَّاكَ
إلَى كَيْفِيَّةِ اسْتِشْهَادِهِ بِالْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ يَرُدُّ بِهَا عَلَى عُلَمَاءِ
الْمُسْلِمِينَ وَصُلَحَائِهِمْ الَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبِدَعَ وَالْمُحْدَثَاتِ
وَيَذُبُّونَ عَنْ الدِّينِ فَلَوْ عَلِمَ هَذَا الْقَائِلُ مَا وَقَعَ فِيهِ
لَمَا تَكَلَّمَ بِهِ نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
ثُمَّ إنَّ النَّهْيَ مَا وَرَدَ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ
نَهَى عَنْ الصَّلَوَاتِ الْمَشْرُوعَةِ الْمُقَرَّرَةِ الَّتِي بَيَّنَهَا
صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَأَمَّا مَنْ
نَهَى عَنْ الْبِدْعَةِ وَأَنْكَرَهَا فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي الشَّرِيعَةِ
الْمُطَهَّرَةِ مَشْكُورٌ عَلَى سَعْيِهِ .
لِمَا وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّهُ قَالَ { يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ
عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ
الْجَاهِلِينَ } ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُ فَمَنْ
عَدَّلَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ كَيْفَ يُدْخِلُهُ
هَذَا الْقَائِلُ فِي الذَّمِّ الَّذِي جَاءَ فِي أَبِي جَهْلٍ وَأَشْبَاهِهِ
نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَقَوْلُهُ : فَرَغِبْتُمْ فِي أَنْ أُبَيِّنَ الْحَقَّ
فِي ذَلِكَ وَأُوَضِّحَهُ وَأُزَيِّفَ الزَّائِفَ مِنْهُ وَأُزَحْزِحَهُ .
فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ
فِي إقَامَتِهَا وَإِشَاعَتِهَا وَأَنَّ الْبَاطِلَ فِي رَدِّهَا وَإِنْكَارِهَا
فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا تَنْقِيصُ مَنْ مَضَى مِنْ صَدْرِ الْأُمَّةِ وَسَلَفِهَا الصَّالِحِ
وَتَزْكِيَةُ مَنْ أَحْدَثَ هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ إذْ
يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ إنَّ الصَّدْرَ الْأَوَّلَ فَاتَتْهُمْ فَضِيلَةُ هَذِهِ
الصَّلَاةِ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَظُنَّ هَذَا أَحَدٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ
ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ } وَقَوْلُهُ : فَاسْتَعَنْت بِاَللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى وَاسْتَخَرْته .
اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا
الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ يَسْتَعِينُ
وَيَسْتَخِيرُ فِي مِثْلِ هَذَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
أَنَّ الِاسْتِخَارَةَ لَا تَكُونُ فِي وَاجِبٍ وَلَا مُحَرَّمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ
عَلَى مَا مَضَى مِنْ بَيَانِهَا ، وَهَذَا قَدْ اسْتَعَانَ وَاسْتَخَارَ فِي
شَيْءٍ يَلْزَمُهُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَى السَّلَفِ الْمَاضِينَ وَعَلَى مَنْ
أَتَى بَعْدَهُمْ مِمَّنْ وَافَقَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى إنْكَارِ هَذِهِ الصَّلَاةِ
، وَأَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ فِي الدِّينِ .
وَقَوْلُهُ : وَأَوْجَزْت الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَصَرْته .
فَهَذَا اللَّفْظُ فِيهِ إيهَامٌ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ
أَوْ طَالَعَهُ إذْ إنَّهُ يُشْعِرُ أَنَّ لَهُ أَدِلَّةً كَثِيرَةً عَلَى
مَشْرُوعِيَّةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي رَامَهُ وَلَيْسَ لَهُ
مِنْ الْأَدِلَّةِ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
وَعَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَنْ تَعَرَّضَ
الرَّدَّ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْجُلَّةِ يَحْتَاجُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَقْوَى
الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ وَأَعْظَمِهَا لِكَيْ يَحْصُلَ لَهُ مَا رَامَهُ أَوْ بَعْضُهُ
إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ .
فَقَوْلُهُ : وَأَوْجَزْت الْقَوْلَ فِيهِ وَاخْتَصَرْته
فِيهِ مَا فِيهِ .
وَقَوْلُهُ عَقِبَ خُطْبَتِهِ : فَأَقُولُ إنَّ هَذِهِ
الصَّلَاةَ شَاعَتْ بَيْنَ النَّاسِ بَعْدَ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ وَلَمْ تَكُنْ
تُعْرَفُ .
فَلَفْظُهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ
لِنَقْلِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ وَلَمْ
تُعْرَفْ قَبْلَهُ وَشَيْءٌ هُوَ كَذَلِكَ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَقَدْ وَرَدَ { كُلُّ
بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ } فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَأَيُّ
فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ : شَاعَتْ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : بَيْنَ النَّاسِ
فَيَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِلَفْظَةِ النَّاسِ
الْعُلَمَاءَ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْعُلَمَاءِ فِي إطْلَاقِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ
عَلَيْهِمْ كَمَا سَبَقَ .
فَإِنْ كَانَ هَذَا مُرَادَهُ فَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛
لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَنْكَرُوهَا وَعَدُّوهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَةِ
الْمُنْكَرَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْعَوَامَّ لَيْسَ إلَّا فَالْعَوَامُّ
لَا يُقْتَدَى بِهِمْ
فِي شَيْءٍ
.
وَإِنْ كَانَ أَرَادَهُمَا مَعًا ، فَلَا يَصِحُّ لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ إنْكَارِ الْعُلَمَاءِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَوَامُّ وَلَا
عِبْرَةَ بِهِمْ كَمَا سَبَقَ وَقَوْلُهُ وَقَدْ قِيلَ إنَّ مَنْشَأَهَا مِنْ
بَيْتِ الْمَقْدِسِ صَانَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
فَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهَا بِدْعَةٌ إذْ أَنَّ مَبْدَأَ فِعْلِهَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ دُونَ
غَيْرِهِ وَالْبُقَعُ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَهَا فَضِيلَةٌ فِي نَفْسِهَا ،
فَلَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ فِيمَا حَدَثَ فِيهَا وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَذَهَبَ
كَثِيرٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ .
وَقَدْ حَفِظَهَا اللَّهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَلَا
تَرَى أَنَّ الْمَدِينَةَ وَمَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَقَدْ
حَدَثَتْ فِيهِمَا أُمُورٌ مَعْرُوفَةٌ يَأْبَاهَا الشَّرْعُ الشَّرِيفُ وَلَا
يَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَالتَّشْرِيعُ لَا يَكُونُ
بِفَضِيلَةِ الْمَوَاضِعِ الشَّرِيفَةِ وَلَا الْأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ
وَشَرَفِهِمَا .
إنَّمَا يُتَلَقَّى عَنْ الشَّارِعِ بِنَصِّهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ إنَّ مُنْشَأَهَا مِنْ بَيْتِ
الْمَقْدِسِ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى عَمَلِهَا وَإِثْبَاتِهَا فَمَا
تَقَدَّمَ هُوَ جَوَابُهُ .
وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْهَا
أَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ ؛ لِأَنَّ
مَا كَانَ مِنْ الدِّينِ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ آخَرَ .
وَقَوْلُهُ وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِهَا بِعَيْنِهَا
وَخُصُوصِهَا ضَعِيفٌ سَاقِطُ الْإِسْنَادِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ثُمَّ
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ هُوَ مَوْضُوعٌ وَذَلِكَ الَّذِي نَظُنُّهُ وَمِنْهُمْ مِنْ
يَقْتَصِرُ عَلَى وَصْفِهِ بِالضَّعْفِ وَلَا تُسْتَفَادُ لَهُ صِحَّةٌ مِنْ
ذِكْرِ رَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ إيَّاهُ فِي كِتَابِهِ فِي تَحْرِيرِ الصِّحَاحِ
وَلَا مِنْ ذِكْرِ صَاحِبِ كِتَابِ الْإِحْيَاءِ لَهُ فِيهِ وَاعْتِمَادُهُ عَلَيْهِ
لِكَثْرَةِ مَا فِيهِمَا مِنْ الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ وَإِيرَادِ رَزِينٍ مِثْلَهُ
فِي مِثْلِ كِتَابِهِ مِنْ الْعَجَبِ
.
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ
إلَى اعْتِرَافِهِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْحَدِيثَ
بِهَا ضَعِيفٌ سَاقِطُ الْإِسْنَادِ مَعَ قَوْلِهِ إنَّهُ مَوْضُوعٌ وَإِلَى
مُنَاقَشَتِهِ لِرَزِينٍ فِي كَوْنِهِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ وَتَعَجُّبِهِ مِنْ
ذَلِكَ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ قَالَهُ الْعُلَمَاءُ .
وَقَوْلُهُ ثُمَّ إنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ضَعْفِ
الْحَدِيثِ بُطْلَانُ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ وَالْمَنْعُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا
دَاخِلَةٌ تَحْتَ عُمُومِ مُطْلَقِ الْأَمْرِ الْوَارِدِ فِي الْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ فَهِيَ إذَنْ مُسْتَحَبَّةٌ بِعُمُومِ نُصُوصِ
الشَّرِيعَةِ الْكَثِيرَةِ النَّاطِقَةِ بِاسْتِحْبَابِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ
وَمِنْهَا مَا رَوَيْنَاهُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الصَّلَاةُ نُورٌ
} وَمَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ
أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي
سُنَنِهِ وَلَهُ طُرُقٌ صِحَاحٌ
.
وَالْعَجَبُ مِنْهُ كَيْفَ نَسَبَ الْحَدِيثَ إلَى ابْنِ
مَاجَهْ وَقَدْ خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الْمُوَطَّإِ
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْحُفَّاظِ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ .
ثُمَّ
.
إنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَا
رَامَهُ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وَالصَّلَاةُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ تُطْلَقُ عَلَى الدُّعَاءِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أَيْ : اُدْعُ لَهُمْ وَقَالَ تَعَالَى
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } فَهَذَا أَيْضًا أَمْرٌ مُطْلَقٌ ؛
لِأَنَّ السُّجُودَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَيَلَانِ وَالِانْحِنَاءِ .
تَقُولُ الْعَرَبُ سَجَدَ الظِّلُّ إذَا مَالَ وَسَجَدَتْ
النَّخْلَةُ إذَا مَالَتْ فَلَوْ تُرِكْنَا مَعَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ
بِالصَّلَاةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ دُونَ بَيَانٍ لَمْ نَعْرِفْ الْحَقِيقَةَ
الشَّرْعِيَّةَ مَا هِيَ
فَلَمَّا بَيَّنَهَا صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَلِمْنَا حَقِيقَةَ ذَلِكَ وَتَفْصِيلَهُ قَالَ
تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إلَيْهِمْ } فَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ
الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ بَيَّنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَعَلَّمَهُ وَنُقِلَ عَنْهُ وَتَقَرَّرَ وَلَيْسَتْ صَلَاةُ رَجَبٍ مِنْ ذَلِكَ فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ لَا بُدَّ أَنْ تُتَلَقَّى مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ
بِمِثْلِ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ أَوْ الْكُسُوفِ أَوْ الِاسْتِسْقَاءِ أَوْ
الْخَوْفِ أَوْ الْجِنَازَةِ .
هَذَا ، وَهُوَ قَدْ فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ كَيْفَ الْأَمْرُ فِي شَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَلَا قَرَّرَهُ بَلْ إنَّمَا حَدَثَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ عَلَى
مَا سَبَقَ فَيَتَعَيَّنُ الْمُكَلَّفُ أَنْ يَقْتَصِرَ فِي التَّنَفُّلِ عَلَى مَا
تَنَفَّلَ بِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَقَدْ سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ شَيْءٍ
مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ فَقَالَ :
إنَّ اللَّهَ بَعَثَ إلَيْنَا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَعْلَمُ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا نَفْعَلُ كَمَا
رَأَيْنَاهُ يَفْعَلُ .
وَقَوْلُهُ : وَأَخُصُّ مِنْ ذَلِكَ وَمَا نَحْنُ فِيهِ
مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا وَلَمْ يَضَعْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى
اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } فَهَذَا مَخْصُوصٌ بِمَا بَيْنَ
الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَهُوَ يَتَنَاوَلُ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ مِنْ جِهَةِ
أَنَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً دَاخِلَةٌ فِي عِشْرِينَ رَكْعَةً وَمَا فِيهَا
مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ تُوجِبُ نَوْعِيَّةً وَخُصُوصِيَّةً غَيْرَ مَانِعَةٍ
مِنْ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْعُمُومِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ أَنَّهُ
لَمْ فَلَوْ لَمْ يُرِدْ إذْنَ حَدِيثٍ أَصْلًا بِصَلَاةِ
الرَّغَائِبِ بِعَيْنِهَا وَوَصْفِهَا لَكَانَ فِعْلُهَا
مَشْرُوعًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ ا هـ
.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ
الشَّارِعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ بِأَوْقَاتِهَا وَأَسْمَائِهَا
وَصِفَاتِهَا وَحُدُودِهَا وَلَا مَدْخَلَ لِصَلَاةِ رَجَبٍ فِي ذَلِكَ ،
وَإِنَّمَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ عَلَى مَا سَبَقَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا
بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا
الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ اسْتَدَلَّ لِجَوَازِ فِعْلِ هَذِهِ
الصَّلَاةِ بِأَنَّ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً دَاخِلَةٌ فِي عِشْرِينَ رَكْعَةً
فَرَدَّ الْأَمْرَ إلَى الْحِسَابِ وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ
الصَّلَوَاتِ إذْ أَنَّهَا تَعَبُّدٌ مَحْضٌ وَالْحِسَابُ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي
الْمَوَارِيثِ وَمَا شَاءَ كُلُّهَا
.
مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { مَنْ
صَلَّى بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ
لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ } فَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْعَدَدِ وَمَعَ هَذَا
فَلَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ مَشْرُوعِيَّةُ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ؛ لِأَنَّ بَيْنَ
الْمَسْأَلَتَيْنِ فَرْقًا ، وَهُوَ اخْتِلَافُ النِّيَّتَيْنِ إذْ أَنَّ
الْإِنْسَانَ إذَا تَنَفَّلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ إنَّمَا يَنْوِي النَّافِلَةَ
لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ فِيهَا وَصَلَاةُ رَجَبٍ لَهَا نِيَّةٌ تَخُصُّهَا
وَصِفَةٌ تَخُصُّهَا وَاسْمٌ يَخُصُّهَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا بِدْعَةٌ
مَكْرُوهَةٌ فَإِذَا تَنَفَّلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
تَكُونَ لَهُ عَادَةٌ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَتْ لَهُ عَادَةٌ مَضَى عَلَى عَادَتِهِ
فِي جَمِيعِ السُّنَّةِ مَا لَمْ يَجْمَعْ لَهَا فِي الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا أَوْ
فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ
وَتَنَفَّلَ التَّنَفُّلَ الْمَعْهُودَ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ عَلَى بَابِهِ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَادَتِهِ وَصَلَّى فِي
بَيْتِهِ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فَذًّا أَوْ
جَمَاعَةً فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحَدِيثِ فِيهَا هَلْ هُوَ مَوْضُوعٌ أَوْ
ضَعِيفٌ فَعَلَى ضَعْفِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ مَا لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ ،
وَأَمَّا فِعْلُهَا فِي جَمَاعَةٍ فِي الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا أَوْ فِي
الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ
فَهُوَ رَدٌّ } وَفِعْلُهَا فِي الْمَسَاجِدِ مُطْلَقًا أَوْ الْمَوَاضِعِ
الْمَشْهُورَةِ شِعَارٌ ظَاهِرٌ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ يُعَيِّنُهُ
كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ .
ثُمَّ إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا رَغَّبَ
فِي التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِالْحَدِيثِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ صَلَاةَ
رَجَبٍ وَلَا تَعَرَّضَ لَهَا وَلَا فَهِمَ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ هَذَا وَلَمْ
يَقُلْ أَحَدٌ بِمَشْرُوعِيَّةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ
الْحِسَابِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ
الزَّائِدَةِ يُوجِبُ نَوْعِيَّةً وَخُصُوصِيَّةً غَيْرَ مَانِعَةٍ مِنْ
الدُّخُولِ فِي هَذَا الْعُمُومِ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ
الْعِلْمِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَحْتَاجُ إلَى التَّوْقِيفِ عَلَى
بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، وَإِذَا افْتَقَرَتْ
إلَى ذَلِكَ فَأَوْصَافُهَا مِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ تَفْتَقِرَ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ فَالْأَذْكَارُ الَّتِي فِيهَا مِنْ حَيْثُ
هِيَ قَدْ جَاءَتْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَالْجَوَابُ أَنَّهَا ، وَإِنْ
جَاءَتْ فَفِعْلُهَا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي تَشْرِيعٍ وَشَعَائِرَ ظَاهِرٌ ،
وَهَذَا الْكَلَامُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ عَلَى
تَقْدِيرِ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ الْأَمْرِ بِمُطْلَقِ
الصَّلَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ عَدَمِ دُخُولِهَا فِيهِ فَلَمَّا لَمْ
يَصِحَّ لَهُ الْعُمُومُ لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْجَوَابِ عَمَّا فِيهَا مِنْ
الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ إذْ أَنَّ ذَاتَ الشَّيْءِ إذَا
لَمْ تَدْخُلْ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى صِفَتُهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَلَوْ لَمْ يُرِدْ إذْنَ حَدِيثٍ
أَصْلًا بِصَلَاةِ الرَّغَائِبِ بِعَيْنِهَا وَوَصْفِهَا لَكَانَ فِعْلُهَا
مَشْرُوعًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ .
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهَا غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي عُمُومِ الصَّلَاةِ
، وَإِذَا لَمْ تَدْخُلْ ذَاتُهَا فَمَا فِيهَا مِنْ الْأَوْصَافِ الزَّائِدَةِ
مِنْ بَابِ أَوْلَى فَبَانَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ كَمَا ذَكَرَ ،
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَنَّهُ
مَوْضُوعٌ وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ فَلَا يُنْكَرُ الْعَمَلُ بِهِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ
.
وَقَوْلُهُ وَكَمْ مِنْ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ
مُشْتَمِلَةٍ عَلَى وَصْفٍ خَاصٍّ لَمْ يَرِدْ بِوَصْفِهَا ذَلِكَ نَصٌّ خَاصٌّ
مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ثُمَّ لَا يُقَالُ إنَّهَا بِدْعَةٌ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ
إنَّهَا بِدْعَةٌ لَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ لِكَوْنِهَا
رَاجِعَةً إلَى أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ
لَيْسَ بِوَاقِعٍ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى جَمِيعِ
أَنْوَاعِهَا بَيَّنَهَا الشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
وَبَيَّنَ أَوْقَاتَهَا وَأَسْمَاءَهَا وَجَمِيعَ صِفَاتِهَا حَتَّى الْقِرَاءَةَ
فِيهَا فَمَا زَادَ عَلَى بَيَانِهِ فَهُوَ حَدَثٌ فِي الدِّينِ فَإِذَا أَتَى
الْمُصَلِّي بِذَلِكَ كُلِّهِ حَكَمَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ صَلَاتَهُ صَحِيحَةٌ
مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْقَبُولِ أَوْ الرَّدِّ إذْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِمَا
وَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا وَهِيَ الصَّلَاةُ الْمَشْرُوعَةُ
الَّتِي بِهَا قِوَامُ الدِّينِ فَمَا بَالُك بِصَلَاةٍ غَيْرِ مَعْرُوفَةٍ فِي
الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ فِيهِ فَهُوَ بِدْعَةٌ
وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ وَالضَّلَالَةُ لَا تَكُونُ مُتَقَبَّلَةً .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِابْنِهِ عَبْدِ
اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا قَالَ لَهُ هَنِيئًا لَك يَا أَبَتِ
تَصَدَّقْت الْيَوْمَ بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ لَهُ : وَاَللَّهِ لَوْ عَلِمَ
أَبُوك أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَقَبَّلَ مِنْهُ حَسَنَةً
وَاحِدَةً مَا كَانَ شَيْءٌ أَشْهَى لَهُ مِنْ الْمَوْتِ .
هَذَا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِلَفْظِ الْقَبُولِ
الْقَبُولَ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مُرَادُهُ
الْقَبُولَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فَالْعُلَمَاءُ لَا يَقْبَلُونَ إلَّا مَا وَرَدَ
فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ أَنَّ
هَذِهِ الصَّلَاةَ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ فَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ
فَكَلَامُهُ مَرْدُودٌ وَالْبِدْعَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مَا اخْتَرَعَهُ الْمَرْءُ
مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَلَمْ يَسْبِقْ إلَيْهِ غَيْرُهُ فَإِذَا صَلَّى صَلَاةً
لَمْ تَرِدْ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ إلَّا
مِنْ بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَمَنْ فَعَلَهَا وُصِفَ
فِعْلُهُ بِأَنَّهُ بِدْعَةٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ إنَّهَا
بِدْعَةٌ لَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ
وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ الْغَفْلَةِ مَا أَشَدَّهَا ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ
عِنْدَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ فَحَكَمَ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْعُلَمَاءِ
بِأَنَّهُ يَقُولُ إنَّهَا بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } فَمَنْ زَادَ وَصْفًا عَلَى الصَّلَاةِ الْمَشْرُوعَةِ
فَقَدْ زَادَ عَلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالزِّيَادَةُ
مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَقَلُّ مَرَاتِبِهِ أَنْ يَكُونَ
مَكْرُوهًا وَالْمَكْرُوهُ ضِدُّ الْحَسَنِ فَكَيْفَ يَحْكُمُ هَذَا الْقَائِلُ
عَلَى كُلٍّ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ يَصِفُهَا بِكَوْنِهَا بِدْعَةً حَسَنَةً .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ الْبِدْعَةَ الْحَسَنَةَ
مِثْلُ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَمَا أَشْبَهَهَا .
وَقَالُوا فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ إنَّهَا بِدْعَةٌ
مَكْرُوهَةٌ وَأَنْكَرُوهَا إنْكَارًا شَدِيدًا .
حَتَّى أَنَّ مَنْ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ هَذَا الْقَائِلِ
، وَهُوَ الْإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنْكَرَهَا إنْكَارًا شَدِيدًا فِي فَتَاوِيه ، وَهَذَا لَفْظُهَا .
قَالَ : مَسْأَلَةٌ
: صَلَاةُ الرَّغَائِبِ الْمَعْرُوفَةِ فِي أَوَّلِ
جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ هَلْ هِيَ سُنَّةٌ أَوْ فَضِيلَةٌ أَوْ بِدْعَةٌ .
الْجَوَابُ هِيَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ مُنْكَرَةٌ أَشَدَّ
إنْكَارٍ اشْتَمَلَتْ عَلَى مُنْكَرَاتٍ فَعُيِّنَ تَرْكُهَا وَالْإِعْرَاضُ
عَنْهَا ، وَإِنْكَارُهَا عَلَى فَاعِلِهَا وَعَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ وَفَّقَهُ
اللَّهُ تَعَالَى مَنْعُ النَّاسِ مِنْ فِعْلِهَا فَإِنَّهُ رَاعٍ وَكُلُّ رَاعٍ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَقَدْ صَنَّفَ الْعُلَمَاءُ كُتُبًا فِي إنْكَارِهَا وَذَمِّهَا
وَتَسْفِيهِ فَاعِلِهَا وَلَا يَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْفَاعِلِينَ لَهَا فِي
كَثِيرٍ مِنْ الْبُلْدَانِ وَلَا بِكَوْنِهَا مَذْكُورَةً فِي قُوتِ الْقُلُوبِ
وَإِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ بَاطِلَةٌ .
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ
رَدٌّ } وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {
مِنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ } .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ
تَعَالَى عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرُّجُوعِ إلَى كِتَابِهِ فَقَالَ تَعَالَى {
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَلَمْ يَأْمُرْنَا
بِاتِّبَاعِ الْجَاهِلِينَ وَلَا بِالِاغْتِرَارِ بِغَلَطَاتِ الْمُخْطِئِينَ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِكَوْنِهَا رَاجِعَةً إلَى أَصْلٍ مِنْ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَلَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ
تَوْقِيفِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ
.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بَيَّنَ كَيْفِيَّةَ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْخُرُوجِ إلَيْهَا وَالتَّكْبِيرِ
فِيهَا وَكَذَلِكَ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ صَلَاةَ الْكُسُوفِ
وَصَلَاةَ الْخَوْفِ وَالرَّوَاتِبِ مَعَ الصَّلَوَاتِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالِاسْتِخَارَةِ
وَالتَّهَجُّدِ وَصَلَاةَ الْمَرِيضِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَبَيَّنَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ وَأَوْضَحَهَا بِالْفِعْلِ
وَالْقَوْلِ فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا
وَلَا يُنْقِصَ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى
فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِدْعَةً مَمْنُوعَةً فَأَوْلَى
بِالْمَنْعِ إذَا أُحْدِثَتْ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ تَسْمِيَةٌ وَوَقْتٌ خَاصٌّ هِيَ
بِهَا وَصَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا شَائِعًا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا إلَّا فِي
الْقَرْنِ الْخَامِسِ فَقَدْ صَارَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْهَيْئَةِ
الِاجْتِمَاعِيَّةِ يَفْتَقِرُ اسْتِحْبَابُهَا إلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ
مُسْتَقِلٍّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ إقَامَتِهَا جَمَاعَةً فِي الْمَسَاجِدِ
وَالْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ
.
وَقَوْلُهُ وَمِنْ أَمْثَالِ هَذَا مَا إذَا صَلَّى إنْسَانٌ
فِي جُنْحِ اللَّيْلِ خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَرَأَ
فِي كُلِّ رَكْعَةٍ آيَةً فَآيَةً مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً عَلَى التَّوَالِي
وَخَصَّ كُلَّ رَكْعَةٍ مِنْهَا بِدُعَاءٍ خَاصٍّ فَهَذِهِ صَلَاةٌ مَقْبُولَةٌ
غَيْرُ مَرْدُودَةٍ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ صَلَاةٌ مُبْتَدَعَةٌ
مَرْدُودَةٌ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ كِتَابٌ وَلَا
سُنَّةٌ وَلَوْ وَضَعَ أَحَدٌ حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهَا بِهِ لَأَبْطَلْنَا
الْحَدِيثَ وَأَنْكَرْنَاهُ وَلَمْ نُنْكِرْ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلِهَذَا شَوَاهِدُ وَنَظَائِرُ لَا تُحْصَى مِنْ
سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ
.
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذِهِ
الصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا وَقَالَ عَنْهَا إنَّهَا لَمْ تَرِدْ فِي كِتَابٍ
وَلَا سُنَّةٍ فَكَفَى غَيْرَهُ بِقَوْلِهِ : مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَيْهِ إذْ
أَنَّ مَا لَمْ يَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَالْبِدْعَةُ مَكْرُوهَةٌ
لِمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَهَذِهِ صَلَاةٌ مَقْبُولَةٌ غَيْرُ
مَرْدُودَةٍ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ كَالْكَلَامِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ وَكَمْ
مِنْ صَلَاةٍ مَقْبُولَةٍ فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى وَيُحْسِنَ النِّيَّةَ مَا اسْتَطَاعَ وَيَتَّبِعَ السُّنَّةَ فِي
عَمَلِهِ وَيَرْجُو بَعْدَ ذَلِكَ
الْقَبُولَ مِنْ فَضْلِ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ ، وَقَدْ
أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ بِفَضْلِهِ أَنَّ مَنْ أَطَاعَهُ
وَاتَّبَعَ أَمْرَهُ وَاجْتَنَبَ نَهْيَهُ تَقَبَّلَ مِنْهُ وَنَجَّاهُ ، وَأَمَّا
إنْ فَعَلَ فِعْلًا لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ فَلَا نِزَاعَ فِي
أَنَّ فِعْلَ هَذَا حَدَثٌ وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ
قَوْلُ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ رَأَيْت الصَّحَابَةَ يَتَوَضَّئُونَ
إلَى الْكُوعَيْنِ لَتَوَضَّأْت كَذَلِكَ ، وَإِنْ كُنْت أَقْرَؤُهَا إلَى
الْمَرَافِقِ .
وَعَلَى هَذَا دَرَجَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فَمَنْ ادَّعَى
غَيْرَ ذَلِكَ فَهُوَ مَحْجُوجٌ بِقَوْلِهِمْ وَفِعْلِهِمْ ؛ لِأَنَّ الثَّوَابَ
إنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ
الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانُوا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
يَمْتَثِلُونَ السُّنَّةَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَيَخَافُونَ مَعَ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْخَوْفُ عَلَى
الْعَمَلِ بَعْدَ الْعَمَلِ أَفْضَلُ مِنْ الْعَمَلِ ، وَهَذَا الْقَائِلُ قَدْ ذَكَرَ
صُورَةً لَمْ تَرِدْ فِي كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ فَجَعَلَهَا دَلِيلًا يُسْتَدَلُّ
بِهِ عَلَى مَا رَامَهُ مِنْ صِحَّةِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ
وَقَرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ آيَةً فَآيَةً مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سُورَةً .
فَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا مَكْرُوهًا فِي صَلَاتِهِ مُسْتَدِلًّا بِفِعْلِ {
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ فَلَمَّا
أَنْ بَلَغَ إلَى قِصَّةِ مُوسَى وَهَارُونَ أَخَذَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُعْلَةٌ فَرَكَعَ وَلَمْ يَقْرَأْ بِبَعْضِ سُورَةٍ فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ السُّورَةِ لِلْعُذْرِ الَّذِي
ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ فَمَا بَالُك بِآيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَهُوَ مَعَ
ذَلِكَ يَخْتَارُهَا فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ وَأَيْنَ الِاتِّبَاعُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَلَوْ وَضَعَ لَهَا أَحَدٌ
حَدِيثًا بِإِسْنَادٍ رَوَاهَا بِهِ
لَأَبْطَلْنَا الْحَدِيثَ وَأَنْكَرْنَاهُ وَلَمْ
نُنْكِرْ الصَّلَاةَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي صَلَاةِ الرَّغَائِبِ مِنْ غَيْرِ
فَرْقٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ ،
وَهُوَ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ .
وَالسُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ فِي التَّنَفُّلِ الَّتِي
اسْتَقَرَّ عَلَيْهَا فِعْلُهُ وَقَوْلُهُ وَأَمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ فَإِنْ زَادَ عَلَى
رَكْعَتَيْنِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ السَّهْوِ
أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْعَمْدِ فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ سَهْوًا فَإِنَّهُ
يَرْجِعُ لِلْجُلُوسِ مَا لَمْ يَرْكَعْ فَإِنْ رَكَعَ مَضَى فِي صَلَاتِهِ حَتَّى
يُتِمَّهَا أَرْبَعًا وَيَسْجُدَ قَبْلَ السَّلَامِ فَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ وَقَامَ
إلَى خَامِسَةٍ سَهْوًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مَتَى ذَكَرَ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ
الرُّكُوعِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ أَكْثَرَ
مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ فَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَمَّا أَنْ { خَرَجَ مَعَ صَفِيَّةَ لَيْلًا فَمَرَّ بِهِ رَجُلَانِ
مِنْ الْأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَسْرَعَا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رِسْلِكُمَا إنَّهَا
صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَقَالَا سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ
: إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّي خَشِيت
أَنْ يَقْذِفَ الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِكُمَا شَرًّا أَوْ قَالَ شَيْئًا } .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَيْنِ
الْأَصْلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ أَحَدُهُمَا عِصْمَتُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالْأَصْلُ الثَّانِي قُوَّةُ
إيمَانِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكْتَفِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ حَتَّى بَيَّنَ
لَهُمَا مَا الْحَالُ عَلَيْهِ ، فَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ كَافِيًا
لَمْ يَحْتَجْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمَا ذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَلِهَذَا شَوَاهِدُ وَنَظَائِرُ لَا
تُحْصَى مِنْ سَائِرِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فَقَدْ ذَكَرَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ عَنْهَا هُوَ الْجَوَابُ عَنْ الشَّوَاهِدِ
وَالنَّظَائِرِ الَّتِي قَالَ عَنْهَا وَهِيَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ أَعْنِي عَلَى
مُقْتَضَى الِاتِّبَاعِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ مَنْقُولَةٌ مَحْفُوظَةٌ لَا
عَقْلِيَّةٌ وَلَا قِيَاسِيَّةٌ
.
نَعَمْ الْفُقَهَاءُ يُعَلِّلُونَ الْأَحْكَامَ
الشَّرْعِيَّةَ بَعْدَ ثُبُوتِهَا بِالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَأَمَّا أَنْ
يَخْتَرِعَ الْإِنْسَانُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ شَيْئًا وَيُعَلِّلَهُ بِعَقْلِهِ
فَبَعِيدٌ عَنْ وَجْهِ الصَّوَابِ غَيْرُ مَعْقُولٍ عِنْدَ ذَوِي الْأَلْبَابِ .
عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى
أَصْلٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيهِ فَتْحُ بَابٍ عَظِيمٍ لِاسْتِحْسَانِ
الْبِدَعِ وَالزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ إذْ أَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَحْسَنَ شَيْئًا يَسْتَنِدُ
لِهَذَا الْقَوْلِ فَيُعَلِّلُ مَا اسْتَحْسَنَهُ بِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى أَصْلٍ
مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ؛
لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { وَأَنْزَلْنَا
إلَيْك الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَقَالَ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا وَإِنِّي قَدْ بَلَّغْت مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَأَكْثَرَ
} عَلَى هَذَا فَالْأَصْلُ الَّذِي يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ
بَيَّنَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سِيَّمَا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ
تَوْقِيفِيَّةٌ فَهِيَ مُفْتَقِرَةٌ إلَى بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ بِالْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ ،
فَإِنَّ التَّمَسُّكَ بِهِ مُتَعَيِّنٌ وَلَا يُطَالَبُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ
بِدَلِيلٍ غَيْرِهِ فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ صَلَاةً أَوْ شِعَارًا فَهُوَ
الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَعَ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي ذُكِرَ
فِيهَا مَعَ ضَعْفِهِ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ صَدْرِ الْأُمَّةِ فَهِمَ
أَنْ يُجْمَعَ لَهَا وَلَا أَنْ تُعْمَلَ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ
الْمَشْهُورَةِ
وَكَذَلِكَ مَنْ أَتَى بَعْدَهُمْ إلَى الْقَرْنِ
الْخَامِسِ وَشَيْءٌ لَمْ يُوجَدْ مِنْ هَؤُلَاءِ فَاطِّرَاحُهُ مُتَعَيِّنٌ .
وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
جَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَكَيْفِيَّتَهَا وَوَقَّتَ
لِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا وَقْتًا مَعْلُومًا لَا يَتَغَيَّرُ كَمَا تَقَدَّمَ ،
فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ وَلَا يُنْقِصَ عَلَى مَا قَرَّرَهُ الشَّارِعُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
وَلَوْ كَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ كَافِيًا كَمَا
ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ لَمَا دَعَتْ حَاجَةٌ إلَى بَيَانِهِ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّ صَلَاةٍ عَلَى حِدَتِهَا وَمَا تَخْتَصُّ بِهِ
وَمَا يَنُوبُ الْمَرْءُ فِيهَا ، وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ، فَإِنَّ
النَّفْسَ مِنْ طَبْعِهَا أَنَّهَا لَا تُرِيدُ الدُّخُولَ تَحْتَ الْأَحْكَامِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى تَمَرُّدِهِ فِي
كُفْرِهِ لَا يُنَازِعُ الرُّبُوبِيَّةَ وَالنَّفْسَ تُنَازِعُهَا فَكُلُّ فِعْلٍ
كَانَتْ بِهِ مَأْمُورَةً لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِمُجَاهِدَةٍ قَوِيَّةٍ بِخِلَافِ
مَا تَبْتَدِعُهُ وَتُحْدِثُهُ مِنْ قِبَلِهَا ، فَإِنَّهَا تَنْشَطُ فِيهِ
وَتَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ وَالْخَطَرَ لِكَوْنِهَا آمِرَةً غَيْرَ مَأْمُورَةٍ ،
وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُهَا فِيهِ التَّعَبُ ، فَإِنَّهُ حُلْوٌ عِنْدَهَا بِسَبَبِ
أَنَّهَا آمِرَةٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتْ الْعِبَادَةُ
بِالْعَادَةِ ، وَلَا بِالِاسْتِحْسَانِ ، وَلَا بِالِاخْتِيَارِ ، وَإِنَّمَا
هِيَ رَاجِعَةٌ إلَى امْتِثَالِ أَمْرِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَعَ
بَيَانِ رَسُولِهِ الْمَعْصُومِ فِي الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَحَيْثُ مَشَى مَشَيْنَا وَحَيْثُ وَقَفَ وَقَفْنَا
، وَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الرُّجُوعُ إلَى مَا اسْتَنْبَطَهُ الْعُلَمَاءُ وَأَفَادُوهُ
مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَدِيثِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِمَّا لِلْقِيَاسِ فِيهِ مَدْخَلٌ .
اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ بِكَرَمِك يَا
كَرِيمُ وَأَيْضًا فَمَا حَدَثَ بَعْدَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوهُ
وَعَلِمُوا أَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرِيعَةِ ، وَلَمْ
يَعْمَلُوا بِهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إذْ أَنَّهُ يَلْزَمُ
مِنْهُ تَنْقِيصُهُمْ وَتَفْضِيلُ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ
أَكْمَلُ النَّاسِ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَأَشَدُّهُمْ اتِّبَاعًا .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا عَلِمُوهُ وَتَرَكُوا الْعَمَلَ
بِهِ لَمْ يَتْرُكُوا إلَّا لِمُوجِبٍ أَوْجَبَ تَرْكَهُ فَكَيْفَ يُمْكِنُ فِعْلُهُ
هَذَا مِمَّا لَا يُتَعَقَّلُ .
وَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا لَمْ يَعْلَمُوهُ فَيَكُونَ
مَنْ ادَّعَى عِلْمَهُ بَعْدَهُمْ أَعْلَمَ مِنْهُمْ وَأَفْضَلَ وَأَعْرَفَ
بِوُجُوهِ الْبِرِّ وَأَحْرَصَ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَعَلِمُوهُ
وَلَظَهَرَ لَهُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ أَعْقَلُ النَّاسِ وَأَعْلَمُهُمْ .
وَقَدْ قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الشِّخِّيرِ عُقُولُ النَّاسِ عَلَى قَدْرِ أَزْمِنَتِهِمْ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ
إشْكَالٌ فِي الدِّينِ ، وَلَا فِي الِاعْتِقَادَاتِ لِوُفُورِ عُقُولِهِمْ ،
وَإِنَّمَا حَدَثَتْ الشُّبَهُ بَعْدَهُمْ لَمَّا خَالَطَتْ الْعُجْمَةُ
الْأَلْسُنَ فَلِنُقْصَانِ عُقُولِ مَنْ بَعْدَهُمْ عَنْ عُقُولِهِمْ وَقَعَ مَا
وَقَعَ .
وَقَوْلُهُ وَاَلَّذِي يُتَوَهَّمُ فِيهِ مِنْ صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ أَنَّهُ كَذَلِكَ أُمُورٌ نَذْكُرُهَا وَنُبَيِّنُ بِالدَّلِيلِ
الْوَاضِحِ كَوْنَهَا سَالِمَةً مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : أَحَدُهَا : مَا فِيهَا مِنْ تَكْرَارِ السُّورَةِ وَجَوَابُهُ أَنَّ ذَلِكَ
لَيْسَ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ
تَكْرَارُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ هِيَ فَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ نَعُدُّهُ مِنْ
الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَا وَرَدَ
عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ مِنْ كَرَاهَةِ نَحْوِ ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى
الْكَرَاهَةِ الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأُولَى ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ
قَدْ أُطْلِقَتْ عَلَى مَعَانٍ وَذَلِكَ أَحَدُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ وُقُوعِ التَّوَهُّمِ
لَيْسَ كَمَا قَالَ بَلْ هِيَ مَسَائِلُ عَدِيدَةٌ صَحِيحَةٌ خَالَفَ فِيهَا
نَقْلَ الْعُلَمَاءِ
فَبَدَأَ بِتَكْرَارِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ
وَاسْتَدَلَّ عَلَى فِعْلِهَا بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ تَكْرَارِ سُورَةِ
الْإِخْلَاصِ .
وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ عُلَمَاءَنَا رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ قَالُوا فِي مَعْنَى ذَلِكَ إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ يُكَرِّرُهَا
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَحْفَظُ غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا لَا يُكَرِّرُونَهَا مَعَ عِلْمِهِمْ
بِفَضِيلَتِهَا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى
تَكْرَارِ السُّورَةِ لِحَافِظِ الْقُرْآنِ .
وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قِرَاءَةِ قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ مِرَارًا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ مِنْ
مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا .
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرِهَ مَالِكٌ
رَحِمَهُ اللَّهُ لِلَّذِي يَحْفَظُ الْقُرْآنَ أَنْ يُكَرِّرَ { قُلْ هُوَ
اللَّهُ أَحَدٌ } فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِرَارًا لِئَلَّا يُعْتَقَدَ أَنَّ أَجْرَ
مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَأَجْرِ مَنْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ تَأْوِيلًا لِمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ { أَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } إذْ لَيْسَ ذَلِكَ
مَعْنَى الْحَدِيثِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ عِنْدَهُمْ
لَاقْتَصَرُوا عَلَى قِرَاءَةِ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فِي الصَّلَوَاتِ
بَدَلًا مِنْ قِرَاءَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ ، وَلَكَرَّرُوهَا فِي الرَّكْعَةِ
الْوَاحِدَةِ مِنْ فَرَائِضِهِمْ وَنَوَافِلِهِمْ وَلَاقْتَصَرُوا عَلَى قِرَاءَتِهَا
مِنْ دُونِ سَائِرِ الْقُرْآنِ فِي تِلَاوَتِهِمْ .
فَلَمَّا لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فِي رَكْعَةٍ
وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُسَاوِي أَجْرَ مَنْ أَحْيَا اللَّيْلَ وَقَامَ
فِيهِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ تَكْرِيرَهَا
فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ مُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ وَرَأَى ذَلِكَ بِدْعَةً ،
وَهُوَ كَمَا قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ تَكْرِيرَهَا
فِي كُلِّ رَكْعَةٍ
وَاحِدَةٍ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةٍ طَوِيلَةٍ تَزِيدُ
فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ تَكْرِيرِهَا الْمَرَّاتِ
الَّتِي كَرَّرَهَا فِيهَا لِمَا ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَدٌ } يُكَرِّرُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، وَكَانَ الرَّجُلُ
يَتَقَالُّهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ } إذْ قَدْ يَحْتَمِلُ
أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يُرَدِّدُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْفَظُ سِوَاهَا وَلَمْ
يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ
فِعْلِهِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ ، وَإِنَّمَا أَعْلَمَ بِأَنَّهَا
تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَتَقَالُّهَا
عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ السَّلَفُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ كُلٌّ عَلَى
قَدْرِ وِرْدِهِ الَّذِي اعْتَادَهُ وَيُسْتَحَبُّ تَرْجِيعُ الْقُرْآنِ
لِلتَّفَهُّمِ وَالتَّدَبُّرِ .
هَذَا الَّذِي فَهِمَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ إنْ كُنَّا
صَالِحِينَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ لَمْ
نَعُدَّهُ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْمُنْكَرِ لِعَدَمِ دَلِيلٍ قَوِيٍّ عَلَى ذَلِكَ ،
فَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ السُّورَةِ لَا يُسْتَحَبُّ لِمَا
تَقَدَّمَ .
وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تَكْرَارَهَا
مَكْرُوهٌ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ إنَّمَا تُرَادُ لِلثَّوَابِ
وَالْقِرَاءَةُ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّبَاعِ هِيَ أَكْثَرُ ثَوَابِهَا ، وَفِيهَا
تَرْكُ الْإِحْدَاثِ فِي الدِّينِ ، وَهُوَ خَيْرٌ عَظِيمٌ وَالْمَكْرُوهُ الْمُنْكَرُ
لَيْسَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَتْ عَلَى
وَجْهِهَا بَلْ الْكَرَاهَةُ هُنَا كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ وَحَدُّ الْمَكْرُوهِ مَا
فِي تَرْكِهِ ثَوَابٌ ، وَلَيْسَ
فِي فِعْلِهِ عِقَابٌ ، وَالْقُرْآنُ يُنَزَّهُ عَنْ
ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهِ فِيهِ ، فَتَرْكُهُ يَتَأَكَّدُ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ
يَكُونَ مِمَّنْ لَمْ يَحْفَظْ الْقُرْآنَ فَلَا بَأْسَ إذَنْ بِتَكْرَارِ
السُّورَةِ فِي النَّافِلَةِ وَخَارِجَ الصَّلَاةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَمَا وَرَدَ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ
الْحَدِيثِ مِنْ كَرَاهَةِ نَحْوِ ذَلِكَ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ الَّتِي
هِيَ بِمَعْنَى تَرْكِ الْأَوْلَى ، فَإِنَّ الْكَرَاهَةَ قَدْ أُطْلِقَتْ عَلَى
مَعَانٍ وَذَلِكَ أَحَدُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ تَرْكَ الْأَوْلَى فِي تِلَاوَةِ
كِتَابِ اللَّهِ الْعَزِيزِ يَتَأَكَّدُ تَرْكُهُ إذْ لَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى
ارْتِكَابِ مِثْلِ هَذَا فِي تِلَاوَةِ كَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
قَوْلُهُ الثَّانِي السَّجْدَتَانِ الْمُفْرَدَتَانِ
عَقِبَ هَذِهِ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي كَرَاهَةِ مِثْلِ
ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُنَازِعُ يَخْتَارُ قَوْلَ مَنْ يَكْرَهُهُمَا
فَسَبِيلُهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا فَحَسْبُ لَا أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مِنْ
أَصْلِهَا .
وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي تَكْرَارِ السُّورَةِ سَوَاءٌ
بَقِيَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ لِبَقَاءِ مُعْظَمِهَا أَوْ لَمْ
يَبْقَ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ إبْقَاءَ النَّاسِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ
شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ وَصِيَانَتِهِمْ عَنْ التَّرْكِ لَا إلَى
خَلَفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا يُرَادُ بِهَا
التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَرُّبُ إنَّمَا يَكُونُ بِالِامْتِثَالِ
لَا بِالِابْتِدَاعِ وَلَا بِالْمَكْرُوهِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي
كَرَاهَةِ مِثْلِ ذَلِكَ وَالْعُلَمَاءُ إنَّمَا أَجَازُوا السُّجُودَ
الْمُنْفَرِدَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَوْضِعَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا :
أَحَدُهُمَا : سُجُودُ التِّلَاوَةِ
.
وَالثَّانِي : سُجُودُ الشُّكْرِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ
يَرَاهُ .
وَلَيْسَتْ هَاتَانِ السَّجْدَتَانِ مِنْهُمَا ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ ذَلِكَ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
فَبَطَلَ مَا حَكَاهُ مِنْ الْخِلَافِ فِي إجَازَةِ مِثْلِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ فَإِنْ كَانَ الْمُنَازِعُ يَخْتَارُ قَوْلَ مَنْ يَكْرَهُهُمَا
فَسَبِيلُهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا فَحَسْبُ ، لَا أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ مِنْ
أَصْلِهَا فَهَذَا لَا يَنْهَضُ لَهُ أَيْضًا ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لَا لَهُ
؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَ السَّجْدَتَيْنِ الْمُفْرَدَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ
الرَّغَائِبِ عَلَى صِفَتِهَا بِكَمَالِهَا فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ
صَلَاةَ رَغَائِبَ ، وَإِنْ سَجَدَهُمَا فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ لِغَيْرِ
ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَمَا سَبَقَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي
تَكْرَارِ السُّورَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ سَوَاءٌ بَقِيَ عَلَى الصَّلَاةِ
اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ لِبَقَاءِ مُعْظَمِهَا أَوْ لَمْ يَبْقَ فَهَذَا الَّذِي
ذَكَرَهُ لَا يَخْلُو أَنْ
يَكُونَ مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ اسْمُهَا الْمَعْرُوفُ
صَلَاةَ الرَّغَائِبِ أَوْ صَلَاةَ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ
صَلَاةَ الرَّغَائِبِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ ذَلِكَ لِنُقْصَانِ السَّجْدَتَيْنِ الْمُفْرَدَتَيْنِ
مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ صَلَاةَ النَّافِلَةِ
الْمَشْرُوعَةِ ، فَلَيْسَ مَا ذَكَرَهُ هُوَ صِفَةُ النَّافِلَةِ الْمَشْرُوعَةِ
وَأَيْضًا فَهُوَ لَمْ يَنْوِهَا ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ
إبْقَاءَ النَّاسِ عَلَى مَا اعْتَادُوهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ
بِالْعِبَادَةِ .
لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرَادَ بِلَفْظَةِ الْمَقْصُودِ
الْمَقْصُودُ الشَّرْعِيُّ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنْ أَرَادَ الْمَقْصُودَ
الشَّرْعِيَّ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا
هُوَ الِامْتِثَالُ .
وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ إنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ كَمَا
سَبَقَ ، وَإِنْ أَرَادَ مَا لَيْسَ بِشَرْعِيٍّ فَلَا عِبْرَةَ بِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى لَفْظَةِ
النَّاسِ ، وَمَاذَا أُرِيدَ بِهَا وَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ
مَا اعْتَادُوهُ الْعَادَةَ الْمُوَافِقَةَ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ أَوْ
الْمُخَالِفَةَ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْمُوَافِقَةَ لِلشَّرْعِ فَلَيْسَ
مَا أُحْدِثَ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ بِمُوَافِقٍ لِلشَّرْعِ الشَّرِيفِ ،
وَإِنْ أَرَادَ بِمَا اعْتَادُوهُ مَا خَالَفَ الشَّرْعَ الشَّرِيفَ فَهُوَ بَاطِلٌ
مَرْدُودٌ فَالْكَلَامُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ عَلَى كِلَا التَّقْرِيرَيْنِ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا
الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ كَيْفَ يُثْبِتُ صَلَاةً بِعَمَلِ أَهْلِ
الْقَرْنِ الْخَامِسِ ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِعَمَلِ
عُلَمَاءِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِمْ
الْجَمَّ الْغَفِيرَ ، وَفِي زَمَانٍ لَا يُمْكِنُ ذَهَابُ السُّنَنِ عَنْهُمْ
وَلَا يُتَّهَمُونَ فِي تَرْكِ سُنَّةٍ وَلَا فِي إحْدَاثِ بِدْعَةٍ وَلَا
يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا حُجَّةٍ وَهُمْ الَّذِينَ رَوَوْا
الْحَدِيثَ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ مُعَارِضٌ لِعَمَلِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ
الْعُلَمَاءُ : إنَّ الرَّاوِيَ
يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي فَهْمِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ
لَهُ ، وَيَكُونُ تَرْجِيحًا مُقَدَّمًا عَلَى فَهْمِ مَنْ عَدَاهُ فَكَيْفَ
يَحْكُمُ بِعَادَةِ بَعْضِ النَّاسِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فِي بَعْضِ
الْأَمَاكِنِ ، وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ شَغْلِ هَذَا الْوَقْتِ بِالْعِبَادَةِ
فَالْعِبَادَةُ إنَّمَا هِيَ بِالِاتِّبَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ وَشَغْلُ هَذَا
الْوَقْتِ بِمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ مِنْ
التَّنَفُّلِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ وَتَرْكِ الْبِدْعَةِ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ ، وَإِنْ شَغَرَ الْوَقْتَ عَنْ
الْعَمَلِ .
وَمِنْ كِتَابِ الْقُوتِ لِأَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ بَعْضُهُمْ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ
أَفْضَلُ أَعْمَالِهِمْ النَّوْمَ وَأَفْضَلُ عُلُومِهِمْ الصَّمْتَ "
يَعْنِي لِفَسَادِ الْأَعْمَالِ وَلِاشْتِبَاهِ الْعِلْمِ " وَأَفْضَلُ أَحْوَالِهِمْ
الْجُوعَ لِانْتِشَارِ الْحَرَامِ وَغُمُوضِ الْحَلَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَصِيَانَتِهِمْ عَنْ التَّرْكِ لَا
إلَى خَلَفٍ .
فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَلِّ صَلَاةَ
الرَّغَائِبِ بَقِيَ بِدُونِ عَمَلٍ وَشُغُورُ هَذَا الْوَقْتِ عَنْ فِعْلِ
الْبِدْعَةِ أَفْضَلُ وَأَعْلَى بَلْ نَوْمُهُ أَفْضَلُ إذَا تَوَقَّعَ بِدْعَةً
فِي عَمَلِهِ أَوْ دَسِيسَةً فَمَا بَالُك بِهِ مَعَ تَحَقُّقِهَا .
فَإِنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ لَا إلَى خَلَفٍ أَنَّهُمْ
لَا يَشْتَغِلُونَ فِي وَقْتِهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ فَقَدْ تَقَدَّمَ
جَوَابُهُ ، وَإِنْ أَرَادَ لَا إلَى خَلَفٍ عَنْهَا ، وَإِنْ اشْتَغَلُوا فِي
وَقْتِهَا بِغَيْرِهَا مِنْ الطَّاعَاتِ مِنْ طَلَبِ عِلْمٍ أَوْ صَلَاةِ
نَافِلَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ تَفَكُّرٍ أَوْ قَضَاءِ حَاجَةِ مُسْلِمٍ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَاتِ
، فَهُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى ؛ لِأَنَّهُ فِي عَمَلٍ مَشْرُوعٍ يُثَابُ عَلَيْهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ النَّوْمَ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِ
الْبِدْعَةِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ مَشْرُوعٍ كَانَتْ الْفَضِيلَةُ مِنْ
بَابِ أَوْلَى
وَأَحْرَى
.
وَقَوْلُهُ الثَّالِثُ مَا فِيهَا مِنْ التَّقْيِيدِ
بِعَدَدٍ خَاصٍّ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ فَهَذَا قَرِيبٌ وَاضِحٌ رَاجِعٌ إلَى مَا
سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَقَيَّدُ بِقِرَاءَةِ سُبْعِ
الْقُرْآنِ أَوْ رُبُعِهِ كُلَّ يَوْمٍ وَكَتَقْيِيدِ الْعَابِدِينَ
بِأَوْرَادِهِمْ الَّتِي يَخْتَارُونَهَا لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا وَلَا
يَنْقُصُونَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ مُتَلَقَّاةٌ مِنْ
بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَلَا بُدَّ
مِنْ نَصٍّ فِي عَدَدِهَا بِعَيْنِهَا وَخُصُوصِهَا ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ لَا
يَدْخُلُهَا إذْ أَنَّ أَفْرَادَهَا كُلَّهَا قَدْ بَيَّنَهَا صَاحِبُ
الشَّرِيعَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَدَدِهَا
فَكَيْفَ يُمْكِنُ مَعَ هَذَا أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، فَهَذَا قَرِيبٌ ،
وَهُوَ حُكْمٌ مَنْسُوبٌ إلَى الشَّرِيعَةِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَهُوَ كَمَنْ يَتَقَيَّدُ
بِقِرَاءَةِ سُبْعِ الْقُرْآنِ أَوْ رُبُعِهِ كُلَّ يَوْمٍ .
فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا
ذَكَرَهُ مِنْ الْأَوْرَادِ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى مَا
الْتَزَمَهُ الْمَرْءُ مِنْ الْأَوْرَادِ الشَّرْعِيَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْ نَصِّ
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَاعْلَمُوا
أَنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ ، وَإِنْ قَلَّ } فَتَضَمَّنَ
هَذَا الْحَدِيثُ حَضَّ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ
مِنْ الْعِبَادَةِ كَيْفَمَا كَانَ قَلِيلَةً أَوْ كَثِيرَةً .
الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ فِي رَكْعَةِ الْوِتْرِ
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا عَالِمِينَ بِحَالِهِ وَلَا
مُخَالِفَ لَهُ فَكَانَ إجْمَاعًا
.
فَهَذِهِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ فِي تَقْدِيرِ الْأَوْرَادِ
عَلَى مَا يَخْتَارُهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ فَلَا تُقَاسُ
الْبِدْعَةُ عَلَى هَذَا .
وَقَوْلُهُ الرَّابِعُ أَنَّ مَا فِيهَا مِنْ عَدَدِ
السُّوَرِ وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِمَا مَكْرُوهٌ لِشَغْلِ الْقَلْبِ .
وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، وَهُوَ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَدُّ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ عَنْ
عَائِشَةَ وَطَاوُسٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ
وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ فِي عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ .
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ
بَعْدَ الْآيِ فِي الصَّلَاةِ نَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ جَمْعِ الْجَوَامِعِ فِي
مَنْصُوصَاتِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَالثَّوْرِيِّ وَغَيْرُهُمْ .
وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ حَدِيثُ صَلَاةِ
التَّسَابِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ
فِعْلِ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ فِي عَدِّ الْآيَاتِ فِي الصَّلَاةِ لَيْسَ فِيهِ
دَلِيلٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهِمْ وَعَادَتِهِمْ
فِي زَمَانِهِمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ
الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
{ تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ قُلْت كَمْ كَانَ بَيْنَ الْأَذَانِ
وَالسُّحُورِ قَالَ قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً } .
وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ
وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَة كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ
آيَةٍ كُتِبَ مِنْ الْمُقَنْطِرِينَ } ، فَهَذِهِ عَادَتُهُمْ بِخِلَافِ
عَادَتِنَا الْيَوْمَ فَكَانَ الْحَافِظُ مِنْهُمْ لِلْقُرْآنِ إذَا أَحْرَمَ
بِالصَّلَاةِ فَهُوَ يَعْلَمُ كَمْ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَ وَعَلَى أَيِّ آيَةٍ
يَقِفُ كُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ جَلِيٌّ لَا خَفَاءَ بِهِ وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ
إلَى حِسَابٍ وَلَا عَدٍّ ، وَإِنَّمَا تُرِكَ ذَلِكَ حِينَ أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ
تَحْزِيبَ الْقُرْآنِ فَرَجَعُوا إلَى الْوُقُوفِ عَلَى الْأَحْزَابِ
وَالْأَنْصَافِ وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَثْمَانِ وَالْأَسْبَاعِ وَنَحْوِهَا وَمَنْ
أَحْرَمَ فِي الصَّلَاةِ
عَلِمَ كَمْ مِنْ حِزْبٍ يُرِيدُ أَنْ يَقْرَأَهُ وَعَرَفَ
مَا يَقِفُ عَلَيْهِ مِنْهَا كَمَا كَانَ أُولَئِكَ يَعْلَمُونَ بِالْآيَاتِ ،
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ فِيهِ شَغْلٌ عَنْ الْحُضُورِ فِي الصَّلَاةِ
بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ فِي أَيِّ
وَقْتٍ يُتِمُّ الْعَدَدَ الْمَذْكُورَ إلَّا بِحِسَابِ وَعَدٍّ عَلَى أَنَامِلِهِ
، وَذَلِكَ شَغْلٌ فِي الصَّلَاةِ مُتَحَقِّقٌ يُذْهِبُ الْخُشُوعَ فِيهَا
وَالْمَطْلُوبُ فِي الصَّلَاةِ الْخُشُوعُ لَا عَدَدُ الرَّكَعَاتِ وَالْأَذْكَارِ
فَافْتَرَقَا .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الصَّلَاةِ
الْمَشْرُوعَةِ .
وَصَلَاةُ الرَّغَائِبِ لَيْسَتْ بِمَشْرُوعَةٍ فَلَا
يُقَاسَ مَا هُوَ بِدْعَةٌ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ
مُسَلَّمٍ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقُلُوبِ وَأَحْوَالِ النَّاسِ .
فَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ
الْغَالِبَ شَغْلُ الْقَلْبِ بِمَا يُعَدُّ وَيُحْسَبُ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { سِيرُوا بِسَيْرِ ضُعَفَائِكُمْ }
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُرَاعَى أَحْوَالُ الْقُلُوبِ وَالنَّاسِ بَلْ حَالُ
الضَّعِيفِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ فَلَا يَسِيرُ
الْقَوِيُّ إلَّا بِسَيْرِ الضَّعِيفِ
.
فَعَلَى هَذَا فَقَدْ صَارَتْ الْحَالَةُ وَاحِدَةً .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَيَشْهَدُ لَهُ مِنْ الْحَدِيثِ
حَدِيثُ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ
.
فَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ
التَّسَابِيحِ قَدْ وَرَدَ بِهَا الْحَدِيثُ وَبَيَّنَ كَيْفِيَّتَهَا فِيهِ ،
فَهِيَ إذَنْ مِنْ الصَّلَاةِ الْمُبَيَّنَةِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَلَا يُقَاسُ مَا هُوَ مُحْدَثٌ عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا يُدَاوَمُ عَلَيْهَا وَلَا يُجْمَعُ
لَهُمَا فِي مَسْجِدٍ وَلَا فِي مَوْضِعٍ مَشْهُورٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ
عَلَى بَيَانِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهَذَا عَلَى تَقْدِيرِ
صِحَّةِ حَدِيثِ صَلَاةِ التَّسَابِيحِ
.
فَقَدْ نَقَلَ الْحَافِظُ أَبُو
مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْعَظِيمِ بْنُ عَبْدِ الْقَوِيِّ
الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِ السُّنَنِ لَهُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ وَقَدْ رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ حَدِيثٍ فِي
صَلَاةِ التَّسَابِيحِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَبِيرُ شَيْءٍ .
وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو
الْعُقَيْلِيُّ الْحَافِظُ لَيْسَ فِي صَلَاةِ التَّسَابِيحِ حَدِيثٌ يَثْبُتُ .
وَقَوْلُهُ الْخَامِسُ فِعْلُهَا فِي جُمْلَةٍ مَعَ
أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي النَّوَافِلِ مَخْصُوصَةٌ بِالْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ
وَالِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَوِتْرِهَا .
وَجَوَابُهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ أَنَّ
الْجَمَاعَةَ لَا تُسَنُّ إلَّا فِي هَذِهِ السِّتَّةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ
مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي غَيْرِهَا مِنْ النَّوَافِلِ .
وَفِي مُخْتَصَرِ الرَّبِيعِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ
قَالَ : لَا بَأْسَ بِالْإِمَامَةِ فِي النَّوَافِلِ .
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّهُ بَاتَ
عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاتَهُ مِنْ اللَّيْلِ قَامَ ابْنُ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَوَقَفَ عَنْ يَسَارِهِ فَأَدَارَهُ إلَى يَمِينِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ التَّصْرِيحُ { بِأَنَّهُ
قَامَ يُصَلِّي مُتَطَوِّعًا مِنْ اللَّيْلِ } .
وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُمْ فِي دَارِهِمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ
وَصَلَّى بِهِ وَبِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأُمِّ حَرَامٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُد { فَصَلَّى بِنَا
رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا .
} .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ نَحْوُهُ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ
مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فِيهِ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَوَاتِ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ
نَفْلًا لَيْلًا كَانَتْ أَوْ نَهَارًا فَذًّا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ مَوْقُوفٌ عَلَى
بَيَانِ صَاحِبِ الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ فَحَيْثُ
جَمَعَ جَمَعْنَا وَمَا لَا فَلَا
.
وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
صَلُّوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } ، وَهَذَا أَمْرٌ مِنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَامِلٌ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الصَّلَاةِ
وَصِفَاتِهَا وَأَوْقَاتِهَا عَلَى مَا سَبَقَ .
وَقَدْ بَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَلِكَ
أَتَمَّ بَيَانٍ فَمَا فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَذًّا أَوْ فِي
جَمَاعَةٍ فَلْيَفْعَلْهُ الْمُكَلَّفُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَفْضَلُ
الصَّلَاةِ صَلَاةُ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ } فَدَلَّ عُمُومُ
هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّافِلَةِ أَنْ تُصَلَّى فِي
الْبُيُوتِ فَشَرَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْجَمَاعَةَ فِي مَوَاضِعَ
مَخْصُوصَةٍ ، فَلَا يَتَعَدَّى بِهَا غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ
وَالتَّجْمِيعُ فِي النَّوَافِلِ جَائِزٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّ فِي
النَّافِلَةِ فِي بَيْتِهِ وَفِي بَيْتِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَفْعَلْ مِثْلَ ذَلِكَ
فِي الْمَسَاجِدِ وَلَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا يَتَعَدَّى مَا شَرَعَهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ دَلِيلٌ حَتَّى يُقَاسَ عَلَى النَّوَافِلِ الْمَشْرُوعَةِ ، وَإِذَا
بَطَلَتْ فِي نَفْسِهَا فَكَيْفَ تُقَاسُ عَلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ .
وَقَوْلُهُ السَّادِسُ إنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَارَتْ
شِعَارًا ظَاهِرًا حَادِثًا ، وَيُمْنَعُ إحْدَاثُ شِعَارٍ ظَاهِرٍ وَجَوَابُهُ
أَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَهَا أَصْلٌ فِي
الشَّرِيعَةِ ظَهَرَتْ وَكَثُرَتْ الرَّغَائِبُ فِيهَا ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ
يُعَكَّرَ عَلَيْهَا بِاجْتِثَاثِهَا مِنْ أَصْلِهَا فَإِنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ
عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ
مِنْ التَّأْصِيلِ وَالتَّفْصِيلِ وَالتَّفْرِيعِ وَالتَّصْنِيفِ وَالتَّدْرِيسِ شِعَارٌ
ظَاهِرٌ حَدَثٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَكُنْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَلِمَ لَا
يَقُولُ إنَّ ذَلِكَ مُبْتَدَعٌ يَنْبَغِي اجْتِنَابُهُ وَشِعَارٌ ظَاهِرٌ
مُحْدَثٌ يُعَيَّنُ اجْتِنَابُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ أَنَّ صَلَاةَ
الرَّغَائِبِ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ ، وَأَنَّهَا لَا تَدْخُلُ فِي عُمُومِ
الْأَمْرِ بِمُطْلَقِ الصَّلَاةِ ، وَأَنَّ أَنْوَاعَ الصَّلَاةِ كُلَّهَا
وَصِفَاتِهَا لَا تُتَلَقَّى إلَّا مِنْ بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ وَقَدْ بَيَّنَهَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأُخِذَتْ
عَنْهُ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا أَصْلَ لَهَا كَمَا
ادَّعَاهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ظَهَرَتْ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ ظُهُورِ مَا حَدَثَ
أَنْ يُلْحَقَ بِالْمَشْرُوعِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَكَثُرَتْ
الرَّغَائِبُ فِيهَا .
فَالرَّغَبَاتُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهَا
رَغَبَاتِ الْعُلَمَاءِ أَوْ غَيْرِهِمْ ، فَإِنْ أَرَادَ الْعُلَمَاءَ ، فَهُوَ
بَاطِلٌ إذْ الْعُلَمَاءُ قَدْ أَنْكَرُوهَا كَمَا سَبَقَ ، وَإِنْ أَرَادَ
غَيْرَهُمْ فَلَا عِبْرَةَ بِرَغَبَاتِهِمْ .
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْمَعَالِي رَحِمَهُ اللَّهُ
: لَوْ اخْتَلَفَتْ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْعَصْرِ
لَانْحَلَّ نِظَامُ الشَّرِيعَةِ
.
وَكَيْفَ تُعْتَبَرُ رَغَبَاتُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ
فِيمَا يُحْدِثُونَهُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَأَوَانٍ وَقَدْ حَفِظَ اللَّهُ
الشَّرِيعَةَ بِالْعُلَمَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ أَنْ يُعَكَّرَ
عَلَيْهَا بِاجْتِثَاثِهَا مِنْ
أَصْلِهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنَّ مَا اخْتَصَّ بِهِ
عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ فِي عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ
إلَخْ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ إلَى
مَا اسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا رَامَهُ مِنْ تَقْرِيرِ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ
وَإِظْهَارِهَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ ، وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا
لَهُ وَذَلِكَ أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ وَعُمْدَتَهُ إنَّمَا هُوَ كِتَابُ اللَّهِ
فَهُوَ مَنْبَعُ الْعُلُومِ وَكُلُّ الْعُلُومِ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ وَمِنْ بَيَانِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
.
وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُونَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي الصُّحُفِ وَفِي الْجَرِيدِ
وَفِي غَيْرِهِمَا عَلَى مَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ
وَذَلِكَ خِيفَةً مِنْهُمْ مِنْ طُرُوِّ النِّسْيَانِ عَلَيْهِمْ أَوْ الْوَهْمِ
فِي شَيْءٍ مِنْهُ .
وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ { كُنْت أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي
قُرَيْشٌ وَقَالُوا أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا قَالَ فَأَمْسَكْت عَنْ
الْكِتَابَةِ حَتَّى ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إلَى فِيهِ وَقَالَ اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا حَقٌّ } فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا
عَظِيمًا لِكَتْبِ الْعِلْمِ وَالتَّحَفُّظِ عَلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنْ يَدْخُلَهُ زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ
وَسَبَبًا قَوِيًّا لِحِفْظِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِهَا وَصِيَانَتِهَا
مِنْ أَنْ يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْهَا
.
فَجَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ مَا فَعَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَمَنِهِ وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ
وَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى كَتْبِهِ وَأَخَذَ النَّاسُ
عَنْهُمْ ذَلِكَ بِالْكَتْبِ
وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ وَكَانَ
مِنْ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ الْمُتَعَيِّنِ عَلَى الْأُمَّةِ كَافَّةً بِدْعَةً .
فَأَلْزَمَ هَذَا الْقَائِلُ الْعُلَمَاءَ بِأَنْ
يَقُولُوا عَنْ عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَائِرِ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ إنَّ ذَلِكَ
بِدْعَةٌ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ
يَصِحَّ هَذَا الْإِلْزَامُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ
أَنْكَرُوا صَلَاةَ الرَّغَائِبِ
.
وَقَدْ وَرَدَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ
قَالَ { قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكُتُبِ } فَإِذَا لَمْ يُقَيِّدُوهُ فَقَدْ
تَرَكُوا مَا أُمِرُوا بِهِ وَكَانَتْ الشَّرِيعَةُ تَضِيعُ ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ أَمْرٌ خَطَرٌ لَوْ عَلِمَ مَا فِيهِ مَا قَالَهُ .
ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِيَّاكَ
إلَى هَذَا الْعَجَبِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ ، وَهُوَ أَنَّهُ رَامَ إثْبَاتَ
بِدْعَةٍ حَدَثَتْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ فَوَقَعَ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي
هَذَا الْأَمْرِ الْمَهُولِ ، وَهُوَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ السَّلَفُ مِنْ
الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ بِدْعَةٌ فَإِنَّا لِلَّهِ ،
وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَاَلَّتِي حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ
أَثْبَتَهَا وَقَالَ عَنْهَا إنَّهَا لَيْسَتْ بِبِدْعَةٍ وَقَوْلُهُ وَقَدْ
احْتَجَّ الْمُنَازِعُ بِأَشْيَاءَ أُخَرَ لَا تُسَاوِي الذِّكْرَ وَمِمَّا
يُجَابُ بِهِ عَنْهَا أَنْ يُقَالَ لَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَجَنَّبْ
وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ مَحْذُورٌ كَمَا بَيَّنَاهُ فِيمَا سَبَقَ .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى هَذَا
اللَّفْظِ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ مَا أَعْجَبَهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ
الْعُلَمَاءِ إذَا عَارَضَهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ مِمَّا
قَامَ لَهُمْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ يَرُدُّونَ عَلَيْهِ بِأَدَبٍ
وَاحْتِرَامٍ وَتَلَطُّفٍ وَاحْتِجَاجٍ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ كَوْنِهِمْ يُعَظِّمُونَهُ
وَقَدْ فَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَالَ
عَنْهَا إنَّهَا لَا تُسَاوِي الذِّكْرَ وَهِيَ مِمَّا وَجَبَ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ اجْتِنَابُهُ وَيَفْسُقُ مَنْ
فَعَلَهُ أَوْ حَضَرَهُ أَوْ رَضِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، وَهِيَ اجْتِمَاعُ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُخْتَلِطِينَ بِسَبَبِ صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ فَوَجَدُوا الْوَسِيلَةَ فِيهَا إلَى أَغْرَاضِهِمْ الْخَسِيسَةِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ وَمَا يَجْرِي فِيهَا وَفِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ
وَغَيْرِهِمَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إعَادَتِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَرْضَاهُ
أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَمِمَّا يُجَابُ بِهِ عَنْهَا أَنْ
يُقَالَ لَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت
أَنَّهُ مَحْذُورٌ وَجَوَابُهُ مَا سَبَقَ ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْيَاءَ : أَحَدُهَا
: تَكْرَارُ السُّورَةِ .
ثَانِيهَا : السَّجْدَتَانِ الْمُفْرَدَتَانِ عَقِبَ
هَذِهِ الصَّلَاةِ .
ثَالِثُهَا : مَا فِيهَا مِنْ التَّقَيُّدِ بِعَدَدٍ
خَاصٍّ بِغَيْرِ نَصٍّ .
رَابِعُهَا : مَا فِيهَا مِنْ أَنَّ عَدَّ السُّوَرِ
وَالتَّسْبِيحِ وَغَيْرِهِمَا مَكْرُوهٌ لِشَغْلِ الْقَلْبِ .
خَامِسُهَا : فِعْلُهَا جَمَاعَةً .
سَادِسُهَا : كَوْنُهَا صَارَتْ شِعَارًا ظَاهِرًا
حَادِثًا وَيُمْنَعُ إحْدَاثُ شِعَارٍ ظَاهِرٍ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ
أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي بَيْتِهِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ
ضَعِيفًا كَمَا سَبَقَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُنَازِعُ فِيهِ لَكِنْ عَلَى الصِّفَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَأَمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي الْمَسَاجِدِ
جَمَاعَةً أَوْ فِي الْمَوَاضِعِ الْمَشْهُورَةِ فَإِذَا تَجَنَّبَهَا بِمَا
فِيهَا لَا يُمْكِنُ فِعْلُهَا ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ
جَمَاعَةً بِمَا فِيهَا ، وَلَا تُصَلِّهَا وَهِيَ كَذَلِكَ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ
بَيِّنٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلِّ هَذِهِ الصَّلَاةَ أَمْرٌ مِنْهُ لَهُ
بِفِعْلِهَا وَقَوْلُهُ وَتَجَنَّبْ وَجَنِّبْ فِيهَا مَا زَعَمْت أَنَّهُ
مَحْذُورٌ نَهْيٌ مِنْهُ عَنْ إيقَاعِهَا ؛ لِأَنَّهَا إنْ فُعِلَتْ خَالِيَةً
عَنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ ، فَلَيْسَتْ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي
يُنَازَعُ فِيهَا .
وَقَوْلُهُ ، وَهُوَ مُعْتَدٌّ مِنْهَا
بِقَوْلِهِ إنَّ فِي ذَلِكَ اخْتِصَاصَ لَيْلَةِ
الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛
لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ حَالِ مَنْ يُصَلِّي صَلَاةَ الرَّغَائِبِ أَنْ
يَدَعَ فِي بَاقِي لَيَالِيِهِ صَلَاةَ اللَّيْلِ ، وَمَنْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ
يَكُنْ مُخَصِّصًا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِالْقِيَامِ ، وَهَذَا وَاضِحٌ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَالْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ بِأَنَّهُ
إذَا قَامَ لَيْلَةً غَيْرَهَا لَمْ يَكُنْ مُخَصِّصًا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ
بِالْقِيَامِ فَتِلْكَ الْأَوْصَافُ الْمَذْكُورَةُ مَانِعَةٌ مِنْ فِعْلِهَا
كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَوْلُهُ فَقَدْ صَحَّ بِمَا بَيَّنَّاهُ
وَأَصَّلْنَاهُ أَنَّ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ غَيْرُ مُلْحَقَةٍ بِالْبِدَعِ
الْمُنْكَرَةِ ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ ذَوَاتُ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَبِهَةٍ
فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ كَانَ بِصَدَدِ إلْحَاقِ الشَّيْءِ مِنْهَا بِغَيْرِ
نَظِيرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ كُلِّ مَا رَامَهُ
مِنْ فِعْلِهَا وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ فِي الْقَرْنِ
الْخَامِسِ عَلَى مَا ذَكَرَ هُوَ وَغَيْرُهُ وَالْحَدَثُ فِي الدِّينِ مَمْنُوعٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَأَنَّ الْحَوَادِثَ ذَوَاتُ
وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَبِهَةٍ
.
فَقَدْ تَبَيَّنَّ أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ
الْمُنْكَرَةِ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّقْلُ عَنْ الْعُلَمَاءِ فِي إنْكَارِهَا ، وَهُمْ أَعْلَمُ
بِالْحَوَادِثِ ، وَوُجُوهِهَا ، وَمِنْ أَيِّ قِسْمٍ هُوَ مَا حَدَثَ وَقَدْ
عَدُّوهَا مِنْ الْحَوَادِثِ الْمُنْكَرَةِ لَا مِنْ الْحَوَادِثِ
الْمُسْتَحَبَّةِ أَوْ الْجَائِزَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَمَنْ لَمْ يُمَيِّزْ كَانَ بِصَدَدِ
إلْحَاقِ الشَّيْءِ مِنْهَا بِغَيْرِ نَظِيرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
فَعِبَارَتُهُ هَذِهِ تُفْهِمُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ
الْعُلَمَاءِ لَمْ يُمَيِّزُوا أَنَّهُمْ أَلْحَقُوا الشَّيْءَ بِغَيْرِ نَظِيرِهِ
، وَأَنَّهُ قَدْ مَيَّزَ مَا لَمْ يُمَيِّزُوا ، وَأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ
عَلَيْهِمْ مَا وَهَمُوا فِيهِ وَغَلِطُوا وَأَلْحَقَ الشَّيْءَ بِنَظِيرِهِ
فَأَصَابَ دُونَهُمْ عَلَى زَعْمِهِ وَقَوْلُهُ ،
فَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ يَتَضَاءَلُ بِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ الْعَظِيمُ خِلَافُ الْمُخَالِفِ ، وَيَتَبَدَّلُ بِهِ وَصْفُهُ إذَا لَمْ
يُعَانِدْ بِوَصْفِ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالِفِ يَعْنِي أَنَّهُ بَيَانٌ شَافٍ
عَلَى مَا ظَهَرَ لَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ فِي إنْكَارِهَا ،
وَالْجَوَابُ عَمَّا أَتَى بِهِ كُلِّهِ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى إعَادَتِهِ ، وَأَمَّا
قَوْلُهُ إذَا لَمْ يُعَانِدْ إلَخْ فِيهِ مَا فِيهِ إذْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ
مُبَرَّءُونَ عَنْ الْعِنَادِ ؛ لِأَنَّ الْعِنَادَ هُوَ رَدُّ الْحَقِّ بَعْدَ
الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّهُ حَقٌّ
.
وَقَوْلُهُ وَلَا تَبْقَى لَهُ إلَّا جَعْجَعَةٌ لَا
طَائِلَ وَرَاءَهَا وَقَعْقَعَةٌ وَإِيهَامَاتٌ لَا يَغْتَرُّ بِهَا إلَّا
شِرْذِمَةٌ أَفْسَدَتْ أَهْوَاؤُهَا آرَاءَهَا فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ
هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَعِيدٌ مِنْ أَوْصَافِ الْعُلَمَاءِ إذْ أَنَّ الْعَالِمَ
يُنَزِّهُ لِسَانَهُ عَنْ أَنْ يَصِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الذَّمِيمَةِ أَحَدًا
مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ ، فَكَيْفَ يَصِفُ بِهَا الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ
سِيَّمَا الْمُتَّبِعِينَ مِنْهُمْ الْمُحَافِظِينَ عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذَّابِّينَ عَنْهَا ، وَأَظُنُّ هَذَا
الْكَلَامَ إنَّمَا هُوَ مُرْتَجَلٌ عَلَى هَذَا الْقَائِلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا
يَقَعُ فِي مِثْلِ هَذَا إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ قَدْرَ أَهْلِ الْعِلْمِ
بِالسُّنَّةِ وَلَا قَدْرَ الْوَعِيدِ لِمَنْ وَقَعَ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ
أَوْ تَنَقَّصَهُ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
مَعَ أَنَّ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ قِصَّةُ أَمِيرِ
الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُغْنِي عَنْ
كُلِّ مَا ذَكَرَ قَبْلُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ أَيُّهَا
النَّاسُ إنَّهُ كَانَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ
وَالْآنَ قَدْ ظَهَرَ لِي أَنَّهَا تُبَاعُ فَقَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ
الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ : رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ
عِنْدَنَا أَوْلَى مِنْ رَأْيِك وَحْدَك فَسَكَتَ عَلِيٌّ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا .
فَمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِثْلُهُ أَوْ يُقَارِبُهُ
فَالرُّجُوعُ إلَى رَأْيِ
الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا هَذِهِ الصَّلَاةَ
وَمَنْ تَبِعَهُمْ أَوْجَبُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى رَأْيِ هَذَا الْقَائِلِ
وَحْدَهُ بِغَيْرِ دَلِيلٍ يَقُومُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى سَاقٍ سِيَّمَا مَعَ
إثْبَاتِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ بِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ ،
وَأَنَّ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِيهَا مَوْضُوعٌ .
، وَإِنَّمَا
طَالَتْ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ
أَنَّهُ مَا اسْتَوْفَى الْجَوَابَ عَنْ كَلَامِهِ كُلِّهِ ، وَلَعَلَّ فِيهِ
حُجَّةٌ لِمَا ادَّعَاهُ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى نَقْلِ كَلَامِهِ بِعَيْنِهِ .
وَوَقَعَ الْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِفَضْلِ
اللَّهِ وَعَوْنِهِ بِحَسَبِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَقْتِ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ مَعَ أَنَّ الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا
مُحَمَّدِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدَ السَّلَامِ بْنَ أَبِي الْقَاسِمِ
السُّلَمِيَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي الرَّدِّ عَلَى
مَنْ قَالَ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ أَوْ فَعَلَهَا لَكِنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ
مُطْلَقٍ ، وَلَمْ يَتَّبِعْ أَلْفَاظَ الْقَائِلِ بِهَا .
فَقَالَ مَا هَذَا لَفْظُهُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ
الْأَوَّلِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ .
الْآخَرِ الَّذِي لَا تَحْوِيهِ مَعْرِفَةُ عَارِفٍ .
جَلَّ رَبُّنَا عَنْ التَّشْبِيهِ بِخَلْقِهِ ، وَكُلُّ
خَلْقِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ ، أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ ، وَأَشْهَدُ
أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي سُلْطَانِهِ ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثَ بِحُجَّتِهِ
وَبُرْهَانِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ
وَإِخْوَانِهِ أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْبِدَعَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا
: مَا كَانَ مُبَاحًا كَالتَّوَسُّعِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ
وَالْمَنَاكِحِ فَلَا بَأْسَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا كَانَ حَسَنًا ، وَهُوَ كُلُّ
مُبْتَدَعٍ مُوَافِقٍ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا
كَبِنَاءِ الرُّبُطِ وَالْخَانْقَاهْ وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
أَنْوَاعِ الْبِرِّ
الَّتِي لَمْ تُعْهَدْ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ ،
فَإِنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ اصْطِنَاعِ
الْمَعْرُوفِ وَالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَكَذَلِكَ
الِاشْتِغَالُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ مُبْتَدَعٌ ، وَلَكِنْ لَا يَتَأَتَّى
تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَفَهْمُ مَعَانِيهِ إلَّا بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ كَانَ
ابْتِدَاعُهُ مُوَافِقًا لِمَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ تَدَبُّرِ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِ
مَعَانِيهِ ، وَكَذَلِكَ تَدْوِينُ الْأَحَادِيثِ وَتَقْسِيمُهَا إلَى الْحَسَنِ
وَالصَّحِيحِ وَالْمَوْضُوعِ وَالضَّعِيفِ مُبْتَدَعٌ حَسَنٌ لِمَا فِيهِ مِنْ
حِفْظِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَدْخُلَهُ مَا لَيْسَ مِنْهُ ، وَأَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ تَأْسِيسُ قَوَاعِدِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ
كُلُّ ذَلِكَ مُبْتَدَعٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِأُصُولِ الشَّرْعِ غَيْرُ مُخَالِفٍ
لِشَيْءٍ مِنْهَا .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا كَانَ مُخَالِفًا لِلشَّرْعِ
الشَّرِيفِ أَوْ مُسْتَلْزِمًا لِمُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
فَمِنْ ذَلِكَ صَلَاةُ الرَّغَائِبِ ، فَإِنَّهَا
مَوْضُوعَةٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذِبٌ
عَلَيْهِ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ
الطُّرْطُوشِيُّ إنَّهَا لَمْ تَحْدُثْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَّا بَعْدَ
ثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَةِ سَنَةٍ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ
مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْعِ مِنْ وُجُوهٍ يَخْتَصُّ الْعَالِمُ بِبَعْضِهَا
وَبَعْضُهَا يَعُمُّ الْعَالِمَ وَالْجَاهِلَ .
فَأَمَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْعَالِمُ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّ الْعَالِمَ إذَا صَلَّاهَا كَانَ مُوهِمًا لِلْعَامَّةِ أَنَّهَا مِنْ
السُّنَنِ فَيَكُونُ كَاذِبًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِلِسَانِ الْحَالِ وَلِسَانُ الْحَالِ قَدْ يُقَدَّمُ عَلَى لِسَانِ
الْمَقَالِ الثَّانِي : أَنَّ الْعَالِمَ إذَا فَعَلَهَا كَانَ مُتَسَبِّبًا فِي
أَنْ تَكْذِبَ الْعَامَّةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ : هَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ السُّنَنِ وَالتَّسَبُّبُ فِي
الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ ، وَأَمَّا مَا يَعُمُّ الْعَالِمَ وَالْجَاهِلَ
فَمِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ فِعْلَ الْبِدَعِ مِمَّا يُغْرِي الْمُبْتَدَعِينَ
الْوَاضِعِينَ عَلَى وَضْعِهَا وَافْتِرَائِهَا وَالْإِغْرَاءُ بِالْبَاطِلِ ، وَالْإِعَانَةُ
عَلَيْهِ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ وَإِطْرَاحُ الْبِدَعِ وَالْمَوْضُوعَاتِ
زَاجِرٌ عَنْ وَضْعِهَا وَابْتِدَاعِهَا وَالزَّجْرُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ مِنْ
أَعْلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ
.
الثَّانِي :
أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ السُّكُونِ فِي
الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهَا تَعْدَادَ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ اثْنَتَيْ
عَشْرَةَ مَرَّةً وَتَعْدَادَ سُورَةِ الْقَدْرِ وَلَا يَتَأَتَّى عَدُّهُ فِي
الْغَالِبِ إلَّا بِتَحْرِيكِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ فَيُخَالِفُ السُّنَّةَ فِي تَسْكِينِ
أَعْضَائِهِ .
الثَّالِثُ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ خُشُوعِ
الْقَلْبِ وَخُضُوعِهِ وَحُضُورِهِ فِي الصَّلَاةِ وَتَفْرِيغِهِ لِلَّهِ
وَمُلَاحَظَةِ جَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَالْوُقُوفِ عَلَى مَعَانِي الْقِرَاءَةِ
وَالْأَذْكَارِ فَإِنَّهُ إذَا لَاحَظَ عَدَدَ السُّوَرِ بِقَلْبِهِ كَانَ
مُلْتَفِتًا عَنْ اللَّهِ مُعْرِضًا عَنْهُ بِأَمْرٍ لَمْ يُشْرَعْ فِي الصَّلَاةِ
وَالِالْتِفَاتُ بِالْوَجْهِ قَبِيحٌ شَرْعًا ، فَمَا الظَّنُّ بِالِالْتِفَاتِ
عَنْهُ بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ
النَّوَافِلِ ، فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْبُيُوتِ
أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسَاجِدِ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّرْعُ
كَصَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَالْكُسُوفِ ، وَقَدْ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي
الْمَسْجِدِ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ
} .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِسُنَّةِ
الِانْفِرَادِ بِالنَّوَافِلِ فَإِنَّ السُّنَّةَ فِيهَا الِانْفِرَادُ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ
الشَّارِعُ وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبِدْعَةُ الْمُخْتَلَقَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ السُّنَّةَ فِي
تَعْجِيلِ الْفِطْرِ إذْ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَزَالُ
أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ } .
السَّابِعُ :
أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلسُّنَّةِ فِي تَفْرِيغِ
الْقَلْبِ عَنْ الشَّوَاغِلِ الْمُقْلِقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ ،
فَإِنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ يَدْخُلُ فِيهَا ، وَهُوَ جَوْعَانُ ظَمْآنُ وَلَا سِيَّمَا
فِي أَيَّامِ الْحَرِّ الشَّدِيدِ
.
وَالصَّلَوَاتُ الْمَشْرُوعَةُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَعَ
وُجُودِ شَاغِلٍ يُمْكِنُ دَفْعُهُ
.
الثَّامِنُ :
أَنَّ سَجْدَتَيْهَا مَكْرُوهَتَانِ فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ
لَمْ تَرِدْ بِسَجْدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ لَا سَبَبَ لَهَا ، فَإِنَّ الْقُرَبَ لَهَا أَسْبَابٌ
وَشَرَائِطُ وَأَوْقَاتٌ وَأَرْكَانٌ لَا تَصِحُّ بِدُونِهَا فَكَمَا لَا
يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَمُزْدَلِفَةَ
وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ غَيْرِ
نُسُكٍ وَاقِعٍ فِي وَقْتِهِ بِأَسْبَابِهِ وَشَرَائِطِهِ فَكَذَلِكَ لَا
يَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِسَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ مُنْفَرِدَةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ قُرْبَةً
إلَّا إذَا كَانَ لَهَا سَبَبٌ صَحِيحٌ ؛ وَلِذَلِكَ يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ
تَعَالَى بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ وَرُبَّمَا
تَقَرَّبَ الْجَاهِلُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا هُوَ مُبْعِدٌ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ
لَا يَشْعُرُونَ .
التَّاسِعُ : لَوْ كَانَتْ السَّجْدَتَانِ مَشْرُوعَتَيْنِ
لَكَانَ مُخَالِفًا لِلسُّنَّةِ فِي خُشُوعِهِمَا وَخُضُوعِهِمَا بِمَا يَشْتَغِلُ
بِهِ مِنْ عَدِّ التَّسْبِيحِ فِيهِمَا بِبَاطِنِهِ أَوْ بِظَاهِرِهِ أَوْ
بِبَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ .
الْعَاشِرُ :
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَخُصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ
اللَّيَالِيِ وَلَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ
الْأَيَّامِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ } ، وَهَذَا
الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ الْحَادِيَ
عَشَرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِيمَا اخْتَارَهُ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَذْكَارِ السُّجُودِ فَإِنَّهُ { لَمَّا
نَزَلَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { سَبِّحْ اسْمَ
رَبِّك الْأَعْلَى } قَالَ اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ } .
وَقَوْلُ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ إنْ صَحَّتْ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصِحَّ أَنَّهُ أَفْرَدَهَا
بِدُونِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى ، وَلَا أَنَّهُ وَظَّفَهَا عَلَى أُمَّتِهِ
وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُوَظِّفُ إلَّا الْأَوْلَى مِنْ الذِّكْرَيْنِ .
وَفِي قَوْلِ سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى مِنْ
الثَّنَاءِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ابْتِدَاعِ هَذِهِ الصَّلَاةِ
أَنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ
مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي التَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ
دَوَّنَ الْكُتُبَ فِي الشَّرِيعَةِ مَعَ شِدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى تَعْلِيمِ النَّاسِ
الْفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ
هَذِهِ الصَّلَاةَ وَلَا دَوَّنَهَا فِي كِتَابِهِ وَلَا تَعَرَّضَ لَهَا فِي
مَجْلِسِهِ وَالْعَادَةُ تُحِيلُ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا سُنَّةً وَتَغِيبُ
عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَعْلَامُ الدِّينِ وَقُدْوَةُ الْمُؤْمِنِينَ
وَهُمْ الَّذِينَ إلَيْهِمْ الرُّجُوعُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ مِنْ
الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ .
وَهَذِهِ الصَّلَاةُ لَا يُصَلِّيهَا أَهْلُ الْمَغْرِبِ
الَّذِينَ شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَائِفَةٍ
مِنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ .
وَكَذَلِكَ لَا تُفْعَلُ بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ
بِالسُّنَّةِ وَلَمَّا صَحَّ عِنْدَ السُّلْطَانِ الْمَلِكِ الْكَامِلِ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُفْتَرَيَاتِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْطَلَهَا مِنْ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ
فَطُوبَى لِمَنْ تَوَلَّى شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَأَعَانَ عَلَى
إمَاتَةِ الْبِدَعِ وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ .
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الصَّلَاةُ
خَيْرُ مَوْضُوعٍ }
فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِصَلَاةٍ لَا تُخَالِفُ الشَّرْعَ
بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ وَأَيُّ خَيْرٍ فِي مُخَالَفَةِ
الشَّرِيعَةِ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ
وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ } وَفَّقْنَا اللَّهُ لِلْإِجَابَةِ وَالِاتِّبَاعِ وَجَنَّبَنَا
الزَّيْغَ وَالِابْتِدَاعَ .
وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ تَصَدَّيَا
لِلْفُتْيَا مَعَ بُعْدِهِمَا عَنْهَا سَعَيَا فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الصَّلَاةِ
وَأَفْتَيَا بِتَحْسِينِهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِمَّا عُهِدَ مِنْ
خَطَئِهِمَا وَزَلَلِهِمَا فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا فَمَا حَمَلَهُمَا عَلَى
ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمَا قَدْ صَلَّيَاهَا مَعَ النَّاسِ مِنْ جَهْلِهِمَا بِمَا
فِيهَا مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ فَخَافَا وَفَرَّقَا إنْ نَأَيَا عَنْهَا أَنْ يُقَالَ
لَهُمَا فَلِمَ صَلَّيْتُمَاهَا فَحَمَلَهُمَا اتِّبَاعُ الْهَوَى عَلَى أَنْ
حَسَّنَا مَا لَمْ تُحَسِّنْهُ الشَّرِيعَةُ الْمُطَهَّرَةُ نُصْرَةً لِهَوَاهُمَا
عَلَى الْحَقِّ وَلَوْ أَنَّهُمَا رَجَعَا إلَى الْحَقِّ وَآثَرَاهُ عَلَى
هَوَاهُمَا وَأَفْتَيَا بِالصَّوَابِ لَكَانَ الرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ أَوْلَى
مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَزْعُمُ
أَنَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَيُفْتِي بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ مَوْضُوعَةٌ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يُسَوِّغُ مُوَافَقَةَ وُضَّاعِهَا
عَلَيْهَا وَهَلْ ذَلِكَ إلَّا إعَانَةٌ لِلْكَذَّابِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ اتَّبَعَ الْهَوَى ضَلَّ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ ثُمَّ أَفْتَيَا بِصِحَّتِهَا مَعَ
اخْتِلَافِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِحَّةِ مِثْلِهَا
، فَإِنَّ مَنْ نَوَى صَلَاةً وَوَصَفَهَا فِي نِيَّتِهِ بِصِفَةٍ فَاخْتَلَفَتْ
تِلْكَ الصِّفَةُ فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ مِنْ أَصْلِهَا أَوْ تَنْعَقِدُ
نَفْلًا فِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ وَهَذِهِ الصَّلَاةُ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ،
فَإِنَّ مَنْ يُصَلِّيهَا يَعْتَقِدُ أَنَّهَا مِنْ
السُّنَنِ الْمُوَظَّفَةِ الرَّاتِبَةِ
.
وَهَذِهِ الصِّفَةُ مُتَخَلِّفَةٌ عَنْهَا ، فَأَقَلُّ
مَرَاتِبِهَا أَنْ تَجْرِيَ عَلَى الْخِلَافِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى
آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صَلَاةِ
الرَّغَائِبِ ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الصَّلَاةِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا
فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَالْكَلَامُ عَلَيْهَا كَالْكَلَامِ عَلَى
مَا سَبَقَ مِنْ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي الْمَنْعِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَحْدَثُوهُ
مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ قَبْلُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَلَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ
عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَبِيرًا
اعْلَمْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ النِّيَّةَ
النَّافِعَةَ هِيَ أَنْ يَقْصِدَ الْمَرْءُ بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى
سَوَاءٌ كَانَتْ النَّفْسُ تُحِبُّ ذَلِكَ وَتَشْتَهِيهِ أَوْ تَبْغَضُهُ وَتَقْلِيهِ
فَإِنَّ السُّنَّةَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ تَرِدْ بِمُخَالَفَةِ النَّفْسِ
عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ بِاتِّبَاعِهَا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَأَنَّهَا مَحْكُومٌ
عَلَيْهَا لَا حَاكِمَةٌ مَأْمُورَةٌ لَا آمِرَةٌ .
فَإِنْ صَادَفَ الِامْتِثَالُ غَرَضَهَا وَاخْتِيَارَهَا
وَشَهْوَتَهَا لَمْ يَضُرَّ الْعَامِلَ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ
فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } فَإِذَا تَزَوَّجَ الْإِنْسَانُ
لِأَجْلِ هَذَا الْغَرَضِ كَانَ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ وَالْمُمْتَثِلُ فِي
أَجَلِّ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ
.
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ
عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ
الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ } فَقَدْ سَوَّى رَسُولُ
اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ النَّاكِحِ الْمُتَعَفِّفِ وَالْمُجَاهِدِ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي إعَانَةِ اللَّهِ لَهُمْ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { يُؤْجَرُ أَحَدُكُمْ حَتَّى فِي بُضْعِهِ لِامْرَأَتِهِ .
قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا
شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ مَأْجُورًا قَالَ أَرَأَيْتُمْ إنْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ
أَكَانَ مَأْثُومًا .
قَالُوا نَعَمْ .
قَالَ كَذَلِكَ إذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ يَكُونُ
مَأْجُورًا } أَوْ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْإِخْلَاصَ
لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ لَا تَكُونَ فِيهِ
شَهْوَةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى فِعْلِ الْعَمَلِ بَلْ
يُشْتَرَطُ فِيهِ شَرْطٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حُظُوظُ النَّفْسِ
وَشَهَوَاتُهَا تَابِعَةً لِلنِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَتَكُونَ النِّيَّةُ
جَمِيعُهَا مُتَوَجِّهَةً لِمُجَرَّدِ الْعِبَادَةِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يُؤْمِنُ
أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ } أَلَا تَرَى إلَى فِعْلِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ صَائِمًا
وَرَأَى مِنْ إحْدَى جَوَارِيهِ بِالنَّهَارِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ مِنْهُنَّ إذَا
غَرَبَتْ الشَّمْسُ جَامَعَ وَاغْتَسَلَ وَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
يُفْطِرُ مَعَ أَنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ إذَا
فَاتَتْهُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ مَعَ الْإِمَامِ يُعْتِقُ رَقَبَةً فَلَوْلَا
الْفَضِيلَةُ الْعَظِيمَةُ وَالنِّيَّةُ الْحَسَنَةُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ فِي
الْبُدَاءَةِ بِالْوَطْءِ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ لَمَا فَعَلَهُ فَدَلَّ ذَلِكَ
عَلَى أَنَّ شَهْوَةَ الْإِنْسَانِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا بِطَبْعِهِ لَا
تَقْدَحُ فِي نِيَّتِهِ أَلْبَتَّةَ فَلَوْ فُرِضَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَأْتِي
بِعَمَلٍ إلَّا إذَا كَانَ سَالِمًا مِنْ دَوَاعِي النَّفْسِ وَخَوَاطِرِهَا
لَكَانَ هَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ عَلَى الْأُمَّةِ فِي
أَمْرِ دِينِهَا .
وَقَدْ رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ
الْأُمَّةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
.
قَالَ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ : { يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَقَالَ تَعَالَى { لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وَرَوَى الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي
مُوسَى { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً فَرَفَعَ
إلَيْهِ رَأْسَهُ وَمَا رَفَعَ إلَيْهِ رَأْسَهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا
فَقَالَ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَمِنْ الْعُتْبِيَّةِ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ عَنْ
ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ { أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ إلَّا
مُقَاتِلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ طَبِيعَةً وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ رِيَاءً
وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَاتِلُ احْتِسَابًا فَأَيُّ هَؤُلَاءِ الشَّهِيدُ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَقَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ مَنْ قَاتَلَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
هَذِهِ الْخِصَالِ أَصْلُ أَمْرِهِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَقُتِلَ فَهُوَ شَهِيدٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ } قَالَ ابْنُ رُشْدٍ : رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ لَهُ هَذَا حَدِيثٌ فِيهِ نَصٌّ جَلِيٌّ
عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ عَمَلِهِ لِلَّهِ وَعَلَى ذَلِكَ عَقَدَ نِيَّتَهُ
لَمْ تَضُرَّهُ الْخَطَرَاتُ الَّتِي تَقَعُ بِالْقَلْبِ وَلَا تُمْلَكُ عَلَى مَا
قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يُحِبُّ
أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ وَيَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي طَرِيقِ
السُّوقِ فَقَالَ إذَا كَانَ أَوَّلُ ذَلِكَ وَأَصْلُهُ لِلَّهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ } وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِابْنِهِ : لَأَنْ تَكُونَ
قُلْتهَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا إذْ أَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ وَقَعَ
فِي قَلْبِهِ مِنْ أَنَّ الشَّجَرَةَ الَّتِي مَثَّلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَسَأَلَ أَصْحَابَهُ عَنْهَا
فَوَقَعُوا فِي شَجَرِ الْبَوَادِي هِيَ النَّخْلَةُ .
قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَيُّ شَيْءٍ هَذَا
إلَّا أَمْرٌ يَكُونُ فِي الْقَلْبِ لَا يُمْلَكُ وَذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ
الشَّيْطَانِ لِيَمْنَعَهُ مِنْ الْعَمَلِ فَمَنْ وَجَدَ ذَلِكَ فَلَا يُكْسِلُهُ
عَنْ التَّمَادِي عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ وَلَا يُؤْيِسُهُ مِنْ الْأَجْرِ
وَلِيَدْفَعْ الشَّيْطَانَ عَنْ نَفْسِهِ مَا اسْتَطَاعَ وَيُجَرِّدْ النِّيَّةَ
لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَرُوِيَ
أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {
إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ نُفُوسَهَا مَا لَمْ يَنْطِقْ
بِهِ لِسَانٌ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ يَدٌ } وَيُوَضِّحُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْرٍ .
فَقَالَ رَجُلٌ إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ
ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً قَالَ إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ
الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطْرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ } قَالَ الْعُلَمَاءُ
بَطْرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ .
فَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ الشَّهَوَاتِ إذَا
كَانَتْ تَابِعَةً لِلِامْتِثَالِ كَانَ صَاحِبُهَا مُمْتَثِلًا .
وَقَدْ ضَيَّقَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ فَقَالَ
إنَّ النِّيَّةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ وَرَأَى أَنَّهُ إنْ جَامَعَ
أَوْ فَعَلَ مَا تَسْتَلِذُّهُ النَّفْسُ وَغَيْرَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ أَنَّ
ذَلِكَ يَكُونُ قَدْحًا فِي نِيَّتِهِ
.
وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدِلَّةِ يَرُدُّهُ
وَلِمَعْنًى آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ قِيلَ بِهِ جَاءَ مِنْهُ تَكْلِيفُ مَا
لَا يُطَاقُ وَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمِ الْمُتَّفَقِ
عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْقُنُوطُ وَالْإِيَاسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمِنْ عَمَلٍ
يَتَخَلَّصُ لِلْعَبْدِ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ
الْعِزَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ { لَوْ كُنْت مُعَجِّلًا عُقُوبَةً
لَعَجَّلْتهَا عَلَى الْقَانِطِينَ مِنْ رَحْمَتِي } فَيَدْخُلُ الْمُكَلَّفُ فِي
الْعَمَلِ عَلَى تَحْقِيقِ تَخْلِيصِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى لِكَيْ يَسْلَمَ مِنْ
الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ فِيهِ فَيَقَعُ فِي هَذَا الْوَعِيدِ الْعَظِيمِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ مِنْ بَلَائِهِ
بِمَنِّهِ .
وَالشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ سَهْلَةٌ سَمْحَةٌ
عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ
كُلٌّ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَ عِبَادَتِهِ
وَلَمْ يُكَلِّفْهُ مِنْ الْعَمَلِ فَوْقَ طَاقَتِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ { يَسِّرُوا وَلَا
تُعَسِّرُوا } وَقَدْ وَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّهُ قَالَ { إنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدَّيْنَ أَحَدٌ إلَّا
غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا } الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قُدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا
تَسْعَى إذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ فَأَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ
بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَتَرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا لَا وَهِيَ
تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ اللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ
هَذِهِ بِوَلَدِهَا } .
فَإِنْ قِيلَ قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَمَا لِي إلَيْهِنَّ حَاجَةٌ وَأَطَأهُنَّ
وَمَا لِي إلَيْهِنَّ شَهْوَةٌ قِيلَ وَلِمَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
قَالَ رَجَاءَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ ظَهْرِي مِنْ يُكَاثِرُ بِهِ مُحَمَّدٌ
الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اتِّبَاعِهِ
وَمَحَبَّتِهِ لِلِامْتِثَالِ فَرَجَعَتْ شَهَوَاتُهُ كُلُّهَا تَابِعَةً
لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا مَتْبُوعَةً لَهُ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ لَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ لَا تَدْخُلُ
تَحْتَ الِاخْتِيَارِ لَمَا كَانَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْأَعْمَالِ
الِاخْتِيَارِيَّةِ ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ الْإِطْنَابِ فِيهِ .
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ وَالْعُقَلَاءُ مِنْ كُلِّ
طَائِفَةٍ عَلَى التَّكَلُّمِ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْعَمَلِ .
وَلَوْ كَانَتْ النِّيَّةُ ضَرُورِيَّةً وَالْعَمَلُ
اخْتِيَارِيًّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ تَرْجِيحٌ
فَصْلٌ إذَا دَخَلَ الْمُكَلَّفُ فِي عَمَلٍ مِنْ
أَعْمَالِ الْآخِرَةِ فَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ تَابِعًا لِلْعِلْمِ فِيهِ .
كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
الْعِلْمُ إمَامٌ وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ } وَكَمَا قَالَ الْإِمَامُ سَهْلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ الْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا
ارْتَحَلَ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنْ تَتَبُّعِ عَوَائِدِ
كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا رَكَنُوا إلَيْهِ مِنْ أُمُورٍ حَدَثَتْ
عِنْدَهُمْ لَمْ تَكُنْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ مَنُوطٌ
بِالِاتِّبَاعِ لَهُمْ وَتَرْكِ مَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ كَيْفَمَا كَانَ مِنْ
اعْتِقَادٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ قَدْ
نَدَرَ وُقُوعُهُ فَنُظِرَ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِهِمْ وَفَتَاوِيهِمْ
فِيمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ
.
وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْقُوتِ لَهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْتُمْ الْيَوْمَ
فِي زَمَانٍ خَيْرُكُمْ فِيهِ الْمُسَارِعُ وَيَأْتِي بَعْدَكُمْ زَمَانٌ يَكُونُ
خَيْرُكُمْ فِيهِ الْمُتَثَبِّتُ الْمُتَبَيِّنُ يَعْنِي لِبَيَانِ الْحَقِّ
وَالْيَقِينِ فِي الْقَرْنِ الْأَوَّلِ وَلِكَثْرَةِ الشُّبُهَاتِ وَالِالْتِبَاسِ
فِي زَمَانِنَا هَذَا وَدُخُولِ الْمُحْدَثَاتِ مَدَاخِلَ اللَّيْلِ فِي السِّتْرِ
وَقَدْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ إلَّا عَلَى الْفَرْدِ الَّذِي يَعْرِفُ طَرَائِقَ
السَّلَفِ فَيَجْتَنِبُ الْحَدَثَ كُلَّهُ .
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْكُنَ إلَى مَا يَقَعُ لَهُ مِنْ
الْهَوَاتِفِ الَّتِي تَهْتِفُ بِهِ فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ وَمِنْ الرُّجُوعِ
إلَى سَهْوِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي أَشْيَاءَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا الصَّدْرُ
الْأَوَّلُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْكُنُ إلَى رُؤْيَا يَرَاهَا فِي مَنَامِهِ
تَكُونُ مُخَالِفَةً لِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاتِّبَاعِ لَهُمْ .
وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَقَعُ لِبَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا
الزَّمَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَنَامِهِ فِي أَمْرِهِ بِشَيْءٍ أَوْ يَنْهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَيَنْتَبِهُ مِنْ
نَوْمِهِ فَيُقْدِمُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ بِمُجَرَّدِ الْمَنَامِ دُونَ أَنْ
يَعْرِضَهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَعَلَى قَوَاعِدِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ تَعَالَى
فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ } وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ أَيْ : إلَى
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ وَالرَّسُولِ أَيْ : إلَى
الرَّسُولِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَى مَا قَالَهُ
الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا لَا شَكَّ فِيهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ
لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي } عَلَى اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ .
لَكِنْ لَمْ يُكَلِّفْ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ
بِشَيْءٍ مِمَّا يَقَعُ لَهُمْ فِي مَنَامِهِمْ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { رُفِعَ
الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ وَعَدَّ فِيهِمْ النَّائِمَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ } ؛
لِأَنَّهُ إذَا كَانَ نَائِمًا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ فَلَا يَعْمَلُ
بِشَيْءٍ يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ هَذَا وَجْهٌ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْعِلْمَ وَالرِّوَايَةَ
لَا يُؤْخَذَانِ إلَّا مِنْ مُتَيَقِّظٍ حَاضِرِ الْعَقْلِ وَالنَّائِمُ لَيْسَ
كَذَلِكَ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَنَامِ
مُخَالِفٌ لِقَوْلٍ صَاحِبِ
الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ
حَيْثُ قَالَ { تَرَكْت فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ
بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي } وَفِي رِوَايَةٍ وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي .
فَجَعَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النَّجَاةَ
مِنْ الضَّلَالَةِ فِي التَّمَسُّكِ بِهَذَيْنِ الثَّقَلَيْنِ فَقَطْ لَا ثَالِثَ
لَهُمَا ، وَمَنْ اعْتَمَدَ عَلَى مَا يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ فَقَدْ زَادَ لَهُمَا ثَالِثًا
فَعَلَى هَذَا مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
مَنَامِهِ وَأَمَرَهُ بِشَيْءٍ أَوْ نَهَاهُ عَنْ شَيْءٍ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
عَرْضُ ذَلِكَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذْ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إنَّمَا كَلَّفَ أُمَّتَهُ بِاتِّبَاعِهِمَا .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَلَا
فَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } الْحَدِيثَ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ
وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ } وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ،
فَإِذَا عَرَضَهَا عَلَى شَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ
وَافَقَتْهَا عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ ، وَأَنَّ الْكَلَامَ حَقٌّ وَتَبْقَى
الرُّؤْيَا تَأْنِيسًا لَهُ ، وَإِنْ خَالَفَتْهَا عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ
، وَأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي وَقَعَ لَهُ فِيهِ أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ لَهُ فِي
ذِهْنِهِ وَالنَّفْسُ الْأَمَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُوَسْوِسَانِ لَهُ فِي حَالِ
يَقَظَتِهِ فَكَيْفَ فِي حَالِ نَوْمِهِ وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عُلَمَاؤُنَا
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ غَيْرَ مَا مَرَّةٍ نَقْلًا عَنْ الْعُلَمَاءِ إنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا رُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَأَمَرَ بِشَيْءٍ
أَوْ نَهَى عَنْ شَيْءٍ فَالْوَاجِبُ فِيهِ أَنْ يُعْرَضَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى وَسُنَّةِ
نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، فَإِنْ وَافَقَ
عَلِمَ أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ وَأَنَّ الْكَلَامَ حَقٌّ وَتَكُونُ الرُّؤْيَا
تَأْنِيسًا لِلرَّائِي وَبِشَارَةً لَهُ ، وَإِنْ خَالَفَتْ عَلِمَ أَنَّ
الرُّؤْيَا حَقٌّ وَأَنَّ الشَّيْطَانَ أَوْصَلَ إلَى سَمْعِ الرَّائِي غَيْرَ مَا
تَكَلَّمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَوْ كَانَ
الْمَنَامُ مِمَّا يُتَعَبَّدُ بِهِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نَبَّهَ عَلَيْهِ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ وَلَوْ مَرَّةً
وَاحِدَةً كَمَا فَعَلَ فِي غَيْرِهِ
.
وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو زَكَرِيَّا
يَحْيَى النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَوَائِلِ كِتَابِ تَهْذِيبِ
الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ عَلَى خَصَائِصِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ قَالَ وَمِنْهُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآهُ حَقًّا
فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُعْمَلُ
بِمَا يَسْمَعُهُ الرَّائِي مِنْهُ فِي الْمَنَامِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ
بِالْأَحْكَامِ خِلَافَ مَا اسْتَقَرَّ فِي الشَّرْعِ لِعَدَمِ ضَبْطِ الرَّائِي
لَا لِلشَّكِّ فِي الرُّؤْيَا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ لَا يُقْبَلُ إلَّا مِنْ
ضَابِطٍ مُكَلَّفٍ وَالنَّائِمُ بِخِلَافِهِ فَعَلَى هَذَا فَمَنْ رَأَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامِهِ وَخَاطَبَهُ
وَكَلَّمَهُ وَوَصَلَ إلَى ذِهْنِ الرَّائِي لَفْظٌ أَوْ أَلْفَاظٌ مِنْ
الْعَوَائِدِ الَّتِي هِيَ وَاقِعَةٌ فِي زَمَنِ الرَّائِي أَوْ قَبْلَهُ
وَتَكُونُ مُخَالِفَةً لِشَرِيعَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَلَا
يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ التَّدَيُّنُ بِهَا وَلَا أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ
مَا وَصَلَ إلَى ذِهْنِهِ فِي مَنَامِهِ مِمَّا خَالَفَ الشَّرِيعَةَ
الْمُطَهَّرَةَ أَنَّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ تَنْزِيهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسْبَةِ ذَلِكَ وَمَا شَاكَلَهُ إلَيْهِ وَاجِبٌ مُتَعَيِّنٌ .
إذْ أَنَّ الْعِصْمَةَ فِي رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ إلَّا دُونَ مَا يَكُونُ مِنْ
الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ .
سِيَّمَا وَقَدْ نَقَلَ الْقَرَافِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِ الذَّخِيرَةِ لَهُ قَالَ قَالَ
الْعُلَمَاءُ : لَا تَصِحُّ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَطْعًا إلَّا لِرَجُلَيْنِ صَحَابِيٌّ رَآهُ أَوْ حَافِظٌ لِصِفَتِهِ حِفْظًا
يَحْصُلُ لَهُ مِنْ السَّمَاعِ مَا يَحْصُلُ لِلرَّائِيِّ لَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ الرُّؤْيَا حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِ
مِثَالُهُ مِنْ كَوْنِهِ أَسْوَدَ أَوْ أَبْيَضَ أَوْ شَيْخًا أَوْ شَابًّا إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الرَّائِي الَّتِي تَظْهَرُ فِيهِ كَمَا تَظْهَرُ فِي
الْمِرْآةِ أَحْوَالُ الرَّائِينَ
.
وَتِلْكَ الْأَحْوَالُ صِفَةُ الرَّائِينَ لَا صِفَةُ
الْمِرْآةِ فَإِذَا كَانَتْ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الَّتِي ضَمِنَ فِيهَا عَدَمَ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ عَلَى
الرَّائِي إذَا رَآهَا عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى
صِفَةِ الرَّائِي وَحَالِهِ وَالْجَنَابُ الْكَرِيمُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ
وَأَشْبَاهِهِ فَمَا بَالُك بِسَمَاعِ الْكَلَامِ الَّذِي لَمْ تُضْمَنْ
الْعِصْمَةُ فِيهِ لِلرَّائِي .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّ رُؤْيَا صُورَتِهِ الْكَرِيمَةِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ ضَمِنَتْ الْعِصْمَةَ فِيهَا لِلرَّائِي
فَيُقَاسُ عَلَيْهَا سَمَاعُ الْكَلَامِ .
فَالْجَوَابُ مَا قَدْ عُلِمَ مِنْ الْقَوَاعِدِ
الْمُقَرَّرَةِ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ
آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ وَيُوَسْوِسُ لَهُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ فِي الْيَقَظَةِ
وَالْمَنَامِ فَجَاءَ النَّصُّ فِي عِصْمَتِهِ إذَا رَأَى الرَّائِي صُورَتَهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مَنَامِهِ وَبَقِيَ مَا عَدَا ذَلِكَ عَلَى الْأَصْلِ لَا
يُؤْمَنُ فِيهِ تَلْبِيسُ الشَّيْطَانِ عَلَى الرَّائِي .
وَمِنْ الْإِكْمَالِ لِلْقَاضِي عِيَاضٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَوْلُهُ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي
} وَفِي رِوَايَةٍ { فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي
لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِي صُورَتِي } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { مَنْ
رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ } قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَلَفَ
الْمُحَقِّقُونَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَذَهَبَ الْقَاضِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى
أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآنِي فِي
الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي } أَنَّهُ رَأَى الْحَقَّ وَأَنَّ رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ
أَضْغَاثًا وَلَا مِنْ تَشْبِيهَاتِ الشَّيْطَانِ وَعَضَّدَ مَا قَالَهُ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ { مَنْ رَآنِي
فَقَدْ رَأَى الْحَقَّ } إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَا أُرِيدَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ
مِنْ الْمَنَامِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي } إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ
رُؤْيَاهُ لَا تَكُونُ أَضْغَاثًا ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَقًّا .
وَقَدْ يَرَاهُ الرَّائِي عَلَى غَيْرِ صِفَتِهِ الْمَنْقُولَةِ
إلَيْنَا كَمَا لَوْ رَآهُ شَيْخًا أَبْيَضَ اللِّحْيَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِ
لَوْنِهِ أَوْ يَرَاهُ رَائِيَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ أَحَدُهُمَا بِالْمَشْرِقِ
وَالْآخَرُ بِالْمَغْرِبِ وَيَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَهُ فِي مَكَانِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى
ظَاهِرِهِ وَالْمُرَادُ أَنَّ مَنْ رَآهُ فَقَدْ أَدْرَكَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا عَقْلَ يُحِيلُهُ
حَتَّى يَضْطَرَّ إلَى صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَأَمَّا الِاعْتِلَالُ
بِأَنَّهُ يُرَى عَلَى خِلَافِ صُورَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَفِي مَكَانَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ مَعًا فَإِنَّ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي صِفَاتِهِ وَتَخَيُّلٌ لَهَا
عَلَى غَيْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ
.
وَقَدْ تُظَنُّ بَعْضُ الْخَيَالَاتِ مَرْئِيَّاتٍ لِكَوْنِ
مَا يُتَخَيَّلُ مُرْتَبِطًا بِمَا يُرَى فِي الْعَادَةِ فَتَكُونُ ذَاتُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْئِيَّةً وَصِفَاتُهُ مُتَخَيَّلَةً غَيْرَ
مَرْئِيَّةٍ فَإِنَّ الْإِدْرَاكَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَحْدِيقُ الْأَبْصَارِ
وَلَا قُرْبَ الْمَسَافَاتِ وَلَا كَوْنَ الْمَرْئِيِّ مَدْفُونًا فِي الْأَرْضِ
وَلَا ظَاهِرًا عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ مَوْجُودًا وَلَمْ
يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى فَنَاءِ جِسْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ
جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ اخْتِلَافُ
الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ بِمُرَاءَاتِهَا الدَّلَالَاتِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْمَانِيُّ فِي بَابِ رُؤْيَا
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ وَقَدْ جَاءَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إذَا رُئِيَ شَيْخًا فَهُوَ عَامُ سِلْمٍ ، وَإِذَا رُئِيَ شَابًّا
فَهُوَ عَامُ حَرْبٍ .
وَكَذَلِكَ أَحَدُ جَوَابِهِمْ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ رُئِيَ آمِرًا بِقَتْلِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ قَتْلُهُ فَإِنَّ
ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْمُتَخَيَّلَةِ لَا الْمَرْئِيَّةِ وَجَوَابُهُمْ
الثَّانِي مَنْعُ وُقُوعِ مِثْلِ هَذِهِ وَلَا وَجْهَ عِنْدِي لِمَنْعِهِمْ
إيَّاهُ مَعَ قَوْلِهِمْ بِتَخَيُّلِ الصِّفَاتِ .
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ
مَعْنَى قَوْلِهِ فَقَدْ رَآنِي فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِي فَقَدْ
رَأَى الْحَقَّ إذَا رَأَوْهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي
حَيَاتِهِ لَا عَلَى صِفَةٍ مُضَادَّةٍ لِحَالِهِ فَإِنْ رُئِيَ عَلَى غَيْرِ
هَذَا كَانَتْ رُؤْيَا تَأْوِيلٍ لَا رُؤْيَا حَقِيقِيَّةٍ فَإِنَّ مِنْ الرُّؤْيَا
مَا يَخْرُجُ عَلَى وَجْهِهِ وَمِنْهَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلٍ وَعِبَارَةٍ .
ثُمَّ قَالَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ
رُؤْيَا اللَّهِ فِي الْمَنَامِ ، وَإِنْ رُئِيَ عَلَى صِفَةٍ لَا تَلِيقُ
بِجَلَالِهِ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ لِتَحَقُّقِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَرْئِيَّ
غَيْرُ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّجْسِيمُ وَلَا
اخْتِلَافُ الْحَالَاتِ بِخِلَافِ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَكَانَتْ رُؤْيَاهُ تَعَالَى كَسَائِرِ أَنْوَاعِ
الرُّؤْيَا مِنْ التَّمْثِيلِ وَالتَّخْيِيلِ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : رُؤْيَا اللَّهِ
تَعَالَى فِي النَّوْمِ أَوْهَامٌ وَخَوَاطِرُ فِي الْقَلْبِ بِأَمْثَالٍ لَا
تَلِيقُ بِهِ فِي الْحَقِيقَةِ وَيَتَعَالَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا
وَهِيَ دَلَالَاتٌ لِلرَّائِي عَلَى أُمُورٍ مِمَّا كَانَ وَيَكُونُ كَسَائِرِ
الْمَرْئِيَّاتِ .
قَالَ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي
الْيَقَظَةِ أَوْ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ } فَإِنْ كَانَ
الْمَحْفُوظُ فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ فَتَأْوِيلُهُ مَأْخُوذٌ مِمَّا
تَقَدَّمَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْفُوظُ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ فَيَحْتَمِلُ
أَنْ يُرِيدَ أَهْلَ عَصْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ إذَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَاهُ فِي الْيَقَظَةِ
وَيَكُونُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُؤْيَا الْمَنَامِ عَلَمًا عَلَى
رُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ وَأَوْحَى بِذَلِكَ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَقِيلَ مَعْنَاهُ يَرَى تَصْدِيقَ
تِلْكَ الرُّؤْيَا فِي الْيَقَظَةِ وَصِحَّتَهَا .
وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ
فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ أَيْ : فِي الْآخِرَةِ إذْ يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ
جَمِيعُ أُمَّتِهِ مَنْ رَآهُ وَمَنْ لَمْ يَرَهُ .
وَقَالَ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَبْعُدُ
عِنْدِي أَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِهَذَا وَأَنْ تَكُونَ رُؤْيَاهُ فِي النَّوْمِ عَلَى
الصِّفَةِ الَّتِي عُرِفَ بِهَا وَوُصِفَ عَلَيْهَا مُوجِبَةً لِكَرَامَتِهِ فِي
الْآخِرَةِ وَرُؤْيَتُهُ إيَّاهُ رُؤْيَةً خَاصَّةً مِنْ الْقُرْبِ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق