ج9وج10.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ
مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ
فَإِنَّ لَهُ سَطْوَةً ،
وَسُلْطَانًا يَزِيدُ الْكَاذِبَ كَذِبًا ، وَيُفْسِدُ عَلَى الصَّادِقِ صِدْقُهُ
فَلَا تُظْهِرْ الْخَوْفَ مِنْ قَلْبِك ، وَلَا تُظْهِرْ قِلَّةَ الْخَوْفِ
فَإِنَّ إظْهَارَ قِلَّةِ الْخَوْفِ هُوَ مِنْ قِلَّةِ الْخَوْفِ ، وَهَذَا بَابٌ
فِيهِ فَسَادُ الْعَمَلِ كَبِيرٌ ، وَهُوَ رِيَاءٌ فِيهِ لُطْفٌ ، وَلَهُ
حَلَاوَةٌ ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَقُولَ ، وَاحُزْنَاه عَلَى الْحُزْنِ ، وَأَخَافُ
أَنْ لَا أَكُونَ أَخَافُ ، وَاحُزْنَاه عَلَى الْأَحْزَانِ فَإِنَّ هَذِهِ
أَشْيَاءُ مِنْ دَقَائِقِ مَدَاخِلِ إبْلِيسَ ، وَاَللَّهُ سَائِلُكَ عَنْ
بُكَائِكَ ، وَإِظْهَارِكَ الْخَوْفَ ، وَالْحُزْنَ ، وَإِظْهَارِكَ أَنَّك لَسْت
بِحَزِينٍ ، وَإِظْهَارِك أَنَّك لَا تَخَافُ ، وَمَا تُظْهِرُ مِنْ الِانْكِسَارِ
، وَالتَّوَاضُعِ ، وَإِظْهَارِك الْهَمَّ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ ، وَذَمِّك نَفْسَك
، وَمَاذَا أَرَدْت بِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلِإِبْلِيسَ فِي هَذِهِ الْخِصَالِ
مَذَاهِبُ تَلْتَبِسُ عَلَى كَثِيرِ مِنْ النَّاسِ ، وَهِيَ تُنْسَبُ إلَى خُشُوعِ
النِّفَاقِ فَإِنْ كُنْت صَادِقًا فِيهَا فَاحْذَرْ إبْلِيسَ عِنْدَهَا ، وَفِي
وَقْتِهَا حَذَرًا شَدِيدًا ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَانْظُرْ كَيْفَ يَكُونُ احْتِمَالُك إذَا قَالَ لَك غَيْرُك
: مَا تَقُولُهُ أَنْتَ لِنَفْسِك مِنْ الذَّمِّ ، وَالْوَقِيعَةِ فِيهَا حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَك عِنْدَ ذَلِكَ أَصَادِقٌ أَنْتَ فِي فِعْلِك أَمْ كَاذِبٌ ؟
فَإِذَا كَانَ بَاطِنُك كَظَاهِرِك لَمْ تُبَالِ كَيْفَ كَانَ أَمْرُك ، وَقُمْ
عَلَى بَاطِنِك أَشَدَّ مِنْ قِيَامِك عَلَى ظَاهِرِك فَإِنَّهُ الْمَوْضِعُ
الَّذِي فِيهِ اللَّهُ مُطَّلِعٌ فَنَظِّفْهُ ، وَزَيِّنْهُ لِيَنْظُرَ اللَّهُ
إلَيْهِ أَشَدَّ مَا تُزَيِّنُ ظَاهِرَك لِنَظَرِ غَيْرِهِ فَافْهَمْ مَا أَقُولُ
لَك بِعِنَايَةٍ مِنْك ، وَقَبُولٍ
.
وَاعْلَمْ أَنَّ فَرَائِضَ جَوَارِحِك إنَّمَا تَقُومُ
بِفَرَائِض قَلْبِك ، وَاعْلَمْ أَنَّ النِّيَّةَ ، وَالصِّدْقَ ، وَالْإِخْلَاصَ
فَرِيضَةٌ تُقَامُ بِهَا الْفَرَائِضُ ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهَا الْأَعْمَالُ ،
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ فَرِيضَةٌ فَكُلُّ أَمْرٍ فِيهِ مَعْصِيَةٌ فَهُوَ مَرْدُودٌ
، وَمُحَالٌ أَنْ يُتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ بِمَعَاصِيهِ { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ
لُحُومُهَا ، وَلَا دِمَاؤُهَا ، وَلَكِنْ يَنَالُهُ
التَّقْوَى مِنْكُمْ } ، وَاعْلَمْ أَنَّ
اللَّهَ فَرَضَ الْإِرَادَةَ لَهُ بِالْإِيمَانِ ، وَالْأَعْمَالُ يُرَادُ بِهِمَا
وَجْهُهُ فَأَصَابَ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ بِنِيَّتِهِ الْفَرِيضَتَيْنِ جَمِيعًا
الظَّاهِرَةَ ، وَالْبَاطِنَةَ ، وَاعْلَمْ أَنَّك إنْ عَمِلْت بِمَا ، وَصَفْتُ
لَك ثُمَّ عُرِضَتْ عَلَيْك الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا عَلَى أَنْ تُظْهِرَ
حَسَنَاتِك أَوْ تُرَائِيَ بِهَا مَا فَعَلْت .
، وَاعْلَمْ
أَنَّ الْمُرِيدَ فِي تَرْكِ الْمَيْتَةِ يَخَافُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَشْبَعَ
مِنْهَا ، وَيَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَنَالَ مِنْهَا ، وَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا ،
وَيَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَدَّخِرَ مِنْهَا ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَهُوَ
يَخَافُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَعْصِيَهُ فِيمَا أَحَلَّهُ لَهُ ، وَيَخَافُ أَنْ يَشْبَعَ
مِمَّا أَبَاحَهُ لَهُ .
فَمَنْ قَامَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنْ أَهْلِ
الدُّنْيَا فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ مِنْ الزُّهْدِ فِيهَا ، وَأَقَامَ
الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا الَّتِي فِي الدُّنْيَا مَقَامَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّمَا
يَنَالُ مِنْهَا الْبُلْغَةَ عِنْدَمَا اُضْطُرَّ إلَيْهَا ، وَيَخَافُ مِنْ اللَّهِ
إنْ تَرَكَ أَخْذَ تِلْكَ الْبُلْغَةِ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ أَنْ يُعَذَّبَ
عَلَى تَرْكِهَا كَمَا يَخَافُ أَنْ يُعَذَّبَ عَلَى أَخْذِ الْحَرَامِ الْبَيِّنِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَمَامَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا إنَّمَا
هُوَ بِالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَك اللَّهُ بِهِ ، وَالِانْتِهَاءُ عَمَّا نَهَاك
اللَّهُ عَنْهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَقْلِك أَنْ تَأْخُذَ
مَيْتَةً فَتُخَزِّنَهَا ، وَلَا إنْ فَاتَتْ حَزِنْت عَلَيْهَا ، وَلَا إنْ
وَجَدْتهَا فَرِحْتَ بِهَا ؛ لِأَنَّك مِنْهَا عَلَى مَقْتٍ لَهَا بِمَا تَقَذَّرَ
مِنْك لَهَا فَإِذَا خِفْتَ مِنْهَا أَنْ تَنَالَهَا نَفَيْتَ الْمَخَافَةَ
الَّتِي حَلَّتْ بِقَلْبِك حَلَاوَتُهَا ، وَهِيَ الدُّنْيَا فَتَجْتَزِئُ مِنْهَا
بِمَا أَقَامَ صُلْبَكَ ، وَأَدَّيْت بِهِ فَرْضَك ، وَدَعْ مَا سِوَى ذَلِكَ
يُكَابِدُهُ غَيْرُك ، وَاَلَّذِي تَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا يَسِيرُهَا ،
وَهُوَ مَا تَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَك ، وَتُقِيمُ بِهِ صُلْبَك لِأَدَاءِ
فَرَائِضِك ، وَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ
فَهُوَ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمُنْتَهَى طَلَبِ الْآخِرَةِ
تَرْكُ الدُّنْيَا ، وَمُنْتَهَى طَلَبِ الدُّنْيَا جَمْعُ مَا أَحْبَبْت مِنْ
الدُّنْيَا فَإِذَا رَأَيْت نَفْسَك تَأْنَسُ بِقُرْبِ الدِّينَارِ ،
وَالدِّرْهَمِ ، وَتَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِمَا فَاعْلَمْ أَنَّك مُحِبٌّ
لِلدُّنْيَا ، وَمَنْ كَانَ مُحِبًّا لِلدُّنْيَا فَهُوَ قَالٍ لِلْآخِرَةِ .
انْتَهَى
فَصْلٌ فِي الصِّدْقِ ، وَالْعَقْلِ وَاعْلَمْ أَنَّ
الْأَصْلَ الَّذِي يُحْتَرَزُ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إنَّمَا هُوَ
الصِّدْقُ ، وَالْعَقْلُ ، وَالصِّدْقُ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ ، وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِشَأْنِهِمَا ، وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ الْإِمَامُ
يُمْنُ بْنُ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ غَيْرِهِ ،
وَبَيَانٌ تَامٌّ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَاعْلَمْ يَا أَخِي عِلْمًا يَقِينًا
لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الصَّادِقَ لَا يَكْذِبُ أَهْلَهُ ، وَلَا يَأْلُوهُمْ
نُصْحًا فِي ارْتِيَادِهِ لَهُمْ فَإِنَّ أَخَاك مَنْ صَدَقَكَ ، وَنَصَحَك ،
وَإِنْ خَالَفَ صِدْقُهُ ، وَنُصْحُهُ هَوَاك ، وَإِنَّ عَدُوَّك مَنْ كَذَبَك ،
وَغَشَّك ، وَإِنْ وَافَقَ ذَلِكَ هَوَاكَ ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي لَمَّا أَطَلْتُ
الْفِكْرَةَ ، وَصَحَّحْتُ فِي ذَلِكَ النَّظَرَ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ
- بَارِئُ النَّسَمِ ، وَوَلِيُّ النِّعَمِ ، وَمَالِكُ الْأُمَمِ لَمْ
يَخْلُقْنِي ، وَإِيَّاكَ عَبَثًا ، وَلَا هُوَ تَارِكِي ، وَإِيَّاكَ سُدًى ،
وَأَنَّ لِي ، وَلَك مَعَادًا نَقِفُ فِيهِ بَيْنَ يَدَيْ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ
لِلْحُكْمِ بَيْنَنَا ، وَلِلْفَصْلِ فِينَا ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْنِي
وَإِيَّاكَ حِينَ خَلَقَنَا لِهَزْلٍ ، وَلَا لِلَعِبٍ ، وَلَا لِفَنَاءٍ دَائِمٍ
، وَإِنَّمَا خَلَقَنَا لِبَقَاءِ الْأَبَدِ ، وَدَوَامِ النِّعَمِ فِي جِوَارِهِ
، وَجِوَارِ مَلَائِكَتِهِ ، وَأَنْبِيَائِهِ ، أَوْ فِي الشَّقَاءِ الدَّائِمِ
لِلْأَبَدِ فَالْعَاقِلُ مُتَيَقِّظٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ مُسْتَعِدٌّ لِمَا هُوَ صَائِرٌ
إلَيْهِ فَانْتَبَهَ مِنْ رَقْدَتِهِ ، وَأَفَاقَ مِنْ سَكْرَتِهِ فَعَمِلَ ،
وَجَدَّ ، وَأَبْصَرَ فَزَجَرَ النَّفْسَ عَنْ دَارِ الْغُرُورِ الْخَاذِلَةِ
الْخَادِعَةِ الزَّائِلَةِ الَّتِي قَدْ ، وَلَّتْ بِخُدْعَتِهَا ، وَفَتَنَتْ
بِغُرُورِهَا ، وَشَوَّقَتْ بِحُطَامِهَا فَلَمَّا عَرَفَهَا الْعَاقِلُ
الْكَيِّسُ حَقَّ مَعْرِفَتِهَا زَهِدَ فِيهَا ، وَرَغِبَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ ،
وَالسُّرُورِ ، وَتَقَرَّبَ إلَى مَالِكِ الدَّارِ بِجَمِيعِ مَا يُحِبُّ مِمَّا
يُطِيقُ التَّقَرُّبَ بِهِ إلَيْهِ ، وَرَتَّبَ بِبَابِهِ ، وَأَمَّا الْمُغْتَرُّ
بِالدُّنْيَا الْمُؤْثِرُ لِهَوَاهُ فِيهَا فَهُوَ
مُعْتَنِقُهَا .
أَيُّهَا الْمَيِّتُ عَنْ قَرِيبٍ ، وَالْمَبْعُوثُ
بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى دَارِ الْمُقَامَةِ الْمَسْئُولُ عَنْ إقْبَالِهِ ،
وَإِدْبَارِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا الْمَوْقُوفُ عَنْ قَلِيلٍ بَيْنَ يَدَيْ
الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الَّذِي لَا يَجُورُ هَلْ أَعْدَدْتَ لِذَلِكَ الْمَوْقِفِ
حُجَّةً تُدَافِعُ عَنْك أَوْ أَعْدَدْتَ لِلسُّؤَالِ جَوَابًا فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ
{ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ
فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } فَإِيَّاكَ يَا أَخِي ، وَالنُّزُولَ بِمَحَلَّةِ
الْمَخْدُوعِينَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ السَّيِّدَ الْكَرِيمَ نِعَمُهُ كَثِيرَةٌ لَا
تُحْصَى ، وَأَنَّ عَطَايَاهُ كَثِيرَةٌ لَا تُجَازَى ، وَأَنَّ مَوَاهِبَهُ
كَثِيرَةٌ لَا تُكَافَأُ ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي لَمْ أَرَ نِعْمَةً مُتَقَدِّمَةً
مِنْ اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ لِخَلْقِهِ أَفْضَلَ مِنْ نِعْمَةِ الْعَقْلِ
الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ دَلَالَةً لِخَلْقِهِ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ،
وَالْوُصُولَ بِهَا إلَى مَحْضِ الْإِيمَانِ بِهِ ، وَاَلَّذِي أَطْلَعَهُمْ
اللَّهُ بِهِ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمِهِ حَتَّى وَرِثُوا الْبَصَائِرَ ، وَنَفَوْا
بِهِ خَاطَرَ الشَّكِّ ، وَكَابَدُوا ، وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ ، وَمَعَارِيضَ فِتْنَتِهِ
، وَاسْتَضَاءُوا بِنُورِ الْعُقُولِ فِي طَرِيقِ حَيْرَتِهِمْ فَتَجَنَّبُوهَا ،
وَخَرَجُوا مِنْ ظُلْمِ الشَّكِّ ، وَاعْتَقَدُوا بِهَا مَعْرِفَةَ اللَّهِ ،
وَالْإِيمَانَ بِهِ ، وَالْإِخْلَاصَ ، وَالتَّوْحِيدَ ، وَأَفْرَدُوا اللَّهَ
جَلَّ جَلَالُهُ ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ ، وَالْعَظَمَةِ ،
وَالْكِبْرِيَاءِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ اللُّبِّ اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى
خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ ، وَعَلَى خَلْقِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ ، وَأَنَّهُمْ مَوْسُومُونَ
بِسِمَةِ الْفِطْرَةِ ، وَآثَارِ الصَّنْعَةِ ، وَالنَّقْصِ ، وَالزِّيَادَةِ مَعَ
تَغْيِيرِ الْأَحْوَالِ فَأَوَّلُ ابْتِدَاءِ اللَّهِ لَهُمْ أَنْ وَهَبَ لَهُمْ
الْعُقُولَ الَّتِي بِهَا وَصَلُوا إلَى الْإِيمَانِ ، وَبِالْإِيمَانِ وَصَلُوا
إلَى نُورِ الْيَقِينِ ، وَبِنُورِ الْيَقِينِ وَصَلُوا إلَى خَالِصِ التَّفَكُّرِ
، وَبِخَالِصِ
التَّفَكُّرِ وَصَلُوا إلَى اسْتِقَامَةِ الْقُلُوبِ ،
وَبِاسْتِقَامَةِ الْقُلُوبِ وَصَلُوا إلَى الصِّدْقِ فِي الْأَعْمَالِ ،
وَإِخْلَاصِهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَوَرَّثَهُمْ ذَلِكَ الْبَصَائِرَ فِي
قُلُوبِهِمْ فَوَضَحَتْ الْحِكْمَةُ فِي صُدُورِهِمْ ، وَجَرَتْ يَنَابِيعُهَا
عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ فَهَجَمُوا بِفَطِنِ قُلُوبِهِمْ عَلَى غَوَامِضِ الْغُيُوبِ
، وَالْإِرَادَةِ ، وَالْإِخْلَاصِ الَّذِي رُكِّبَ فِيهِمْ ، وَأَدْرَكُوا
بِصَفَاءِ يَقِينِهِمْ غَائِصَ الْفَهْمِ ، وَأَدْرَكُوا بِغَائِصِ فَهْمِهِمْ
الْعِلْمَ الْمَحْجُوبَ فَعَرَفُوا اللَّهَ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ ، وَتَوَكَّلُوا
عَلَيْهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ ، وَسَلَّمُوا إلَيْهِ الْخَلْقَ ، وَالْأَمْرَ
فَصَارَتْ قُلُوبُهُمْ مَعَادِنَ لِصَفَاءِ الْيَقِينِ ، وَبُيُوتًا لِلْحِكْمَةِ
، وَتَوَابِيتَ لِلْعَظَمَةِ ، وَخَزَائِنَ لِلْقُدْرَةِ ، وَيَنَابِيعَ
لِلْحِكْمَةِ فَهُمْ بَيْنَ الْخَلَائِقِ مُقْبِلُونَ ، وَمُدْبِرُونَ ،
وَقُلُوبُهُمْ تَجُولُ فِي الْمَلَكُوتِ ، وَتَتَلَذَّذُ فِي حُجُبِ الْغُيُوبِ ، وَتَخْطُرُ
فِي طُرُقَاتِ الْجَنَّاتِ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ
الْعَظِيمُ الَّذِي مَنْ وَالَاهُ نِعَمَهُ أَغْنَاهُ .
وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنَّ مَنْ صَدَقَ اللَّهَ
أَوْصَلَهُ إلَى الْجَوَلَانِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ بِقَلْبِهِ ، ثُمَّ
يَرْجِعُ إلَيْهِ بِطَرَفِ مَا قَدْ أَفَادَهُ السَّيِّدُ الْكَرِيمُ فَصَارَ
قَلْبُهُ وِعَاءً لِخَيْرٍ لَا يَنْفَدُ ، وَعَجَائِبَ فِكْرٍ لَا تَنْقَضِي ،
وَمَعَادِنَ جَوَاهِرَ لَا تَفْنَى ، وَبُحُورِ حِكْمَةٍ لَا تُنْزَحُ أَبَدًا ،
وَمَعَ ذَلِكَ مَلَكُوا الْجَوَارِحَ ، وَالْأَبْدَانَ ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي
أَنَّ فِي ابْنِ آدَمَ مُضْغَةً إنْ صَلُحَتْ صَلُحَ سَائِرُ جَسَدِهِ ، وَإِنْ فَسَدَتْ
فَسَدَ سَائِرُ جَسَدِهِ ، وَهِيَ الْقَلْبُ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ
حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلِسَانُهُ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ
الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ مِلْكَيَّ الْبَدَنِ ، وَالْجَوَارِحِ ، وَالْقَلْبُ هُوَ
الْمُسَلَّطُ عَلَى اسْتِخْدَامِهِمْ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَعْدِنُ الْعَقْلِ ، وَالْعِلْمِ
، وَالْعِنَايَةِ فَجَمِيعُ الْخَيْرِ ، وَالشَّرِّ مُسْتَوْدَعُ
الْقَلْبِ ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي ، وَجَدْتُ اللِّسَانَ
مُتَرْجِمًا عَنْ الْقَلْبِ إرَادَتَهُ ، وَذَخَائِرَ بَصَائِرِهِ ، وَوَجَدْتُ
الذِّكْرَ جَلَاءً لِصَدَأِ الْقُلُوبِ ، وَتَيَقُّظًا مِنْ وَسَنِ الْأَفْئِدَةِ
، وَاعْلَمْ أَنِّي ، وَجَدْتُ الشُّكْرَ عَلَى مَنْ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِنُورِ
الْعَقْلِ أَكْثَرَ ، وَالْحُجَّةَ عَلَيْهِ آكَدَ فَمِنْ هَاهُنَا أُلْزِمَ
الْحُجَّةَ ، وَانْقَطَعَتْ الْمَعَاذِيرُ مَعَ الْأَعْذَارِ ، وَالْإِنْذَارِ
فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْنَا ، وَعَلَى أَهْل الْعُقُولِ مِنْ خَلْقِهِ
، وَمَا أَعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا أُتِيَ إلَّا مِنْ قِبَلِ تَضْيِيعِ الشُّكْرِ
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَحَدٌ إلَّا ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِنِعْمَةِ
الْعَقْلِ إلَّا قَلِيلٌ .
فَمِنْهُمْ مِنْ حَثَى لَهُ مِنْ الشُّكْرِ ، وَحَثَى
عَلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ الْعَقْلِ دُونَ ذَلِكَ فَشَكَرَ
اللَّهَ عَلَى قَلِيلِ مَا أُعْطِيَ فَزَادَهُ اللَّهُ حَتَّى عَلَا فِي دَرَجَةِ
الْعَقْلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ النِّعْمَةَ فَلَمْ يَأْخُذْهَا بِشُكْرٍ
فَنَقَصَ عَنْ دَرَجَةِ الْعَقْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ أَعْظَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ النِّعْمَةَ فِي الْعَقْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شُكْرُهُ عَلَى
قَدْرِ عَظِيمِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ ، وَالْهَوَى
ضِدَّانِ مُرَكَّبَانِ فِي الْعَبْدِ كَتَرْكِيبِ الْجَوَارِحِ ، وَهُمَا يَعْتَرِكَانِ
فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ اسْتَعْلَى عَلَى صَاحِبِهِ ،
وَاسْتَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَتْ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا بِالْمُسْتَوْلَى
عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ تَبَعًا فَشَكَرَ الْعَبْدُ إذَا كَانَ لِلَّهِ عَلَى
نِعْمَةِ عَقْلِهِ أَنْ يَتْبَعَ دَلَالَةَ عَمَلِهِ ، وَعَقْلِهِ فَيُؤْثِرُ
دَلَالَتَهُمَا ، وَمَا يَدْعُوَانِ إلَيْهِ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ عَظِيمٌ عَلَى قَدْرِ مَا
نَرَى مِنْ غَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْنَا ، وَاسْتِمْكَانِ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِ
عُلَمَائِنَا ، وَجُهَّالنَا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَّا كَذَلِكَ عَزَّ وُجُودُ
الصِّدْقِ عَلَى كَثْرَةِ وُجُودِ مَعْرِفَتِهِ ، وَوَصْفِهِ ، وَقَلَّ الْعَمَلُ
بِهِ ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ ، وَقَدْ
فَشَا الْكَذِبُ ، وَكَثُرَ الرِّيَاءُ ، وَالتَّزَيُّنُ
لِلدُّنْيَا ، وَسُلُوكُ أَوْدِيَةِ الْهَوَى ، وَنُزُولُ أَوْدِيَةِ الْغَفْلَةِ .
وَلَا يُؤْمَنُ السَّبِيلُ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى تِلْكَ
الْغَفْلَةِ فَتَتْلَفُ النَّفْسُ ، وَأَنَّ الْهَوَى قَدْ قَامَ مَقَامَ الْحَقِّ
يُعْمَلُ بِهِ ، وَيُقْضَى بِقَضَائِهِ ، وَيُحْكَمْ بِحُكْمِهِ وَقَامَ سُوءُ
الْأَدَبِ ، وَالْمَكْرُ ، وَالْخَدِيعَةُ مَقَامَ الْعُقُولِ ، وَقَامَتْ الْمُدَاهَنَةُ
مَقَامَ الْمُدَارَاةِ ، وَقَامَ الْغِشُّ مَقَامَ النُّصْحِ ، وَقَامَ الْكَذِبُ
مَقَامَ الصِّدْقِ ، وَقَامَ الرِّيَاءُ مَقَامَ الْإِخْلَاصِ ، وَقَامَ الشَّكُّ
مَقَامَ الْيَقِينِ ، وَقَامَتْ التُّهْمَةُ مَقَامَ الثِّقَةِ ، وَقَامَ
الْأَمْنُ مَقَامَ الْخَوْفِ ، وَقَامَ الْجَزَعُ مَقَامَ الصَّبْرِ ، وَقَامَ
السُّخْطُ مَقَامَ الرِّضَا ، وَقَامَ الْجَهْلُ مَقَامَ الْعِلْمِ ، وَقَامَتْ
الْخِيَانَةُ مَقَامَ الْأَمَانَةِ فَصَارَ مِنْ قِلَّةِ الْأَكْيَاسِ لَا
تُعْرَفُ الْحَمْقَى ، وَمِنْ قِلَّةِ أَهْلِ الصِّدْقِ لَا يُعْرَفُ أَهْلُ
الْكَذِبِ إلَّا عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ ، وَالْعَقْلِ ، وَالْبَصِيرَةِ
فَاعْتَدَلَ النَّاسُ فِي قُبْحِ السَّرِيرَةِ ، وَقِلَّةِ الِاسْتِقَامَةِ فِي
أُمُورِ الْآخِرَةِ إلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا
، وَبَيْنَ النَّقْصِ الَّذِي نَكْرَهُهُ مِنْ أَنْفُسِنَا ، وَحِيلَ بَيْنَنَا ،
وَبَيْنَ أَنْ نَدْخُلَ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي نُحِبُّهَا لِأَنْفُسِنَا
عُقُوبَةً لِقُبْحِ أَسْرَارِنَا فَجَرَيْنَا فِي مَيْدَانِ الْجَهْلِ ، وَغَلَبَ
عَلَيْنَا سُكْرُ حُبِّ الدُّنْيَا فَنَحْنُ نَسْتَبِقُ فِي هَذَيْنِ
السَّبِيلَيْنِ ، وَنَتَنَافَسُ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُمَا فَصَحَّ عِنْدِي
أَنَّ مِنْ الْجَهْلِ بِأَمْرِ اللَّهِ ، وَالِاغْتِرَارِ بِهِ الْقِيَامَ عَلَى
هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَالسَّلَامَةُ مِنْهَا أَيْسَرُ ، وَأَقْرَبُ رُشْدًا ،
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ فِيهِ مَعَ التَّخَلُّصِ
إلَى خُمُولِ الذِّكْرِ أَيْنَمَا كَانَ ، وَطُولِ الصَّمْتِ ، وَقِلَّةِ
الْمُخَالَطَةِ لِلنَّاسِ ، وَالِاعْتِصَامِ بِاَللَّهِ ، وَالْعَضِّ عَلَى
الْكِسَرِ الْيَابِسَةِ ، وَمَا دَنُؤَ مِنْ
اللِّبَاسِ مَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا ، وَالتَّمَسُّكِ
بِالْقُرْآنِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى الشَّدَائِدِ ، وَانْتِظَارِ الْفَرْجِ ، وَاعْلَمْ
أَنِّي قَدْ نَظَرْتُ بِبَحْثِ النَّفْسِ ، وَالْعِنَايَةِ بِهَا فَوَجَدْتُ غَفْلَتَنَا
عَظِيمَةً ، وَخَطَرَنَا عَظِيمًا ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الْخَطَرِ أَعْظَمُ مِنْ
الْخَطَرِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعْظُمُ الْخَطَرُ عِنْدَ أُولِي الْعُقُولِ
فَكُلَّمَا عَظُمَ الْخَطَرُ ، وَعَلِمْتَ أَنَّهُ عَظِيمٌ ، وَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ
الْبَصِيرَةِ حَرَّكَك عَظِيمُ الْخَطَرِ فَانْتَقَلْتَ مِنْ عَظِيمِ الْغَفْلَةِ
إلَى حَالِ التَّيَقُّظِ ، وَلَا حَوْلَ ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ الطَّمَعِ ، وَقُبْحِهِ .
وَقَالَ :
رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا
تَأْذَنَ لِقَلْبِك فِي اسْتِصْحَابِ مَا يَعْسُرُ عَلَيْك طَلَبُهُ ، وَتَخَافَ
إطْفَاءَ نُورِ الْقَلْبِ مِنْ أَجْلِهِ ، وَكُنْ فِي تَأْلِيفِ مَا بَيْنَك ، وَبَيْنَ
اللَّهِ مَحْمُودَ الْعَاقِبَةِ ، وَاقْطَعْ أَسْبَابَ الطَّمَعِ فَيَسْتَرِيحَ
قَلْبُكَ ، وَيَصِيرَ إلَى عِزِّ الْإِيَاسِ ، وَإِمَاتَةِ الطَّمَعِ فَيُسَدُّ
عَلَيْك سَبِيلَ الْفَقْرِ ، وَيَسْكُنُ قَلْبُكَ عَنْ الْعَنَاءِ ، وَيَسْقُطُ
عَنْك بِذَلِكَ الشُّغْلُ بِالْمَخْلُوقِينَ ، وَاسْتَجْلِبْ حَلَاوَةَ
الزَّهَادَةِ بِقَصْرِ الْأَمَلِ ، وَقَطْعِهِ ، وَاطْلُبْ رَاحَةَ الْبَدَنِ
بِإِجْمَاعِ الْقَلْبِ عَلَى عَدَمِ الشُّغْلِ بِرُؤْيَةِ الْمَخْلُوقِينَ
وَتَعَرَّضْ لِرِقَّةِ الْقَلْبِ بِدَوَامِ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الذِّكْرِ مِنْ
أَهْلِ الْعُقُولِ ، وَالْمَعْرِفَةِ ، وَحُسْنِ الْأَدَبِ التَّارِكِينَ
لِفُضُولِ الْكَلَامِ فَإِنَّ بِمُجَالَسَةِ هَؤُلَاءِ يَصْفُو الْقَلْبُ ،
وَيَرِقُّ ، وَيَقْدَحُ فِيهِ النُّورُ ، وَتَجْرِي فِيهِ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ
، وَافْتَحْ بَابَ دَوَاعِي الْحُزْنِ إلَى قَلْبِكَ ، وَاسْتَفْتِحْ بَابَهُ
بِطُولِ الْفِكْرِ ، وَاسْتَجْلِبْ الْفِكْرَ بِالتَّوَحُّشِ مِنْ النَّاسِ
فَإِنَّ أَبْوَابَهَا فِي مَوَاطِنِ الْخَلَوَاتِ ، وَتَحَرَّزْ مِنْ إبْلِيسَ بِالْخَوْفِ
الصَّادِقِ ، وَاسْتَعِنْ عَلَى ذَلِكَ بِمُخَالَفَةِ هَوَاك ، وَإِيَّاكَ ،
وَالرَّجَاءَ الْكَاذِبَ فَإِنَّ التَّوَسُّعَ فِيهِ يُنْزِلُك بِمَحَلَّةِ
الْمُصِرِّينَ مِنْ أَهْلِ الْمَكْرِ ، وَالِاسْتِدْرَاجِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ
لِلرَّجَاءِ طُرُقًا تُؤَدِّي إلَى الْأَمْنِ ، وَالْغَفْلَةِ فَإِيَّاكَ أَنْ
تَتَّخِذَهُ مَطِيَّةً لِسَفَرِك ، وَتَخَلَّصْ يَا أَخِي إلَى عَظِيمِ الشُّكْرِ
بِاسْتِكْثَارِ قَلِيلِ الرِّزْقِ مَعَ كَثِيرِ الرِّضَا بِذَلِكَ ، وَاسْتَقْلِلْ
كَثِيرَ الطَّاعَةِ ، وَاسْتَجْلِبْ النِّعَمَ بِعَظِيمِ الشُّكْرِ ، وَاسْتَدْمِ عَظِيمَ
الشُّكْرِ بِخَوْفِ زَوَالِ النِّعَمِ ، وَاطْلُبْ لِنَفْسِك الْعِزَّ بِإِمَاتَةِ
الطَّمَعِ ، وَادْفَعْ ذُلَّ الطَّمَعِ بِعِزِّ الْإِيَاسِ ، وَاسْتَجْلِبْ عِزَّ
الْإِيَاسِ بِبُعْدِ الْهِمَّةِ ، وَاسْتَعِنْ
عَلَى بُعْدِ الْهِمَّةِ بِقَصْرِ الْأَمَلِ ، وَبَادِرْهُ
بِانْتِهَازِ النِّعْمَةِ عِنْدَ إمْكَانِ الْفُرْصَةِ خَوْفَ فَوَاتِ
الْإِمْكَانِ ، وَلَا إمْكَانَ كَالْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ مَعَ صِحَّةِ
الْأَبْدَانِ ، وَاحْذَرْ التَّسْوِيفَ فَإِنَّ دُونَهُ مَا يَقْطَعُ بِك عَنْ
بُغْيَتِك ، وَإِيَّاكَ يَا أَخِي ، وَالتَّفْرِيطَ عِنْدَ إمْكَانِ الْفُرْصَةِ
فَإِنَّهُ مَيْدَانٌ يَجْرِي بِأَهْلِهِ بِالْخُسْرَانِ ، وَإِيَّاكَ ،
وَالثِّقَةَ بِغَيْرِ الْمَأْمُونِ فَإِنَّ لِلشَّرِّ ضَرَاوَةً كَضَرَاوَةِ
الذِّئَابِ ، وَلَا سَلَامَةَ كَسَلَامَةِ الْقَلْبِ ، وَلَا عَمَلَ كَمُخَالَفَةِ
الْهَوَى ، وَلَا مُصِيبَةَ كَمُصِيبَةِ الْعَقْلِ ، وَلَا عَدَمَ كَقِلَّةِ
الْيَقِينِ ، وَلَا جِهَادَ كَجِهَادِ النَّفْسِ ، وَلَا غَلَبَةَ كَغَلَبَةِ
الْهَوَى ، وَلَا قُوَّةَ كَرَدِّك الْغَضَبَ ، وَلَا مَعْصِيَةَ كَحُبِّ
النِّفَاقِ وَإِنَّ حُبَّ الدُّنْيَا مِنْ حُبِّ النِّفَاقِ ، وَلَا طَاعَةَ
كَقِصَرِ الْأَمَلِ ، وَلَا ذُلَّ كَالطَّمَعِ - وَفَّقْنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ لِمَا
إلَيْهِ دَعَانَا ، وَأَعَانَنَا ، وَإِيَّاكَ عَلَى اجْتِنَابِ مَا عَنْهُ
نَهَانَا ، وَلَا حَوْلَ ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
فَصْلٌ فِي التَّزَيُّنِ .
وَقَالَ
: رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : الْعُقُولُ مَعَادِنُ الدِّينِ ،
وَالْعِلْمُ دَلَالَةٌ عَلَى أَعْمَالِ الطَّاعَاتِ ، وَالْمَعْرِفَةُ دَلَالَةٌ
عَلَى آفَاتِ الْأَعْمَالِ ، وَالْبَصَائِرُ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِبَارِ عَوَاقِبِ
الْأُمُورِ أَوْ اخْتِيَارِ مَوَارِدِهَا ، وَتَصْرِيفِ مَصَادِرِهَا ،
وَالتَّزَيُّنُ اسْمٌ لِثَلَاثِ مَعَانٍ فَمُتَزَيِّنٌ بِعِلْمٍ ، وَمُتَزَيِّنٌ
بِجَهْلٍ ، وَمُتَزَيِّنٌ بِتَرْكِ التَّزَيُّنِ ، وَهُوَ أَعْظَمُهَا فِتْنَةً ،
وَأَحَبُّهَا إلَى إبْلِيسَ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَسَاسَ الَّذِي يَنْبَغِي
لِلْمُرِيدِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ دِينَهُ مَعْرِفَتُهُ نَفْسَهُ ، وَزَمَانَهُ
، وَأَهْلَ زَمَانِهِ فَإِذَا عَرَفَ عُيُوبَ نَفْسِهِ ، وَأَرَادَ مَأْخَذًا لِيَسْلَمَ
بِهِ مِنْ شَرِّ نَفْسِهِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فَلْيَبْدَأْ بِالْخَلْوَةِ ،
وَخُمُولِ نَفْسِهِ فَلَعَلَّهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُدْرِكَ بِذَلِكَ الْحُزْنَ فِي
الْقَلْبِ ، وَالْخَوْفَ الَّذِي يُحْتَجَزُ بِهِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ،
وَالشَّوْقَ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ أَمَلَهُ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ ، وَإِلَّا
لَمْ يَزَلْ مُتَحَيِّرًا مُتَلَذِّذًا مُتَزَيِّنًا بِالْكَلَامِ يَأْنَسُ
بِمَجَالِسِ الْوَحْشَةِ ، وَيَثِقُ بِغَيْرِ الْمَأْمُونِ ، وَيَطْمَئِنُّ
لِأَهْلِ الرَّيْبِ ، وَيَحْتَمِلُ أَهْلَ الْمَيْلِ إلَى الدُّنْيَا ،
وَيَغْتَرُّ بِأَهْلِ الْحِرْصِ ، وَالرَّغْبَةِ ، وَيَتَأَسَّى بِأَهْلِ
الضَّعْفِ ، وَيَسْتَرِيحُ إلَى أَهْلِ الْجَهْلِ مَيْلًا مِنْهُ إلَى هَوَاهُ
إلَى أَنْ يَفْجَأَهُ الْمَوْتُ ، وَحُلُولُ النَّدَمِ .
وَإِذَا وَجَدْتَ الْمُرِيدَ الْمُدَّعِيَ لِلْعَمَلِ ،
وَالْمَعْرِفَةِ يَأْنِسُ بِمَنْ يَعْرِفُ ، وَلَا يَهْرُبُ مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ
، وَيَنْبَسِطُ ، وَيُمَكِّنُ نَفْسَهُ مِنْ الْكَلَامِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ مَنْ
يَعْرِفُ فَاتَّهِمْ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ صَادِقًا فِي إرَادَتِهِ أَوْ يَكُونَ
جَاهِلًا بِطَرِيقِ سَلَامَتِهِ أَوْ مَغْلُوبًا عَلَى عَقْلِهِ ، وَعِلْمِهِ
مُسْتَحْوِذًا عَلَيْهِ هَوَاهُ ، - وَمَا التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ
الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - وَاعْلَمْ
يَا أَخِي عِلْمًا يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّا لَمْ
نَبْنِ أَسَاسَ الدِّينِ عَلَى طَلَبِ السَّلَامَةِ فِيهِ مِنْ الْخَطَأِ ، وَلَا
عَلَى حُسْنِ السِّيرَةِ مُنَافِي لِلْأَخْلَاقِ ، وَالْآدَابِ ، وَلَكِنَّا
ابْتَنَيْنَاهُ عَلَى أَسَاسِ الْهَوَى ، وَعَلَى مَا خَفَّ مَحْمَلُهُ عَلَى
قُلُوبِنَا ، وَاسْتَخَفَّتْهُ أَنْفُسُنَا ، وَاسْتَحْلَتْهُ أَلْسِنَتُنَا فَأَمْضَيْنَا
فِيهِ أَعْمَالَنَا طَمَعًا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ التَّقْوَى بِزَعْمِنَا ،
وَدَرْكِنَا حُسْنَ السِّيرَةِ مِنَّا فِي الْأَخْلَاقِ ، وَالْآدَابِ فَنَظَرْنَا
بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِذَا قَدْ رَجَعَتْ عَلَيْنَا أَعْمَالُ إيثَارِ الْهَوَى
بِالنَّقْصِ مِنْ الزِّيَادَة فِي الدِّينِ ، وَبِقُبْحِ السِّيرَةِ مِنَّا فِي
الْأَخْلَاقِ ، وَالْآدَابِ بِنَظَرِنَا لِأُمُورِ الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ فَوَرَّثَنَا
ذَلِكَ الْخَبَّ ، وَالْغِشَّ ، وَالْمُدَاهَنَةَ فَصَيَّرْنَا الْغِشَّ ،
وَالْمُدَاهَنَةَ مُدَارَاةً ، وَصَيَّرْنَا الْخَبَّ عُقُولًا ، وَآدَابًا ،
وَمُرُوآتٍ يَحْتَمِلُ بَعْضُنَا بَعْضَنَا عَلَى ذَلِكَ فَأَعْقَبَنَا ذَلِكَ
تَبَاغُضًا فِي الْقُلُوبِ ، وَتَحَاسُدًا ، وَتَقَاطُعًا ، وَتَدَابُرًا
فَتَحَابَبْنَا بِالْأَلْسُنِ مَعَ الرُّؤْيَةِ ، وَتَبَاغَضْنَا بِالْقُلُوبِ
مَعَ فَقْدِ الرُّؤْيَةِ نَذُمُّ الدُّنْيَا بِالْأَلْسُنِ ، وَنَمِيلُ إلَيْهَا
بِالْقُلُوبِ ، وَنُدَافِعُهَا عَنَّا فِي الظَّاهِرِ بِالْقَوْلِ ، وَنَجُرُّهَا بِالْأَيْدِي
، وَالْأَرْجُلِ فِي الْبَاطِنِ فَأَصْبَحْنَا مَعَ قُبْحِ هَذَا الْوَصْفِ ،
وَسَمَاجَتِهِ لَا نَسْتَأْهِلُ بِهِ خُرُوجًا عَنْ النَّقْصِ ، وَلَا دُخُولًا
فِي الزِّيَادَةِ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَاَللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
وَأَصْحَابُنَا لَا نَجِدُ رَجُلًا صَادِقًا
فَنَتَأَسَّى بِهِ ، وَلَا خَائِفًا فَنَلْزَمُهُ لِلُزُومِهِ لَهُ ، وَلَا
مَحْزُونًا يَعْقِلُ الْحُزْنَ فَنُبَاكِيهِ فَقَدْ صِرْنَا نَتَلَاهَى بِفُضُولِ
الْكَلَامِ ، وَنَأْنَسُ بِمَجَالِسِ الْوَحْشَةِ ، وَنَقْتَدِي بِغَيْرِ
الْقُدْوَةِ مُصِرِّينَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرَ مُقْلِعِينَ ، وَلَا تَائِبِينَ
مِنْهُ ، وَلَا هَارِبِينَ مِنْ مَكْرِ الِاسْتِدْرَاجِ - فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ
مِنْ التَّوَلِّي عَنْ اللَّهِ
،
وَالسُّقُوطِ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ ، وَالشُّغْلِ بِغَيْرِ اللَّهِ - إنَّ اللَّهَ
جَلَّ ذِكْرُهُ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ لِلطَّاعَةِ ثَوَابًا أَيْ مَا وَعَدَ
بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ التَّفَضُّلِ ، وَالْإِحْسَانِ ، وَعَلَى الْمَعْصِيَةِ
عِقَابًا فَالثَّوَابُ لَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ إلَّا مِنْ بَعْدِ
تَصْحِيحِ الْعَمَلِ ، وَتَخْلِيصِهِ مِنْ الْآفَاتِ ، وَتَصْحِيحُ ذَلِكَ ،
وَتَخْلِيصُهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْمَعْرِفَةِ ، وَالِاعْتِزَامِ ،
وَاحْتِمَالِ مُؤْنَتِهِ ، وَتَصْحِيحُ الْعَمَلِ ، وَالِاعْتِزَامُ ،
وَالِاحْتِمَالُ ، وَالصَّبْرُ عَلَى الْعَمَلِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَعْدِ
ثَبَاتِ الْخَوْفِ فِي الْقَلْبِ ، وَالْخَوْفُ لَا يُوجَدُ إلَّا مِنْ بَعْدِ ثَبَاتِ
الْيَقِينِ فِي الْقَلْبِ ، وَثَبَاتُ الْيَقِينِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ بَعْدِ
صِحَّةِ تَرْكِيبِ الْعَقْلِ فِي الْعَبْدِ فَإِذَا صَحَّ تَرْكِيبُ الْعَقْلِ فِي
الْعَبْدِ ، وَثَبَتَ وَقَعَ الْخَوْفُ مِمَّا قَدْ أَيْقَنَ بِهِ فَجَاءَتْ
عَزِيمَةُ الصَّبْرِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَاحْتَمَلَتْ النَّفْسُ حِينَئِذٍ
مُؤْنَةَ الْعَمَلِ طَمَعًا فِي ثَوَابِ مَا قَدْ أَيْقَنَتْ بِهِ عَلَى فِعْلِ
الطَّاعَةِ ، وَرَهْبَةِ عِقَابِ مَا قَدْ أَيْقَنَتْ بِهِ عَلَى فِعْلِ
الْمَعْصِيَةِ فَتَرَكَتْ الْمَعْصِيَةَ ، وَالشَّهْوَةَ هَرَبًا مِنْ
عُقُوبَتِهِمَا ، وَاحْتَمَلَتْ الطَّاعَةَ بِالْإِخْلَاصِ رَجَاءَ ثَوَابِهَا
فَكُلِّفَ الْأَحْمَقُ الْكَيْسَ ، وَلَمْ يُعْذَرْ عَلَى لُزُومِ الْحُمْقِ ، وَكُلِّفَ
الْجَاهِلُ التَّعْلِيمَ ، وَلَمْ يُعْذَرْ عَلَى غَلَبَةِ الْهَوَى ، وَكُلِّفَ
الْعَامِلُ الصِّدْقَ ، وَالْإِخْلَاصَ ، وَالتَّيَقُّظَ فِي عَمَلِهِ ، وَلَمْ
يُعْذَرْ عَلَى الشَّهَوَاتِ ، وَالْغَفْلَةِ ، وَتَرْكِ الْإِخْلَاصِ فِيهِ .
وَكُلِّفَ الْعَاقِلُ الصِّدْقَ فِي قَوْلِهِ ، وَلَمْ
يُعْذَرْ بِالْمَيْلِ إلَى الْكَذِبِ ، وَكُلِّفَ الصَّادِقُ الْمُخْلِصُ
الصَّبْرَ عَنْ ابْتِغَاءِ تَعْجِيلِ ثَوَابِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ
الْمَخْلُوقِينَ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا ، وَالتَّكْرِمَةِ ، وَالتَّعْظِيمِ ،
وَعِنْدَهَا انْقَطَعَ الْعُمَّالُ خَاصَّةً ، وَحَلَّ بِهِمْ الْجَزَعُ ،
وَتَرَكُوا عَزِيمَةَ الصَّبْرِ فِي طَلَبِهِمْ تَعْجِيلَ
ثَوَابِ عَمَلِهِمْ ، وَلَمْ يُؤَخِّرُوا ثَوَابَ الْأَعْمَالِ
لِيَوْمٍ يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَخَدَعَتْهُمْ
الْأَنْفُسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ عِنْدَ سَتْرِ سَرَائِرِ أَعْمَالِهِمْ
حَتَّى أَبْدَوْهَا لِلْمَخْلُوقِينَ بِالْمَعَانِي ، وَالْمَعَارِيضِ ،
وَأَظْهَرُوا الْأَعْمَالَ لِيُعْرَفُوا بِفَضِيلَةِ الْعَمَلِ لِيَزْدَادُوا
عِنْدَ النَّاسِ فَضِيلَةً ، وَرِفْعَةً فَتَعَجَّلَتْ أَنْفُسُهُمْ ذَخَائِرَ أَعْمَالِهِمْ
، وَحَلَاوَةَ سَرَائِرِهِمْ بِحُسْنِ الثَّنَاءِ ، وَالتَّكْرِمَةِ ،
وَالتَّعْظِيمِ ، وَوَطْءِ الْأَعْقَابِ ، وَالرِّيَاسَةِ ، وَالتَّوْسِعَةِ
لَهُمْ فِي الْمَجَالِسِ ، وَأَغْفَلُوا سُؤَالَ اللَّه لَهُمْ فِي عَقَدِهِمْ
لِمَنْ عَمِلُوا ، وَمَاذَا طَلَبُوا فَخَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَأَعْمَالَهُمْ ،
وَخَسَارَةُ مَا هُنَالِكَ بَاقِيَةٌ ، وَنَدَامَةُ مَا هُنَالِكَ طَوِيلَةٌ
لَمَّا وَرَدُوا عَلَى اللَّهِ فَوَجَدُوا عَظِيمَ مَا كَانُوا يُؤَمِّلُونَ مِنْ
ثَوَابِ سَرَائِرِ أَعْمَالِهِمْ الَّتِي عَاجَلُوا فِيهَا أَنْفُسَهُمْ فِي الدُّنْيَا
فَمُنِعُوهَا هُنَالِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا تَعَجَّلُوا ثَوَابَهَا مِنْ
الْمَخْلُوقِينَ ، وَخَرَجُوا مِنْ خَيْرِ أَعْمَالِهِمْ صِفْرَ الْيَدَيْنِ -
فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ - .
مَا أَقْبَحَ الْفَضِيحَةَ بِالْعَالِمِ الْعَامِلِ
الْبَصِيرِ النَّاقِدِ الْعَارِفِ غِبَّ قِلَّةِ الصَّبْرِ ، وَابْتِغَاءَ
تَعْجِيلِ الثَّوَابِ ، وَالْمَيْلِ إلَى الدُّنْيَا ، وَإِيثَارِ شَهَوَاتِهَا ،
وَلَذَّاتِهَا فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ الْحَازِمِ اللَّبِيبِ الْعَالِمِ
الْعَامِلِ الْعَارِفِ الْبَصِيرِ النَّاقِدِ أَنْ يَحْذَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَيَتَّخِذَ
الصَّبْرَ مَطِيَّةً ، وَلَا يَبْغِيَ تَعْجِيلَ الثَّوَابِ هَاهُنَا ، - وَمَا
التَّوْفِيقُ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
فَصْلٌ فِي الْغِيبَةِ ، وَالنَّمِيمَةِ وَقَالَ :
رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ مَخْرَجَ الْغِيبَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَزْكِيَةِ
النَّفْسِ ، وَالرِّضَى عَنْهَا ؛ لِأَنَّك إنَّمَا تَنَقَّصْتَ غَيْرَك
بِفَضِيلَةٍ ، وَجَدْتهَا عِنْدَك ، وَإِنَّمَا اغْتَبْته بِمَا تَرَى أَنَّك
مِنْهُ بَرِيءٌ ، وَلَمْ تَغْتَبْهُ بِشَيْءٍ إلَّا احْتَمَلْتَ فِي نَفْسِك مِنْ الْعَيْبِ
أَكْثَرَ ، وَإِنَّمَا يَقْبَلُهُ مِنْك مِثْلُك فَلَوْ عَقَلْتَ أَنَّ فِيك مِنْ
النَّقْصِ أَكْثَرَ لَحَجَزَك ذَلِكَ عَنْ غِيبَتِهِ ، وَلَاسْتَحْيَيْتَ أَنْ
تَغْتَابَهُ بِمَا فِيك أَكْثَرُ مِنْهُ ، وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّ جُرْمَك عَظِيمٌ
بِغِيبَتِك غَيْرَك ، وَظَنُّكَ أَنَّك مُبَرَّأٌ مِنْ الْعُيُوبِ لَحَجَزَكَ
ذَلِكَ ، وَلَشَغَلَك عَنْ ذَلِكَ ، وَكَيْفَ ، وَإِنَّمَا يَلْقَى الْأَمْوَاتُ
الْأَمْوَاتَ ، وَلَوْ كَانُوا أَحْيَاءَ إذًا مَا احْتَمَلُوا ذَلِكَ مِنْك ،
وَلَتَنَاهَوْا ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَيِّتَ الْأَمْوَاتِ أَحْمَدُ فِي الْعَاقِبَةِ
مِنْ مَيِّتِ الْأَحْيَاءِ ، وَتَفْسِيرُ مَيِّتِ الْأَحْيَاءِ ، أَمْوَاتُ الْقُلُوبِ
، وَهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدُّنْيَا فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ كَثُرَتْ
أَوْزَارُهُ ، وَعَظُمَتْ بَلِيَّتُهُ فَاحْذَرْ يَا أَخِي الْغِيبَةَ كَحَذَرِك
عَظِيمَ الْبَلَاءِ أَنْ يَنْزِلَ بِك فَإِنَّ الْغِيبَةَ إذَا نَزَلَتْ ،
وَثَبَتَتْ فِي الْقَلْبِ ، وَأَذِنَ صَاحِبُهَا لِنَفْسِهِ فِي احْتِمَالِهَا
لَمْ تَرْضَ بِسُكْنَاهَا حَتَّى تُوَسِّعَ لِأَخَوَاتِهَا ، وَهِيَ النَّمِيمَةُ
، وَالْبَغْيُ ، وَسُوءُ الظَّنِّ ، وَالْبُهْتَانُ ، وَالْكِبْرُ ، وَمَا
احْتَمَلَهَا لَبِيبٌ ، وَلَا رَضِيَ بِهَا حَكِيمٌ ، وَلَا اسْتَصْحَبَهَا
وَلِيُّ اللَّهِ قَطُّ - فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ
فَصْلٌ فِي الِاسْتِدْرَاجِ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ
الِاسْتِدْرَاجُ اسْمٌ لِمَعْنَيَيْنِ فَأَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ : اسْتِدْرَاجُ
عُقُوبَةٍ لِلسَّيِّئَةِ تَنْبِيهًا عَلَى الْإِنَابَةِ ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي اسْتِدْرَاجٌ
لَا إنَابَةَ فِيهِ ، وَلَا رُجُوعَ - فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ
- ، وَإِنَّمَا يَسْتَدْرِجُ الْعَبْدُ عَلَى قَدْرِ بُغْيَتِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْتَدْرِجُ بِالْمُلْكِ ، وَالسُّلْطَانِ ، وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ ،
وَمِنْهُمْ مِنْ يَسْتَدْرِجُ بِالدُّنُوِّ مِنْ الْمُلُوكِ ، وَالسَّلَاطِينِ ،
وَالْحُظْوَةِ عِنْدَهُمْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِالتَّوْسِعَةِ فِي
تِجَارَتِهِ وَبِالتَّوْسِعَةِ فِي الْمَالِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ
بِالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ ، وَالْحَاشِيَةِ ، وَالتَّبَعِ ، وَوَطْءِ الْأَعْقَابِ
، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَدْرِجُ بِعِلْمِهِ بِأَنْ يُكْرَمَ بِسَبَبِهِ ،
وَيُحْمَدَ ، وَيُعَظَّمَ ، وَيُسْمَعَ قَوْلُهُ فَهُوَ مُسْتَدْرِجٌ بِنَيْلِ
حَظِّهِ مِنْ عِلْمِهِ ، وَمِنْهُمْ الْعَابِدُ يَسْتَدْرِجُ مِنْ طَرِيقِ الْعُجْبِ
فِي عَمَلِهِ ، وَالْقُوَّةِ عَلَى ذَلِكَ فِي بَدَنِهِ ، وَمِنْهُمْ ذُو
الْبَصِيرَةِ يَسْتَدْرِجُ بِالزِّيَادَةِ فِي بَصِيرَتِهِ فَجَمِيعُ مَنْ
ذَكَرْنَا مِنْ الْمُسْتَدْرِجِينَ كُلِّهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ الرِّيَاءِ ،
وَالْعُجْبِ ، وَكُلُّ مُزَيَّنٍ لَهُ مَا هُوَ فِيهِ لَا يَرَى إلَّا أَنَّهُ
عَلَى الطَّرِيقِ مَقْبُولٌ مِنْهُ إحْسَانُهُ ، وَقَدْ عَمِيَ عَنْ فِتْنَةِ مَا
هُوَ فِيهِ مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُنَبَّهُ فَيَنْتَبِهُ
فَيَرْجِعُ إلَى الْإِنَابَةِ ، وَيَفْزَعُ إلَى الِاسْتِكَانَةِ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يُهْمَلُ فَيُهْمِلُ نَفْسَهُ إلَى حُضُورِ أَجَلِهِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
عَزَّ ، وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَا
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ، وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } فَهَذِهِ
فِتْنَةُ الِاسْتِدْرَاجِ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْمُسْتَدْرِجُ
مَفْتُونٌ فَلَا يَعْلَمُ بِفِتْنَتِهِ مُزَيَّنٌ لَهُ عَمَلُهُ مُسْتَحْسِنٌ مَا
هُوَ فِيهِ طَالِبٌ
لِلزِّيَادَةِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مُقِيمٌ
فَاحْذَرْ فِتْنَةَ الِاسْتِدْرَاجِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْرَاجَ عُقُوبَةٌ
لِلْمُضَيِّعِينَ شُكْرَ النِّعَمِ
، فَصْلٌ فِي
الْيَقِينِ وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ لِلْمُوقِنِ عَلَامَةً
وَاضِحَةً تَعْرِفُهَا مِنْ نَفْسِكَ ، وَمِنْ غَيْرِكَ ، وَهِيَ : أَنَّ
الْمُوقِنَ يَعْظُمُ عِنْدَهُ الْخَطَأُ وَالزَّلَلُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
مُؤَاخَذٍ بِهِ لِغَفْلَتِهِ عَنْهَا ، وَرُكُونِهِ إلَيْهَا بِالشَّهَوَاتِ ،
وَهُجُومِ إبْلِيسَ عَلَى قَلْبِهِ ، وَطَمَعِ نَفْسِهِ فِيمَا هُوَ أَعْظَمُ
مِنْهَا إذَا عَمِلَ مِنْهَا شَيْئًا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ ،
وَأَنَّهُ مَسْلُوبٌ بِهَا مَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ بِهِ فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ
كَذَلِكَ كَانَ مُوقِنًا ، وَهُوَ يَعْلَمُ إنْ قُلْت : مَا بَالُ أَقْوَامٍ
عَارِفِينَ يُذْنِبُونَ قُلْت : لِيُعَرِّفَهُمْ اللَّهُ فَضْلَهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِحْسَانَهُ
إلَيْهِمْ عِنْدَ إسَاءَتِهِمْ إلَى أَنْفُسِهِمْ فَتُجَدَّدُ عِنْدَهُمْ
النِّعَمُ ، وَيَسْتَقْبِلُونَ الشُّكْرَ فَيَصِيرُونَ بِذَلِكَ إلَى أَعْلَى
دَرَجَاتِهِمْ انْتَهَى .
فَصْلٌ فِي الْعُجْبِ ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الِاسْتِدْرَاجِ أَعْنِي اسْتِدْرَاجَ الْمُلُوكِ ،
وَغَيْرِهِمْ لَكِنْ بَقِيَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ بَقِيَّةٌ يُحْتَاجُ
إلَى ذَكَرِهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْعَامَّةُ
مُعْجَبُونَ بِمَا أُوتُوا مِنْ الْأَهْلِ ، وَالْوَلَدِ ، وَالْأَمْوَالِ ، وَالْأَرْبَاحِ
، وَالْمَسَاكِنِ ، وَالْعُلَمَاءُ مُعْجَبُونَ بِعِلْمِهِمْ ، وَمَا بُسِطَ
لَهُمْ فِيهِ مِنْ الذِّكْرِ ، وَالْقُرَّاءُ مُعْجَبُونَ بِمَا نَالُوا مِنْ
الثَّنَاءِ وَالتَّزَمُّتِ بِقِرَاءَتِهِمْ ، وَالْعُبَّادُ مُعْجَبُونَ بِمَا
نَالُوا مِنْ الْقُوَّةِ عَلَى إظْهَارِ الزُّهْدِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ،
فَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ صِنْفٌ إلَّا ، وَهُوَ يُحِبُّ التَّعْظِيمَ ، وَالْمَحْمَدَةَ
عِنْدَ مَنْ هُوَ دُونَهُ ، وَعِنْدَ مَنْ هُوَ فَوْقَهُ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ
كُلِّهِ مِنْ التَّجَبُّرِ ، وَهَذِهِ فُنُونُهُ فَإِذَا ثَبَتَ التَّجَبُّرُ فِي
قَلْبِ عَبْدٍ ثَبَتَتْ فُنُونُهُ جَمِيعًا ، وَالتَّجَبُّرُ أَصْلٌ مِنْهُ
يَتَفَرَّعُ جَمِيعُ الشَّرِّ مِنْ الْغَضَبِ ، وَالطَّمَعِ ، وَالرِّيَاءِ ،
وَحُبِّ التَّعْظِيمِ ، وَالرِّيَاسَةِ ، وَالْمَنْزِلَةِ ، وَالسُّمْعَةِ ،
وَالتَّزَيُّنِ ، وَالطَّيْشِ ، وَالْعَجَلَةِ ، وَسُوءِ الْخُلُقِ ، وَالْحِرْصِ
، وَالشَّرِّ ، وَالْمَكْرِ ، وَالْخَدِيعَةِ ، وَالْجَرِيرَةِ ، وَالْغِشِّ ، وَالْخِلَابَةِ
، وَالْكَذِبِ ، وَالْغِيبَةِ ، وَالنَّمِيمَةِ ، وَالْحَسَدِ ، وَالْقَسَاوَةِ ،
وَالْجَفَاءِ ، وَالشُّحِّ ، وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ مَعَ فُنُونِ جَمِيعِ الشَّرِّ
- فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ
فَصْلٌ فِي التَّوَاضُعِ وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ
إذَا ثَبَتَ التَّوَاضُعُ فِي الْقَلْبِ ثَبَتَ فِيهِ جَمِيعُ الْخَيْرِ مِنْ
الرَّأْفَةِ ، وَالرِّقَّةِ ، وَالرَّحْمَةِ ، وَالِاسْتِكَانَةِ ، وَالْقَنُوعِ ،
وَالرِّضَى ، وَالتَّوَكُّلِ ، وَحُسْنِ الظَّنِّ ، وَشِدَّةِ الْحَيَاءِ ،
وَحُسْنِ الْخُلُقِ ، وَنَفْيِ الطَّمَعِ ، وَجِهَادِ النَّفْسِ ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ
، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ ، وَالتَّشَاغُلِ عَنْ النَّفْسِ ، وَالْمُبَادَرَةِ فِي الْعَمَلِ
بِالْخَيْرِ ، وَالْبِطَاءِ عَنْ الشَّرِّ .
كُلُّ امْرِئٍ عَلَى قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الْبِرِّ
يَكُونُ فِعْلُهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ ، وَيَكُونُ حَذَرُهُ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ
فَإِنْ كُنْت تَسْأَلُ عَنْ الْعُجْبِ الَّذِي دَخَلَ أَصْحَابَ الْأَعْمَالِ مِنْ
الْعُبَّادِ فَسَأُخْبِرُك بِفِتْنَتِهِمْ ، وَشِدَّةِ بَلِيَّتِهِمْ فَتَوَقَّهَا
، وَاحْذَرْهَا ، وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَبَ إلَى
إبْلِيسَ الْخَبِيثِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَابِدِ ؛ لِأَنَّ فِتْنَةَ أَهْلِ
الدُّنْيَا مَكْشُوفَةٌ بِطَلَبِهِمْ الدُّنْيَا ، وَالنَّاسُ قَدْ عَرَفُوهُمْ
بِطَلَبِهَا ، وَفِتْنَتِهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْتَمِلُهَا ، وَهُوَ يَعْلَمُ
أَنَّهُ مَفْتُونٌ فِيهَا ، وَأَمَّا فِتْنَةُ الْعَابِدِ فَهِيَ أَعْظَمُهَا
فِتْنَةً ، وَأَعْظَمُهَا بَلِيَّةً ، وَأَعْظَمُهَا صَرْعًا ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ
تَرَكُوا عِبَادَةَ الدُّنْيَا ، وَجَدُّوا فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ ، وَكَابَدُوا
الْمَفَاوِزَ ، وَالْقِفَارَ ، وَجَاهَدُوا صُعُودَ الْعِقَابِ ، وَجَاهَدُوا
أَنْفُسَهُمْ عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا لِمَعْرِفَتِهِمْ بِالنَّفْسِ ، وَمَا
تَدْعُو إلَيْهِ ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِالدُّنْيَا ، وَمَا تَدْعُوهُمْ إلَيْهِ ،
وَأَقْبَلُوا عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ ، وَإِيثَارِهَا بِالصِّدْقِ مِنْهُمْ ،
وَحُسْنِ الْإِرَادَةِ .
غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ذِكْرُهُ امْتَحَنَ هَذَا
الْخَلْقَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِمْ فِي تَمَسُّكِهِمْ بِالدُّنْيَا ، وَفِي
تَرْكِهِمْ لَهَا ، وَفِي طَلَبِهِمْ الْآخِرَةَ ، وَإِيثَارِهِمْ لَهَا
بِالْجِدِّ ، وَالِاجْتِهَادِ ، وَجَعَلَ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ مُؤْنَةً
لَا تُدْفَعُ إلَّا بِالصَّبْرِ ، وَوَعَدَ إبْلِيسَ وَعْدًا فَهُوَ مُنْجِزُهُ
لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِأَنْ أَسْكَنَهُ هُوَ ،
وَذُرِّيَّتَهُ صُدُورَ بَنِي آدَمَ يَجْرِي مِنْهُمْ مَجْرَى الدَّمِ ، وَذَلِكَ
لِمَنْ أَطَاعَ مِنْهُمْ ، وَلِمَنْ عَصَى ، وَلِأَوْلِيَائِهِ ، وَأَعْدَائِهِ
فَلَيْسَ لِلْعَابِدِ فِي عِبَادَتِهِ أَنْ يَنْفِيَ الشَّيْطَانَ عَنْ قَرَارِهِ أَوْ
يُزْعِجَهُ عَنْ الْمَسْكَنِ الَّذِي أَسْكَنَهُ اللَّهُ فِيهِ ، وَمَكَّنَهُ
مِنْهُ ، وَهَذِهِ مِنْ الْمِحَنِ الَّتِي امْتَحَنَ اللَّهُ بِهَا خَلْقَهُ
لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ غَيْرَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَيَقَّظَ بِقَلْبِهِ
خَنَسَ الْخَبِيثَ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ إلَّا مَعَ غَفْلَتِهِ ،
وَطَبَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَلَى الْغَفْلَةِ ، وَالتَّيَقُّظِ ،
وَأَيَّدَ اللَّهُ الْعَابِدَ بِمُكَايَدَتِهِ إبْلِيسَ فَلَيْسَ أَحَدٌ أَحْوَجُ
إلَى صِحَّةِ تَرْكِيبِ الْعَقْلِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَابِدِ الَّذِي قَدْ
قَصَدَ خِلَافَهُ ، وَقَوِيَ عَلَى احْتِمَالِ تَرْكِ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَصِلُ
بِهَا إبْلِيسُ إلَى ابْنِ آدَمَ مِنْ فُنُونِ الشَّهَوَاتِ فَحَذَفَ ذَلِكَ أَجْمَعَ
، وَخَلَّفَهُ خَلْفَهُ ، ثُمَّ قَرُبَ مِنْ الْعَقَبَةِ الَّتِي إنْ جَاوَزَهَا
كَانَ مُنْحَدِرًا إلَى الْجَنَّةِ بِإِذْنِ اللَّه فَتَجَرَّدَ لَهُ إبْلِيسُ ،
وَعَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ إلَّا هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي إنْ
سَلِمَ مِنْهَا نَجَا فَلَا يَسْلَمُ فِي مِثْلِ زَمَانِك مَعَ كَثْرَةِ هَذِهِ
الْفِتَنِ وَالْمِحَنِ إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا وَصَفْت لَك
فَصْلٌ فِي النِّيَّةِ ، وَالْعِبَادَةِ .
وَقَالَ :
رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُصَحِّحَ
نِيَّتَهُ الَّتِي هِيَ قِوَامُ عَمَلِهِ ، وَيَجْمَعَ لِذَلِكَ قَلْبَهُ ، وَذِهْنَهُ
، وَعِنَايَتَهُ ، وَيُقَرِّرَ عَمَلَهُ فِيمَا يَأْتِي ، وَيَتَبَصَّرَ فِي عِبَادَةِ
رَبِّهِ ، وَيَقْصِدَ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ ، وَمُكَايَدَةَ عَدُوِّهِ ،
وَمُجَاهَدَةَ نَفْسِهِ ، وَإِيَاسَهُ إيَّاهَا مِنْ عَمَلِهَا لِطَلَبِ
الثَّوَابِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ انْقَطَعَتْ عَنْ عِبَادَتِهَا لَمْ تَبْلُغْ
دَرَجَةَ الْعَفْوِ لِعَظِيمِ مَا جَنَتْ مِنْ الْإِسَاءَةِ .
وَلَوْ أَنَّ تِلْكَ الْعِبَادَةَ ، وَالْإِحْسَانَ بِإِزَاءِ
ذَنْبٍ مِنْ ذُنُوبِهَا لَاسْتَأْهَلَتْ بِذَلِكَ الذَّنْبِ الْعِقَابَ إلَّا أَنْ
يُغْفَرَ فَكَيْفَ بِجَمِيعِ إسَاءَتِهَا مَعَ قِلَّةِ مَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ
صِمَادِ التَّوْبَةِ ، وَالْمُرَاجَعَةِ ؟ ، ثُمَّ يَحْمِلُهَا عَلَى طَاعَةِ
اللَّهِ مَا اسْتَطَاعَتْ فَإِنْ عَارَضَهُ إبْلِيسُ بِشَيْءٍ أَوْ رَفَعَتْ
نَفْسُهُ رَأْسَهَا لِتُذَكِّرَهُ شَيْئًا مِنْ إحْسَانِهَا مَنَعَهَا بِمَا قَدْ
عَرَّفَهُ اللَّهُ مِنْ قَدِيمِ إسَاءَتِهَا ، وَيُذَكِّرُهَا عُيُوبَهَا فَتَنْقَمِعُ
عِنْدَ ذَلِكَ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ زَاجِرًا لِعَدُوِّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى عِنْدَمَا يُرِيدُ مِنْ خَدِيعَتِهِ لِيُوقِعَهُ فِي الْعُجْبِ
بِالْبَاطِلِ فَلَوْ كَانَ عُجْبُهُ عُجْبَ حَقِيقَةٍ مِنْ احْتِمَالِ نَفْسِهِ
طَاعَةَ رَبِّهَا بِهَشَاشَةٍ مِنْهَا وَسُرُورٍ ، وَزُهْدٍ فِيمَا يَكْرَهُ
اللَّهُ لَكَانَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِالْيَقِينِ مَعَ صِدْقِهَا فِي
الطَّاعَاتِ الرُّجُوعَ إلَى الشُّكْرِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ
نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا يَسَّرَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ ،
وَمَنْ غَفَلَ عَنْ الشُّكْرِ فِي الْعَمَلِ كَانَ جَاهِلًا بِرَبِّهِ جَاهِلًا
بِالْعَمَلِ جَاهِلًا بِالنِّعَمِ ، وَمَنْ عَقَلَ الشُّكْرَ ، وَذَكَّرَ نَفْسَهُ
إحْسَانَ اللَّهِ رَجَعَ الشَّيْطَانُ - بِعَوْنِ اللَّهِ - صَاغِرًا نَاكِصًا
عَلَى عَقِبِهِ فَأَلْزِمْ نَفْسَك النَّدَمَ ، وَارْجِعْ إلَى مَا عَرَّفَك
رَبُّك مِنْ مَعْرِفَةِ نَفْسِك ، وَعَدُوِّك ، وَارْغَبْ إلَى اللَّهِ فِي
الْعِصْمَةِ مِنْ شَرِّ نَفْسِك ،
وَشَرِّ عَدُوِّك ، وَأَسْأَلْهُ الْكِفَايَةَ فَإِنَّهُ
لَمْ يَلْجَأْ إلَيْهِ أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا ، وَجَدَهُ قَرِيبًا
مُجِيبًا فَإِذَا صَارَ الْعَبْدُ إلَى هَذِهِ الدَّرَجَةِ أُعْطِيَ هَذِهِ
الْمَعْرِفَةَ فَلَا يَكُونُ لَهُ هِمَّةٌ ، وَلَا بُغْيَةٌ ، وَلَا مَسْأَلَةٌ
إلَّا النَّقْلَةُ مِنْ ضَيِّقِ الدُّنْيَا ، وَغَمِّهَا مَخَافَةَ أَنْ تُعَارِضَهُ
فِتْنَةٌ مِنْ فِتَنِهَا تَحُولُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ ، وَيَرْتَجِي
أَنْ يَصِيرَ إلَى الْآخِرَةِ ، وَرَوَحِهَا لِيَأْمَنَ فِيهَا عَلَى نَفْسِهِ
مِنْ رَوْعَاتِ إبْلِيسَ ، وَجُنُودِهِ ، وَأَنَا أُوصِيك أَنْ تُطِيلَ النَّظَرَ
فِي مِرْآةِ الْفِكْرَةِ مَعَ كَثْرَةِ الْخَلَوَاتِ حَتَّى يُرِيَك شَيْنَ
الْمَعْصِيَةِ ، وَقُبْحَهَا فَيَدْعُوك ذَلِكَ النَّظَرُ إلَى تَرْكِهَا .
فَصْلٌ فِي الْعِلْمِ .
وَقَالَ :
رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ لِدَوَاعِي الْخَيْرِ
عَلَامَاتٍ يُسْتَجْلَبُ بِهَا دَوَاعِي الْحُزْنِ ، وَالتَّفَكُّرِ فَهُوَ بَيْنَ
ذَلِكَ مَسْرُورٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بُغْيَتَهُ وَأَمَلَهُ
، وَإِذَا أَدْرَكَ أَمَلَهُ ، وَوَجَدَ بُغْيَتَهُ طَابَ عَيْشُهُ كَمَا أَنَّ
طَالِبِي الدُّنْيَا إذَا أَدْرَكُوا آمَالَهُمْ مِنْ نَعِيمِهَا ، وَزَهْرَتِهَا
أَحَاطَ بِهِمْ السُّرُورُ فَكَذَلِكَ طَالِبُ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ بَعْد ذَلِكَ
مِنْ نَفْسِهِ ، وَعَدُوِّهِ ، وَزَوْجَتِهِ ، وَوَلَدِهِ ، وَأَهْلِ زَمَانِهِ
خَائِفٌ وَجِلٌ لَا يَأْمَنُ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا مَعَ اسْتِذْكَارِهِ قَوْلَ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ { : وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } .
فَحِينَئِذٍ يَقْوَى قَلْبُهُ ، وَيَسْتَصْغِرُ كَيْدَ
مَنْ كَايَدَهُ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُعْتَصِمٌ بِرَبِّهِ ، وَاثِقٌ بِهِ فَمَنْ
طَلَبَ الْآخِرَةَ فَلَا يَغْفُلْ ، وَلْيَبْنِ أَمْرَهُ عَلَى طَلَبِ
السَّلَامَةِ مِنْ الْخَطَأِ ، وَعَلَى أَسَاسِ الصِّدْقِ فِيمَا بَيْنَهُ ،
وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَلَا يَخَافُ عَلَى قَلِيلِ عَمَلِهِ إذَا خَلَّصَهُ لِلَّهِ
مِنْ الْآفَاتِ كُلِّهَا أَنْ لَا يُنَمِّيَهُ اللَّهُ لَهُ ، وَيُكَثِّرَهُ ، وَلَا
سِيَّمَا إذَا كُنْت فِي زَمَانٍ قَدْ كَثُرَتْ فِيهِ الشُّبْهَةُ ، وَالِاخْتِلَافُ
فَإِنَّ تَخْلِيصَك قَلِيلُ عَمَلِك مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْ أَهْلِ الشُّبْهَةِ ،
وَالِاخْتِلَافِ حَتَّى تَكُونَ عَامِلًا عَلَى حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ -
عِنْدَ اللَّهِ - كَثِيرٌ فَكُنْ فِي زَمَانِك أَشَدَّ تَيَقُّظًا لِلتَّخَلُّصِ
إلَى مَعْرِفَةِ مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الْمَاضُونَ مِنْ اتِّبَاعِ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ إذَا اسْتَحْكَمَتْ
فِيكَ لَمْ تَدَعْكَ مَعَ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ بَلْ تَنْقُلُك مِنْ
دَرَجَةٍ إلَى دَرَجَةٍ حَتَّى تُبَلِّغَك غَايَاتِ مَا عَمِلْت مِنْ الْخَيْرِ
أَوْ يَأْتِيَك الْمَوْتُ ، وَأَنْتَ طَالِبٌ لِغَايَاتِهَا ، وَكَمَا أَنَّ الْأَرْضَ
لَا تُنْبِتُ بِغَيْرِ مَاءٍ فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ لَا يَصْلُحُ بِغَيْرِ
مَعْرِفَةٍ فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ بِاَللَّهِ مَعْرِفَةً ازْدَادَ
يَقِينًا
، وَكُلَّمَا
ازْدَادَ يَقِينًا ازْدَادَ لِلَّهِ خَوْفًا ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لِلَّهِ
خَوْفًا ازْدَادَ لِرَبِّهِ طَاعَةً ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لِرَبِّهِ طَاعَةً
ازْدَادَ لَهُ حُبًّا ، وَكُلَّمَا ازْدَادَ لَهُ حُبًّا ازْدَادَ إلَيْهِ شَوْقًا
، وَكُلَّمَا ازْدَادَ إلَيْهِ شَوْقًا ازْدَادَ لِلْمَوْتِ حُبًّا فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
كَانَ مَغْمُومًا فِي حَالَةِ مَسْرُورٍ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَغْمُومَ عَلَى
الْحَقِيقَةِ لَا يَتَأَسَّى بِأَهْلِ السُّرُورِ فِي الدُّنْيَا ، وَلَا يَجْرِي
مَعَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَغْمُومَ جَمَعَ هُمُومَهُ
كُلَّهَا فَنَصَبَهَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، ثُمَّ جَعَلَهَا هَمًّا وَاحِدًا
فَقَصُرَ بِهِ أَجَلُهُ ، وَهَجَمَ بِهِ عَلَى مُعَايَنَةِ أَحْوَالِ آخِرَتِهِ ،
وَأَهْوَالِهَا ، وَالْمَغْمُومُ بِالْحَقِيقَةِ نَبَّهَهُ الْغَمُّ عَلَى
التَّسْوِيفِ فَعَمِلَ لِلنَّقْلَةِ مِنْ دَارِ الْغُمُومِ إلَى دَارِ السُّرُورِ
، وَسَأَصِفُ لَك حَالَ الْمَغْمُومِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : اعْلَمْ
أَنَّ لِلَّهِ عِبَادًا تَدَبَّرُوا فَعَرَفُوا ، فَلَمَّا عَرَفُوا أَيْقَنُوا ، فَلَمَّا
أَيْقَنُوا خَافُوا ، فَلَمَّا خَافُوا عَلِمُوا ، فَلَمَّا عَلِمُوا صَمَتُوا ،
فَلَمَّا صَمَتُوا عَمِلُوا ، فَلَمَّا عَمِلُوا أَشْفَقُوا ، فَلَمَّا أَشْفَقُوا
جَاهَدُوا ، فَلَمَّا جَاهَدُوا رَغِبُوا ، فَلَمَّا رَغِبُوا صَبَرُوا ، فَلَمَّا
صَبَرُوا أَبْصَرُوا مَسَاوِئَ أَنْفُسِهِمْ ، فَلَمَّا أَبْصَرُوا مَسَاوِئَ
أَنْفُسِهِمْ قَصَدُوا مُجَاهَدَتَهَا بِالْقُلُوبِ فَارْتَفَعُوا عَنْ أَعْمَالِ
الْجَوَارِحِ إلَى تَصْحِيحِ الْقُلُوبِ فَنَقَلُوا طِبَاعَهُمْ عَنْ الرَّيْبِ ، وَالدَّنَاءَةِ
، وَجَانَبُوا فِي أَحْوَالِهِمْ كُلِّهَا ، وَمُعَامَلَاتِهِمْ أَحْوَالَ أَهْلِ
الْمَكْرِ ، وَالْخَدِيعَةِ ، وَالْخِبِّ ، وَأَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ مَحَجَّةَ
الطَّرِيقِ فِي أَفْعَالِهِمْ كُلِّهَا ، وَمَنْطِقِهِمْ كُلِّهِ فَاسْتَخْلَصُوا
بَاطِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ لِلْمَخْلُوقِينَ ، وَأَرَاحُوا أَبْدَانَهُمْ
مِنْ ظَاهِرِ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا لَزِمَهُمْ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ
الْمَحْتُومَةِ فَصَارَتْ أَعْمَالُهُمْ سِرًّا بَيْنَ قُلُوبِهِمْ الَّتِي هِيَ
أَرْجَحُ
وَزْنًا ، وَأَحْمَدُ ذِكْرًا عِنْدَ اللَّهِ ،
وَعَلَّقُوا قُلُوبَهُمْ بِحُبِّ لِقَاءِ اللَّهِ فَصَغُرَتْ الدُّنْيَا فِي
أَعْيُنِهِمْ فَإِذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ خَافُوا ، وَحَزِنُوا خَوْفًا مِنْ
الِاسْتِدْرَاجِ ، وَالْمَكْرِ ، وَإِنْ أَدْبَرَتْ عَنْهُمْ سُرُّوا ، وَفَرِحُوا
، وَدَافَعُوا الْأَيَّامَ مُدَافَعَةً جَمِيلَةً مُسْتَتِرِينَ عَنْ الْأَهْلِ ،
وَالْوَلَدِ ، وَالْإِخْوَانِ ، وَالْجِيرَانِ فَهِمَّتُهُمْ فِي بَاطِنِ
أُمُورِهِمْ كَالدِّيبَاجِ حُسْنًا ، وَفِي الظَّاهِرِ مَنَادِيلُ مَبْذُولُونَ
لِمَنْ أَرَادَهُمْ مَغْمُومُونَ يُكَاشِرُونَ النَّاسَ بِوُجُوهِهِمْ ، وَقُلُوبُهُمْ
بَاكِيَةٌ ، وَصِفَاتُهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ الْوَاصِفُ بِهَا فِي
الْكُتُبِ ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ يَكْثُرُ فَهَذِهِ صِفَاتُ الْمَغْمُومِينَ
عَلَى الْحَقِيقَةِ الْمَسْرُورِينَ بِاَللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ الْفَرِحِينَ بِهِ
الْمُنْقَطِعِينَ إلَيْهِ ، - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
فَصْلٌ فِي عُيُوبِ النَّفْسِ .
وَقَالَ :
رَحِمَهُ اللَّهُ إخْوَانِي : إنَّهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ
نَفْسَهُ ، وَعُيُوبَهَا فَهُوَ مِنْ اسْتِقَامَةِ دِينِهِ عَلَى اعْوِجَاجٍ ، وَاعْلَمْ
أَنَّ مِنْ حُسْنِ سِيرَةِ الْعَارِفِ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ أَنْ لَا يَبْنِيَ
دِينَهُ عَلَى قُبْحٍ ، وَلَا فَسَادٍ ، وَأَصْلُ الْعِلْمِ الْغَرِيبِ يُدْرَكُ
بِفِطَنِ الْعُقُولِ الْمَرْضِيَّةِ ، وَبِنُورِ الْحِكْمَةِ الثَّاقِبَةِ ،
وَبِمُخَالَفَةِ الْأَهْوَاءِ ، وَبِفَوَائِدِ الْمَعْرِفَةِ الشَّافِيَةِ ،
وَبِإِصَابَةِ الْحَقِّ فِي الْقَوْلِ ، وَالْعَمَلِ بِالْبَصِيرَةِ ، وَلَا
يَبْلُغُ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْعَالِيَةَ إلَّا مَنْ تَقَلَّدَ حُبَّ الْآخِرَةِ
مُوقِنًا بِهَا ، وَرَاغِبًا فِيهَا ، وَمُؤْثِرًا لَهَا عَلَى مَا سِوَاهَا ،
وَخَلَعَ عَنْ قَلْبِهِ حُبَّ الدُّنْيَا ، وَزَهِدَ فِيهَا بِالْحَقِيقَةِ ، وَاسْتَشْعَرَ
التَّوَاضُعَ ، وَهَجَرَ الْهَوَى فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ الْحَازِمِ اللَّبِيبِ
الْعَالِمِ الْعَامِلِ الْعَارِفِ الْبَصِيرِ أَنْ يَحْذَرَ ذَلِكَ كُلَّهُ ،
وَيَتَّخِذَ الصَّبْرَ مَطِيَّةً ، وَلَا يَبْتَغِيَ تَعْجِيلَ الثَّوَابِ ،
وَيَتَحَرَّكَ لِعَزِيمَةِ الصَّبْرِ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
فَصْلٌ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا
عَلَى مَعْرِفَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ أَنِّي
وَجَدْتُ الَّذِي يُعِينُ عَلَى مَعْرِفَةِ عُيُوبِ النَّفْسِ ، وَالْعَمَلِ فِي
مُجَاهَدَتِهَا مُخَالَفَةَ الْهَوَى - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا
بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - يَا أَخِي إنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ
عَدُوِّك خَاطِرُ الشَّرِّ فِي الْقَلْبِ لِلْمَعْصِيَةِ فَادْفَعْهُ عَنْك
بِحَاكِمِ الْعِلْمِ مِنْ الْقَلْبِ لِلطَّاعَةِ ، وَإِنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ
نَفْسِك سُرْعَةُ الْقَبُولِ لِمُوَافَقَةِ الْهَوَى فَادْرَأْهُ عَنْك بِقِلَّةِ
الْمُسَاعَدَةِ لِخِلَافِ الْهَوَى ، وَأَنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ عَدُوِّك التَّثَبُّطُ
عَنْ الْعَمَلِ فَادْفَعْهُ عَنْك بِتَعْجِيلِ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْعَمَلِ ،
وَإِنَّهُ لَنْ يُعْدِمَكَ مِنْ نَفْسِك التَّشَبُّثُ بِالْكَسَلِ فَادْفَعْهُ
عَنْك بِاغْتِنَامِ الصِّحَّةِ ، وَأَعْلَمْ يَا أَخِي : أَنَّ الْقَلْبَ إذَا
تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ أَقْذَارُ الذُّنُوبِ ، وَأَطْفَاسُ الشَّهَوَاتِ عَمِيَ
وَاسْوَدَّ ، وَنَكَسَ ، وَطُفِئَ نُورُهُ فَلَمْ يُبْصِرْ عُيُوبَ نَفْسِهِ ،
وَأَبْصَرَ بِعَيْنِهِ عُيُوبَ غَيْرِهِ فَشُغِلَ بِهِ عَنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ
فَلَيْسَ شَيْءٌ أَوْلَى بِالْمُدَّعِينَ لِلْإِرَادَةِ مِنْ أَنْ يَتَوَسَّلُوا
إلَى اللَّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ بِطَلَبِهِمْ مِنْهُ صَلَاحَ قُلُوبِهِمْ
لِيَسْلَمُوا مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِهِمْ ، وَغَلَبَةِ أَهْوَائِهِمْ ، وَاعْلَمْ
أَنَّ الْقَلْبَ إذَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ الْحُزْنُ خَرِبَ كَمَا أَنَّ الْبَيْتَ
إذَا لَمْ يُسْكَنْ خَرِبَ
فَصْلٌ فِي الْحُزْنِ ، وَالْخَوْفِ وَقَالَ : رَحِمَهُ
اللَّهُ اعْلَمْ أَنَّ الْعِلْمَ ، وَالْعَمَلَ بِالْعِلْمِ لَا يَنْفَعُ
الْعَبْدَ إلَّا بِاسْتِقَامَةِ قَلْبِهِ ، وَإِلَّا عَادَ الْعِلْمُ عَلَيْهِ
فَصَارَ جَهْلًا ، وَعَادَ الْعَمَلُ فَصَارَ ضَرَرًا مَعَ أَنَّ فَسَادَ قُلُوبِنَا
هُوَ الَّذِي فَرَّقَ بَيْنَنَا ، وَبَيْنَ سُلُوكِ طَرِيقِ الِاسْتِقَامَةِ ، وَالِاتِّبَاعِ
لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ ، وَهُمْ الَّذِينَ
لَمْ يَتْرُكُوا مِنْ الْفَرَائِضِ شَيْئًا إلَّا أَدَّوْهُ لَمْ يَتْرُكُوا
الصَّلَاةَ ، وَالزَّكَاةَ ، وَالْحَجَّ ، وَالْجِهَادَ ، وَالصِّيَامَ ،
وَالْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ ، وَالطَّهُورَ لِلصَّلَاةِ كُلُّ ذَلِكَ وَاجِبٌ
عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ لَمْ يُزَدْ فِيهِ ، وَلَمْ يُنْقَصْ مِنْهُ
فَمَا بَالُ الْفَسَادِ وَاقِعٌ عَلَيْنَا ، وَنَحْنُ لَمْ نُنْكِرْ هَذِهِ الْفَرَائِضَ
كَمَا لَمْ يُنْكِرُوهَا ، وَإِنَّا لَنَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ بِأَكْثَرِهَا
غَيْرَ أَنَّ الْقُلُوبَ مِنَّا مَائِلَةٌ إلَى حُبِّ مَا زَهِدَ الْقَوْمُ فِيهِ
، وَالْأَنْفُسَ مِنَّا قَابِلَةٌ لِحُبِّ هَوَاهَا مُسْتَثْقِلَةٌ لِمَا فِي
الْحَقِّ مِنْ الصَّبْرِ وَالْمَكْرُوهِ ، وَسَأُعْطِيك دَوَاءً لِفَسَادِ قَلْبِك
يَنْفَعُك اللَّهُ بِهِ إذَا كَانَتْ لَك حَيَاةٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : اعْلَمْ يَا
أَخِي أَنَّ الْقَوْمَ صَبَرُوا عَلَى مَكْرُوهِ مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ الْحَقُّ
فَصَبَرُوا فِي الْغَضَبِ ، وَالرِّضَا ، وَالشِّدَّةِ ، وَالرَّخَاءِ ،
وَالْعُسْرِ ، وَالْيُسْرِ ، وَالْعَافِيَةِ ، وَالْبَلَاءِ فَكَانَتْ
أَهْوَاؤُهُمْ تَابِعَةً لِلْحَقِّ عَلَى مَا أَحَبَّتْ الْأَنْفُسُ ، وَكَرِهَتْ
فَكَانَ الْحَقُّ لَهُمْ قَائِدًا ، وَالْهَوَى لِعُقُولِهِمْ تَابِعًا
فَاسْتَقَامَتْ مِنْهُمْ السِّيرَةُ بِلُزُومِهِمْ مَحَجَّةَ الْحَقِّ فِي
مَوَاطِنِ غَضَبِهِمْ وَرِضَاهُمْ وَطَمَعِهِمْ ، وَتَقْوَاهُمْ ، وَكَانُوا إذَا
اُمْتُحِنُوا فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ ظَهَرَ مِنْهُمْ قَوْلُ الْحَقِّ فِي
مَوَاطِنِ غَضَبِهِمْ ، وَهُمْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَلْزَمُ ، وَأَشَدُّ
تَمَسُّكًا مِنْهُمْ فِي مَوَاطِنِ الرِّضَا فَإِنْ عَارَضَهُمْ طَمَعُ دُنْيَا
ظَهَرَ مِنْهُمْ
التَّنَزُّهُ ، وَالْوَرَعُ ، وَالتَّقْوَى ، وَالتَّأَنِّي
، وَفُقِدَ مِنْهُمْ الْحِرْصُ ، وَالرَّغْبَةُ خَوْفًا مِنْهُمْ ، وَكَانَ
مِنْهُمْ كَالطِّبَاعِ لَمْ يَتَصَنَّعُوا فِيهِ ، وَطِبَاعُنَا الْيَوْمَ
بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَكَانُوا أَخْوَفَ لِلَّهِ ، وَلَهُ أَحْذَرَ
مَخَافَةَ أَنْ لَا يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَمَلًا فَلَا تَفْرَحَنَّ بِكَثْرَةِ
الْعَمَلِ مَعَ قِلَّةِ الْخَوْفِ ، وَاغْتَنِمْ قَلِيلَ الْعَمَلِ مَعَ الْخَوْفِ
فَإِنَّ قَلِيلَ حُزْنِ الْآخِرَةِ الدَّائِمِ فِي الْقَلْبِ يَنْفِي كُلَّ
سُرُورٍ سُرِرْت بِهِ ، وَأَلِفْتَهُ مِنْ سُرُورِ الدُّنْيَا ، وَقَلِيلُ سُرُورِ
الدُّنْيَا فِي الْقَلْبِ يَنْفِي عَنْك جَمِيعَ حُزْنِ الْآخِرَةِ ، وَالْحُزْنُ
لَا يَصِلُ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَعَ تَيَقُّظِهِ ، وَتَيَقُّظُهُ حَيَاتُهُ ، وَسُرُورُ
الدُّنْيَا لِغَيْرِ الْآخِرَةِ لَا يَصِلُ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَعَ غَفْلَتِهِ
، وَغَفْلَةُ الْقَلْبِ مَوْتُهُ ، وَالْحُزْنُ يُوقِظُهُ ، وَيَسْتَنْبِطُ لَهُ
الْيَقَظَةَ مِنْ خَالِصِ عَيْنِ الْيَقِينِ ، وَبِخَطِرَاتِ غَامِضِ الْفَهْمِ
تَكُونُ خَطَرَاتُ الْيَقِينِ ، وَعَلَامَةُ ثَبَاتِ الْيَقِينِ فِي قَلْبِ
الْعَبْدِ اسْتِدَامَةُ الْحُزْنِ فِيهِ
فَصْلٌ فِي الزُّهْدِ وَالْخَلْوَةِ وَقَالَ : رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ أَنِّي لَمْ أَجِدْ شَيْئًا أَبْلَغَ فِي الزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا مِنْ ثَبَاتِ حُزْنِ الْآخِرَةِ فِي الْقَلْبِ ، وَعَلَامَةُ ثَبَاتِ
حُزْنِ الْآخِرَةِ فِي الْقَلْبِ أُنْسُ الْعَبْدِ بِالْوِحْدَةِ ، وَمَوْضِعُ
هِيَاجِ الْحُزْنِ السُّرُورُ ، وَمَعْدِنُهُ ، وَمِفْتَاحُهُ الْعَقْلُ ،
وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ مَحْزُونًا مَسْرُورًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَجَمِيعُ
الطَّاعَاتِ تُوجَدُ بِالتَّكَلُّفِ ، وَالْحُزْنُ لَا يُوجَدُ بِالتَّكَلُّفِ
إلَّا أَنْ يَصِلَ إلَى الْقَلْبِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ الْحُزْنُ ، وَذَلِكَ أَنَّ
أَهْلَ الطَّاعَةِ قَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ الْأَعْمَالِ لَطِيفَ مَعْرِفَةِ
الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا يَسْتَدِيمُونَ صَالِحَ الْأَعْمَالِ ، وَيَسْهُلُ
عَلَيْهِمْ مَأْخَذُهَا تَوْطِينًا مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَاسْتِصْحَابَ
نِيَّتِهِمْ إلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ فَصَيَّرُوا أَعْمَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا
يَوْمًا وَاحِدًا ، وَلَيْلَةً وَاحِدَةً ، وَكُلَّمَا مَضَتْ لَيْلَةٌ
اسْتَأْنَفُوا الثَّانِيَةَ ، وَطَلَبُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ حُسْنَ الصُّحْبَةِ
لِيَوْمِهِمْ ، وَلَيْلَتِهِمْ ، وَكُلَّمَا مَضَى عَنْهُمْ يَوْمٌ بِحُسْنِ
الصُّحْبَةِ مِنْهُمْ أَوْ لَيْلَةٌ رَاقَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ
، وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ غَنِيمَةً ، وَذَكَرُوا الْيَوْمَ الْمَاضِي
فَسُرُّوا بِهِ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الْيَوْمِ الْمُسْتَقْبَلِ لِخَوْفِ
انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فِيهِ أَوْ فِي لَيْلَتِهِ ، وَطَرَحُوا شُغْلَ الْقَلْبِ
بِذِكْرِ غَدٍ ، وَاسْتَعْمَلُوا أَبْدَانَهُمْ ، وَجَوَارِحَهُمْ فِيهِ ،
وَتَفَرَّغُوا لَهُ فَقَصُرَتْ عَنْهُمْ الْآمَالُ ، وَقَرُبَتْ عِنْدَهُمْ
الْآجَالُ ، وَتَبَاعَدَتْ عَنْهُمْ أَسْبَابُ وَسَاوِسِ الدُّنْيَا ، وَعَظُمَ
شُغْلُ الْآخِرَةِ فِي قُلُوبِهِمْ فَنَظَرُوا إلَيْهَا بِعَيْنٍ صَحِيحَةِ
النَّظَرِ نَافِذَةِ الْبَصَرِ ، وَتَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ
الزَّاكِيَةِ فَاسْتَقَامَتْ لَهُمْ السِّيرَةُ حِينَ وَجَدُوا حَلَاوَةَ
الطَّاعَةِ وَطَاوَعَتْهُمْ الزِّيَادَةُ فِي التَّقْوَى فَقَرَّتْ بِالْخَوْفِ أَعْيُنُهُمْ
، وَتَنَعَّمُوا بِالْحُزْنِ
فِي عِبَادَتِهِمْ حَتَّى نَحَلَتْ أَجْسَامُهُمْ ،
وَبَلِيَتْ أَجْسَادُهُمْ ، وَقَلَّ مَعَ الْمَخْلُوقِينَ كَلَامُهُمْ ،
وَتَلَذَّذُوا بِمُنَاجَاةِ خَالِقِهِمْ فَقُلُوبُهُمْ بِمَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ
مُتَعَلِّقَةٌ ، وَفِكْرُهُمْ بِأَهْوَالِ الْقِيَامَةِ مُقْبِلَةٌ مُدْبِرَةٌ ،
وَأَبْدَانُهُمْ بَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ عَارِيَّةٌ فَعَمُوا عَنْ الدُّنْيَا ،
وَصَمُّوا عَنْهَا ، وَعَمَّا فِيهَا ، وَوَضُحَ لَهُمْ أَمْرُ الْآخِرَةِ حَتَّى
كَأَنَّهُمْ إلَيْهَا يَنْظُرُونَ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -
ثُمَّ نَظَرْت فِي ذَلِكَ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَقْرَبَ وَلَا أَجْمَعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ
مِنْ حَمِيَّةِ الْأَنْفُسِ عَنْ إلْفِهَا ، وَقَطْعِ مُجَاوَرَةِ الْمَخْلُوقِينَ
بِمَنْعِ الْقُلُوبِ عَنْ الْأَخْبَارِ الَّتِي بِهَا تَهِيجُ الْقُلُوبُ مِنْ
الْأَشْغَالِ الْقَوَاطِعِ عَنْ التَّفَرُّغِ لِلْحُزْنِ أَوْ الْبَحْثِ عَنْ
أَمْرِ الْآخِرَةِ ، وَالتَّرْكِ لِلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، فَوَرَّثَهُ ذَلِكَ
حُبَّ الْخَلَوَاتِ فَأَحَبَّهَا ، وَلَزِمَهَا ، وَأَنِسَ بِهَا ، وَاسْتَوْحَشَ
مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَذَلِكَ حِينَ جَرَتْ عُذُوبَةُ الْخَلْوَةِ فِي أَعْضَائِهِ
كَمَا يَجْرِي الْمَاءُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَأَوْرَقَتْ أَغْصَانُهَا ،
وَأَثْمَرَتْ عِيدَانُهَا ، وَلَزِمَ خَوْفُ مَا يَجِيءُ بِهِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
سُوَيْدَاءَ قَلْبِهِ فَهَاجَ لَهُ مِنْ الْخَلْوَةِ فُنُونٌ مِنْ أُصُولِ
الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اجْتَهَدَ فِي فَنٍّ مِنْهَا عَلَى
أَنْ يَسْتَحْكِمَ لَهُ لَعَظُمَتْ عَلَيْهِ الْمُؤْنَةُ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ
فِيهِ الصَّلَاحُ فَإِذَا بَلَّغَ اللَّهُ الْعَبْدَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ حُبِّبَتْ
إلَيْهِ الْخَلْوَةُ فَأَوَّلُ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْ حُبِّ الْخَلْوَةِ الْإِخْلَاصُ
فِي الْعَمَلِ ، وَالصِّدْقُ فِي الْقَوْلِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَفِي حُبِّ الْخَلْوَةِ رَاحَةٌ لِلْقَلْبِ مِنْ غُمُومِ الدُّنْيَا ،
وَتَرْكُ مُعَامَلَةِ الْمَخْلُوقِينَ فِي الْأَخْذِ وَالْعَطَاءِ ، وَمَخْرَجُ
ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ صِحَّةِ الْعَقْلِ فَأَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْخَلْوَةِ
وُجُوبَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَمُدَاهَنَةِ
الْمَخْلُوقِينَ ، وَيُحَبَّبُ إلَيْهِ بِالْخَلْوَةِ
خُمُولُ النَّفْسِ ، وَإِخْمَادُ الذِّكْرِ فِي النَّاسِ ، وَهُوَ طَرِيقُ
الصِّدْقِ ، وَمِنْهُ يَكُونُ الْإِخْلَاصُ ، وَيُحَبَّبُ إلَيْهِ بِالْخَلْوَةِ
الزُّهْدُ فِي مَعْرِفَةِ النَّاسِ ، وَالْأُنْسُ بِاَللَّهِ ، وَيُوهَبُ لَهُ اسْتِثْقَالُ
الْمَخْلُوقِينَ حَتَّى يَفِرَّ مِنْهُمْ فِرَارَهُ مِنْ الْأَسَدِ ، وَهُوَ
غَيْرُ مُفَارِقٍ لِجَمَاعَتِهِمْ ، وَيُعْطَى مِنْ حُبِّ الْخَلْوَةِ طُولَ
الصَّمْتِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ ، وَغَلَبَةَ الْهَوَى بِالصَّبْرِ ، وَمِنْ
الصَّمْتِ وَالصَّبْرِ غَلَبَةَ الْهَوَى ، وَيُعْطَى مِنْ حُبِّ الْخَلْوَةِ
الِاشْتِغَالَ بِأَمْرِ نَفْسِهِ ، وَقِلَّةَ اشْتِغَالِهِ بِذِكْرِ غَيْرِهِ ،
وَطَلَبَ السَّلَامَةِ مِمَّا فِيهِ النَّاسُ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ كَثْرَةَ
الْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ وَالْفِكْرِ ، وَهَذِهِ الْخِصَالُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَةِ
، وَمَخْرَجُهَا مِنْ خَالِصِ الذِّكْرِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ الْأَعْمَالَ
الَّتِي تَغِيبُ عَنْ أَعْيُنِ الْعِبَادِ ، وَتَظْهَرُ لِرَبِّ الْعِبَادِ ،
وَالْبِلَادِ ، وَقَلِيلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ الصِّدْقِ ،
وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ التَّيَقُّظَ مِنْ غَفْلَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَمَا
يَذْكُرُهُ مِنْهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ تَرْكَ
الرِّيَاءِ ، وَالتَّزَيُّنَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ دَوَاعِي الْإِخْلَاصِ ،
وَهُوَ مَحْضُ الصِّدْقِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ تَرْكَ الْمِرَاءِ ، وَتَرْكَ
الْخُصُومَاتِ ، وَالْجِدَالِ ، وَذَلِكَ يَنْفِي الرِّيَاسَةَ مِنْ الْقَلْبِ ،
وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ قِلَّةَ الْخُلْفِ فِي الْوَعْدِ ، وَالتَّوَقِّي مِنْ الْكَذِبِ
، وَالْأَيْمَانِ ، وَالْحِنْثِ فِيهَا ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ الصِّدْقِ ،
وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ قِلَّةَ الْغَضَبِ ، وَالْقُوَّةَ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ
، وَتَرْكَ الْحِقْدِ وَالشَّحْنَاءِ ، وَمُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِسَلَامَةِ
الصُّدُورِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ رِقَّةَ الْقَلْبِ ، وَالرَّحْمَةَ ،
وَهُمَا يَنْفِيَانِ الْغِلْظَةَ ، وَالْقَسَاوَةَ ، وَهُمَا مِنْ دَوَاعِي
الْخَوْفِ ، وَبِالْخَوْفِ الثَّابِتِ فِي الْقَلْبِ يَخْشَعُ الْعَبْدُ ،
وَيَبْكِي مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي اللَّيْلِ ، وَالنَّهَارِ
، وَهِيَ مِنْ غَايَاتِ الْعِبَادَةِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ تَذَكُّرَ نِعَمِ
اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ ، وَطَلَبَ الشُّكْرِ ، وَالزِّيَادَةِ
مِنْ الطَّاعَةِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ وُجُودَ حَلَاوَةِ الْعَمَلِ ، وَالنَّشَاطَ
فِي الدُّعَاءِ ، وَيَجْرِي ذَلِكَ مِنْ الْقَلْبِ مَعَ تَضَرُّعٍ ، وَاسْتِكَانَةٍ
، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ الْقَنَاعَةَ ، وَالتَّوَكُّلَ ، وَالرِّضَا
بِالْكَفَافِ لِلْعَفَافِ ، وَالِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَيُعْطَى
بِالْخَلْوَةِ عُزُوبَ النَّفْسِ عَنْ الدُّنْيَا ، وَشَهَوَاتِهَا ،
وَفِتْنَتِهَا ، وَالشَّوْقَ إلَى لِقَاءِ اللَّهِ ، وَمَخْرَجُ ذَلِكَ مِنْ
حُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ ، وَخَوْفِ التَّقْصِيرِ فِي الْعَمَلِ ، وَيُعْطَى
بِالْخَلْوَةِ حَيَاةَ الْقَلْبِ ، وَضِيَاءَ نُورِهِ ، وَنَفَاذَ بَصَرِهِ فِي
عُيُوبِ الدُّنْيَا ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالنَّقْصِ ، وَالزِّيَادَةِ فِي دِينِهِ ،
وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ الْإِنْصَافَ لِلنَّاسِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيُعْطَى بِالْخَلْوَةِ
خَوْفَ وُرُودِ الْفِتَنِ الَّتِي فِيهَا ذَهَابُ الدِّينِ ، وَالِاشْتِيَاقَ إلَى
الْمَوْتِ ، وَالْأُنْسَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ لِمَا
قَدْ وَجَدَ مِنْ حَلَاوَةِ الْمُنَاجَاةِ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي جَعَلَهُ
اللَّهُ نُورًا ، وَشِفَاءً لِلْمُؤْمِنِينَ فَإِذَا الْتَبَسَ عَلَيْك هَذَا
الطَّرِيقُ ، وَاشْتَبَهَتْ عَلَيْك الْأُمُورُ فَقِفْ نَفْسَك عَلَى الْإِرَادَةِ
مِنْ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ ، وَالتَّشْوِيقِ إلَى مَا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهِ
الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّك تَرْجِعُ بَصِيرًا مِنْ حِيرَتِك ، وَعَالِمًا مِنْ
جَهَالَتِك - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
- وَانْظُرْ إلَى كُلِّ مَوْطِنٍ يَضْطَرُّك إلَى الصَّبْرِ فَاهْرَبْ مِنْهُ
فَإِنَّك تَعْجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَك
قَدَمٌ عَلَى مَحَجَّةِ دِينِ اللَّهِ ، وَفِيك خَوْفَانِ : خَوْفُ الْفَقْرِ ،
وَخَوْفُ الْغِنَى ، وَالثَّرْوَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِفْتَاحُ فَقْرِ الْأَبَدِ ،
وَخَوْفُك مِنْ السُّقُوطِ مِنْ أَعْيُنِ النَّاسِ هُوَ الَّذِي يُسْقِطُك مِنْ
عَيْنِ اللَّهِ ، وَيُنْسِيك حَظَّك مِنْهَا فَادْرَأْ
ذَلِكَ عَنْك ، وَاطْلُبْ التَّخَلُّصَ ، وَهَيِّئْ لِذَلِكَ خَوْفَيْنِ : خَوْفَ
أَنَّ مِثْلَك لَا يَسْتَأْهِلُ أَنْ يَبْلُغَ مَا يُؤَمِّلُ مِنْ الْآخِرَةِ
فَإِنْ تَفَضَّلَ عَلَيْك رَبُّك بِبُلُوغِ أَمَلِك فَأَتْبِعْهُ الشُّكْرَ ، وَلْتُحْضِرْهُ
خَوْفًا شَدِيدًا ؛ لِأَنَّك لَا تَقُومُ بِالشُّكْرِ لِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْك
كَمَا يَنْبَغِي فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ خِفْت عَلَيْك أَنَّ تُسْلَبَ
النِّعْمَةَ فَتَرْجِعَ إلَى أَسْوَأِ حَالِكَ فَإِذَا أَلْزَمَ الْعَبْدُ
نَفْسَهُ هَذَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ، وَتَمَسَّك بِهِمَا رَجَوْت أَنْ يُؤَمِّنَهُ
اللَّهُ - وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ - .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِاَللَّهِ
أَنَّهُ قَالَ : لَسْت آمَنُ عَلَى نَفْسِي الْفِتْنَةَ ، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنِي
وَبَيْنَ الْإِسْلَامِ فَهَؤُلَاءِ يَخَافُونَ هَذَا ، وَهُمْ الصَّفْوَةُ
الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خَافُوا مَعَ سَابِقَتِهِمْ ، وَطَاعَتِهِمْ ، وَجِهَادِهِمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَهْجُمَ عَلَيْهِمْ أَقَلُّ مِمَّا
أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ فَيَحُولُ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ
مِنْ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ فَكَيْفَ بِك يَا مِسْكِينُ ، وَلَا سَابِقَةَ لَك
إلَّا فِي الشَّرِّ ، وَلَا حَلَاوَةَ عَرَفْتهَا قَدِيمًا مِنْ الْإِسْلَامِ
إلَّا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي ؟ وَأَنْتَ بَارِكٌ فِي دَوْلَةِ الْفِتْنَةِ ،
وَزَمَانِ الشَّرِّ تُحِبُّ الْبَقَاءَ طَمَعًا فِي الزِّيَادَةِ ، وَأَنْتَ مَعَ
ذَلِكَ لَا تَنْقِمُ عَلَيْهَا حُبَّهَا فَخَدَعَتْك ، وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ
أَنَّك مَخْدُوعٌ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُطِيعَ إذَا كَانَ غَيْرَ عَالِمٍ بِمَا
يَلْزَمُهُ مِنْ الطَّاعَةِ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ ، وَلَا عَارِفٍ بِمُكَايَدَةِ عَدُوِّهِ
هَانَتْ عَلَى إبْلِيسَ صَرْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ نَوْعٌ مِنْ الْعِبَادَةِ
إلَّا وَلَهَا ضِدٌّ مِنْ الْفِتْنَةِ فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْخَيْرَ ، وَضِدَّهُ
مِنْ الشَّرِّ ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْعِبَادَةِ خَاصَّةً ، ثُمَّ اجْتَهَدَ
خَلَّاهُ
إبْلِيسُ وَإِيَّاهَا ؛ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ قِلَّةِ
عِلْمِهِ بِعِبَادَتِهِ ، وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ
فِي نَفْسِ عِبَادَتِهِ بِشَيْءٍ ، وَيَقْصِدُ لَهُ جِهَةَ آفَاتِهَا الَّتِي
تُبْطِلُ عِبَادَتَهُ مِنْ شَهْوَةِ النُّفُوسِ الَّتِي تُسَارِعُ فِي قَبُولِ ذَلِكَ
فَيَتَزَيَّنُ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ عِنْدِهَا ، وَأَنَّهُ سَيُجْزَى
، وَيُثَابُ فَيُصَدِّقُهَا بِمَا تُلْقِي إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَتَزْهُو النَّفْسُ
لِرِضَى صَاحِبِهَا عَنْهَا ، وَيُحَقِّقُ إبْلِيسُ ظَنَّهُ بِهِ ، وَبِالْخُدَعِ
لَهُ فَإِذَنْ قَدْ صُرِعَ وَخُذِلَ ، وَلَجَأَ إلَى نَفْسِهِ بِمَيْلِهِ عَنْ
طَرِيقِ الشُّكْرِ ، وَيَظْهَرُ لَهُ مِنْ فِتْنَةِ عَدُوِّهِ مَا يَسْتَصْغِرُ
بِهِ الْمَخْلُوقِينَ ، وَتَكُونُ نَفْسُهُ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَا عَدْلَ لَهَا زَكَاءً
وَطِيبًا ، وَهِيَ أَخْبَثُ الْأَنْفُسِ وَأَنْتَنُهَا وَأَسْقَطُهَا مِنْ عَيْنِ
اللَّهِ تَعَالَى ، فَكُلَّمَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ مِنْ عَمَلٍ احْتَمَلَ
فِيهِ الْأَذَى مَعَ مُسَاعَدَتِهِ إيَّاهَا ، وَشِدَّةِ رِضَاهُ عَنْهَا مِنْ
تَحَمُّلِ لُبْسِ الْخَشِنِ ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ الْجَشِيمِ ، وَطُولِ السَّهَرِ
، وَالصَّبْرِ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَادَةِ بِمَا يُفْتَتَنُ بِهِ ، وَيَسْتَمِيلُ
بِهِ إبْلِيسُ قُلُوبَ الْجُهَّالِ ، وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنِّي لَأَعُدُّ
كَلَامِي فِيمَا لَا بُدَّ لِي مِنْهُ مُصِيبَةً وَاقِعَةً أَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ
عَلَى السَّلَامَةِ مِنْهَا ، وَإِنِّي لَأُعِدُّ صَمْتِي عَمَّا لَا يَعْنِينِي
غَنِيمَةً وَإِحْدَاثَ نِعْمَةٍ أَلْتَمِسُ الشُّكْرَ عَلَيْهَا إذْ عَلِمْت أَنَّ
مِنْ وَرَاءِ كُلِّ كَلِمَةٍ رَقِيبًا عَتِيدًا ، وَأُنْزِلُ مَا اُضْطُرِرْت
إلَيْهِ مِنْ الْقَوْلِ مُصِيبَةً نَازِلَةً ، وَمَا كُفِيتُ مِنْ الْكَلَامِ
غَنِيمَةً بَارِدَةً .
وَيُرْوَى عَنْ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ :
إنَّ مِنْ شَرِّ كَسْبِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا تَنْقِيصُ الْعَبْدِ غَيْرَهُ ،
وَالْوَقِيعَةَ فِيهِ ، وَهِيَ الْغِيبَةُ ، وَيُقَالُ : إنَّهَا تُفْطِرُ
الصَّائِمَ ، وَتَنْقُضُ الْوُضُوءَ ، وَتُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ، وَيَسْتَوْجِبُ
بِهَا صَاحِبُهَا الْمَقْتَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْغِيبَةُ
وَالنَّمِيمَةُ مَخْرَجُهُمَا مِنْ طَرِيقِ الْبَغْيِ ،
وَالنَّمَّامُ قَاتِلٌ ، وَالْمُغْتَابُ آكِلُ مَيْتَةٍ ، وَالْمُبَاهِي
مُتَكَبِّرٌ ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ بَعْضُهَا مِفْتَاحٌ
لِبَعْضٍ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مُجَانِبٌ لِأَحْوَالِ الْمُتَّقِينَ .
فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ أَصْلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي
تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُنُونُ الْخَيْرِ
.
وَقَالَ :
رَحِمَهُ اللَّهُ سَأَلَ سَائِلٌ حَكِيمًا فَقَالَ :
أَخْبِرْنِي بِأَصْلِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي مِنْهَا تَتَفَرَّعُ فُنُونُ الْخَيْرِ
، وَتَجْرِي بِهَا الْمَنَافِعُ ، وَتَصِحُّ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ ، وَلَا حَوْلَ
وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .
فَقَالَ لَهُ الْحَكِيمُ : اعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ
الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَتَفَرَّعُ مِنْهَا فُنُونُ الْخَيْرِ ، وَتَجْرِي بِهَا
الْمَنَافِعُ ، وَتَصِحُّ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ بَعْدَ الْيَقِينِ بِمَعْرِفَةِ
النِّعَمِ ، وَالْقِيَامِ بِأَدَاءِ الشُّكْرِ ، وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَأَنْ
يَصِحَّ عِنْدَك أَنَّ جَمِيعَ الْخَيْرِ مَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَعْلَمَ
أَنَّ جَمِيعَ الْمَعَاصِي كُلِّهَا عُقُوبَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهِيَ
مِنْ طَرِيقِ الْخِذْلَانِ ، وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ السُّخْطِ فَإِذَا
اعْتَرَفْت بِذَلِكَ كَثُرَتْ حَسَنَاتُك ، وَقَلَّتْ سَيِّئَاتُك ؛ لِأَنَّك إذَا
عَلِمْت أَنَّ الْإِحْسَانَ نِعَمٌ وَمَوَاهِبُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ازْدَدْت
فِي الشُّكْرِ ، وَاسْتَقْلَلْت كَثِيرَ شُكْرِك عِنْدَ صَغِيرِ نِعْمَةٍ عَلَيْك
؛ لِأَنَّ الْجَبَّارَ الْعَظِيمَ مَنَّ بِهَا عَلَيْك ، وَسَاقَهَا إلَيْك
فَقَلَّ عِنْدَك كَثِيرُ الشُّكْرِ ، وَكَبُرَ عِنْدَك صَغِيرُ النِّعَمِ
فَجَرَيْت حِينَئِذٍ فِي مَيْدَانِ الزِّيَادَةِ مِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ ،
وَعَلِمْت مَعْرِفَةَ الرِّضَا ، وَطَمِعْت فِي الْعَفْوِ ، وَإِذَا عَلِمْت أَنَّ
الْإِسَاءَةَ الَّتِي اكْتَسَبْتهَا إنَّمَا هِيَ خِذْلَانٌ مِنْ اللَّهِ وَإِنَّهَا
مِنْ طَرِيقِ السُّخْطِ فَزِعْت إلَى التَّضَرُّعِ فَنَزَلْتَ بِسَاحَتِهِ ،
وَإِلَى الِاسْتِكَانَةِ فَصَحِبْتهَا ، وَإِلَى التَّوَاضُعِ فَاِتَّخَذْته
خِدْنًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَجَأْت إلَى التَّوْبَةِ فَاسْتَجَرْت
بِهَا ، وَلَبِسْت جِلْبَابَ الْحَيَاءِ مِمَّا سَلَفَ مِنْك ، وَشَهِدَ اللَّهُ
عَلَيْك بِهِ ، وَشَاهَدَهُ مِنْك مِنْ الْإِسَاءَةِ مَعَ مَا تَعْرِفُ مِنْ
كَثْرَةِ إحْسَانِهِ فَلَمْ تَتَعَرَّضْ بَعْدَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ مِمَّا يَكْرَهُ ،
وَعَمَدْت إلَى الْمَعَاصِي فَعَادَيْتهَا مِنْك ، وَمِنْ
غَيْرِك فَتَكْرَهُ أَنْ يَعْصِيَهُ أَحَدٌ مِنْ
خَلْقِهِ كُلِّهِمْ بِصَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ فَرَاجَعْت الْإِحْسَانَ
مُجْتَهِدًا ، وَأَنْتَ مَعَ ذَلِكَ عَارِفٌ بِالنِّعْمَةِ عَلَيْك فِي
التَّنْبِيهِ وَالرُّجُوعِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ عَلَيْك فَالْتَمَسْت
لَطِيفَ الشُّكْرِ بَعْدَ إقْلَاعِك عَنْ الْإِسَاءَةِ بِشِدَّةِ الْمُضَادَّةِ
لَهَا فَعَظُمَ شُكْرُك عِنْدَ التَّحْوِيلِ إلَى الْإِحْسَانِ بَعْدَ
الْإِسَاءَةِ فَإِذْ ذَاكَ قَدْ صِرْت فِي جَمِيعِ أَحْوَالِك شَاكِرًا ذَاكِرًا ،
وَلَمْ يُعْجِزْك مَعْرِفَةُ الْإِحْسَانِ فَشَكَرْت حِينَئِذٍ الشَّاكِرَ
الْمَشْكُورَ الَّذِي وَعَدَ عَلَى الشُّكْرِ الزِّيَادَةَ ، وَوَعْدُهُ لَا
خُلْفَ فِيهِ ، وَعَرَفْت الْإِسَاءَةَ مِنْ أَيْنَ كَانَ مَخْرَجُهَا فَرَاجَعْت الْإِحْسَانَ
بِالْعِتَابِ مِنْك لِنَفْسِك ، وَلِمَنْ زَيَّنَ الْإِسَاءَةَ لَك ، وَدَعَاك
إلَيْهَا فَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ فُنُونُ الْخَيْرِ ،
وَبِهِ تُغْلَقُ أَبْوَابُ الشَّرِّ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا
بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
.
فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ تَهْوِينِ سُلُوكِ الطَّرِيقِ ، وَالْوُصُولِ
إلَيْهِ - بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى - وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَقِيلَ لَهُ : أَوْضِحْ لَنَا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي
يَنَالُ الْعِبَادُ بِهَا الْقُرْبَ مِنْ رَبِّهِمْ ، وَيَقْوُونَ بِهَا عَلَى
مَعْرِفَتِهِ ، وَيَبْلُغُونَ بِهَا رِضْوَانَهُ ، وَالْأَمْرَ الَّذِي
يُقَرِّبُهُمْ إلَيْهِ ، وَيُقَصِّرُ بِهِمْ عَنْهُ إيضَاحًا شَافِيًا حَتَّى
يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَنَا بَيِّنًا .
فَقَالَ : سَأُوضِحُ لَك ذَلِكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى - فَافْهَمْ قَوْلِي بِفَهْمٍ لَا يُخَالِطُهُ سَهْوٌ ، وَتَذَكَّرْ فِيهِ بِتَذَكُّرٍ
لَا يُخَالِطُهُ غَفْلَةٌ ، وَاصْبِرْ عَلَيْهِ صَبْرًا لَا يُخَالِطُهُ جَزَعٌ
فَإِنَّك إنْ تَفْعَلْ ذَلِكَ يُنْهَج لَك مِنْهَاجُ الطَّرِيقِ ، وَتَسْلَمْ مِنْ
تَقْصِيرِ طَرِيقِ الْهَلَكَةِ ، وَالتَّوْفِيقُ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
اعْلَمْ أَنَّ مُبْتَدَأَ الْأُمُورِ ، وَاَلَّذِي لَا
يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إلَّا بِهِ : الْعَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ جَلَّ
ذِكْرُهُ زِينَةً لِخَلْقِهِ ، وَنُورًا لَهُمْ فَبِالْعَقْلِ يَعْرِفُ الْعِبَادُ
خَالِقَهُمْ ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ ، وَأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ ، وَهُمْ
الْمُدَبَّرُونَ ، وَهُوَ الْبَاقِي ، وَهُمْ الْفَانُونَ فَاسْتَدَلُّوا
بِعُقُولِهِمْ عَلَى مَا رَأَوْا مِنْ خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ ، وَسَمَائِهِ ،
وَشَمْسِهِ ، وَقَمَرِهِ ، وَلَيْلِهِ ، وَنَهَارِهِ ، وَعَلِمُوا أَنَّ لَهُمْ وَلِهَذَا
الْخَلْقِ خَالِقًا ، وَأَنَّ لِذَلِكَ كُلِّهِ مُدَبِّرًا ، وَأَنَّهُ لَمْ
يَزَلْ ، وَلَا يَزَالُ ، وَعَرَفُوا بِهِ الْحَسَنَ مِنْ الْقَبِيحِ ، وَعَلِمُوا
أَنَّ الظُّلْمَةَ فِي الْجَهْلِ ، وَالنُّورَ فِي الْعِلْمِ هَذَا مَا دَلَّهُمْ
عَلَيْهِ الْعَقْلُ .
فَقِيلَ لَهُ
: كَيْفَ يَكْتَفِي الْعِبَادُ بِالْعَقْلِ دُونَ
غَيْرِهِ ؟ فَقَالَ : إنَّ الْعَاقِلَ دَلَّهُ عَقْلُهُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ
قِوَامَهُ ، وَزِينَتَهُ عَلَى أَنَّ لَهُ رَبًّا ، وَعَلِمَ أَنَّ رَبَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ
عَبَثًا ، وَأَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ خَلْقَهُ لَعِبًا ، وَعَلِمَ أَنَّ لِخَالِقِهِ
مَحَبَّةً ، وَكَرَاهِيَةً ، وَأَنَّ لَهُ طَاعَةً ، وَمَعْصِيَةً فَلَمْ يَجِدْ
عَقْلَهُ يَدُلُّهُ إلَّا عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلِمَ
أَنَّهُ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْعِلْمِ وَطَلَبِهِ ، وَأَنَّهُ لَا
يَنْتَفِعُ بِعَقْلِهِ إنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ ، وَيَعْلَمْهُ فَوَجَبَ عَلَى
الْعَاقِلِ طَلَبُ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ ، وَهُوَ الَّذِي لَا قِوَامَ لَهُ إلَّا
بِهِ ، فَقِيلَ لَهُ : صِفْ لَنَا مَا هَذَا الْعِلْمُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي
لِلْعَاقِلِ إلَّا طَلَبُهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّقْصِيرُ بِنَفْسِهِ عَنْهُ
؟ فَقَالَ : طَلَبُ الْعِلْمِ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ ، وَأَنْبِيَاؤُهُ
عَنْهُ : مِنْ أَمْرِهِ ، وَنَهْيِهِ ، وَوَعْدِهِ ، وَوَعِيدِهِ ،
وَمَلَائِكَتِهِ ، وَكُتُبِهِ ، وَرُسُلِهِ ، وَجَنَّتِهِ ، وَنَارِهِ ،
وَبَعْثِهِ ، وَحِسَابِهِ ، وَحَلَالِهِ ، وَحَرَامِهِ ، وَطَاعَتِهِ ،
وَمَعْصِيَتِهِ ، وَمَحَبَّتِهِ ، وَكَرَاهَتِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : هَلْ يَكْتَفِي الْعَالِمُ بِمَا عَلِمَ
مِنْ ذَلِكَ أَوْ يَحْتَاجُ إلَى غَيْرِهِ ؟ فَقَالَ : لَا يَنْتَفِعُ الْعَالِمُ
بِمَا عَلِمَ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْإِيمَانِ بِهِ ، وَأَنْ يُقِرَّ ذَلِكَ فِي
قَلْبِهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ مَا سِوَاهُ
بَاطِلٌ ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ لَهُ نَفْعًا لَمْ يُقَدِّرْهُ اللَّهُ
لَهُ ، وَلَا ضُرًّا لَمْ يَكْتُبْهُ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ : فَهَلْ يَجِبُ
عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ غَيْرُ ذَلِكَ أَوْ يُكْتَفَى بِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ إنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَةِ لَهُ
، وَالْعَمَلِ بِهَا ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ ، وَرُكُوبِهَا ، فَمَنْ
آمَنَ ، وَلَمْ يَعْمَلْ كَانَ مُتَهَاوِنًا ، وَتَصْدِيقُ الْإِيمَانِ الْعَمَلُ
بِهِ .
فَقِيلَ لَهُ : فَكَيْفَ الْعِلْمُ ، وَكَيْفَ الْعَمَلُ
؟ قَالَ : أَنْ تَعْمَلَ بِمَحَبَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنْ خَالَفَ
هَوَاك ، وَأَنْ تَعْمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَإِنْ أَسْخَطَك ، وَأَنْ تَجْتَنِبَ
سَخَطَ اللَّهِ ، وَإِنْ سَرَّك ، وَأَنْ تَدَعَ كَرَاهِيَتَهُ ، وَإِنْ
أَعْجَبَتْك ، وَأَنْ تُؤْثِرَ مَا هُوَ لَهُ ، وَإِنْ سَاءَك ، وَأَنْ تَرْغَبَ
فِيمَا رَغَّبَك ، وَتَزْهَدَ فِيمَا زَهَّدَك ، وَأَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ إمَامَك
وَدَلِيلَك .
فَقَالَ لَهُ
السَّائِلُ : قَدْ دَلَلْتنِي عَلَى الْعَمَلِ فَعَرَفْت
، وَعَرَفْت فَآمَنْت فَلَمْ يَكُنْ عَلَيَّ فِي ذَلِكَ كَبِيرُ مُؤْنَةٍ ، وَلَا
عَظِيمُ مَشَقَّةٍ بَلْ خِفَّةٌ ، وَرَاحَةٌ مَعَ مَا اسْتَزَدْت بِهِ هِدَايَةً ،
وَبَصِيرَةً ، وَمَعْرِفَةً ، فَلَمَّا صِرْت إلَى الْعَمَلِ بِهِ لِزَمَنِي فِي
ذَلِكَ مُؤْنَةٌ شَدِيدَةٌ ، وَثُقْلٌ كَبِيرٌ حَتَّى حَالَ بَيْنِي ، وَبَيْنَ كَثِيرٍ
مِنْ لَذِيذِ عِيشَتِي ، وَنَعِيمِ دُنْيَايَ ، وَحَمَلَنِي عَلَى الْمَكْرُوهِ ،
وَصَرَفَنِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السُّرُورِ فَصِفْ لِي أَمْرًا أَقْوَى بِهِ عَلَى
الْعَمَلِ فِيمَا آمَنْت بِهِ فَقَدْ اشْتَدَّتْ عَلَيَّ مُؤْنَتُهُ ، وَثَقُلَ
عَلَيَّ احْتِمَالُهُ .
فَقَالَ :
الْأُمُورُ الَّتِي تَقْوَى بِهَا عَلَى الْعَمَلِ
وَالْأَدَبِ : الصَّبْرُ الَّذِي هُوَ تَمَامُهُ وَقِوَامُهُ فَإِنَّك إنْ
صَبَرْت انْتَفَعْت بِعِلْمِك ، وَبَلَغْت مِنْهُ رِضْوَانَ اللَّهِ ، وَقَوِيت فِيهِ
عَلَى الْعَمَلِ ، وَلَيْسَ مَنْزِلَةٌ مِنْ مَنَازِلِ الْخَيْرِ إلَّا ،
وَلِلصَّبْرِ فِيهِ عَمَلٌ ، وَبِهِ تَمَامُهُ فَبِالصَّبْرِ قَوِيَ الْعِبَادُ
عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَالْحَلَالِ ، وَالْحَرَامِ ، وَبِالصَّبْرِ قَوُوا
عَلَى اجْتِنَابِ الْمَحَارِمِ ، وَبِالصَّبْرِ بَلَغُوا الْغَايَةَ مِنْ
كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَثَوَابِهِ ، فَإِذَا صَبَرْت عَلَى الْعَمَلِ
انْتَفَعْت بِالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ ، وَإِنَّك إنْ لَمْ تَصْبِرْ لَمْ تَعْمَلْ ،
وَإِنْ لَمْ تَعْمَلْ لَمْ تَنْتَفِعْ بِالْإِيمَانِ بِمَا عَلِمْت ، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ
بِالْإِيمَانِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْعَمَلُ ، وَمَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالْعَمَلِ
لَمْ يُغْنِ عَنْهُ الْعَقْلُ فَرَأْسُ أَمْرِ الْعِبَادِ الْعَقْلُ ،
وَدَلِيلُهُمْ الْعِلْمُ ، وَنُورُهُمْ الْإِيمَانُ ، وَسَائِقُهُمْ الْعَمَلُ ،
وَمُقَرِّبُهُمْ الصَّبْرُ فَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الصَّبْرِ
ضَعُفَ ، وَمَنْ ضَعُفَ لَمْ يَعْمَلْ ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ لَمْ يَتِمَّ لَهُ
أَمْرُهُ وَنُورُهُ ، وَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ ، وَمَنْ ذَهَبَ عَنْهُ النُّورُ
عَمِيَ ، وَحَادَ عَنْ الطَّرِيقِ ، وَمَنْ لَمْ يُبْصِرْ فَلْيَتَّبِعْ
الدَّلِيلَ ، وَهُوَ الْقُرْآنُ ، وَمَنْ اتَّبَعَ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ
النَّجَاةُ مِنْ
الْهَوْلِ الْعَظِيمِ ، وَعَمِلَ لَهُ ، وَصَبَرَ
عَلَيْهِ صَارَ إلَى غَايَةِ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ ، فَقَالَ لَهُ : قَدْ
بَصَّرْتَنِي مِنْ فَضْلِ الصَّبْرِ قُوَّتَهُ ، وَعَلَّمْتَنِي مَا رَغَّبَنِي
فِيهِ ، وَقَوَّانِي عَلَى الْعَمَلِ بِهِ مَعَ ثِقَلِهِ عَلَيَّ فَصِفْ لِي
أَمْرًا أَزْدَادُ بِالصَّبْرِ تَبَصُّرًا ، وَفِيهِ رَغْبَةً ، وَعَلَيْهِ
حِرْصًا فَقَالَ : صَبْرُك عَلَى الطَّاعَةِ ، وَطَلَبُك لَهَا ، وَهَرَبُك مِنْ الْمَعْصِيَةِ
، وَبَلِيَّتِهَا هُوَ الَّذِي يُرَغِّبُك فِي الطَّاعَةِ وَيُبَيِّنُ لَك
فَضْلَهَا قَالَ : قَدْ شَرَحْت لِي أَمْرَ الصَّبْرِ ، وَفَضْلَهُ فَزِدْنِي بِهِ
تَبَصُّرًا فَقَالَ لَهُ : هَذَا الدَّلِيلُ ، وَالْإِمَامُ كِتَابُ اللَّهِ هُوَ
الَّذِي يُبَيِّنُ لَك فَضْلَ الصَّبْرِ ، وَيُرَغِّبُك فِي لُزُومِهِ فَإِنَّ
اللَّهَ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى وَصَفَ أَعْمَالَ الْعِبَادِ ، وَذَكَرَ
ثَوَابَهُمْ فَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابًا يَعْدِلُ ثَوَابَ الصَّبْرِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ
أَنَّهُمْ يُوَفَّوْنَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابِ فَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى
فَضْلِ الصَّبْرِ مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ ثَوَابِهِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ
لَهُ : صَاحِبُهُ قَدْ دَلَّنِي الْعِلْمُ وَكِتَابُ رَبِّي عَلَى مَا ذَكَرْت
مِنْ فَضْلِ الصَّبْرِ وَثَوَابِهِ ؛ فَزَادَنِي بِفَضْلِهِ تَبَصُّرًا ،
وَازْدَدْت عَلَيْهِ حِرْصًا ، وَفِيهِ رَغْبَةً ، وَبِهِ تَمَسُّكًا ، وَعَلَيْهِ
اعْتِمَادًا مَعَ شِدَّةٍ مِنْهُ عَلَيَّ ، وَثِقَلٍ ، وَصَبْرٍ عَلَى خِلَافِ مَا
أَشْتَهِي ، وَحَمْلِ نَفْسِي عَلَى مَا أَكْرَهُ لِطَلَبِي فِيهِ الْأَجْرَ ،
وَالْفَضْلَ ، وَابْتِغَاءَ الْعَمَلِ وَالْأَدَبِ .
فَصِفْ لِي أَمْرًا يَخِفُّ بِهِ عَلَيَّ مُؤْنَةُ
الصَّبْرِ ، وَيَسْهُلُ عَلَيَّ لُزُومُهُ ، وَيَخِفُّ عَلَيَّ احْتِمَالُهُ ،
وَتَذِلُّ صُعُوبَتُهُ فَقَالَ لَهُ : أَرَاك لِلْخَيْرِ مُرِيدًا ، وَلِلْفَضْلِ
طَالِبًا ، وَعَلَيْهِ حَرِيصًا ، وَتُحِبُّ أَنْ تَكُونَ قَدْ قَوِيت عَلَى مَا
دَلَّكَ عَلَيْهِ الْعِلْمُ بِنَفَاذٍ مِنْ الصَّبْرِ ، وَقُوَّةٍ مِنْ الْعَمَلِ
، وَذَلِكَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّعَادَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ كُلَّمَا ازْدَادَ
عِلْمًا ، وَفِيهِ تَفَهُّمًا ازْدَادَ لِلْخَيْرِ طَلَبًا ، وَعَلَيْهِ
حِرْصًا فَخَفَّ عَلَيْهِ الثَّقِيلُ ، وَقَرُبَ
عَلَيْهِ الْبَعِيدُ ، وَلَهَا فِي الدُّنْيَا عَمَّا يُرِيدُ .
وَإِنَّمَا الثِّقَلُ وَالْعُسْرُ تِمْثَالُ الدُّنْيَا
فِي قَلْبِ الْعَبْدِ ، وَهِيَ مَرْصَدُ إبْلِيسَ ، وَسِلَاحُهُ فَإِذَا قَطَعَ
عَنْهُ ذَلِكَ اسْتَنَارَ الْقَلْبُ ، وَخَرَجَتْ الظُّلْمَةُ مِنْهُ فَلَمْ
يَكُنْ لِلشَّيْطَانِ بِهِ احْتِمَالُ قُوَّةٍ ، وَلَا لَهُ فِيهِ نَصِيبٌ ، وَوَصَلَ
مِنْ الْأَمْرِ إلَى مَا يُرِيدُ فَقَالَ لَهُ : زِدْنِي مَا يُسَهِّلُ بِهِ
عَلَيَّ ثِقَلَ احْتِمَالِ الصَّبْرِ ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ :
الْأَمْرُ الَّذِي يُسَهِّلُ عَلَيْك ثِقَلَ احْتِمَالِ الصَّبْرِ ، وَيُخَفِّفُهُ
عَلَيْك الرِّضَا عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ ، وَتَعَالَى بِكُلِّ مَا صَنَعَ بِك ،
وَاخْتَارَهُ لَك ، وَسَاقَهُ إلَيْك فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : فَأَوْضِحْ لِي
كَيْفَ يَهُونُ عَلَيَّ مُؤْنَةُ الصَّبْرِ بِرِضَائِي عَنْ اللَّهِ ، وَيُخَفَّفُ
عَلَيَّ احْتِمَالُهُ ؟ فَقَالَ : أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّك إنَّمَا انْتَسَبْت إلَى
الرِّضَا ، وَسَمَّيْته صَبْرًا ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي نَزَلَ بِك مَكْرُوهٌ
عَلَيْك وَإِنَّ هَوَاك ، وَنَفْسَك يُنَازِعَانِك إلَى غَيْرِهِ فَاحْتَجْتَ إلَى
الصَّبْرِ فَتَدَبَّرْت ، وَاعْتَبَرْتَ فَصِرْت مِنْ ذَلِكَ إلَى مَوْضِعِ
رِضَاهُ .
ثُمَّ يَتَجَاوَزُ بِك الْأَمْرُ حَتَّى تَصِيرَ إلَى
مَوْضِعِ السُّرُورِ حَتَّى تَرَى لَوْ صُرِفَ ذَلِكَ الْأَمْرُ عَنْك لَصِرْت
مِنْهُ إلَى تَقْوِيَةِ نَفْسِك ، وَعَلِمْت أَنَّ مَا صُرِفَ عَنْك عُقُوبَةٌ
لِبَعْضِ مَا أَحْدَثْت مِنْ ذُنُوبِك أَوْ قَصَّرْت فِيهِ عَنْ شُكْرِ مَا
أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْك فَصِرْت مِنْهُ إلَى الدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ ،
وَمَنَازِلِ أَهْلِ الرِّضَا ، وَإِنَّمَا يُوصَلُ إلَى ذَلِكَ بِالْمَعْرِفَةِ
بِاَللَّهِ ، وَبِمَعْرِفَتِهِ يَنْظُرُ إلَيْك فَتَعْلَمُ أَنَّك لَا نَظَرَ لَك
مِنْ نَفْسِك فَتَرْضَى بِمَا رَضِيَ بِهِ ، وَتَرْغَبُ فِيمَا رَغِبَهُ ، وَتَزْهَدُ
فِيمَا زَهِدَهُ ، وَالزُّهْدُ مِنْ الرِّضَا قَالَ : قَدْ عَلِمْت فَضْلَ
الرِّضَا ، وَوَضَحَ لِي أَمْرُهُ ، فَصِفْ لِي كَيْفَ يُهَوَّنُ عَلَيَّ أَمْرَ
الصَّبْرِ فِي الزُّهْدِ ؟ وَكَيْفَ مَأْخَذُهُ فَقَدْ أَرَانِي مَعَ مَا
أَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ الزُّهْدِ مُقِيمًا عَلَى
الصَّبْرِ ، وَأَزْدَادُ أَيْضًا مَعَ زُهْدِي فِي الدُّنْيَا أُمُورًا أَحْتَاجُ
فِيهَا إلَى الصَّبْرِ مُخَالَفَةً لِهَوَائِي ، وَرَفْضًا لِشَهَوَاتِي ، وَمَا
تُنَازِعنِي نَفْسِي مِنْ لَذَّاتِي فَقَدْ أَرَانِي ازْدَدْت ثِقَلًا ، وَضَجَرًا
قَالَ : أَرَاك لَا تَقْبَلُ مِنْ الْأُمُورِ إلَّا أَصْلَحَهَا ، وَلَا تَرْضَى
لِنَفْسِك إلَّا بِوَاضِحِهَا ، وَلَا تَخْتَارُ مِنْهَا إلَّا أَرْشَدَهَا ،
وَذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي أَرْجُو لَك بِهَا الْقُوَّةَ ، وَالنَّجَاحَ لِحَاجَتِك
، وَالظَّفَرَ بِطَلَبَتِك ، وَبُلُوغِك أَقْصَى الْغَايَةِ مِنْ إرَادَتِك
فَافْهَمْ قَوْلِي ، وَتَدَبَّرْ نُصْحِي فَإِنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ وَاضِحَةٌ
، وَالْأَمْرَ فِيهِ بَيِّنٌ أَلَسْت تَعْلَمُ أَنَّ الدُّنْيَا كَانَتْ بَاقِيَةً
فِي قَلْبِك ، وَأَنَّ حُبَّهَا غَالِبٌ عَلَيْك ، وَأَنَّ سُرُورَهَا فَرَحٌ لَك
وَأَنَّ مَكْرُوهَهَا شَدِيدٌ عَلَيْك فَحَمَلْت نَفْسَك عَلَى قَطْعِ ذَلِكَ مَعَ
حُبِّك لَهَا ، وَإِيثَارِكَ لَهَا ، وَنُزُلِهَا مِنْك مَعَ طَلَبِك الْفَضْلَ
مِنْ احْتِمَالِ الصَّبْرِ ، وَحَمَلْت نَفْسَك عَلَى الْمَكْرُوهِ مِنْ أَمْرِ
دُنْيَاك ، وَصَبَرْت عَلَيْهَا لِشِدَّةٍ مِنْهُ عَلَيْك ؛ لِأَنَّ مَكْرُوهَهَا
عِنْدَك مَكْرُوهٌ ، وَلِأَنَّ سُرُورَهَا عِنْدَك سُرُورٌ فَثَقُلَ عَلَيْك الصَّوْمُ
لِقَطْعِك الشَّهْوَةَ عَنْ نَفْسِك مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَثَقُلَتْ
عَلَيْك الصَّلَاةُ .
وَالِاشْتِغَالُ بِهَا لِمَا تُسِرُّهُ إلَيْك نَفْسُك
مِنْ اللَّهْوِ ، وَالْحَدِيثِ فِي الْبَاطِلِ ، وَثَقُلَتْ عَلَيْك الزَّكَاةُ
وَالصَّدَقَةُ لِمَا تُحِبُّ أَنْ تَصْرِفَهُ فِيهِ مِنْ لَذَّاتِك ، وَثَقُلَ
عَلَيْك التَّوَاضُعُ لِمَا تَرَى مِنْ تَصْغِيرِ شَأْنِك ، وَدَنَاءَةِ
مَنْزِلَتِك عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا ، وَثَقُلَ عَلَيْك الْأَمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ لِئَلَّا يُعَادِيَك النَّاسُ أَوْ يَنْقَطِعَ
رَجَاؤُك مِنْهُمْ أَوْ يُسْمِعُونَك مَا تَكْرَهُ فَيَدْخُلُ عَلَيْك
التَّنْغِيصُ فِي سُرُورِك ، وَثَقُلَ عَلَيْك الْقُنُوعُ وَالرِّضَا لِعَظِيمِ
مَوْقِعِ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِك ، وَحُبِّك الْإِكْثَارَ مِنْهَا ، وَحِرْصُك
عَلَيْهَا ،
وَكَرَاهِيَتُك لِلْمَوْتِ وَنَعِيمِ مَا بَعْدَهُ مَعَ
أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ يَطُولُ وَصْفُهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا صَارَ شِدَّتُهُ
عَلَيْك لِحُبِّ الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا ثَقُلَ عَلَيْك الصَّبْرُ وَمَلِلْته ،
وَضَيَّقَ الشَّيْطَانُ عَلَيْك الْمَذَاهِبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لِأَنَّ
سِلَاحَهُ الَّذِي بِهِ يَقْوَى ، وَكَيْدَهُ الَّذِي يَصِلُ بِهِ إلَى أَهْلِ الدُّنْيَا
الرَّغْبَةُ فِيهَا وَطَلَبُهَا ، فَإِذَا أَنْتَ زَهِدْت فِي الدُّنْيَا ،
وَرَفَضْتهَا ، وَرَغِبْت فِي الْآخِرَةِ ، وَطَلَبْتهَا سَهُلَ عَلَيْك الْأَمْرُ
فَآثَرْت الْآخِرَةَ ، وَطَلَبْتهَا ، وَرَغِبْت فِيهَا ، وَأَدْبَرَتْ عَنْك
الدُّنْيَا وَثِقَلُهَا ، وَتَوَلَّتْ عَنْك هَارِبَةً بِبَلَائِهَا ، وَأَتَتْك
بِمَنَافِعِهَا ، وَصَرَفَتْ عَنْك شُرُورَهَا بِرَغْمٍ مِنْهَا ، وَانْقَطَعَ
رَجَاءُ الشَّيْطَانِ ، وَصَغُرَ كَيْدُهُ وَوَلَّى ، وَقَلَّ سِلَاحُهُ فَلَا
قُوَّةَ لَهُ بِك ، وَنَجَوْت بِعِصْمَةِ اللَّهِ ، وَتَوْفِيقِهِ مِنْ الضِّيقِ ،
وَالتَّعْسِيرِ ، وَالْهَلَكَةِ ، وَصِرْت إلَى النِّعْمَةِ ، وَالسُّرُورِ ،
وَالرَّاحَةِ ، وَخَرَجَ حُبُّ الدُّنْيَا مِنْ قَلْبِك فَلَزِمْت الصِّيَامَ ،
وَخَفَّ عَلَيْك ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ نَفْسُك تَنْشَرِحُ إلَى الْأَكْلِ ،
وَالشُّرْبِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الشَّهَوَاتِ ، وَلَزِمْت الصَّلَاةَ ،
وَاشْتَغَلْت بِهَا ؛ لِأَنَّ نَفْسَك لَمْ تَكُنْ تُنَازِعُك إلَى اللَّهْوِ أَوْ
الْخَلْوَةِ إلَى حَدِيثٍ فِي بَاطِلٍ ، وَخَفَّتْ عَلَيْك الزَّكَاةُ
وَالصَّدَقَةُ ؛ لِأَنَّك أَعْدَدْت مَا قَدَّمْته أَمَامَك ، وَلَا تُرِيدُ
مِنْهُ شَيْئًا يَبْقَى خَلْفَك
.
وَخَفَّ عَلَيْك التَّوَاضُعُ لِأَنَّ الْإِيَاسَ قَدْ
خَرَجَ مِنْ قَلْبِك ، وَهَانَ عَلَيْك الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ
الْمُنْكَرِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَوَوْا عِنْدَك فَلَمْ تَرْجُ أَحَدًا
غَيْرَ رَبِّك ، وَلَمْ تَخَفْ شَيْئًا غَيْرَهُ ، وَخَفَّ عَلَيْك الْقُنُوعُ ؛ لِأَنَّك
رَضِيت مِنْ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ ، وَلَمْ تُنَازِعْك نَفْسُكَ إلَى غَيْرِ
الْبَلَاغِ وَالْكِفَايَةِ ، وَخَفَّ عَلَيْك الْجِهَادُ ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا
قَدْ أَخْرَجْتهَا مِنْ قَلْبِك ، وَكَرِهْت الْبَقَاءَ فِيهَا ، وَأَحْبَبْت
الْمَوْتَ
لِمَا تَرْجُو مِنْ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ
وَالْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ الَّتِي أَمَامَك ، فَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا رَاحَةٌ
لِلْقَلْبِ ، وَالْبَدَنِ ، وَهُوَ جِمَاعُ الْخَيْرِ ، وَتَمَامُهُ ، وَلَيْسَ
شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ إلَّا وَلَهُ ضِدٌّ مِنْ غَيْرِهِ فَمَا قَصُرَ
بِك عَنْهُ فَارْفُضْهُ ، وَازْهَدْ فِيهِ يَسْلَمُ لَك عَمَلُك ، وَيَخِفُّ
عَلَيْك .
ثِقَلُهُ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : أَوْضَحْت فَبَيَّنْت
، وَأَرْشَدْت فَهَدَيْت ، وَكَشَفْت فَأَرَيْت .
فَصِفْ لِي كَيْفَ الزُّهْدُ ؟ وَمَا حَدُّهُ ؟
وَاَلَّذِي يَنْبَغِي لِي الْعَمَلُ بِهِ ؟ فَقَدْ اسْتَبَانَ لِي فَضْلُهُ ،
وَوَضَحَ لِي رُشْدُهُ .
فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : إنَّ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا
وَاجِبٌ عَلَيْك ، وَهُوَ الْوَرَعُ لَا يَجُوزُ لَك التَّقْصِيرُ فِيهِ ، وَلَا
الرَّغْبَةُ عَنْهُ ، وَهُوَ اجْتِنَابُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك ، وَنَهَاك
عَنْهُ فَهَذَا الْأَمْرُ لَازِمٌ لَك لَا عُذْرَ لَك فِي التَّقْصِيرِ عَنْ الزُّهْدِ
، وَالْقُرْبِ إلَى رَبِّك طَلَبًا لِلْفَضْلِ ، وَنَفْيًا لِكُلِّ أَمْرٍ قَصُرَ
بِك عَنْهُ مِنْ الْمُسَارَعَةِ فِي طَاعَتِهِ ، وَالْمُسَابِقَةِ إلَى
رِضْوَانِهِ ، فَهَذَا مَا يَنْبَغِي لَك الْعَمَلُ بِهِ ، وَإِدَارَةُ صَلَاحِ
نَفْسِك عَلَيْهِ فَقَالَ : أَمَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيَّ ، وَنَهَانِي
عَنْهُ فَقَدْ دَلَّنِي عَلَيْهِ الْعِلْمُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ لَا يَنْبَغِي لِي
الْمَقَامُ عَلَيْهِ ، وَلَا الْعَمَلُ بِهِ فَزَهِدْت فِيهِ ، وَرَفَضْته فَصِفْ لِي
الزُّهْدَ الَّذِي أَرْجُو أَنْ أَنَالَ بِهِ كَرَامَةَ سَيِّدِي ، وَأَنْ
أَبْلُغَ مِنْ ذَلِكَ مَحَبَّتَهُ ، وَأَنْ أَدْفَعَ بِهِ عَنِّي كَيْدَ
الشَّيْطَانِ وَمَكْرَهُ .
فَقَالَ لَهُ : ذَلِكَ الزُّهْدُ فِي فُضُولِ الدُّنْيَا
، وَالرِّضَا مِنْهَا بِيَسِيرِهَا ، وَالْأَخْذُ مِنْهَا بِقَدْرِ الْبَلَاغِ
إلَى غَيْرِهَا ، وَرَفْضُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ فُضُولِهَا وَأُمُورِهَا ،
بِإِخْرَاجِ النَّاسِ مِنْ قَلْبِك فَلَا تَخَفْ أَحَدًا فِي اللَّهِ ، وَلَا
تَرُدَّ حَمْدَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، وَيَسْتَوِي النَّاسُ عِنْدَك فَلَا تَرْجُ
أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ ، وَلَا تَطْلُبْ إلَّا فَضْلَهُ ، وَتَنْصَحُ فِي اللَّهِ
فِي السِّرِّ ،
وَالْعَلَانِيَةِ ، وَلَا تَخَفْ لَوْمَ أَحَدٍ مِنْ
النَّاسِ ، وَلَا عَذْلَهُ ، وَتُحِبُّ فِي اللَّهِ ، وَتَبْغُضُ فِي اللَّهِ ،
وَلَا تُشْغِلُ قَلْبَك بِشَيْءٍ غَيْرَهُ ، وَتَلْزَمُ التَّوَاضُعَ ،
وَالتَّذَلُّلَ لِرَبِّك ، وَتُخْمِلُ ذِكْرَكَ ، وَتُغَيِّبُ اسْمَكَ ، وَلَا
تُرِدْ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ غَيْرَ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى ، وَتُحِبُّ الْمَوْتَ ، وَتَكُونُ مُمْتَثِلًا لَهُ بَيْنَ عَيْنَيْك لِرَجَاءِ
مَا بَعْدَهُ .
وَتَزْهَدُ فِي الْحَيَاةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ ،
وَالْبَلِيَّةِ فَهَذَا أَصْلُ الزُّهْدِ فَإِذَا أَنْتَ وَصَلْت إلَى ذَلِكَ
نِلْت شَرَفَ الْآخِرَةِ ، وَنَجَوْت بِعَوْنِ اللَّهِ مِنْ بَلِيَّةِ عَاجِلَتِك
فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : لَقَدْ ذَكَرْت لِي مِنْ أَمْرِ الزُّهْدِ شَيْئًا ضَاقَ
بِهِ ذَرْعِي ، وَاشْتَدَّ لَهُ غَمِّي ، وَاعْتَصَرَ لَهُ قَلْبِي ، وَاسْتَصْعَبَ
بِهِ عَلَيَّ أَمْرِي ، وَتَفَرَّقَ لَهُ رَأْيِي ، وَاشْتَدَّتْ عَلَيَّ
الْمُؤْنَةُ فِيهِ ، وَقَدْ كَانَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِمَالُ لَهُ أَيْسَرَ
عَلَيَّ مُؤْنَةً مِنْهُ ، وَأَخَفَّ عَلَيَّ حِمْلًا مِنْ الزُّهْدِ ، وَخَشِيت
أَنْ لَا أَقْوَى عَلَى احْتِمَالِهِ ، وَلَا تُطِيقُ نَفْسِي الْعَمَلَ
بِكَمَالِهِ ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِتَمَامِهِ ، وَأَنْ تَمَلَّهُ نَفْسِي
وَتَرْفُضَهُ ، وَتَرْجِعَ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ هَلَاكُهَا ،
وَعَطَبُهَا ، وَقَدْ عَرَفْت فَضْلَ الزُّهْدِ ، وَعَظِيمَ قَدْرِهِ ، فَصِفْ
إلَيَّ أَمْرًا أَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الزُّهْدِ ، وَيُخَفِّفُهُ عَلَيَّ ؟
فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : قَدْ فَهِمْت قَوْلَك ، وَلَقَدْ صَعُبَ عَلَيْك
الذَّلُولُ ، وَاشْتَدَّ عَلَيْك الْيَسِيرُ ، وَثَقُلَ عَلَيْك الْخَفِيفُ ،
وَعُمِّيَتْ عَلَيْك الْمَدَاخِلُ ، وَمَا أَلُومُك حَيْثُ اشْتَدَّ عَلَيْك مِنْ
أَمْرِك مَا ذَكَرْت حِينَ لَمْ تَعْلَمْ الْأَمْرَ الَّذِي لَهُ فِي الدُّنْيَا
زَهِدْت ، وَاَلَّذِي بِهِ عَلَيْهِ قَوِيت .
وَلَوْ عَلِمْته لَهَانَ عَلَيْك مِنْ أَمْرِك الشَّدِيدُ
، وَخَفَّ عَلَيْك الثَّقِيلُ ، وَسَهُلَتْ عَلَيْك مَوَارِدُهُ ، وَسَهُلَتْ
عَلَيْك فِيهِ الْمَذَاهِبُ ، وَخَفَّتْ عَلَيْك فِيهِ الْمُؤْنَةُ فَافْهَمْ
قَوْلِي بِعَقْلٍ ،
وَتَدَبَّرْهُ بِحِكَمٍ ، وَخُذْ فِيهِ بِقُوَّةٍ
وَجِدٍّ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا ، وَدَعَاهُمْ إلَى
الزُّهْدِ فِيهَا وَرَفْضِهَا خِصَالٌ شَتَّى بَعْضُهَا أَرْفَعُ وَأَعْلَى
دَرَجَةً مِنْ بَعْضٍ ، وَكُلُّهَا دَاعِيَةٌ إلَى الزُّهْدِ فِيهَا ، فَأَوَّلُ
دَرَجَاتِ الزُّهْدِ : أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَلَقَ الْعِبَادَ فِي
الدُّنْيَا ، وَجَعَلَ مَا فِيهَا زِينَةً لَهَا ، وَزَهَّدَهُمْ فِيهَا ،
وَخَلَقَ الْآخِرَةَ ، وَنَعِيمَهَا ، وَنَدَبَهُمْ إلَيْهَا ، وَرَغَّبَهُمْ
فِيهَا ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ عَنْ الدُّنْيَا مُرْتَحِلُونَ ، وَأَنَّهُمْ إلَى
الْآخِرَةِ صَائِرُونَ فَرَغَّبَ الْعِبَادَ فِي الْبَاقِي ، وَزَهَّدَهُمْ فِي
الْفَانِي فَآثِرْ الْآخِرَةَ ، وَاطْلُبْهَا ، وَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا ،
وَارْفُضْهَا لِكَيْ لَا يُنْتَقَصَ مِنْ حَظِّك فِي الْآخِرَةِ بِمَا نِلْت مِنْ
نَعِيمِ دُنْيَاك : وَأَمَّا الْمَنْزِلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ الزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ الْعِبَادَ فِي الدُّنْيَا
فَأَوْجَبَ الْمَوْتَ عَلَيْهِمْ ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ ،
وَضَرَبَ لَهُمْ فِيهَا أَجَلًا فَلَمْ يَعْلَمُوا فِي أَيِّ الْأَوْقَاتِ ،
وَالسَّاعَاتِ تَأْتِيهِمْ مَنِيَّتُهُمْ فَتَحُولُ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ
دُنْيَاهُمْ ، وَنَعِيمِ عَيْشِهِمْ ، وَمُفَارَقَةِ أَحْبَابِهِمْ ، فَلَمَّا
اسْتَقَرَّ الْمَوْتُ فِي قُلُوبِهِمْ أَسْهَرُوا فِي اللَّيْلِ أَعْيُنَهُمْ ، وَاشْتَغَلُوا
بِهُمُومِهِمْ عَنْ أَهْلِيهِمْ ، وَأَوْلَادِهِمْ ، وَدَامَ حُزْنُهُمْ ،
وَبُكَاؤُهُمْ ، وَزَهِدُوا فِي الدُّنْيَا ، وَأَهْلِهَا وَنَعِيمِهَا ، فَصَارَ
اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الضِّيفَانِ ، وَكَانَ
الْمُقَوِّي لَهُمْ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ذِكْرُ الْمَوْتِ وَقَصْرُ
الْأَمَلِ فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ شَرِيفَةٌ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا
، وَأَمَّا الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الزُّهْدِ : فَتَصْدِيقُ الْعَبْدِ
رَبَّهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ
مِنْ عِقَابِ النَّارِ وَعَذَابِهَا ، وَمَا حَذَّرَهُ مِنْهُ مِنْ الدُّنْيَا ،
وَالِاغْتِرَارِ بِهَا فَزَهِدَ فِيهَا ،
وَأَحَبَّ بِالْمَوْتِ مُفَارَقَتَهَا ، وَالتَّبَاعُدَ
عَنْهَا ، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا إلَى دَارِهِ وَقَرَارِهِ تَبَصُّرًا مِنْهُ
بِالدُّنْيَا ، وَحَالِهَا فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ أَشْرَفُ
مِمَّا قَبْلَهَا ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : مَا تَرَكْت لِي إلَى الدُّنْيَا ،
وَالرُّكُونِ إلَيْهَا سَبِيلًا ، وَلَقَدْ اسْتَبَانَ لِي مِنْ قَوْلِك الْبِرُّ
وَالْحَقُّ ، وَوَضَحَ لِي مِنْ وَصْفِك الصِّدْقُ ، وَقَوِيت - بِحَمْدِ اللَّهِ
وَتَوْفِيقِهِ - عَلَى الزُّهْدِ فِيهَا ، وَرَفْضِهَا ؛ فَصِفْ لِي بِصِفَتِك
الشَّافِيَةِ ، وَنَعْتِك النَّافِعِ دَوَاءً لِدَاءِ قَلْبِي تُخْبِرنِي فِيهِ
عَنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا .
فَقَالَ : الْأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّك عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ
، وَيُقَوِّيك عَلَيْهَا ، وَيُنَوِّرُهَا فِي قَلْبِك هُوَ الْيَقِينُ الَّذِي
لَا يُخَالِطُهُ شَكٌّ ، وَالتَّصْدِيقُ بِرَبِّك الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ لَبْسٌ
فَإِنَّهُ مَنْ صَدَقَ رَبَّهُ أَيْقَنَ ، وَمَنْ أَيْقَنَ أَبْصَرَ ، وَمَنْ
أَبْصَرَ زَهِدَ ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْيَقِينِ ،
وَأَفْضَلُ الْيَقِينِ التَّوَكُّلُ ، قَالَ : فَصِفْ لِي الْيَقِينَ لِأَعْرِفَهُ .
فَقَالَ
: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ
، وَأَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، وَأَنَّهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي
قُدْرَتِهِ ، وَسُلْطَانِهِ ، وَخَلْقِهِ ، وَأَنَّ وَعَدَهُ حَقٌّ ، وَقَوْلَهُ
صِدْقٌ ، وَكَذَا وَعِيدَهُ ، وَكُتُبَهُ ، وَرَسُولَهُ حَتَّى تُقِرَّ بِذَلِكَ فِي
قَلْبِك ، وَتَتَّبِعَ كِتَابَ رَبِّك فَهَذَا الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُشَكُّ
فِيهِ ، قَالَ : صِفْ لِي التَّوَكُّلَ لِأَعْرِفَهُ ، فَقَالَ : التَّوَكُّلُ
هُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ ، وَتَصْدِيقُ الْيَقِينِ دَلَالَتَهُ ، فَمَنْ
أَيْقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ ، وَالْمُقْتَدِرُ
عَلَيْهَا ، وَالْمَالِكُ لَهَا ، وَالْمُنْفَرِدُ بِهَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي
جَمِيعِ أُمُورِهِ ، وَقَطَعَ رَجَاءَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ ، وَلَمْ
يَثِقْ بِأَحَدٍ ، وَلَمْ يَأْنَسْ إلَّا بِهِ فَانْقَطِعْ إلَى اللَّهِ ، وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتك
فَهَذِهِ صِفَةُ الْعَمَلِ وَالتَّوَكُّلِ وَمَأْخَذِهِ
، قَالَ : مَا الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى الْفِكْرَةِ ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا
فَإِنِّي كُلَّمَا أَرَدْت الْفِكْرَةَ لَمْ أَصِلْ إلَيْهَا ، وَلَمْ أَقْدِرْ
عَلَيْهَا فَقَالَ : أَجَلْ لَا تَصِلُ إلَى مَا تُرِيدُ مِنْ الْفِكْرَةِ مَعَ
الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا فَسَبِيلُ الْوُصُولِ إلَى الْفِكْرَةِ : الصِّيَامُ ، وَتَرْكُ
الْإِكْثَارِ مِنْ الطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ ، وَاعْتِزَالُ الشَّهَوَاتِ ،
وَلُزُومُ الصَّمْتِ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَالْخَيْرُ فِي الْخَلْوَةِ ،
وَالِاعْتِزَالُ ، وَرَفْضُ الِاشْتِغَالِ بِالْفُضُولِ ، وَاَللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ ، وَلَا حَوْلَ ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ
الْعَظِيمِ
فَصْلٌ فِي السَّمَاعِ ، وَكَيْفِيَّتِهِ ، وَمَا
يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَمَا يَجُوزُ فَانْظُرْ - رَحِمنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاكَ - إلَى
مَا قَرَّرَ هَذَا السَّيِّدُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَيْفِيَّةِ السُّلُوكِ ،
وَالْأَخْذِ أَوَّلًا بِالصِّيَامِ ، وَتَرْكِ الْإِكْثَارِ مِنْ الطَّعَامِ ،
وَالشَّرَابِ ، وَاعْتِزَالِ الشَّهَوَاتِ ، وَلُزُومِ الصَّمْتِ إلَّا عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ ، وَالْخَيْرِ فِي الْخَلْوَةِ ، وَالِاعْتِزَالِ ، وَرَفْضِ الِاشْتِغَالِ
بِالْفُضُولِ فَلَمْ يَكْتَفِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْخَلْوَةِ لَيْسَ إلَّا حَتَّى
ذَكَرَ الِاعْتِزَالَ مَعَ الْخَلْوَةِ فَلَوْ كَانَتْ خَلْوَةً دُونَ اعْتِزَالٍ
لَقَلَّ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ
الِاعْتِزَالَ ، فَأَيْنَ هَذَا الْحَالُ مِنْ حَالِنَا الْيَوْمَ ؟ إذْ إنَّ
الْغَالِبَ عَلَى مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْخِرْقَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إنَّمَا
شَأْنُهُ كَثْرَةُ الِاجْتِمَاعِ ، وَحُضُورُ السَّمَاعِ ، وَالرَّقْصِ فِيهِ
حَتَّى كَأَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ فِي السُّلُوكِ - نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ
- فَمَنْ أَرَادَ الْخَيْرَ فَلْيَعْتَزِلْ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَإِلَّا
فَالْفَتْحُ عَلَيْهِ بَعِيدٌ أَعْنِي الْفَتْحَ الْحَقِيقِيَّ الَّذِي يَقْرُبُ
بِهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ ، وَجَلَّ دُونَ ادِّعَاءٍ ، وَإِلَّا فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ
يَدَّعُونَ الْأَحْوَالَ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُفْتَحُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ
رَقْصِهِمْ ، وَتَأْخُذُهُمْ الْأَحْوَالُ إذْ ذَاكَ ، وَيُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ
مِنْ أَمْرِ الْغَيْبِ .
وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لَكَانَ
مُصَادَفَةً ، ثُمَّ إنَّهُمْ يُوَلُّونَ ، وَيَعْزِلُونَ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ
، وَيُخْبِرُونَ بِمَنَازِلِ أَصْحَابِهِمْ فَيَقُولُونَ مَثَلًا : فُلَانٌ أَحَدُ
السَّبْعَةِ ، وَفُلَانٌ أَحَدُ الْعَشَرَةِ ، وَفُلَانٌ أَحَدُ السَّبْعِينَ ،
وَفُلَانٌ أَحَدُ الثَّلَاثمِائَةِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا
أَحْوَالٌ نَفْسَانِيَّةٌ أَوْ شَيْطَانِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْفَتْحَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
لَا يَكُونُ مَعَ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَهَذَا
السَّمَاعُ عَلَى مَا يَعْلَمُونَهُ مُحَرَّمٌ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو
عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
تَفْسِيرِهِ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْله تَعَالَى {
: إذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
هَؤُلَاءِ قَامُوا فَذَكَرُوا اللَّهَ عَلَى هِدَايَتِهِ
شُكْرًا لِمَا أَوْلَاهُمْ مِنْ نِعْمَتِهِ ثُمَّ هَامُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ
مُنْقَطِعِينَ إلَى رَبِّهِمْ ، وَخَائِفِينَ مِنْ قَوْمِهِمْ ، وَهَذِهِ سُنَّةُ
اللَّهِ فِي الرُّسُلِ ، وَالْأَنْبِيَاءِ ، وَالْفُضَلَاءِ الْأَوْلِيَاءِ أَيْنَ
هَذَا مِنْ ضَرْبِ الْأَرْضِ بِالْأَقْدَامِ ، ؟ وَالرَّقْصِ بِالْأَكْمَامِ
خُصُوصًا فِي هَذَا الزَّمَانِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَصْوَاتِ الْحِسَانِ مِنْ الْمُرْدِ
وَالنِّسْوَانِ ، هَيْهَاتَ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهِ مِثْلُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ ، ثُمَّ إنَّ هَذَا حَرَامٌ عِنْدَ جَمَاعَةِ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى ،
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا مَرَّ أَوَّلَ الْكِتَابِ أَنَّ الْفَقِيرَ الْمُنْقَطِعَ
لَا يَتَصَرَّفُ إلَّا فِي وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ ، وَأَنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ
هَذِهِ الطَّائِفَةِ كَالْمُحَرَّمِ لَا سَبِيلَ إلَى ذِكْرِهِ فَضْلًا عَنْ
فِعْلِهِ .
، وَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي ضَرْبِ الطَّارِ
عَلَى حِدَتِهِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا ؟ وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الشَّبَّابَةِ
عَلَى حِدَتِهَا ، وَقَاعِدَةُ أَهْلِ الطَّرِيقِ الْخُرُوجُ مِنْ الْخِلَافِ
فَكَيْفَ يُقْدِمُونَ عَلَى شَيْءٍ قَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى مَنْعِهِ ؟
ذَلِكَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِمْ ، ثُمَّ مَعَ ارْتِكَابِ بَعْضِهِمْ مَا ذُكِرَ
يَدَّعُونَ الْأَحْوَالَ الرَّفِيعَةَ ، وَيُشِيرُونَ إلَى مَقَامَاتٍ ،
وَمُنَازَلَاتٍ تُسْتَعْظَمُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَنْ هُوَ مُتَّصِفٌ
بِالِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّخْلِيطِ ،
وَارْتِكَابِ مَا لَا يَنْبَغِي ؟ ذَلِكَ مُحَالٌ ، ، وَمِنْ أَشَدِّ مَا فِيهِ
مِنْ الْقُبْحِ مَا أَحْدَثُوهُ فِي السُّجُودِ لِلشَّيْخِ حِينَ قِيَامِ الْفَقِيرِ
لِلرَّقْصِ ، وَبَعْدَهُ ، وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مَا هَذَا لَفْظُهُ :
رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ ، وَالنَّسَائِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي
وَاقِدٍ قَالَ { : لَمَّا قَدِمَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مِنْ الشَّامِ سَجَدَ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدِمْتُ
الشَّامَ فَرَأَيْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِبَطَارِقَتِهِمْ وَأَسَاقِفَتِهِمْ ، فَرَأَيْت
أَنَّكَ أَوْلَى بِذَلِكَ ، فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي لَوْ أَمَرْت أَحَدًا
يَسْجُدُ لِأَحَدٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا ، لَا
تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا حَتَّى
لَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا ، وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ لَمْ تَمْنَعْهُ } هَذَا لَفْظُ
النَّسَائِيّ ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ مُعَاذٍ { وَنَهَى عَنْ السُّجُودِ
لِلْبَشَرِ ، وَأَمَرَنَا بِالْمُصَافَحَةِ } قُلْت : وَهَذَا السُّجُودُ
الْمَنْهِيُّ عَنْهُ قَدْ اتَّخَذَهُ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَةِ عَادَةً فِي
سَمَاعِهِمْ ، وَعِنْدَ دُخُولِهِمْ عَلَى مَشَايِخِهِمْ ، وَاسْتِغْفَارِهِمْ
فَتَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ إذَا أَخَذَهُ الْحَالُ بِزَعْمِهِ يَسْجُدُ لِلْأَقْدَامِ
سَوَاءً كَانَ لِلْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرِهَا جَهَالَةً مِنْهُ
ضَلَّ سَعْيُهُمْ ، وَخَابَ عَمَلُهُمْ ( فَصْلٌ ) فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ - وَإِيَّاكَ إلَى
قِصَّةِ مُعَاذٍ الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَقَوْلِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّك أَوْلَى بِذَلِكَ يُؤْخَذُ مِنْهَا مِنْ الْفَوَائِدِ
النَّفِيسَةِ : التَّحَرُّزُ عَنْ مُخَالَطَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَالْبُعْدُ
مِنْهُمْ إذْ أَنَّ النُّفُوسَ تَمِيلُ غَالِبًا إلَى مَا يَكْثُرُ تَرْدَادُهُ
عَلَيْهَا ، وَمِنْ هَاهُنَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - كَثُرَ التَّخْلِيطُ عَلَى
بَعْضِ النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ لِمُجَاوَرَتِهِمْ ، وَمُخَالَطَتِهِمْ لِقِبْطِ
النَّصَارَى مَعَ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ فِي الْغَالِبِ فَأَنِسَتْ
نُفُوسُهُمْ بِعَوَائِدِ مَنْ خَالَطُوهُ فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ الْفَسَادُ ،
وَهُوَ أَنَّهُمْ ، وَضَعُوا تِلْكَ الْعَوَائِدَ الَّتِي أَنِسَتْ بِهَا
نُفُوسُهُمْ مَوْضِعَ السُّنَنِ حَتَّى أَنَّك إذَا قُلْت لِبَعْضِهِمْ :
الْيَوْمَ السُّنَّةُ كَذَا يَكُونُ جَوَابُهُ لَك عَلَى الْفَوْرِ عَادَةُ
النَّاسِ كَذَا ، وَطَرِيقَةُ الْمَشَايِخِ كَذَا ، فَإِنْ طَالَبْتَهُ
بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ :
نَشَأْت عَلَى هَذَا ، وَكَانَ وَالِدِي ، وَجَدِّي ، وَشَيْخِي ، وَكُلُّ مَنْ
أَعْرِفَهُ عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ ، وَلَا يُمْكِنُ فِي حَقِّهِمْ أَنْ
يَرْتَكِبُوا الْبَاطِلَ أَوْ يُخَالِفُوا السُّنَّةَ فَيُشَنِّعُ عَلَى مَنْ
يَأْمُرُهُ بِالسُّنَّةِ ، وَيَقُولُ لَهُ : مَا أَنْتَ أَعْرَفُ بِالسُّنَّةِ
مِمَّنْ أَدْرَكْتُهُمْ مِنْ هَذَا الْجَمِّ الْغَفِيرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
إنْكَارُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
أَخْذِهِ بِعَمَلِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ
، فَكَيْفَ يَحْتَجُّ هَذَا الْمِسْكِينُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ
مَعَ مُخَالَطَتِهِمْ لِغَيْرِ جِنْسِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْقِبْطِ ،
وَالْأَعَاجِمِ ، وَغَيْرِهِمَا ؟ ، - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلَالِ - مَعَ
أَنَّ السَّمَاعَ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ الْعَرَبِ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ
بِالشِّعْرِ لَيْسَ إلَّا ،
فَإِذَا فَعَلَ أَحَدٌ ذَلِكَ قَالُوا أَهْمَلَ
السَّمَاعَ ، وَهُوَ الْيَوْمَ عَلَى مَا يُعْهَدُ ، وَيُعْلَمُ ، وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْإِمَامُ الشَّيْخُ رَزِينٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا أُتِيَ
عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ إلَّا لِوَضْعِهِمْ الْأَسْمَاءَ
عَلَى غَيْرِ مُسَمَّيَاتٍ وَهَا هُوَ ذَا بَيِّنٌ .
أَلَا تَرَى السَّمَاعَ كَانَ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَهُوَ الْيَوْمَ عَلَى مَا نُعَايِنُهُ ، وَهُمَا ضِدَّانِ
لَا يَجْتَمِعَانِ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَكْتَفُوا بِمَا ارْتَكَبُوهُ حَتَّى
وَقَعُوا فِي حَقِّ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَنَسَبُوا
إلَيْهِمْ اللَّعِبَ ، وَاللَّهْوَ فِي كَوْنِهِمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ السَّمَاعَ
الَّذِي يَفْعَلُونَهُ الْيَوْمَ هُوَ الَّذِي كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يَفْعَلُونَهُ ، وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ هَذَا
، وَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ ، وَيَرْجِعَ
إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِلَّا فَهُوَ هَالِكٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ
الْإِمَامَ السُّهْرَوَرْدِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى
السَّمَاعِ قَالَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ : وَلَا شَكَّ أَنَّك إذَا خَيَّلْت
بَيْنَ عَيْنَيْك جُلُوسَ هَؤُلَاءِ لِلسَّمَاعِ ، وَمَا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ
فَإِنَّ نَفْسَك تُنَزِّهُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ، وَعَنْ حُضُورِهِ
انْتَهَى .
وَلَقَدْ أَنْصَفَ فِيمَا وَصَفَ ، وَهَذَا هُوَ
الْحَقُّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فِي حَقِّ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَقَدْ قِيلَ عَنْ الْجُنَيْدِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ إنَّهُ قَالَ : إنَّ السَّمَاعَ لَا يَرْجِعُ مُبَاحًا إلَّا بِعَشَرَةِ
شُرُوطٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَان لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ
لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ إلَّا ذُو مَحْرَمٍ أَعْنِي أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ،
وَإِمْكَانٍ ، وَإِخْوَانٍ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : وَأَنْ يَكُونَ الْقَوَّالُ هُوَ الَّذِي يَمُدُّهُمْ قَالَ الشَّيْخُ
الْإِمَامُ
الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ
أُجْرَةٍ ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ يَحْضُرُهُ شَنَآنُ ، وَأَنْ
لَا يَحْضُرَهُ أَحَدٌ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَأَنْ لَا يَحْضُرَهُ شَابٌّ
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ .
وَحَيْثُ كَانَ مُبَاحًا بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَإِنْ
اتَّفَقَ اجْتِمَاعُهَا كَانَ السَّمَاعُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَهُوَ
إنْشَادُ الشِّعْرِ بِرَفْعِ الصَّوْتِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا
الْمَعْنَى ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
يَدْخُلُونَ إلَى خَلَوَاتِهِمْ فَمَنْ عَجَزَ مِنْهُمْ عَنْ تَمَامِ الْمُدَّةِ
الَّتِي دَخَلَ عَلَيْهَا خَرَجَ فَحَضَرَ السَّمَاعَ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى خَلْوَتِهِ
نَشِطًا ؛ لِأَنَّ الْقَوَّالَ كَانَ يَمُدُّهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ ، ثُمَّ مَعَ
ذَلِكَ يُنْشِدُ لَهُمْ مِنْ دُرَرِ الشِّعْرِ مَا يُنَاسِبُ حَالَهُمْ وَتَقْوَى
بِهِ قُلُوبُهُمْ عَلَى السَّيْرِ إلَى الْمَقَامَاتِ الْعَلِيَّةِ ، وَالنُّهُوضِ
إلَيْهَا ، وَتَرْكِ التَّرَاخِي ، وَالتَّسْوِيفِ الشَّاغِلِ عَنْهَا ، وَمِثْلُ
ذَلِكَ كَانُوا يَفْعَلُونَ إذَا عَجَزَ أَحَدُهُمْ عَنْ تَمَامِ الْمُدَّةِ الَّتِي
دَخَلَ عَلَيْهَا إلَى الْخَلْوَةِ خَرَجَ إلَى مَجْلِسِ عَالِمٍ فَحَضَرَهُ ،
ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى خَلْوَتِهِ قَوِيًّا ؛ لِأَنَّ حُضُورَ مَجَالِسِ
الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ كَمَا
يُحْيِي الْمَطَرُ الْوَابِلُ النَّبَاتَ بَلْ النَّظَرُ إلَيْهِمْ تَقْتَاتُ بِهِ
النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ ، وَيَنْشَرِحُ صَدْرُهَا ، وَيَحْدُثُ لَهَا عِنْدَ
تِلْكَ الرُّؤْيَةِ انْزِعَاجٌ ، وَقُوَّةٌ بَاعِثَةٌ عَلَى مَا تُؤَمِّلُهُ مِنْ
الْخَيْرِ كَيْفَ لَا ، وَهُمْ أُمَنَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ، وَخُلَفَاؤُهُ
فِي خَلْقِهِ .
وَقَدْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَحْمَةً ، وَكَهْفًا
لِمَنْ يَأْوِي إلَيْهِمْ ، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهِمْ ، نَصَبَهُمْ هُدَاةً
لِلْمُتَحَيِّرِينَ ، وَنُورًا لِلسَّالِكِينَ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمَنَا
بَرَكَتَهُمْ ، وَلَا تُخَالِفْ بِنَا عَنْ سُنَّتِهِمْ فَأَنْتَ
وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - فَإِذَا
تَقَرَّرَ هَذَا مِنْ حَالِهِمْ ، وَعُلِمَ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُفْعَلُ
الْيَوْمَ مِنْ هَذَا السَّمَاعِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ النَّاسِ مُخَالِفٌ
لِجَمَاعَتِهِمْ إذْ إنَّهُ احْتَوَى عَلَى أَشْيَاءَ مُحَرَّمَاتٍ أَوْ
مَكْرُوهَاتٍ أَوْ هُمَا مَعًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكَايَةُ عَنْ
الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ إذْ إنَّهُمْ جَمَعُوا فِيهِ بَيْنَ الدُّفِّ ،
وَالشَّبَّابَةِ ، وَالتَّصْفِيقِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ
التَّصْفِيقَ إنَّمَا هُوَ لِلنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ كَمَا
مُنِعَتْ الْآلَاتُ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهَا ، وَبَعْضُهُمْ يَنْسِبُ جَوَازَ
ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ سُئِلَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ
أَبُو إبْرَاهِيمَ الْمُزَنِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ أَصْحَابِ
الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقِيلَ لَهُ : مَا تَقُولُ فِي
الرَّقْصِ عَلَى الطَّارِ وَالشَّبَّابَةِ ؟ فَقَالَ : هَذَا لَا يَجُوزُ فِي الدِّينِ .
فَقَالُوا : أَمَا جَوَّزَهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَأَنْشَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : حَاشَا
الْإِمَامَ الشَّافِعِيَّ النَّبِيهْ أَنْ يَرْتَقِي غَيْرَ مَعَانِي نَبِيهْ أَوْ
يَتْرُكَ السُّنَّةَ فِي نُسْكِهِ أَوْ يَبْتَدِعَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ فِيهِ
أَوْ يَبْتَدِعَ طَارًا وَشَبَّابَةً لِنَاسِكٍ فِي دِينِهِ يَقْتَدِيهْ الضَّرْبُ
بِالطَّارَاتِ فِي لَيْلَةٍ وَالرَّقْصُ وَالتَّصْفِيقُ فِعْلُ السَّفِيهْ هَذَا
ابْتِدَاعٌ وَضَلَالٌ فِي الْوَرَى وَلَيْسَ فِي التَّنْزِيلِ مَا يَقْتَضِيهْ
وَلَا حَدِيثٍ عَنْ نَبِيِّ الْهُدَى وَلَا صَحَابِيٍّ وَلَا تَابِعِيهْ بَلْ
جَاهِلٌ يَلْعَبُ فِي دِينِهِ قَدْ ضَيَّعَ الْعُمْرَ بِلَهْوٍ وَتِيهْ وَرَاحَ
فِي اللَّهْوِ عَلَى رِسْلِهِ وَلَيْسَ يَخْشَى الْمَوْتَ إذْ يَعْتَرِيهْ إنَّ
وَلِيَّ اللَّهِ لَا يَرْتَضِي إلَّا بِمَا اللَّهُ لَهُ يَرْتَضِيهْ وَلَيْسَ
يَرْضَى اللَّهُ لَهْوَ الْوَرَى بَلْ يَمْقُتُ اللَّهُ بِهِ فَاعِلِيهْ بَلْ
بِصِيَامٍ وَقِيَامٍ فِي الدُّجَى وَآخِرِ اللَّيْلِ لِمُسْتَغْفِرِيهِ إيَّاكَ
تَغْتَرُّ بِأَفْعَالِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ وَلَا يَبْتَغِيهْ قَدْ
أَكَلُوا الدُّنْيَا بِدِينٍ لَهُمْ وَلَبَّسُوا
الْأَمْرَ عَلَى جَاهِلِيهْ جَهْلٌ وَطَيْشٌ فِعْلُهُمْ كُلُّهُ ، وَكُلُّ مَنْ دَانَ
بِهِ تَزْدَرِيهْ شِبْهُ نِسَاءٍ جَمَعُوا مَأْتَمًا فَقُمْنَ فِي النَّدْبِ عَلَى
مَيِّتِيهْ وَالضَّرْبُ فِي الصَّدْرِ كَمَا قَدْ تَرَى لَيْسَ لَهُمْ غَيْرُ
النَّسَا مِنْ شَبِيهْ أَنْكِرْ عَلَيْهِمْ إنْ تَكُنْ قَادِرًا فَهُمْ رِجَالُ
إبْلِيسَ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا تَخَفْ فِي اللَّهِ مِنْ لَائِمٍ وَفَّقَك اللَّهُ
لِمَا يَرْتَضِيهْ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ عَدَالَتُهُ لَا يُنْسَبُ
إلَيْهِ إلَّا مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ وَبِطَرِيقَتِهِ ، مِنْ الْخِصَالِ
الْحَمِيدَةِ فَمَنْ ذَكَرَ عَنْهُ غَيْرَ مَا يُنَاسِبُهُ كُذِّبَ فِيمَا
ادَّعَاهُ ، وَأُنْكِرَ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُزَنِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ
لَمَّا أَنْ بَاشَرَ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ نَسَبَ
إلَيْهِ جَوَازَ السَّمَاعِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
( فَصْلٌ ) : وَأَشَدُّ مِنْ فِعْلِهِمْ السَّمَاعَ
كَوْنُ بَعْضِهِمْ يَتَعَاطَوْنَهُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْقِيرُ
السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِلْمَسَاجِدِ كَيْفَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ،
وَقَدْ كَانُوا يَكْرَهُونَ رَفْعَ الصَّوْتِ فِيهِ ذِكْرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ،
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ
بِالْقِرَاءَةِ فِيهِ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ إنْشَادِ الضَّالَّةِ فِي
الْمَسْجِدِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ نَشَدَ ضَالَّةً
فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَهُ : لَا رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيْك } ، وَمِنْ ذَلِكَ
مَا وَرَدَ { مَنْ سَأَلَ فِي الْمَسْجِدِ فَاحْرِمُوهُ } ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد
، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى
عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ ، وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ ،
وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ ، وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ } ، وَبَعْضُ
هَؤُلَاءِ يَفْعَلُونَ السَّمَاعَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فِي
الْمَسَاجِدِ ، وَيَرْقُصُونَ فِيهَا ، وَعَلَى حُصُرِ الْوَقْفِ الَّتِي فِيهَا ،
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ فِي الرُّبُطِ ، وَالْمَدَارِسِ ، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ
بَعْضَ النَّاسِ عَمِلَ فَتْوَى ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي سَنَةِ إحْدَى وَسِتِّينَ ،
وَسِتِّمِائَةٍ ، وَمَشَى بِهَا عَلَى الْأَرْبَعِ مَذَاهِبَ ، وَلَفْظُهَا : مَا
تَقُولُ السَّادَةُ الْفُقَهَاءُ أَئِمَّةُ الدِّينِ ، وَعُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ - وَفَّقَهُمْ
اللَّهُ لِطَاعَتِهِ ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى مَرْضَاتِهِ - فِي جَمَاعَةٍ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ، وَرَدُوا إلَى بَلَدٍ فَقَصَدُوا إلَى الْمَسْجِدِ ، وَشَرَعُوا
يُصَفِّقُونَ ، وَيُغَنُّونَ ، وَيَرْقُصُونَ تَارَةً بِالْكَفِّ ، وَتَارَةً
بِالدُّفُوفِ ، وَالشَّبَّابَةِ فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ شَرْعًا ؟
أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ تَعَالَى .
فَقَالَتْ الشَّافِعِيَّةُ : السَّمَاعُ لَهْوٌ
مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ مَنْ قَالَ بِهِ : تُرَدُّ شَهَادَتُهُ -
وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ -
وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ : يَجِبُ عَلَى وُلَاةِ
الْأُمُورِ زَجْرُهُمْ وَرَدْعُهُمْ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ الْمَسَاجِدِ حَتَّى
يَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقَالَتْ الْحَنَابِلَةُ :
فَاعِلُ ذَلِكَ لَا يُصَلَّى خَلْفَهُ ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَلَا يُقْبَلُ
حُكْمُهُ ، وَإِنْ كَانَ حَاكِمًا ، وَإِنْ عُقِدَ النِّكَاحُ عَلَى يَدِهِ فَهُوَ
فَاسِدٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ : الْحُصُرُ الَّتِي
يُرْقَصُ عَلَيْهَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى تُغْسَلَ ، وَالْأَرْضُ الَّتِي
يُرْقَصُ عَلَيْهَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا حَتَّى يُحْفَرَ تُرَابُهَا وَيُرْمَى
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى قِصَّةِ السَّامِرِيِّ
فِي سُورَةِ طَهَ سُئِلَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ مَا يَقُولُ سَيِّدُنَا الْفَقِيهُ فِي مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ حَرَسَ
اللَّهُ مُدَّتَهُ أَنَّهُ اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ يُكْثِرُونَ مِنْ
ذِكْرِ اللَّهِ ، وَذِكْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ
إنَّهُمْ يُوقِعُونَ أَشْعَارًا مَعَ الطَّقْطَقَةِ بِالْقَضِيبِ عَلَى شَيْءٍ
مِنْ الْأَدِيمِ ، وَيَقُومُ بَعْضُهُمْ يَرْقُصُ ، وَيَتَوَاجَدُ حَتَّى يَخِرَّ
مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ، وَيُحْضِرُونَ شَيْئًا يَأْكُلُونَهُ هَلْ الْحُضُورُ
مَعَهُمْ جَائِزٌ أَمْ لَا ؟ أَفْتُونَا يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ .
وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ يَا شَيْخُ
كُفَّ عَنْ الذُّنُوبِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَالزَّلَلْ ، وَاعْمَلْ لِنَفْسِك
صَالِحًا مَا دَامَ يَنْفَعُكَ الْعَمَلْ أَمَّا الشَّبَابُ فَقَدْ مَضَى ،
وَمَشِيبُ رَأْسِك قَدْ نَزَلْ فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ يَرْحَمُكُمْ اللَّهُ
مَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَطَالَةٌ ، وَجَهَالَةٌ ، وَضَلَالَةٌ ، وَمَا الْإِسْلَامُ
إلَّا كِتَابُ اللَّهِ ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وَأَمَّا الرَّقْصُ ، وَالتَّوَاجُدُ فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ أَصْحَابُ السَّامِرِيِّ
لَمَّا اتَّخَذَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ قَامُوا يَرْقُصُونَ
حَوَالَيْهِ ، وَيَتَوَاجَدُونَ
فَهُوَ دِينُ الْكُفَّارِ ، وَعُبَّادِ الْعِجْلِ ،
وَأَمَّا الْقَضِيبُ فَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الزَّنَادِقَةُ لِيُشْغِلُوا بِهِ
الْمُسْلِمِينَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجْلِسُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ كَأَنَّمَا عَلَى
رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ مِنْ الْوَقَارِ فَيَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ وَنُوَّابِهِ
أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ الْحُضُورِ فِي الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا ، وَلَا يَحِلُّ
لِأَحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُمْ ،
وَلَا يُعِينَهُمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ
.
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .
وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ
أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِكِتَابِ النَّهْيِ عَنْ
الْأَغَانِي : وَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِيمَا مَضَى يَسْتَتِرُ أَحَدُهُمْ
بِالْمَعْصِيَةِ إذَا وَاقَعَهَا ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، وَيَتُوبُ
إلَيْهِ مِنْهَا ، ثُمَّ كَثُرَ الْجَهْلُ ، وَقَلَّ الْعِلْمُ ، وَتَنَاقَصَ
الْأَمْرُ حَتَّى صَارَ أَحَدُهُمْ يَأْتِي الْمَعْصِيَةَ جِهَارًا ثُمَّ ازْدَادَ
الْأَمْرُ إدْبَارًا حَتَّى بَلَغَنَا أَنَّ طَائِفَةً مِنْ إخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ
، وَفَّقَنَا اللَّهُ ، وَإِيَّاهُمْ اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ ، وَاسْتَهْوَى
عُقُولَهُمْ فِي حُبِّ الْأَغَانِي ، وَاللَّهْوِ ، وَسَمَاعِ الطَّقْطَقَةِ ،
وَاعْتَقَدَتْهُ مِنْ الدِّينِ الَّذِي يُقَرِّبُهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ،
وَجَاهَرَتْ بِهِ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ ، وَشَاقَّتْ بِهِ سَبِيلَ
الْمُؤْمِنِينَ ، وَخَالَفَتْ الْعُلَمَاءَ وَالْفُقَهَاءَ وَحَمَلَةَ الدِّينِ {
: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّا رَخَّصَ
فِيهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ الْغِنَاءِ فَقَالَ : إنَّمَا يَفْعَلُهُ
عِنْدَنَا الْفُسَّاقُ ، وَنَهَى عَنْ الْغِنَاءِ ، وَاسْتِمَاعِهِ ، وَأَمَّا
أَبُو
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَكْرَهُ
الْغِنَاءَ ، وَيَجْعَلُهُ مِنْ الذُّنُوبِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَذْهَبُ أَهْلِ
الْكُوفَةِ سُفْيَانَ وَحَمَّادٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ لَا اخْتِلَافَ
بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَلَا نَعْلَمُ أَيْضًا بَيْنَ أَهْلِ الْبَصْرَةِ
خِلَافًا فِي كَرَاهِيَةِ ذَلِكَ ، وَالْمَنْعِ مِنْهُ ، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَضَاءِ : إنَّ الْغِنَاءَ
لَهُمْ مَكْرُوهٌ ، وَيُشْبِهُ الْبَاطِلَ ، وَالْمُحَالَ ، أَمَّا سَمَاعُهُ مِنْ
الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ لَهُ فَإِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ
مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مَكْشُوفَةً أَوْ
مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ مَمْلُوكَةً قَالَ
الشَّافِعِيُّ : وَصَاحِبُ الْجَارِيَةِ إذَا جَمَعَ النَّاسَ لِسَمَاعِهَا فَهُوَ
سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ، وَغَلَّظَ الْقَوْلَ فِيهِ قَالَ : هُوَ دِيَاثَةٌ
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ دَيُّوثًا ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَكْرَهُ
الطَّقْطَقَةَ بِالْقَضِيبِ ، وَيَقُولُ وَضَعَتْهُ الزَّنَادِقَةُ لِيُشْغِلُوا
بِهِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ الْقُرْآنِ ، وَأَمَّا الْعُودُ ، وَالطُّنْبُورُ ، وَسَائِرُ
الْمَلَاهِي فَحَرَامٌ ، وَمُسْتَمِعُهُ فَاسِقٌ ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ مَاتَ مِيتَةَ الْجَاهِلِيَّةِ } ،
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مُخَالِفَةٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ
جَعَلُوا الْغِنَاءَ دِينًا ، وَطَاعَةً ، وَرَأَتْ إعْلَانَهُ فِي الْمَسَاجِدِ ،
وَالْجَوَامِعِ ، وَقَدْ كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالِاحْتِيَاطِ لِدِينِهِمْ
هَذِهِ الطَّائِفَةُ فَإِنَّهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِالدِّينِ ، وَمُدَّعُونَ
الْوَرَعَ وَالزُّهْدَ حَتَّى تُوَافِقَ بَوَاطِنُهُمْ ظَوَاهِرَهُمْ ، وَقَدْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } الْآيَةَ قَالَ : الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ
وَالنَّخَعِيُّ : هُوَ الْغِنَاءُ ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَهْوُ الْحَدِيثِ
الْغِنَاءُ ، وَالِاسْتِمَاعُ إلَيْهِ ، وقَوْله تَعَالَى { : وَاسْتَفْزِزْ مَنْ
اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِك } قَالَ مُجَاهِدٌ : بِالْغِنَاءِ ،
وَالْمَزَامِيرِ { ، وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك وَرَجْلِكَ } قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ : كُلُّ رَاكِبٍ
وَمَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ خَيْلِ إبْلِيسَ وَرَجْلِهِ { ،
وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } قَالَ قَوْمٌ : كُلُّ مَالٍ
أُصِيبَ مِنْ حَرَامٍ ، وَأُنْفِقَ فِي حَرَامٍ قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ مُشَارَكَتُهُ لَنَا فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ
مَا يُزَيِّنُهُ لَنَا مِنْ الْأَيْمَانِ ، ثُمَّ يُزَيِّنُ لَنَا الْحِنْثَ
فِيهَا فَنَطَأُ الْفُرُوجَ بَعْدَ الْحِنْثِ ، وَنَكْتَسِبُ الْأَمْوَالَ
بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى { : أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
تَعْجَبُونَ ، وَتَضْحَكُونَ ، وَلَا تَبْكُونَ ، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ .
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
سَامِدُونَ هُوَ الْغِنَاءُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هُوَ
الْغِنَاءُ لِقَوْلِ أَهْلِ الْيَمَنِ سَمَدَ فُلَانٌ إذَا غَنَّى ، وَرَوَى أَبُو
إِسْحَاقَ بْنُ شَعْبَانَ فِي كِتَابِهِ الزَّاهِي بِإِسْنَادِهِ : أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَحِلُّ بَيْعُ
الْمُغَنِّيَاتِ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ ، وَلَا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ } زَادَ
التِّرْمِذِيُّ : وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ ، وَأَكْلُ أَثْمَانِهِنَّ حَرَامٌ ،
وَفِيهِنَّ نَزَلَتْ { : وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ }
زَادَ غَيْرُهُ { وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا رَفَعَ رَجُلٌ عَقِيرَتَهُ أَيْ
صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ إلَّا بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ
شَيْطَانَيْنِ يَرْتَدِفَانِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ لَا يَزَالَانِ يَضْرِبَانِ
بِأَرْجُلِهِمَا عَلَى صَدْرِهِ ، وَأَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَى صَدْرِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْكُتُ } ، وَرَوَى
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : كَانَ إبْلِيسُ أَوَّلَ مَنْ نَاحَ ، وَأَوَّلَ
مَنْ غَنَّى } ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
{ يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي آخِرَ الزَّمَانِ
قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : مُسْلِمُونَ هُمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ
يَشْهَدُونَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ،
وَيُصَلُّونَ ، وَيَصُومُونَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ : فَمَا بَالُهُمْ ؟
قَالَ اتَّخَذُوا الْمَعَازِفَ ، وَالْقَيْنَاتِ ، وَالدُّفُوفَ ، وَشَرِبُوا
هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ فَبَاتُوا عَلَى شَرَابِهِمْ فَأَصْبَحُوا ، وَقَدْ مُسِخُوا
} ، وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ
عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلَاءُ : إذَا كَانَ الْمَغْنَمُ دُوَلًا ،
وَالْأَمَانَةُ مَغْنَمًا ، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا ، وَأَطَاعَ الرَّجُلُ
زَوْجَتَهُ ، وَعَقَّ أُمَّهُ ، وَجَفَا أَبَاهُ ، وَبَرَّ صَدِيقَهُ ،
وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَكَانَ زَعِيمُ الْقَوْمِ
أَرْذَلَهُمْ ، وَأُكْرِمَ الرَّجُلُ مَخَافَةَ شَرِّهِ ، وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ ،
وَلُبِسَ الْحَرِيرُ ، وَاُتُّخِذَتْ الْقَيْنَاتُ ، وَالْمَعَازِفُ ، وَلَعَنَ
آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَلْيَرْتَقِبُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا
حَمْرَاءَ أَوْ خَسْفًا أَوْ مَسْخًا } ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَوْ الْقِيَامَةِ إضَاعَةُ الصَّلَوَاتِ ، وَاتِّبَاعُ
الشَّهَوَاتِ ، وَتَكُونُ أُمَرَاءُ خَوَنَةٌ ، وَوُزَرَاءُ فَسَقَةٌ فَقَالَ
سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَبِي ، وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ
هَذَا كَائِنٌ قَالَ : نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَهَا يُكَذَّبُ الصَّادِقُ ،
وَيُصَدَّقُ الْكَاذِبُ ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ ، وَيُخَوَّنُ الْمُؤْتَمَنُ
يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْكَذِبُ ظَرْفًا ، وَالزَّكَاةُ مَغْرَمًا ،
إنَّ أَذَلَّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ الْمُؤْتَمَنُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِالْمَخَافَةِ
يَذُوبُ قَلْبُهُ فِي جَوْفِهِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ هَمًّا ،
وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَ ، عِنْدَهَا يَا سَلْمَانُ يَكُونُ الْمَطَرُ
قَيْظًا ، وَالْوَلَدُ
غَيْظًا ، وَالْفَيْءُ مَغْرَمًا ، وَالْمَالُ دُوَلًا ،
يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَكْتَفِي الرِّجَالُ بِالرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءُ
بِالنِّسَاءِ ، وَتَرْكَبُ ذَوَاتُ الْفُرُوجِ السُّرُوجَ فَعَلَيْهِمْ مِنْ
أُمَّتِي لَعْنَةُ اللَّهِ ، يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ يَجْفُو الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ
، وَيَبَرُّ صَدِيقَهُ ، وَيَحْتَقِرُ السَّيِّئَةَ قَالَ : أَوَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ تُزَخْرَفُ الْمَسَاجِدُ
كَمَا تُزَخْرَفُ الْكَنَائِسُ ، وَالْبِيَعُ ، وَتُطَوَّلُ الْمَنَابِرُ ،
وَتَكْثُرُ الصُّفُوفُ ، وَالْقُلُوبُ مُتَبَاغِضَةٌ ، وَالْأَلْسُنُ مُخْتَلِفَةٌ
دِينُ أَحَدِهِمْ لَعْقَةٌ عَلَى لِسَانِهِ إنْ أُعْطِيَ شَكَرَ ، وَإِنْ مُنِعَ
كَفَرَ قَالَ : أَوَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا سَلْمَانُ
عِنْدَهَا يُغَارُ عَلَى الْغُلَامِ كَمَا يُغَارُ عَلَى الْجَارِيَةِ الْبِكْرِ ،
وَيُخْطَبُ كَمَا تُخْطَبُ النِّسَاءُ قَالَ : أَوَيَكُونُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ تَحَلَّى ذُكُورُ أُمَّتِي
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، عِنْدَ ذَلِكَ يَأْتِي مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
قَوْمٌ يَلُونَ أُمَّتِي ، فَوَيْلٌ لِضَعِيفِهِمْ مِنْ قَوِيِّهِمْ ، وَوَيْلٌ
لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، يَا سَلْمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ تُحَلَّى الْمَصَاحِفُ
بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَيَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ
بِأَصْوَاتِهِمْ ، وَيُنْبَذُ كِتَابُ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ يَا سَلْمَانُ
عِنْدَ ذَلِكَ يَكْثُرُ الرِّبَا ، وَيَظْهَرُ الزِّنَا ، وَيَتَهَاوَنُ النَّاسُ
بِالدِّمَاءِ ، وَلَا يُقَامُ يَوْمَئِذٍ بِنَصْرِ اللَّهِ يَا سَلْمَانُ تَكْثُرُ
الْقَيْنَاتُ ، وَتُشَارِكُ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فِي التِّجَارَةِ ، عِنْدَ
ذَلِكَ يُرْفَعُ الْحَجُّ فَلَا حَجَّ ، تَحُجُّ أُمَرَاءُ النَّاسِ تَنَزُّهًا وَلَهْوًا
، وَأَوَاسِطُهُمْ لِلتِّجَارَةِ ، وَقُرَّاؤُهُمْ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ ،
وَفُقَرَاؤُهُمْ لِلْمَسْأَلَةِ } ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { كَسْبُ الْمُغَنِّي ،
وَالْمُغَنِّيَةِ حَرَامٌ ، وَكَسْبُ الزَّانِيَةِ
سُحْتٌ ، وَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُدْخِلَ الْجَنَّةَ لَحْمًا نَبَتَ مِنْ
سُحْتٍ } قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ رَأَيْت جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَجَابِرَ بْنَ عُمَيْرٍ يَرْتَمِيَانِ ،
فَمَلَّ أَحَدُهُمَا فَجَلَسَ فَقَالَ الْآخَرُ أَجْلَسْت سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ
تَعَالَى فَهُوَ لَهْوٌ ، وَسَهْوٌ إلَّا أَرْبَعُ خِصَالٍ : مَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ
الْغَرَضَيْنِ ، وَتَأْدِيبُهُ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتُهُ زَوْجَتَهُ ،
وَتَعْلِيمُهُ السِّبَاحَةَ } قَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا أُهْبِطَ
إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ قَالَ يَا رَبِّ : لَعَنَتْنِي فَمَا عِلْمِي ؟ قَالَ :
السِّحْرُ قَالَ : فَمَا قِرَاءَتِي ؟ قَالَ : الشِّعْرُ قَالَ : فَمَا
كِتَابَتِي ؟ قَالَ : الْوَشْمُ قَالَ : فَمَا طَعَامِي قَالَ : كُلُّ مَيْتَةٍ ،
وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ قَالَ : فَمَا شَرَابِي ؟ قَالَ :
كُلُّ مُسْكِرٍ قَالَ : فَأَيْنَ مَسْكَنِي ؟ قَالَ الْأَسْوَاقُ قَالَ : فَمَا صَوْتِي
؟ قَالَ الْمَزَامِيرُ قَالَ : فَمَا مَصَائِدِي ؟ قَالَ : النِّسَاءُ ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ
بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ ضَرْبِ الدُّفِّ ، وَلَعِبِ الطَّبْلِ ، وَصَوْتِ
الْمِزْمَارِ } ، وَرُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ ،
وَالنَّوْمُ مِنْ غَيْرِ سَهَرٍ ، وَالضَّحِكُ مِنْ غَيْرِ عَجَبٍ ، وَالرَّنَّةُ
عِنْدَ الْمُصِيبَةِ ، وَالْمِزْمَارُ
.
} .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا شَرِبَ الْعَبْدُ الْمَاءَ عَلَى
شِبْهِ الْمُسْكِرِ كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ حَرَامًا ، وَلَعَنَ اللَّهُ
بَيْتًا فِيهِ دُفٌّ أَوْ طُنْبُورٌ أَوْ عُودٌ ، وَأَخْشَى عَلَيْهِمْ
الْعُقُوبَةَ سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ
} ، وَرُوِيَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { لَسْتُ مِنْ دَدٍ ، وَلَا دَدٌ
مِنِّي } قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الدَّدُ اللَّعِبُ وَاللَّهْوُ ، وَقَالَ
الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ الدَّدُ النَّقْرُ بِالْأَنَامِلِ
فِي الْأَرْضِ فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَبَرَّأَ مِمَّا يُنْقَرُ فِي الْأَرْضِ بِالْأَنَامِلِ فَمَا بَالُك
بِطَقْطَقَةِ الْقَضِيبِ قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ الدُّفُّ مِنْ
سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ إنْسَانٌ
الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ الْغِنَاءِ قَالَ أَنْهَاك عَنْهُ ، وَأَكْرَهُهُ
لَك قَالَ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ قَالَ اُنْظُرْ يَا ابْنَ أَخِي إذَا مَيَّزَ
اللَّهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، مِنْ أَيِّهِمَا يَحْصُلُ الْغِنَاءُ ؟
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَعَنَ اللَّهُ الْمُغَنِّيَ ،
وَالْمُغَنَّى لَهُ ، وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : حُبُّ
السَّمَاعِ يُورِثُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ ،
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ الْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا ، وَقَالَ
الضَّحَّاكُ : الْغِنَاءُ مَفْسَدَةٌ لِلْقَلْبِ مَسْخَطَةٌ لِلرَّبِّ ،
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى مُؤَدِّبِ وَلَدِهِ : لِيَكُنْ
أَوَّلُ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أَدَبِك بُغْضَ الْمَلَاهِي الَّتِي بَدْؤُهَا
مِنْ الشَّيْطَانِ ، وَعَاقِبَتُهَا سُخْطُ الرَّحْمَنِ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْ
الثِّقَاتِ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ أَنَّ صَوْتَ الْمَعَازِفِ ، وَاسْتِمَاعَ
الْأَغَانِي وَاللَّهْوَ بِهَا ، يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ كَمَا
يَنْبُتُ الْعُشْبُ عَلَى الْمَاءِ ، وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ : يَا بَنِي
أُمَيَّةَ إيَّاكُمْ وَالْغِنَاءَ فَإِنَّهُ يَزِيدُ الشَّهْوَةَ ، وَيَهْدِمُ
الْمُرُوءَةَ ، وَإِنَّهُ لَيَنُوبُ عَنْ الْخَمْرِ ، وَيَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ
الْمُسْكِرُ ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَجَنِّبُوهُ النِّسَاءَ
فَإِنَّ الْغِنَاءَ دَاعِيَةُ الزِّنَا ، وَقَالَ ابْنُ الْكَاتِبِ : إيَّاكَ وَالْغِنَاءَ
، وَقَالَ الْمُحَاسِبِيُّ فِي رِسَالَةِ الْإِرْشَادِ الْغِنَاءُ حَرَامٌ
كَالْمَيْتَةِ ، وَقَالَ
أَبُو حُصَيْنٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : اُخْتُصِمَ إلَى
شُرَيْحٍ فِي رَجُلٍ كَسَرَ طُنْبُورًا فَلَمْ يَقْضِ فِيهِ بِشَيْءٍ ( فَصْلٌ )
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الِاسْتِنْبَاطِ فَهُوَ جَاسُوسُ الْقَلْبِ ، وَسَارِقُ
الْمُرُوءَةِ وَالْعُقُولِ ، يَتَغَلْغَلُ فِي مَكَامِنِ الْقُلُوبِ ، وَيَطَّلِعُ
عَلَى سَرَائِرِ الْأَفْئِدَةِ ، وَيَدِبُّ إلَى بَيْتِ التَّخْيِيلِ فَيُثِيرُ كُلَّ
مَا غُرِسَ فِيهَا مِنْ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالسَّخَاطَةِ وَالرُّعُونَةِ ،
بَيْنَمَا تَرَى الرَّجُلَ وَعَلَيْهِ سَمْتُ الْوَقَارِ ، وَبَهَاءُ الْعَقْلِ ،
وَبَهْجَةُ الْإِيمَانِ ، وَوَقَارُ الْعِلْمِ كَلَامُهُ حِكْمَةٌ ، وَسُكُوتُهُ
عِبْرَةٌ فَإِذَا سَمِعَ اللَّهْوَ نَقَصَ عَقْلُهُ ، وَحَيَاؤُهُ ، وَذَهَبَتْ
مُرُوءَتُهُ وَبَهَاؤُهُ فَيَسْتَحْسِنُ مَا كَانَ قَبْلَ السَّمَاعِ
يَسْتَقْبِحُهُ ، وَيُبْدِي مِنْ أَسْرَارِهِ مَا كَانَ يَكْتُمُهُ ، وَيَنْتَقِلُ
مِنْ بِهَاءِ السُّكُوتِ إلَى كَثْرَةِ الْكَلَامِ ، وَالْكَذِبِ ،
وَالِازْدِهَاءِ ، وَالْفَرْقَعَةِ بِالْأَصَابِعِ ، وَيُمِيلُ رَأْسَهُ ،
وَيَهُزُّ مَنْكِبَيْهِ ، وَيَدُقُّ الْأَرْضَ بِرِجْلَيْهِ ، وَهَكَذَا تَفْعَلُ الْخَمْرَةُ
إذَا مَالَتْ بِشَارِبِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيَّةً دَخَلَتْ
الْحَاضِرَةَ فَسُقِيَتْ نَبِيذًا ، فَلَمَّا خَامَرَهَا ، وَصَحَّتْ قَالَتْ :
أَوَ يَشْرَبُ هَذَا نِسَاؤُكُمْ ؟ قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَتْ : لَئِنْ
صَدَقْتُمْ فَمَا يَعْرِفُ أَحَدُكُمْ مَنْ أَبُوهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْمُنْكَدِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ
: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ أَيْنَ
الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ عَنْ اللَّهْوِ ، وَمَزَامِيرِ
الشَّيْطَانِ أَسْكِنُوهُمْ رِيَاضَ الْمِسْكِ ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَسْمِعُوهُمْ
حَمْدِي ، وَثَنَائِي ، وَأَعْلِمُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ ، وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ ، وَقَالَ بَعْضُ الزُّهَّادِ : الْغِنَاءُ يُورِثُ الْعِنَادَ فِي
قَوْمٍ ، وَيُورِثُ التَّكْذِيبَ فِي قَوْمٍ ، وَيُورِثُ الْفَسَادَ فِي قَوْمٍ ،
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ عَلَى إبَاحَةِ الْغِنَاءِ بِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : { دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ
عَنْهُ ، وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جِوَارِي
الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَفَاءَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنْ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا ، وَهَذَا
عِيدُنَا } ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ تَعْرِفَ أَوَّلًا : حَقِيقَةَ الْغِنَاءِ ، وَذَلِكَ
أَنَّ لِلَفْظِ الْغِنَاءِ مَعْنَيَيْنِ : لُغَوِيٌّ ، وَعُرْفِيٌّ فَيُحْمَلُ
الْحَدِيثُ عَلَى اللُّغَوِيِّ فَقَوْلُهَا تُغَنِّيَانِ أَيْ تَرْفَعَانِ
أَصْوَاتَهُمَا بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ ، وَنَحْنُ لَا نَذُمُّ إنْشَادَ الشِّعْرِ
، وَلَا نُحَرِّمُهُ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الشِّعْرُ غِنَاءً مَذْمُومًا إذَا
لُحِّنَ ، وَصُنِعَ صَنْعَةً تُورِثُ الطَّرَبَ ، وَتُزْعِجُ الْقَلْبَ ، وَهِيَ
الشَّهْوَةُ الطَّبِيعِيَّةُ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْغِنَاءِ لَحَّنَ
، وَأَلَذَّ ، وَأَطْرَبَ ، فَالْمَمْنُوعُ ، وَالْمَكْرُوهُ إنَّمَا هُوَ
اللَّذِيذُ الْمُطْرِبُ ، وَلَمْ يُعْقَلْ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ
صَوْتَهُمَا كَانَ لَذِيذًا مُطْرِبًا ، وَهَذَا هُوَ سِرُّ الْمَسْأَلَةِ
فَافْهَمْهُ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ فِي آخِرِهِ ، وَلَيْسَتَا
بِمُغَنِّيَتَيْنِ فَنَفَتْ الْغِنَاءَ عَنْهُمَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا
أَنَّهُ مَا نُقِلَ عَنْهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا إلَّا ذَمُّ الْغِنَاءِ
وَالْمَعَازِفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ أَخِيهَا الْقَاسِمُ
بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ يَذُمُّ
الْغِنَاءَ ، وَقَدْ أَخَذَ الْعِلْمَ عَنْهَا ، وَتَأَدَّبَ بِهَا فَإِنْ قِيلَ :
أَلَيْسَ قَدْ أُنْشِدَ الشِّعْرُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ ؟ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُنْكِرُ إنْشَادَ الشِّعْرِ ،
وَإِنَّمَا نُنْكِرُ إذَا لُحِّنَ ، وَصُنِعَ صَنْعَةً تُورِثُ الطَّرَبَ ،
وَتُزْعِجُ الْقَلْبَ ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ قَدْ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
إنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا ، وَإِنَّ مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا ، وَإِنَّ مِنْ
الشِّعْرِ حِكَمًا ، وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا } فَالْجَوَابُ أَنَّ صَعْصَعَةَ
بْنَ صُوحَانَ ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَسَّرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ : قَوْلُهُ إنَّ مِنْ الْبَيَانِ
سِحْرًا هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، وَهُوَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ
مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ فَيَسْحَرُ الْقَوْمَ بِبَيَانِهِ فَذَهَبَ بِالْحَقِّ ،
وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَإِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكَمًا فَهِيَ هَذِهِ الْمَوَاعِظُ ،
وَالْأَمْثَالُ الَّتِي يَتَّعِظُ بِهَا النَّاسُ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ ، وَإِنَّ
مِنْ الْعِلْمِ جَهْلًا فَيَتَكَلَّفُ الْعَالِمُ عِلْمَ مَا لَا يَعْلَمُ
فَيَجْهَلُ ذَلِكَ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَإِنَّ مِنْ الْقَوْلِ عِيَالًا
فَعَرْضُك حَدِيثَك عَلَى مَنْ لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ ، وَلَا يُرِيدُهُ .
( فَصْلٌ ) وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : نَحْنُ لَا
نَسْمَعُ الْغِنَاءَ بِالطَّبْعِ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ
، وَإِنَّمَا نَسْمَعُ بِحَقٍّ فَنَسْمَعُ بِاَللَّهِ ، وَفِي اللَّهِ ، وَلَا
نَتَّصِفُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الَّتِي هِيَ مَمْزُوجَةٌ بِحُظُوظِ
الْبَشَرِيَّةِ قُلْنَا : إنْ زَعَمْتَ أَنَّك فَارَقْتَ طَبْعَ الْبَشَرِيَّةِ ،
وَصِرْت مَطْبُوعًا عَلَى الْعَقْلِ وَالْبَصِيرَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَلَائِكَةِ فَقَدْ
كَذَبْت عَلَى طَبْعِك ، وَكَذَبْت عَلَى اللَّهِ فِي تَرْكِيبِك وَمَا وَصَفَك
بِهِ مِنْ حُبِّ الشَّهَوَاتِ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ مَنْ فَارَقَ إلْفَهُ وَادَّعَى الْعِصْمَةَ فَاجْلِدُوهُ
فَإِنَّهُ مُفْتَرٍ كَذَّابٌ ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا تَكُونَ مُجَاهِدًا
لِنَفْسِك ، وَلَا مُخَالِفًا لِهَوَاك ، وَلَا يَكُونَ لَك ثَوَابٌ عَلَى تَرْكِ
اللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ وَأَصْحَابُك
تُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ ، وَالنَّهَارَ لَا تَفْتُرُونَ ، وَتَسْتَغْفِرُونَ
لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تُبِيحَ سَمَاعَ الْعُودِ
وَالطُّنْبُورِ وَسَائِرِ الْمَلَاهِي بِهَذَا الطَّبْعِ الَّذِي لَا يُشَارِكُك
فِيهِ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ ( فَصْلٌ ) فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ قَدْ رُوِيَ عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّالِحِينَ أَنَّهُمْ سَمِعُوهُ قُلْنَا ؟ مَا بَلَغْنَا أَنَّ أَحَدًا
مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ سَمِعَهُ ، وَلَا فَعَلَهُ ، وَهَذِهِ مُصَنَّفَاتُ
أَئِمَّةِ الدِّينِ ، وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلُ مُصَنَّفِ مَالِكِ بْنِ
أَنَسٍ ، وَصَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، وَمُسْلِمٍ ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُد ،
وَكِتَابِ النَّسَائِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى غَيْرِهَا خَالِيَةً مِنْ
دَعْوَاكُمْ ، وَهَذِهِ تَصَانِيفُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَدُورُ
عَلَيْهِمْ الْفَتْوَى قَدِيمًا وَحَدِيثًا فِي شَرْقِ الْبِلَادِ وَغَرْبِهَا
فَقَدْ صَنَّفَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ تَصَانِيفَ لَا
تُحْصَى ، وَكَذَلِكَ مُصَنَّفَاتُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ فُقَهَاءِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَكُلُّهَا
مَشْحُونَةٌ بِالذَّبِّ عَنْ الْغِنَاءِ ، وَتَفْسِيقِ
أَهْلِهِ فَإِنْ كَانَ فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فَقَدْ أَخْطَأَ ،
وَلَا يَلْزَمُنَا الِاقْتِدَاءُ بِقَوْلِهِ ، وَنَتْرُكُ الِاقْتِدَاءَ
بِالْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ ، وَمِنْ هَاهُنَا زَلَّ مَنْ لَا بَصِيرَةَ لَهُ .
نَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ
، وَعُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْنَا بِالْمُتَأَخِّرِينَ
سِيَّمَا وَكُلُّ مَنْ يَرَى هَذَا الرَّأْيَ الْفَاسِدَ عَارٍ مِنْ الْفِقْهِ
عَاطِلٌ مِنْ الْعِلْمِ لَا يَعْرِفُ مَأْخَذَ الْأَحْكَامِ ، وَلَا يَفْصِلُ
الْحَلَالَ مِنْ الْحَرَامِ ، وَلَا يَدْرُسُ الْعِلْمَ ، وَلَا يَصْحَبُ أَهْلَهُ
، وَلَا يَقْرَأُ مُصَنَّفَاتِهِ ، وَدَوَاوِينَهُ ، وَقَدْ قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي
الدِّينِ } ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا
اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا إلَّا حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ } فَمَنْ هَجَرَ
أَهْلَ الْفِقْهِ ، وَالْحِكْمَةِ ، وَانْقَضَى عُمْرُهُ فِي مُخَالَطَةِ أَهْلِ
اللَّهْوِ وَالْبَطَالَةِ كَيْفَ يُؤْمَنُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَغَيْرِهَا
؟ ، { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } فَيَا مَنْ
رَضِيَ لِدِينِهِ ، وَدُنْيَاهُ ، وَتَوَثَّقَ لِآخِرَتِهِ وَمَثْوَاهُ
بِاخْتِيَارِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَفَتْوَاهُ إنْ كُنْت عَلَى مَذْهَبِهِ ،
وَبِاخْتِيَارِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إنْ
كُنْت تَرَى رَأْيَهُمْ كَيْفَ هَجَرْت اخْتِيَارَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ،
وَجَعَلْت إمَامَك فِيهَا شَهَوَاتِك وَبُلُوغَ أَوْطَارِك وَلَذَّاتِك { وَسَيَعْلَمُ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } ( فَصْلٌ ) وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ
شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ قَالَ : رَأَيْت فِي الْمَنَامِ أَنَّ الْحَقَّ أَوْقَفَنِي
بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ : يَا أَحْمَدُ حَمَلْتَ وَصْفِي عَلَى لَيْلَى وَسُعْدَى
لَوْلَا أَنِّي نَظَرْتُ إلَيْك فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ أَرَدْتنِي خَالِصًا
لَعَذَّبْتُك قَالَ فَأَقَامَنِي مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الْخَوْفِ فَأَرْعَدْت ، وَفَزِعْت
مَا شَاءَ اللَّهُ ،
ثُمَّ أَقَامَنِي مِنْ وَرَاءِ حِجَابِ الرِّضَا فَقُلْت
يَا سَيِّدِي لَمْ أَجِدْ مَنْ يَحْمِلُنِي غَيْرَك فَطَرَحْت نَفْسِي عَلَيْك
فَقَالَ : صَدَقْت مِنْ أَيْنَ تَجِدُ مَنْ يَحْمِلُك غَيْرِي ؟ وَأَمَرَ بِي إلَى
الْجَنَّةِ ، وَقَالَ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ : رَأَيْت إبْلِيسَ فِي
النَّوْمِ فَقُلْت لَهُ : هَلْ تَظْفَرُ مِنْ أَصْحَابِنَا بِشَيْءٍ أَوْ تَنَالُ
مِنْهُمْ نَصِيبًا ؟ فَقَالَ إنَّهُ لَيَعْسُرُ عَلَيَّ شَأْنُهُمْ ، وَيَعْظُمُ عَلَيَّ
أَنْ أُصِيبَ مِنْهُمْ شَيْئًا إلَّا فِي وَقْتَيْنِ وَقْتِ السَّمَاعِ ، وَعِنْدَ
النَّظَرِ فَإِنِّي أَنَالُ مِنْهُمْ فِتْنَةً ، وَأَدْخُلُ عَلَيْهِمْ بِهِ ،
وَسُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذَبَارِيُّ عَنْ السَّمَاعِ ، وَكَانَ مِنْ شُيُوخِ
الصُّوفِيَّةِ فَقَالَ : لَيْتَنَا تَخَلَّصْنَا مِنْهُ رَأْسًا بِرَأْسٍ ،
وَقَالَ الْجُنَيْدُ : إذَا رَأَيْتَ الْمُرِيدَ يُحِبُّ السَّمَاعَ فَاعْلَمْ
أَنَّ فِيهِ بَقِيَّةً مِنْ الْبِطَالَةِ ، وَقَالَ أَبُو الْحَارِثِ
الْأَوْلَاسِيُّ ، وَكَانَ مِنْ الصُّوفِيَّةِ : رَأَيْت إبْلِيسَ فِي الْمَنَامِ
، وَكَانَ عَلَى بَعْضِ سُطُوحِ أُولَاسَ ، وَعَنْ يَمِينه جَمَاعَةٌ ، وَعَنْ
يَسَارِهِ جَمَاعَةٌ ، وَعَلَيْهِمْ ثِيَابٌ نَظِيفَةٌ فَقَالَ لِطَائِفَةٍ
مِنْهُمْ : قُومُوا ، وَغَنُّوا فَقَامُوا ، وَغَنَّوْا فَاسْتَفْزَعَنِي طِيبُهُ حَتَّى
هَمَمْت أَنْ أَطْرَحَ نَفْسِي مِنْ السَّطْحِ ، ثُمَّ قَالَ : اُرْقُصُوا فَرَقَصُوا بِأَطْيَبِ مَا
يَكُونُ ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا الْحَارِثِ مَا أُصِيبُ شَيْئًا أَدْخُلُ بِهِ
عَلَيْكُمْ إلَّا هَذَا ، وَقَالَ الْجَرِيرِيُّ رَأَيْت الْجُنَيْدَ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي النَّوْمِ فَقُلْت كَيْفَ حَالُك يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ :
طَاحَتْ تِلْكَ الْإِشَارَاتُ ، وَبَادَتْ تِلْكَ الْعِبَارَاتُ ، وَمَا نَفَعَنَا
إلَّا تَسْبِيحَاتٌ كُنَّا نَقُولُهَا بِالْغَدَوَاتِ ، فَأَيْنَ هَذَا يَرْحَمُك اللَّهِ
مِمَّا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْعُلَمَاءَ فَقَالَ { إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ
سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } .
(
فَصْلٌ ) وَقَدْ اسْتَدَلَّ عَظِيمٌ مِنْ شُيُوخهمْ
عَلَى إبَاحَةِ الْغِنَاءِ فَقَالَ : إنَّ الطِّفْلَ يَسْكُنُ إلَى الصَّوْتِ
الطَّيِّبِ ، وَالْجَمَلَ يُقَاسِي تَعَبَ السَّيْرِ ، وَمَشَقَّةَ الْحُمُولِ
إذَا سَمِعَ الْحِدَاءَ ، قَالَ :
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ مُلُوكِ الْعَجَمِ مَاتَ ،
وَخَلَفَ ابْنًا صَغِيرًا فَأَرَادُوا أَنْ يُبَايِعُوهُ فَقَالُوا : كَيْفَ
نَصِلُ إلَى عَقْلِهِ ، وَذَكَائِهِ ؟ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَأْتُوا
بِقَوَّالٍ فَإِنْ أَحْسَنَ الْإِصْغَاءَ عَلِمُوا كِيَاسَتَهُ ، فَلَمَّا
أَسْمَعُوهُ الْقَوَّالَ ضَحِكَ الرَّضِيعُ فَقَبَّلُوا الْأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ
، وَبَايَعُوهُ ، فَالْجَوَابُ اُنْظُرُوا يَا ذَوِي الْأَلْبَابِ كَيْفَ قَادَهُمْ
رُكُوبُ الْهَوَى ، وَعِشْقُ الْبَاطِلِ ، وَقِلَّةُ الْحِيلَةِ إلَى هَذِهِ
السَّخَافَةِ وَحَسْبُك مِنْ مَذْهَبٍ إمَامُهُمْ فِيهِ - الْأَنْعَامُ ، وَالصِّبْيَانُ فِي
الْمَهْدِ ، وَهَكَذَا يَفْضَحُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ ،
وَحَسْبُك مِنْ عُقُولٍ لَا تَقْتَدِي بِأَحْبَارِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ
، وَتَقْتَدِي بِالْإِبِلِ فَلَئِنْ كَانَ كُلُّ مَا طَرِبَتْ بِهِ الْبَهَائِمُ مَنْدُوبًا
أَوْ مُبَاحًا فَإِنَّا نَرَى الْبَهِيمَةَ تَدُورُ عَلَى أَمِّهَا ، وَأُخْتِهَا
، وَتَرْكَبُ بِنْتَهَا فَيَلْزَمُ الِاقْتِدَاءُ بِالْبَهِيمَةِ فِي مِثْلِ هَذَا
( فَصْلٌ ) فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قِرَاءَةِ
الْقُرْآنِ بِالْأَلْحَانِ : فَالْجَوَابُ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : وَلَا
تُعْجِبُنِي الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ ، وَلَا أُحِبُّهُ فِي رَمَضَانَ ، وَلَا
غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْغِنَاءَ ، وَيُضْحَكُ بِالْقُرْآنِ ، فَيُقَالُ
: فُلَانٌ أَقْرَأُ مِنْ فُلَانٍ قَالَ : وَبَلَغَنِي أَنَّ الْجَوَارِيَ
يُعَلَّمْنَ ذَلِكَ كَمَا يُعَلَّمْنَ الْغِنَاءَ أَيْنَ هَذَا مِنْ الْقِرَاءَةِ
الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا ؟ ،
قَالَ : وَلَا يُعْجِبُنِي النَّبْرُ ، وَالْهَمْزُ يَقُولُ لَا يُرَجَّعُ فِي الْقُرْآنِ
، وَلَا يُقْطَعُ بِالْأَلْحَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِزِيَادَةِ
هَمَزَاتٍ فِي الْقُرْآنِ ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْقُرْآنِ لَا تَجُوزُ ، وَقِيلَ
لِمَالِكٍ : هَلْ يَقْرَأُ الرَّجُلُ فِي الطُّرُقَاتِ ؟ قَالَ : لَا إلَّا
الشَّيْءَ الْيَسِيرَ ، وَأَمَّا الَّذِي يُدِيمُ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ قِيلَ لَهُ
فَالرَّجُلُ يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ أَيَقْرَأُ فِي نَفْسِهِ مَاشِيًا ؟ فَقَالَ :
أَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي السُّوقِ ، وَسُئِلَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي
الْحَمَّامِ قَالَ : لَيْسَ مَوْضِعَ قِرَاءَةٍ ، وَإِنْ قَرَأَ الْإِنْسَانُ
الْآيَةَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ قِيلَ لَهُ فَالرَّجُلُ يَخْرُجُ إلَى قَرْيَتِهِ فَيَقْرَأُ
مَاشِيًا قَالَ : نَعَمْ قَالَ : سَحْنُونَ لَا بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ الرَّاكِبُ ،
وَالْمُضْطَجِعُ ، وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ
قَالَ : مَا أَجْوَدُ ذَلِكَ لِمَنْ أَطَاقَهُ قَالَ مَالِكٌ وَلَمْ تَكُنْ
الْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ الْقَدِيمِ ،
وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ قَالَ : وَأَكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي
الْمُصْحَفِ فِي الْمَسْجِدِ .
فَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءِ كَأَذَنِهِ لِنَبِيٍّ
يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ } فَالْمَعْنَى مَا اسْتَمَعَ اللَّهُ
لِشَيْءٍ كَاسْتِمَاعِهِ لِنَبِيِّ يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْغِنَاءِ
رَفْعُ الصَّوْتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ فِي آخِرِ
الْخَبَرِ فَقَالَ : يُجْهَرُ بِهِ قَالَ : مُجَاهِدٌ
فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا ، وَحُقَّتْ } أَيْ سَمِعَتْ قَالَ
أَبُو عُبَيْدٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ : لَا يَجُوزُ تَلْحِينُ الْقُرْآنِ
، وَإِنَّمَا مَعْنَى الْحَدِيثِ التَّحْبِيرُ وَالتَّحْزِينُ .
قَالَ : عِيسَى الْغِفَارِيُّ { : ذَكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَاطَ السَّاعَةِ فَقَالَ : بَيْعُ الْحُكْمِ ،
وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالذِّمَمِ ، وَكَثْرَةُ الشُّرَطِ ،
وَأَنْ يُتَّخَذَ الْقُرْآنُ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَ أَحَدَهُمْ لَيْسَ
بِأَقْرَئِهِمْ ، وَلَا بِأَفْضَلِهِمْ إلَّا لِيُغَنِّيَهُمْ غِنَاءً } فَإِنْ
سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { زَيِّنُوا
الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ } فَإِنَّ مَعْنَاهُ التَّحْزِينُ قَالَ شُعْبَةُ : نَهَانِي
أَيُّوبُ أَنْ أَتَحَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَخَافَةَ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى غَيْرِ
وَجْهِهِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَمَّا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ
أَنَّهُ { رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ سُورَةَ
الْفَتْحِ فَقَالَ : لَوْلَا أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْنَا لَحَكَيْتُ
تِلْكَ الْقِرَاءَةِ } ، وَقَدْ رَجَعَ ، وَإِنْ سَأَلُوا عَنْ مَعْنَى قَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ
يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ } قَالَ
: سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنَّا
مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِهِ يَعْنِي بِالْقُرْآنِ .
وَهَكَذَا فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فَقَالَ : مَعْنَى
الْحَدِيثِ لَا يَنْبَغِي لِحَامِلِ الْقُرْآنِ أَنْ يَرَى أَحَدًا ( مِنْ أَهْلِ
الْأَرْضِ أَغْنَى مِنْهُ ، وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا كُلَّهَا ، وَقَالَ :
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَرَأَى
أَنَّ أَحَدًا أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيرًا أَوْ
صَغَّرَ عَظِيمًا } ، وَقَالَ : ابْنُ
مَسْعُودٍ : نِعْمَ كَنْزُ الصُّعْلُوكِ آلُ عِمْرَانَ يَقُومُ بِهَا مِنْ آخِرِ
اللَّيْلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّغَنِّيَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْنَاءِ
دُونَ الصَّوْتِ قَوْلُ الْأَعْشَى :
وَكُنْت امْرَأً زَمِنًا
بِالْعِرَاقِ عَفِيفَ الْمَنَامِ طَوِيلَ التَّغَنِّي
قَالَ : أَبُو عُبَيْدٍ يُرِيدُ الِاسْتِغْنَاءَ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ :
تَغَنَّيْت تَغَنِّيًا ، وَتَغَانَيْت تَغَانِيًا بِمَعْنَى اسْتَغْنَيْت قَالَ
بَعْضُ الْعَرَبِ يُعَاتِبُ أَخَاهُ
: كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ ، وَنَحْنُ إذَا
مِتْنَا أَشَدُّ تَغَانِيًا ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ : مَرَرْت عَلَى عَجُوزٍ مِنْ
الْعَرَبِ قَدْ اعْتَقَلَتْ شَاةً فِي بَيْتِهَا فَقُلْت لَهَا : مَا تُرِيدِينَ
بِهَذِهِ الشَّاةِ قَالَتْ : نَتَغَنَّى بِهَا يَا هَذَا ، تُرِيدُ نَسْتَغْنِي ،
وَقَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ : مَنْ تَلَذَّذَ بِأَلْحَانِ الْقُرْآنِ حُرِمَ
فَهْمَ الْقُرْآنِ ، وَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ فَأَنْتُمْ أَقْرَأُ أَلْسِنَةً ،
وَنَحْنُ أَقْرَأُ قُلُوبًا ، وَقَالَ : ابْنُ مَسْعُودٍ نَحْنُ قَوْمٌ ثَقُلَتْ
عَلَيْنَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، وَخَفَّ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِهِ ، وَسَيَجِيءُ
قَوْمٌ يَخِفُّ عَلَيْهِمْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ ، وَيَثْقُلُ عَلَيْهِمْ الْعَمَلُ
بِهِ ، وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ : لَيَقْرَأَنَّ رِجَالٌ الْقُرْآنَ هُمْ
أَحْسَنُ أَصْوَاتًا مِنْ الْمَعَازِفِ ، وَمِنْ حُدَاةِ الْإِبِلِ لَا يَنْظُرُ
اللَّهُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
.
وَقَدْ أَمْعَنَ ، وَأَجَادَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ
الْحَافِظُ الْجَلِيلُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَبَيَّنَهُ أَتَمَّ بَيَانٍ ، وَأَحْسَنَهُ فِي كِتَابِ
التَّفْسِيرِ لَهُ فَمَنْ أَرَادَهُ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ هُنَاكَ إذْ إنَّ هَذَا
الْكِتَابِ يَضِيقُ عَمَّا أَتَى بِهِ ، وَمَا ذَكَرَ إنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ
لِأُولِي الْأَلْبَابِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّق لِلصَّوَابِ
( فَصْلٌ
) ، ثُمَّ
قَالَ الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمِمَّا اُشْتُهِرَتْ بِهِ هَذِهِ
الطَّائِفَةُ اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ ، وَالتَّنَافُسُ فِي أَلْوَانِ
الْأَطْعِمَةِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ حَسْبُ ابْنِ آدَمَ
أُكُلَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ : فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ ،
وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ } قَالَ : أَبُو جُحَيْفَةَ أَكَلْت
ثَرِيدًا بِلَحْمٍ سَمِينٍ فَتَجَشَّيْت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : { اُكْفُفْ عَنَّا جُشَاءَك فَإِنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ جُوعًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا } ، وَرُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { جَاءَتْ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ ؟ قَالَتْ : قُرْصٌ
خَبَزْتُهُ ، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُك بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ
فَقَالَ : أَمَا إنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيك مُنْذُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ } ، وَقَالَ : يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ لَوْ أَنَّ الْجُوعَ يُبَاعُ فِي
الْأَسْوَاقِ لَمَا كَانَ يَنْبَغِي لِطُلَّابِ الْآخِرَةِ أَنْ يَشْتَرُوا
غَيْرَهُ .
وَقَالَ
: الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا شَبِعْت مُنْذُ
خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا إلَّا شُبْعَةً فَطَرَحْتهَا ؛ لِأَنَّ الشِّبَعَ يُثْقِلُ
الْبَدَنَ ، وَيُقْسِي الْقَلْبَ ، وَيُزِيلُ الْفَطِنَةَ ، وَيَجْلِبُ النَّوْمَ
، وَيُضْعِفُ صَاحِبَهُ عَنْ الْعِبَادَةِ ، وَقَالَ : سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
التُّسْتَرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا خَلْقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الدُّنْيَا جَعَلَ فِي الشِّبَعِ الْقَسْوَةَ وَالْجَهْلَ ، وَجَعَلَ فِي الْجُوعِ
الْعِلْمَ وَالْحِكْمَةَ ، وَقَالَ
: بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ - - الْجُوعُ
يُصَفِّي الْفُؤَادَ ، وَيُمِيتُ الْهَوَى ، وَيُوَرِّثُ الْعِلْمَ الدَّقِيقَ ،
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْجُوعُ لِلْمُرِيدِينَ
رِيَاضَةٌ ، وَلِلتَّائِبِينَ تَجْرِبَةٌ ، وَلِلزُّهَّادِ سِيَاسَةٌ ،
وَلِلْعَارِفِينَ مَكْرُمَةٌ ، وَسُئِلَ
الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ صِفَةِ الصُّوفِيَّةِ
فَقَالَ : طَعَامُهُمْ طَعَامُ الْمَرْضَى ، وَنَوْمُهُمْ نَوْمُ الْغَرْقَى ،
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ : نَعُوذُ بِاَللَّهِ
مِنْ زَاهِدٍ قَدْ أَفْسَدَتْ مَعِدَتَهُ أَلْوَانُ الْأَغْنِيَاءِ ، وَقَالَ
رَجُلٌ لِبَعْضِ الْمَشَايِخِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنِّي جَائِعٌ فَقَالَ : كَذَبْت قَالَ :
وَمِنْ أَيْنَ عَلِمْت ؟ قَالَ : لِأَنَّ الْجُوعَ فِي خَزَائِنِهِ الْوَثِيقَةِ
لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مَنْ يُفْشِي سِرَّهُ ، وَلَا يُعْطَاهُ مَنْ لَا
يَشْكُرُهُ ، وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ اشْتَكَى إلَى شَيْخِهِ الْجُوعَ
، ثُمَّ ذَهَبَ فَرَأَى دِرْهَمًا مَطْرُوحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ أَمَا كَانَ
اللَّهُ عَالِمًا بِجُوعِك حَتَّى قُلْت إنِّي جَائِعٌ ، وَقَالَ : فَتْحٌ
الْمَوْصِلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْصَانِي ثَلَاثُونَ شَيْخًا عِنْدَ فِرَاقِي
لَهُمْ بِتَرْكِ عِشْرَةِ الْأَحْدَاثِ ، وَقِلَّةِ الْأَكْلِ ، وَيُرْوَى عَنْ
مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى ابْنِ عَوْنٍ فِي الْحَبْسِ
، وَإِذَا عُمَّالُ بَنِي أُمَيَّةَ مُقَيَّدُونَ فِي الْحَدِيدِ فَحَضَرَ
غَدَاؤُهُمْ فَجَعَلَ الْخَدَمُ يَنْقُلُونَ الْأَلْوَانَ فَقَالُوا هَلُمَّ يَا
أَبَا يَحْيَى فَقَالَ : مَا أُحِبُّ أَنْ آكُلَ مِثْلَ هَذَا الطَّعَامِ ، وَأَنْ
يُوضَعَ فِي رِجْلِي مِثْلُ هَذَا الْحَدِيدِ ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيَهُ
أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ : مَا أَخْرَجَكُمَا ؟
فَقَالَا : الْجُوعُ ، فَقَالَ : وَأَنَا ، وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا أَخْرَجَنِي
إلَّا الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا فَأَتَوْا بَيْتًا مِنْ الْأَنْصَارِ ،
وَإِذَا الرَّجُلُ غَائِبٌ فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ : مَرْحَبًا ، فَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: أَيْنَ فُلَانٌ ؟ قَالَتْ خَرَجَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا
مِنْ الْمَاءِ ، وَإِذَا بِالرَّجُلِ ، وَعَلَيْهِ قِرْبَةُ مَاءٍ ، فَلَمَّا
نَظَرَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَا أَجِدُ
مِنْ النَّاسِ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي
فَأَتَاهُمْ بِعِذْقٍ مِنْ رُطَبٍ ، وَبُسْرٍ وَتَمْرٍ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَا اجْتَنَيْته
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ تَخَيَّرُوا عَلَى أَعْيُنِكُمْ ، ثُمَّ أَخَذَ
الْمُدْيَةَ فَقَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاكَ وَالْحَلُوبَ
فَذَبَحَ لَهُمْ شَاةً فَأَكَلُوا ، وَشَرِبُوا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ
نَعِيمِ هَذَا الْيَوْمِ ، وَفِي لَفْظٍ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ .
}
( فَصْلٌ ) وَيُقَالُ : إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ
تُضِيفُ إلَى مَا هِيَ فِيهِ مِنْ الْبَاطِلِ اسْتِحْضَارَ الْمُرْدِ فِي مَجَالِسِهِمْ
، وَالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ ، وَرُبَّمَا زَيَّنُوهُمْ بِالْحُلِيِّ ،
وَالْمُصَبَّغَاتِ مِنْ الثِّيَابِ ، وَتَزْعُمَ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ
الِاسْتِدْلَالَ بِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ قَالَ الْأُسْتَاذُ
الْقُشَيْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهُوَ مِنْ رُؤَسَاءِ وَطَائِفَتِهِمْ قَوْلًا
عَظِيمًا فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ ، وَكَشْفِ فَضَائِحِهِمْ : مَنْ ابْتَلَاهُ
اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَبْدٌ أَهَانَهُ اللَّهِ ، وَخَذَلَهُ ،
وَكَشَفَ عَوْرَتَهُ ، وَأَبْدَى سَوْأَتَهُ فِي الْعَاجِلِ ، وَلَهُ عِنْدَ
اللَّهِ سُوءُ الْمُنْقَلَبِ فِي الْآجِلِ .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ
مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا } خَبَّبَ أَيْ أَفْسَدَ ، وَخَدَعَ ، وَأَصْلُهُ
مِنْ الْخِبِّ ، وَهُوَ الْخُدْعُ ، وَيُقَالُ : فُلَانٌ خِبٌّ هَبٌّ إذَا كَانَ فَاسِدًا
مُفْسِدًا قَالَ الْوَاسِطِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ
الصُّوفِيَّةِ : إذَا أَرَادَ اللَّهُ هَوَانَ عَبْدٍ أَلْقَاهُ إلَى هَؤُلَاءِ
الْأَنْتَانِ الْجِيَفِ أَوَ لَمْ تَسْمَعُوا إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ
أَزْكَى لَهُمْ } ؟ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ
فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى ، وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ } ، وَقَالَ : بَقِيَّةُ
بْنُ الْوَلِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : بَعْضُ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يُحَدِّقَ الرَّجُلُ النَّظَرَ إلَى الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ
الْجَمِيلِ الْوَجْهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا :
لِلشَّيْطَانِ مِنْ الرَّجُلِ ثَلَاثَةُ مَنَازِلَ فِي نَظَرِهِ وَقَلْبِهِ
وَذَكَرِهِ ، وَقَالَ عَطَاءٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : كُلُّ نَظْرَةٍ يَهْوَاهَا الْقَلْبُ
لَا خَيْرَ فِيهَا ، وَقَالَ : سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا
عَبَثَ بِغُلَامٍ بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ يُرِيدُ
الشَّهْوَةَ لَكَانَ لِوَاطًا ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ ذَكْوَانَ : رَحِمَهُ
اللَّهُ لَا تُجَالِسُوا أَبْنَاءَ الْأَغْنِيَاءِ فَإِنَّ لَهُمْ صُوَرًا
كَصُوَرِ النِّسَاءِ ، وَهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنْ الْعَذَارَى ، وَقَالَ :
بَعْضُ التَّابِعِينَ مَا أَخَافُ عَلَى الشَّابِّ النَّاسِكِ فِي عِبَادَتِهِ مِنْ
سَبُعٍ ضَارٍ كَخَوْفِي عَلَيْهِ مِنْ الْغُلَامِ الْأَمْرَدِ يَقْعُدُ إلَيْهِ ،
وَقَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : اللُّوطِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةٍ
أَصْنَافٍ : صِنْفٍ يَنْظُرُونَ ، وَصِنْفٍ يُصَافِحُونَ ، وَصِنْفٍ يَعْمَلُونَ
ذَلِكَ الْعَمَلَ ، وَرُوِيَ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَاءَ
إلَيْهِ رَجُلٌ ، وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ حَسَنُ الْوَجْهِ فَقَالَ : لَا تَجِئْنِي
بِهِ مَرَّةً أُخْرَى فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ ابْنُهُ ، وَهُمَا مَسْتُورَانِ
فَقَالَ : عَلِمْت ، وَلَكِنْ عَلَى رَأْيِ أَشْيَاخِنَا ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَسَنِ صَاحِبُ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ لَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ أَرْبَعِينَ
سَنَةً فَجَاءَهُ غُلَامٌ حَدَثٌ لِيَجْلِسَ إلَيْهِ فَأَجْلَسَهُ مِنْ خَلْفِهِ
فَأَمَّا إتْيَانُ الذُّكُورِ فَهِيَ الْفَاحِشَةُ الْعُظْمَى ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ
مُغَلَّظُ التَّحْرِيمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ
الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ }
قَالَ مَالِكٌ : وَيُرْجَمُ الْفَاعِلُ ، وَالْمَفْعُولُ بِهِ أُحْصِنَا أَوْ لَمْ
يُحْصَنَا ، وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ ،
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُوَ كَالزِّنَا إنْ كَانَ بِكْرًا
يُحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ ثَيِّبًا يُرْجَمُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ
مَعَ غُلَامٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ، وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ
يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ ، وَالْمَفْعُولَ بِهِ } ،
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَجَمَهُمْ بِالْحِجَارَةِ قَالَ تَعَالَى { :
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا
سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } الْآيَةَ ،
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
- فِي رَجُلٍ كَانَ يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ فَقَالَ : عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَى أَنْ يُحَرَّقَ فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَحْرَقَهُ
بِالنَّارِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : يُرْجَمُ اللُّوطِيُّ ، وَقَالَ :
ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : يُرْمَى مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ أَعْلَى
مَا فِي الْبَلَدِ مُنَكَّسًا ، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ ، وَيُرْوَى عَنْ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يُهْدَمُ
عَلَيْهِ الْبَيْتُ ، وَقَالَ : عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقْتَلُ .
وَرُوِيَ أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ كَانَتْ فِيهِمْ عَشْرُ
خِصَالٍ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا : كَانُوا يَتَغَوَّطُونَ فِي
الطُّرُقَاتِ ، وَتَحْتَ الْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ ، وَفِي الْأَنْهَارِ
الْجَارِيَةِ ، وَفِي شُطُوطِ الْأَنْهَارِ ، وَكَانُوا يَحْذِفُونَ النَّاسَ
بِالْحَصْبَاءِ فَيُعْوِرُونَهُمْ ، وَإِذَا اجْتَمَعُوا فِي الْمَجَالِسِ
أَظْهَرُوا الْمُنْكَرَ ، وَإِخْرَاجُ الرِّيحِ مِنْهُمْ ، وَاللَّطْمُ عَلَى رِقَابِهِمْ
، وَكَانُوا يَرْفَعُونَ ثِيَابَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَغَوَّطُوا ، وَيَأْتُونَ
بِالطَّامَّةِ الْكُبْرَى ، وَهِيَ اللِّوَاطُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي
نَادِيكُمْ الْمُنْكَرَ } ، وَالنَّادِي
الْمَجَالِسُ وَالْمَحَافِلُ ، وَمَنْ ارْتَقَى فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ حَالَةِ
الْفُسُوقِ ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ بَلَاءِ الزَّوَاجِ ،
وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ فَهَذِهِ وَسَاوِسُ الشَّيْطَانِ ، وَادِّعَاءُ الْعِصْمَةِ
، وَهُوَ الْكُفْرُ ، وَنَظِيرُ الشِّرْكِ فَاحْذَرْ مُجَالَسَتَهُمْ فَإِنَّ
الْيَسِيرَ مِنْهُ فَتْحُ بَابِ الْخِذْلَانِ ، وَإِدْخَالُ الْهِجْرَانِ بَيْنَك
وَبَيْنَ الْحَقِّ ، ثُمَّ يُقَالُ : وَهَبْكَ أَيُّهَا الْمَغْرُورُ قَدْ بَلَغْت
رُتْبَةَ
الشُّهَدَاءِ أَلَيْسَ قَدْ شَغَلْت ذَلِكَ الْقَلْبَ
بِمَخْلُوقٍ ، وَفِي الْحَدِيثِ
{ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : حَرَامٌ عَلَى قَلْبٍ
سَكَنَهُ حُبُّ غَيْرِي أَنْ أُسْكِنَهُ حُبِّي } ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ :
إنَّهُمْ يَسْتَدِلُّونَ بِالصَّنْعَةِ عَلَى الصَّانِعِ فَنِهَايَةٌ فِي
سِعَايَةِ الْهَوَى ، وَمُخَادَعَةِ الْعَقْلِ ، وَمُخَالَفَةِ الْعِلْمِ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى { : أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ } قَالَ : ابْنُ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : الْهَوَى شَرُّ إلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَابِ الِاعْتِبَارِ { : أَفَلَا يَنْظُرُونَ إلَى
الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } ، وَقَالَ تَعَالَى { : أَوَلَمْ
يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ
إلَّا الرَّحْمَنُ } ، وَقَالَ جَلَّ
وَعَلَا { : إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ
} الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى
{ : الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا
وَعَلَى جَنُوبِهِمْ } الْآيَةَ ، وَقَالَ تَعَالَى { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي
السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }
فَعَدَلُوا عَمَّا أَمَرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ إلَى مَا نَهَاهُمْ
عَنْهُ بِقَوْلِهِ { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ } الْآيَةَ
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الدُّفُّ ، وَالرَّقْصُ
بِالرِّجْلِ ، وَكَشْفُ الرَّأْسِ ، وَتَخْرِيقُ الثِّيَابِ فَلَا يَخْفَى عَلَى
ذِي لُبٍّ أَنَّهُ لَعِبٌ ، وَسُخْفٌ ، وَنَبْذٌ لِلْمُرُوءَةِ ، وَالْوَقَارِ ،
وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ ، وَالصَّالِحُونَ رَوَى أَهْلُ
التَّفْسِيرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
كَانَ مَجْلِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَ
حِلْمٍ وَحَيَاءٍ ، وَصَبْرٍ ، وَأَمَانَةٍ لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ ،
وَلَا تُؤَبَّنُ فِيهِ الْحُرُمُ ، يَتَوَاصَوْنَ فِيهِ بِالتَّقْوَى
مُتَوَاضِعِينَ يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ ، وَيَرْحَمُونَ فِيهِ الصَّغِيرَ ،
وَيُؤْثِرُونَ ذَا الْحَاجَةِ ، وَيَحْفَظُونَ الْغَرِيبَ قَالَ : وَكَانَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيِّنَ الْجَانِبِ سَهْلَ الْخُلُقِ دَائِمَ
الْبِشْرِ لَيْسَ بِفَظٍّ ، وَلَا غَلِيظٍ ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ،
وَلَا فَحَّاشٍ ، وَلَا عَيَّابٍ ، وَلَا مَزَّاحٍ يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا
يَشْتَهِي قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ : الْمِرَاءِ ، وَالْإِكْثَارِ ،
وَمَا لَا يَعْنِيهِ ، وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلَاثٍ : كَانَ لَا يَذُمُّ
أَحَدًا ، وَلَا يُعَيِّرُهُ ، وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ ، وَلَا يَتَكَلَّمُ
إلَّا فِيمَا رَجَا ثَوَابَهُ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ
كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمْ الطَّيْرُ فَإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لَا
يَتَنَازَعُونَ عِنْدَهُ الْحَدِيثَ ، وَمَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى
يَفْرُغَ يَعْنِي يَسْكُتُونَ ، وَيَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ ، وَالطَّيْرُ لَا يَسْقُطُ
إلَّا عَلَى سَاكِنٍ انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي السَّمَاعِ وَالرَّقْصِ شَيْءٌ
يُذَمُّ إلَّا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ بَنُو إسْرَائِيلَ حِينَ
اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلَهًا مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى فَجَعَلُوا يُغَنُّونَ
بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَيُصَفِّقُونَ ، وَيَرْقُصُونَ فَبَقِيَ حَالُهُمْ كَذَلِكَ
إلَى أَنْ جَاءَهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَوَقَعَ مِنْ قِصَّتِهِمْ
مَا قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَهُمْ أَصْلٌ لِمَا ذُكِرَ ،
وَمَا كَانَ هَذَا أَصْلُهُ
فَيَنْبَغِي بَلْ يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ
يَهْرُبَ مِنْهُ ، وَيُوَلِّي الظَّهْرَ عَنْهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ
تَغْيِيرِهِ ، وَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ ، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ ثَلَاثٌ : النِّسَاءُ ، وَالطِّيبُ
، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } قَالَ : الْإِمَامُ
الطُّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَؤُلَاءِ زَعَمُوا أَنَّ قُرَّةَ أَعْيُنِهِمْ
فِي الْغِنَاءِ ، وَاللَّهْوِ ، وَالنَّظَرِ فِي وُجُوهِ الْمُرْدِ .
( فَصْلٌ ) وَقَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا
تَمْزِيقُ الثِّيَابِ فَهُوَ يَجْمَعُ إلَى مَا فِيهِ مِنْ السَّخَافَةِ -
إفْسَادَ الْمَالِ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {
نَهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ } ،
وَقَالَ : عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنْ
الصَّدَقَةِ فَقَالَ : هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا فَقَالُوا : إنَّهَا
مَيِّتَةٌ قَالَ : إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا ) قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَيُحْجَرُ
عَلَى السُّفَهَاءِ ، وَهُمْ الْمُبَذِّرُونَ لِأَمْوَالِهِمْ ، وَمَا فِي
السَّفَهِ أَعْظَمُ مِنْ تَمْزِيقِ الثِّيَابِ ، وَقَالَ : أَنَسٌ رَأَيْت عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ
صُوفٍ فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً ، وَاحِدَةٌ مِنْهَا مِنْ أَدِيمٍ أَحْمَرَ
، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ انْقَطَعَ شِسْعُ
نَعْلِهِ فَقَالَ : إنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَمِنْ أَمْثَالِهِمْ
مَنْ أَصْلَحَ مَالَهُ فَقَدْ صَانَ الْأَكْرَمَيْنِ دِينَهُ ، وَعِرْضَهُ ،
وَتَمْزِيقُ الثِّيَابِ دَاخِلٌ فِي قَوْله تَعَالَى لَإِبْلِيسَ { :
وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ } ، وَإِذَا كَانَ الْكَسْبُ
خَبِيثًا كَانَ مَآلُهُ إلَى مِثْلِهِ انْتَهَى كَلَامُ الطُّرْطُوشِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ
( فَصْلٌ ) وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ
النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ
عَنْ قَوْله تَعَالَى { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ } فَقَالَ :
الْغِنَاءُ ، وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ هُوَ الْغِنَاءُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ
وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَمَكْحُولٌ ، وَرَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنْ
الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَسْعُودٍ : وَالْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ
، وَزَادَ أَنَّ لَهْوَ الْحَدِيثِ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ .
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغِنَاءُ بَاطِلٌ ،
وَالْبَاطِلُ فِي النَّارِ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَأَلْت عَنْهُ مَالِكًا
فَقَالَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ }
أَفَحَقٌّ هُوَ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ
وَغَيْرِهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { :
صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ فَاجِرَانِ أَنْهَى عَنْهُمَا : صَوْتُ مِزْمَارٍ ، وَرَنَّةُ
شَيْطَانٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ وَفَرَحٍ ، وَرَنَّةٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ لَطْمُ خُدُودٍ
، وَشَقُّ جُيُوبٍ } .
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ : قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ بُعِثْت بِكَسْرِ الْمَزَامِيرِ } خَرَّجَهُ أَبُو
طَالِبٍ الْغَيْلَانِيُّ .
وَخَرَّجَ ابْنُ بَشْرَانَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : بُعِثْت بِهَدْمِ
الْمَزَامِيرِ وَالطَّبْلِ } ، وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكِ بْنِ
أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ جَلَسَ إلَى قَيْنَةٍ يَسْمَعُ
مِنْهَا صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ اسْتَمَعَ إلَى
صَوْتِ غِنَاءٍ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ الرُّوحَانِيِّينَ فَقِيلَ :
وَمَا الرُّوحَانِيُّونَ ؟ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : قُرَّاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ
} خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ فِي نَوَادِرِ
الْأُصُولِ .
، وَمِنْ
رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلَا
تُصَلُّوا عَلَيْهِ } ؛ وَلِهَذِهِ الْآثَارِ وَغَيْرِهَا قَالَ الْعُلَمَاءُ بِتَحْرِيمِ
الْغِنَاءِ ، وَهُوَ الْغِنَاءُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْمُشْتَهِرِينَ بِهِ
الَّذِي يُحَرِّكُ النُّفُوسَ ، وَيَبْعَثُهَا عَلَى الْهَوَى وَالْغَزَلِ
وَالْمُجُونِ الَّذِي يُحَرِّكُ السَّاكِنَ ، وَيَبْعَثُ الْكَامِنَ ، فَهَذَا
النَّوْعُ إذَا كَانَ فِي شِعْرٍ يُشَبَّبُ فِيهِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ ، وَوَصْفِ
مَحَاسِنِهِنَّ ، وَذِكْرِ الْخُمُورِ ، وَالْمُحَرَّمَاتِ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ
؛ لِأَنَّهُ اللَّهْوُ ، وَالْغِنَاءُ الْمَذْمُومُ بِاتِّفَاقٍ فَأَمَّا مَنْ
سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَحِ
كَالْعُرْسِ وَالْعِيدِ ، وَعِنْدَ النَّشَاطِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ
كَمَا كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ
.
فَأَمَّا مَا ابْتَدَعَهُ الصُّوفِيَّةُ الْيَوْمَ مِنْ
الْإِدْمَانِ عَلَى سَمَاعِ الْأَغَانِي بِالْآلَاتِ الْمُطْرِبَةِ مِنْ
الشَّبَّابَةِ وَالطَّارِ وَالْمَعَازِفِ وَالْأَوْتَارِ فَحَرَامٌ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْبِ
فَلَا حَرَجَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ النُّفُوسَ ، وَيُرْهِبُ الْعَدُوَّ .
، وَذَكَرَ
أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّبَرِيُّ قَالَ : أَمَّا
مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْ الْغِنَاءِ وَعَنْ اسْتِمَاعِهِ ،
وَقَالَ : إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَوَجَدَهَا مُغَنِّيَةً كَانَ لَهُ رَدُّهَا
بِالْعَيْبِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ سَائِرِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
قَالَ النَّحَّاسُ : وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : وَقَدْ أَجْمَعَ عُلَمَاءُ
الْأَمْصَارِ عَلَى كَرَاهَةِ الْغِنَاءِ ، وَالْمَنْعِ
مِنْهُ .
قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ ، وَقَدْ قَالَ
الْقَفَّالُ مِنْ أَصْحَابِنَا : لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُغَنِّي
وَالرَّقَّاصِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : وَإِذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَجُوزُ فَأَخْذُ
الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ ادَّعَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ
الْبَرِّ الْإِجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ ، ذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ
أَيْضًا فِي سُورَةِ سُبْحَانَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ
مَرَحًا } قَالَ : اسْتَدَلَّ الْعُلَمَاءُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَمِّ
الرَّقْصِ وَتَعَاطِيهِ .
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ : قَدْ
نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الرَّقْصِ فَقَالَ { : وَلَا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحًا } ، وَذَمُّ الْمُخْتَالِ وَالرَّاقِصِ أَشَدُّ ، وَالْمَرَحُ
الْفَرَحُ أَوَلَسْنَا قِسْنَا النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي
الطَّرَبِ وَالسُّكْرِ فَمَا بَالُنَا لَا نَقِيسُ الْقَضِيبَ وَتَلْحِينَ
الشِّعْرِ مَعَهُ عَلَى الطُّنْبُورِ وَالطَّبْلِ لِاجْتِمَاعِهِمَا ؟ ، فَمَا أَقْبَحُ
ذَا لِحْيَةٍ سِيَّمَا إذَا كَانَ ذَا شَيْبَةٍ يَرْقُصُ وَيُصَفِّقُ عَلَى
تَوْقِيعِ الْأَلْحَانِ وَالْقُضْبَانِ خُصُوصًا إذَا كَانَتْ أَصْوَاتَ نِسْوَانٍ
وَوِلْدَانٍ ، وَهَلْ يَحْسُنُ لِمَنْ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَوْتُ وَالسُّؤَالُ
وَالْحَشْرُ وَالصِّرَاطُ ، ثُمَّ مَآلُهُ إلَى إحْدَى الدَّارَيْنِ يَشْمُسُ
بِالرَّقْصِ شُمُوسَ الْبَهَائِمِ ، وَيُصَفِّقُ تَصْفِيقَ النِّسْوَةِ ؟
وَاَللَّهِ لَقَدْ رَأَيْت مَشَايِخَ فِي عُمْرِي مَا بَانَ لَهُمْ سِنٌّ مِنْ
التَّبَسُّمِ فَضْلًا عَنْ الضِّحْكِ مَعَ إدْمَانِ مُخَالَطَتِي لَهُمْ .
، وَقَالَ
أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ : وَلَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ الْمَشَايِخِ عَنْ
الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ قَالَ : حَمَاقَةً لَا تَزُولُ إلَّا بِاللَّعِبِ ،
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِك } قَالَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ
الْمَزَامِيرِ ، وَالْغِنَاءِ وَاللَّهْوِ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { ، وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْت مِنْهُمْ بِصَوْتِك
} عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ ، وَمَا كَانَ مِنْ صَوْتِ الشَّيْطَانِ أَوْ فِعْلِهِ ،
وَمَا يَسْتَحْسِنُهُ فَوَاجِبٌ التَّنَزُّهُ عَنْهُ .
( فَصْلٌ ) وَقَدْ حُكِيَ عَنْ إمَامِ هَذِهِ
الطَّرِيقَةِ ، وَهُوَ الشَّيْخُ الْجُنَيْدُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ
لِحُضُورِ السَّمَاعِ فَأَبَى ، ثُمَّ سُئِلَ فَأَبَى فَقِيلَ : لَهُ أَلَسْت
كُنْت تَحْضُرُهُ قَالَ : مَعَ مَنْ ، وَمِمَّنْ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ
الْأَكَابِرِ أَنَّهُ سُئِلَ لِحُضُورِ السَّمَاعِ فَأَبَى فَقِيلَ : لَهُ أَتُنْكِرُ
السَّمَاعَ قَالَ : وَمِثْلِي يُنْكِرُهُ ، وَقَدْ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ
مِنِّي ، وَمِنْكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الطَّيَّارُ ، وَإِنَّمَا
أُنْكِرُ مَا أُحْدِثَ فِيهِ .
وَهَذَا كَمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْغِنَاءَ هُوَ
رَفْعُ الصَّوْتِ بِالشِّعْرِ فَحَضَرَهُ هَذَا السَّيِّدُ لَمَّا أَنْ كَانَ
كَذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ حَدَثَ فِيهِ مَا حَدَثَ تَرَكَهُ ، وَهَذَا أَيْضًا مُوَافِقٌ
لِكَلَامِ الْجُنَيْدِ فِي قَوْلِهِ مَعَ مَنْ ، وَمِمَّنْ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَوَّالَ هُوَ شَيْخُ الْجَمَاعَةِ الَّذِي مِنْهُ
يَسْتَمِدُّونَ ، وَبِهِ يَقْتَدُونَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ
بَعِيدَةٌ مِنْ سَمَاعِ هَذَا الزَّمَانِ لِمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مِمَّا لَا
يَنْبَغِي كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ ، وَقَدْ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ
لِبَعْضِهِ ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَلَّ أَنْ
يَسْلَمَ مِنْ حُضُورِ النِّسَاءِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُشْرِفَةِ عَلَيْهِ مِنْ
سَطْحٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَسَمَاعِهِنَّ الْأَشْعَارَ الْمُهَيِّجَةَ لِلْفِتْنَةِ وَالشَّهَوَاتِ
وَالْمَلْذُوذَاتِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحَرِّكُ عَلَيْهِنَّ سَاكِنًا لِمَا
تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْغِنَاءَ رُقْيَةُ الزِّنَا ، وَهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ
وَدِينٍ ، سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَهُنَّ طَرِيقٌ إلَى
التَّوَصُّلِ إلَى الرِّجَالِ أَوْ الرِّجَالِ إلَيْهِنَّ فَأَعْظَمُ فِتْنَةً
وَبَلِيَّةً سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُغَنِّي شَابًّا
حَسَنَ الصُّورَةِ وَالصَّوْتِ ، وَيَسْلُكُ مَسْلَكَ
الْمُغَنِّيَاتِ فِي تَكْسِيرِهِمْ ، وَسُوءِ
تَقَلُّبَاتِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَرَكَاتِ الْمَذْمُومَةِ مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ
مِنْ الزِّينَةِ بِلِبَاسِ الْحَرِيرِ وَالرَّفِيعِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَبَعْضُهُمْ
يُبَالِغُ فِي أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ فَيَتَقَلَّدُ بِالْعَنْبَرِ بَيْنَ ثِيَابِهِ
لِتُشَمَّ رَائِحَتُهُ مِنْهُ ، وَيَجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فُوطَةً مِنْ حَرِيرٍ
لَهَا حَوَاشٍ عَرِيضَةٌ مُلَوَّنَةٌ يُصَفِّفُهَا عَلَى جَبْهَتِهِ ، وَلَهُمْ
فِي اسْتِجْلَابِ الْفِتَنِ بِمِثْلِ هَذَا أُمُورٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ هَذَا الْمِسْكِينِ الَّذِي عَمِلَ
السَّمَاعَ لَهُمْ ، وَجَمَعَهُمْ لَهُ كَيْفَ يَطِيبُ خَاطِرُهُ أَوْ يَسْكُنُ
بَاطِنُهُ بِرُؤْيَةِ أَهْلِهِ لِمَا ذُكِرَ إذْ إنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِتْنَةٌ
عَظِيمَةٌ قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ عِنْدَ سَمَاعِهَا أَوْ رُؤْيَتِهَا فَإِنَّا
لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، أَيْنَ غِيرَةُ الْإِسْلَامِ أَيْنَ
نَجْدَةُ الرِّجَالِ السَّادَةِ الْكِرَامِ ؟ أَيْنَ الْهِمَمُ الْعَالِيَةُ
الْعَفِيفَةُ عَنْ الْحَرَامِ ؟ أَيْنَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْأَعْلَامِ ؟
فَتَحَصَّلَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ حَضَرَ السَّمَاعَ مِنْ
الرِّجَالِ ، وَالشُّبَّانِ ، وَمَنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ النِّسَاءِ أَوْ
سَمِعَهُمْ اُفْتُتِنَ ، وَقَلَّ أَنْ يَرْضَى بِمَا عِنْدَهُ مِنْ الْحَلَالِ
غَالِبًا فَتَتَشَوَّفُ نُفُوسُهُمْ إلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمَاتِ ، فَمِنْهُمْ
مَنْ يَصِلُ إلَى غَرَضِهِ الْخَسِيسِ ، وَهِيَ الْبَلِيَّةُ الْعُظْمَى ، وَمِنْهُمْ
مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ
الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ لَهُ فَيَكُونُ آثِمًا فِي قَصْدِهِ .
وَلَوْ وَقَفَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذُكِرَ لَرُجِيَتْ
لَهُمْ التَّوْبَةُ وَالْإِقْلَاعُ وَالْإِقَالَةُ مِمَّا وَقَعُوا فِيهِ ، لَكِنَّ
الْبَلِيَّةَ الْعُظْمَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِذَلِكَ ،
وَيَعْتَقِدُونَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سِيَّمَا إنْ
عَمِلُوهُ بِسَبَبِ الْمَوْلِدِ فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الْفِتْنَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ
يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي أَكْبَرِ الطَّاعَاتِ ، وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ
الدِّينِ ، وَتُعْطِي هَذِهِ
الْقَاعِدَةُ الَّتِي انْتَحَلُوهَا أَنَّهُمْ أَعْرَفُ
بِالشَّعَائِرِ مِنْ سَلَفِهِمْ -
نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْمِحَنِ ، وَالْفِتَنِ ،
وَمِنْ الِابْتِدَاعِ ، وَتَرْكِ الِاتِّبَاعِ - ، وَبِالْجُمْلَةِ فَفِتْنَتُهُ أَكْثَرُ
مِنْ أَنْ تُحْصَرَ ، وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ،
وَالرِّيَاءِ ، وَالسُّمْعَةِ لَوْ قِيلَ لِأَحَدِهِمْ : تَصَدَّقْ بِبَعْضِ مَا تُنْفِقُهُ
فِيهِ عَلَى الْمُضْطَرِّينَ الْمُحْتَاجِينَ سَرَى الشُّحُّ بِذَلِكَ وَبَخِلَ ،
وَمَا ذَلِكَ إلَّا لِوُجُوهٍ : الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : خُبْثُ الْكَسْبِ غَالِبًا
؛ لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ وَجْهٍ خَبِيثٍ لَا يَخْرُجُ إلَّا
فِي وَجْهٍ خَبِيثٍ مِثْلِهِ بِذَلِكَ جَرَتْ الْحِكْمَةُ .
الثَّانِي : إيثَارُ الشَّهَوَاتِ ، وَالْمَلَذَّاتِ .
الثَّالِثُ : الرِّيَاءُ ، وَالسُّمْعَةُ .
الرَّابِعُ : مَحَبَّةُ الثَّنَاءِ ، وَالْمَحْمَدَةِ ،
وَالْقِيلِ وَالْقَالِ كَمَا تَقَدَّمَ
.
الْخَامِسُ : مَحَبَّةُ النُّفُوسِ فِي الظُّهُورِ عَلَى
الْأَقْرَانِ .
السَّادِسَةُ : أَنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ خَالِصَةٌ
لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا ذُو حَزْمٍ ، وَمُرُوءَةٍ
، وَإِخْلَاصٍ ، فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ تَمَسَّكَ بِنُورِ الشَّرِيعَةِ ،
وَسَلَكَ مِنْهَاجَهَا ، وَشَدَّ يَدَهُ عَلَيْهَا ، وَتَرَكَ كُلَّ مَا
أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ ، وَعَمِلَ عَلَى خَلَاصِ مُهْجَتِهِ ، وَأَهْلِهِ ، وَوَلَدِهِ
، وَلَا خَلَاصَ إلَّا بِالِاتِّبَاعِ ، وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ - سَلَكَ اللَّهُ
بِنَا الطَّرِيقَ الْأَرْشَدَ إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ -
بِمُحَمَّدٍ ، وَآلِهِ ( فَصْلٌ ) ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ
أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُكَلَّفِ لَمْ يَبْقَ إلَّا فِي قِسْمَيْنِ : وَهُمَا الْوُجُوبُ
، وَالنَّدْبُ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ
فَمَا بَالُك بِالْفَقِيرِ الْمُنْقَطِعِ الْمُتَوَجِّه إلَى رَبِّهِ الَّذِي
تَرَكَ الدُّنْيَا ، وَشَهَوَاتِهَا ، وَمَلْذُوذَاتِهَا خَلْفَ ظَهْرِهِ فَهُوَ أَوْلَى
وَأَوْجَبُ بِالْمُطَالَبَةِ بِالِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ أَكْثَرُ مِنْ
غَيْرِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالسَّمَاعُ إذَا سَلِمَ
مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي بَابِ
الْوَاجِبِ وَالْمَنْدُوبِ بِدَلِيلِ مَا تَقَدَّمَ عَنْ الْجُنَيْدِ رَحِمَهُ
اللَّهُ حَيْثُ قَالَ : لَا يَصِيرُ السَّمَاعُ مُبَاحًا إلَّا بِعَشْرَةِ شُرُوطٍ
، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَكْثَرُهَا ، وَالْفَقِيرُ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ أَنْ
يَحْتَاطَ لِنَفْسِهِ ، وَيَتَّقِيَ مَوَاضِعَ الرَّيْبِ ، وَيَسُدَّ عَنْ نَفْسِهِ
أَبْوَابَ الْمَفَاسِدِ كُلَّهَا فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِالْعَالِمِ فِي
الِاقْتِدَاءِ بِهِ فَصَلَاحُهُ يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ ، وَفَسَادُهُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَ مُهْجَتَهُ ، وَمُهْجَةَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
بِالنُّهُوضِ إلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ يُنْدَبُ إلَيْهِ ، وَيَتْرُكُ مَا
عَدَا ذَلِكَ ، وَيُعْرِضُ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصُونَ حُرْمَةَ
الْخِرْقَةِ الَّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا بِتَرْكِ الْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ
أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَمُخَالَطَتِهِمْ ، وَالتَّعَرُّفِ بِهِمْ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ قُبْحُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَالِمِ فَفِي حَقِّ الْفَقِيرِ أَوْلَى
وَأَحْرَى ؛ إذْ إنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى طَرِيقِ الْآخِرَةِ ، وَتَرَكَ الدُّنْيَا
وَأَهْلَهَا ، فَوُقُوفُهُ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ نَقِيضُ
طَرِيقِهِ وَمَقْصِدِهِ ، بَلْ يَنْقَطِعُ عَنْهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا أَعْنِي
أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ فِي خَلْوَتِهِ ، وَقَلْبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِغَيْرِ مَا
هُوَ فِيهِ فَإِنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْهُمْ ، وَإِنْ
كَانَ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمْ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَمْ يُكْثِرْهُمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا : إذَا رَأَيْت
الْأَمِيرَ عَلَى بَابِ الْفَقِيرِ فَاتَّهِمْ الْفَقِيرَ ؛ لِأَنَّهُ مَا جَاءَ
إلَّا لِنِسْبَةٍ حَصَلَتْ فِي الْفَقِيرِ مِنْ أَجْلِ مَا يَتَعَاطَوْنَهُ مِنْ أُمُورِ
الدُّنْيَا ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ الْأَمِيرُ لِحُصُولِ الْجِنْسِيَّةِ أَوْ
كَمَا قَالُوا ، وَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ لَا يَشْعُرُ بِمَا أَوْجَبَ ذَلِكَ
فِي حَقِّهِ .
حَتَّى لَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ لَا
يَمُرُّ لَهُ خَاطِرٌ فِي الدُّنْيَا ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ
الْتِفَاتٌ إلَيْهَا ، وَإِذَا بِجُنْدِيٍّ يَدُقُّ الْبَابَ فَدَخَلَ إلَيْهِ ،
وَجَلَسَ يَتَحَدَّثُ مَعَهُ فِي الدُّنْيَا فَرَجَعَ الشَّيْخُ إلَى نَفْسِهِ ،
وَقَالَ هَذِهِ عُقُوبَةٌ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ أَتَيْت ، وَإِذَا هُوَ قَدْ
ذَكَرَ الْخَاطِرَ الَّذِي مَرَّ بِهِ فَتَابَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَقْلَعَ
عَنْهُ ، وَإِذَا بِالْجُنْدِيِّ قَدْ قَامَ وَخَرَجَ مِنْ حِينِهِ .
فَهَذِهِ كَانَتْ أَحْوَالُهُمْ وَسِيرَتُهُمْ
الْحَسَنَةُ ، وَهُمْ قُدْوَةٌ لِمَنْ بَعْدَهُمْ مِمَّنْ يَتَمَسَّكُ
بِطَرِيقِهِمْ - أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يُخَالِفَ بِنَا عَنْ حَالِهِمْ -
وَمَعَ هَذَا فَلَا نُنْكِرُ الِاجْتِمَاعَ بِهِمْ أَعْنِي إذَا جَاءُوا إلَى
الْفَقِيرِ رَاغِبِينَ فَقَدْ وَرَدَتْ السُّنَّةُ بِحُسْنِ الْبَشَاشَةِ عِنْدَ
اللِّقَاءِ ،
وَالْأَخْذِ مَعَ الْمُضْطَرِّينَ ، وَالْمَسَاكِينِ
فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ احْتِيَاجَ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا
لِلْمُرِيدِ ، وَخَطَرَهُ أَعْظَمُ مِنْ احْتِيَاجِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ
، وَالْمَسَاكِينِ إلَى الْمُرِيدِ الْمُنْقَطِعِ إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛
لِأَنَّ الْفَقِيرَ الْمِسْكِينَ أَقْرَبُ إلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؛ إذْ
هُوَ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ ، وَالْمَسْكَنَةُ عَلَيْهِ ظَاهِرَةٌ بِخِلَافِ
أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ الشُّرُودُ عَنْ بَابِ
رَبِّهِمْ لِأَجْلِ تَعَلُّقِهِمْ بِمَنْ هُوَ فَوْقَهُمْ أَوْ مَنْ هُوَ
مِثْلُهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدَ إذَا أَتَوْا
إلَيْهِ أَنْ يُبَاسِطَهُمْ لِكَيْ يَتَوَصَّلَ بِذَلِكَ إلَى مَوْعِظَتِهِمْ
وَسِيَاسَةِ أَخْلَاقِهِمْ لِيَسْرِقَ طِبَاعَهُمْ بِالرِّفْقِ وَالتَّيْسِيرِ
وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ قَاصِدًا بِذَلِكَ وُقُوفَهُمْ بِبَابِ رَبِّهِمْ ،
وَإِرْشَادَهُمْ إلَيْهِ لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ ؛ لِأَنَّ نَجَاةَ هَؤُلَاءِ
مِنْ بَابِ خَرْقِ الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ ، فَإِذَا
خَلَّصَ وَاحِدًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْجِهَادِ ، وَفِي
الْجِهَادِ مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا فِيهِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَغْتَنِمَ مَا سِيقَ إلَيْهِ
مِنْ هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ ، وَيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ أَنْ
يَتَحَفَّظَ عَلَى مَقَامِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ تَدْنِيسِهِ بِالتَّشَوُّفِ
إلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ أَوْ التَّعَزُّزِ بِعِزِّهِمْ الْفَانِي أَوْ
الرُّكُونِ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ الزَّائِلَةِ فَإِذَا سَلِمَ مِنْ
ذَلِكَ فَلَا يُنَافِي قَضَاءَ حَوَائِجِ الْمُضْطَرِّينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
عَلَى أَيْدِيهِمْ ؛ لِأَنَّ لَهُ بِذَلِكَ الْمِنَّةَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ
سَاقَ إلَيْهِمْ خَيْرًا عَظِيمًا ، وَمَعْرُوفًا جَسِيمًا لَكِنْ بِشَرْطٍ
يُشْتَرَطُ فِيهِ ، وَهُوَ أَنْ يُرِيهِمْ أَنَّ الْحَظَّ وَالْمَنْفَعَةَ وَالْحَاجَةَ
الْكُبْرَى لَهُمْ فِي اسْتِقْضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ بَعْدَ
أَنْ يُحَقِّقَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَابِ
الْحَاجَاتِ إلَيْهِمْ ،
وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ
أَمْرِهِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَكَيْفَ مَعَ اطِّلَاعِهِ وَاطِّلَاعِهِمْ ، وَهَذَا
بَابٌ كَبِيرٌ مُتَّسِعٌ فَيَكْفِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْفُقَرَاءُ السَّالِكُونَ مِمَّنْ
مَضَى مِنْهُمْ - نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ - قَدْ انْقَسَمُوا فِي هَذَا الْبَابِ
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ لَا يُخَالِطُ أَحَدًا مِنْ غَيْرِ
جِنْسِهِ فَإِنْ وَقَعَ لِأَحَدِهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ اسْتَعْمَلَ التَّحَيُّلَ
فِي التَّخَلُّصِ مِنْهُ .
كَمَا حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ
لَمَّا أَنْ تَوَلَّى الْخِلَافَةَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ ، وَيَرْجِعُ إلَيْهِ هَرَبَ
مِنْهُ إلَى الْبِلَادِ ، وَسَافَرَ إلَى مَوَاضِعَ لَا يُعْرَفُ فِيهَا فَبَقِيَ
الْخَلِيفَةُ يَسْأَلُ عَنْهُ ، وَيَبْحَثُ عَنْ أَمْرِهِ إلَى أَنْ اجْتَمَعَ
بِهِ بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَتَكَلَّمَ مَعَهُ فِي أَنَّ اجْتِمَاعَهُ
بِالْخَلِيفَةِ فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ جَوَابُهُ أَنْ
قَالَ : يُصْلِحُ مَا يَعْلَمُ فَسَادَهُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَتَيْته ،
وَجَلَسْت مَعَهُ ، وَعَلَّمْته مَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ
حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَظْهَرَ التَّوَلُّهَ حِينَ إتْيَانِ
السُّلْطَانِ إلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَ عَلَى بَابِهِ أَحْمَالًا مِنْ الْخُبْزِ فَوَضَعَهَا
، وَجَلَسَ هُنَاكَ فَلَمَّا أَنْ رَأَى السُّلْطَانَ مُقْبِلًا أَخَذَ رَغِيفًا ،
وَجَعَلَ يَعَضُّ فِيهِ ، وَيَأْكُلُ بِنَهِمَةٍ فَجَاءَ السُّلْطَانُ فَسَأَلَ
عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ : هُوَ ذَا فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ
فَكَلَّمَهُ فَأَبَى عَنْ جَوَابِهِ فَسَأَلَهُ لِمَ لَا تَرُدُّ عَلَيَّ
الْجَوَابَ فَقَالَ أَخَافُ أَنْ تَشْغَلَنِي عَنْ أَكْلِي أَوْ أَنْ تَأْكُلَ
مَعِي فَيَذْهَبَ هَذَا الْخُبْزُ ، وَأَنَا لَا أَشْبَعُ أَوْ كَمَا قَالَ
فَرَجَعَ السُّلْطَانُ عَنْهُ ، وَهَذَا بَابُ السَّلَامَةِ ، وَلَا يُعْدَلُ
بِالسَّلَامَةِ شَيْءٌ .
الْقِسْمُ الثَّانِي : أَنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ بِهِمْ
إذَا أَتَوْا إلَيْهِمْ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : الْإِتْيَانُ إلَيْهِمْ ،
وَفِيهِ خَطَرٌ مِنْ أَجْلِ
مُخَالَطَتِهِمْ وَالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِهِمْ
لِقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ إذْ أَنَّ ذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ
مُتَضَادَّيْنِ أَحَدُهُمَا حَسَنٌ ، وَهُوَ قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ ،
وَالتَّفْرِيجُ عَنْهُمْ وَالثَّانِي ضِدُّهُ ، وَهُوَ إهَانَةُ خِرْقَةِ
الْفَقِيرِ بِالْوُقُوفِ عَلَى أَبْوَابِ مَنْ لَا يَنْبَغِي ، وَقَدْ قَالَ
بَعْضُهُمْ : مَا أَقْبَحَ أَنْ يُسْأَلَ عَنْ الْعَالِمِ فَيُقَالُ : هُوَ
بِبَابِ الْأَمِيرِ فَإِذَا كَانَ هَذَا الْقُبْحُ فِي حَقِّ الْعَالِمِ فَمَا بَالُك
بِهِ فِي الْمُرِيدِ الَّذِي خَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ ، وَأَقْبَلَ
عَلَى الْآخِرَةِ يَطْلُبُهَا ، وَتَوَجَّهَ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
بِالِانْقِطَاعِ إلَيْهِ ؟ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الْقُبْحِ إلَّا
أَنَّا مَأْمُورُونَ بِالتَّغْيِيرِ عَلَيْهِمْ فِي بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ ،
وَالْوُقُوفُ بِبَابِهِمْ يُنَافِي ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَخْتَارُ الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى لَا شَرْقِيَّةٍ
وَلَا غَرْبِيَّةٍ لَا يَقِفُ بِبَابِهِمْ ، وَلَا يَنْفِرُ مِنْهُمْ ، بَلْ
يَسْتَقْضِي حَوَائِجَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْهُمْ إذَا أَتَوْا
إلَيْهِ ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَأْتِ مِنْهُمْ إلَيْهِ فَإِنَّهُ كَانَ لَا
يُرْسِلُ إلَيْهِ أَصْلًا ، وَمَنْ نَزَلَتْ بِهِ ضَرُورَةٌ ، وَأَتَى إلَيْهِ
يُحِيلُهُ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالتَّوْبَةِ مِمَّا جَنَى ، وَأَمَّا الْإِرْسَالُ
إلَيْهِمْ فَكَانَ لَا يُرْسِلُ لِمَنْ يَعْرِفُ ، وَلَا لِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَمَنْ
كَانَ يَعْرِفُهُ مِنْهُمْ إذَا جَاءَ ذِكْرٌ لَهُ مَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِنْ
ضَرُورَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَأَزَالَهَا ، وَهَذَا الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ هُوَ
حَالُ أَكْثَرِ السَّلَفِ أَعْنِي الطَّرِيقَةَ الْوُسْطَى الْمُتَقَدِّمَ
ذِكْرُهَا ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ هَذَا حَالُهُ مَعَ زِيَارَةِ مَنْ يُنْسَبُ
إلَى الدُّنْيَا .
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَنْ يَأْتِي إلَى زِيَارَةِ
الْمُرِيدِ يَنْقَسِمُونَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ - إتْيَانُ
أَبْنَاءِ الدُّنْيَا لَهُ .
وَالثَّانِي - زِيَارَةُ الْمُرِيدِينَ وَالصُّلَحَاءِ .
وَالثَّالِثُ - زِيَارَةُ مَنْ شَارَكَهُ فِي
الْخِرْقَةِ مِنْ جِهَةِ شَيْخِهِ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْعَالِمِ الَّذِي اهْتَدَى
بِهَدْيِهِ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ
الثَّانِي فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْقَى مَنْ أَتَاهُ بِرَحَبٍ ، وَسَعَةِ صَدْرٍ
، وَأَنْ يُكْثِرَ التَّوَاضُعَ لَهُمْ ، وَيَرَى الْفَضْلَ لَهُمْ عَلَيْهِ
فِيمَا فَعَلُوهُ ، وَيَرَى نَفْسَهُ أَنَّهَا مُقَصِّرَةٌ فِي حَقِّهِمْ إذْ
إنَّهُ قَعَدَ عَنْ زِيَارَتِهِمْ حَتَّى احْتَاجُوا إلَى زِيَارَتِهِ فَيُعَوِّضُ
لَهُمْ عَنْ ذَلِكَ كَثْرَةَ الْأُنْسِ ، وَإِظْهَارَ الْوُدِّ بِشَرْطِ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ بَاطِنًا كَمَا فَعَلَهُ ظَاهِرًا ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ
يُبَالِغَ فِي الْأَدَبِ مَعَهُمْ بِتَوْقِيرِ كَبِيرِهِمْ ، وَاحْتِرَامِهِ ،
وَاللُّطْفِ بِصَغِيرِهِمْ فِي إرْشَادِهِ ، وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِ وَتَهْيِئِ
أَمْرِهِ لِلسُّلُوكِ وَالتَّرَقِّي ، وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُخْرِجَ عَنْهُ
أَحَدًا مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ إلَّا عَنْ أَكْلٍ فَلْيَفْعَلْ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ وَرَدَ عَنْ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَنْصَرِفُونَ
إلَّا عَنْ ذَوَاقٍ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ إلَّا بِتَكَلُّفٍ مِثْلِ
أَخْذِ دَيْنٍ أَوْ مَا يُقَارِبُهُ فَالتَّرْكُ أَوْلَى بِهِ ، وَقَدْ حُكِيَ
عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُ أَضْيَافٌ فَقَدَّمَ لَهُمْ خُبْزًا وَمِلْحًا ،
وَقَالَ : لَوْلَا أَنَّا نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ لَتَكَلَّفْت لَكُمْ لَكِنْ
يُعَوِّضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ إمْدَادُهُمْ فِي بَوَاطِنِهِمْ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْإِمْدَادِ فَيَدْعُو لَهُمْ بِظَاهِرِ
الْغَيْبِ ، وَلَعَلَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ - وَهُوَ الْغَالِبُ - مَنْ هُوَ
أَرْفَعُ مِنْهُ قَدْرًا ، وَأَعْظَمُ شَأْنًا فَيَكُونُ دُعَاؤُهُ إذْ ذَاكَ يَعُودُ
عَلَيْهِ بَرَكَتُهُ ؛ لِمَا وَرَدَ أَنَّ { الْمَرْءَ إذَا دَعَا لِأَخِيهِ فِي
ظَاهِرِ الْغَيْبِ فَإِنَّ
الْمَلَكَ يَقُولُ لَهُ : وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ } أَوْ كَمَا
وَرَدَ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كُلُّ حَاجَةٍ أَحْتَاجُهَا ،
وَأُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ بِهَا لِنَفْسِي أَدْعُو بِهَا لِأَخِي فِي ظَهْرِ
الْغَيْبِ لِأَنِّي إذَا دَعَوْت لِنَفْسِي كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمَلًا
لِلْقَبُولِ أَوْ ضِدِّهِ ، وَإِذَا دَعَوْت لِأَخِي فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ
فَالْمَلَكُ يَقُولُ : وَلَك مِثْلُ ذَلِكَ ، وَدُعَاءُ الْمَلَكِ مُسْتَجَابٌ ،
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَ إلَى زِيَارَةِ أَخِيهِ فَقَالَ لَهُ
الْمَزُورُ : يَا أَخِي أَمَا كَانَ لَك شُغْلٌ بِاَللَّهِ عَنْ زِيَارَتِي فَقَالَ لَهُ
الزَّائِرُ شُغْلِي بِاَللَّهِ أَخْرَجَنِي إلَى زِيَارَتِك .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ
إذَا سَأَلَهُ أَحَدٌ مِنْ إخْوَانِهِ فِي حَاجَةٍ يَبْكِي ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ
يَقْضِي حَاجَتَهُ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ بُكَائِهِ فَقَالَ : أَبْكِي لِغَفْلَتِي
عَنْ حَاجَةِ أَخِي حَتَّى احْتَاجَ أَنْ يُبْدِيَهَا لِي ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَ
هُوَ جَارٍ عَلَى جَادَّةِ غَالِبِ حَالِ النَّاسِ ، وَبَعْضُ الْأَكَابِرِ
يُعَوِّضُ عَنْ ذَلِكَ مَا هُوَ فِي الْإِيثَارِ أَكْثَرُ وَأَعَمُّ ، وَلَهُ فِي
ذَلِكَ اقْتِدَاءٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
.
كَمَا حَكَى لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ الْفَقِيهَ
الْإِمَامَ الْمَعْرُوفَ بِابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ جَاءَ إلَى زِيَارَةِ الْفَقِيهِ
الْإِمَامِ الْمُحَدِّثِ الْمَعْرُوفِ بِالظَّهِيرِ التَّزْمَنْتِيِّ ، وَكَانَ
إذْ ذَاكَ مُنْبَسِطًا مَعَ مَنْ حَضَرَهُ فَلَمَّا أُخْبِرَ بِمَجِيءِ الْفَقِيهِ
ابْنِ الْجُمَّيْزِيِّ إلَى زِيَارَتِهِ انْقَبَضَ عَنْ ذَلِكَ ، وَزَالَ بَسْطُهُ
فَدَخَلَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُنْقَبِضٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِ
السَّلَامَ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ شَيْئًا ، وَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ لَهُ
إلَّا جَوَابًا فَلَمَّا أَنْ خَرَجَ رَجَعَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ
الْبَسْطِ مَعَ مَنْ حَضَرَهُ فَسُئِلَ عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ فَقَالَ :
اسْتَصْغَرْت نَفْسِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذَا السَّيِّدِ يَزُورُ مِثْلِي
فَأَرَدْت أَنْ أُكَافِئَهُ بِبَعْضِ مَا يَسْتَحِقُّهُ فَوَجَدْتُ نَفْسِي
عَاجِزَةً عَنْ مُكَافَأَتِهِ فَآثَرْته بِالْأَجْرِ كُلِّهِ حَتَّى
يَكُونَ فِي صَحِيفَتِهِ دُونِي لِمَا وَرَدَ { إذَا
الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَأَكْثَرُهُمَا ثَوَابًا أَبَشُّهُمَا لِصَاحِبِهِ }
فَآثَرْته بِذَلِكَ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ ، وَهَذَا لَهُ أَصْلٌ فِي
الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَهُوَ مَا رُوِيَ { أَنَّ أَبَا
بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْت إذَا لَقِيتُ عَلِيًّا
ابْتَدَأَنِي بِالسَّلَامِ فَلَقِيتُهُ الْيَوْمَ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيَّ حَتَّى
ابْتَدَأْته بِالسَّلَامِ فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فَجَلَسَ ، وَإِذَا بِعَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ قَدْ جَاءَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : لِمَ لَمْ تَبْتَدِئْ أَبَا بَكْرٍ الْيَوْمَ بِالسَّلَامِ ؟ فَقَالَ
: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْت فِيمَا يَرَى النَّائِمُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ
لَمْ أَرَ مِثْلَهُ فَقُلْت لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ فَقِيلَ : لِمَنْ يَبْتَدِئُ أَخَاهُ
بِالسَّلَامِ فَأَرَدْت أَنْ أُوثِرَ الْيَوْمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى نَفْسِي } أَوْ
كَمَا قَالَ .
، وَهَذَا
أَعْظَمُ فِي الْإِكْرَامِ ، وَأَبَرُّ فِي الِاحْتِرَامِ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ
اسْتِطَاعَةٌ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِيثَارِ فَهُوَ أَوْلَى بِهِ لَكِنْ يُخَافُ
عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَنْ يُنَفِّرَ النَّاسَ غَالِبًا عَنْ
بَابِ رَبِّهِمْ ، وَيُوقِعَهُمْ فِيمَا لَا يَنْبَغِي فَارْتِكَابُ الطَّرِيقَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ اللَّهُمَّ إلَّا
أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مَعَ مَنْ لَهُ رُسُوخٌ فِي السُّلُوكِ كَمَا تَقَدَّمَ وَصْفُ
مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( فَصْلٌ ) اعْلَمْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ لِقَبُولِ
الدُّعَاءِ مَوَاضِعَ عَدِيدَةً يَنْبَغِي الِاعْتِنَاءُ بِهَا لِيَعْرِفَ
الْمُكَلَّفُ أَمَاكِنَهَا فَيَتَعَرَّضَ لَهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { إنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ فَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ اللَّهِ }
فَمِنْ جُمْلَةِ النَّفَحَاتِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ
لِأَخِيهِ فِي ظَهْرِ الْغَيْبِ
.
وَالثَّانِي الْمُضْطَرُّ ، وَهُوَ الْأَصْلُ
لِعُمُومِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ } ، وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ دُونَ الِاتِّصَافِ
بِصِفَةٍ دُونَ أُخْرَى ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَقَعُ لَهُ الْغَلَطُ وَالْوَهْمُ فِي
هَذَا الْقِسْمِ فَيَرَى أَنَّهُ مُضْطَرٌّ فَيَدْعُو فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ
فَيَقُولُ : أَنَّى هَذَا ؟ فَيَقَعُ لَهُ الْجَوَابُ بِلِسَانِ الْحَالِ { قُلْ هُوَ مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ } إذْ إنَّهُ لَوْ حَصَلَتْ لَهُ حَالَةُ الِاضْطِرَارِ مَا
رُدَّ ، وَمَا خُيِّبَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُخْلِفُ
الْمِيعَادَ .
وَمِثَالُ ذَلِكَ فِي الْحُسْنِ مَا كَانَ سَيِّدِي
أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مِثْلُهُ مِثْلُ مَنْ رَكِبَ فِي
السَّفِينَةِ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى رِيحٍ يَمْشِي بِهَا ، وَإِلَى بَحْرٍ هَادٍ
قَلِيلِ الْآفَاتِ لَكِنَّهُمْ مُطْمَئِنُّونَ بِسَفِينَتِهِمْ رَاكِنُونَ
إلَيْهَا ، وَفِي هَذَا السُّكُونِ مِنْ عَدَمِ الِاضْطِرَارِ مَا فِيهِ فَلَوْ
جَاءَ الرِّيحُ الْعَاصِفُ ، وَتَحَرَّكَ عَلَيْهِمْ هَوْلُ الْبَحْرِ لَكَانَ اضْطِرَارُهُمْ
أَكْثَرَ مِنْ الْأَوَّلِ لَكِنَّهُمْ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ فِي أَنْفُسِهِمْ
بِالسَّفِينَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ السَّلَامَةِ غَالِبًا فَلَوْ انْكَسَرَتْ
السَّفِينَةُ مَثَلًا ، وَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ جَمَاعَةٍ عَلَى
لَوْحٍ لَاشْتَدَّ اضْطِرَارُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ الثَّانِي - لَكِنَّهُمْ
يَرْجُونَ السَّلَامَةَ لِمَا تَحْتَهُمْ مِنْ الْأَلْوَاحِ ، وَذَلِكَ قَدْحٌ فِي
حَقِيقَةِ اضْطِرَارِهِمْ فَلَوْ ذَهَبَتْ الْأَلْوَاحُ ، وَبَقُوا بَعْدَ ذَلِكَ
فِي لُجَجِ الْبِحَارِ لَا بَرٌّ يُرَى ، وَلَا جِهَةٌ تُقْصَدُ ، وَلَا لَوْحٌ
يُرَامُ أَنْ يُصْعَدَ عَلَيْهِ فَهَذِهِ
الصِّفَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الِاضْطِرَارِ أَوْ كَمَا
قَالَ .
فَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَهُوَ فِي حَالَةِ
الِاتِّسَاعِ مِنْ أَمْرِهِ كَانَ مُضْطَرًّا حَقِيقَةً فَلَا يَشُكُّ ، وَلَا
يَرْتَابُ فِي إجَابَتِهِ ، وَمَا وَقَعَ الْغَلَطُ إلَّا فِي صِفَةِ التَّحْصِيلِ
لِهَذِهِ الصِّفَةِ الْجَمِيلَةِ الَّتِي أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا فِي
كِتَابِهِ الْعَزِيزِ الثَّالِثُ - مِنْ مَوَاطِنِ الْإِجَابَةِ عِنْدَ نُزُولِ
الْغَيْثِ .
الرَّابِعُ - عِنْدَ الْآذَانِ .
الْخَامِسُ : عِنْدَ اصْطِفَافِ النَّاسِ لِلصَّلَاةِ .
السَّادِسَةُ - عِنْدَ اصْطِفَافِهِمْ لِلْجِهَادِ .
السَّابِعُ - الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنْ اللَّيْلِ فِي
كُلِّ لَيْلَةٍ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ
.
الثَّامِنُ - الدُّعَاءُ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ فَإِنَّ
الْمَلَائِكَةَ حُضُورٌ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ الدَّاعِي .
التَّاسِعُ - الدُّعَاءُ مِنْ الصَّائِمِ عِنْدَ
إفْطَارِهِ .
الْعَاشِرُ - الدُّعَاءُ مِنْ الْمُسَافِرِ عِنْدَ
سَفَرِهِ .
الْحَادِيَ عَشَرَ - وَهُوَ آكَدُهَا السَّاعَةُ الَّتِي
وَرَدَتْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا .
الثَّانِيَ عَشَرَ - يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَلَيْلَتُهُ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ الثَّالِثَ عَشَرَ - لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، وَهِيَ
أُمُّ الْبَابِ ، وَخِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِيهَا مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ الرَّابِعَ
عَشَرَ - الدُّعَاءُ مِنْ الْوَالِدَيْنِ لِوَلَدِهِمَا .
الْخَامِسَ عَشَرَ - الدُّعَاءُ عِنْدَ حُدُوثِ الْخُشُوعِ
، وَاقْشِعْرَارِ الْجِلْدِ ، وَالْخَوْفِ ، وَالْقَلِقِ ، وَغَلَبَةِ الرَّجَاءِ
فَإِنَّ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا مَحَلٌّ لِلْإِجَابَةِ .
السَّادِسَ عَشَرَ - وَهُوَ أَعْظَمُهَا ، وَأَوْلَاهَا
الدُّعَاءُ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
تَعْيِينِهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ
إلَى الِاتِّصَافِ بِحَالَةِ الِاضْطِرَارِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ إنَّهُ قَوْله تَعَالَى { وَإِلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ
الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ { اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ } وَ { الم اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ }
{ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } ،
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ { لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنْ
الظَّالِمِينَ } ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : آخِرَ سُورَةِ
الْحَشْرِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ .
السَّابِعَ عَشَرَ - يَوْمُ عَرَفَةَ .
الثَّامِنَ عَشَرَ - شَهْرُ رَمَضَانَ .
التَّاسِعَ عَشَرَ - فِي السُّجُودِ ، وَبِالْجُمْلَةِ
فَالدُّعَاءُ لَهُ أَرْكَانٌ ، وَأَجْنِحَةٌ ، وَأَسْبَابٌ ، وَأَوْقَاتٌ فَإِنْ
صَادَفَ أَرْكَانَهُ قَوِيَ ، وَإِنْ صَادَفَ أَجْنِحَتَهُ طَارَ فِي السَّمَاءِ ،
وَإِنْ صَادَفَ أَسْبَابَهُ نَجَحَ ، وَإِنْ صَادَفَ أَوْقَاتَهُ فَازَ فَمِنْ أَرْكَانِهِ
الِاضْطِرَارُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَأَجْنِحَتُهُ قُوَّةُ الصِّدْقِ مَعَ
الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا يَرْجُوهُ ، وَيُؤَمِّلُهُ مِنْهُ
وَيَخَافُهُ ، وَأَسْبَابُهُ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَأَوْقَاتُهُ الْأَسْحَارُ .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ هُوَ عَلَى
جَادَّةِ التَّكْلِيفِ ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِي مَقَامِ الرِّضَى أَوْ مَا
يُقَارِبُهُ فَقَدْ يَكُونُ السُّؤَالُ فِي حَقِّهِ ذَنْبًا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
التَّوْبَةُ ، وَالِاسْتِغْفَارُ مِنْهُ .
كَمَا قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُ قَالَ
تَجَاسَرْت الْبَارِحَةَ ، وَسَأَلْت رَبِّي الْمُعَافَاةَ مِنْ النَّارِ ،
وَكَمَا حَكَى الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ : كُلُّ الْمَقَامَاتِ نِلْت مِنْهَا شَيْئًا إلَّا
هَذَا الرِّضَا فَإِنِّي مَا نِلْت مِنْهُ إلَّا مِقْدَارَ سَمِّ الْخِيَاطِ ، وَمَعَ
ذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ أَهْلَ جَهَنَّمَ أَجْمَعِينَ ، وَأَدْخَلَهُ جَهَنَّمَ ،
وَمَلَأَهَا بِجَسَدِهِ ، وَعَذَّبَهُ بِعَذَابِهِمْ أَجْمَعِينَ لَكَانَ رَاضِيًا
بِذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا جَرَى لِلْكَلِيمِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ مَعَ الْعَابِد ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَمْرُ رَاجِعٌ إلَى حَالِ
مَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ
يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ الرِّضَا فِي حَقِّهِ أَوْلَى ، وَأَفْضَلُ
بِالنِّسْبَةِ إلَى حَالِهِ ، وَمَا
اخْتَصَّ بِهِ فِي وَقْتِهِ ذَلِكَ ، وَقَدْ يَكُونُ فِي
وَقْتٍ آخَرَ الدُّعَاءُ ، وَالتَّمَلُّقُ ، وَإِظْهَارُ الْفَاقَةِ ،
وَالِاضْطِرَارُ ، وَالْحَاجَةُ أَوْلَى ، وَأَفْضَلَ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَأْخُوذٌ
مِنْ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَعَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ نَرْجِعُ إلَى مَا كُنَّا بِسَبِيلِهِ مِنْ
أَقْسَامِ الزَّائِرِ وَالْمَزُورِ
.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ - الِاشْتِرَاكُ فِي الرَّضَاعَةِ فِي
مَجَالِسِ الْعِلْمِ ، وَمَجَالِسِ الشُّيُوخِ فَمَنْ جَاءَهُ مِنْ هَذَا
الْقِسْمِ فَهُوَ مِنْ الْخَاصَّةِ بِهِ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ
أَرْضًا فَلْيَفْعَلْ إذْ إنَّ احْتِرَامَهُمْ احْتِرَامٌ لِشَيْخِهِ الَّذِي
أَخَذَ عَنْهُ .
وَآدَابُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ لَا تَنْحَصِرُ ،
وَلَا تَرْجِعُ إلَى قَانُونٍ ، وَلَا يَقْدِرُ الْمُرِيدُ أَنْ يَقُومَ بِحَقِّهِ
فِي الْغَالِبِ إذْ إنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِ الشَّيْخِ أَنَّهُ وَجَدَهُ فِي بِحَارِ
الذُّنُوبِ ، وَالْغَفَلَاتِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ ، وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ
، وَهُوَ أَمْرٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُجَازِي عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى
( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَهَمُّ الْأُمُورِ
عِنْدَهُ وَآكَدُهَا الْخَلْوَةَ عَنْ النَّاسِ ، وَالِانْفِرَادَ بِنَفْسِهِ
كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ سَبَبٌ لِلْفَتْحِ غَالِبًا ، وَلْيَحْذَرْ
أَنْ يَقْبَلَ مَا تُلْقِيهِ إلَيْهِ نَفْسُهُ أَوْ الشَّيْطَانُ مِنْ مَحَبَّةِ
الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ أَوْ الْمَيْلِ إلَيْهِمْ أَوْ الْمَيْلِ إلَى
رُؤْيَتِهِمْ فَإِنَّ النَّفْسَ مَجْبُولَةٌ غَالِبًا عَلَى حُبِّ الرَّاحَةِ ،
وَالْبَطَالَةِ ، وَهِيَ لَا تَجِدُ لِذَلِكَ سَبِيلًا مَعَ دَءُوبِ الْخَلْوَةِ ،
وَلَا تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى أَنْ تَسْرِقَهُ أَوْ تَمِيلَ بِهِ عَمَّا هُوَ بِسَبِيلِهِ
إلَّا بِسَبَبِ الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ غَالِبًا إذْ بِالِاجْتِمَاعِ بِهِمْ
تَجِدُ السَّبِيلَ إلَى الزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ فِيمَا يُرِيدُهُ ،
وَيَخْتَارُهُ ، وَفِيهِ مِنْ الْخَطَرِ مَا فِيهِ أَوْ عَكْسُهُ ، وَهُوَ
الدَّاءُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ فِي الْغَالِبِ إلَّا التَّوْبَةُ
وَالْإِقْلَاعُ وَالتَّحَلُّلُ ، وَكَانَ فِي غُنْيَةٍ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ،
وَهَذِهِ دَسِيسَةٌ قَلَّ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا إلَّا مِنْ نَوَّرَ اللَّهُ
بَصِيرَتَهُ .
وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَالَاتِ لَهُ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ
أَنَّهُ قَالَ : كُنْت أَخْلُو لِأَسْلَمَ مِنْ ضَرَرِي لِلنَّاسِ فَصِرْت أَخْلُو
لِأَغْنَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَفْهَمَ فَصِرْت أَخْلُو لِأَعْلَمَ فَصِرْت
أَخْلُو لِأَتَنَعَّمَ .
فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى هَذِهِ
الْمَقَامَاتِ الْجَلِيلَةِ الَّتِي انْتَقَلَ مِنْهَا ، وَإِلَيْهَا وَاحِدَةً
بَعْدَ وَاحِدَةٍ .
فَأَوَّلُهَا : طَلَبُ سَلَامَةِ النَّاسِ مِنْهُ كَمَا
تَقَدَّمَ إذْ إنَّ طَلَبَ السَّلَامَةِ مِنْ النَّاسِ فِيهِ تَزْكِيَةٌ
لِلنَّفْسِ ، وَوُقُوعٌ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا خَلَا
بِنَفْسِهِ لِكَيْ يَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ ، وَبَصَرِهِ ، وَسَمْعِهِ ،
وَبَطْشِهِ ، وَسَعْيِهِ ، وَحَسَدِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَعْتَوِرُهُ فِي
خُلْطَتِهِ لَهُمْ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ
صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
عَلَيْهِ ، وَسَلَامُهُ بِالْإِسْلَامِ حَيْثُ يَقُولُ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
لِسَانِهِ وَيَدِهِ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَمَّا
أَنْ حَصَلَ هَذَا الْمَقَامُ السَّنِيُّ تَرَقَّى بَعْدَهُ إلَى مَا هُوَ أَسْنَى
مِنْهُ ، وَهُوَ حُصُولُ الْغَنِيمَةِ فَهُوَ فِي أَعْمَالِ الْآخِرَةِ
يَنْتَهِبُهَا إذْ إنَّ الْخَلْوَةَ الَّتِي هُوَ فِيهَا أَعَانَتْهُ عَلَى
افْتِرَاسِ ذَلِكَ ، وَالنُّهُوضِ إلَيْهِ لِعَدَمِ الْعَائِقِ ، ثُمَّ بَعْدَ
حُصُولِ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ تَرَقَّى إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهُ ،
وَهُوَ الْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي آيَاتِهِ ، وَفِي أَحْكَامِهِ ، وَفِي
تَدْبِيرِهِ فِي خَلْقِهِ ، وَإِحْسَانِهِ إلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَقُرْبِهِ
مِنْهُمْ ، وَعِلْمِهِ بِحَالِهِمْ إذْ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْكَرِيمُ الَّذِي
مَنَّ بِذَلِكَ ، وَسَهَّلَ الْأَمْرَ عَلَيْهِ فِيهِ ، وَالْفَهْمُ عَنْ اللَّهِ
أَعَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ إشَارَةٌ مَا لِمَا عَدَا مَا
ذُكِرَ ، ثُمَّ انْتَقَلَ بَعْدَ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ إلَى مَا هُوَ
أَسْنَى مِنْهُ ، وَهُوَ الْعِلْمُ ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الْفَهْمِ إذْ إنَّهُ
إذَا فَهِمَ عَلِمَ ، وَهَذَا الْعِلْمُ عَامٌّ فِي الْعِلْمِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
، وَالْعِلْمِ بِأَحْكَامِ اللَّهِ إذْ إنَّهُ لَا يُوجَدُ جَاهِلٌ بِأَحْكَامِ
اللَّهِ عَلَيْهِ عَالِمًا بِاَللَّهِ ، وَالْعِلْمُ بِاَللَّهِ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ
يَنْتَهِي إلَيْهِ بِخِلَافِ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ لَهَا نِهَايَةً
عَلَى مَا قَدْ عَلِمَ فَلَمَّا أَنْ حَصَّلَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ السَّنِيَّةَ
انْتَقَلَ مِنْهَا إلَى مَا هُوَ أَسْنَى مِنْهَا ، وَهُوَ التَّنَعُّمُ فِي
خَلْوَته ، وَالتَّلَذُّذُ بِالطَّاعَاتِ الَّتِي يُحَاوِلُهَا إذْ إنَّهُ عَبْدٌ
قَدْ خُلِعَتْ عَلَيْهِ خُلَعُ الْقُرْبِ فَاتَّصَفَ بِالْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ
الَّتِي لَا يَسْتَحِقُّهَا ، وَلَا بَعْضَهَا إلَّا بِفَضْلِ الْمَوْلَى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَكَرَمِهِ وَامْتِنَانِهِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ إخْوَانِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَوْنُهُ خَلَعَ عَلَيْهِ دُونَهُمْ
هَذَا فَضْلٌ
عَمِيمٌ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ بِشُكْرِ بَعْضِهِ -
اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ فَإِنَّك وَلِيُّهُ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ - بِمُحَمَّدٍ
وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَصَلَ فِي هَذِهِ
الدَّرَجَةِ انْتَفَعَ بِنَفْسِهِ ، وَانْتَفَعَ بِهِ مَنْ عَرَفَهُ ، وَمَنْ لَمْ
يَعْرِفْهُ .
فَإِذَا حَصَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ
جَاءَتْهُ الْأَلْطَافُ تَتْرَى إذْ إنَّهُ تَشَبَّهَ فِيهِ بِالْمَلَائِكَةِ
الْكِرَامِ الَّذِينَ لَا يَأْكُلُونَ ، وَلَا يَشْرَبُونَ ، وَبِذِكْرِ رَبِّهِمْ
يَتَنَعَّمُونَ إذْ إنَّ الذِّكْرَ لَهُمْ كَالنَّفَسِ لَنَا ، وَمَنْ هَذَا
حَالُهُ تَكُونُ الْعِبَادَةُ لَهُ كَالْغِذَاءِ ؛ لِأَنَّ الْغِذَاءَ جَمْعُ
أَشْيَاءَ مِنْهَا شَهْوَةُ النَّفْسِ لِلْأَكْلِ ، وَالشُّرْبِ ، وَقَوَامِ الْبَدَنِ
، وَالْإِعَانَةِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ ، وَمَنْ حَصَلَ فِي هَذَا الْمَقَامِ
الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَقَدْ تَمَّ لَهُ النَّعِيمُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَأْكُلُ أَكْلَةً
فِي الشَّهْرِ ، وَبَعْضَهُمْ فِي ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، وَبَعْضَهُمْ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ
، وَبَعْضَهُمْ لَا هَذَا وَلَا هَذَا كُلُّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَالِ
التَّنَعُّمِ فِي الْخَلْوَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ انْقَطَعَ
كَثِيرٌ مِنْ الْمُرِيدِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوا الْآدَابَ فِي
الْوُصُولِ إلَى هَذَا الْمَقَامِ فَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَشَبَّهُوا بِمَنْ هُوَ
فِيهِ فَيَنْقَطِعُونَ ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ هَذَا غِذَاؤُهُ بِالتَّنَعُّمِ
الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَقَدْ مَضَتْ حِكْمَةُ الْحَكِيمِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَنَّ هَذَا الْبَدَنَ لَا قَوَامَ لَهُ إلَّا بِقُوتٍ ، فَالْقُوتُ
الْمَعْنَوِيُّ الَّذِي حَصَّلَهُ هَذَا الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَغْنَاهُ
عَنْ الْقُوتِ الْحِسِّيِّ ، وَهُمْ لَمْ يُحَكِّمُوهُ ، وَتَرَكُوا الْقُوتَ
الْحِسِّيَّ ، وَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ : اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ تَكَفَّلَ لِهَذَا
الْهَيْكَلِ بِرِزْقٍ لَا قَوَامَ لَهُ إلَّا بِهِ قَالَ : وَهَذَا الرِّزْقُ
الَّذِي تَكَفَّلَ بِهِ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ
مَحْسُوسًا فَتَارَةً يَكُونُ مَحْسُوسًا وَتَارَةً
يَكُونُ مَعْنَوِيًّا أَوْ كَمَا قَالَ ، وَلِأَجْلِ الْجَهْلِ بِتَحْصِيلِ هَذَا
الْقُوتِ الْمَعْنَوِيِّ حَصَلَ لِبَعْضِ مَنْ يَتَعَانَى كَثْرَةَ الْمُجَاهَدَةِ
أَشْيَاءُ رَدِيئَةٌ مِثْلُ الْعَرْبَدَةِ أَوْ الْجُنُونِ أَوْ النَّشَّافِ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ فَمَنْ تَأَدَّبَ بِهَذِهِ الْآدَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْخَلْوَةِ
يَغْلِبُ الرَّجَاءُ أَنَّهُ مِنْ النَّاجِينَ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ .
وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ قَدْ كَانَ دَخَلَ فِي مُجَاهَدَةٍ بِنِيَّةِ أَمَدٍ
مَعْلُومٍ فَلَمْ تَقْدِرْ نَفْسُهُ عَلَى إتْمَامِ الْمُدَّةِ ، وَضَاقَ ذَرْعُهُ
بِذَلِكَ قَالَ : فَأَرَدْت أَنْ أُفْطِرَ ثُمَّ حَصَلَتْ لِي عَزِيمَةٌ عَلَى
تَرْكِ ذَلِكَ فَلَمَّا أَنْ شَعَرَتْ نَفْسِي بِهَذِهِ الْعَزِيمَةِ غُشِيَ
عَلَيْهَا فَرَأَيْت فِي تِلْكَ الْغَشْوَةِ كَأَنَّ إنْسَانًا يُطْعِمُنِي
فَأَكَلْت حَتَّى شَبِعْت ، ثُمَّ سَقَانِي فَشَرِبْت حَتَّى رُوِيت ، ثُمَّ
اسْتَفَقْت ، وَأَنَا شَبْعَانُ رَيَّانُ فَقُمْت أَغْتَنِمُ الطَّاعَةَ
مُبْتَدِرًا بِقُوَّةٍ وَنَشَاطٍ فَفَرَغَتْ الْمُدَّةُ ، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ
الْحَالِ ، ثُمَّ بَقِيت بَعْدُ مُدَّةً أُخْرَى كَذَلِكَ ، وَلَوْ بَقِيت عَلَى
ذَلِكَ بَقِيَّةَ الْعُمْرِ لَرَأَيْت أَنِّي لَا أَحْتَاجُ إلَى غِذَاءٍ بَعْدَهَا
لَكِنْ رَجَعْت إلَى الْغِذَاءِ خَوْفًا مِنِّي عَلَى تَرْكِ السُّنَّةِ إذْ إنَّ
السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِالْغِذَاءِ
.
هَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ،
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ
لَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ ، وَعَرَفَهُ النَّاسُ بِذَلِكَ ، وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ ،
وَبِالْجُمْلَةِ فَبَرَكَةُ الْخَلْوَةِ لَا تَنْحَصِرُ ، وَلَا تَقِفُ عَلَى
حَدٍّ يُنْتَهَى إلَيْهِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَمَرْتَبَتِهِ ، وَأَقَلُّ
فَوَائِدِهَا ، بَلْ أَعْظَمُهَا وَزُبْدَتُهَا مَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ الْخُشُوعِ وَتَصَاغُرِ النَّفْسِ وَالِاحْتِقَارِ
بِهَا وَذَاتِهَا ، وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَسْكَنَتِهَا ، وَقِلَّةِ حِيلَتِهَا ،
وَفَقْرِهَا ، وَاضْطِرَارِهَا
إلَى سَيِّدِهَا ، وَمُدَبِّرِهَا ، وَقَدْ سَأَلَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ الْأَعْمَشَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ
الْخُشُوعِ فَقَالَ : يَا ثَوْرِيُّ أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إمَامًا لِلنَّاسِ
، وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ سَأَلْت إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ عَنْ الْخُشُوعِ فَقَالَ
: يَا أُعَيْمِشٌ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إمَامًا لِلنَّاسِ ، وَلَا تَعْرِفُ
الْخُشُوعَ لَيْسَ الْخُشُوعُ بِأَكْلِ الْجَشِيمِ ، وَلَا بِلُبْسِ الْخَشِنِ ،
وَتَطَأْطُؤِ الرَّأْسِ لَكِنَّ الْخُشُوعَ أَنْ تَرَى الشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ
سَوَاءً ، وَأَنْ تَخْشَعَ لِلَّهِ فِي كُلِّ فَرْضٍ اُفْتُرِضَ عَلَيْك .
وَالْغَالِبُ أَنَّ هَذَا قَلَّ أَنْ يَحْصُلَ إلَّا
مَعَ كَثْرَةِ الْخَلْوَاتِ فَالْخَلْوَةُ نُورُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبَهَاؤُهُ ،
وَعَلَيْهَا تُقَرَّرُ الْأَحْوَالُ السَّنِيَّةُ ، وَالْمَرَاتِبُ الْعَلِيَّةُ
فَلْيَشُدَّ الْمُرِيدُ يَدَهُ لِيَحْصُلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ
الْبَرَكَاتِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
( فَصْلٌ ) : وَآكَدُ مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ النَّظَرُ
فِي الْجِهَةِ الَّتِي يَقْتَاتُ مِنْهَا فَلْيَحْتَفِظْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ
الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا إذْ إنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ
وُجُوهٍ : إمَّا أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ أَصْلَهَا مِثْلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَسْبِ
يَدِهِ أَوْ مِيرَاثًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ وُجُوهِ الْحِلِّ ، فَهَذَا قَدْ
لَطَفَ اللَّهُ بِهِ إذْ يَسَّرَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ ، وَانْقَطَعَ
بِسَبَبِهِ إلَى الْخَلَوَاتِ وَبَرَكَاتِهَا ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ
جِهَةِ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ الْغَيْبِ فَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ ، وَالْآخَرُ بِوَاسِطَةٍ فَإِنْ كَانَ
الْأَوَّلُ فَهُوَ مِثْلُ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ مَلْطُوفٌ بِهِ إلَّا
أَنَّهُ قَدْ يَخْشَى عَلَى بَعْضِ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ مِنْ الدَّسَائِسِ
الْوَارِدَةِ عَلَى النُّفُوسِ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ لَا تَنْحَصِرُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ أَنْ يَكُونَ
تَيْسِيرُ ذَلِكَ عَلَى يَدِ مَخْلُوقٍ فَهَاهُنَا يَحْتَاجُ إلَى تَفْصِيلٍ .
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ .
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ - يَسُرُّ وَيَضُرُّ .
الْقِسْمُ الثَّانِي - عَكْسُهُ لَا يَسُرُّ وَلَا
يَضُرُّ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ - يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ - عَكْسُهُ يَضُرُّ وَلَا يَسُرُّ .
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : وَهُوَ الَّذِي يَسُرُّ
وَيَضُرُّ هُوَ الْفُتُوحُ الَّذِي يَأْتِي مِنْ جِهَةِ فَقِيرٍ مُحْتَاجٍ
مُعْتَقِدٍ فَإِنْ أَنْتَ قَبِلْته مِنْهُ سُرَّ بِذَلِكَ ، وَيَتَضَرَّرُ فِي
نَفْسِهِ لِأَجْلِ فَقْرِهِ فَهَذَا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْزَأَهُ فِي
شَيْءٍ ، وَيَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِسِيَاسَةٍ حَتَّى لَا يَنْكَسِرَ خَاطِرُهُ أَوْ يَقْبَلَهُ
مِنْهُ ، وَيُكَافِئَهُ عَلَيْهِ بِمَا تَيَسَّرَ ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يُشَوِّشَ
عَلَيْهِ بِدَفْعِ الْعِوَضِ لَهُ ، بَلْ يُعَوِّضُهُ دُونَ إشْعَارٍ لَهُ
بِذَلِكَ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي - وَهُوَ عَكْسُ
الْأَوَّلِ ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَسُرُّ وَلَا يَضُرُّ فَهُوَ الْفُتُوحُ
الَّذِي يَأْتِي مِنْ عِنْدِ مَنْ لَهُ جِدَةٌ
وَاتِّسَاعٌ ، وَهُوَ مَسْتُورٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ ، وَصَاحِبُهُ لَيْسَ
بِمُعْتَقِدٍ فَإِنْ هُوَ أَخَذَهُ مِنْهُ لَمْ يُسَرَّ بِذَلِكَ ، وَلَمْ
يَضُرَّهُ أَخْذُهُ مِنْهُ فَالْمُرِيدُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ
أَخَذَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى حَسَبِ حَالِهِ فِي
الْوَقْتِ .
وَلَوْ قَدَرَ عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا
لَكَانَ أَوْلَى بِهِ ، وَأَرْفَعَ لِمَقَامِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ
يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ يَدُهُمْ هِيَ الْعُلْيَا .
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ
الْيَدِ السُّفْلَى } ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ : الْيَدُ
الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ ، وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ ، وَقَدْ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْعُلْيَا وَالسُّفْلَى : السَّائِلَةُ
وَالْمَسْئُولَةُ .
فَإِنْ كُنْت سَائِلًا فِي قَبُولِ مَعْرُوفِك فَيَدُك
سُفْلَى ، وَإِنْ كُنْت مَسْئُولًا فَيَدُك هِيَ الْعُلْيَا .
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ
بِمَا وَرَدَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يُخْرِجُ صَدَقَةً حَتَّى يَفُكَّ فِيهَا
لَحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا فَإِذَا هَمَّ الْمُكَلَّفُ بِإِعْطَاءِ صَدَقَةٍ ،
وَاعْتَوَرَتْهُ هَذِهِ الشَّيَاطِينُ وَغَلَبَهُمْ ، وَأَتَاكَ بِمَعْرُوفِهِ
فَإِنْ أَنْتَ رَدَدْته عَلَيْهِ فَقَدْ أَعَنْت الشَّيَاطِينَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ
لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَهَا لِغَيْرِك فَيُحْرَمُ مِنْ
هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ ، وَتَجِدُ الشَّيَاطِينُ السَّبِيلَ إلَى تَقْصِيرِ
يَدِهِ عَنْ الصَّدَقَةِ ، وَإِنْ أَنْتَ قَبِلْتَ مِنْهُ ذَلِكَ فَقَدْ
أَعَنْتَهُ عَلَيْهِمْ ، وَيَئِسُوا مِنْهُ فَقَدْ حَصَلَ لَك بِذَلِكَ الثَّوَابُ
الْجَزِيلُ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَدُ الْآخِذِ هِيَ الْعُلْيَا ،
وَالْحَالَةُ هَذِهِ .
ثُمَّ مَعَ مَا تَقَدَّمَ يَحْصُلُ لِأَخِيك الْمُؤْمِنِ
مِنْ الثَّوَابِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ مَا يَعْجِزُ عَنْ وَصْفِهِ .
يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا
حُكِيَ أَنَّ شَابًّا جَاءَ إلَى شَيْخِ هَذِهِ
الطَّائِفَةِ وَإِمَامِهَا الْجُنَيْدِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : لَهُ أَنَا
جَائِعٌ فَهَلْ مَنْ يُطْعِمُنِي ؟ فَقَامَ إنْسَانٌ مِمَّنْ لَهُ اتِّسَاعٌ
فَقَالَ : عِنْدِي فَأَخَذَ الشَّابَّ ، وَمَضَى مَعَهُ إلَى بَيْتِهِ ، وَقَدَّمَ
لَهُ طَعَامًا كَانَ الشَّابُّ يَشْتَهِيهِ فَمَدَّ يَدَهُ فَرَفَعَ لُقْمَةً ، وَبَقِيَ
بِهَا فِي يَدِهِ لَحْظَةً فَقَالَ لَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ كُلْ فَاللُّقْمَةُ
إذَا أَكَلْتهَا عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا فَوَضَعَ
الْفَقِيرُ اللُّقْمَةَ مِنْ يَدِهِ ، وَخَرَجَ وَلَمْ يَأْكُلْ عِنْدَهُ شَيْئًا
، وَأَتَى إلَى الْجُنَيْدِ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ الْأُولَى فَقَامَ فَقِيرٌ
فَقَالَ عِنْدِي فَذَهَبَ مَعَهُ فَقَدَّمَ لَهُ خُبْزًا وَبَصَلًا فَأَكَلَ
حَتَّى شَبِعَ ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَاءَ الْأَوَّلُ إلَى الْجُنَيْدِ فَأَخْبَرَهُ
بِمَا جَرَى .
فَقَالَ لَهُ : اجْلِسْ ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الشَّابُّ
سَأَلَهُ الْجُنَيْدُ هَلْ أَكَلْت ؟ قَالَ : نَعَمْ قَالَ لَهُ : وَمَا أَكَلْت ؟
قَالَ : خُبْزًا وَبَصَلًا فَقَالَ لَهُ ، وَمَا قَدَّمَ لَك هَذَا قَالَ لَهُ : قَدَّمَ لِي
طَعَامًا مُفْتَخَرًا فَقَالَ لَهُ : مَا مَنَعَك مِنْ أَكْلِهِ ؟ فَقَالَ لَهُ
كُنْت جَائِعًا فَرَفَعْت اللُّقْمَةَ ، وَأَنَا أَتَخَيَّرُ أَيَّ قَصْرٍ آخُذُهُ
فِي الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ ، وَإِذَا هُوَ قَدْ قَالَ :
اللُّقْمَةُ إذَا أَكَلْتهَا عِنْدِي خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا ، وَمَا فِيهَا
فَاسْتَحْيَيْت مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ آكُلَ طَعَامَ رَجُلٍ خَسِيسِ
الْهِمَّةِ لَيْسَ لَهُ هِمَّةٌ إلَّا فِي الدُّنْيَا فَتَرَكْتُهُ وَمَضَيْت ،
وَأَمَّا هَذَا فَنِيَّتُهُ أَنْ لَوْ كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا
فَهُوَ يَسْتَقِلُّهَا تَقْدِيمًا أَوْ كَمَا قَالَ .
فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ تُشْعِرُك بِأَنَّ الْآخِذَ مِنْ
هَذِهِ الطَّائِفَةِ يَدُهُ هِيَ الْعُلْيَا إذْ إنَّهُ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ
يُعْطِي مَا يَبْقَى ، وَيَأْخُذُ مَا يَفْنَى فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ تَجِدْهُ
صَوَابًا ، وَذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ مَسْتُورٌ بِلِسَانِ الْعِلْمِ ،
وَأَمَّا لِسَانُ الْوَرَعِ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ ، وَهُوَ مُتَعَذَّرٌ فِي هَذَا
الزَّمَانِ غَالِبًا فَمَنْ وَقَعَ لَهُ الْحَالُ عَلَى
ذَلِكَ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنَّهُ لَا يُخَالِطُ النَّاسَ ، وَيُقِيمُ فِي
الْبَرَارِي ، وَالْقِفَارِ أَوْ يَكُونُ خَرَقَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ الْعَادَةَ
فَلَا يَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ - وَهُوَ الَّذِي يَسُرُّ
وَلَا يَضُرُّ فَهُوَ الْفُتُوحُ الَّذِي يَأْتِي عَلَى يَدِ بَعْضِ الْإِخْوَانِ
الْمُعْتَقِدِينَ الَّذِي يَعْرِفُ سَبَبَهُمْ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَسَارِ
فَإِنْ أُخِذَتْ مِنْهُمْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ السُّرُورُ بِذَلِكَ ، وَلَا
يَتَضَرَّرُونَ بِهِ .
فَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْسَامِ كُلِّهَا وَأَسْلَمُهَا
مِنْ الْآفَاتِ الْمُتَوَقَّعَةِ وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ - وَهُوَ الَّذِي
يَضُرُّ وَلَا يَسُرُّ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ ، وَهُوَ مُتَّصِفٌ
بِوَصْفَيْنِ : أَحَدِهِمَا : أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا لِمَا يُعْطِيهِ .
وَالثَّانِي
- عَدَمُ اعْتِقَادِ الدَّافِعِ لِلْمَدْفُوعِ لَهُ
فَإِنْ أَنْتَ قَبِلْت مِنْهُ مَا أَتَاك بِهِ تَضَرَّرَ بِذَلِكَ لِحَاجَتِهِ
إلَيْهِ ، وَلَا تُدْخِلُ عَلَيْهِ سُرُورًا لِعَدَمِ اعْتِقَادِهِ لَك ، وَقَدْ
كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْتَزَمَ فِي نَفْسِهِ طَرِيقَةً
غَرِيبَةً قَلَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ إلَّا
مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ
لَا يَقْبَلُ صَدَقَةً وَاجِبَةً كَانَتْ أَوْ تَطَوُّعًا ، وَلَا يَقْبَلُ
شَيْئًا مِنْ أَرْبَابِ الْخَدَمِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْتَقِدًا ، وَإِنْ قَلَّتْ
خِدْمَتُهُ ، وَإِنْ تَحَرَّزَ مَا أَمْكَنَهُ ، وَمَنْ أَهْدَى لَهُ مِنْ
الْإِخْوَانِ الْمُعْتَقِدِينَ فَيَخْتَلِفُ حَالُهُ فِي ذَلِكَ فَبَعْضُهُمْ
يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا أَتَى بِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يَقْبَلُ مِنْهُ ، ثُمَّ
يُعَوِّضُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ بِلُطْفٍ وَسِيَاسَةٍ ، وَمَا أَتَاهُ مِنْ جِهَةِ الْإِخْوَانِ
الْمُتَسَبِّبِينَ الْمُعْتَقِدِينَ نَظَرَ إلَى اكْتِسَابِهِمْ .
فَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا بِلِسَانِ الْعِلْمِ نَظَرَ فِي
حَالِ صَاحِبِهِ هَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهِ سُرُورٌ بِالْأَخْذِ مِنْهُ أَمْ لَا ؟
فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مِنْهُ أَنَّهُ سَوَاءٌ عِنْدَهُ أَخَذَ مِنْهُ أَوْ
رَدَّ عَلَيْهِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَإِنْ
ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُ يَنْكَسِرُ خَاطِرُهُ عِنْدَ الرَّدِّ عَلَيْهِ ،
وَيَنْجَبِرُ خَاطِرُهُ ، وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ السُّرُورُ حِينَ الْأَخْذِ مِنْهُ
أَخَذَهُ مِنْهُ فَمَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ الَّذِي يُقْبَلُ
مِنْهُ ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ غَرِيبَةٌ عَزِيزَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا إلَّا
مَنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ يُقَارِبُهُ لَا جَرَمَ أَنَّهُ كَانَ هُوَ وَأَهْلُهُ ،
وَمَنْ يَلُوذُ بِهِ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى فَلَقَدْ كَانَ
يَأْخُذُ بِفَلْسٍ لَيْمُونًا فَيَأْتَدِمُ بِهِ غَدْوَةً ، وَعَشِيَّةً هُوَ
وَأَهْلُهُ .
وَقَدْ بَقِيَ أَهْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ لَا
شَيْءَ عِنْدَهُمْ يَتَقَوَّتُونَ بِهِ فَأَخَذَ ثَوْبًا ، وَدَخَلَ بِهِ إلَى
الْبَلَدِ لِيَبِيعَهُ فَلَمْ يَدْفَعْ أَحَدٌ فِيهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ
مِنْ زِيِّ الْمَغَارِبَةِ فَرَدَّهُ ، وَجَاءَ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَلَمْ
يَدْخُلْ الْبَيْتَ خَشْيَةً مِنْ الْأَوْلَادِ أَنْ يَنْقَطِعَ رَجَاؤُهُمْ مِنْ الْقُوتِ
إذْ ذَاكَ فَيَزِيدَ قَلَقُهُمْ فَجَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى صَلَّى
الْعِشَاءَ الْأَخِيرَةَ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلَادُ قَدْ نَامُوا فَلَمَّا
أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ ، وَجَدَهُمْ مَسْرُورِينَ يُكْثِرُونَ مِنْ شُرْبِ
الْمَاءِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا : كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَّا أَكَلَ
خَرُوفًا ، وَهُمْ فِي الشِّبَعِ بِحَيْثُ لَا يَحْتَاجُونَ إلَى زِيَادَةٍ عَلَى
مَا هُمْ فِيهِ .
وَبَقِيَ أَمْرُهُمْ كَذَلِكَ مُدَّةً حَتَّى فَرَّجَ
اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَأَنْوَاعُ هَذَا كَثِيرَةٌ ، وَهُوَ بَابٌ لَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ إلَّا الْأَفْرَادُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ صَبَرَ فِي
نَفْسِهِ فَالْأَهْلُ وَالْأَوْلَادُ لَا يَصْبِرُونَ فِي الْغَالِبِ فَإِنْ
وَجَدَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْكَرَامَاتِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ
سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْعَارِفُ مَنْ أَخَذَ نَفْسَهُ
بِالْوَرَعِ ، وَأَطْلَقَ غَيْرَهُ فِي مَيْدَانِ الْعِلْمِ ، وَمَا تَقَدَّمَ
وَصْفُهُ فَهُوَ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ - نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ ، وَرَزَقَنَا
التَّصْدِيقَ بِأَحْوَالِهِمْ - إذْ لَمْ
نَكُنْ أَهْلًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِمْ .
اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّك
بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا
كَثِيرًا
( فَصْلٌ ) : فِي ذِكْرِ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُ
مَنْ يُنْسَبُ إلَى طَرِيقِ الْقَوْمِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ تَعَلَّقَتْ
خَوَاطِرُهُمْ بِفِعْلِ الْكِيمْيَاءِ ، وَاسْتِخْرَاجِ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ الْأَمْوَالِ
الْمَدْفُونَةِ فِيهَا ، وَهِيَ الَّتِي اصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَتِهَا
بِالْمَطَالِبِ ، وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْض النَّاسِ فِي هَذَا
الزَّمَانِ مِنْ تَعَانِيهِمْ اسْتِخْرَاجَ مَا فِي الْأَرْضِ مِمَّا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ ، وَهَذَا قَبِيحٌ لَوْ فَعَلَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فَهُوَ فِي حَقِّ
الْمُرِيدِ أَقْبَحُ وَأَشْنَعُ إذْ إنَّهُ خَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ ،
وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخِرَةِ بِكُلِّيَّتِهِ لَا مَطْلَبَ لَهُ سِوَاهَا ،
وَتَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَشْهَدُ بِكَذِبِهِ فِي
طَرِيقِهِ مِنْ دَعْوَاهُ الِانْقِطَاعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالتَّوَجُّهِ
إلَيْهِ مَعَ أَنَّ مَنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِهَذَا فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ
فِيمَا يَظْهَرُ الْفَقْرُ الْمُدْقِعُ ، وَالدُّيُونُ الْكَثِيرَةُ ،
وَمُخَالَطَةُ مَنْ لَا يُرْضَى حَالُهُ فِي دِينِهِ ، وَدُنْيَاهُ ، وَذَلِكَ
سَبَبٌ كَبِيرٌ إلَى وُقُوعِ النَّاسِ فِي عِرْضِ مَنْ اتَّصَفَ بِذَلِكَ بِسَبَبِ
تَعَاطِيه مَا يُوقِعُ النَّاسَ فِيهِ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِي إثْمِ وَقِيعَتِهِمْ
فِيهِ ، وَقَدْ يَئُولُ أَمْرُ فَاعِلِ ذَلِكَ إلَى الْحَبْسِ وَالْإِهَانَةِ ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الْعَوَائِدِ الْجَارِيَةِ فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ إلَّا أَنَّ
مَنْ تَعَلَّقَ خَاطِرُهُ بِذَلِكَ فَهُوَ مُتَّصِفٌ بِحُبِّ الدُّنْيَا ، وَمَنْ
أَحَبَّ الدُّنْيَا فَهُوَ قَالٍ لِلْآخِرَةِ إذْ إنَّهُمَا ضَرَّتَانِ
مُتَنَافِرَتَانِ فَمَهْمَا أَقْبَلَ الْإِنْسَانُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَضَرَّ
بِالْأُخْرَى ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ إلَّا مَا وَرَدَ { مَنْ
أَحَبَّ الدُّنْيَا يُنَادَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا أَحَبَّ مَا
أَبْغَضَ اللَّهُ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
فِعْلُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَرَبِهِمْ مِنْ الدُّنْيَا خِيفَةً
مِنْهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا ، وَمَنْ طَلَبَ شَيْئًا مِمَّا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فَهُوَ
مُسْتَشْرِفٌ لِطَلَبِهَا ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ يَذْهَبُ
بِجَمِيعِ خَاطِرِهِ ، وَاشْتِغَالِهِ عَنْ أَمْرِ دِينِهِ ، وَدُنْيَاهُ بَلْ
كَانُوا يَعُدُّونَ الدُّنْيَا إذَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً نَزَلَتْ
بِهِمْ .
وَقَدْ مَضَتْ حِكَايَةُ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا جَرَى لَهُ فِي الْعَطَاءِ الَّذِي أَتَاهُ ، وَعَلَى هَذَا
دَرَجَ فِعْلُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَدْ حُكِيَ فِي
الْإِسْرَائِيلِيَّات أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَرَّ فِي
سِيَاحَتِهِ وَمَعَهُ الْحَوَارِيُّونَ بِمَوْضِعٍ فِيهِ ذَهَبٌ كَثِيرٌ فَنَظَرَ
عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهِ ، وَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ مِنْ
الْحَوَارِيِّينَ : اُنْظُرُوا إلَى هَذَا الْقَاتُولِ ، وَمَرَّ فِي سِيَاحَتِهِ
فَتَخَلَّفَ ثَلَاثَةٌ مِنْهُمْ ، وَقَالُوا : إلَى أَيْنَ هَذَا الْمَقْصُودُ ؟
أَوْ كَمَا قَالُوا .
فَقَسَمُوا ذَلِكَ أَثْلَاثًا فَجَلَسَ اثْنَانِ
يَحْرُسَانِ ذَلِكَ ، وَأَرْسَلَا ثَالِثَهُمَا إلَى الْبَلَدِ لِيَأْتِيَ
بِالدَّوَابِّ وَالْأَعْدَالِ وَمَا يَأْكُلُونَهُ فَلَمَّا أَنْ مَضَى لِذَلِكَ
تَحَدَّثَ الِاثْنَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَقَالَا : لَوْ كَانَ هَذَا الْمَالُ
بَيْنَنَا لَكَانَ أَوْلَى ، ثُمَّ قَالَا : وَكَيْفَ الْحِيلَةُ ؟ فَاتَّفَقَا
عَلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ يَقُومَانِ إلَيْهِ ، وَيَقْتُلَانِهِ ، وَيَبْقَى الْمَالُ
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَقَالَ الثَّالِثُ الَّذِي ذَهَبَ إلَى قَضَاءِ
الْحَاجَةِ : مِثْلَ قَوْلِهِمَا فَقَالَ : لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ كُلُّهُ
لِي لَكَانَ أَوْلَى ، ثُمَّ قَالَ : وَكَيْفَ الْحِيلَةُ ؟ فَخَطَرَ لَهُ أَنْ
يَعْمَلَ سُمًّا فِي الْغِذَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ فَيَأْكُلَانِهِ فَيَمُوتَا
فَيَأْخُذُ الْمَالَ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ فَفَعَلَ فَلَمَّا أَنْ أَقْبَلَ عَلَى
صَاحِبَيْهِ ، وَثَبَا إلَيْهِ فَقَتَلَاهُ ، ثُمَّ أَكَلَا مَا أَتَى بِهِ مِنْ
الْغِذَاءِ فَمَاتَا فَبَقِيَ الثَّلَاثَةُ هُنَاكَ مَطْرُوحِينَ فَلَمَّا أَنْ
رَجَعَ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ سِيَاحَتِهِ ، وَمَرَّ
بِهِمْ فَوَجَدَهُمْ هُنَاكَ طَرْحَى فَقَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ : أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
هَذَا الْقَاتُولُ ، .
وَقَدْ
تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
إنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ
بُورِكَ لَهُ فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ
فِيهِ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ يَرْبُو
عَلَى الْمُسْتَشْرِفِ فَتَرْتَفِعُ الْبَرَكَةُ مِنْهُ فَطَلَبُ الْمُرِيدِ
وَغَيْرِهِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهَا يُذْهِبُ
الْبَرَكَةَ مِنْهَا ، وَالْمَقْصُودُ حُصُولُ الْبَرَكَةِ ، وَأَنَّهَا إذَا
عُدِمَتْ مِنْ الشَّيْءِ لَوْ كَانَ مِلْءَ الْأَرْضِ مَا أَغْنَى صَاحِبَهُ
لِعَدَمِهَا مِنْهُ ، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْحَافِظُ أَبُو
نُعَيْمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحِلْيَةِ لَهُ فِي تَرْجَمَةِ
طَاوُسِ بْنِ كَيْسَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ
أَبِيهِ قَالَ : كَانَ رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ بَنِينَ فَمَرِضَ فَقَالَ أَحَدُهُمْ
: إمَّا أَنْ تُمَرِّضُوهُ ، وَلَيْسَ لَكُمْ فِي مِيرَاثِهِ شَيْءٌ : وَإِمَّا
أَنْ أُمَرِّضَهُ ، وَلَيْسَ لِي فِي مِيرَاثِهِ شَيْءٌ قَالُوا : مَرِّضْهُ ،
وَلَيْسَ لَك فِي مِيرَاثِهِ شَيْءٌ قَالَ : فَمَرَّضَهُ حَتَّى مَاتَ ، وَلَمْ
يَأْخُذْ مِنْ مِيرَاثِهِ شَيْئًا قَالَ فَأُتِيَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ : لَهُ
ائْتِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهُ مِائَةَ دِينَارٍ فَقَالَ فِي نَوْمِهِ
أَفِيهَا بَرَكَةٌ ؟ قَالُوا : لَا فَلَمَّا أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ
، فَقَالَتْ امْرَأَتُهُ : خُذْهَا فَإِنَّ مِنْ بَرَكَتِهَا أَنْ نَكْتَسِي بِهَا
وَنَعِيشَ مِنْهَا فَأَبَى فَلَمَّا أَمْسَى أُتِيَ فِي النَّوْمِ فَقِيلَ : لَهُ
ائْتِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَخُذْ مِنْهُ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَقَالَ :
أَفِيهَا بَرَكَةٌ ؟ قَالُوا : لَا فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحَ ذَكَرَ ذَلِكَ لِامْرَأَتِهِ
فَقَالَتْ لَهُ : مِثْلَ مَقَالَتِهَا الْأُولَى فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا
فَأُتِيَ فِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ فَقِيلَ : لَهُ ائْتِ مَكَانَ كَذَا
وَكَذَا فَخُذْ مِنْهُ دِينَارًا قَالَ أَفِيهِ بَرَكَةٌ ؟ قَالُوا : نَعَمْ فَذَهَبَ
فَأَخَذَ الدِّينَارَ ثُمَّ خَرَجَ بِهِ إلَى السُّوقِ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ
يَحْمِلُ حُوتَيْنِ
فَقَالَ : بِكَمْ هُمَا ؟ قَالَ : بِدِينَارٍ قَالَ : فَأَخَذَهُمَا
مِنْهُ بِدِينَارٍ ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمَا إلَى بَيْتِهِ فَلَمَّا دَخَلَ
بَيْتَهُ شَقَّ بَطْنَهُمَا فَوَجَدَ فِي بَطْنِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
دُرَّةً لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهَا قَالَ فَبَعَثَ الْمَلِكُ يَطْلُبُ دُرَّةً
لِيَشْتَرِيَهَا فَلَمْ تُوجَدْ إلَّا عِنْدَهُ فَبَاعَهَا بِوَقْرِ ثَلَاثِينَ
بَغْلًا ذَهَبًا فَلَمَّا رَآهَا الْمَلِكُ قَالَ مَا تَصْلُحُ هَذِهِ إلَّا بِأُخْتِهَا
فَاطْلُبُوا أُخْتَهَا ، وَإِنْ أَضْعَفْتُمْ قَالَ فَجَاءُوهُ فَقَالُوا :
أَعِنْدَك أُخْتُهَا ، وَنُعْطِيك ضِعْفَ مَا أَعْطَيْنَاك قَالَ : وَتَفْعَلُونَ
؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ فَأَعْطَاهُمْ إيَّاهَا بِضِعْفِ مَا أَخَذُوا بِهِ
الْأُولَى ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى هَذِهِ
الْبَرَكَةِ مَا أَعْظَمُهَا أَيْنَ هَذَا مِنْ الْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي
عُرِضَتْ عَلَيْهِ أَوَّلًا .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْبَرَكَةَ كَامِنَةٌ
فِي امْتِثَالِ السُّنَّةِ حَيْثُ كَانَتْ ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا
فَالِاسْتِشْرَافُ مِنْهُ بَعِيدٌ ، وَإِذَا عُدِمَ الِاسْتِشْرَافُ حَلَّتْ
الْبَرَكَةُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ هَذَا
الشَّأْنِ الْغَالِبِ عَلَيْهِمْ شَظَفُ الْعَيْشِ ، وَقِلَّةُ ذَاتِ الْيَدِ ،
ثُمَّ إنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَسْبِقُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي أَمْرِ الْآخِرَةِ ،
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِوُجُودِ الْبَرَكَةِ الْحَاصِلَةِ مَعَهُمْ فِيمَا
يَتَنَاوَلُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا لِعَدَمِ اسْتِشْرَافِهِمْ لِدُنْيَاهُمْ
، وَاهْتِمَامِهِمْ بِأَمْرِ دِينِهِمْ ، وَالْوُقُوفِ بِبَابِ رَبِّهِمْ ، وَالتَّضَرُّعِ
إلَيْهِ ، وَلُزُومِ الِامْتِثَالِ لِأَوَامِرِهِ ، وَالِاجْتِنَابِ لِنَوَاهِيهِ
، وَالنُّزُولِ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ
.
وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيَّ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ ، وَكَانَ يَصْحَبُ
بَعْضَ الْفُقَرَاءِ فَرَآهُ مَرَّةً وَهُوَ يَبْكِي وَيَتَضَرَّعُ ، وَيَسْأَلُ اللَّهَ
تَعَالَى أَنْ يَرْفَعَ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِ فَسَأَلْته عَنْ مُوجِبِ ذَلِكَ
فَأَبَى عَنْ
إجَابَتِهِ فَبَقِيَ كَذَلِكَ أَيَّامًا ، ثُمَّ سَرَى
عَنْهُ فَرَجَعَ إلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ قَالَ فَسَأَلْتُهُ عَنْ مُوجِبِ
بُكَائِهِ ، وَسُرُورِهِ فَقَالَ : إنِّي كُنْت أَجْمَعُ بَيْنَ الْمَاءِ ،
وَالْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِنْجَاءِ فَابْتُلِيت بِأَنِّي إذَا أَخَذْت حَجَرًا
أَسْتَجْمِرُ بِهِ أَجِدُهُ ذَهَبًا فَأَرْمِيهِ ، وَآخُذُ غَيْرَهُ فَأَجِدُهُ
كَذَلِكَ ثُمَّ كَذَلِكَ فَضَاقَ ذَرْعِي مِنْ ذَلِكَ ؛ لِمَا نَزَلَ بِي فَبَقِيت
أَتَضَرَّعُ اللَّهَ تَعَالَى فِي دَفْعِهِ حَتَّى أَزَالَهُ عَنِّي فَصِرْت آخُذُ
الْحَجَرَ فَأَجِدُهُ حَجَرًا كَمَا هُوَ .
وَقَدْ حَكَى لِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا عَنْ
نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ بِمَدِينَةِ فَاسَ قَالَ : فَكُنْت أَخْرُجُ مِنْ
الْبَلَدِ فَأَرَى عِنْدَ السُّورِ صُنْدُوقًا مَفْتُوحًا مَمْلُوءًا ذَهَبًا
قَالَ : فَكُنْت أُوَلِّي وَجْهِي عَنْهُ فَلَمَّا أَنْ كَانَ فِي بَعْضِ
الْأَيَّامِ الْتَفَتُّ إلَيْهِ ، وَإِذَا بِيَدٍ مِنْ الْهَوَاءِ لَطَمَتْ
وَجْهِي فَرَدَّتْهُ إلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى فَتُبْتُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
أَنْ لَا أَلْتَفِتَ إلَيْهِ بَعْدُ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ
كَانَ لَا يَبِيتُ عَلَى مَعْلُومٍ حَتَّى يُخْرِجَهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ
يَرَى فِي الْمَنَامِ كُلَّ لَيْلَةٍ قَائِلًا يَقُولُ لَهُ : إنَّك لَبَخِيلٌ ،
وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِرَارًا فَلَمَّا أَنْ كَانَ لَيْلَةً ، وَقِيلَ
لَهُ : مَا قِيلَ آلَى عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ إذَا فُتِحَ لَهُ مِنْ الْغَدِ
بِشَيْءٍ يُعْطِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَلْقَاهُ كَائِنًا مَا كَانَ فَلَمَّا أَنْ
كَانَ مِنْ الْغَدِ فُتِحَ لَهُ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ فَأَوَّلُ مَنْ لَقِيَهُ
مِنْ الْغَدِ شَابٌّ ، وَهُوَ عِنْدَ مُزَيِّنٍ يَحْلِقُ لَهُ رَأْسَهُ
فَأَعْطَاهُ الصُّرَّةَ فَقَالَ لَهُ الشَّابُّ : لَا حَاجَةَ لِي بِهَا عِنْدِي
قُوتُ يَوْمِي فَقَالَ لَهُ أَعْطِهَا فِي أُجْرَةِ الْمُزَيِّنِ فَقَالَ لَهُ الْمُزَيِّنُ
قَدْ دَخَلْت عَلَى هَذَا الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا آخُذُ عَنْهُ عِوَضًا
فَقَالَ لَهُ : خُذْهَا لَك دُونَ أُجْرَةٍ فَقَالَ لَهُ لَا حَاجَةَ لِي بِهَا
فَقَالَ لَهُ هِيَ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ لَهُ الْمُزَيِّنُ ، أَمَا قَدْ
قِيلَ لَك :
إنَّك لَبَخِيلٌ فَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ وَجْدًا شَدِيدًا
، وَأَخَذَ الصُّرَّةَ فَرَمَى بِهَا فِي الْفُرَاتِ .
فَإِذَا قِيلَ لِمِثْلِ هَذَا : بَخِيلٌ فَمَا بَالُك
بِمَنْ يُنْسَبُ إلَى الطَّرِيقِ ، وَيَطْلُبُ الْمَطَالِبَ ، ثُمَّ يَزْعُمُ
أَنَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لَيْسَ الْأَمْرُ لِآرَائِنَا
، وَلَا لِمَا اصْطَلَحْنَا عَلَيْهِ مِنْ عَوَائِدِنَا ، وَلَا لِمَا يَخْطِرُ
مِنْ الْهَوَاجِسِ فِي أَنْفُسِنَا ، بَلْ الْمَشْيُ عَلَى الطَّرِيقِ
الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي وَقَعَ مِنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ ، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ
بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ ، وَلَيْسَ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ
لَا يَلِيقُ بِهَذَا الزَّمَانِ لِغَلَبَةِ الْبُخْلِ فِيهِ ، وَقِلَّةِ
الْبَرَكَاتِ بِخِلَافِ زَمَانِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ إذْ أَنَّ الزَّمَانَيْنِ
سَوَاءٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِانْقِطَاعِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَالنُّزُولِ بِسَاحَةِ
كَرَمِهِ مَعَ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ
الْفَاسِيِّ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، وَقَعَ مِثْلُهُ كَثِيرًا مِنْ غَيْرِهِ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ هَذَا
الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ
فِيهِ ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ } ، وَلَا
شَكَّ أَنَّ مَنْ اتَّصَفَ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ الْمُسْتَشْرِفِ
فَتَرْتَفِعُ الْبَرَكَةُ عَنْهُ مِنْ بَابِ أَوْلَى .
ثُمَّ اُنْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى
مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَكْثَرَ قُبْحَهَا ، وَبَشَاعَتَهَا .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَقَعَ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فَقَدْ جَرَّ ذَلِكَ إلَى تَسْلِيطِ بَعْضِ النَّاسِ عَلَى هَدْمِ
كَثِيرٍ مِنْ بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاجِدِهِمْ بِسَبَبِ حَفْرِهِمْ عَلَى
ذَلِكَ فَمَنْ كَانَتْ لَهُ شَوْكَةٌ فَعَلَهُ جِهَارًا سَوَاءٌ كَانَتْ مَسْجِدًا
أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَمْلَاك الْمُسْلِمِينَ ، وَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ شَوْكَةٌ عَمِلَ
الْحِيَلَ الْكَثِيرَةَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَخْرَبَ ، وَتُهْدَمَ ، وَهَذَا
ضَرَرٌ عَظِيمٌ حَتَّى صَارَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ
الْبَاطِلَةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَرِّبَ مَسْجِدًا
أَوْ دَارَ مُسْلِمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَتَبَ فِي وَرَقَةٍ أَنَّ
مَوْضِعَ كَذَا فِيهِ كَذَا وَكَذَا ، وَيَكْتُبُ تَارِيخَهَا قَدِيمًا ،
وَيُبَخِّرُهَا حَتَّى تَبْقَى كَأَنَّهَا وَرَقَةٌ عَتِيقَةٌ ، ثُمَّ
يُعَلِّقُهَا فِي مَوْضِعِ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِسَبَبِ
قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ إمَّا بِيَدِهِ الْبَاطِشَةِ أَوْ كَثْرَةِ التَّحَيُّلِ
فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَخْرِيبِ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ ، وَدُورِهِمْ
يَدُلُّك عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَكْثَرَ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى قَلَّ أَنْ
تُحْفَرَ لَهُمْ دَارٌ أَوْ كَنِيسَةٌ أَوْ بِيعَةٌ ، وَالْكُلُّ فِي بَلَدٍ
وَاحِدٍ ، وَمَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ إذَا عَجَزُوا
عَنْ تَخْرِيبِ الْمَسَاجِدِ وَالدُّورِ تَسَلَّطُوا عَلَى تَعَبِ الْمُسْلِمِينَ
فِي أَبْدَانِهِمْ وَخَسَارَتِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَيَكْتُبُونَ أَوْرَاقًا
فِي ذُرْوَةِ الْجَبَلِ الْفُلَانِيِّ مِنْ النَّاحِيَةِ الْفُلَانِيَّةِ مِنْهُ
كَذَا وَكَذَا إذَا حَفَرْت فِيهِ كَذَا وَكَذَا ، وَقِسْت كَذَا وَكَذَا تَجِدُ
فِيهِ كَذَا وَكَذَا ، وَفِي وَرَقَةٍ أُخْرَى الْغَارُ الْفُلَانِيُّ فِي جِهَةِ
كَذَا ، وَكَذَا مِنْهُ تَحْفِرُ قَدْرَ كَذَا وَكَذَا فَتَجِدُ كَذَا وَكَذَا
إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ ، وَكُلُّ هَذَا بَاطِلٌ ، ثُمَّ عَلَى
تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَحِيحًا فَعَلَيْهِ الْمَهَالِكُ الْكَثِيرَةُ
؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فَلَمْ
يَضَعُوا شَيْئًا إلَّا ، وَقَدْ أَحَاطَ بِهِ مَهَالِكَ عَظِيمَةً فَقَلَّ أَنْ
يَصِلَ أَحَدٌ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِعَطَبِهِ ، وَعَطَبِ غَيْرِهِ ، ثُمَّ إنَّ مَا
يُوجَدُ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي فَيَافِي
الْأَرْضِ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ فَذَلِكَ فِيهِ الْخُمُسُ يُصْرَفُ فِي وُجُوهِهِ
، وَبَاقِيهِ لِوَاجِدِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ لُؤْلُؤًا
أَوْ نُحَاسًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ رَصَاصًا كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِيهِ الْخُمُسُ
، وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخُمُسُ ثَلَاثَةٌ هَذَا وَاحِدٌ مِنْهَا .
وَالثَّانِي
-
النُّدْرَةُ تُوجَدُ فِي الْمَعْدِنِ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ
أَوْ بِمُؤْنَةٍ يَسِيرَةٍ .
وَالثَّالِثُ - الْغَنِيمَةُ .
وَأَمَّا مَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ أَرْضِ الْعَرَبِ فَلَا
يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ
أُخِذَ عَنْوَةً .
وَالثَّانِي :
أَنْ يَكُونَ أُخِذَ صُلْحًا فَإِنْ كَانَ عَنْوَةً
فَهُوَ لِتِلْكَ الْجُيُوشِ الَّذِينَ فَتَحُوا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ثُمَّ
لِأَوْلَادِهِمْ ، ثُمَّ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي
الْغَالِبِ إذْ إنَّ أَوْلَادَ الصَّحَابَةِ مَوْجُودُونَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا فِي
هَذَا الزَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ صُلْحًا فَمَا يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ
لِأَهْلِ الصُّلْحِ فَإِنْ عُدِمُوا فَلِأَوْلَادِهِمْ ثُمَّ لِأَوْلَادِ
أَوْلَادِهِمْ ، وَهُمْ أَيْضًا مَوْجُودُونَ ، وَهَلُمَّ جَرًّا ،
وَلِلْمَسْأَلَةِ فُرُوعٌ مَوْجُودَةٌ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا : أَنَّ وَاجِدَهُ لَيْسَ لَهُ
فِيهِ شَيْءٌ إلَّا التَّعَبَ وَإِشْغَالَ ذِمَّتِهِ بِشَيْءٍ كَانَتْ عَنْهُ فِي
غِنًى وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ هَلَاكِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْفِرَارُ مِنْ هَذَا ، وَمَا
شَاكَلَهُ إذْ إنَّ غَنِيمَةَ الْمُسْلِمِ إنَّمَا هِيَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ،
وَمَنْ اشْتَغَلَتْ ذِمَّتُهُ قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ فَالسَّعِيدُ مَنْ لَجَأَ إلَى
اللَّهِ تَعَالَى فِي إعَانَتِهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ
اللَّطِيفُ الرَّحْمَنُ
( فَصْلٌ ) : وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِتَحْصِيلِ عِلْمِ
الْكِيمْيَاءِ فَهُوَ مِنْ الْبَاطِلِ الْبَيِّنِ ، وَالْغِشِّ الْمُتَعَدِّي
ضَرَرُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا
فَقَدْ خَلَطَ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ ، وَبَخَسَهَا عَلَيْهِمْ إذْ
إنَّهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي فِعْلِهَا
.
فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْمَلُهَا ، وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُ
أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ بَعْدَ زَمَانٍ ، وَذَلِكَ الزَّمَانُ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ
الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهَا تَتَغَيَّرُ
، وَيَغِشُّ النَّاسَ بِهَا فَيُشْغِلُونِ ذِمَّتَهُمْ بِأَمْوَالِهِمْ ، وَكُلُّ
ذَلِكَ حَرَامٌ سُحْتٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَا تَتَغَيَّرُ ،
وَهُوَ بَعِيدٌ .
وَلَوْ قَدَّرْنَا عَدَمَ تَغْيِيرِهَا فَذَلِكَ لَا
يَجُوزُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الذَّهَبَ الْمَعْدِنِيَّ ، وَالْفِضَّةَ الْمَعْدِنِيَّةَ
يَنْفَعَانِ لِأَمْرَاضٍ ، وَلَهُمَا خَاصِّيَّةٌ فِي الْأَدْوِيَةِ ،
وَغَيْرُهُمَا يَعُودُ بِالضَّرَرِ عَلَى الْمَرِيضِ فَيَزِيدُهُ مَرَضًا أَوْ
يَمُوتُ بِسَبَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ الْمَعْدِنِيِّ
عَقَاقِيرُ قَدْ يُسْقِمُ بَعْضُهَا ، وَقَدْ يَقْتُلُ بَعْضُهَا فَعَلَى هَذَا
فَكُلُّ مَنْ تَعَاطَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ شَغَلَ ذِمَّتَهُ بِأَمْوَالِ
النَّاسِ ، وَدِمَائِهِمْ ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ صَرْفَهَا لَا يَجُوزُ حَتَّى يُبَيِّنَ أَنَّهَا مِنْ
عَمَلِ يَدِهِ ، وَلَيْسَتْ بِمَعْدِنِيَّةٍ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَحِمَهُ
اللَّهُ مِنْ إجَازَةِ ذَلِكَ بَعْدَ الْبَيَانِ لَا يَسُوغُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
بِسَبَبِ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَ هُوَ فَمَنْ صَارَتْ إلَيْهِ فَالْغَالِبُ أَنَّهُ
لَا يُبَيِّنُ ، وَالِاحْتِرَازُ مِنْ هَذَا مُتَعَذِّرٌ .
هَذَا وَجْهٌ وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنْ
بَيَّنَ أَنَّهَا مِنْ صَنْعَةِ يَدِهِ تَمَزَّقَ عِرْضُهُ ، وَالْغَالِبُ أَنَّهُ
يَئُولُ إلَى سَفْكِ دَمِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يُعْدَلُ
بِالسَّلَامَةِ شَيْءٌ .
فَإِذَا سَلِمَ مِنْ الِاتِّصَافِ بِطَلَبِ الْمَطَالِبِ
، وَالْكِيمْيَاءِ فَلْيَحْذَرْ مِنْ خَلْطَةِ مَنْ يَتَعَانَى
ذَلِكَ أَوْ يُشَارُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مَا فَإِنَّ
ذَلِكَ سَبَبٌ لِاسْتِشْرَافِ نَفْسِهِ بِسَبَبِ سَمَاعِهِ مِنْهُمْ مَا
يَخُوضُونَ فِيهِ ، وَذَلِكَ يَذْهَبُ بِبَهَاءِ عِزَّةِ الْفَقْرِ ، وَعِزَّةِ
الْإِيَاسِ إذْ لَا بُدَّ لِمَنْ خَالَطَهُمْ أَنْ يَشْغَفَ بِشَيْءٍ مَا مِنْ
حَالِهِمْ ، وَلَوْ قَلَّ ، وَذَلِكَ شُغْلٌ لِلْقَلْبِ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنْ التَّوَجُّهِ
، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْمَوْلَى الْكَرِيمِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ تَعَلَّقَ
بِالْإِرَادَةِ الْهَرَبُ الْكُلِّيُّ مِمَّنْ يُشَارُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُرِيدِ نَظِيفٌ جِدًّا ، وَالتَّنْظِيفَ أَقَلُّ
شَيْءٍ يُقَابِلُهُ مِنْ الْوَسَخِ يُؤَثِّرُ فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ فِي الْغَالِبِ
لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا وَقَعَ فِيهِ بِخِلَافِ الثَّوْبِ الرَّفِيعِ الْأَبْيَضِ
النَّظِيفِ فَإِنَّ أَقَلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يُدَنِّسُهُ .
، وَلِهَذَا
الْمَعْنَى يُقَالُ فِي صِفَتِهِمْ : قَلَّتْ ذُنُوبُهُمْ لِمَعْرِفَتِهِمْ مِنْ
أَيْنَ أُصِيبُوا ، وَكَثُرَتْ ذُنُوبُ غَيْرِهِمْ فَلَمْ يَعْرِفُوا مِنْ أَيْنَ
أُصِيبُوا ، وَالْكِيمْيَاءُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هِيَ الرُّجُوعُ إلَى
الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالنُّزُولُ بِسَاحَةِ كَرَمِهِ ، وَطَلَبُ
الْعَبْدِ مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ ،
وَجَلَّ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَسْتَحْيِ أَنْ يَرُدَّ يَدَيْ سَائِلِهِ صِفْرًا
، وَقَدْ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنِّي لَأَدْعُو
اللَّهَ فِي صَلَاتِي لِحَوَائِجِي كُلِّهَا حَتَّى الْمِلْحَ لِعَجِينِي ، وَقَدْ
أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَا
مُوسَى سَلْنِي حَتَّى الْمِلْحَ لِعَجِينِك فَوَعِزَّتِي ، وَجَلَالِي لَئِنْ
مَنَعْتُك فَلَا أَحَدَ يُعْطِيك إيَّاهُ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ رَوَى
التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ {
لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ الْمِلْحَ ، وَحَتَّى يَسْأَلَهُ
شِسْعَهُ إذَا انْقَطَعَ } .
فَسَبِيلُ الْعَبْدِ طَلَبُ حَوَائِجِهِ مِنْ رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ جَاعَ يَقُولُ : يَا رَبِّأَنَا جَائِعٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ
عَطِشَ أَوْ تَعَرَّى إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ كُلِّهَا فِي جَلْبِ النَّفْعِ
، وَدَفْعِ الضَّرَرِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ
الْعَزِيزِ { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ
خُلَفَاءَ الْأَرْضِ } ، وَقَالَ تَعَالَى { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ
حَدِيثًا } ، وَقَالَ { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلًا } .
فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاعِدَيْهِ
، وَتَوَكَّلَ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى رَبِّهِ ، وَأَنَابَ إلَيْهِ .
فَإِذَا حَصَلَ لِلْمُرِيدِ هَذَا الْحَالُ فَلَوْ
عُرِضَتْ عَلَيْهِ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا مَا قَبِلَهَا ، وَلَا أَقْبَلَ
عَلَيْهَا ؛ لِمَا حَصَلَ عِنْدَهُ مِنْ الِاسْتِغْنَاءِ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ
، وَحُسْنِ نَظَرِهِ لَهُ إذْ إنَّ مَفَاتِيحَ هَدَايَاهُ لَا تَنْحَصِرُ ، وَلَا تَرْجِعُ
إلَى قَانُونٍ مَعْلُومٍ ؛ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْخُذُهُ حَصْرٌ ، وَلَا
يُقَالُ فِي حَقِّهِ أَيْنَ ، وَلَا كَيْفَ فَكَذَلِكَ مَا سَتَرَهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ مِنْ عَطَايَاهُ الْجَمَّةِ ، وَهَدَايَاهُ الَّتِي لَا
حَصْرَ لَهَا .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَصَابَتْهُ
ضَرُورَةٌ ، وَجُوعٌ شَدِيدٌ فَتَضَرَّعَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي
خَلْوَتِهِ ، وَطَلَبَ مِنْهُ الْعَطَاءَ فَسَمِعَ هَاتِفًا ، وَهُوَ يَقُولُ : أَتُرِيدُ
طَعَامًا أَوْ فِضَّةً فَقَالَ ، بَلْ فِضَّةً ، وَإِذَا بِصُرَّةٍ بَيْنَ
يَدَيْهِ فِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ
أَنَّهُ كَانَ إذَا طُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ ،
وَأَخْرَجَ مَا طُلِبَ مِنْهُ ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَنْظُرُونَ إلَى جَيْبِهِ ،
وَيَقْطَعُونَ بِأَنَّهُ لَا شَيْءَ فِيهِ ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إذَا طُلِبَ
مِنْهُ شَيْءٌ فِي الْحَالِ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِهِ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا
طُلِبَ مِنْهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْخَضِرَ يَأْتِيهِ بِكُلِّ
مَا يُطْلَبُ مِنْهُ ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَحْكِي أَنَّهُ كَانَ يَصْحَبُهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ يُعْرَفُ
بِأَبِي
=====
ج10.كتاب المدخل للْعَبْدَرِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ الْعَبْدَرِيُّ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ ، وَكَانَ صَاحِبَ
عَائِلَةٍ ، وَفَقْرٍ ، وَكَانَ النَّاسُ فِي سَنَةٍ شَدِيدَةٍ ، وَغَلَاءٍ
فَجَاءَ لَيْلَةً بَعْدَ أَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فِي جَمَاعَةٍ إلَى
بَيْتِهِ فَوَجَدَ أَوْلَادَهُ يَبْكُونَ ، فَقَالَ لِأُمِّهِمْ : مِمَّ يَبْكُونَ
؟ فَقَالَتْ : مِنْ الْجُوعِ قَالَ فَتَرَكْتهمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَطَلَعْت
عَلَى سَطْحِ الْبَيْتِ ، وَمَرَّغْت خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ ، وَقُلْت : يَا
رَبِّ هَؤُلَاءِ يَبْكُونَ إلَيَّ ، وَأَنَا أَبْكِي إلَيْك أَعْطِنَا شَيْئًا
نَأْكُلُهُ قَالَ فَإِذَا سَحَابَةٌ قَدْ طَلَعَتْ فَجَاءَتْ فَعَمَّتْ الدَّارَ
فَأَمْطَرَتْ فُولًا عَلَى الدَّارِ ، وَحْدَهَا قَالَ فَنَزَلْت إلَى
الْأَوْلَادِ ، وَأَخْبَرْتُهُمْ فَطَلَعُوا فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا ، ثُمَّ
بَقِيَ عِنْدَهُمْ يَأْكُلُونَ مِنْهُ إلَى أَنْ دَخَلَ الْقَمْحُ الْجَدِيدُ .
، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ
حِكَايَةُ سَيِّدِي الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ
بَقِيَ فِي وَقْتٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَكْلٍ ، وَلَا شُرْبٍ قَالَ .
وَلَوْ بَقِيت كَذَلِكَ لَمْ أَحْتَجْ إلَى شَيْءٍ طُولَ
حَيَاتِي لَكِنْ رَجَعْت إلَى الْأَكْلِ مِنْ طَرِيقِ الِامْتِثَالِ لِسُنَّةٍ لَا
غَيْرٍ .
فَمَنْ رَجَعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَطُرُقُ الْفَتْحِ
لَهُ مُتَعَدِّدَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، وَأَوَانٍ وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ يَقُولُ :
إنَّ هَذَا زَمَانٌ ، وَذَاكَ زَمَانٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِي فِيهِمَا وَاحِدٌ لَا
يَتَغَيَّرُ ، وَلَا يَزُولُ ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ فِي
نَجَاتِهِ مِنْ النَّارِ ، وَجَوَازِهِ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَشُرْبِهِ مِنْ
الْحَوْضِ ، وَدُخُولِهِ الْجَنَّةَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا يَتَوَكَّلُ
عَلَيْهِ فِي كُسَيْرَاتٍ يُقِيمُ بِهَا صُلْبَهُ ، وَفِي ثَوْبٍ يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ
، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ : لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ بِسُوقٍ يُبَاعُ فِيهِ لَمَا سَاوَى إيمَانُ
أَحَدِكُمْ كُسَيْرَةً فَيَسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا
يَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْجِيَهُ مِنْ جَمِيعِ أَهْوَالِ
يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِسَبَبِ إيمَانِهِ ،
وَيَقُولُ : فَضْلُ اللَّهِ أَعْظَمُ ، وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ
، ثُمَّ إنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي أَعَدَّهُ لِنَجَاتِهِ مِنْ تِلْكَ الْأَهْوَالِ
مَا خَلَّصَهُ لِلتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي كُسَيْرَاتٍ يُقِيمُ
بِهَا صُلْبَهُ ، وَيَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ السَّبَبِ فَلَوْ انْقَطَعَ عَنْهُ
السَّبَبُ أَيِسَ ، وَضَجِرَ ، وَشَكَا ، وَبَكَى .
فَإِذَا لَمْ يَخْلُصْ إيمَانُهُ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ
فَكَيْفَ يُخْلِصُهُ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَهْوَالِ فَفَضْلُ اللَّهِ
أَعْظَمُ ، وَرَحْمَتُهُ أَوْسَعُ فِي هَذَا النَّزْرِ الْيَسِيرِ مِنْ بَابِ
أَوْلَى ، وَأَوْجَبُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَنْ تَمُوتَ
نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي
الطَّلَبِ } لَكِنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَبْتَلِي خَلْقَهُ
لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ لِيَقَعَ الْجَزَاءُ وِفَاقًا كَمَا قَالَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ فَالسَّعِيدُ مَنْ كَانَ فَرِحًا
مَسْرُورًا بِرَبِّهِ ، وَبِحُكْمِهِ ، وَبِإِرَادَتِهِ مَاقِتًا لِأَحْوَالِ
نَفْسِهِ ، وَرَأْيِهِ ، وَتَدْبِيرِهِ - اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا ذَلِكَ
بِمَنِّك إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ ، وَآلِهِ ، وَصَحْبِهِ ، وَسَلَّمَ
فَصْلٌ فِي دُخُولِ الْمُرِيدِ الْخَلْوَةَ ،
وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ لَا يَدْخُلَ الْخَلْوَةَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ
الْخَطَرَ فِي ذَلِكَ عَظِيمٌ لِمَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْقَوَاطِعِ
الرَّدِيئَةِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ حُصُولِ عَرْبَدَةٍ أَوْ جُنُونٍ
أَوْ فِعْلِ نَشَّافٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَهَالِكِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَرَ
فِيهَا كَثِيرٌ مُتَعَدِّدٌ .
، وَقَدْ
قَالَ لُقْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَصِيَّتِهِ لِوَلَدِهِ يَا بُنَيَّ
عَلَيْك بِذَوِي التَّجَارِبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَرَّبَ قَدْ دَخَلَ فِي
الْمَخَاضَةِ ، وَعَرَفَهَا ، وَعَرَفَ مَوْضِعَ السَّلَامَةِ فِيهَا ، وَمَوْضِعَ
الْعَطَبِ فَعَلِمَ مَا يَتَجَنَّبُ مِنْهَا ، وَمَا يَحْذَرُ ، وَمَا يَنْبَغِي
أَنْ يَفْعَلَ ، وَمَا يُسْتَعَانُ بِهِ
( فَصْلٌ ) : وَآكُد مَا عَلَيْهِ فِي خَلْوَتِهِ
التَّعَلُّقُ بِرَبِّهِ ، وَالسُّكُونُ إلَيْهِ ، وَانْقِطَاعُ رَجَائِهِ مِمَّنْ
هُوَ مَخْلُوقٌ مِثْلُهُ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لِلْإِمَامِ
الْحَافِظِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْبَهَانِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : وَلَقَدْ قَالَ شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ أَرَادَ
أَنْ يَعْرِفَ مَعْرِفَتَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَا وَعَدَهُ اللَّهُ ،
وَوَعَدَهُ النَّاسُ بِأَيِّهِمَا قَلْبُهُ أَوْثَقُ ، وَقَالَ : اتَّقِ
الْأَغْنِيَاءَ فَإِنَّك مَتَى عَقَدْت قَلْبَك مَعَهُمْ ، وَطَمِعْت فِيهِمْ
فَقَدْ اتَّخَذْتهمْ رَبًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَقَالَ : إذَا أَرَدْت أَنْ تَكُونَ
فِي رَاحَةٍ فَكُلْ مَا أَصَبْت ، وَالْبَسْ مَا وَجَدْت ، وَارْضَ بِمَا قَضَى
اللَّهُ عَلَيْك ، وَقَالَ : مَنْ دَارَ حَوْلَ الشَّهَوَاتِ فَإِنَّهُ يَدُورُ
بِدَرَجَاتِهِ فِي الْجَنَّةِ لِيَأْكُلَهَا فِي الدُّنْيَا ، وَقَالَ يَحْيَى
بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيّ : الْعِبَادَةُ حِرْفَةٌ ، وَحَوَانِيتُهَا الْخَلْوَةُ ،
وَرَأْسُ مَالِهَا الِاجْتِهَادُ بِالسُّنَّةِ ، وَرِبْحُهَا الْجَنَّةُ ، وَقَالَ
: الصَّبْرُ عَلَى الْخَلْوَةِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِخْلَاصِ ، وَقَالَ :
اجْتَنِبْ صُحْبَةَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنْ النَّاسِ : الْعُلَمَاءِ
الْغَافِلِينَ ، وَالْقُرَّاءِ الْمُدَاهِنِينَ ، وَالْمُتَصَوِّفَةِ
الْجَاهِلِينَ ، وَقَالَ : الزُّهْدُ ثَلَاثُهُ أَشْيَاءَ : الْقِلَّةُ ،
وَالْخَلْوَةُ ، وَالْجُوعُ ، وَقَالَ : عَلَى قَدْرِ حُبِّك لِلَّهِ يُحِبُّك
الْخَلْقُ ، وَعَلَى قَدْرِ خَوْفِك مِنْ اللَّهِ يَخَافُك الْخَلْقُ ، وَعَلَى
قَدْرِ شُغْلِك بِاَللَّهِ يَشْتَغِلُ فِي أَمْرِك الْخَلْقُ ، وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ
عُمَرُ النَّيْسَابُورِيُّ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا ارْتَكَبَ كُلَّ خَطِيئَةٍ مَا
خَلَا الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ، وَخَرَجَ مِنْ الدُّنْيَا سَلِيمَ الْقَلْبِ
لِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفِرَ لَهُ قِيلَ
: يَا أَبَا حَفْصٍ هَلْ لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ دَلِيلٍ قَالَ : بَلَى
قَوْله تَعَالَى { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي
يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ } فَاتِّبَاعُهُ مَحَبَّةُ أَصْحَابِهِ
لِأَجْلِهِ ، وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ
السَّمَرْقَنْدِيُّ : كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ ، وَكَمْ
مِنْ مُغْتَرٍّ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَكَمْ مِنْ مَفْتُونٍ بِالسَّتْرِ
عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْفَقِيرُ
قُوَّتُهُ مَا وَجَدَ ، وَلِبَاسُهُ مَا سَتَرَ ، وَمَسْكَنُهُ حَيْثُ نَزَلَ ،
وَقَالَ : حَقِيقَةُ الْغِنَى أَنْ تَسْتَغْنِيَ عَمَّنْ هُوَ مِثْلُك ، وَقَالَ : الَّذِي مَنَعَ
الصَّادِقِينَ الشَّكْوَى إلَى غَيْرِ اللَّهِ الْخَوْفُ مِنْ اللَّهِ ، وَكَتَبَ
أَبُو الْأَبْيَضِ كِتَابًا إلَى بَعْضِ إخْوَانِهِ : سَلَامٌ عَلَيْك ،
وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَبَرَكَاتُهُ ، وَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا
إلَهَ إلَّا هُوَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّك لَمْ تُكَلَّفْ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا
نَفْسًا وَاحِدَةً فَإِنْ أَنْتَ أَصْلَحْتهَا لَمْ يَضُرَّك فَسَادُ غَيْرِهَا ،
وَإِنْ أَنْتَ أَفْسَدْتهَا لَمْ يَنْفَعْك صَلَاحُ غَيْرِهَا ، وَاعْلَمْ أَنَّك
لَنْ تَسْلَمْ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى لَا تُبَالِي مِنْ أَكْلِهَا مِنْ أَحْمَرَ
، وَأَسْوَدَ .
قَالَ شَقِيقُ بْنُ أَدْهَمَ الْبَلْخِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : تُعْرَفُ تَقْوَى الرَّجُلِ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : فِي أَخْذِهِ ،
وَمَنْعِهِ ، وَكَلَامِهِ ، وَقَالَ : دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْخَلْقِ مِنْ
سِتَّةِ أَشْيَاءَ : أَوَّلِهَا : ضَعْفُ النِّيَّةِ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ .
وَالثَّانِي - صَارَتْ أَبْدَانُهُمْ رَهِينَةً
بِشَهَوَاتِهِمْ .
وَالثَّالِثِ - غَلَبَةُ طُولِ الْأَمَلِ عَلَى قُرْبِ
أَجَلِهِمْ .
وَالرَّابِعِ - اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ، وَنَبَذُوا
سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ .
وَالْخَامِسِ - آثَرُوا رِضَى الْمَخْلُوقِينَ فِيمَا
يَشْتَهُونَ عَلَى رِضَى خَالِقِهِمْ فِيمَا يَكْرَهُونَ .
وَالسَّادِسِ - جَعَلُوا أَدِلَّاتِ السَّلَفِ دِينًا ،
وَمَنَاقِبَ لِأَنْفُسِهِمْ .
، وَقَالَ حَاتِمٌ
الْأَصَمُّ : الْزَمْ خِدْمَةَ مَوْلَاك تَأْتِيك الدُّنْيَا رَاغِمَةً ،
وَالْجَنَّةُ رَاغِبَةً ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ دُخُولُ الْمُرِيدِ
الْخَلْوَةَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ مُتَمَكِّنٍ فِي الْعِلْمَيْنِ عِلْمِ الْحَالِ ،
وَعِلْمِ السُّنَّةِ إنْ
أَمْكَنَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَدْخُلُ بِنَفْسِهِ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالشَّيْخُ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ
أَحَدِ أَمْرَيْنِ .
إمَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ ،
وَخَرْقِ الْعَادَاتِ مَا يَمُدُّ بِهِ الْمُرِيدَ فِي خَلْوَتِهِ فَإِنْ كَانَ
كَذَلِكَ فَهُوَ الْكِبْرِيتُ الْأَحْمَرُ الَّذِي لَا يَفُوقُهُ غَيْرُهُ ،
وَالسَّلَامَةُ ، بَلْ الْغَنِيمَةُ مَوْجُودَةٌ عَلَى يَدِهِ مُتَيَسِّرَةٌ ؛
لِأَنَّهُ يَعْرِفُ مِزَاجَ الْمُرِيدِ ، وَقَدْرَ مَا يَحْمِلُ مِنْ
الْمُجَاهَدَاتِ ، وَقَدْرَ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْهَا ، وَقَدْرَ مَا يَخَافُ
عَلَيْهِ ، وَمِنْ سَعَادَةِ الْمُرِيدِ إنْ وَجَدَ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، وَإِمَّا
أَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُكَاشَفَاتِ ، وَلَا ظُهُورِ
خَرْقِ الْعَادَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ الْعِلْمُ حَاصِلًا
بِالتَّجْرِبَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَرَّبَ ذَلِكَ ، وَاطَّلَعَ عَلَى الْمَفَاسِدِ
وَالْمَصَالِحِ ، وَمَا يَلِيقُ بِالْمُرِيدِ فِي خَلْوَتِهِ ، وَمَا يَقَعُ لَهُ
مِنْ جِهَةِ الْعَادَاتِ ، وَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَنْ يَدْخُلَ بِنَفْسِهِ
خِيفَةً مِنْ مَوَاضِعِ الْعَطَبِ ، وَأَعْنِي بِدُخُولِ الْخَلْوَةِ هُنَا مَا
يَسْتَعْمِلُهُ الْمُرِيدُ مِنْ الْمُجَاهَدَاتِ ، وَأَمَّا لَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ
دُونَ مُجَاهَدَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى شَيْخٍ يُسْلِكُهُ ، بَلْ لِسَانُ الْعِلْمِ
قَائِمٌ عَلَيْهِ مَطْلُوبٌ بِهِ فِي الْخَلَاءِ ، وَالْمَلَأِ لَا فَرْقَ إذْ
ذَاكَ فِي حَقِّهِ مَعَ أَنَّهُ إذَا اتَّبَعَ لِسَانَ الْعِلْمِ فِي هَذَا
الزَّمَانِ فِي خَلْوَتِهِ وَجَلْوَتِهِ فَهُوَ وَلِيُّ وَقْتِهِ لِأَجْلِ حَالِ
الزَّمَانِ فَمَا أَسْعَدَهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ
هِيَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ
أَعْنِي تَرْكَ دُخُولِ الْخَلْوَةِ عَلَى نِظَامٍ مَعْلُومٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ ، وَفِي
الْأَسْوَاقِ يَحْتَرِفُونَ ، وَفِي الْحَوَائِطِ يَعْمَلُونَ ، وَإِنَّمَا
حَدَثَتْ الْخَلَوَاتُ عَلَى يَدِ الْمُرَبِّينَ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ رَضِيَ
اللَّهُ
عَنْهُمْ ، وَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
جَمْرَةَ ، وَسَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
يَقُولَانِ : إنَّمَا جُعِلَتْ الْخَلْوَةُ لِلْبَنَاتِ الْأَبْكَارِ ، وَإِنَّمَا
جُعِلَتْ لِلْمُرِيدِينَ لَمَّا أَنْ كَثُرَتْ الْفِتَنُ وَالْمُخَالَفَاتُ فَاحْتَاجَ
الْمُرِيدُونَ إذْ ذَاكَ إلَى الْفِرَارِ لِأَجْلِ صَلَاحِ دِينِهِمْ
وَقُلُوبِهِمْ ، وَخَوَاطِرِهِمْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ السَّبِيلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا
بِدُخُولِ الْخَلَوَاتِ وَالْفَلَوَاتِ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَدْخُلَ
الْخَلْوَةَ الْمَعْهُودَةَ عِنْدَ السَّالِكِينَ إلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ
بِمَصَالِحِهَا وَمَفَاسِدِهَا ، وَالدَّسَائِسِ الَّتِي تَطْرَأُ عَلَيْهِ فِيهَا
فَإِنْ كَانَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ فَيُشْتَرَطُ فِي الشَّيْخِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا
بِحَالِ الْمُرِيدِ ، وَمَا يَتَقَلَّبُ فِيهِ مِنْ الْأَطْوَارِ ، وَمَا يَلِيقُ
بِحَالِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ لَهُ مَرَاتِبُ عَدِيدَةٌ ، وَكَذَلِكَ
الْمُرِيدُ مِثْلُهُ ، وَأَلْخَصُ مِنْ ذَلِكَ مَا سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا
مُحَمَّدٍ يَقُولُهُ : نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْهَلَاكَ
، وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ ، وَنَظَرُ
الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ ، وَنَظَرُ
الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ التَّعَبَ لَهُ
وَلِأَتْبَاعِهِ ، وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ
الرَّاحَةَ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ
.
أَمَّا قَوْلُهُ نَظَرُ الْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى
يُوجِبُ الْهَلَاكَ .
فَمِثَالُهُ النَّظَرُ إلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا
بِعَيْنِ التَّمَنِّي وَالِاشْتِهَاءِ ، فَذَلِكَ يُوجِبُ الْحِرْصَ وَالْحَسَدَ
وَالتَّقَاطُعَ وَالتَّدَابُرَ ، وَهُوَ عَيْنُ الْهَلَاكِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى
مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا النَّظَرُ إلَى أَهْلِ الْمَعَاصِي ؛
لِأَنَّك إذَا نَظَرْت إلَيْهِمْ فَإِنْ كُنْت عَلَى مَعْصِيَةٍ فَبِالنَّظَرِ
لِمَنْ يَفْعَلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا يَهُونُ عَلَيْك مَا أَنْتَ
فِيهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ ، وَيَصْغُرُ فِي عَيْنِك
ذَنْبُك فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا إلَى الزِّيَادَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ ، وَهَذَا
هُوَ عَيْنُ الْهَلَاكِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَنَظَرُ
الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَدْنَى يُوجِبُ الْحِيرَةَ .
فَمِثَالُهُ الْمُبْتَدِي يَنْظُرُ إلَى أَهْلِ
النِّهَايَاتِ فَيُرِيدُ أَنْ يَتَشَبَّهَ بِهِمْ فِي تَعَبُّدِهِمْ
وَتَصَرُّفِهِمْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ ، وَمَنْ
تَنَاهَى فِي ذَلِكَ الشَّأْنِ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ لِذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً ،
وَإِنَّمَا هُمْ يَأْخُذُونَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَيْهِ ،
ثُمَّ يَزِيدُونَ عَلَى ذَلِكَ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ
الْعِلْمِ وَالتَّعَبُّدِ أَوْفَرُ نَصِيبٍ ، وَتُسْتَغْرَقُ أَوْقَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ
، وَهُمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِهِ ، وَلَمْ يَتْعَبُوا فِيهِ لِرِفْقِهِمْ ، وَسِيَاسَتِهِمْ
، وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي
شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ ، وَمَا كَانَ الْخَرْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ } ،
وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلِّمُوا ، وَارْفُقُوا }
اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ نَدَرَ مِنْ الْفُضَلَاءِ فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ مَرَّةً
وَاحِدَةً فَذَلِكَ مَحْمُودٌ ، وَمَا نَدَرَ لَا يُحْكَمُ بِهِ .
نَعَمْ إذَا وَقَعَ لِلْمَرْءِ هَذَا الْحَالُ فَلَا
يَنْبَغِي لَهُ التَّشَبُّثُ بِمَا قَدْ ذُكِرَ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِيمَنْ
بَقِيَ مَعَ نَفْسِهِ فَشَأْنُهُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُمْ كَيْفَ كَانَ كَسْبُهُمْ ، وَلِمَ اكْتَسَبُوهُ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ
ذَلِكَ تَحَيَّرَ فِي طَرِيقِهِ ، وَحَيَّرَ مَنْ لَاذَ بِهِ .
هَذَا هُوَ عَيْنُ الْحِيرَةِ - نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
ذَلِكَ - ، وَأَمَّا قَوْلُهُ :
وَنَظَرُ الْأَعْلَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى هُوَ
السُّمُوُّ وَالرِّفْعَةُ .
فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الْعَالِمُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ
أَعْلَمُ مِنْهُ فَيَعْمَلُ عَلَى أَنْ يَصِلَ إلَى مَا وَصَلَ إلَيْهِ
فَيَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ ، وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ يَنْظُرُ لِمَنْ هُوَ
أَصْلَحُ مِنْهُ فَيَجْتَهِدُ فِي التَّعَبُّدِ ، وَيَزِيدُ فِي عَمَلِهِ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالرِّفْقِ ، وَالسِّيَاسَةِ
حَتَّى يَلْحَقَ بِمَنْ نَظَرَ إلَيْهِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ
الشَّيْخُ إلَيْهِ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَصْلَتَانِ مَنْ
كَانَتَا فِيهِ كُتِبَ عِنْدَ اللَّهِ شَاكِرًا صَابِرًا أَنْ يَنْظُرَ فِي
الدِّينِ لِمَنْ هُوَ أَعْلَى مِنْهُ فَيَقْتَدِيَ بِهِ ، وَأَنْ يَنْظُرَ فِي الدُّنْيَا
لِمَنْ هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ فَيَحْمَدَ اللَّهَ الَّذِي فَضَّلَهُ عَلَيْهِ }
هَذَا هُوَ السُّمُوُّ ، وَالرِّفْعَةُ - اللَّهُمَّ مُنَّ عَلَيْنَا بِذَلِكَ ،
وَلَا تَجْعَلْ حَظَّنَا مِنْهُ الْكَلَامَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ - وَأَمَّا
قَوْلُهُ : وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى بِعَيْنِ الْأَعْلَى يُوجِبُ
التَّعَبَ لَهُ ، وَلِأَتْبَاعِهِ .
فَمِثَالُهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ
وَالْخَيْرِ ، وَأَقَامَهُ اللَّهُ فِي مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ أَهْلِ
النِّهَايَاتِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى اللَّهِ ، وَيَتُوبَ
يُرِيدُ مِنْ حِينِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الْمَقَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ
غَيْرِ سِيَاسَةٍ تَقَعُ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَا تَدْرِيجٍ هَذَا هُوَ
التَّعَبُ مَعَ نَفْسِهِ لَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَحْمِلَ
النَّاسَ عَلَى طَرِيقِهِ ، وَهُمْ لَا يُسَاعِدُونَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَنْ
تَبِعَهُ فِي التَّعَبِ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُمْ يُدْعَوْنَ إلَى مَقَامٍ لَا
طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى
كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السَّبْقِ ، وَالْخَيْرِ اقْتَصَرَ خَيْرُهُمْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ ، وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِمْ مَنْ لَاذَ بِهِمْ ، وَبِخِدْمَتِهِمْ
أَعْنِي فِي الِاقْتِدَاءِ .
وَأَمَّا الْبَرَكَةُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِهَا غَالِبًا
لِلْحَدِيثِ الْوَارِدِ { هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ } -
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَحْرِمَنَا مِنْ بَرَكَاتِهِمْ بِمَنِّهِ - وَأَمَّا
قَوْلُهُ : وَنَظَرُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى مِنْ جِنْسِهِ يُوجِبُ الرَّاحَةَ
لَهُ ، وَلِأَتْبَاعِهِ .
فَمِثَالُهُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الْمُتَمَكِّنُ فِي
طَرِيقِهِ إذَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يُرِيدُ التَّوْبَةَ ، وَالرُّجُوعَ
أَخَذَهُ بِاللُّطْفِ ،
وَالرَّحْمَةِ ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ، وَسَاسَ
بِرَأْيِهِ السَّدِيدِ ، وَتَدْبِيرِهِ الرَّشِيدِ فَيَنْظُرُ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ
عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ مَا يُصْلِحُهُ ، وَمَا هُوَ الْعَوْنُ لَهُ عَلَى مَا
أَرَادَ ، ثُمَّ يُرَقِّيهِ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى قَدْ يَبْلُغَ
فِي أَقَلِّ زَمَانٍ إلَى الْمَرْتَبَةِ الْعُلْيَا بِحُسْنِ تَدْبِيرِ هَذَا السَّيِّدِ
وَسِيَاسَتِهِ إيَّاهُ .
وَصَاحِبُ هَذَا الْحَالِ هُوَ أَعْظَمُ مَنْ تَقَدَّمَ
وَأَفْضَلُهُمْ ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى السُّنَّةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ ،
وَجَلَّ لَمْ يُنْزِلْ الْفُرُوضَ أَوَّلًا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَا أَمَرَ
بِالْقِتَالِ أَوَّلًا ، وَإِنَّمَا أَمَرَ أَوَّلًا بِالتَّوْحِيدِ لَا غَيْرٍ ،
وَأَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِسِيَاسَةِ النَّاسِ
، وَاللُّطْفِ بِهِمْ فَقَالَ تَعَالَى { : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ
مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } ، ثُمَّ لَمَّا أَنْ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقِتَالِ
ثُمَّ لَمَّا أَنْ كَثُرَ الْمُؤْمِنُونَ ، وَظَهَرَتْ الْكَلِمَةُ نَزَلَتْ
الْفُرُوضُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَلَمَّا أَنْ تَقَرَّرَ لَهُمْ الدِّينُ ،
وَتَقَوَّى أَهْلُ الْإِسْلَامِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ
بِالْجِهَادِ بِاللِّسَانِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { : اُدْعُ إلَى
سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ
بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .
فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّى الْأَمْرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِقِتَالِ الْأَقْرَبِينَ مِنْ الْكُفَّارِ فَقَالَ تَعَالَى
{ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ
الْكُفَّارِ } فَلَمَّا أَنْ تَقَوَّى الْأَمْرُ ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ بِالْقِتَالِ مُطْلَقًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ
كَافَّةً } ، ثُمَّ إنَّ الْفُرُوضَ لَمْ تَتِمَّ إلَّا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
قَالَ تَعَالَى فِيهَا { : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْعَالِمُ بِعِبَادِهِ ، وَبِمَا يُصْلِحُهُمْ فَلَوْ كَانَ أَمْرُهُمْ ،
وَمُخَاطَبَتُهُمْ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ ، وَبِجُمْلَةِ الْفُرُوضِ فِيهِ
مَصْلَحَةٌ ، وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ لَأَمَرَ بِذَلِكَ أَوَّلًا { : أَلَا يَعْلَمُ
مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ، وَصَاحِبُ الْحَالِ الَّذِي أَشَارَ
الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَيْهِ أَخِيرًا مَضَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ
فَانْتَفَعَ بِنَفْسِهِ ، وَاسْتَرَاحَ ، وَانْتَفَعَ النَّاسُ بِهِ ، وَوَجَدُوا الرَّاحَةَ
فِي ذَلِكَ عَلَى يَدَيْهِ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ ،
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : خَاطِبُوا النَّاسَ عَلَى قَدْرِ
عُقُولِهِمْ } فَلَيْسَ مَنْ دَخَلَ فِي التَّعَبُّدِ ، وَتَمَرَّنَ فِيهِ ،
وَكَثُرَتْ الْمُجَاهَدَةُ لَدَيْهِ كَمَنْ ابْتَدَأَ الدُّخُولَ ، وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي السَّوْدَاءِ حِينَ
سَأَلَهَا : أَيْنَ اللَّهُ ؟ فَقَالَتْ : فِي السَّمَاءِ .
فَقَالَ لِصَاحِبِهَا : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ
فَقَنَعَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْهَا بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّ
اللَّهَ وَاحِدٌ مَوْجُودٌ ، وَذَلِكَ يَنْفِي مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ مِنْ
أَنَّ الْأَصْنَامَ هِيَ الْآلِهَةُ فِي الْأَرْضِ فَإِلَهُ السَّمَاءِ ، وَإِلَهُ
الْأَرْضِ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الْمَوْجُودُ لَا أَنَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَلَّ فِي السَّمَاءِ تَعَالَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ
ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا إذْ إنَّ السَّمَاءَ مَخْلُوقَةٌ لَهُ ، وَلَا يَحِلُّ
الصَّانِعُ فِي صَنْعَتِهِ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبْلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي
كَانَتْ هِجْرَتُهُ قَدِيمَةً ، وَتَمَكَّنَ مِنْ الْعِلْمِ ، وَمِنْ فِعْلِ
الْخَيْرِ حِينَ سَأَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَيْفَ أَصْبَحْت ؟
فَقَالَ مُعَاذٌ : أَصْبَحْت مُؤْمِنًا حَقًّا فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِك ؟ فَلَمْ يَكْتَفِ
مِنْ مُعَاذٍ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ حَقِيقَةِ إيمَانِهِ ، وَقَنَعَ
مِنْ السَّوْدَاءِ بِمَا قَدْ ذَكَرَتْ
لِأَجْلِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْعِلْمِ ، وَأَنْوَاعِ
التَّعَبُّدِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
: ( فَصْلٌ
) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ فِي
زَمَانِهِ أَوْ بَلَدِهِ مَشَايِخُ يَرْجُو بَرَكَتَهُمْ ، وَهُوَ بَعْدُ لَمْ يَسْكُنْ
إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى حَالِهِ بَعْدَ
انْفِصَالِهِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَمَنْ حَصَلَ لَهُ بِالِاجْتِمَاعِ
بِهِ مِنْهُمْ عِلْمٌ أَوْ إنَابَةٌ أَوْ رُجُوعٌ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ ،
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْعَوْدَةِ إذْ إنَّ
خُطَاهُ تَبْقَى لِغَيْرِ فَائِدَةٍ
.
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَعِيبُ هَذَا ،
وَيَقُولُ : لَا يَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَتَرَدَّدَ إلَّا لِمَوْضِعٍ
تَحْصُلُ لَهُ فِيهِ فَائِدَةٌ أَوْ فَوَائِدُ ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَ بَهِيمَةِ
السَّانِيَةِ لَا تَزَالُ تَمْشِي طُولَ يَوْمِهَا ، وَهِيَ لَمْ تَبْرَحْ مِنْ مَوْضِعِهَا
ذَلِكَ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسِيءَ الظَّنَّ بِمَنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ مِنْهُ
شَيْءٌ إذْ إنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لِوَجْهَيْنِ : الْأَوَّلِ - أَنْ يَكُونَ الْمَزُورُ
مِنْ الْأَكَابِرِ ، وَالْفُضَلَاءِ لَكِنَّ أَصْحَابَهُ مَعْلُومُونَ
مَعْرُوفُونَ فَخَيْرُهُ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ لَا يَتَعَدَّاهُمْ فَإِذَا لَمْ
يَجِدْ الْمُرِيدُ زِيَادَةً عِنْدَ زِيَارَتِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ
عِنْدَهُ نَصِيبٌ فَتَرْكُ ذَلِكَ بِهِ أَوْلَى ، وَقَدْ يَكُونُ آخِرُ خَيْرِهِ
مَقْصُورًا عَلَى نَفْسِهِ لَا يَتَعَدَّى لِغَيْرِهِ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ
الْمُرِيدُ مِنْ أَهْلِ التَّمْيِيزِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَإِنْ كَانَ
كَذَلِكَ فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ الدَّرَجَةِ
فَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى رُؤْيَتِهِمْ وَاغْتِنَامُ بَرَكَتِهِمْ بِهِ أَوْلَى مَا
لَمْ يُعَارِضْهُ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ مِنْ ارْتِكَابِ بِدْعَةٍ أَوْ رُؤْيَتِهَا
أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ أَوْ يَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ بِطَالَةُ
أَوْقَاتِهِ عَمَّا هُوَ بِصَدَدِهِ ، وَيَكْفِيهِ مِنْ ذَلِكَ زِيَارَتُهُمْ فِي وَقْتٍ
دُونَ وَقْتٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي زِيَارَةِ طَالِبِ الْعِلْمِ لَهُمْ ،
وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى لَا تَنْضَبِطُ ،
وَالْقَلِيلُ النَّادِرُ مِنْهُمْ مَنْ
يَكُونُ خَيْرُهُ عَامًّا لِسَائِرِ النَّاسِ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْمُرِيدَ لَهُ
اتِّسَاعٌ فِي حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ ، وَفِي ارْتِبَاطِهِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ
يُعَوِّلُ عَلَيْهِ فِي أُمُورِهِ ، وَيَحْذَرُ مِنْ تَقَضِّي أَوْقَاتِهِ
لِغَيْرِ فَائِدَةٍ .
قَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ رَحِمَهُ اللَّهُ عُمْرُك
نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ أَنْ يَكُونَ لَك لَا عَلَيْك ؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ
فِيمَا مَضَى هُوَ بَابُ نَدْبِ الْأَطْلَالِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالْفِكْرُ
فِيمَا يَأْتِي ادِّعَاءُ النُّفُوسِ تَحْصِيلَ الْأَعْمَالِ ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ
مَا يَبْرُزُ مِنْ الْعِلْمِ الْمَكْنُونِ ، وَالتَّقْدِيرَاتِ الْمُغَيَّبَاتِ
عَنَّا ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ
: ( فَصْلٌ
) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ
النَّاسِ نَظَرًا إلَى نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَإِلَى لُطْفِهِ بِهِ
، وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {
: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي
لَشَدِيدٌ } بَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُرِيدَ يُصْبِحُ عَلَيْهِ الصَّبَاحُ فَيَنْهَضُ
إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي وَقْتِهَا فِي جَمَاعَةٍ ، وَيَذْكُرُ مَا قُدِّرَ
لَهُ ، ثُمَّ يَجْلِسُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ عِلْمٍ فَيَفْهَمُ بَعْضَهُ
أَوْ كُلَّهُ ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَنْ يَعْتَقِدُهُ فَيَتَكَلَّمُ مَعَهُ فِي
مَسَائِلَ مِنْ الْخَيْرِ ، ثُمَّ يُصَلِّي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي جَمَاعَةٍ
، وَإِنْ فُتِحَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوْرَادِ اللَّيْلِ أَوْ أَوْرَادِ
الصَّوْمِ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ فَإِنْ قَيَّدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِالشُّكْرِ
زَادَتْ أَوْ تَمَادَتْ ، وَإِنْ رَأَى ، وَهُوَ الْغَالِبُ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ
لَا شَيْءَ ، وَأَنَّهُ لَمْ يُفْتَحْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَهَذَا يُخَافُ عَلَيْهِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } ،
وَالْكُفْرُ عَامٌّ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فِي أَمْرِ النِّسَاءِ { : إنَّهُنَّ أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ قِيلَ : بِمَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ : أَيَكْفُرْنَ بِاَللَّهِ ؟ قَالَ
: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ } ، وَقَدْ بَوَّبَ
الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : بَابُ كُفْرٍ دُونَ
كُفْرٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْفُلُ عَنْ هَذِهِ النِّعَمِ فَلَا يُقَيِّدُهَا
بِالشُّكْرِ كَمَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِ أَنَّهُ يَسْتَقِلُّهَا فَتَذْهَبُ عَنْهُ
فَلْيَحْذَرْ مِنْ هَذَا كُلِّهِ جَهْدَهُ ، وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ قَوْلَ
مَنْ قَالَ : إنَّ الصِّدِّيقِينَ لَا يَكُونُونَ فِي يَوْمِهِمْ عَلَى مَا كَانَ
عَلَيْهِ حَالُهُمْ بِالْأَمْسِ ، بَلْ يَزْدَادُونَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي -
تَرَقِّيًا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : كُلُّ
يَوْمٍ لَا أَتَّخِذُ فِيهِ بِرًّا أَوْ قَالَتْ : لَا أَزْدَادُ فِيهِ عِلْمًا
لَا
بُورِكَ لِي فِي طُلُوعِ شَمْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ؛
لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا جَاءَهُ الْيَوْمُ الثَّانِي فَلَا بُدَّ لَهُ فِيهِ
مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، وَتَوَابِعِهَا ، وَمَا يَتَلَقَّاهُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ
، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ ، وَالتَّحْذِيرِ فَيَتَّبِعُ ذَلِكَ ،
وَيَعْمَلُ عَلَى خَلَاصِ مُهْجَتِهِ فِي يَوْمِهِ ، وَذَلِكَ تَرَقٍّ لَا شَكَّ
فِيهِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
مُوَطَّئِهِ { : إنَّ أَخَوَيْنِ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ بِأَرْبَعِينَ
يَوْمًا فَأَثْنَى الصَّحَابَةُ عَلَى الْأَوَّلِ فَسَأَلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عَنْ الثَّانِي - فَقَالُوا : لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَمَا يُدْرِيكُمْ مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ إنَّمَا مَثَلُ
الصَّلَاةِ كَمَثَلِ نَهْرٍ غَمْرٍ عَذْبٍ بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَقْتَحِمُ فِيهِ
كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَهَلْ تَرَوْنَ ذَلِكَ يُبْقِي مِنْ دَرَنِهِ شَيْئًا
قَالُوا : لَا ، فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا يُدْرِيكُمْ
مَا بَلَغَتْ بِهِ صَلَاتُهُ } ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ إنَّ الدَّوَامَ
عَلَى الْحَالِ زِيَادَةٌ فِيهِ فَإِذَا أَصْبَحَ الْمُرِيدُ ، وَامْتَثَلَ مَا
كَلَّفَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي حَقِّهِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى حِينِ أَجَلِهِ
فَحِينَئِذٍ تُطْوَى صَحِيفَةُ عَمَلِهِ فَلَا زِيَادَةَ بَعْدَهَا فَإِنْ حَصَلَ
لِلْمُرِيدِ زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَبَخٍ عَلَى بَخٍ ، وَإِلَّا
فَالطَّرِيقُ حَاصِلٌ لَهُ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكْفُرَ
هَذِهِ النِّعَمَ بِتَرْكِ النَّظَرِ إلَى مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِهَا ، وَأَحْسَنَ
إلَيْهِ فِيهَا
: ( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ
عَارِفًا بِالْخَوَاطِرِ حَسَنِهَا ، وَسَيِّئِهَا فَإِمَّا أَنْ يُمَيِّزَ ذَلِكَ
بِنَفْسِهِ أَوْ يَكُونَ عَلَى يَدِ شَيْخٍ عَارِفٍ بِهَا إذْ إنَّ الْخَوَاطِرَ ،
وَالْهَوَاجِسَ ، وَالْهَوَاتِفَ لَا تَنْحَصِرُ أَعْدَادُهَا ، وَلَا يُمْكِنُ
حَصْرُهَا لِكَثْرَتِهَا ، وَتَشَعُّبِهَا فَأَشْكَلَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مَا
يَقَعُ مِنْهَا ، وَتَلَبَّسَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَإِنْ وَقَفَ مَعَ مَا يَقَعُ لَهُ
مِنْ ذَلِكَ قَلَّ أَنْ يَتَخَلَّصَ وَيَذْهَبَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ زَمَانِهِ
بِغَيْرِ عَمَلٍ ؛ لِأَنَّ اللَّعِينَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُرِيدِ مِنْ
جِهَةِ التَّرْكِ أَتَاهُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ لَا تَنْحَصِرُ فَإِذَا كَانَ
مُمَيِّزًا لِلْخَوَاطِرِ ، وَغَيْرِهَا انْسَدَّتْ هَذِهِ الثُّلْمَةُ الْكُبْرَى .
وَالْخَوَاطِرُ أَرْبَعَةٌ : رَبَّانِيٌّ ، وَمَلَكِيٌّ
، وَنَفْسَانِيٌّ ، وَشَيْطَانِيٌّ
.
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ : الرَّبَّانِيُّ أَوَّلُهَا ، وَهُوَ مِثْلُ لَمْحَةِ الْبَرْقِ لَا يَثْبُتُ
، وَالنَّفْسَانِيُّ يَعْقُبُهُ مِثْلُ الْمُصَلِّي مَعَ السَّابِقِ فَمَا يَمُرُّ
ذَاكَ إلَّا وَقَدْ اسْتَقَرَّ هَذَا فِي مَحَلِّهِ وَحَدَّثَ وَسَوَّلَ وَشَهَّى
، وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْخُلْفُ عِنْدَ بَعْضِ مَنْ يُنْسَبُ إلَى
شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِسُرْعَةِ مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فَيُخْبِرُونَ بِأَشْيَاءَ قَلَّ أَنْ تَقَعَ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ
وَقَعَتْ فَبِالْمُصَادَفَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِهِمْ ،
وَأَمَّا الْمُحَقِّقُونَ الْمُمَيِّزُونَ لِلْخَاطِرِ الْأَوَّلِ فَقَلَّ أَنْ
يُخْبِرُوا بِشَيْءٍ إلَّا وَيَقَعُ كَمَا أَخْبَرُوا بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ قَالَ تَعَالَى { : وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } ، وَهَذِهِ الْخَوَاطِرُ لَيْسَتْ خَاصَّةً
بِالشُّيُوخِ وَالْمُرِيدِينَ ، بَلْ هِيَ مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ
لَكِنَّ التَّمْيِيزَ يَخْتَصُّ بِهِ مَنْ يَخْتَصُّ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَمَنْ
تَحَقَّقَ بِهَذِهِ الْخَوَاطِرِ فَلَا بُدَّ لَهَا أَنْ
يَزِنَهَا عَلَى لِسَانِ الْعِلْمِ فَمَا وَافَقَ
أَمْضَاهُ ، وَإِلَّا تَرَكَهُ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَا يَقَعُ إلَّا مِنْ
جِهَةِ الشَّرْعِ الْمَنْقُولِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إلَّا
عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ وَالتَّأْنِيسِ ، وَأَمَّا الْخَاطِرُ الْمَلَكِيُّ
فَهُوَ كُلُّ خَاطِرٍ يَأْمُرُ بِطَاعَةٍ أَوْ خَيْرٍ مَا إذَا كَانَ سَالِمًا
مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي أَوْ يُتَوَقَّعُ مَعَهُ تَرْكٌ أَوْ
بِطَالَةُ وَقْتٍ فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ الْمَلَكِيِّ فِي شَيْءٍ .
وَأَمَّا الْخَاطِرُ الرَّابِعُ - وَهُوَ أَرْذَلُهَا ،
وَهُوَ الْخَاطِرُ الشَّيْطَانِيُّ فَهُوَ لَا يَأْمُرُ بِخَيْرٍ أَصْلًا إلَّا
أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخَيْرُ يُؤَدِّي إلَى الشَّرِّ ، وَيَقَعُ الْفَرْقُ
بَيْنَ الْخَاطِرِ النَّفْسَانِيِّ وَالشَّيْطَانِيِّ بِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُرِيدُ
إلَّا الْوُقُوعَ فِي الْمُخَالَفَةِ كَيْفَ كَانَتْ ، وَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ تَرَكَهَا ، وَأَتَى إلَى مَعْصِيَةٍ
أُخْرَى فَهُوَ يَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ إذْ مَقْصُودُهُ إنَّمَا هُوَ
الْمُخَالَفَةُ مِنْ حَيْثُ هِيَ كَائِنَةً مَا كَانَتْ ، وَالْخَاطِرُ
النَّفْسَانِيُّ هُوَ الَّذِي يَلْزَمُ أَمْرًا وَاحِدًا لَا يُفَارِقُهُ فَإِنْ
أَنْتَ رَدَدْتَهُ عَلَيْهِ أَلَحَّ بِهِ عَلَيْك ، وَقَالَ : لَا بُدَّ مِنْ
وُقُوعِهِ ، وَيُمَنِّيك بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ بَعْدَهُ ، وَيَعِدُك
بِالْغُرُورِ ، وَأَنَّك إذَا نِلْت مَا أَلْقَتْهُ إلَيْك تَفْعَلُ أَنْتَ مَا
تُحِبُّ أَنْ تُوقِعَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ فَيَحْتَاجُ الْمُرِيدُ إلَى
التَّشْمِيرِ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ حِينَ نُزُولِهَا بِهِ ، وَمَا يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِهَا ، وَلَمْ
يَكُنْ تَحْتَ نَظَرِ شَيْخٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأُمُورِ
عَلَيْهِ فَيَأْخُذُ مَعَهُ فِيهَا ، وَإِلَّا فَلِسَانُ الْعِلْمِ عَلَيْهِ
قَائِمٌ ، وَهُوَ الْمَرْجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ ، وَهُوَ طَرِيقُ
السَّلَامَةِ الَّتِي لَا شَكَّ فِيهَا ، وَالْعَطَبُ فِي غَيْرِهَا مَوْجُودٌ
غَالِبًا إلَّا لِمَنْ عَرَفَ الْحُكْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ،
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ :
جَامِعٌ لِبَعْضِ آدَابِ السُّلُوكِ ، وَلِبَعْضِ
الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَمَعَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ
الْخَلَوَاتِ إذْ إنَّهُ بِسَبَبِهَا يُدْرِكُ الْمُكَلَّفُ مَا هُوَ فِيهِ مِنْ
الْخَطَرِ ، وَمِنْ النِّعَمِ ، وَمِنْ تُحَفِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
، وَيَتَبَيَّنُ لَهُ بِهَا أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِمَّا مَضَى عَلَيْهِ سَلَفُهُ .
أَلَا تَرَى إلَى بَرَكَةِ هَذِهِ الْحِكَمِ الَّتِي يُنْطِقُهُمْ
اللَّهُ بِهَا ؟ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي قُوَّتِهِمْ ، وَلَا مِنْ
قُدْرَتِهِمْ إلَّا بِبَرَكَةِ تَوَجُّهِهِمْ ، وَإِقْبَالِ الْمَوْلَى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِمْ ، وَأَعْظَمُ مَا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إلَى
هَذَا الْمَعْنَى الْتِزَامُ الْخَلَوَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَانْظُرْ - رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ - إلَى مَا نَقَلَهُ
الْإِمَام الْحَافِظُ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْأَصْفَهَانِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ لَهُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ ، وَنَفَعَ بِهِ ، وَأَعَادَ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ أَنَّهُ قَالَ :
قَدْ رَضِيت مِنْ أَحَدِكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ عَلَى دِينِهِ كَمَا يَتَّقِي عَلَى
دُنْيَاهُ ، وَقَالَ : شَيْئَانِ هُمَا خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إذَا عَمِلْت
بِهِمَا أَتَكَفَّلُ لَك بِالْجَنَّةِ ، وَلَا أُطَوِّلُ عَلَيْك قِيلَ : وَمَا هُمَا
؟ قَالَ : تَحْمِلُ مَا تَكْرَهُ إذَا أَحَبَّهُ اللَّهُ ، وَتَتْرُكُ مَا تُحِبُّ
إذَا كَرِهَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَيْضًا : قَاتِلْ هَوَاك أَشَدَّ مَا تُقَاتِلُ
عَدُوَّك ، وَقَالَ رَجُلٌ لَهُ : إنَّك مُشَدِّدٌ فَقَالَ : مَا لِي لَا أُشَدِّدُ
، وَقَدْ صَدَّنِي أَرْبَعَةَ عَشَرَ عَدُوًّا أَمَّا أَرْبَعَةٌ فَشَيْطَانٌ
يَفْتِنُنِي ، وَمُؤْمِنٌ يَحْسُدُنِي ، وَكَافِرٌ يُقَاتِلُنِي ، وَمُنَافِقٌ
يَبْغُضُنِي ، وَأَمَّا الْعَشَرَةُ فَالْجُوعُ ، وَالْعَطَشُ ، وَالْعُرْيُ ،
وَالْحَرُّ ، وَالْبَرْدُ ، وَالْهَرَمُ ، وَالْمَرَضُ ، وَالْفَقْرُ ،
وَالْمَوْتُ ، وَالنَّارُ ، وَلَا أُطِيقُهُنَّ إلَّا بِسِلَاحٍ ، وَلَا أَجِدُ
لَهُنَّ سِلَاحًا أَقْوَى مِنْ التَّقْوَى ، وَقِيلَ لَهُ : مَا مَالُكَ ؟ فَقَالَ :
ثِقَتِي بِاَللَّهِ ، وَإِيَاسِي مِمَّا فِي أَيْدِي
النَّاسِ ، وَقَالَ : مَا رَأَيْت يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ أَشْبَهَ بِشَكٍّ لَا
يَقِينَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ تَحْنُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ : يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ
حِفْظًا لِلِسَانِهِ مِنْهُ لِمَوْضِعِ قَدَمَيْهِ ، وَقَالَ : أَفْضَلُ خَصْلَةٍ
تُرْجَى لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ ،
وَأَرْجَاهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إنْ لَمْ يَكُنْ فِي
الْمُبْتَدِي خَمْسُ خِصَالٍ ، وَإِلَّا فَلَا تَرْجُهُ : عَقْلٌ حَسَنٌ ،
وَاتِّبَاعٌ لِلسُّنَّةِ ، وَصُحْبَةُ الْأَكَابِرِ ، وَمِنْ أَيْنَ يَأْكُلُ ،
وَحِفْظُ لِسَانِهِ ، وَصِيَانَتُهُ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ
السَّلَفِ أَيْضًا ، وَقَدْ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : إذَا رَأَيْت الْعَالِمَ لَا يَتَوَرَّعُ
فِي عِلْمِهِ فَلَيْسَ لَك أَنْ تَأْخُذَ عَنْهُ شَيْئًا ، وَكَانَ يَقُولُ :
وَضَعُوا مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا عَلَى الدُّنْيَا فَلَمْ تَنْفَتِحْ ، وَوَضَعُوا
عَلَيْهَا مَفَاتِيحَ الْآخِرَةِ فَانْفَتَحَتْ .
وَقَالَ رَجُلٌ لِلْجُنَيْدِ : مَنْ أَصْحَبُ ؟ قَالَ :
مَنْ تَقْدِرُ أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ مِنْك ، وَسُئِلَ
مَرَّةً أُخْرَى مَنْ أَصْحَبُ ؟ قَالَ : مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَنْسَى مَا لَهُ ،
وَيَقْضِي مَا عَلَيْهِ ، وَقَالَ : قَدْ مَشَى رِجَالٌ بِالْيَقِينِ عَلَى
الْمَاءِ ، وَمَاتَ عَلَى الْعَطَشِ أَفْضَلُ مِنْهُمْ يَقِينًا ، وَقَالَ : مَنْ عَرَفَ
اللَّهَ لَا يُسَرُّ إلَّا بِهِ ، وَقَالَ : لَوْ أَقْبَلَ صَادِقٌ عَلَى اللَّهِ
أَلْفَ أَلْفَ سَنَةٍ ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً كَانَ مَا فَاتَهُ
أَكْثَرَ مِمَّا نَالَهُ ، وَقَالَ : مَنْ نَظَرَ إلَى وَلِيٍّ مِنْ أَوْلِيَاءِ
اللَّهِ بِقَلْبِهِ ، وَأَكْرَمَهُ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ .
وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
مِنْ عَلَامَاتِ الْمُحِبِّ لِلَّهِ مُتَابَعَتُهُ حَبِيبَ اللَّهِ فِي أَخْلَاقِهِ
، وَأَفْعَالِهِ ، وَأَوَامِرِهِ ، وَسُنَّتِهِ ، وَقَالَ : مَنْ نَظَرَ إلَى
سُلْطَانِ اللَّهِ ذَهَبَ سُلْطَانُ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ كُلَّهَا فَقِيرَةٌ
عِنْدَ هَيْبَتِهِ ، وَقَالَ رُوَيْمٌ : لَا تَزَالُ
الصُّوفِيَّةُ بِخَيْرٍ مَا تَنَافَرُوا فَإِذَا
اصْطَلَحُوا هَلَكُوا ، وَقَالَ ابْنُ حُنَيْفٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قُلْت لِرُوَيْمٍ
: أَوْصِنِي فَقَالَ : أَقَلُّ مَا فِي هَذَا الْأَمْرِ بَذْلُ الرُّوحِ فَإِنْ
أَمْكَنَك الدُّخُولُ فِيهِ مَعَ هَذَا ، وَإِلَّا فَلَا تَشْتَغِلْ بِتُرَّهَاتِ
الصُّوفِيَّةِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ لُقْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
كَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ نَوْبِيًّا ، وَكَانَ لِبَنِي فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُ : مَا
بَلَغَ بِك مَا نَرَى فَقَالَ : تَقْوَى اللَّهِ ، وَطُولُ الصَّمْتِ ، وَتَرْكُ
مَا لَا يَعْنِينِي .
وَمِنْ كِتَابِ سُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ
لِلْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَرُوِيَ عَنْ
أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا ثَلَاثٌ مَا أَحْبَبْت أَنْ أَعِيشَ
يَوْمًا : الظَّمَأُ لِلَّهِ بِالْهَوَاجِرِ ، وَالسُّجُودُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ
، وَمُجَالَسَةُ أَقْوَامٍ يَنْتَقُونَ خِيَارَ الْكَلَامِ كَمَا تُنْتَقَى
أَطَايِبُ الثَّمَرِ .
وَرُوِيَ عَنْ بِلَالِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ :
زَاهِدُكُمْ رَاغِبٌ ، وَمُجْتَهِدُكُمْ مُقَصِّرٌ ، وَعَالِمُكُمْ جَاهِلٌ ،
وَجَاهِلُكُمْ مُغْتَرٌّ ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : جَاهِدْ نَفْسَك
بِأَصْنَافِ الرِّيَاضَةِ ، وَالرِّيَاضَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْقُوتِ
مِنْ الطَّعَامِ ، وَالْغَمْضِ مِنْ الْمَنَامِ ، وَالْحَاجَةِ مِنْ الْكَلَامِ ، وَحَمْلِ
الْأَذَى مِنْ جَمِيعِ الْأَنَامِ ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ مَوْتُ
الشَّهَوَاتِ ، وَمِنْ قِلَّةِ الْمَنَامِ صَفْوُ الْإِرَادَاتِ ، وَمِنْ قِلَّةِ
الْكَلَامِ السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ ، وَمِنْ احْتِمَالِ الْأَذَى الْبُلُوغُ
إلَى الْغَايَاتِ فَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ شَيْءٌ أَشَدَّ مِنْ الْحِلْمِ عِنْدَ
الْجَفَاءِ ، وَالصَّبْرِ عِنْدَ الْأَذَى .
، وَقَالَ
عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : طُوبَى لِمَنْ خَزَنَ لِسَانَهُ ،
وَوَسِعَهُ بَيْتُهُ ، وَبَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ ، وَقَالَ الْفَرَبْرِيُّ
اجْتَمَعَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ عَلَى بَابِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فَاطَّلَعَ
عَلَيْهِمْ مِنْ كُوَّةٍ ، وَهُوَ يَبْكِي ، وَلِحْيَتُهُ تَرْجُفُ فَقَالَ :
عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ عَلَيْكُمْ
بِالصَّلَاةِ ، وَيْحَكُمْ لَيْسَ هَذَا زَمَانَ حَدِيثٍ
إنَّمَا هُوَ زَمَانُ بُكَاءٍ وَتَضَرُّعٍ وَاسْتِكَانَةٍ وَدُعَاءٍ كَدُعَاءِ
الْغَرِيقِ إنَّمَا هَذَا زَمَانٌ احْفَظْ فِيهِ لِسَانَك ، وَاخْفِ مَكَانَك ،
وَعَالِجْ قَلْبَك ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ .
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَنْ أَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى تَسِيلَ
دُمُوعِي عَلَى خَدِّي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ
، وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ فَقَدَ زَكَرِيَّا ابْنَهُ يَحْيَى عَلَيْهِمَا
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَوَجَدَهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ مُضْطَجِعًا عَلَى قَبْرٍ ،
وَهُوَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ : مَا هَذَا يَا بُنَيَّ ؟ فَقَالَ : أَخْبَرْتنِي
أَنَّ جِبْرِيلَ أَخْبَرَك أَنَّ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَفَازَةً لَا يُطْفِئُ
حَرَّهَا إلَّا الدُّمُوعُ فَقَالَ : ابْكِ يَا بُنَيَّ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا لَأَنْ أَدْمَعَ دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ
.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ : إنَّ لِلذُّنُوبِ
ضَعْفًا فِي الْقُوَّةِ ، وَظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ وَإِنَّ لِلْحَسَنَاتِ قُوَّةً
فِي الْبَدَنِ ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ .
وَقِيلَ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
لَوْ دَعَوْت اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ : تَرْكُ الذُّنُوبِ هُوَ الدُّعَاءُ
، وَأَنْشَدُوا خُلِقْت مِنْ التُّرَابِ فَصِرْت حَيًّا ، وَعُلِّمْت الْفَصِيحَ
مِنْ الْخِطَابِ وَعُدْت إلَى التُّرَابِ فَظَلْت فِيهِ كَأَنِّي مَا بَرِحْت مِنْ
التُّرَابِ خُلِقْت مِنْ التُّرَابِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ، وَأَرْجِعُ بِالذُّنُوبِ
إلَى التُّرَابِ ، وَلَقِيَ حَكِيمٌ حَكِيمًا فَقَالَ لَهُ : إنِّي لَأُحِبُّك فِي اللَّهِ فَقَالَ
: لَوْ عَلِمْت مِنِّي مَا أَعْلَمُ مِنْ نَفْسِي لَأَبْغَضْتنِي فِي اللَّهِ ،
فَقَالَ لَهُ الْأَوَّلُ - لَوْ أَعْلَمُ مِنْك مَا تَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِك
لَكَانَ لِي فِيمَا أَعْلَمُهُ مِنْ نَفْسِي شُغْلٌ عَنْ بُغْضِك ، وَكَانَ
الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَمَ إذَا قِيلَ لَهُ : كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ قَالَ :
أَصْبَحْنَا ضَعْفَى مُذْنِبِينَ نَأْكُلُ
أَرْزَاقَنَا ، وَنَنْتَظِرُ آجَالَنَا ، وَقِيلَ :
لِلْمُغِيرَةِ كَيْفَ أَصْبَحْت يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ؟ فَقَالَ : أَصْبَحْنَا
مُعْتَرِفِينَ بِالنِّعَمِ مُقِرِّينَ بِالذُّنُوبِ يَتَحَبَّبُ إلَيْنَا رَبُّنَا
، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنَّا ، وَنَتَبَاغَضُ إلَيْهِ ، وَنَحْنُ إلَيْهِ فُقَرَاءُ ،
وَقَدْ قِيلَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : مِنْ
أَيْنَ عَيْشُك فَقَالَ : نُرَقِّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا فَلَا دِينُنَا
يَبْقَى وَلَا مَا نُرَقِّعُ وَقِيلَ : لِمُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ فَقَالَ : أَصْبَحْت طَوِيلًا أَمَلِي قَصِيرًا أَجَلِي
سَيِّئًا عَمَلِي .
كَلَامُ الْبَاجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمِنْ كِتَابِ
سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا ، وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ
سَمِعْت مَنْصُورًا يَقُولُ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ قَالَ : إنِّي جَاعِلٌ
لِبَصَرِك طَبَقًا فَإِذَا عَرَضَ لَك أَمْرٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْظُرَ
إلَيْهِ فَأَطْبِقْهُ ، وَإِنِّي جَاعِلٌ لِفِيك طَبَقًا فَإِذَا عَرَضَ لَك
أَمْرٌ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْطِقَ بِهِ فَأَطْبِقْهُ ، وَإِنِّي جَاعِلٌ
لِفَرْجِك سِتْرًا فَلَا تَكْشِفْهُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَك ، وَقَدْ قَالَ
بَعْضُهُمْ : الْأَصْحَابُ ثَلَاثَةٌ صَاحِبُك ، وَصَاحِبُ صَاحِبِك ، وَعَدُوُّ عَدُوِّك
، وَالْأَعْدَاءُ ثَلَاثَةٌ ، عَدُوُّك ، وَعَدُوُّ صَاحِبِك ، وَصَاحِبُ عَدُوِّك .
وَمِنْ كِتَابِ الْبَاجِيِّ أَيْضًا رَحِمَهُ اللَّهُ
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا يُدْخِلُ اللَّهُ
الْجَنَّةَ مَنْ يَرْجُوهَا ، وَإِنَّمَا يُجَنِّبُ اللَّهُ النَّارَ مَنْ
يَخْشَاهَا ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ يَرْحَمُ ، وَقَالَ لُقْمَانُ
لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ خَفْ اللَّهَ خَوْفًا لَا تَيْأَسْ فِيهِ مِنْ رَحْمَتِهِ
، وَارْجُهُ رَجَاءً لَا تَأْمَنْ فِيهِ مِنْ عِقَابِهِ فَقَالَ : يَا أَبَتَاهُ ،
وَكَيْفَ ، وَإِنَّمَا لِي قَلْبٌ وَاحِدٌ فَقَالَ يَا بُنَيَّ : إنَّ الْمُؤْمِنَ
لَوْ شُقَّ قَلْبُهُ لَوُجِدَ فِيهِ نُورُ رَجَاءٍ ، وَنُورُ خَوْفٍ لَوْ وُزِنَا
لَمْ يَمِلْ أَحَدُهُمَا بِصَاحِبِهِ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ
قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ
كَيْفَ يَأْمَنُ النَّارَ مَنْ هُوَ وَارِدُهَا ،
وَكَيْفَ يَطْمَئِنُّ إلَى الدُّنْيَا مَنْ هُوَ مُفَارِقُهَا ، وَكَيْفَ يَغْفُلُ
مَنْ لَا يُغْفَلُ عَنْهُ ؟ يَا بُنَيَّ لَا شَكَّ فِي الْمَوْتِ فَإِنَّك كَمَا
تَنَامُ كَذَلِكَ تَمُوتُ ، وَلَا شَكَّ فِي الْبَعْثِ فَإِنَّك كَمَا
تَسْتَيْقِظُ كَذَلِكَ تُبْعَثُ يَا بُنَيَّ إنَّ الْإِنْسَانَ لَثَلَاثَةٌ ،
فَمِنْهُ لِلَّهِ ، وَمِنْهُ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُ لِلدُّودِ وَالتُّرَابِ ، فَأَمَّا
مَا كَانَ لِلَّهِ فَرُوحُهُ ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِنَفْسِهِ فَعَمَلُهُ خَيْرًا
كَانَ أَوْ شَرًّا ، وَأَمَّا مَا كَانَ لِلدُّودِ وَالتُّرَابِ فَجَسَدُهُ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ مَا أَمِنَ أَحَدٌ عَلَى
دِينِهِ إلَّا سُلِبَهُ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَكْثَرُ مَا يُسْلَبُ
النَّاسُ الْإِيمَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَقَالَ إبْلِيسُ لَعَنَهُ اللَّهُ :
إذَا ظَفِرْت مِنْ ابْنِ آدَمَ بِثَلَاثٍ لَمْ أَطْلُبْهُ بِغَيْرِهَا إذَا
أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ ، وَاسْتَكْثَرَ عَمَلَهُ ، وَنَسِيَ ذُنُوبَهُ ، وَقَالَ
ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ
: بَلَغَنِي أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَالَ لَهُ
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : إنَّك تَمْشِي عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَهُ عِيسَى ، وَأَنْتَ
إنْ كُنْت لَمْ تُخْطِئْ خَطِيئَةً مَشَيْت عَلَى الْمَاءِ فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ : مَا أَخْطَأْت
خَطِيئَةً قَطُّ فَقَالَ لَهُ عِيسَى : فَامْشِ عَلَى الْمَاءِ فَمَشَى ذَاهِبًا ،
وَرَاجِعًا حَتَّى إذَا كَانَ فِي بَعْضِ الْبَحْرِ ، وَإِذَا هُوَ قَدْ غَرِقَ
فَدَعَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَبَّهُ فَأَخْرَجَ الرَّجُلَ فَقَالَ لَهُ :
مَالَك ذَهَبْت وَرَجَعْت ثُمَّ غَرِقْت أَلَيْسَ زَعَمْت أَنَّك لَمْ تُخْطِئْ
خَطِيئَةً قَطُّ ؟ قَالَ : مَا أَخْطَأْت خَطِيئَةً قَطُّ إلَّا أَنِّي وَقَعَ فِي
نَفْسِي أَنِّي مِثْلُك ، وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ : أَمَّ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
الْجَرَّاحِ قَوْمًا مَرَّةً فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : مَا زَالَ بِي
الشَّيْطَانُ آنِفًا حَتَّى رَأَيْت أَنَّ لِي فَضْلًا عَلَى مَنْ خَلْفِي لَا
أَؤُمُّ أَبَدًا ؟ .
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
أَنَّهُ قَالَ : مَا كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّ رَجُلٍ قَطُّ إلَّا لَزِمَ قَلْبَهُ
أَرْبَعُ خِصَالٍ : فَقْرٌ
لَا يُدْرِكُ عَنَاهُ ، وَهَمٌّ لَا يَنْقَضِي مَدَاهُ ،
وَشُغْلٌ لَا يَنْفَدُ لَأْوَاهُ ، وَأَمَلٌ لَا يَنْقَطِعُ مُنْتَهَاهُ ، وَقَالَ
الْأَصْمَعِيُّ قِيلَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ : كَيْفَ حَالُك ؟ قَالَ : حَالُ مَنْ
يَفْنَى بِبَقَائِهِ ، وَيَسْقَمُ بِسَلَامَتِهِ ، وَيُؤْتَى مِنْ مَأْمَنِهِ ،
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : إنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ الْحَيَاةِ فَالصِّحَّةُ ،
وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ فَوْقَ الْمَوْتِ فَالْمَرَضُ ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ يَعْدِلُ
الْحَيَاةَ فَالْغِنَى ، وَإِنْ كَانَ شَيْءٌ يَعْدِلُ الْمَوْتَ فَالْفَقْرُ
انْتَهَى كَلَامُ الْبَاجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
أَلْفَ سَجْدَةٍ ، وَكَانَ يُسَمَّى السَّجَّادَ .
، وَقَدْ
أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ : وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى طَبِيبٌ يُدَاوِي
النَّاسَ وَهُوَ عَلِيلٌ وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّهُ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ ، وَأَنْ تَدْعُوَ لَهُ الْمَلَائِكَةُ ، وَيُحْشَرَ فِي زُمْرَةِ
النَّبِيِّينَ ، وَيَعْظُمَ قَدْرُهُ عِنْدَ الْأَوْلِيَاءِ فَلْيُطِعْ اللَّهَ
فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَنَهَاهُ عَنْهُ ، وَلْيَلْزَمْ الْمِنْهَاجَ الْأَوَّلَ
، وَرُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : هَبْ لِي مِنْ قَلْبِك الْخُشُوعَ ، وَمِنْ
عَيْنَيْك الدُّمُوعَ ، ثُمَّ اُدْعُنِي أَسْتَجِبْ لَك فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ
الدَّاعِّ إذَا دَعَانِ .
وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ أَيْضًا : وَقَالَ
مُحَمَّدُ بْنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ لِخَادِمِهِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ : إنَّ
مَعِي فِي قَمِيصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ فَكَيْفَ أَكْتَسِبُ الذُّنُوبَ إنَّمَا
يَعْمَلُ الذُّنُوبَ جَاهِلٌ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى أَحَدًا فَيَقُولُ : لَيْسَ
يَرَانِي أَحَدٌ أَذْهَبُ لِأُذْنِبَ أَمَّا أَنَا فَكَيْفَ يُمْكِنُنِي ذَلِكَ ،
وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ دَاخِلَ قَمِيصِي مَنْ يَشْهَدُ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ يَا
أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَالِي وَلِهَذَا الْخَلْقِ كُنْت فِي صُلْبِ أَبِي وَحْدِي
ثُمَّ صِرْت فِي بَطْنِ أُمِّي وَحْدِي ، ثُمَّ دَخَلْتُ
الدُّنْيَا وَحْدِي ، ثُمَّ تُقْبَضُ رُوحِي وَحْدِي ، وَأَدْخُلُ قَبْرِي وَحْدِي
، وَيَأْتِينِي مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ فَيَسْأَلَانِي وَحْدِي ، فَإِنْ صِرْت إلَى
خَيْرٍ كُنْت وَحْدِي ، وَإِنْ صِرْت إلَى شَرٍّ كُنْت وَحْدِي ، ثُمَّ أَقِفُ
بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدِي فَإِنْ بُعِثْت إلَى الْجَنَّةِ بُعِثْت
وَحْدِي ، وَإِنْ بُعِثْت إلَى النَّارِ بُعِثْت وَحْدِي فَمَالِي وَلِلنَّاسِ ،
ثُمَّ فَكَّرَ سَاعَةً ، وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ الرَّعْدَةُ حَتَّى خَشَى أَنْ
يَسْقُطَ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ ، ثُمَّ قَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
: أَصْلُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْفَرَائِضِ ، وَهَذِهِ الْفَرَائِضُ فِي
حَرْفَيْنِ مَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ افْعَلْ فَفِعْلُهُ فَرِيضَةٌ يَنْبَغِي
أَنْ يُفْعَلَ ، وَمَا قَالَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ لَا تَفْعَلْ فَتَرْكُهُ فَرِيضَةٌ
يَنْبَغِي أَنْ يُنْتَهَى عَنْهُ
.
وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَتَفَقَّدَ فِي
الِاجْتِمَاعِ بِإِخْوَانِهِ ، وَلَا يُوَاظِبَ عَلَى الْخَلْوَةِ ، وَيَتْرُكَ
التَّبَرُّكَ بِهِمْ ، وَبِسَمَاعِ فَوَائِدِهِمْ مَعَ التَّحَفُّظِ عَلَيْهِمْ ،
وَعَلَى نَفْسِهِ جَهْدَهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ آدَابِ الصُّحْبَةِ : لَهُ الصُّحْبَةُ عَلَى وُجُوهٍ
لِكُلِّ وَجْهٍ مِنْهَا آدَابٌ ، وَلَوَازِمُ .
فَالصُّحْبَةُ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ
أَوَامِرِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِ ، وَتِلَاوَةِ
كِتَابِهِ ، وَمُرَاقَبَةِ الْأَسْرَارِ أَنْ يَخْتَلِجَ فِيهَا مَا لَا يَرْضَاهُ
، وَالرِّضَا بِقَضَائِهِ ، وَالصَّبْرِ عَلَى بَلَائِهِ ، وَالرَّحْمَةِ ، وَالشَّفَقَةِ
عَلَى خَلْقِهِ ، وَمَا يَنْحُو نَحْوَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاقِ الشَّرِيفَةِ ،
وَالصُّحْبَةُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ ، وَاجْتِنَابِ الْبِدَعِ ، وَتَعْظِيمِ أَصْحَابِهِ ،
وَأَهْلِ بَيْتِهِ ، وَأَزْوَاجِهِ ، وَذُرِّيَّتِهِ ، وَمُجَانَبَةِ
مُخَالَفَتِهِ فِيمَا دَقَّ وَجَلَّ ، وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ ، وَالصُّحْبَةُ
مَعَ أَصْحَابِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ بِالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ ، وَتَقْدِيمِ مَنْ
قَدَّمُوهُ ، وَحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِمْ ، وَقَبُولِ قَوْلِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ
، وَالسُّنَنِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : أَصْحَابِي
كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ ،
وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي } ، وَالصُّحْبَةُ
مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْخِدْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ لَهُمْ ،
وَتَصْدِيقِهِمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَعَنْ
مَشَايِخِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى { : مَنْ أَهَانَ لِي
وَلِيًّا فَقَدْ آذَنَنِي بِالْمُحَارَبَةِ } ،
وَالصُّحْبَةُ مَعَ السُّلْطَانِ بِالطَّاعَةِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَ بِمَعْصِيَةٍ
أَوْ بِمُخَالَفَةِ سُنَّةٍ فَإِذَا أَمَرَ بِمِثْلِ هَذَا فَلَا
سَمْعَ لَهُ وَلَا طَاعَةَ ، وَالدُّعَاءُ لَهُ
بِظَاهِرِ الْغَيْبِ لِيُصْلِحَهُ اللَّهُ وَيُصْلِحَ عَنْ يَدَيْهِ ،
وَالنَّصِيحَةُ لَهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ ، وَالصَّلَاةُ ، وَالْجِهَادُ مَعَهُ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الدِّينُ النَّصِيحَةُ قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ : لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ
، وَعَامَّتِهِمْ } ، وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ بِبِرِّهِمَا بِالنَّفْسِ
، وَالْمَالِ ، وَخِدْمَتِهِمَا فِي حَيَاتِهِمَا ، وَإِنْجَازِ وَعْدِهِمَا ،
وَالدُّعَاءِ لَهُمَا فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ مَا دَامَا فِي الْحَيَاةِ ،
وَحِفْظِ عَهْدِهِمَا بَعْدَ الْمَمَاتِ ، وَإِنْجَازِ عَادَاتِهِمَا ،
وَإِكْرَامِ أَصْدِقَائِهِمَا فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ
الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ
} ، وَعَنْ
أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ { : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي
سَلِمَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ
شَيْءٌ أَبِرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ الصَّلَاةُ
عَلَيْهِمَا ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِثْبَاتُ عَهْدِهِمَا ، وَإِكْرَامُ
صَدِيقِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إلَّا بِهِمَا } ،
وَالصُّحْبَةُ مَعَ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ بِالْمُدَارَاةِ ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ ،
وَسَعَةِ الصَّدْرِ ، وَتَمَامِ الشَّفَقَةِ ، وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ
، وَالْأَدَبِ ، وَحَمْلِهِمْ عَلَى الطَّاعَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } الْآيَةَ ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
{ : رَحِمَ اللَّهُ وَالِدًا أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ بِالْإِفْضَالِ
عَلَيْهِ } ، وَالصَّفْحِ عَنْ عَثَرَاتِهِمْ ، وَالْغَضِّ عَنْ مَسَاوِيهِمْ مَا
لَمْ تَكُنْ إثْمًا أَوْ مَعْصِيَةً ، وَالصُّحْبَةِ مَعَ الْإِخْوَانِ بِدَوَامِ
الْبِشْرِ ، وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ ، وَنَشْرِ
الْمَحَاسِنِ ، وَسَتْرِ الْقَبَائِحِ ، وَاسْتِكْثَارِ قَلِيلِ بِرِّهِمْ إلَيْك
، وَاسْتِصْغَارِ مَا مِنْك إلَيْهِمْ ، وَتَعَهُّدِهِمْ بِالنَّفْسِ ، وَالْمَالِ
، وَمُجَانَبَةِ الْحِقْدِ ، وَالْحَسَدِ ، وَالْبَغْيِ ، وَالْأَذَى ، وَمَا
يَكْرَهُونَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، وَتَرْكِ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ .
، وَالصُّحْبَةُ
مَعَ الْعُلَمَاءِ بِمُلَازَمَةِ إكْرَامِهِمْ ، وَقَبُولِ قَوْلِهِمْ ، وَالرُّجُوعِ
إلَيْهِمْ فِي الْمُهِمَّاتِ ، وَالنَّوَازِلِ ، وَتَعْظِيمِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ
مِنْ مَحَلِّهِمْ حَيْثُ جَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَوَارِثِيهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { :
الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } ، وَالصُّحْبَةُ
مَعَ الضَّيْفِ بِحُسْنِ الْبِشْرِ ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ ، وَطِيبِ الْحَدِيثِ
، وَإِظْهَارِ السُّرُورِ ، وَالْكَوْنِ عِنْدَ أَمْرِهِ ، وَنَهْيِهِ ، وَرُؤْيَةِ
فَضْلِهِ ، وَاعْتِقَادِ الْمِنَّةِ لَهُ حَيْثُ أَكْرَمَهُ بِدُخُولِ مَنْزِلِهِ
، وَتَنَاوُلِ طَعَامِهِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ دَعَانَا فَأَبَيْنَا فَلَهُ
الْفَضْلُ عَلَيْنَا فَإِذَا نَحْنُ أَتَيْنَا رَجَعَ الْفَضْلُ إلَيْنَا
فَصْلٌ فِي آدَابِ صُحْبَةِ الْأَعْضَاءِ اعْلَمْ أَنَّ
لِكُلِّ جَارِحَةٍ مِنْ الْجَوَارِحِ آدَابًا تَخْتَصُّ بِهَا .
فَآدَابُ الْبَصَرِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى أَخِيهِ نَظَرَ
مَوَدَّةٍ وَمَحَبَّةٍ يَعْرِفُهَا هُوَ مِنْك ، وَمَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ ،
وَيَكُونُ نَظَرُهُ إلَى مَحَاسِنِهِ ، وَإِلَى أَحْسَن شَيْءٍ يَبْدُو مِنْهُ ،
وَأَنْ لَا يَصْرِفَ عَنْهُ بَصَرَهُ فِي وَقْتِ إقْبَالِهِ عَلَيْهِ ،
وَكَلَامِهِ مَعَهُ ، وَآدَابُ السَّمْعِ أَنْ يَسْتَمِعَ إلَى حَدِيثِهِ سَمَاعَ مُشْتَهٍ
لِمَا يَسْمَعُهُ مُتَلَذِّذٍ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَلَّمَك لَا تَصْرِفْ
بَصَرَك عَنْهُ ، وَلَا تَقْطَعْ حَدِيثَهُ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ فَإِنْ
اضْطَرَّك الْوَقْتُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اسْتَعْذَرْتَهُ فِيهِ ، وَأَظْهَرْت
لَهُ عُذْرَك ، وَآدَابُ اللِّسَانِ أَنْ تُكُلِّمَ إخْوَانَك بِمَا يُحِبُّونَ
فَتَخْتَارَ وَقْتَ نَشَاطِهِمْ لِسَمَاعِ مَا تُكَلِّمُهُمْ بِهِ ، وَتَبْذُلَ
لَهُمْ نَصِيحَتَك ، وَتَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ ، وَتُسْقِطَ مِنْ
كَلَامِك مَا تَعْلَمُ أَنَّ أَخَاك يَكْرَهُهُ مِنْ حَدِيثٍ أَوْ لَفْظٍ أَوْ غَيْرِهِمَا
، وَلَا تَرْفَعْ عَلَيْهِ صَوْتَك ، وَلَا تُخَاطِبْهُ بِمَا لَا يَفْهَمُ عَنْك
، وَتُكَلِّمُهُ بِمِقْدَارِ فَهْمِهِ ، وَآدَابُ الْيَدَيْنِ أَنْ يَكُونَا
مَبْسُوطَتَيْنِ لِإِخْوَانِهِ بِالْبِرِّ وَالْمَعُونَةِ لَا يَقْبِضُهُمَا
عَنْهُمْ ، وَعَنْ الْإِفْضَالِ عَلَيْهِمْ ، وَآدَابُ الرِّجْلَيْنِ أَنْ
يُمَاشِي إخْوَانَهُ فَلَا يَتَقَدَّمُهُمْ ، بَلْ يَكُونُ تَبَعًا لَهُمْ فَإِنْ
قَرَّبُوهُ تَقَرَّبَ إلَيْهِمْ بِقَدْرِ مَا يَعْلَمُ مِنْ رَغَبَاتِهِمْ ، ثُمَّ
يَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَقْعُدُ عَنْ حُقُوقِ إخْوَانِهِ مُعَوِّلًا
عَلَى الثِّقَةِ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ قَالَ : تَرْكُ
حُقُوقِ الْإِخْوَانِ مَذَلَّةٌ
.
( فَصْلٌ ) اعْلَمْ - وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ -
أَنَّ هَذِهِ الْآدَابَ الْمَذْكُورَةَ إنَّمَا هِيَ آدَابُ الظَّوَاهِرِ ، وَهِيَ
عُنْوَانٌ عَلَى آدَابِ السَّرَائِرِ
.
أَلَا تَرَى إلَى مَا رُوِيَ فِي الْأَثَرِ { عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يَعْبَثُ بِلِحْيَتِهِ فِي
الصَّلَاةِ فَقَالَ :
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ خَشَعَ قَلْبُ
هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ }
.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمُرَاعَاةُ الْبَاطِنِ
أَوْجَبُ مِنْ مُرَاعَاةِ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لِلْخَلْقِ ،
وَالْبَاطِنَ لِلْخَالِقِ ، وَمَا كَانَ لِلْخَالِقِ فَهُوَ أَوْجَبُ فَلَوْ
جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ الْكَمَالُ ، وَالسَّعَادَةُ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِمَا ،
وَصِفَةُ إخْلَاصِ الْبَاطِنِ التَّحَقُّقُ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى الْمَوْلَى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَالْخَوْفُ مِنْهُ ، وَالرَّجَاءُ فِيهِ ،
وَالِاتِّصَافُ بِالصَّبْرِ ، وَسَلَامَةُ الصَّدْرِ ، وَحُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ
، وَحُسْنُ ظَنِّهِ بِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَالِاهْتِمَامُ بِأُمُورِهِمْ
فَإِذَا فَعَلَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَوِيَ الرَّجَاءُ أَنْ يَكُونَ مِنْ
الْمُوقِنِينَ
فَصْلٌ ) : قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ الصَّقَلِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْإِخْوَانُ
أَرْبَعَةٌ : أَخٌ كَالدَّوَاءِ ، وَأَخٌ كَالْغِذَاءِ ، وَأَخٌ كَالدَّاءِ ،
وَأَخٌ كَالدِّفْلَى .
فَالْأَوَّلُ مَعْدُومٌ ، وَالثَّانِي مَفْقُودٌ ،
وَالثَّالِثُ مَوْجُودٌ ، وَالرَّابِعُ مَشْهُودٌ .
أَمَّا الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ كَالدَّوَاءِ فَهُوَ
مِثْلُ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ أَهَّلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِتَرْبِيَةِ
الْمُرِيدِينَ ، وَكَالصُّلَحَاءِ ، وَالْعُلَمَاءِ فَهُمْ قُدْوَةٌ
لِلْمُقْتَدِينَ ، وَمُجَالَسَتُهُمْ تَشْفِي الْأَسْقَامَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ،
وَقَدْ كَانَ الْمُرِيدُونَ قَبْلَ هَذَا الزَّمَانِ يَدْخُلُونَ إلَى خَلَوَاتِهِمْ
فَإِنْ حَصَلَ لَهُمْ عَجْزٌ أَوْ كَسَلٌ خَرَجُوا إلَى مَجْلِسِ وَاحِدٍ مِنْ
هَؤُلَاءِ الشُّيُوخِ فَتَنْتَعِشُ قُوَاهُمْ بِسَمَاعِ كَلَامِهِ وَرُؤْيَتِهِمْ
لَهُ ، وَيَمُدُّهُمْ بِهِمَّتِهِ فَيَتَغَذَّوْنَ بِذَلِكَ ، وَيَرْجِعُونَ إلَى
خَلَوَاتِهِمْ أَنْشَطَ مَا كَانُوا أَوَّلًا فَهُمْ دَوَاءٌ لِلْخَلْقِ
أَجْمَعِينَ ، وَأَنْتَ تَرَى تَعَذُّرَ هَذَا الزَّمَانِ غَالِبًا مِمَّنْ هَذِهِ
صِفَتُهُ .
وَأَمَّا الَّذِي هُوَ كَالْغِذَاءِ فَهُوَ مِثْلُ
الْأَخِ فِي اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْفِقِ الْوَدُودِ الْحَنُونِ الَّذِي
يُؤْلِمُهُ مَا يُؤْلِمُك ، وَيَسُرُّهُ مَا يَسُرُّك ، وَيُجَوِّعُ نَفْسَهُ
لِجُوعِك ، وَيَتَعَرَّى لِعُرْيِك ، وَيُكَابِدُ مَا نَزَلَ بِك أَكْثَرَ مِنْ
مُكَابَدَةِ مَا نَزَلَ بِهِ ، وَأَنْتَ تَرَى فَقْدَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
لَكِنَّ بَيْنَ الْفَقْدِ وَالْعَدَمِ فَرْقٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوجَدُ
أَلْبَتَّةَ ، وَالْمَفْقُودَ قَدْ يُوجَدُ فِي مَوْضِعٍ مَا .
سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ : مَرَاتِبُ الْإِخْوَانِ ثَلَاثَةٌ لَا رَابِعَ لَهَا : فَالْأَوَّلُ -
أَنْ يَكُونَ أَخُوك عِنْدَك مِثْلَ أَبِيك ، وَهُوَ أَعْلَاهُمْ .
وَالثَّانِي - أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَخِيك الشَّقِيقِ ،
وَهُوَ أَوْسَطُهُمْ .
وَالثَّالِثُ - أَنْ يَكُونَ عِنْدَك مِثْلَ عَبْدِك ،
وَهُوَ أَقَلُّ الْإِخْوَانِ مَرْتَبَةً فَإِنْ عَجَزْت عَنْ ذَلِكَ فَلَا
أُخُوَّةَ إذْ ذَاكَ أَعْنِي الْأُخُوَّةَ الْخَاصَّةَ
بِالْفُقَرَاءِ ، وَأَمَّا أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ
فَهِيَ حَاصِلَةٌ .
فَأَمَّا الْأَخُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَك مِثْلَ أَبِيك
فَهُوَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ إذْ إنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ مَعَ أَبِيهِ
حَدِيثٌ فِي شَيْءٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَنْتَ
وَمَالُك لِأَبِيك } فَحَالُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ مِنْ بَابِ أَوْلَى إذْ
إنَّ الْمُرِيدَ لَيْسَ لَهُ التَّصَرُّفُ ، وَلَا اخْتِيَارٌ فِي كُلِّ مَا يُحَاوِلُهُ
إلَّا بِرِضَا شَيْخِهِ وَإِذْنِهِ ، وَأَمَّا الَّذِي عِنْدَك كَأَخِيك
الشَّقِيقِ فَهُوَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ إخْوَانِهِ ، وَهُوَ أَقَلُّ رُتْبَةً
مِنْ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَخَ الشَّقِيقَ يُقَاسِمُ أَخَاهُ فِي جَمِيعِ
الْأَشْيَاءِ فَإِنْ أَخَذَ الْأَخُ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ
غَيْرَ ذَلِكَ أَخَذَ الْأَخُ مِثْلَهُ فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُرِيدِ مَعَ
إخْوَانِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إنْ لَبِسَ ثَوْبًا كَسَا أَخَاهُ مِثْلَهُ ،
وَإِنْ أَكَلَ طَعَامًا أَطْعَمَ أَخَاهُ مِنْهُ أَوْ مِثْلَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ : وَهِيَ أَقَلُّ
الدَّرَجَاتِ فِي الْأُخُوَّةِ ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَك مِثْلَ عَبْدِك
أَعْنِي أَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَقُومَ بِضَرُورَتِهِ مِنْ غِذَائِهِ
، وَكِسْوَتِهِ ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فِي صَلَاحِ دِينِهِ
، وَدُنْيَاهُ ، وَكَذَلِكَ الْمُرِيدُ مَعَ أَخِيهِ إذْ إنَّهُ لَا يَشْبَعُ
الْمُكَلَّفُ ، وَعَبْدُهُ جَائِعٌ ، وَلَا يَلْبَسُ ، وَعَبْدُهُ عُرْيَانٌ إلَى غَيْرِ
ذَلِكَ ، وَقَدْ خَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَعْدِ الْمَعْرُورِ بْنِ
سُوَيْدٍ قَالَ : { رَأَيْت أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ،
وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إنِّي سَابَبْت
رَجُلًا فَشَكَانِي إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَعَيَّرْته بِأُمِّهِ ،
ثُمَّ قَالَ : إنَّ إخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ
أَيْدِيكُمْ فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ،
وَيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا
يَغْلِبُهُمْ فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ
فَأَعِينُوهُمْ } فَإِنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ
فَيَنْبَغِي أَوْ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ الْأُخُوَّةَ
لِعَجْزِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا إذْ إنَّهُ قَدْ يَشْبَعُ ، وَأَخُوهُ
جَائِعٌ ، وَقَدْ يَلْبَسُ ، وَأَخُوهُ عُرْيَانٌ فَيُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ حَقًّا
لَهُ لِمَنْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَتَتَعَمَّرُ الذِّمَّةُ بِالْحُقُوقِ لِغَيْرِ
ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ كَثُرَ فِي هَذَا الزَّمَانِ
فَإِذَا أَحْسَنُوا الظَّنَّ بِأَحَدٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ طَلَبُوا مِنْهُ
الْأُخُوَّةَ فَإِنْ أَجَابَهُمْ لِمَا طَلَبُوهُ ، وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ
كَثِيرَةٌ ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَنْصَرِفُونَ بَعْدَ الْأُخُوَّةِ مَعَهُ ، وَلَا
يَرْجِعُونَ إلَيْهِ غَالِبًا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفَ حَالُهُ
أَبَاتَ جَائِعًا أَمْ لَا أَوْ هُوَ عُرْيَانٌ أَمْ لَا ، وَقَدْ يَكُونُ
مِنْهُمْ مَنْ يَتَفَقَّدُهُ لَكِنْ بِالرُّؤْيَةِ وَالسُّؤَالِ لَيْسَ إلَّا دُونَ
إعَانَةٍ وَمُشَارَكَةٍ فَشَغَلُوا ذِمَّتَهُمْ بِشَيْءٍ كَانُوا فِي غِنًى عَنْ تَرَتُّبِهِ
فِيهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ السَّيِّدُ
عَلَى نَفَقَتِهِ ، وَكِسْوَتِهِ أَمَرَهُ الشَّرْعُ بِبَيْعِهِ فَالْبَيْعُ فِي
حَقِّ الْعَبْدِ مُقَابِلُهُ فِي حَقِّ الْأَخِ فَإِنَّك إذَا عَجَزْت عَنْ
الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ نَزَّلْت أَخَاك مَنْزِلَةَ بَيْعِ الْعَبْدِ عِنْدَ
الْعَجْزِ كَمَا تَقَدَّمَ .
يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ
وَالْأَنْصَارِ كَانَ الْأَنْصَارِيُّ يَقُولُ لِأَخِيهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ :
عِنْدِي مِنْ الْمَالِ كَذَا وَكَذَا فَلَكَ نِصْفُهُ وَلِي نِصْفُهُ ، وَلِي مِنْ
الزَّوْجَاتِ كَذَا وَكَذَا فَاخْتَرْ مِنْهُنَّ مَا تُرِيدُ أَنْزِلْ لَك عَنْهُ
، وَكَانَ الْمُهَاجِرِيُّ يَسْأَلُ عَنْ السُّوقِ ، وَعَنْ الْحِيطَانِ يَعْمَلُ
فِيهَا فَهَذَا أَصْلٌ مُقَرَّرٌ فِي الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَقَدْ حُكِيَ
أَنَّ بَعْضَهُمْ جَاءَ لِزِيَارَةِ أَخِيهِ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ فِي
الْمَوْضِعِ الْفُلَانِيِّ ،
وَكَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ لَا يَدْخُلُهُ أَحَدٌ إلَّا
لِلْمُخَالَفَةِ فَتَأَوَّهَ ، وَقَالَ : أَخِي يَقَعُ ، وَأَنَا بِالْحَيَاةِ
فَرَجَعَ إلَى بَيْتِهِ ، وَدَخَلَ خَلْوَتَهُ ، وَعَزَمَ أَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهَا
إلَّا بِأَخِيهِ فَجَاءَ أَخُوهُ إلَى بَيْتِهِ فَأُخْبِرَ بِمَجِيئِهِ إلَيْهِ ،
وَسُؤَالِهِ عَنْ حَالِهِ فَجَاءَ مُسْتَغْفِرًا تَائِبًا إلَى بَيْتِهِ فَسَأَلَ
عَنْهُ فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ دَخَلَ الْخَلْوَةَ فَقَالَ : أَخْبِرُوهُ بِأَنِّي
قَدْ تُبْت إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَرَجَعْت إلَيْهِ فَمَا خَرَجَ إلَيْهِ إلَّا
بَعْدَ أَنْ تَحَقَّقَ قَضَاءُ حَاجَتِهِ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ
الْمُؤَاخَاةُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فَإِنْ رَأَيْت أَخَاك قَدْ غَرِقَ
فَتَأْخُذُ بِيَدِهِ ، وَتُنْجِيهِ مِنْ الْمَهَالِكِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَك
قُدْرَةٌ فَلَا تَدَّعِيهَا إذْ إنَّ مَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ فِيهِ فَضَحَتْهُ
شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ - مِنْ التَّقْسِيمِ الْأَوَّلِ
لِلْإِمَامِ الشَّيْخِ الصَّقَلِّيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ ،
وَالثَّالِثُ - مَوْجُودٌ فَلَا شَكَّ أَنَّك إذَا خَالَطْت كَثِيرًا مِنْ
النَّاسِ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ عَاشَرْتهمْ بِمُلَابَسَةِ مَا تَجِدُ مِنْ
كَثِيرٍ مِنْهُمْ الْأَذِيَّةَ الْبَالِغَةَ إمَّا فِي دِينِك أَوْ دُنْيَاك أَوْ
عِرْضِك ، وَهَذَا هُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فَإِنْ أَنْتَ خَالَطْته
، وَجَدْت مَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ -
الَّذِي قَالَ : عَنْهُ إنَّهُ مَشْهُودٌ فَلَا شَكَّ فِي مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ
فِي هَذَا الزَّمَانِ .
أَلَا تَرَى أَنَّك إذَا تَكَلَّمْت مَعَ أَحَدٍ
مِنْهُمْ فِي صَلَاحِ دِينِهِ فِي شَيْءٍ مَا قَابَلَك بِانْزِعَاجٍ ، وَخُلُقٍ سَيِّئٍ
، وَأَقَلُّ جَوَابِهِ أَنْ يَقُولَ لَك : مَا حَقَّرْت فِي النَّاسِ إلَّا أَنَا
حَتَّى تَأْمُرَنِي ، وَتَنْهَانِي أَوْ يَتَسَلَّطُ عَلَيْك بِبَذَاءَةِ
لِسَانِهِ ، وَيَنْظُرُ لَك عَوْرَاتٍ يُظْهِرُهَا أَوْ حَسَنَاتٍ يُخْفِيهَا أَوْ
يَرُدُّهَا سَيِّئَاتٍ ، وَهَذَا فِيهِ مِنْ الْمَرَارَةِ بِحَيْثُ الْمُنْتَهَى
كَمَا هِيَ الدِّفْلَى إذَا تَنَاوَلْت مِنْهَا شَيْئًا ، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ
إلَى الْعَدَمِ
إذْ قِيلَ : إنَّهَا سُمٌّ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْك أَنْ
تَفِرَّ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ شَمَّرَ عَنْ
سَاعِدَيْهِ ، وَبَالَغَ فِي الْفَحْصِ عَنْ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ فَيَا سَعَادَتُهُ
إنْ ظَفِرَ بِأَحَدِهِمَا كَمَا قِيلَ : وَإِذَا صَفَا لَك مِنْ زَمَانِك وَاحِدٌ
فَهُوَ الْمُرَادُ وَأَيْنَ ذَاكَ الْوَاحِدُ فَإِنْ عَدِمَهُمَا فَيَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ الْخَلْوَةُ وَالِاعْتِزَالُ إنْ أَرَادَ السَّلَامَةَ إذْ إنَّ
الِاجْتِمَاعَ بِالنَّاسِ إنَّمَا يَحْتَاجُهُ الْمُرِيدُ لِلزِّيَادَةِ لَا
لِلنَّقْصِ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مَا يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ إلَّا النَّقْصُ
فَلْيَحْذَرْ مِنْهُ جَهْدَهُ ، وَيَسْتَعِينُ بِرَبِّهِ مَعَ سَلَامَةِ صَدْرِهِ
لَهُمْ ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِمْ عُمُومًا ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ
( فَصْلٌ ) : مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ بَعْضُهُ
بِاللَّفْظِ ، وَبَعْضُهُ بِالْمَعْنَى
.
وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ
لِلْخَلْقِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ ، وَالتَّوَدُّدِ ، وَذَلِكَ
يَقَعُ مِنْهُ عَلَى وُجُوهٍ : فَإِذَا نَظَرَ إلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ فَسَبِيلُ الْعِلْمِ
بِفَقْرِهِمْ ، وَإِذَا أَحْسَنَ الظَّنَّ بِهِمْ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ السَّلَامَةِ
لَهُمْ بِالْمَيْلِ إلَى حِزْبِ الْفَائِزِينَ ، وَإِذَا احْتَمَلَ الْأَذَى مِنْهُمْ
فَسَبِيلُهُ الرَّحْمَةُ لَهُمْ ، وَإِذَا جَازَى عَلَى السَّيِّئَةِ
بِالْحَسَنَةِ فَسَبِيلُهُ التَّخَلُّقُ بِالْأَخْلَاقِ الْمَحْمُودَةِ ، وَإِذَا
رَاعَى حَقَّ كُلِّ ذِي حَقٍّ ، وَإِنْ صَغُرَ فَسَبِيلُهُ التَّخَلُّقُ
بِأَخْلَاقِ الشَّاكِرِينَ ، وَإِذَا تَنَاسَى الشَّرَّ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ
تَطْهِيرُ الْقَلْبِ مِنْ دَنَسِ هَوَاجِسِ النُّفُوسِ فِي حَقِّ إخْوَانِهِ
الْمُسْلِمِينَ .
وَإِذَا عَامَلَهُمْ بِالسَّخَاءِ فَسَبِيلُهُ الْبُعْدُ
مِنْ صِفَةِ الْبُخْلِ ، وَالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ الْفَضْلِ ، وَالْيَقِينِ
بِالْخَلَفِ ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يَطْلُبَ الْخَلَفَ الْفَانِي إذْ إنَّ
كُلَّ مَا جَاءَهُ مِنْ الدُّنْيَا فَهُوَ ذَاهِبٌ فَانٍ ، وَإِذَا عَامَلَهُمْ بِرَفْعِ
الْأَذَى عَنْهُمْ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ عَدَمُ الْفَرَاغِ وَالِاشْتِغَالُ
بِوَظَائِفِ التَّكْلِيفِ ، وَإِذَا عَامَلَهُمْ بِرُؤْيَةِ الْحُسْنِ مِنْهُمْ فِي
كُلِّ شَيْءٍ ، وَالتَّعَامِي عَنْ الْقَبِيحِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَسَبِيلُهُ
الْغَيْرَةُ فِي مُشَاهَدَةِ الْمَحَاسِنِ ، وَالِاشْتِغَالُ عَنْ الْقَبَائِحِ
بِعُيُوبِ النَّفْسِ مَعَ حُسْنِ الظَّنِّ بِهِمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ ،
وَإِذَا تَوَاضَعَ لِلَّهِ فَسَبِيلُهُ إجْلَالُ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِظْهَارُ الْعُبُودِيَّةِ .
وَإِذَا تَوَاضَعَ لِلْخَلْقِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ
دُونَ تَمَاوُتٍ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لِاعْتِقَادِ الْأَثَرَةِ لَهُمْ
عَلَيْهِ ، وَإِذَا أَظْهَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَسَبِيلُهُ
احْتِقَارُ النَّفْسِ ، وَرُؤْيَةُ عُيُوبِهَا ، وَحُسْنُ الظَّنِّ
بِالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِذَا تَرَكَ الْعُجْبَ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَرَى لِنَفْسِهِ
شَيْئًا حَسَنًا فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ
لَا فَاعِلَ لِلْأَشْيَاءِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فَيُلْزِمُ نَفْسَهُ الِافْتِقَارَ إلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَإِذَا
أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ بِأَنْ لَا يُرِيدَ بِصَالِحِ عَمَلِهِ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى
فَسَبِيلُهُ الْخَوْفُ الشَّدِيدُ مِنْ حَبْطِ الْأَعْمَالِ مَخَافَةَ تَوَقُّعِ
الرِّيَاءِ فَيُقَدِّرُ الْخَلْقَ فِي حِزْبِ الْعَدَمِ فَإِنَّهُمْ لَا
يَمْلِكُونَ لَهُ شَيْئًا .
وَإِذَا اسْتَشْعَرَ اطِّلَاعَ الْحَقِّ عَلَيْهِ
فَسَبِيلُهُ تَرْكُ الْفَرَاغِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَمُرُّ عَلَيْهِ وَقْتٌ
إلَّا وَهُوَ مَشْغُولٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَحْصُلُ لَهُ بِسَبَبِ ذَلِكَ
الرِّبْحُ أَوْ جَبْرُ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ فَسَبِيلُهُ
عِمَارَةُ الْوَقْتِ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، وَإِذَا أَحَبَّ الْمَسَاكِينَ
، وَخَدَمَهُمْ ، وَأَمَاطَ الْأَذَى عَنْهُمْ ، وَأَدْخَلَ السُّرُورَ عَلَيْهِمْ
بِإِرْفَادِهِمْ ، وَالْعَوْنِ لَهُمْ ، وَإِظْهَارِ الْبِشْرِ ، وَاحْتِمَالِ
الْجَفَاءِ ، وَالِاخْتِلَاطِ بِهِمْ ، وَالتَّلَطُّفِ فِي نُصْحِ مَنْ زَلَّ
مِنْهُمْ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ حَطِّ الْأَوْزَارِ ، وَالظَّفَرُ بِمَحَبَّةِ
الْمَلِكِ الْغَفَّارِ ، وَإِذَا تَرَكَ الْمِزَاحَ جُمْلَةً فَسَبِيلُهُ
الِاهْتِمَامُ بِسَالِفِ الذُّنُوبِ ، وَإِذَا رَاعَى الْفَرْضَ بِطَلَبِ
أَدَائِهِ كَمَا وَجَبَ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ .
وَإِذَا أَحْسَنَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ يَجُوزُ الْإِحْسَانُ
إلَيْهِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ الْإِنْصَافِ بِالْمَحَامِدِ ، وَإِذَا تَرَكَ
الشَّهَوَاتِ فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِعَاقِبَتِهَا وَمَآلِهَا ، وَطَلَبُ
الرُّقِيِّ عَنْ الْأَرْضِيَّاتِ ، وَإِذَا قَلَّلَ الطَّعَامَ بِحَيْثُ لَا
يَدْخُلُ عَلَيْهِ بِهِ ضَرَرٌ فَسَبِيلُهُ التَّحَقُّقُ لِلْعِبَادَةِ ، وَالتَّهَيُّؤُ
لِلْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ بِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَإِذَا لَبِسَ الدُّونَ مِنْ الثِّيَابِ مَعَ
مُجَانَبَةِ الشُّهْرَةِ ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الضَّرُورَةِ فَسَبِيلُهُ خَوْفُ
الْحِسَابِ ، وَإِذَا تَرَكَ التَّنَعُّمَ بِمَلَاذِ الطَّيِّبَاتِ ، فَسَبِيلُهُ
التَّشَبُّهُ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، وَإِذَا تَرَكَ
الْهَمْزَ وَالِاحْتِقَارَ بِالْخَلْقِ فَسَبِيلُهُ
طَلَبُ التَّبَرِّي مِنْ صِفَةِ الْجَاهِلِينَ ، وَإِذَا تَرَكَ الْفَرَحَ
بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبِيلُهُ الْجَهْلُ بِالْعَاقِبَةِ ،
وَعَدَمُ الْمُبَالَاةِ بِالدُّنْيَا ، وَإِذَا تَرَكَ الْحُزْنَ عَلَى مَا فَاتَ
فَسَبِيلُهُ شَغْلُ الْوَقْتِ بِالْخِدْمَةِ ، وَالْإِيمَان بِالْقَدَرِ .
وَإِذَا وَاصَلَ الْأَحْزَانَ خَوْفًا مِنْ السَّابِقَةِ
، وَالْخَاتِمَةِ فَسَبِيلُهُ طَلَبُ التَّقَرُّبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى
بِانْكِسَارِ الْقَلْبِ ، وَجَمْعِ الْهَمِّ ، وَإِذَا جَمَعَ هُمُومَهُ عَلَيْهِ
فَسَبِيلُهُ الْفِرَارُ مِنْ تَفْرِقَةِ الْقَلْبِ فِي شِعَابِ الْغَفْلَةِ ،
وَإِذَا فَوَّضَ أُمُورَهُ لِلَّهِ تَعَالَى بِطَرْحِ نَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ
دُونَ اقْتِرَاحٍ عَلَيْهِ فَسَبِيلُهُ اسْتِعْمَالُ الْأَدَبِ مَعَ جَلَالِ
الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِذَا تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لِثِقَتِهِ بِالْمَضْمُونِ
فَسَبِيلُهُ شُغْلُ الْوَقْتِ بِالتَّكْلِيفِ ، وَإِذَا تَرَكَ رُؤْيَةَ
الْأَسْبَابِ حَتَّى اسْتَوَى عِنْدَهُ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا فَسَبِيلُهُ
إفْرَادُ الْحَقِّ بِالْخَلْقِ ، وَالتَّبَرِّي مِنْ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ ، وَالْجَلِيِّ
كَالْخُبْزِ لَا يُشْبِعُ ، وَالْمَاءِ لَا يَرْوِي ، وَالثَّوْبِ لَا يُدْفِئُ ،
وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الْعَادِيَّةُ كُلُّهَا ، وَإِذَا تَرَكَ التَّمَلُّقَ
لِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ فَسَبِيلُهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الضُّرَّ
وَالنَّفْعَ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ
التَّمَلُّقِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُوَ التَّوَاضُعُ ، وَالتَّذَلُّلُ لَهُمْ ،
وَإِذَا افْتَقَرَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ
فَسَبِيلُهُ إظْهَارُ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَإِذَا غَابَ عَنْ الْخَلْقِ
بِبَاطِنِهِ ، وَلَمْ يَسْعَ إلَيْهِمْ بِظَاهِرِهِ فَسَبِيلُهُ سَدُّ بَابِ
الْأُنْسِ بِالْمَخْلُوقِ ، وَإِذَا تَرَكَ الْإِقْبَالَ عَلَى أَحَادِيثِ الْعَامَّةِ
، وَتَرَكَ التَّشَوُّفَ لَهَا بِصَوْنِ قَلْبِهِ عَنْهَا ، وَعِمَارَتِهِ
بِذِكْرِ الْحَقِّ فَسَبِيلُهُ سَدُّ بَابِ الْمِحْنَةِ ، وَإِطْفَاءُ نَارِ
الْفِتْنَةِ ، وَخَوْفُ خُسْرَانِ الْآخِرَةِ .
وَإِذَا كَانَتْ نَفْسُ الْمُرِيدِ مُتَطَلِّعَةً
لِأَحَادِيثِ النَّاسِ لَمْ يُفْلِحْ أَبَدًا ، وَإِذَا
عَلِمَ أَنَّ اسْتِفْتَاحَ بَابِ الْخَيْرِ كُلِّهِ ، وَسَدَّ بَابِ الشَّرِّ كُلِّهِ
فِي نَفْسِ أَدَاءِ الْمَفْرُوضَاتِ إذْ هِيَ مِعْيَارُ الْقَلْبِ ، وَبِهَا تَتَبَيَّنُ
الزِّيَادَةُ ، وَالنَّقْصُ ، وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَذْلِ
الْجَهْدِ ، وَجَمْعِ النَّفْسِ ، وَمَحْضِ الصِّدْقِ ، وَشِدَّةِ الْخَوْفِ ،
وَمُوَاصَلَةِ الْحُزْنِ حَتَّى إذَا اسْتَطَعْت أَنْ تَمُوتَ حِينَ تَفْتَتِحُ
الصَّلَاةَ فَمُتْ فَسَبِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ قُرْبُك مِنْ اللَّهِ ، وَإِذَا
أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَنْزِلَةَ قُرْبِك عِنْدَهُ فَمُلَازَمَةُ الْجَدِّ
بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لِغَيْرِ الْحَقِّ فِيك مَوْضِعٌ ، وَسَبِيلُهُ مُرَاقَبَةُ
الْحَقِّ ، وَإِجْلَالُ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِذَا أَرَدْت عِزَّةَ النَّفْسِ ،
وَصِيَانَتَهَا عَنْ سُؤَالِ الْمَخْلُوقِينَ دَقَّتْ الْحَاجَةُ أَوْ جَلَّتْ
فَسَبِيلُهُ طَلَبُ كُلِّ حَاجَةٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَدَبًا مَعَ
الرُّبُوبِيَّةِ وَمِنْ آكَدِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُرِيدُ فِي ذَلِكَ أَنْ
لَا يُنْزِلَ نَفْسَهُ فِي صُورَةِ مُرْشِدٍ وَلَا مُوصٍ ، وَلَا مُتَكَلِّمٍ بِالْحِكْمَةِ
، وَلَا بِالْمَسَائِلِ الْفِقْهِيَّةِ ، وَلَكِنْ لِيُشْغِلَهُ مِنْ نَفْسِهِ
شَاغِلٌ بِسَبَبِ طَلَبِهِ الْعِلْمَ ، وَمِنْ كِتَابِ سِيَرِ السَّلَفِ قَالَ
إبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُ : دَوَاءُ الْقُلُوبِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ : قِرَاءَةُ
الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ ، وَخَلَاءُ الْبَاطِنِ ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ ،
وَالتَّضَرُّعُ عِنْدَ السَّحَرِ ، وَمُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ .
وَقَالَ : أَيْضًا التَّاجِرُ بِرَأْسِ مَالِ غَيْرِهِ
مُفْلِسٌ ، وَمِنْ كَلَامِ يُمْنِ بْنِ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَا هَذَا
هَلَّا حَجَرَك عَقْلُك عَنْ أَنْ تَبُوحَ بِسِرِّك إلَى أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ
أَوْ أَنْ تَشْكُوَ حَالَك فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا إلَيْهِمْ أَوْ تَتَكَلَّمَ
بِمَا لَا يَعْنِيك أَوْ تُجِيبَ إلَى أَمْرٍ لَا تَتَحَقَّقُ رُشْدَهُ ، وَلَا
تَأْمَنُ ضَرَرَهُ يَا هَذَا اجْعَلْ رَبَّك مَوْضِعَ شَكْوَاكَ ، وَقَلْبَك خِزَانَةَ
سِرِّك ، وَالْزَمْ مُرَاقَبَةَ مَوْلَاك فِي كُلِّ حَالٍ يَرِدُ عَلَيْك فَإِنْ
رَأَيْت خَيْرًا فَاحْمَدْ اللَّهَ ، وَإِنْ رَأَيْت
شَرًّا فَافْتَقِرْ فِيهِ إلَيْهِ ، وَانْظُرْ إلَى
الْخَلْقِ هَيَاكِلَ مُصَرَّفَةً ، وَأَسْبَابًا مُسَخَّرَةً ، وَلَا تَشْكُرْ
أَحَدًا مِنْهُمْ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ إلَّا عَلَى قَدْرِ مَا أَبَاحَتْهُ
الشَّرِيعَةُ ، وَحَسْبُك مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ : جَزَاك اللَّهُ خَيْرًا ،
وَتَرَى الْفَضْلَ كُلَّهُ مِنْ مَوْلَاك فَاشْكُرْهُ بِكُلِّيَّتِك فَهُوَ أَهْلٌ
لِذَلِكَ حَقِيقَةً ، وَشُكْرُ سِوَاهُ مَجَازٌ كَمَا أَنَّ فِعْلَ غَيْرِهِ
مَجَازٌ ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ كُلَّهَا صَادِرَةٌ عَنْ الْمَوْلَى الْكَرِيمِ
وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
( فَصْلٌ
) : فَإِنْ كَانَ الْمُرِيدُ لَهُ تَعَلُّقٌ
بِالْأَوْلَادِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُهِمَّهُ شَأْنُهُمْ ، وَلْيَنْظُرْ إلَى
مَا سَبَقَ فِيهِمْ مِنْ الْقَدَرِ ، وَيَعْلَمْ أَنَّ الْمَلِكَ لَا يَضِيقُ عَنْ
رِزْقِهِمْ ، وَأَنَّ مَا كُتِبَ لَهُمْ لَنْ يَفُوتَهُمْ ، وَمَا كُتِبَ
عَلَيْهِمْ لَنْ يَفُوتُوهُ ، وَأَنَّ وُجُودَهُ وَعَدَمَهُ فِي حَقِّهِمْ سِيَّانِ
إذْ إنَّهُ لَا يَمْلِكُ لَهُمْ شَيْئًا ، ثُمَّ إنَّهُمْ إنْ كَانُوا لِلَّهِ
أَوْلِيَاءَ فَلَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ مَعَهُمْ إلَّا خَيْرًا ، وَإِنْ كَانُوا
غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا حِيلَةَ لَهُ فِي دَفْعِ الْمَضَارِّ عَنْهُمْ ، وَلْيَقُلْ :
قَدْ اسْتَوْدَعْتُهُمْ لِمَنْ لَا تَخِيبُ لَدَيْهِ الْوَدَائِعُ فَلْيَطْرَحْ
الْهَمَّ فِيهِمْ جُمْلَةً وَاحِدَةً إنْ عَقَلَ وَلْيَظُنَّ بِمَوْلَاهُ خَيْرًا
وَالسَّلَامُ .
( فَصْلٌ ) : فَإِنْ اُبْتُلِيَ الْمُرِيدُ عِنْدَ
الِاجْتِمَاعِ بِالنَّاسِ وَخِلْطَتِهِمْ بِالْأَذِيَّةِ وَالْجَفَاءِ مِنْهُمْ
فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِهِمْ ، وَيَرْجِعَ إلَى حَالِهِ وَيُفَتِّشَ
خَبَايَا نَفْسِهِ فِي الَّذِي قِيلَ فِيهِ فَقَدْ يَكُونُ حَقًّا ، فَإِنْ
وَجَدَهُ فِي نَفْسِهِ عَلِمَ إذْ ذَاكَ أَنَّ مَنْ قَالَ فِيهِ مَا قَالَ إنَّمَا
هُوَ نَذِيرٌ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ لِيَتُوبَ ، أَوْ يُوقِعَ بِهِ
النَّكَالَ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى التَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ ،
وَيَرَى الْإِحْسَانَ وَالْفَضْلَ لِمَنْ قَالَ فِيهِ مَا قَالَ .
وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا قِيلَ عَنْهُ فِيهِ فَيَحْتَاجُ
إلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : أَحَدِهَا : أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ بِالدُّعَاءِ
الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ حَيْثُ يَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ
رَأَى مِنْكُمْ مُبْتَلًى فَلْيَقُلْ
: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا
ابْتَلَاكَ بِهِ وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا } وَلَا
شَكَّ أَنَّ الِابْتِلَاءَ فِي الدِّينِ أَعْظَمُ مِنْ الِابْتِلَاءِ فِي
الْبَدَنِ سِيَّمَا إذَا انْضَافَ إلَى ذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ
فَهُوَ أَعْظَمُ فِي الِابْتِلَاءِ
.
هَذَا وَجْهٌ
.
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
الشُّكْرُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدِهِمَا أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ - تَعَالَى -
عَلَى سَلَامَتِهِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ
.
الثَّانِي :
وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّالِثُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ الشُّكْرُ فِي أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَلَّمَهُ مِمَّا وَقَعَ
أَخُوهُ فِيهِ ، إذْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لَكَانَ بَلَاءً بَيِّنًا
إذْ الْغَالِبُ فِيهِ عَدَمُ السَّلَامَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ بِمَنِّهِ
، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .
وَمِنْ كِتَابِ يُمْنِ بْنِ رِزْقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَنْ سَاءَهُ الذَّمُّ وَأَعْجَبَهُ الْمَدْحُ فَذَلِكَ ذَكَرُ الصُّورَةِ خُنْثَى
الْعَزِيمَةِ .
وَقَالَ لَوْ قَالَ لِي قَائِلٌ : إنَّ مَنْ لَمْ
يَأْخُذْ بِحَظِّهِ مِنْ الْفَقْرِ لَمْ يَجِدْ طَعْمَ الْإِيمَانِ لَمَا
خَالَفْتُهُ ، وَلَوْ أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ أَنَّ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْعَافِيَةِ
فِي الْخُمُولِ ،
وَالْغِنَى عَنْ النَّاسِ لَصَدَّقْتُهُ .
وَقَالَ : حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى الصَّبْرِ فِي
مَوَاطِنِ الِامْتِحَانِ حِيلَةٌ حَسَنَةٌ فِي التَّخَلُّصِ ، وَإِنْ أَبْطَأَ .
وَقَالَ :
مَنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ
نَصَبٍ وَتَعَبٍ لَمْ يُنْكِرْ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْهَا مَا دَامَ فِيهَا ،
وَأَخَذَ مِنْ الرَّاحَةِ بِحَظِّهِ ، وَمَنْ تَوَهَّمَهَا مَنْزِلَ رَاحَةٍ لَمْ يُقَدِّرْ
الرَّاحَةَ قَدْرَهَا إذْ أَتَتْهُ ، وَكَانَ تَعَبُهُ فِيهَا مُضَاعَفًا .
وَقَالَ : تَقْدِيمُ صِدْقِ اللُّجْأِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -
فِي مَبَادِئِ الْحَاجَاتِ عُنْوَانٌ عَلَى نَجَاحِ غَايَاتِهَا ، وَقَالَ :
افْتَكِرْ فِي الْمَوْتِ تَهُنْ عَلَيْكَ الْمَصَائِبُ .
وَقَالَ : مَا رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْ النَّفْسِ يَعْنِي
فِي شَهَوَاتِهَا وَمَلْذُوذَاتِهَا ، وَلَا أَجْرَأَ مِنْ اللِّسَانِ ، وَلَا
أَشَدَّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقَلْبِ ، وَلَا أَعْدَمَ مِنْ الْإِخْوَانِ ، وَلَا
أَقَلَّ مِنْ الْإِخْلَاصِ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ الْأَمَلِ
قَالَ : الصَّمْتُ وَغَضُّ الْبَصَرِ مِفْتَاحَانِ لِأَبْوَابِ
الْقُلُوبِ ، وَقَالَ : مَنْ أَحَبَّ أَنْ لَا تَكُونَ لَهُ مَنْزِلَةٌ عِنْدَ
النَّاسِ تَرَبَّعَ فِي بُحْبُوحَةِ الْعَافِيَةِ .
وَقَالَ :
لَيْسَ إلَّا دُنْيَا وَآخِرَةٌ فَإِنْ أَرَدْتَ
الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا رُمْتَ مُحَالًا وَذَهَبَتَا عَنْكَ مَعًا فَاخْتَرْ
لِنَفْسِكَ .
وَقَالَ : الضَّرُورَاتُ تَدْعُو إلَى شَرٍّ كَثِيرٍ ،
وَفِي الصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ .
وَقَالَ يَحْسُنُ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ
مُرَقَّعًا وَنَعْلُهُ بَالِيًا وَمَسْكَنُهُ خَلَقًا فَفِي ذَلِكَ أَعْظَمُ
تَذْكِرَةٍ ، وَأَكْبَرُ شَاهِدٍ عَلَى الْغِنَى ، وَأَحَثُّ بَاعِثٍ عَلَى تَرْكِ
الطُّمَأْنِينَةِ إلَى الدُّنْيَا ، وَمَنْ كَانَ يَسْتَعْمِلُ الْجَدِيدَ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ قَلَّتْ عِبْرَتُهُ ، وَكَانَ حُبُّ الْعَاجِلَةِ أَغْلَبَ عَلَى
عَقْلِهِ .
وَقَالَ : اطْمَعْ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -
عَلَى أَيِّ حَالٍ كُنْتَ مِنْ التَّفْرِيطِ وَلَا تَأْمَنْ مَكْرَهُ عَلَى أَيِّ
حَالٍ كُنْتَ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَإِيَّاكَ وَالْيَأْسَ مِنْ مَوْلَاكَ فَإِنَّهُ
قَطْعٌ لِلسَّبَبِ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ، وَاحْذَرْ الْأَمَانِيَّ فَإِنَّهَا
اغْتِرَارٌ بِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ عَلِمَ سَعَةَ رَحْمَةِ اللَّهِ
مَا يَئِسَ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ لَوْ عَلِمَ كُنْهَ عِقَابِ اللَّهِ لَمَاتَ خَوْفًا
وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ إذَا كَانَ الْمَاضِي لَا يَرْجِعُ ،
وَالْمُقَدَّرُ لَا يَتَبَدَّلُ ، فَاطِّرَاحُ الْهَمِّ سَعَادَةٌ مُعَجَّلَةٌ .
وَقَالَ خَمْسٌ يُؤْلِمُكَ غَمُّهَا فِي الدُّنْيَا ،
وَهِيَ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ إيلَامًا إلَّا أَنْ يَنَالَكَ عَفْوُ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ فَاسْتَقْلِلْ مِنْهَا ، أَوْ اسْتَكْثِرْ : الْمِزَاحُ وَكَثْرَةُ الْكَلَامِ
، وَالتَّعَرُّفُ بِالنَّاسِ ، وَإِفْشَاءُ سِرِّكَ إلَيْهِمْ وَالشَّكْوَى
بِحَالِكَ إلَى الْخَلْقِ .
وَقَالَ : لَقَدْ رَابَنِي مَا أَرَاهُ مِنْ كَدِّ الْخَلْقِ
لِلدُّنْيَا وَقِصَرِ هِمَّتِهِمْ عَلَيْهَا فِي إيمَانِهِمْ ، وَلَقَدْ رَابَنِي
مَا أَرَاهُ مِنْ مُكَالَبَتِهِمْ عَلَيْهَا وَفَرْطِ جُنُوحِهِمْ إلَيْهَا فِي
عُقُولِهِمْ ، وَالْعَجَبُ مِنْهُمْ وَهُمْ عَلَى هَذَا الْحَالِ إنَّكَ
إنْ نَطَقْتَ لَهُمْ بِالْحَقِيقَةِ سَخِرُوا مِنْكَ ،
وَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُمْ اتَّهَمُوكَ ، وَإِنْ مَازَحْتَهُمْ فِي دِينٍ أَوْ
دُنْيَا أَهْلَكُوكَ ، وَإِنْ تَرَكْتَهُمْ لَمْ يَتْرُكُوكَ فَلَا رَاحَةَ
مَعَهُمْ وَلَا سَلَامَةَ دُونَهُمْ حَسْبِي اللَّهُ ، ثُمَّ حَسْبِي اللَّهُ
مِنْهُمْ .
وَقَالَ
: رَجُلَانِ أَكْرَهُ رُؤْيَتَهُمَا ، وَأُحِبُّ
الْفِرَارَ مِنْهُمَا لِيَأْسِي مِنْ فَلَاحِهِمَا غَالِبًا : طَالِبُ كِيمْيَاءَ
، وَطَالِبُ مُلْكٍ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَنْ تَسَامَى إلَى رُتَبٍ
لَا يَقْتَضِيهَا حَالُهُ وَلَا حِلْيَتُهُ ، وَآثَرَ هَوَاهُ وَأُمْنِيَتَهُ عَاشَ
دَهْرَهُ فِي تَعَبٍ وَنَصَبٍ وَلَمْ يَبْلُغْ الْغَايَةَ الَّتِي يَسْعَى
إلَيْهَا ، وَمَنْ تَقَاعَدَ عَنْ الرُّتَبِ الَّتِي يُمْكِنُهُ بُلُوغُهَا عَاشَ
مَهِينًا مَلُومًا ، وَمَنْ تَوَسَّطَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ فَتَنَاوَلَ مِنْهَا
مَا كَانَ لَهُ صَالِحًا اسْتَحَقَّ اسْمَ النُّبْلِ وَكَانَ عَيْشُهُ هَنِيئًا
وَقَلْبُهُ لِلَّهِ - تَعَالَى
- خَاشِعًا
.
وَقَالَ : أَنَا لَا أُصَدِّقُ قَوْلَ مَنْ قَالَ :
مُكَالَمَةُ الْجَاهِلِ سَجْنٌ لِلْعَقْلِ .
وَقَالَ الرَّاحَةُ فِي الدُّنْيَا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ :
فَقِيرٍ صَالِحٍ ، أَوْ غَنِيٍّ عَاقِلٍ ، أَوْ أَحْمَق مَبْخُوتٍ .
وَقَالَ :
يَا هَذَا إنْ كَانَ الْعَجَبُ مِنْ النَّاسِ مَرَّةً
فَالْعَجَبُ مِنْكَ أَلْفَ مَرَّةٍ فَقَدْ بَانَ لَكَ بِالتَّجْرِبَةِ
الْمُسْتَبِينَةِ وَالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ مُكَالَمَةَ النَّاسِ
غُنْمُهَا نَدَامَةٌ وَالصَّمْتَ عَنْهُمْ سَلَامَةٌ ، ثُمَّ لَا يَصْرِفُكَ
ذَلِكَ عَنْ الْهَذَرِ مَعَهُمْ ، وَالْخَوْضِ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَكُلُّهُمْ مَقْهُورُونَ
لِطِبَاعِ أَنْفُسِهِمْ سَامِعُونَ مِنْ حَالِهِمْ مُبْصِرُونَ بِعُيُونِ
رُءُوسِهِمْ إلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فَمَا يُصْغِي إلَيْكَ
مِنْهُمْ غَالِبًا إلَّا مُتَّهَمٌ ، أَوْ مُكَذِّبٌ ، أَوْ غَيْرُ مُحَصِّلٍ
فَاصْحَبْهُمْ بِصَمْتٍ وَلَا يَكُونُ كَلَامُكَ لَهُمْ إلَّا جَوَابًا بِمَا لَا
دَرَكَ فِيهِ عَلَيْكَ فِي دِينٍ ، أَوْ دُنْيَا فَإِنْ أَنْتَ صَبَرْتَ عَلَى
أَذَاهُمْ كُفِيتَهُمْ وَإِيَّاكَ أَنْ تَنْتَصِرَ لِنَفْسِكَ فَتُوكَلَ إلَيْهَا
، وَسَلِّمْ الْأَمْرَ إلَى مَوْلَاكَ
وَافْتَقِرْ إلَيْهِ تَجِدْهُ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ :
الِالْتِفَاتُ إلَى النَّاسِ تَعَبٌ فِي الْعَاجِلِ
وَنَدَامَةٌ فِي الْآجِلِ ؛ لِأَنَّ عَامَّتَهُمْ مَا بَيْنَ جَافٍ مُتَعَسِّفٍ ،
أَوْ بَطِرٍ مُتَكَلِّفٍ فَلَيْسَ التَّأْثِيرُ بِالْأَوَّلِ بِأَسْوَأِ مِنْ الِاغْتِرَارِ
بِالثَّانِي فَالرَّأْيُ أَنْ يُعَدَّا جَمِيعًا فِي حِزْبِ الْعَدَمِ حَتَّى لَا
تَأْثِيرَ لِلِاضْطِرَارِ إلَيْهِمْ وَلَا لِلْجَفَاءِ مَعَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ
وَالنَّهْيِ فِيهِمْ ، وَاعْتِقَادِ الرَّحْمَةِ وَالصِّلَةِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ،
وَاَلَّذِي يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ - تَعَالَى - الْإِقْبَالُ
عَلَى مَا يَعْنِيكَ ، وَالصَّبْرُ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ فَإِنَّكَ إذَا وَافَقْتَ
الشَّرِيعَةَ وَلَاحَظْتَ الْحَقِيقَةَ لَمْ تُبَالِ بِمَنْ خَالَفَ رَأْيَكَ مِنْ
الْخَلِيقَةِ .
وَقَالَ مَنْ تَفَكَّرَ فِيمَنْ سَلَفَ وَنَظَرَ فِي
الْمَعَادِ هَانَ عَلَيْهِ جَفَاءُ الْخَلْقِ وَلَمْ يَغْتَرَّ بِلُطْفِهِمْ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْزَمْ الصَّمْتَ عِنْدَ
مُحَاضَرَةِ مَنْ تَكْرَهُهُ وَتَكَلَّمْ مَعَ مَنْ لَكَ فِي كَلَامِهِ فَائِدَةٌ .
وَقَالَ مَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَفْعَلُ مَا
يُرِيدُ خَافَ وَحَزِنَ وَلَمْ يَفْتُرْ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا ضَمِنَ
لِعِبَادِهِ أَرْزَاقَهُمْ لَمْ يَشْغَلْهُ طَلَبُ الْمَضْمُونِ عَمَّا كُلِّفَ ، وَمَنْ
عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا مَنْ انْقَطَعَ إلَيْهِ كَفَاهُ تَوَكَّلَ بِالْحَقِيقَةِ
عَلَيْهِ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا لَا فَاعِلَ لِلْمَوْجُودَاتِ إلَّا
هُوَ اقْتَصَرَ فِي كُلِّ مُرَامٍ إلَيْهِ ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا
رَقِيبًا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ اسْتَحَى مِنْهُ حَقَّ الْحَيَاءِ .
وَقَالَ : مَنْ نَظَرَ إلَى الدُّنْيَا بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ
فَرَأَى تَقَلُّبَهَا بِأَهْلِهَا وَانْزِعَاجِهِمْ عَنْهَا لَمْ يَطْمَئِنَّ
إلَيْهَا ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْآخِرَةِ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ فَتَخَيَّلَ
نَعِيمَهَا وَعَذَابَهَا وَأَيْقَنَ أَنَّهُ وَفَدَ عَلَيْهَا عَمِلَ لَهَا .
وَقَالَ الْزَمْ الْفَضْلَ وَاتْرُكْ الْفُضُولَ
وَاغْتَنِمْ وَقْتَكَ تَفُزْ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَبِمُلَازَمَةِ
الْفَضْلِ تَنَالُ الشَّرَفَ وَبِتَرْكِ الْفُضُولِ تَنَالُ السَّلَامَةَ
وَبِاغْتِنَامِ الْوَقْتِ
تَنَالُ الرِّبْحَ وَفِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَجْمُوعُ
خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
.
وَقَالَ : لَيْسَ إلَّا عَيْشُ الدُّنْيَا ، أَوْ عَيْشُ
الْآخِرَةِ وَلَنْ يَجْتَمِعَا
.
فَالْأَوَّلُ مَادَّتُهُ الْأَرْضِيَّاتُ ، وَهُوَ
عَيْشُ النَّفْسِ .
وَالثَّانِي مَادَّتُهُ الْعُلْوِيَّاتُ ، وَهُوَ عَيْشُ
الرُّوحِ ، وَقَدْ عَلِمْتَ الْمَبْدَأَ ، وَالْغَايَةَ فَاخْتَرْ أَيَّهُمَا
شِئْتَ وَالسَّلَامُ .
وَقَالَ : يَا هَذَا الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ نَجَاةٌ
وَلَا خَيْرَ فِي صُحْبَةِ غَيْرِ اللَّهِ .
وَقَالَ : مَا أَحَقَّكَ بِالنُّوحِ عَلَى نَفْسِكَ .
مَا أَوْلَاكَ بِإِلْقَاءِ التُّرَابِ عَلَى رَأْسِكَ .
مَا أَغْفَلَكَ عَمَّا حَلَّ بِكَ .
أَنَسِيتَ عَظَائِمَكَ .
أَمْ أَمِنْتَ عِقَابَ رَبِّكَ بَادِرْ يَا مِسْكِينُ
وَاحْذَرْ سَدَّ الْبَابِ وَقَطْعَ الْأَسْبَابِ .
وَاسْتَنْزِلْ بِكَفِّ الضَّرَاعَةِ رَحْمَةَ مَوْلَاكَ
الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ .
وَقَالَ :
إذَا سَافَرْت فَالْتَزِمْ فِي الطَّرِيقِ مَعَ أَهْلِ
الرُّفْقَةِ الصَّمْتَ وَلَا تَتَكَلَّمْ مَعَهُمْ إلَّا جَوَابًا يَسِيرًا مِنْ الْقَوْلِ
لَفْظَةً أَوْ نَحْوَهَا .
فَإِنْ سُئِلْتَ مِنْ أَيْنَ ؟ فَقُلْ مِنْ أَرْضِ
اللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ لَكَ مَا شُغْلَكَ ؟ فَقُلْ أَبْتَغِي
فَضْلَ اللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ لَكَ مَا اسْمُكَ ؟ فَقُلْ عَبْدُ اللَّهِ .
فَإِنْ تَصَامَمْتَ لَهُمْ فَحَسَنٌ ، وَإِذَا دَخَلْتَ
بَلَدًا فَلَا تَصْحَبُهُ فِيهِ أَحَدًا صُحْبَةً تُوجِبُ عَلَيْكَ حَقًّا .
وَاحْسِمْ التَّعَارُفَ أَلْبَتَّةَ .
وَافْتَقِرْ إلَى اللَّهِ فِي حَوَائِجِكَ فَإِنَّهُ لَا
يُضَيِّعُكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ زَمَانَ صُحْبَةٍ وَلَا
مُصَادَقَةٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانُ الْوَحْشَةِ وَالْغُرْبَةِ وَالْفِرَارِ
مِنْ النَّاسِ مَبْلَغَ الْوُسْعِ
.
وَقَالَ : خُلُقَانِ لَا أَرْضَاهُمَا لِلْفَتَى :
بَطَرُ الْغَنِيِّ وَمَذَلَّةُ الْفَقِيرُ .
فَإِذَا غُنِيتَ فَلَا تَكُنْ بَطِرًا .
وَإِذَا افْتَقَرْتَ فَتِهْ عَلَى الدَّهْرِ .
وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ ،
وَالْبَلَاءُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مِنْ التَّعَبِ ،
وَالْمَشَقَّاتِ كَفُرْقَةِ الْأَحْبَابِ وَذَهَابِ الْمَالِ وَأَذَى النَّاسِ ، وَالْأَسْقَامِ
،
وَالْجُوعِ ، وَالْعَطَشِ ، وَالْقُمَّلِ وَالذُّبَابِ ،
وَالْعَقَارِبِ ، وَالْحَيَّاتِ وَالسِّبَاعِ وَفَقْدِ الْوَطَنِ ، وَالْبَرْدِ ،
وَالْحَرِّ ، وَالْعُرْيِ وَالشَّهَوَاتِ : كَشَهْوَةِ الْبَطْنِ ، وَالْفَرْجِ
إلَى غَيْرِ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ فَمَا وَقَعَ مِنْهُ فَلَا
تُنْكِرْ وُقُوعَهُ فِي مَحِلِّهِ وَلَا تَسْتَغْرِبْهُ ، وَإِنَّمَا
الْمُسْتَغْرَبُ فِيهَا الْمَسَرَّاتُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارٍ لَهَا وَلَا
تُقَابِلْ شَيْئًا مِنْ الْبَلَاءِ إلَّا بِالصَّبْرِ وَتَوْطِينِ النَّفْسِ
عَلَيْهَا مَتَى وَقَعَ مِنْهَا شَيْءٌ وَالِاسْتِعَانَةُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى -
فِي زِيَادَةِ الْبَصِيرَةِ ، وَالْإِمْدَادِ بِالْمَعْرِفَةِ .
وَقَالَ : مَنْ تَفَكَّرَ فِي أَمْسِهِ وَغَدِهِ غَنِمَ
مَا فِي يَدِهِ مِنْ يَوْمِهِ .
وَقَالَ بِاَللَّهِ الْمُسْتَعَانُ وَاللُّجُوءُ إلَيْهِ
عُنْوَانُ النَّجَاحِ .
وَالْقُرْآنُ حَبْلُ الْعِصْمَةِ .
وَالسُّنَّةُ طَرِيقُ السَّلَامَةِ .
وَالْفِكْرَةُ مِفْتَاحُ الرُّشْدِ .
وَالْهِمَمُ مُثِيرَاتُ الْعَزْمِ وَالتَّبَصُّرُ
ثَمَرَةُ الصِّدْقِ وَالظَّفَرُ نَتِيجَةُ الصَّبْرِ .
وَالِاسْتِغَاثَةُ دَرَجُ الْوُصُولِ .
وَالتَّضَرُّعُ أَمَارَةُ التَّخَلُّصِ .
وَالسَّحَرُ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ .
وَالْإِلْحَاحُ مُقَدِّمَةُ الْمَحَبَّةِ .
وَالتَّوَاضُعُ سُلَّمُ الشَّرَفِ .
وَالسَّخَاءُ خُلُقُ الْإِيمَانِ .
وَالزُّهْدُ شِعَارُ التَّقْوَى .
وَالتَّوَكُّلُ حِرْفَةُ الْمَعْرِفَةِ .
وَالتَّفْوِيضُ عَلَمُ السَّعَادَةِ .
وَالْخَوْفُ أَثَرُ الْجَدِّ .
وَالرَّجَاءُ إفَادَةُ الْجُهْدِ ، وَرَحْمَةُ الْخُلُقِ
دَلِيلُ الطَّهَارَةِ .
وَاحْتِمَالُ الْأَذَى عَيْنُ الْفُتُوَّةِ ،
وَالْجَزَاءُ عَلَى الْإِسَاءَةِ بِالْإِحْسَانِ خُلُقُ النُّبُوَّةِ .
وَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ بِالْحُضُورِ عَيْشُ الرُّوحِ
وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى قَتْلُ النَّفْسِ .
وَذِكْرُ اللَّهِ رَأْسُ مَالِ الْعَابِدِينَ .
مَنْ تَرَكَ الشَّهَوَاتِ قَرَعَ الْبَابَ ، وَمَنْ
تَرَكَ الْحُظُوظَ رَفَعَ الْحِجَابَ
.
قِيَامُ اللَّيْلِ بُسْتَانُ الْعَارِفِينَ .
الْأَحْوَالُ مَبْلَغُ الْقَوْمِ .
مَنْ رَأَى لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ خَلْقِ
اللَّهِ - تَعَالَى - حَتَّى الْكِلَابِ فَهُوَ أَحَدُ
الْفَرَاعِنَةِ السَّلْوُ عَنْ الْمَتْرُوكِ عَلَى
قَدْرِ الْمَعْرِفَةِ بِالْمَطْلُوبِ
.
مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَهِيَ عَلَى غَيْرِهِ
أَهْوَنُ ، وَمَنْ صَحِبَ التَّسْوِيفَ أَدَّاهُ إلَى الْفَوْتِ .
وَمَنْ فَاتَهُ مَوْلَاهُ غَرِقَ فِي بَحْرِ الْيَأْسِ ،
الدُّنْيَا سَلَامَتُهَا غَرَرٌ
.
وَلَذَّاتُهَا قَذَرٌ .
قَالَ الشَّاعِرُ فَخَيْرُ لِبَاسِهَا نَفَثَاتُ دُودٍ
وَخَيْرُ شَرَابِهَا قَيْءُ الذُّبَابِ وَأَشْهَى مَا يَنَالُ الْمَرْءُ فِيهَا
مُبَالٍ فِي مُبَالٍ مُسْتَطَابِ ، وَعَنْ قُرْبٍ يَعُودُ الْكُلُّ تُرْبًا بِلَا
شَكٍّ يَكُونُ وَلَا ارْتِيَابِ وَقَالَ : كُنْتُ قَدْ رَأَيْتُ فِي كُتُبِ الْحُكَمَاءِ
أَنَّ أَرْبَعَةً لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَأْمَنَهَا فَطَلَبْتُهَا فِي
حِفْظِي فَلَمْ أَجِدْ مِنْهَا سِوَى وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ ، وَإِنْ
أَبْدَتْ الْوُدَّ وَأَظْهَرَتْ النُّصْحَ .
وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي
السُّلْطَانُ وَإِنْ أَبْدَى التَّقْرِيبَ وَالْمُصَافَاةَ .
وَأَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ الْمَالَ وَإِنْ كَانَ جَمًّا
وَافِرًا .
وَأَنْ يَكُونَ الرَّابِعُ الزَّمَانَ وَإِنْ كَانَ
مُطَاوِعًا مُسَالِمًا .
فَرُبَّ مَخْدُوعٍ بِهَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَخَانَتْهُ ،
أَوْثَقُ مَا كَانَ بِهَا وَأَسْلَمَتْهُ أَمْيَلُ مَا كَانَ إلَيْهَا .
وَقَالَ : الرَّاحَةُ كُلُّهَا فِي الرِّضَا
بِاخْتِيَارِ الْحَقِّ لَكَ وَالتَّعَبُ كُلُّهُ فِي اخْتِيَارِكَ لِنَفْسِكَ .
وَمُدَافَعَةُ الْأَيَّامِ شِيمَةُ الْكِرَامِ .
وَاغْتِنَامُ الْوَقْتِ بِالْمُبَادَرَةِ إلَى الْعَمَلِ
وَاطِّرَاحِ الْأَمَلِ سَعَادَةٌ
.
وَانْتِظَارُ الْفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ .
وَقَالَ :
يَا هَذَا إذَا رَأَيْتَ إنْسَانًا لَمْ تُلْزِمْكَ
الضَّرُورَةُ إلَيْهِ فَفِرَّ مِنْهُ فِرَارَكَ مِنْ الْأَسَدِ ، أَوْ أَشَدَّ ،
وَإِنْ قُدِّرَ اجْتِمَاعُكَ مَعَهُ مُفَاجَأَةً فَاقْتَصِرْ فِي الْكَلَامِ مَعَهُ
وَاعْتَذِرْ لَهُ بِشُغْلٍ وَاتْرُكْهُ بِسَلَامٍ أَمَا تَذْكُرُ أَنَّ تَعَبَكَ
فِي الدُّنْيَا قَدِيمًا وَحَدِيثًا إنَّمَا جَاءَكَ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّاسِ .
( فَصْلٌ ) : وَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ
مَضْبُوطَةً لِكُلِّ وَقْتٍ مِنْهَا عَمَلٌ يَخُصُّهُ مِنْ الْأَوْرَادِ فَلَا
يَقْتَصِرُ فِي الْوَرْدِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، بَلْ
كُلُّ أَفْعَالِ الْمُرِيدِ وِرْدٌ
.
قَدْ كَانَ السَّلَفُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
يَقُولُونَ جَوَابًا لِمَنْ طَلَبَ الِاجْتِمَاعَ بِأَحَدٍ مِنْ إخْوَانِهِ
وَيَكُونُ نَائِمًا هُوَ فِي وِرْدِ النَّوْمِ .
فَالنَّوْمُ وَمَا شَاكَلَهُ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَوْرَادِ
الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ
فَيَكُونُ وَقْتُ النَّوْمِ مَعْلُومًا كَمَا أَنَّ وَقْتَ وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ
يَكُونُ مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ اجْتِمَاعُهُ بِإِخْوَانِهِ يَكُونُ مَعْلُومًا .
وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ مَعَ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ
يَكُونُ مَعْلُومًا كُلُّ ذَلِكَ وِرْدٌ مِنْ الْأَوْرَادِ إذْ إنَّ أَوْقَاتَهُ
مُسْتَغْرَقَةٌ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَأْتِي إلَى شَيْءٍ
مِمَّا أُبِيحَ لَهُ فِعْلُهُ ، أَوْ نُدِبَ إلَيْهِ إلَّا بِنِيَّةِ التَّقَرُّبِ
إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْوَرْدِ أَعْنِي التَّقَرُّبَ إلَى
اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَذَا عَلَى جَادَّةِ الِاجْتِهَادِ ، وَالْفَرَاغِ مِنْ الصِّحَّةِ
وَالسَّلَامَةِ مِنْ الْعَوَائِقِ ، وَالْعَوَارِضِ ، أَوْ مِنْ حَالٍ يَرِدُ
يَكُونُ سَبَبًا لِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ فِي
حَقِّ الْمُرِيدِ ، بَلْ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا حَصَلَ لَهُ
بُكَاءٌ أَوْ تَضَرُّعٌ أَوْ خَشْيَةٌ يَسْتَمِرُّ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْطَعُهُ ؛
إذْ إنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ حُصُولُ مِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِذَا
حَصَلَتْ لِلْمُرِيدِ فَقَدْ حَصَلَ عَلَى فَرِيسَتِهِ فَلْيَشُدَّ يَدَهُ
عَلَيْهَا وَيَغْتَنِمْهَا لِئَلَّا تَنْفَلِتَ مِنْهُ فَقَلَّ أَنْ يَجِدَهَا وَلِأَجْلِ
هَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ : إذَا لَذَّتْ لَكَ الْقِرَاءَةُ فَلَا تَرْكَعْ وَلَا تَسْجُدْ ،
وَإِذَا لَذَّ لَكَ الرُّكُوعُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَسْجُدْ ، وَإِذَا لَذَّ
لَكَ السُّجُودُ فَلَا تَقْرَأْ وَلَا تَرْكَعْ ،
الْأَمْرُ الَّذِي يُفْتَحُ عَلَيْكَ فِيهِ فَالْزَمْهُ .
أَرَأَيْتَ إنْسَانًا يَطْلُبُ شَيْئًا فَإِذَا وَجَدَهُ
تَرَكَهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلُ وَلَا
يُقْتَصَرُ فِي هَذَا عَلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ
أَمْرٍ أَرَادَهُ فَلَوْ حَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الِاجْتِمَاعِ
بِالْإِخْوَانِ فَلَا يَنْتَقِلُ مِنْهُ أَيْضًا ، بَلْ هَذَا آكَدُ لِاجْتِمَاعِ
بَرَكَةِ الْإِخْوَانِ ، وَهِيَ مُتَعَدِّدَةٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ وَحْدَهُ
، وَإِنْ كَانَتْ الْخَلْوَةُ فِيهَا الْفَضِيلَةُ الْعُظْمَى كَمَا تَقَدَّمَ
لَكِنْ فِي الِاجْتِمَاعِ بِالْإِخْوَانِ الْخَيْرُ الْمُتَعَدِّي حِسًّا
لِاسْتِمْدَادِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ أَوْقَاتُهُ
وَحَرَكَاتُهُ وَسَكَنَاتُهُ وَأَنْفَاسُهُ فِي الْخَلَاءِ وَالْمَلَأِ
مَضْبُوطَةً بِالِاتِّبَاعِ فِي كُلِّ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْتَصِرَ فِي أَوْرَادِهِ عَلَى الْقَلِيلِ
مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ فَإِنْ
حَصَلَ لَهُ شُغْلٌ ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْعَوَائِقِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَتِهَا
لِيَسَارَتِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي الْمُتَعَلِّمِ .
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَشَدَّ النَّاسِ حِرْصًا
عَلَى عَمَلِ السِّرِّ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ الْجَهْرَ
بِسَبْعِينَ دَرَجَةٍ وَمَا هُوَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ فَيَتَأَكَّدُ تَحْصِيلُهُ
عَلَى مَا يَنْبَغِي .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ
أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ وَحْدَهُ ، أَوْ مَعَ
غَيْرِهِ .
فَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ عَمَلُ السِّرِّ
مِنْ غَيْرِ كُلْفَةٍ ، وَإِنْ كَانَ مَعَ غَيْرِهِ أَعْنِي مِنْ الْأَهْلِ وَمَا
شَابَهَهُمْ .
فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ يَرْجُو
أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِظْهَارُهُ أَوْلَى ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عَنْ عَمَلِ السِّرِّ مَعَهُمْ ،
ثُمَّ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ حَالِ الْوَقْتِ إذْ إنَّ مِنْ الْأَهْلِ ،
أَوْ الْإِخْوَانِ مَنْ إذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ
أَعْمَالِ الْبِرِّ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا مَنْ يَعْتَقِدُهُ بَادَرَتْ نَفْسُهُ إلَى
ذَلِكَ ، أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ .
وَهَذَا فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرُ لِمَا وَرَدَ { : لَأَنْ يَهْدِيَ
اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ } فَإِنْ عَلِمَ
أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقَعُ ذَلِكَ مِنْهُ فَالسِّرُّ أَوْلَى بِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْمُتَعَلِّمِ أَنَّهُ إنْ وَجَدَ
الْخَلْوَةَ عَنْ أَهْلِهِ كَانَ بِهِ أَوْلَى .
فَالْمُرِيدُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَوْلَى ، بَلْ
أَوْجَبُ ؛ لِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا يَزَالُ فِي عَمَلِ السِّرِّ فِي غَالِبِ
أَوْقَاتِهِ فَيَعُودُ عَلَيْهِ آثَارُ ذَلِكَ وَبَرَكَتُهُ حَتَّى يَصِلَ إلَى
عَمَلِ سِرٍّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَطَّلِعُ
عَلَيْهِ الْحَفَظَةُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ ظَهَرَتْ لَهُ الْحَفَظَةُ
وَنَاشَدُوهُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ يُدْخِلَ عَلَيْهِمْ سُرُورًا بِحَسَنَةٍ
مِنْ حَسَنَاتِهِ يُظْهِرُهَا لَهُمْ لِيُسَرُّوا بِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَفَظَةَ
يَفْرَحُونَ بِحَسَنَةِ الْعَبْدِ حِينَ يَعْمَلُهَا أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِ
الْعَبْدِ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَرَى ثَوَابَهَا وَمَا ذَاكَ إلَّا
أَنَّ رُسُلَ الْمَلِكَ لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ إلَّا بِمَا
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يُحِبُّهُ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَإِنَّهُمْ يَكْرَهُونَهُ
لِكَرَاهِيَةِ الْمَلِكَ لَهُ .
وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرُهُ مُشْكِلٌ
؛ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِهَا ، وَهِيَ أَكْبَرُ
الْأَعْمَالِ وَأَزْكَاهَا .
لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عَنْ رَبِّهِ { : لَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ الْمُقَرَّبُونَ بِأَحَبَّ
مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِمْ } الْحَدِيثُ بِكَمَالِهِ .
وَالْحَفَظَةُ يُشَاهِدُونَ ذَلِكَ وَيَكْتُبُونَهُ .
فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يُحْمَلَ مَا ذَكَرَهُ عَلَى
الْأَوْرَادِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ ، وَهِيَ الْفِكْرُ
وَالنَّظَرُ وَالِاعْتِبَارُ إذْ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَجَلَّى لِخَلْقِهِ
وَظَهَرَ بِآيَاتِهِ وَبَطَنَ بِذَاتِهِ فَهُوَ
الظَّاهِرُ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ مَصْنُوعَاتِهِ الْبَاطِنُ بِذَاتِهِ فَلَا
يُقَالُ أَيْنَ وَلَا كَيْفَ وَلَا مَتَى ؛ لِأَنَّهُ خَالِقُ الزَّمَانِ
وَالْمَكَانِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ وَإِذَا كَانَ
ذَلِكَ كَذَلِكَ فَمَنْ كَانَ فِي حَالِ التَّجَلِّي فَهُوَ مُسْتَغْرِقُ
الْأَوْقَاتِ حَتَّى لَا يَرَى غَيْرَ مَا هُوَ فِيهِ لِكَثْرَةِ مَا هُوَ فِيهِ
مِنْ النَّعِيمِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ شَيْئًا مِنْ النِّعَمِ أَعْلَى مِنْهُ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَلَا يُعَكَّرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ
قَوْلِ الْحَفَظَةِ مَا وَرَدَ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا نَوَى الْحَسَنَةَ
خَرَجَتْ عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ عَطِرَةٌ ، وَإِذَا نَوَى السَّيِّئَةَ خَرَجَتْ
عَلَى فَمِهِ رَائِحَةٌ مُنْتِنَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ نَوَى بِقَلْبِهِ مَا
نَوَاهُ فَهُوَ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ دَلَّتْ عَلَيْهِ الرَّائِحَةُ
الصَّادِرَةُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ إذْ التَّجَلِّي لَيْسَ
مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ وَلَا مِنْ حِيلَتِهِ ، بَلْ هُوَ فَيْضٌ مِنْ الْمَوْلَى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَفَضُّلٌ مِنْهُ وَامْتِنَانٌ عَلَى مَنْ خَصَّهُ وَاخْتَارَهُ
مِنْ خَلْقِهِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَأَوَانٍ فَيَنْبَغِي لِلْمُرِيدِ إنْ كَانَتْ لَهُ
هِمَّةٌ سَنِيَّةٌ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى تَحْصِيلِ هَذَا الْمَقَامِ السَّنِيِّ ؛
لِأَنَّ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَرِيمٌ مَنَّانٌ وَهَذِهِ الْأُمَّةُ
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ فِيهَا الْبَرَكَةُ الشَّامِلَةُ فَخَيْرُهُمْ وَمَقَامُهُمْ
الْخَاصُّ بِهِمْ لَا يَزُولُ وَلَا يَحُولُ إلَى أَنْ يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ - تَعَالَى -
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا يَقْطَعُ الْمُرِيدُ إيَاسَهُ مِنْ
الْوُصُولِ إلَى حَالِهِمْ السَّنِيِّ وَلَا يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَلَا
لِحِيلَتِهِ وَقُوَّتِهِ وَاجْتِهَادِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَهْمَا نَظَرَ إلَى ذَلِكَ
قَطَعَ بِهِ ، بَلْ يَنْظُرُ إلَى فَضْلِ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَنِعَمِهِ الْمُتَرَادِفَةِ عَلَيْهِ
.
وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ بَهِيمِيَّ الطَّبْعِ لَا
يَرَى النِّعَمَ إلَّا فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالسَّعَةِ فِي
الرِّزْقِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ حَالِ الْمُرِيدِ
فِي شَيْءٍ بَلْ هُوَ مِنْ حَالِ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
مِنْ كَرَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَفَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ يُعْطِي لِكُلِّ قَاصِدٍ
مَا قَصَدَهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرِيدَ غَنِيمَتُهُ مَا
فَاتَهُ مِنْ الدُّنْيَا ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَقُولُ الْمُرِيدُ لَا يَحْتَاجُ لِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فَقُلْتُ لَهُ
أَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ فَقَالَ نَعَمْ
لَكِنَّ طَعَامَ الْمُرِيدِ الْجُوعُ وَكِسْوَتَهُ الْعُرْيُ فَهُوَ يَجِدُ ذَلِكَ
فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَحِلُّ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى
أَحَدٍ .
وَالْمَقْصُودُ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ قَدْ طَرَحُوا
أُمُورَ الدُّنْيَا خَلْفَ ظُهُورِهِمْ وَأَقْبَلُوا بِكُلِّيَّتِهِمْ عَلَى
رَبِّهِمْ وَأَسْنَدُوا أُمُورَهُمْ إلَيْهِ وَتَوَكَّلُوا بِالْحَقِيقَةِ
عَلَيْهِ فَأَنْعَمَ عَلَيْهِمْ وَقَرَّبَهُمْ وَاجْتَبَاهُمْ وَحَمَاهُمْ
وَتَجَلَّى لَهُمْ بِصِفَاتِهِ الْجَلِيلَةِ الْجَمِيلَةِ أَسْأَلُ اللَّهَ -
تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ .
وَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ الْمُرِيدَ
يَقْتَصِرُ عَلَى الْأَعْمَالِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا إنَّمَا ذَلِكَ فِي حَالِ
بِدَايَتِهِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ نَفْسَهُ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّرَقِّي فِي
الزِّيَادَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَسْتَغْرِقَ ، أَوْقَاتَهُ فِي أَنْوَاعِ
الْعِبَادَاتِ ، وَهُوَ لَمْ يَجِدْ لِذَلِكَ مَشَقَّةً وَلَا تَعَبًا فِي
الْغَالِبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ لَكِنَّ الْمُرِيدَ فِي بِدَايَةِ أَمْرِهِ يَمْشِي
عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ أَوْرَادِ الْمُتَعَلِّمِ وَأَمَّا نِهَايَتُهُ فَلَا حَدَّ
لَهَا ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : أَكْلُهُمْ أَكْلُ الْمَرْضَى وَنَوْمُهُمْ نَوْمُ
الْغَرْقَى وَكَلَامُهُمْ ضَرُورَةٌ فَلَا يَنَامُ الْمُرِيدُ إلَّا غَلَبَةً ،
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ بَعْضِهِمْ فِي السَّنَةِ الَّتِي أَخَذَتْهُ ،
وَهُوَ جَالِسٌ فِي مُصَلَّاهُ حِينَ صَلَّى رَكْعَتَيْ الْإِشْرَاقِ فَعَرَكَ
عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَيْنٍ
لَا تَشْبَعُ مِنْ النَّوْمِ .
وَمِنْ كَانَ نَوْمُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا
يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَهَيَّأَ لِحَالَةِ النَّوْمِ وَلَا لِلْأَذْكَارِ
الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ إذْ حَالُ الْمُرِيدِ لَا يَنْضَبِطُ بِقَانُونٍ
مَعْلُومٍ لِكَثْرَةِ اجْتِهَادِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَأَحْوَالُهُمْ فِي
أَعْمَالِهِمْ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ
.
لَكِنْ يُحَافَظُ عَلَى السُّنَّةِ وَيَشُدُّ يَدَهُ عَلَيْهَا
، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْجِبُهُ مَا حُكِيَ
عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ إلَى فِرَاشِهِ دَخَلَ عَلَى جَنْبِهِ
الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْأَيْسَرِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى
الْأَيْمَنِ ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ يَقُولُ
: اللَّهُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّ خَوْفَ نَارِكَ مَنَعَنِي الْكَرَى فَيَقُومُ
حَتَّى يُصْبِحَ فَكَانَ يُعْجِبُهُ مِنْهُ مُحَافَظَتُهُ عَلَى السُّنَّةِ حَتَّى
فِي الْفِرَاشِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ النَّوْمُ
فَإِذَا كَانَ الْمُرِيدُ عَلَى هَذَا الْحَالِ أَعْنِي مُحَافَظَتَهُ عَلَى
السُّنَّةِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ لَا يَفُوقُهُ
غَيْرُهُ نَسْأَلُ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْ لَا يَحْرِمَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ
إنَّهُ الْكَرِيمُ الْوَهَّابُ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَيْهِمْ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
فَصْلٌ فِي قُدُومِ الْمُرِيدِ مِنْ السَّفَرِ
وَدُخُولِهِ الرِّبَاطَ اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ آكَدَ مَا
عَلَى الْمُرِيدِ اتِّبَاعُ السُّنَّةِ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَيَشُدُّ عَلَى ذَلِكَ يَدَهُ وَلْيَحْذَرْ أَنْ
يَمِيلَ ، أَوْ يَغْتَرَّ بِمَا قَدْ أَحْدَثَهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَفْعَالٍ
لَمْ تَكُنْ لِمَنْ مَضَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي الِاتِّبَاعِ
وَعَكْسَهُ فِي الِابْتِدَاعِ ، وَأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ أَكْثَرُ النَّاسِ اتِّبَاعًا
لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ وَمَا فَاقُوا عَلَى غَيْرِهِمْ إلَّا بِذَلِكَ ؛
لِأَنَّهُمْ اُخْتُصُّوا بِثَلَاثَةِ أَسْمَاءٍ فُقَرَاءَ وَمُرِيدِينَ
وَصُوفِيَّةٍ فَالْفَقِيرُ مَنْ افْتَقَرَ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ إلَى رَبِّهِ
عَزَّ وَجَلَّ وَسَكَنَ بِقَلْبِهِ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَوَاطِرُ
تَلْدَغُهُ فَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهَا وَيَفْتَقِرُ إلَى رَبِّهِ وَيُعَوِّلُ
عَلَيْهِ ، وَالْمُرِيدُ مَنْ أَرَادَ رَبَّهُ دُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِوَاهُ وَكَانَ
غَايَةَ طَلَبِهِ وَمُنَاهُ وَسَلِمَ مِنْ لَدَغَاتِ الْخَوَاطِرِ
وَمُجَاهَدَتِهَا لِإِرَادَتِهِ لِرَبِّهِ وَإِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ .
وَالصُّوفِيُّ مِنْ صَفَا بَاطِنُهُ وَجَمَعَ سِرَّهُ عَلَى
رَبِّهِ وَشَاهَدَ عَيَانًا جَمِيلَ صُنْعِهِ فَأَسْنَدَ الْأُمُورَ كُلَّهَا
إلَيْهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَرَّبَهُمْ اللَّهُ وَاجْتَبَاهُمْ وَخَلَعَ عَلَيْهِمْ
خِلَعَ إحْسَانِهِ وَلِحَضْرَتِهِ السَّنِيَّةِ ارْتَضَاهُمْ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ
كَذَلِكَ فَهَذَا مَقَامٌ خَاصٌّ بِهِمْ وَالثَّوْبُ النَّظِيفُ أَقَلُّ شَيْءٍ
يُدَنِّسُهُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ حِكَايَةُ سَيِّدِي الشَّيْخِ الْجَلِيلِ أَبِي
عَلِيِّ بْنِ السَّمَّاطِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ حِينَ
قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَغُشِيَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ
شِعَارُهَا الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ فَإِنْ وَقَعَ لَهُمْ شَيْءٌ مَا
مِنْ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ رَأَوْهُ أَمْرًا عَظِيمًا فَأَقْلَعُوا عَنْهُ فِي وَقْتِهِمْ
وَجَدَّدُوا التَّوْبَةَ مَعَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَرَأَوْا أَنَّ ذَلِكَ بِسَبَبِ
ذَنْبٍ تَقَدَّمَ
فَعُجِّلَتْ لَهُمْ عُقُوبَتُهُ فَتَضَرَّعُوا إلَى
اللَّهِ وَابْتَهَلُوا إلَيْهِ مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْهُمْ .
وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى
الْمُرِيدِ أَنْ لَا يُسَامِحَ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُخَالِفُ الِاتِّبَاعَ
، وَلَوْ قَالَهُ مَنْ قَالَهُ
.
فَلْيَحْذَرْ مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي قَرَّرَهَا بَعْضُ
النَّاسِ ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ : فَمِنْهُمْ مَنْ
اسْتَحَبَّهَا وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ تَرَكَهَا وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَكْثَرِ
أَهْلِ الشَّرْقِ .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّ مَنْ فَعَلَهَا ، وَمَنْ
لَمْ يَفْعَلْهَا سِيَّانِ لَا عَتْبَ عَلَى تَارِكِهَا وَلَا حَرَجَ عَلَى
فَاعِلِهَا .
وَذَهَبَتْ الطَّائِفَةُ الثَّالِثَةُ ، وَهُمْ
الْمُحَقِّقُونَ الْمُتَّبِعُونَ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ
الْأُمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ إلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ ذَلِكَ
بِدْعَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ ، أَوْ اسْتَحْسَنَهُ ، وَقَالَ لَا حَرَجَ عَلَى
فَاعِلِهِ لِمُخَالَفَتِهِ لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو الْحَسَنِ الزَّيَّاتُ
رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ صُوفِيٌّ سُنِّيٌّ يَعْنِي
بِذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ مِنْ الْعَوَائِدِ
الْمُحْدَثَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ تَرْجِعُ إلَيْهِ فَمِنْ
ذَلِكَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُرِيدَ إذَا وَرَدَ
الْبَلَدَ وَقَصَدَ دُخُولَ الرِّبَاطِ ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فِي عُرْفِ الْعَجَمِ
الْخَانْقَاهْ فَالرِّبَاطُ مَأْخُوذٌ مِنْ الرَّبْطِ ؛ لِأَنَّ سَاكِنَهُ
مُرَابِطٌ فِيهِ وَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُحِبُّونَ رُؤْيَةَ
الْقَيْدِ فِي النَّوْمِ وَيَكْرَهُونَ الْغِلَّ فَهَذَا مِنْهُ .
وَلَهُمْ فِيمَا أَحْدَثُوهُ اصْطِلَاحٌ لَا يَنْبَغِي
أَنْ يُعَرِّجَ عَلَيْهِ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَثُرَ وُقُوعُهُ وَالْقَوْلُ بِهِ
وَالْإِنْكَارُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْهُ وَاتَّبَعَ
السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ تَعَيَّنَ الْكَلَامُ فِيهِ عَلَى مَنْ تَعَيَّنَ
عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ دُخُولَ الرِّبَاطِ كَمَا تَقَدَّمَ
يُشَمِّرُ كُمَّيْهِ وَيَبْتَدِئُ فِي ذَلِكَ
بِالْيَمِينِ وَهَذَا إذَا أَرَادَ دُخُولَ الرِّبَاطِ ، أَوْ يَتَنَاوَلُ شَيْئًا
طَاهِرًا وَأَمَّا إنْ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئ
بِتَشْمِيرِ كُمِّهِ الْأَيْسَرِ وَيُبَالِغُونَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ
وَيُسَمُّونَهَا آدَابًا .
حَتَّى أَنَّهُ قَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ تَوَغَّلَ
فِي هَذَا الشَّأْنِ أَنَّهُ خَدَمَ شَيْخَهُ سِنِينَ مُتَطَاوِلَةً فَلَمَّا أَنْ
كَانَ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ فَشَمَّرَ كُمَّهُ
الْأَيْمَنَ قَبْلَ الْأَيْسَرِ فَقَالَ لَهُ شَيْخُهُ أَيْنَ تُرِيدُ
فَاسْتَفَاقَ لِخَطَئِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ ، فَقَالَ يَا سَيِّدِي إلَى بَغْدَادَ
فَسَافَرَ إلَيْهَا .
فَانْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى تَبْدِيلِ
الْخَاطِرِ الْمُعَجَّلِ بِمُخَالَفَةِ سُنَّةٍ وَاحِدَةٍ كَيْفَ وَقَعَ بِهَا
هَذَا فِي أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : تَعَبُ السَّفَرِ الطَّوِيلِ وَتَرْكُ
جَمْعِ الْخَاطِرِ فِي الْحَضَرِ وَبَرَكَتِهِ .
وَالثَّانِي : إخْبَارُ شَيْخِهِ بِمَا لَيْسَ فِي
بَاطِنِهِ ، وَطَائِفَةُ الصُّوفِيَّةِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .
ثُمَّ إذَا شَمَّرَ أَكْمَامَهُ يَشُدُّ وَسَطَهُ
بِشَيْءٍ وَيَأْخُذُ الْعُكَّازَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ، وَالْإِبْرِيقَ بِيَدِهِ
الْيُسْرَى وَيَجْعَلُ السَّجَّادَةَ عَلَى كَتِفِهِ الْأَيْسَرِ مَطْوِيَّةً
وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ اتِّخَاذَ السَّجَّادَةِ مِنْ الْبِدَعِ
الَّتِي أُحْدِثَتْ فَكَيْفَ يَتَّخِذُهَا الْفَقِيرُ ، وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ
السَّلَفِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَا يَحُولُ بَيْنَ وُجُوهِهِمْ وَبَيْنَ
الْأَرْضِ حَائِلٌ لَا حَصِيرٌ وَلَا غَيْرُهُ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِاتِّبَاعِ
سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا شَكَوْا إلَيْهِ مَا يَجِدُونَهُ مِنْ أَلَمِ السُّجُودِ
عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يُشْكِهِمْ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُزِلْ شَكْوَاهُمْ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ { : مَسْحُ الْحَصْبَاءِ مَسْحَةً
وَاحِدَةً وَتَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ } وَلَا يَرِدْ عَلَى هَذَا
حَدِيثُ
الْخُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى شِدَّةِ
الْأَلَمِ الَّذِي يُوجَدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْأَلَمِ الَّذِي
تَحْمِلُهُ الْبَشَرَةُ فَلَا يُرَخَّصُ فِيهِ .
وَالْخُمْرَةُ هِيَ شَيْءٌ مَضْفُورٌ مِنْ الْخُوصِ
قَدْرُ مَا يَضَعُ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ إذَا سَجَدَ ،
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْجُدُ وَلَا
يَحُولُ بَيْنَ وَجْهِهِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ شَيْءٌ لِاتِّبَاعِهِ السُّنَّةَ وَتَوَاضُعِهِ .
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَوْلَى النَّاسِ بِالِاتِّبَاعِ وَالتَّوَاضُعِ
، وَهُوَ الْآنَ دَاخِلٌ إلَى الرِّبَاطِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ لَا
يَدْخُلُهُ فِي الْغَالِبِ إلَّا مَنْ هُوَ مُتَحَفِّظٌ عَلَى دِينِهِ فَلَا
حَاجَةَ تَدْعُو إلَى السَّجَّادَةِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عَوَائِدُ اُنْتُحِلَتْ
وَوَقَعَ الِاسْتِئْنَاسُ بِهَا ، وَالْعَوَائِدُ كُلُّهَا مَطْرُوحَةٌ ؛ لِأَنَّ
السُّنَّةَ هِيَ الْحَاكِمَةُ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ فَضْلًا عَنْ الْمُرِيدِ .
ثُمَّ يَأْمُرُونَهُ إذَا دَخَلَ الرِّبَاطَ أَنْ لَا
يُسَلِّمَ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَاعْتَلُّوا لِذَلِكَ
بِأَنَّ الْمُرِيدَ لَا يَذْكُرُ اللَّهَ - تَعَالَى - إلَّا وَهُوَ عَلَى وُضُوءٍ
وَالسَّلَامُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَإِذَا سَلَّمَ عَلَى
أَحَدٍ ، أَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ
فَيَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَهُوَ عَلَى تِلْكَ
الْحَالَةِ ، أَوْ يَتْرُكُ رَدَّ السَّلَامِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ فَأَمَرُوهُ
بِتَرْكِ السَّلَامِ لِأَجْلِ هَذَا وَهَذَا أَيْضًا مُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ إذْ
إنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ عَرَفَ ،
وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ
تَعْلِيلِهِمْ لِذَلِكَ فَلَيْسَ بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ
إلَّا فِي حَالِ مَوْضِعِ الْخَلَاءِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ بِذِكْرِ
اللَّهِ - تَعَالَى - هُنَاكَ عِنْدَ الِارْتِيَاعِ وَمَا يُشْبِهُهُ وَلَيْسَ
بِمَكْرُوهٍ وَالسُّنَّةُ عِنْدَ
لِقَاءِ الْمُؤْمِنِ لِأَخِيهِ السَّلَامُ لَا بَعْدَ
جُلُوسِهِ وَاسْتِئْنَاسِهِ .
ثُمَّ يَأْمُرُونَهُ عِنْدَ إرَادَةِ دُخُولِهِ
الرِّبَاطَ أَنْ يَقْعُدَ عِنْدَ الْبَابِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ مَنْ فِي
الرِّبَاطِ مِنْ الشُّبَّانِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَيُؤْذُونَهُ بِالشَّتْمِ
وَيُقِلُّونَ الْأَدَبَ عَلَيْهِ وَيَخْرِقُونَ حُرْمَتَهُ وَيَكْسِرُونَ
الْإِبْرِيقَ الَّذِي مَعَهُ وَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى
حَتَّى يَيْأَسُوا مِنْ غَضَبِهِ وَيُعَلِّلُونَ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ بِأَنْ يَقِفُوا
عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ وَحَمْلِهِ لِلْأَذَى إذْ إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ لَا
تَنْتَصِرُ لِنَفْسِهَا وَهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ كَظْمًا لِلْغَيْظِ وَعَفْوًا
عَنْ النَّاسِ وَهَذَا التَّعْلِيلُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِدَ
إذَا عَلِمَ أَنَّهُ إذَا انْزَعَجَ لِذَلِكَ وَغَضِبَ لَا يُدْخِلُونَهُ
الرِّبَاطَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ إذْ ذَاكَ عَلَى أَذِيَّتِهِمْ لِأَجْلِ مَا يَرْجُو
مِنْ حَاجَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ
فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ ضِدَّهُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ ، وَالْحَالَةِ هَذِهِ ،
ثُمَّ يَخْرُجُ إلَيْهِ الْخَادِمُ فَيَأْخُذُ السَّجَّادَةَ عَنْ كَتِفِهِ ،
وَهُوَ سَاكِتٌ لَا يُسَلِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخِرِ وَيَدْخُل الْخَادِمُ وَالْوَارِدُ
يَتْبَعُهُ حَتَّى إذَا حَصَلَ فِي وَسَطِ الرِّبَاطِ وَقَفَ الْوَارِدُ يَنْظُرُ
أَيْنَ يَفْرِشُ الْخَادِمُ السَّجَّادَةَ فَيَعْرِفُ مَوْضِعَهَا وَهَذَا فِيهِ
مَا فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي السَّلَامِ عِنْدَ اللِّقَاءِ إنَّمَا
هُوَ التَّأْنِيسُ بِالْبَشَاشَةِ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ الْإِكْرَامِ لِلضَّيْفِ
وَالتَّوَدُّدِ نَقِيضُ مَا عَامَلُوهُ بِهِ وَأَمَّا كَسْرُ الْإِبْرِيقِ فَلَا
خَفَاءَ أَنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ وَكَذَلِكَ شَتْمُهُ
فَوَضَعُوا الشَّتْمَ وَخَرْقَ الْحُرْمَةِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ مَوْضِعَ الْإِكْرَامِ
وَالِاحْتِرَامِ وَالضِّيَافَةِ ، ثُمَّ سَرَى هَذَا الْأَمْرُ إلَى عَامَّةِ
الْمُسْلِمِينَ إذْ إنَّ هَذِهِ الطَّائِفَةَ قُلُوبُ النَّاسِ بِهِمْ
مُتَعَلِّقَةٌ لِحُسْنِ ظَنِّهِمْ بِهِمْ وَلِكَوْنِهِمْ مَنْسُوبِينَ إلَى
اتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَالزُّهْدِ فِي
الدُّنْيَا وَتَرْكِهَا ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى
الْعِبَادَةِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ وَيَرَوْنَ أَنَّهُمْ مَحْفُوظُونَ لَا
يُخَالِفُونَ وَلَا يَبْتَدِعُونَ فَإِذَا صَدْرَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا
اقْتَدَى بِهِمْ غَيْرُهُمْ فِي فِعْلِهِ فَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فِي
هَذَا الزَّمَانِ يَقْعُدُ الرَّجُلُ وَأَوْلَادُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
يَشْتُمُ صَاحِبَهُ وَيَشْتُمُونَ الْآبَاءَ وَالْأَجْدَادَ وَيَلْعَنُونَ
أَنْفُسَهُمْ ، وَالْوَالِدَانِ يَنْظُرَانِ إلَيْهِمْ ، وَقَدْ وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ { : الْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ لَعَّانًا } وَمِنْ كِتَابِ السُّنَنِ
لِأَبِي دَاوُد رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ وَلَا
تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا
عَطَاءً فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ }
.
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ الْعَبْدَ إذَا لَعَنَ
شَيْئًا صَعِدَتْ اللَّعْنَةُ إلَى السَّمَاءِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ
دُونَهَا ، ثُمَّ تَهْبِطُ إلَى الْأَرْضِ فَتُغْلَقُ أَبْوَابُهَا دُونَهَا ،
ثُمَّ تَأْخُذُ يَمِينًا وَشِمَالًا فَإِذْ لَمْ تَجِدْ مَسَاغًا رَجَعَتْ إلَى الَّذِي
لَعَنَ إنْ كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَإِلَّا رَجَعَتْ إلَى قَائِلِهَا } وَمِنْهُ
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ { : لَا تَلَاعَنُوا بِلَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا بِغَضَبِ اللَّهِ وَلَا
بِالنَّارِ } .
وَمِنْهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : لَا يَكُونُ
اللَّعَّانُونَ شُفَعَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ } وَمِنْ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ مِنْ أَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ
: يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ
وَيَسُبُّ أُمَّهُ } وَهُمْ الْيَوْم قَدْ جَاوَزُوا الْحَدَّ فِي ذَلِكَ يَشْتُمُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا دُون أَجْنَبِيٍّ بَيْنَهُمْ يَكْفِهِمْ قَدْ كَفَوْا
الْأَجْنَبِيَّ أَمْرَهُمْ وَلَا يَهْتَمُّونَ لِذَلِكَ وَلَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ .
وَلَوْ قَدَّرْنَا أَنَّ أَحَدًا نَبَّهَهُمْ عَلَى مَا
فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْقُبْحِ الْمُجْمَعِ عَلَى مَنْعِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَسْخَرُ مِنْهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ هَذَا بَسْطٌ لَا حَقِيقَةٌ ،
وَكُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ السَّرَيَانُ مِنْ الْخَاصَّةِ إلَى الْعَامَّةِ فَإِنَّا
لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَنِ وَارْتِكَابِ
الْبِدَعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ السُّنَّةِ إكْرَامُ الضَّيْفِ
بِتَيْسِيرِ مَا حَضَرَ ، وَالْإِقْبَالُ عَلَيْهِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ
فِعْلِهِمْ عَكْسُ هَذَا الْأَمْرِ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ .
ثُمَّ إنَّ الْخَادِمَ إذَا فَرَشَ السَّجَّادَةَ
يَجْعَلُ فَتْحَهَا إلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ
إذَا جَاءَ أَحَدٌ يُرِيدُ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ فَيُجْلِسُهُ لِنَاحِيَةِ
الْيَمِينِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ فِي فَرْشِهَا لَهُ إذْ ذَاكَ وَيُعَلِّلُونَهُ
بِوَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي جِهَةِ الْيَسَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ فَتْحُهَا لِتِلْكَ الْجِهَةِ تَفَاؤُلًا بِالْفَتْحِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ
التَّفَاؤُلِ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ التَّفَاؤُلَ الشَّرْعِيَّ إنَّمَا هُوَ مَا
كَانَ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَمَا ذَكَرُوهُ كُلَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ
صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالسَّجَّادَةُ مَكْرُوهَةٌ
فِي الشَّرْعِ ابْتِدَاءً إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ فَكَيْفَ تَفَاصِيلُهَا
فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَحْرَى ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَطْوِي طَرْفَهَا
مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ فَإِذَا عَلِمَ الْوَارِدُ
مَوْضِعَ السَّجَّادَةِ ذَهَبَ إلَى مَوْضِعِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ كَانَتْ لَهُ
حَاجَةٌ ، أَوْ لَمْ تَكُنْ كَانَ عَلَى وُضُوءٍ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَأْخُذُ
الْإِبْرِيقَ فَيَدْخُلُ بِهِ إلَى الْخَلَاءِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى مَوْضِعِ
الْوُضُوءِ ، وَالْإِبْرِيقُ بِيَدِهِ فَيَضَعُهُ فِي
مَوْضِعِهِ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ وَيَجْعَلُ بُزْبُوزَهُ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ
وَيَمْلَؤُهُ وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَضَعُونَ الْإِبْرِيقَ فِيهِ إنَّمَا
يَكُونُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَهَذَا مَا يَحْتَاجُ إلَى تَوْقِيفٍ مِنْ صَاحِبِ
الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذِهِ الْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلُ اسْتِقْبَالِ
الْقِبْلَةِ وَغَيْرِهَا إنَّمَا الْمُخَاطَبُ بِهَا الْمُكَلَّفُونَ ،
وَالْإِبْرِيقُ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ خِطَابٌ وَلَا أَمَرَ الشَّرْعُ فِيهِ
بِشَيْءٍ ، وَالْتِزَامُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهِ ضِيقٌ وَحَرَجٌ ، وَقَدْ قَالَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَا تَرَكْتُهُ لَكُمْ فَهُوَ عَفْوٌ } ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا حَرَجَ
فِي وَضْعِ الْإِبْرِيقِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ وَكَذَلِكَ فِي بَسْطِ السَّجَّادَةِ
وَغَيْرِهَا فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ امْتَثَلْنَاهُ عَلَى الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ
وَمَا لَمْ يَرِدُ فِيهِ شَيْءٌ فَقَدْ وَسَّعَهُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلَا
نُضَيِّقُ عَلَى أَنْفُسِنَا بِاصْطِلَاحِ مَنْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ ، ثُمَّ
يَتَوَضَّأُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ مَشَى بِتُؤَدَةٍ إلَى مَوْضِعِ السَّجَّادَةِ
، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَا يُكَلِّمُ أَحَدًا وَلَا يُكَلِّمُهُ أَحَدٌ لَا
بِسَلَامٍ وَلَا غَيْرِهِ فَإِذَا جَاءَ إلَى السَّجَّادَةِ قَدَّمَ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى فَوَضَعَهَا عَلَى طَيَّةِ السَّجَّادَةِ ، ثُمَّ قَدَّمَ رِجْلَهُ
الْيُسْرَى فَوَضَعَهَا إلَى جَانِبِهَا عَلَى الطَّرَفِ الْمَطْوِيِّ كَمَا هُوَ
، ثُمَّ يُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي وَسَطِ السَّجَّادَةِ ، ثُمَّ الرِّجْلَ
الْيُسْرَى ، ثُمَّ يُزِيلُ تِلْكَ الطَّيَّةَ بِيَدِهِ أَوْ بِقَدَمِهِ
وَيُسَمُّونَ هَذِهِ الطَّيَّةَ قُفْلَ السَّجَّادَةِ حَتَّى لَا يَفْتَحَ ذَلِكَ
غَيْرُهُ وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ مُحْدِثَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا
أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فَتَعَيَّنَ إطْرَاحُهَا وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ
بِهَا ، ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ وَالصَّلَاةُ بِهَذَا الْوُضُوءِ فِيهَا مَا
فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوُضُوءَ إنْ كَانَ لِأَجْلِ دُخُولِ الرِّبَاطِ لَيْسَ
إلَّا فَلَا شَكَّ
أَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِهِ الصَّلَاةُ كَمَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيمَنْ تَوَضَّأَ لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، أَوْ
دُخُولِ السُّوقِ فَلَا يُؤَدِّي بِهِ عِبَادَةً يُشْتَرَطُ الْوُضُوءُ فِيهَا ،
وَإِنْ تَوَضَّأَ لِدُخُولِ الرِّبَاطِ وَلِلْحَدَثِ فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ
الَّذِي بَيْنَ الْعُلَمَاءِ إذَا أَشْرَكَ فِي النِّيَّةِ هَلْ يَجْزِيهِ أَمْ
لَا ؟ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَنْ هَذَا الْفِعْلَ كُلَّهُ
إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهُ ، وَأَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَهُ
يَدْخُلُ الرِّبَاطَ إلَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ فَقَدْ خَرَجَ الْوُضُوءُ
بِهَذَا عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ وَحْدَهُ بَلْ الشَّائِبَةُ فِيهِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ
، وَالْمُرِيدُ لَا يُسَامِحُ نَفْسَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا كُلِّهِ فَيَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بَعْدَ ذَلِكَ لِاسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ وَيَتُوبَ مِنْ
عَمَلٍ عَمِلَهُ لِأَجْلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ ، ثُمَّ إنَّهُ إذَا سَلَّمَ مِنْ
صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْ الذِّكْرِ أَتَى إلَيْهِ بَعْضُ
أَهْلِ الرِّبَاطِ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَبَسَطُوا لَهُ الْأُنْسَ وَيَقُومُ هُوَ
إلَيْهِمْ وَيُعَانِقُهُمْ وَهَذَا الَّذِي فَعَلُوهُ مِنْ سَلَامِهِمْ عَلَيْهِ وَبَسْطِهِمْ
لَهُ هُوَ السُّنَّةُ عِنْد اللِّقَاءِ فَأَخْرَجُوهُ عَنْ مَوْضِعِهِ
الْمَشْرُوعِ إلَى مَوْضِعٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِيهِ .
وَأَمَّا قِيَامُهُ لَهُمْ فَلَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي
شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ الْمَشْرُوعَ إنَّمَا هُوَ قِيَامُ الْحَاضِرِ
لِلْغَائِبِ حِينَ قُدُومِهِ عَلَيْهِ
.
وَأَمَّا الْمُعَانَقَةُ فَفِيهَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ
الْعُلَمَاءِ ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَرَاهَتُهَا ، ثُمَّ
إنَّهُمْ يُكَلِّمُونَ عِنْدَ ذَلِكَ بِالْكَلَامِ الْمُعْتَادِ بَيْنَهُمْ
الَّذِي لَا يَخْلُو فِي الْغَالِبِ مِنْ التَّنْمِيقِ وَالتَّزْكِيَةِ
وَتَرْفِيعِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِأَشْيَاءَ الْغَالِبُ عَدَمُ بَعْضِهَا إلَّا
مَنْ وَفَّقَ اللَّهُ - تَعَالَى
- وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .
وَاحْتَجُّوا عَلَى اسْتِحْبَابِ هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ
وَاسْتِحْسَانِهَا وَأَمْرِ الْفُقَرَاءِ بِهَا بِأَنَّ مَشَايِخَهُمْ قَدْ
قَرَّرُوا لَهُمْ
ذَلِكَ لِيَكُونَ تَحَفُّظُهُمْ عَلَيْهَا عَلَامَةً
وَدَلَالَةً عَلَى تَحَفُّظِهِمْ عَلَى بَوَاطِنِهِمْ مِمَّا يَقَعُ فِيهَا
فَتَكُونُ آدَابُ الظَّاهِرِ دَلَالَةً عَلَى حُصُولِ آدَابِ الْبَاطِنِ وَهَذِهِ
الطَّائِفَةُ يُحْسِنُونَ الظَّنَّ بِمَشَايِخِهِمْ ، وَقَدْ أَمَرُوهُمْ بِذَلِكَ
فَلَا عَتْبَ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِهِ ، بَلْ هُمْ فِي عَبَاءَةٍ وَخَيْرٍ وَهَذَا
الَّذِي قَالُوهُ لَيْسَ بِالْبَيِّنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجَازَ الْعُلَمَاءُ
مِثْلَ هَذَا لَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ ذَرِيعَةً إلَى نَسْخِ الشَّرِيعَةِ
بِالْآرَاءِ وَغَيْرِهَا فَكُلُّ مَنْ ظَهَرَ لَهُ شَيْءٌ ، أَوْ اسْتَحْسَنَ
شَيْئًا جَعَلَهُ أَصْلًا مَعْمُولًا بِهِ وَيُرْجَعُ إلَيْهِ وَلَا قَائِلَ بِهِ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا الدِّينُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَدْ حَفِظَهُ
اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَالنَّقْصِ مِنْهُ .
وَلَا حَاجَةَ فِي كَوْنِ الْفُقَرَاءِ يُحْسِنُونَ
ظَنَّهُمْ بِمَشَايِخِهِمْ ؛ لِأَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِهِمْ لَهُ مَجَالٌ مُتَّسِعٌ
مَا دَامُوا عَلَى الِاتِّبَاعِ لِلسُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فَحِينَئِذٍ يُرْجَعُ إلَيْهِمْ وَيُسْكَنُ إلَى
قَوْلِهِمْ ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى وَأَرْجَى
وَأَنْجَحُ بَلْ أَوْجَبُ مَعَ سَلَامَةِ الصَّدْرِ لِمَنْ قَالَ مَا قَالَ إذْ
إنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إلَّا خَيْرًا ، وَلَكِنَّ الْمُرِيدَ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ
أَنْ يَكُونَ مِيزَانُ الشَّرْعِ فِي يَدِهِ فَإِنَّ مَنْ وَفَّى وَاعْتَدَلَ
فَهُوَ غَنِيمَةٌ ، وَمَنْ نَقَصَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ
فِيمَا خَالَفَ فِيهِ السُّنَّةَ ؛ إذْ إنَّهُ لَا يَتْبَعُ أَحَدًا فِي الْغَلَطِ .
وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فِي حَدِيثِ الْوُرُودِ عَلَى الْحَوْضِ { : فَيُقَالُ إنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا
بَعْدَكَ فَأَقُولُ : فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا } أَيْ فَبُعْدًا فَبُعْدًا
فَبُعْدًا .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ وَقَعَ الْعَبَدُ
بِسَبَبِ التَّبْدِيلِ ، وَلَفْظُ التَّبْدِيلِ يَقَع عَلَى الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَلَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى
الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ
هَذَا الِاحْتِمَالِ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ تَكُونَ
السُّنَّةُ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ هُمَا الْأَصْلُ
عِنْدَهُ فَلَا يُعَرَّجُ عَلَى غَيْرِهِمَا ، وَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ .
وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ
الْمُرِيدَ يُعْرَفُ حِينَ دُخُولِهِ وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الْمُرِيدَ
مُحَافِظٌ عَلَى السُّنَّةِ إذَا اسْتَأْذَنَ وَوَقَفَ بِالْبَابِ حَتَّى يُؤْذَنَ
لَهُ ، ثُمَّ دَخَلَ وَقَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَأَخَّرَ الْيُسْرَى ، ثُمَّ
سَلَّمَ السَّلَامَ الشَّرْعِيَّ عُلِمَ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِامْتِثَالِهِ هَذِهِ السُّنَنِ
الثَّلَاثِ أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ جَاءَهُ مُرِيدٌ
لِزِيَارَتِهِ فَقَدَّمَ إلَيْهِ شَيْئًا لِلْأَكْلِ فَتَنَاوَلَ الْمُرِيدُ
لُقْمَةً بِالْيَسَارِ فَقَالَ لَهُ الْمَزُورُ مَنْ شَيْخُكَ يَا بُنَيَّ ؟
فَقَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي النَّاحِيَةُ الْيُمْنَى تُوجِعُنِي ، فَقَالَ لَهُ :
كُلْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَعَمَّنْ رَبَّاكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ
الْحِكَايَةُ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَكْلِ أَنْ يَكُونَ
بِنَاحِيَةِ الْيَمِينِ فَلَمَّا أَنْ رَآهُ خَالَفَ هَذِهِ السُّنَّةَ عَرَضَ
لَهُ بِقَوْلِهِ مَنْ شَيْخُكَ لِيُنَبِّهَهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ
مِنْ مُخَالَفَةٍ لِلسُّنَّةِ فَكَانَ فِي الْمُرِيدِ مِنْ الْيَقِظَةِ وَالْحُضُورِ
مَا فَهِمَ بِهِ مُرَادَهُ فَأَجَابَهُ فَهَكَذَا تَكُونُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى
السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ وَفَّقَنَا اللَّهُ لِذَلِكَ بِمَنِّهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي لِبَاسِ الْعَالِمِ وَتَصَرُّفِهِ
مَا فِيهِ غُنْيَةٌ عَنْ إعَادَتِهِ لَكِنَّ الْمُرِيدَ يَكُونُ أَشَدَّ حِرْصًا
عَلَى الِاتِّبَاعِ لِانْقِطَاعِهِ إلَى اللَّهِ وَتَبَتُّلِهِ إلَيْهِ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ مَا فِي تِلْكَ الثِّيَابِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ السَّرَفِ فَكَذَلِكَ
مَا يُشْبِهُهَا أَعْنِي مِنْ الْوُسْعِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي لَا ضَرُورَةَ
تَدْعُو إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُ الْمُرِيدِ قَصِيرًا فِي الْغَالِبِ
لَكِنَّهُ احْتَوَى عَلَى شَيْئَيْنِ قَبِيحَيْنِ : مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ ،
وَوُجُودِ السَّرَفِ فِيهِ أَعْنِي فِي الْوُسْعِ الْخَارِقِ الَّذِي يَفْعَلُهُ
بَعْضُهُمْ
( فَصْلٌ ) : وَاعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَةَ
الصُّوفِيَّةَ نَظِيفَةٌ وَأَقَلُّ شَيْءٍ يُدَنِّسُ النَّظِيفَ لَا جَرَمَ
أَنَّهُ قَدْ كَثُرَ التَّدْلِيسُ وَالتَّخْلِيطُ وَظَهَرَ .
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ طَرِيقَةٍ ادَّعَاهَا الْإِنْسَانُ
فَضَحَتْهُ فِيهَا شَوَاهِدُ الِامْتِحَانِ إلَّا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَإِنَّهُ
لَا يُفْتَضَحُ فِيهَا غَالِبًا ، وَذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ : وَأَحَدُهُمَا : أَنَّ
طَرِيقَهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقُوَّةِ وَالسَّتْرِ وَالْعَفْوِ وَالتَّصَفُّحِ وَالتَّجَاوُزِ
وَالْإِغْضَاءِ عَنْ الْعُيُونِ ، وَكُلُّ مَنْ ادَّعَى شَيْئًا يُخَالِفُ
طَرِيقَهُمْ سَتَرُوا عَلَيْهِ وَجَرُّوا عَلَيْهِ أَذْيَالَ الْفُتُوَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَغَيَّرَ فِي
هَذَا الزَّمَانِ أَقَلُّ مَا يَقَعُ مِنْهُ أَنْ يَقُولَ لَكَ : حَسَدْتَنِي
وَيَقُومُ فِي حَمِيَّتِهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَتَتَدَاعَى الْفِتَنُ
وَتَكْثُرُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْحُظُوظِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُمْ ، وَهِيَ
كَثِيرَةٌ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ سَكَتَ مَنْ سَكَتَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ
وَالِاتِّبَاعِ فَظَنَّ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِحَالِهِمْ السَّيِّئِ أَنَّ
سُكُوتَهُمْ رِضَاءٌ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا رَأَوْهُ ، أَوْ سَمِعُوهُ أَلَا
تَرَى أَنَّهُمْ إذَا وَجَدُوا مَنْ يُقْبَلُ الْحَقُّ مِنْهُمْ أَلْقَوْا إلَيْهِ
مَا يُخْلِصُونَ بِهِ مُهْجَتَهُ مِنْ هَذِهِ الْغَمَرَاتِ وَسَارُوا بِهِ وَأَقْبَلُوا
عَلَيْهِ لَا لِحَظٍّ دُنْيَوِيٍّ ، بَلْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَرَحًا مِنْهُمْ
بِهِدَايَةِ شَارِدٍ عَنْ بَابِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُضْطَرٌّ إلَى مَنْ
يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ
يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النِّعَمِ }
فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ السَّبِيلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا بَادَرَ إلَيْهِ ،
وَإِنْ كَانَ ضِدَّهُ تَغَافَلَ وَتَنَاسَى لِأَجْلِ مَا تَقَدَّمَ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّعِينَ بِمَكِيدَتِهِ
وَشَيْطَنَتِهِ يَتْبَعُ السُّنَنَ وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ يُرِيدُ بِذَلِكَ
أَنْ يُبَدِّلَ مَكَانَ كُلِّ سُنَّةٍ ضِدَّهَا .
أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَنْ وَجَدَ الْمُرِيدَ أَكْثَرَ
لِبَاسِهِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ الْقِصَرِ وَغَيْرِهِ أَدْخَلَ عَلَيْهِ
دَسِيسَةً قَلَّ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا ، وَهِيَ وُسْعِ الثَّوْبِ الْخَارِجِ عَنْ
الْعَادَةِ وَفِيهِ شَيْئَانِ مِمَّا لَا يَنْبَغِي وَهُمَا إضَاعَةُ الْمَالِ ،
وَهُوَ مُحَرَّمٌ لِمُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَكَفَى بِهِمَا وَقَنَعَ بِذَلِكَ مِنْ
بَعْضِهِمْ وَدَسَّ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ وَبَدَّلَ مَا هُوَ أَكْبَرَ مِنْ
هَذَا وَأَكْثَرَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْعَرَبِ فِي طُولِ ثِيَابِهِمْ حَتَّى صَارَتْ
إذَا مَشَوْا تَنْجَرُّ عَلَى الْأَرْضِ وَهَذَا مُحَرَّمٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ
مُتَأَكِّدٌ فِعْلُهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَبَدَّلَ لِلنِّسَاءِ ضِدَّ ذَلِكَ ،
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَزَادَ فِي ثِيَابِ بَعْضِ مَنْ نُسِبَ إلَى
الْعِلْمِ قَرِيبًا مِمَّا سَبَقَ فِي ثِيَابِ الْعَرَبِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنْ
الْأَتْبَاعِ وَأَوْقَعَهُمْ فِي ضِدِّهِ وَمَعَ ذَلِكَ قَلَّ مَنْ يَسْتَيْقِظُ
لِمَا أَلْقَاهُ إلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الدَّسَائِسِ ، بَلْ تَلَقَّوْهَا
بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا لِمَا أَلْقَى إلَيْهِمْ مِنْ التَّعْلِيلِ لِكُلِّ
وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِ الذَّمِيمَةِ تَعْلِيلَ مَا يُلْقِيهِ
إلَيْهِمْ وَتَحْسِينَهُ لَهُمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْعَى إلَى الْقَبُولِ مِنْهُ
، وَالْحِرْصِ عَلَى فِعْلِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى
مَا حَصَلَ مِنْ الْغَفَلَاتِ عَمَّنْ لَا يَغْفُلُ عَنَّا وَلَا يَنْسَانَا وَفِي
التَّلْوِيحِ مَا يُغْنِي عَنْ التَّصْرِيحِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ بِمَنِّهِ
وَكَرَمِهِ .
فَصْلٌ فِي ذِكْرِ بَعْضِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالْمَشَايِخِ
وَأَهْلِ الْإِرَادَةِ وَهَذَا بَابٌ مُتَّسِعٌ مُتَشَعِّبٌ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ
مَفَاسِدُهُ ، أَوْ يَتَعَيَّنَ مَا يَقَعُ مِنْهُ لِكَثْرَتِهِ لَكِنْ نُشِيرُ
إلَى شَيْءٍ مِنْهُ لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ ، وَاَللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَدَّعِي
الدِّينَ وَالصَّلَاحَ ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوُصُولِ وَيَأْتِي بِحِكَايَاتِ
مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأَكَابِرِ وَيُطَرِّزُ بِهَا كَلَامَهُ ، وَهُوَ مَعَ
ذَلِكَ يُشِيرُ إلَى نَفْسِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ ، وَأَنَّ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ طَرَفًا .
وَبَعْضُهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ
حَاصِلٌ وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ عَلَى تَصْنِيفِ الْحِكَايَاتِ
وَالْمَرَائِي الَّتِي يَخْتَلِقُهَا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ سِيَّمَا ،
وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - مَا اُبْتُلِيَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ
تَجَرُّئِهِ وَدَعْوَاهُ رُؤْيَا النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي الْمَنَامِ ، وَأَنَّهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَخَاطَبَهُ وَأَمَرَهُ وَنَهَاهُ ،
بَلْ بَعْضُهُمْ يَدَّعِي رُؤْيَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَهُوَ
فِي الْيَقَظَةِ وَهَذَا بَابٌ ضَيِّقٌ وَقَلَّ مَنْ يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ الْأَمْرُ
إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ عَزِيزٍ وُجُودُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ ، بَلْ
عَدِمَتْ غَالِبًا مَعَ أَنَّا لَا نُنْكِرُ مَنْ يَقَعُ لَهُ هَذَا مِنْ
الْأَكَابِرِ الَّذِينَ حَفِظَهُمْ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ
، وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الظَّاهِرِ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَةِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ
الْعَيْنُ الْفَانِيَةُ لَا تَرَى الْعَيْنَ الْبَاقِيَةَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَارِ الْبَقَاءِ وَالرَّائِي فِي دَارِ
الْفَنَاءِ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَحِلُّ هَذَا الْإِشْكَالَ ، وَيَقُولُ مَا قَالَهُ هَذَا الْقَائِلُ صَحِيحٌ وَلَكِنْ
يَرُدُّهُ مَا وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُوقِفُ هَذِهِ الطَّائِفَةَ
بَيْنَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ { :
أَوْلِيَائِي لَمْ أَزْوِ عَنْكُمْ الدُّنْيَا
لِهَوَانِكُمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ زَوَيْتُهَا عَنْكُمْ لِتَسْتَوْفُوا الْيَوْمَ
نَصِيبَكُمْ عِنْدِي اذْهَبُوا فَاخْتَرِقُوا الصُّفُوفَ فَمَنْ سَلَّمَ
عَلَيْكُمْ مِنْ أَجْلِي ، أَوْ زَارَكُمْ مِنْ أَجْلِي ، أَوْ أَطْعَمَكُمْ
لُقْمَةً مِنْ أَجْلِي فَخُذُوا بِيَدِهِ وَأَدْخِلُوهُ الْجَنَّةَ فَيَأْتُونَ
إلَى الْمَحْشَرِ وَهُمْ يَجُرُّونَ أَذْيَالَ الْفَخْرِ فَيَقُولُ أَهْلُ
الْمَحْشَرِ : يَا رَبَّنَا مَا بَالُ هَؤُلَاءِ دُونَنَا ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ : أَنْتُمْ مُتُّمْ فِي الدُّنْيَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَهَؤُلَاءِ
كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ يَمُوتُ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً } أَوْ كَمَا
قَالَ ، وَقَالَ سَيِّدِي أَبُو مَدْيَنَ : مَنْ مَاتَ رَأَى الْحَقَّ وَمَنْ لَمْ
يَمُتْ لَمْ يَرَ الْحَقَّ فَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ إذَا مَاتَ مَوْتَةً وَاحِدَةً
رَأَى الْحَقَّ فَمَا بَالُكَ بِسَبْعِينَ مَرَّةً فِي كُلِّ يَوْمٍ { فَلَا
تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ } فَذَهَبَ الْإِشْكَالُ ، وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ وَظَهَرَ الصَّوَابُ وَاَللَّهُ الْمُؤَمَّلُ فِي الثَّوَابِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُشِيرُ إلَى نَفْسِهِ بِالْكَرَامَاتِ
وَخَرْقِ الْعَادَاتِ ، وَهُوَ عَرِيٌّ عَنْهَا بِالِاتِّصَافِ بِضِدِّهَا
وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَةَ الْمَشَايِخِ وَلَقْيَهُمْ ، وَهُوَ مَعَ
ذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ وَلَا رَآهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ بَعْضِ الشُّيُوخِ
وَالِاهْتِدَاءِ بِهَدْيِهِمْ ، وَهُوَ لَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ وَلَا هُوَ عَلَى
طَرِيقِهِمْ ، بَلْ رَأَى بَعْضَ مَنْ صَحِبَ الشُّيُوخَ وَحَكَى عَنْهُمْ فَحَكَى
ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي رُؤْيَةَ الْخَضِرِ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ
يُؤَكِّدُ ذَلِكَ بِالْيَمِينِ لِيَكُونَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ مِنْهُ حَتَّى
لَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا : إنَّ الْخَضِرَ
يَأْتِيهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيَقِفُ عَلَى بَابِهِ أَوْ دُكَّانِهِ وَيَتَحَدَّثُ
مَعَهُ ، وَهُوَ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي ، وَذَلِكَ كُلُّهُ تَقَوُّلٌ وَافْتِعَالٌ
لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا فَرْعَ مَعَ أَنَّ هَذَا لَا يُنْكَرُ إذَا وَقَعَ مِنْ
أَهْلِهِ فِي
مَحِلِّهِ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا أَرَادَ أَنْ يُلْقِي شَيْئًا
مِمَّا يَخْطِرُ لَهُ قَدَّمَ قَبْلَهُ الِاسْتِشْهَادَ بِكِتَابِ اللَّهِ -
تَعَالَى - فَيَقُولُ : قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { : وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى
الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ } ، ثُمَّ يَحْلِفُ
عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى وَرَأَى ، وَأَنَّهُ خُوطِبَ فِي سِرِّهِ ، وَالْغَالِبُ
أَنَّكَ تَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْعَوَامّ لِغَلَبَةِ الْجَهْلِ عَلَيْهِمْ
بِأَهْلِ الْحَقِّ ، وَالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ وَالِاتِّبَاعِ إذَا مَوَّهَ
عَلَيْهِمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ التَّمْوِيهِ انْقَادُوا لَهُ وَقَالُوا بِهِ
وَاتَّبَعُوهُ وَنَزَّلُوهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا أَسْأَلُ اللَّهَ
السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَأَحْوَالُهُمْ الرَّدِيئَةُ لَا
تَنْحَصِرُ ، وَفِيمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ بِهِ كِفَايَةٌ وَمُقْنَعٌ .
هَذَا حَالُ الْمُسْتَتِرِينَ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ خَرَقُوا السِّيَاجَ
وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْهُمْ ، بَلْ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُهُمْ ، أَوْ
يَمِيلُ إلَيْهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ
مِثْلُ مَا يَفْعَلُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يُظْهِرُ لِلنَّاسِ الزُّهْدَ فِي
الدُّنْيَا وَتَرْكَ الْمُبَالَاةِ بِهَا حَتَّى إنَّهُ لَيَجْلِسَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ
، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ عَلَى زَعْمِهِ وَلَا
يَحْتَرِقُ بِمَرْأًى مِنْ النَّاسِ ، وَذَلِكَ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ
بِدْعَةً وَمُنْكَرًا إذْ إنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُعْجِزَةِ إظْهَارُهَا
وَالتَّحَدِّي بِهَا وَمِنْ شَرْطِ الْكَرَامَةِ عَكْسُ ذَلِكَ فَإِذَا
أَظْهَرَهَا لِلنَّاسِ فَقَدْ خَرَجَتْ عَنْ بَابِ الْكَرَامَةِ .
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَقَعَ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ
دَاعِيَةٌ إلَى إظْهَارِهَا .
مِثْلُ مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَانَ فِي
مَرْكَبٍ مَوْسُوقَةٍ قَمْحًا فَهَاجَ الْبَحْرُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْقَمْحُ
لِبَعْضِ الظَّلَمَةِ الْمُسَلَّطِينَ عَلَى الْخَلْقِ فِي وَقْتِهِ فَسَمِعَ النَّوَاتِيَّةَ
وَهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ هَذَا الْقَمْحَ مَكِيلٌ عَلَيْنَا فَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ
شَيْءٌ أَخَذَنَا
الظَّالِمُ بِهِ فَالرَّأْيُ أَنْ نَرْمِيَ الرُّكَّابَ
فِي الْبَحْرِ وَيَبْقَى الْقَمْحُ فَلَمَّا أَنْ سَمِعَهُمْ قَالَ لَهُمْ ارْمُوا
الْقَمْحَ فِي الْبَحْرِ وَأَنَّا الضَّامِنُ لَهُ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ
وَرَمَوْا الْقَمْحَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ إلَّا الْقَلِيلُ فَسَكَنَ الْبَحْرُ
فَلَمَّا أَنْ وَصَلُوا إلَى الْبَلَدِ طَالَبُوهُ بِمَا الْتَزَمَهُ فَأَمَرَهُمْ
أَنْ يَأْتُوا بِالْكَيَّالِينَ فَجَاءُوا بِهِمْ فَقَالَ : اكْتَالُوا مَا بَقِيَ
مِنْ الْقَمْحِ فَاكْتَالُوهُ فَوَفَّى مَا عَلَيْهِمْ أَعْنِي مَا كَانَ عَلَى
النَّوَاتِيَّةِ مَسْطُورًا ، ثُمَّ رَدَّ رَأْسَهُ إلَى أَصْحَابِهِ وَقَالَ
لَهُمْ : وَاَللَّهِ مَا عَمِلْتُهَا إلَّا حَقْنًا لِدِمَاءِ هَؤُلَاءِ
الْمُسْلِمِينَ .
فَمَا كَانَ مِثْلُ هَذَا فَهُوَ الَّذِي يُظْهِرُونَهُ
لِلضَّرُورَةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ أَنَّ لِدُخُولِ النَّارِ أَدْوِيَةً
تُسْتَعْمَلُ حَتَّى لَا تَعْدُوَ عَلَى مَنْ دَخَلَهَا مِمَّنْ اسْتَعْمَلَ
تِلْكَ الْأَدْوِيَةَ لَكِنْ لَوْ حَضَرَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَدَخَلَا
مَعًا لَاحْتَرَقَ صَاحِبُ الْبِدْعَةِ وَالزَّعْبَلَةِ وَخَرَجَ الْمُحِقُّ
سَالِمًا ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حِكَايَاتٍ يَطُولُ تَتَبُّعُهَا .
مِنْهَا الْحِكَايَةُ الْمُسْنَدَةُ فِي مِصْبَاحِ
الظَّلَامِ لِلشَّيْخِ الْإِمَامِ الْجَلِيلِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النُّعْمَانِ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَا جَرَى لِلسُّنِّيِّ وَالْبِدْعِيِّ فِي دُخُولِهِمَا
النَّارَ فَخَرَجَ السُّنِّيُّ وَلَمْ يَحْتَرِقْ وَبَقِيَ الْبِدْعِيُّ حُمَمَةً
، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ مَنْ يُنْسَبُ إلَى الْمَشْيَخَةِ يُدْخِلُ أَصْحَابَهُ النَّارَ
وَلَا يَحْتَرِقُونَ فَقَالَ لِي سَيِّدِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْفَاسِيُّ :
رَحِمَهُ اللَّهُ وَاَللَّهِ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ مِنْ سَيِّدِي الشَّيْخِ أَنْ
يَطْرُدَنِي لَأَخَذْتُ الشَّيْخَ نَفْسَهُ وَدَخَلْتُ وَأَنَا وَإِيَّاهُ
النَّارَ حَتَّى نَنْظُرَ مَنْ يَحْتَرِقُ فِينَا .
وَقَدْ كَانَ بِبِلَادِ الْمَغْرِبِ مِنْ زَمَنٍ قَرِيبٍ
رَجُلٌ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ وَخَرْقَ الْعَادَةِ وَكَانَ إذَا وَرَدَ عَلَيْهِ
الْفُقَرَاءُ وَالْأَضْيَافُ يَعْمَلُ لَهُمْ فَطِيرًا وَيَفِتُّهُ فِي قَصْعَةٍ
وَيُؤْتَى بِهَا إلَيْهِ فَيَنْصِبُ
يَدَهُ عَلَيْهَا فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ
عَسَلُ نَحْلٍ فَيَلِتُّ بِهِ وَيُطْعِمُهُ مَنْ هُنَاكَ حَتَّى يَكْفِيَهُمْ ،
ثُمَّ يُرْسِلُ يَدَهُ فَيَنْقَطِعُ فَسَمِعَ بِهِ بَعْضُ الْأَكَابِرِ فِي
وَقْتِهِ فَجَاءَ إلَيْهِ فَلَمَّا أَنْ جَلَسَ عِنْدَهُ قَالَ لَهُ : نُرِيدُ
أَنْ تُطْعِمَنَا مِنْ الْبَسِيسَةِ الَّتِي تُطْعِمُ النَّاسَ مِنْهَا فَقَالَ نَعَمْ
فَأَمَرَ بِالْفَطِيرِ عَلَى الْعَادَةِ فَأُحْضِرَ فَمَدَّ يَدَهُ لِيَسِيلَ
الْعَسَلُ عَلَى الْعَادَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ فَقَالَ لَهُ : وَأَيْنَ مَا
تَدَّعِيهِ ؟ فَقَالَ : انْقَطَعَ الْآنَ فَقَالَ لَوْ كَانَ حَقًّا مَا انْقَطَعَ
؛ لِأَنَّ الْبَاطِلَ إذَا حَضَرَهُ الْحَقُّ زَهَقَ ، ثُمَّ عَزَّرَهُ
وَوَبَّخَهُ بِالْكَلَامِ وَقَالَ لَهُ : كُنْتَ تُطْعِمُ الْمُسْلِمِينَ
أَبْوَالَ الشَّيَاطِينِ وَأَخْرَجَهُ عَنْ ذَلِكَ الْحَالِ وَتَوَّبَهُ عَنْهُ .
وَمِنْهُمْ مِنْ يُظْهِرُ الْكَرَامَةَ بِإِمْسَاكِ
الثَّعَابِينِ وَالْأُنْسِ بِهَا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ
الشَّرْعِ الشَّرِيفِ وَالتَّمْوِيهِ عَلَى الْأُمَّةِ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ
إذْ إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ لِمَعِيشَتِهِمْ
فَكَيْفَ يُعَدُّ كَرَامَةً ؟ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ
أَكْلِهِمْ الثَّعَابِينَ بِالْحَيَاةِ بِمَرْأًى مِنْ النَّاسِ ، وَذَلِكَ
مُحَرَّمٌ أَيْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ أَكْلَهَا لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدِ
تَذْكِيَتِهَا عِنْدَ مَنْ يَرَى أَكْلَهَا وَهُمْ يَأْكُلُونَهَا مِنْ غَيْرِ
تَذْكِيَةٍ بَلْ يُؤَدَّبُونَ كُلَّ أَكْلَةٍ مِنْ أَكَلَاتِهِمْ تَأْدِيبًا
بَلِيغًا رَادِعًا ، ثُمَّ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَقِيقَةٍ فَهُوَ مِنْ صَنْعَةِ
النَّارِ نَجِيَّاتِ وَالسِّيمِيَاءِ وَمَا شَاكَلَهَا وَلَيْسَ مِنْ بَابِ
الْكَرَامَةِ فِي شَيْءٍ .
وَكُنْتُ أَعْهَدُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِبِلَادِ
الْمَغْرِبِ تُفْعَلُ عَلَى أَبْوَابِهَا وَيَتَضَاحَكُ النَّاسُ عَلَيْهَا فِي
لَهْوِهِمْ وَلَعِبِهِمْ وَيَسْتَغْنُونَ بِسَبَبِهَا وَهُمْ فِي هَذِهِ
الْبِلَادِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ يَعُدُّونَهَا مِنْ الْكَرَامَاتِ
ويَعْتَقِدُونَهُمْ بِسَبَبِهَا وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ اسْتَنَّتْ سَنَةً سَيِّئَةً
وَهُمْ الَّذِينَ يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ ، وَذَلِكَ
مُخَالَفَةٌ لِلسُّنَّةِ وَارْتِكَابٌ لِلْبِدْعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ
شَرْعِيَّةٍ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ لِلضَّرُورَةِ مِثْلُ التَّدَاوِي
وَغَيْرِهِ فَجَائِزٌ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ عَكْسَ ذَلِكَ فَلَا
يَأْخُذُونَ شَيْئًا مِنْ شُعُورِ أَبْدَانِهِمْ وَيُعَلِّلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ
مِنْ حُسْنِ الصُّحْبَةِ ، وَذَلِكَ قَبِيحٌ شَنِيعٌ ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ فِعْلَ
الرُّهْبَانِ وَفِيهِ الْمُثْلَةُ وَالِاسْتِقْذَارُ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ .
وَمِنْهُمْ مِنْ يَلْبَسُ اللِّيفَ ، وَالْأَشْيَاءَ
الَّتِي لَا تَسْتُرُ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِثْلَ الشَّعْرِ وَغَيْرِهِ
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْمُثْلَةِ وَالشُّهْرَةِ ، وَالْبِدْعَةِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ
وَتَرْكِ الصَّلَاةِ إذْ إنَّهُ لَا يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَلَا غَيْرِهَا
وَأَشْنَعُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَأَقْبَحُ مَا اتَّخَذَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ لُبْسِ
الْحَدِيدِ فَيَتَّخِذُ سِوَارَيْنِ فِي يَدَيْهِ كَمَا تَتَّخِذُهُمَا
الْمَرْأَةُ مِنْ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ .
وَبَعْضُهُمْ يَحْمِلُ فِي عُنُقِهِ طَوْقًا مِنْ
حَدِيدٍ كَالْغُلِّ ، بَلْ هُوَ نَفْسُهُ وَيُعَلِّقُونَ فِي آذَانِهِمْ حِلَقًا مِنْ
حَدِيدٍ .
وَبَعْضُهُمْ يَجْعَلُ عَلَى ذَكَرِهِ طَوْقًا مِنْ حَدِيدِ
الْقُفْلِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ شُيُوخَهُمْ حِينَ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ
الْعَهْدَ يَفْعَلُونَهُ بِهِمْ وَيَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يُلْبِسُوهُ لِمَنْ
اقْتَدَى بِهِمْ وَيَقُولُونَ : إنَّ ذَلِكَ قُفْلٌ عَلَى مَحِلِّ الْمَعَاصِي
حَتَّى لَا تُرْتَكَبَ وَلَا خَفَاءَ فِي تَحْرِيمِ هَذَا وَشَنَاعَتِهِ
وَقُبْحِهِ ، وَأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ .
ثُمَّ مَعَ ادِّعَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ قُفْلٌ عَلَى
مَحِلِّ الْمَعَاصِي يَأْتُونَ بِنَقِيضِ مَا زَعَمُوا ، وَهُوَ أَنَّ فِيهِمْ
شُبَّانًا لَهُمْ صُوَرٌ حِسَانٌ وَهُمْ مُقِيمُونَ مَعَهُمْ مَسَاءً وَصَبَاحًا
وَيَخْلُو بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ دُونَ نَكِيرٍ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : لَأَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى سَبْعِينَ عَذْرَاءَ أَحَبُّ
إلَيَّ مِنْ أَنْ أُؤْتَمَنَ عَلَى شَابٍّ .
وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ حَدِيدًا كَالْعَمُودِ
يَمْشِي بِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْحَدِيدَ حِلْيَةُ
أَهْلِ النَّارِ ، وَقَدْ وَرَدَ { : مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ }
فَيَقَعُونَ فِي هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ بِسَبَبِ الْجَهْلِ ، وَالْجَهْلُ
بِالْجَهْلِ كُلُّ ذَلِكَ سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ .
وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ
يَدَّعِي أَنَّهُ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّوَابِ ، وَأَنَّ طَرِيقَتَهُ هِيَ
الْمُثْلَى وَمِنْهُمْ قَوْمٌ تَنَزَّهُوا عَنْ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَعَابُوا
عَلَى فَاعِلِهَا ، ثُمَّ إنَّهُمْ يَقَعُونَ فِي أَشْيَاءَ رَذِلَةٍ نَهَى
صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ عَنْهَا ، وَهِيَ
عِنْدَهُمْ كَأَنَّهَا مِنْ شِعَارِ الْوِلَايَةِ .
فَمِنْ ذَلِكَ اتِّخَاذُ بَعْضِهِمْ الْأَعْلَامَ عَلَى
رَأْسِهِ ، وَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لِلَّهِ - تَعَالَى -
عَلَى مَا يَزْعُمُ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَ وَلِيًّا فَالْوَلِيُّ لِلَّهِ -
تَعَالَى - لَوْ قَدَرَ أَنْ يَدْفِنَ نَفْسَهُ ، أَوْ يَكُونَ أَرْضًا يُمْشَى
عَلَيْهِ لَفَعَلَ حَتَّى لَا يَكُونَ مَعَ النَّاسِ بِالسَّوَاءِ فَكَيْفَ
يَنْشُرُ الْأَعْلَامَ عَلَى رَأْسِهِ وَهَذَا مِنْ بَابِ الشُّهْرَةِ وَالدَّعْوَى
وَأَهْلُ الْإِيمَانِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْ سَأَلَهُ
أَنْ يَعِظَ النَّاسَ وَيُذَكِّرَهُمْ فَقَالَ لَهُ : أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ
أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ فَاعْرِفُونِي فَكُلُّ مَنْ أَرَادَ الظُّهُورَ فَلَيْسَ
مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ فِي شَيْءٍ ، بَلْ هُوَ عَكْسُ حَالِهِمْ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ بِدْعَةٌ
مِمَّنْ فَعَلَهُ فَكَيْفَ بِانْجِرَارِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ الَّتِي وَقَعَتْ
بِسَبَبِ الْإِعْلَامِ إذْ إنَّهُمْ يَجْتَمِعُونَ رِجَالًا وَشُبَّانًا فَإِذَا
أَشْرَفُوا عَلَى بَلَدٍ ذَكَرُوا اللَّهَ - تَعَالَى - جَهْرًا يَرْفَعُونَ
بِذَلِكَ أَصْوَاتَهُمْ وَلَا يَقْصِدُونَ بِهِ الذِّكْرَ لَيْسَ إلَّا ، بَلْ الْإِعْلَامَ
لِأَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ ، وَمَنْ قَارَبَهَا بِوُرُودِ الشَّيْخِ
وَالْفُقَرَاءِ الَّذِينَ مَعَهُ حَتَّى
يَخْرُجُوا إلَى تَلَقِّيهِمْ فَإِذَا سَمِعُوا
ذِكْرَهُمْ خَرَجُوا إلَيْهِمْ رِجَالًا وَنِسَاءً وَاخْتَلَطُوا بِهِمْ فَصَارُوا
مُجْتَمِعِينَ رِجَالًا وَنِسَاءً وَشُبَّانًا وَهَذَا فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ
مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ مَرَّةٍ أَنَّ
الْمَرْأَةَ لَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا إلَّا لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَمَعَ
ذَلِكَ فَتَكُونُ إذَا خَرَجَتْ خَرَجَتْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا
مِنْ السِّتْرِ ، وَالْمَشْيِ مَعَ الْجُدْرَانِ لَا تَتَكَلَّمُ إلَّا
لِضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ وَهُنَّ إذَا خَرَجْنَ لِلِقَائِهِمْ خَرَجْنَ
مُنْكَشِفَاتٍ فِي الْغَالِبِ ، وَإِنْ تَسَتَّرَ بَعْضُهُنَّ فَبَعْضُ تَسَتُّرٍ
يَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالزَّغَالِيطِ وَيُسْمَعُ لَهُنَّ إذْ ذَاكَ ضَجِيجٌ
، وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَرْأًى مِنْ الشَّيْخِ وَعِلْمِهِ بِهِمْ فَمَا أَقْبَحَ
هَذَا وَأَبْعَدَهُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى طَرِيقِ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ
فَكَيْفَ بِمَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَدْعُو النَّاسَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - ؟
فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى انْعِكَاسِ الْأُمُورِ .
وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِعْلًا قَبِيحًا
فِيهِ إضَاعَةُ الْمَالِ ، وَهُوَ وَقُودُ الشَّمْعِ نَهَارًا حِين يَلْتَقُونَهُ
وَيَقْصِدُونَ بِذَلِكَ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَهَيْهَاتَ
هَيْهَاتَ ، التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَكُونُ إلَّا
بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ لَا بِالْوُقُوعِ فِي نَوَاهِيهِ ، بَلْ هُوَ نَفْسُ
الْبُعْدِ وَالْقِلَا ، أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِمَنِّهِ .
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَنْزِلُ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ
بِالْجَمْعِ الَّذِي مَعَهُ وَمَفَاسِدِهِ قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ فَمِنْ ذَلِكَ
أَنَّهُ يَضُرُّ بِحَالِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ تَكَلُّفِهِ لَهُمْ أَشْيَاءَ
مِنْ الْأَطْعِمَةِ تَلِيقُ بِهِمْ وَيَتَفَاخَرُونَ بِذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ
يَعِيبُ عَلَى مَنْ أَتَى بِطَعَامٍ لَا يَخْتَارُونَهُ وَلَيْتَ هَذِهِ
الضِّيَافَةَ لَوْ كَانَتْ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ لَكِنَّهُمْ يُقَسِّطُونَ مَا
يُنْفِقُونَهُ فِي تِلْكَ الضِّيَافَةِ عَلَى الرُّءُوسِ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ
وَمُضْطَرٍّ
وَمُحْتَاجٍ ، وَأَكْثَرُهُمْ يَتَدَايَنُونَ
بِسَبَبِهَا وَبَعْضُهُمْ يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ يُعْطِيهِ وَعَمَّنْ يُدَايِنُهُ
فَيَهْرُبُ قَبْلَ وُصُولِ الشَّيْخِ إلَى الْبَلَدِ فَيَتَسَلَّطُونَ عَلَى
بَيْتِهِ ، وَهُوَ غَائِبٌ فَيَأْخُذُونَ مَا وَجَدُوا مِنْ دَجَاجٍ أَوْ دَاجِنٍ
، وَبَعْضُ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْهُرُوبِ يُمْتَحَن مَعَ كُبَرَاءِ أَهْلِ
الْبَلَدِ بِمَا يُوجِبُونَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا قُدْرَةَ لَهُ بِهِ وَتَفَاصِيلُ أَحْوَالِهِمْ
فِي هَذَا الْمَعْنَى تَطُولُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ {
: أَنَا وَأُمَّتِي بُرَآءُ مِنْ التَّكَلُّفِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
التَّكَلُّفِ لَهُمْ إلَّا عَلَفُ دَوَابِّهِمْ لَكَانَ فِيهِ مِنْ الْمُحَرَّمِ
مَا فِيهِ } .
ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذَا
التَّكَلُّفِ الْعَظِيمِ حَتَّى أَضَافُوا إلَيْهِ مَا يَأْخُذُونَهُ مِنْ
الْهَدَايَا وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِالْفُتُوحِ لِلشَّيْخِ وَلِأَصْحَابِهِ كُلٌّ
عَلَى قَدْرِ حَالِهِ سِيَّمَا صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الَّذِي نَزَلُوا عِنْدَهُ فَهَذِهِ
الْوَظَائِفُ أَعْنِي الضِّيَافَةَ ، وَالْعَلَفَ ، وَالْفُتُوحَ لِلشَّيْخِ
وَجَمَاعَتِهِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا حَتْمًا ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا
عَلَى ذَلِكَ الْأَخْذِ لِلشَّيْخِ وَحْدَهُ حَتَّى يَأْخُذُوا لِخَادِمِ
السَّجَّادَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ السَّجَّادَةَ فِي نَفْسِهَا بِدْعَةٌ
فَكَيْفَ يُتَّخَذُ لَهَا خَادِمٌ ، ثُمَّ يَأْخُذُونَ لِخَادِمِ الْإِبْرِيقِ ،
ثُمَّ لِخَادِمِ السِّمَاطِ ، ثُمَّ لِخَادِمِ الْعُكَّازِ ، ثُمَّ لِخَادِمِ
الدَّابَّةِ أَوْ الْفَرَسِ ثُمَّ الْمُزَمِّرُونَ الَّذِينَ مَعَهُ .
ثُمَّ مَعَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الرَّدِيئَةِ يَرْقُصُ
بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ نِسَاءً وَرِجَالًا وَشُبَّانًا .
ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى هَذِهِ
الْمَفَاسِدِ حَتَّى آخَى بَعْضُهُمْ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ
نَكِيرٍ وَلَا اسْتِخْفَاءٍ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ إنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى
هَذَا الْفِعْلِ الْقَبِيحِ حَتَّى يَقْعُدَ بَعْضُ النِّسَاءِ يُلْبِسْنَ بَعْضَ الرِّجَالِ
وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الشَّيْخِ ، وَقَدْ آخَتْهُ فَلَا
تُحْتَجَبُ عَنْهُ ؛ إذْ إنَّهَا
صَارَتْ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ عَلَى زَعْمِهِمْ ،
وَكُتُبُ الْعُلَمَاءِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَلَيْسَ فِيهَا
شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ ، بَلْ افْتِعَالٌ مِنْهُمْ وَتَقَوُّلٌ بَاطِلٌ فَمَنْ
اسْتَحَلَّهُ مِنْهُمْ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ الدِّينِ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَحِلَّهُ
مِنْهُمْ فَقَدْ ارْتَكَبَ أَمْرًا عَظِيمًا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ
وَيُقْلِعَ عَمَّا هُوَ بِسَبِيلِهِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ وَالضَّلَالِ .
فَإِذَا عُلِمَ هَذَا مِنْ أَحْوَالِ بَعْضِهِمْ فَأَيُّ
فَرْقٍ وَالْحَالَةُ هَذِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الظَّلَمَةِ الْمُتَسَلِّطِينَ
عَلَى الْخَلْقِ بِأَخْذِ الْمَالِ وَالْأَذِيَّةِ ، بَلْ قَدْ يُوجَدُ بَعْضُ
الْوُلَاةِ يَتَحَاشَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الرَّذَائِلِ وَيُنَزِّهُ مَنْصِبَهُ عَنْهَا
فَلَا يَأْكُلُ إلَّا مِنْ إقْطَاعِهِ مَعَ أَنَّ الْوَالِيَ مَأْمُورٌ
بِالِاقْتِدَاءِ بِالْفُقَرَاءِ الْمُتَّبِعِينَ فَصَارَ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ
إذْ إنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ اتَّصَفَ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ
فِي أَمْرِ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الْفُقَرَاءِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِالْوَالِي فِي
هَذَا الْفِعْلِ الْحَسَنِ وَزَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى هَذَا شَيْئًا قَبِيحًا ،
وَهُوَ اسْتِهْتَارٌ فِي الدِّينِ وَزَنْدَقَةٌ فَيَقُولُونَ : الْمَالُ مَالُ
اللَّهِ وَنَحْنُ عَبِيدُ اللَّهِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ صَاحِبِ
الْمَالِ لِأَنَّا شُرَكَاؤُهُ فِيهِ وَهَذَا مِنْهُمْ حِلٌّ وَنَقْضٌ
لِلشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ ، وَقَدْ أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَرَسُولُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ .
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ {
: وَيَأْبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ } فَالشَّرِيعَةُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
مَصُونَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ فِيهَا وَالنَّقْصِ مِنْهَا فَلَا تَزَالُ عَلَى
صِفَةِ الْكَمَالِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ .
ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ
مِنْهُمْ ، وَالْهِدَايَةَ لِطَرِيقِ الْقَوْمِ كَيْفَ يُعْطِي الْإِجَازَاتِ
لِلْفُقَرَاءِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ بِالْمَشْيَخَةِ ؟ وَلَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ
فَرَائِضِ الْوُضُوءِ ، أَوْ سُنَنِهِ ، أَوْ فَضَائِلِهِ وَكَذَلِكَ فِي
الْغُسْلِ ، أَوْ فِي
التَّيَمُّمِ ، أَوْ فِي الصَّلَاةِ لَجَهِلَ ذَلِكَ
غَالِبًا ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إذَا صَلَّى الْمُكَلَّفُ ، وَهُوَ
لَا يَعْرِفُ الْمَفْرُوضَ مِنْ الْمَسْنُونِ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ وَكَذَلِكَ
لَوْ سَأَلْتَهُ عَنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلَاةِ لَمَا عَلِمَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلْتَهُ
عَنْ حُكْمِ السَّهْوِ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ لَمَا عَلِمَهُ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُهُ فِي أَمْرِ وُضُوئِهِ وَصَلَاتِهِ
اللَّذَيْنِ بِهِمَا قِوَامُ دِينِهِ وَصَلَاحِهِ فَمَا بَالُكَ بِهِ فِي
غَيْرِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَأْتَمِنْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
عَلَى أَدَبٍ مِنْ آدَابِ الشَّرِيعَةِ فَبَعِيدٌ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى سِرٍّ
مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ - تَعَالَى -
فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الشَّيْخِ فِي جَهْلِهِ
بِمَبَادِئ أَمْرِ دِينِهِ فَكَيْف بِمَنْ يَصْحَبُهُ أَمْ كَيْفَ بِمَنْ
يُجِيزُهُ ؟ إذْ الْغَالِبُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى مِثْلِ هَذَا أَنَّهُ لَا
يُبَاشِرُ الْعُلَمَاءَ إذْ لَوْ بَاشَرَهُمْ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ
فِيهِ فَكَيْفَ يَصْحَبُهُمْ أَوْ يَتْبَعُهُمْ ؟ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْإِجَازَةَ
، وَالْحَالَةَ هَذِهِ لَا أَصْلَ لَهَا فِي الدِّينِ وَمَعَ كَوْنِهَا لَا أَصْلَ
لَهَا فَالْإِجَازَةُ الَّتِي يُعْطُونَهَا شَبِيهَةٌ بِالظُّلْمِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يُعْطُونَهَا فِي الْغَالِبِ لِمَنْ
سَأَلَهَا حَتَّى يُعْطِيَ عَلَى ذَلِكَ عَطَاءً جَزِيلًا بِحَسَبِ حَالِهِمَا
وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ بِشُكْرَانِ الدُّخُولِ فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ فَيُعْطِي
الشَّيْخُ مَا يَلِيقُ بِهِ وَلِخُدَّامِ الشَّيْخِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ مَا
يَلِيقُ بِدَرَجَاتِهِمْ وَكَذَلِكَ الْأَكَابِرُ أَصْحَابُ الشَّيْخِ
الْمَذْكُورِ وَلَا بُدَّ مِنْ لَيْلَةٍ يَطْلُبُونَهَا مِنْهُ لِلسَّمَاعِ كُلٌّ
عَلَى قَدْرِ حَالِهِ وَيَخْتَلِطُونَ كَمَا تَقَدَّمَ .
ثُمَّ مَعَ هَذَا الْحَالِ لَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى
كَتْبِ الْإِجَازَاتِ لِمَنْ طَعَنَ فِي السِّنِّ وَلِمَنْ لَهُ ثُبُوتٌ فِي
الْعَقْلِ مِنْ الْكُهُولِ ، بَلْ يُعْطُونَهَا لِلشُّبَّانِ الْمُرْدَانِ
وَلَهُمْ صُوَرٌ حِسَانٌ فَيَتَسَلَّطُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ عَلَى الْكَشْفِ عَلَى
حَرِيمِ الْمُسْلِمِينَ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ وَالْأَمَاكِنِ بِسَبَبِ الِاخْتِلَاطِ
بِهِمْ مِنْ أَجْلِ الْإِجَازَاتِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ .
هَذَا حَالُهُمْ مَعَ مَنْ سَأَلَ الْإِجَازَةَ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَسْأَلْهَا فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ
: إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ وَجَاهَةٌ ، أَوْ جِدَةٌ ، أَوْ أَحَدُهُمَا
وَيَعْلَمُونَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يَمِيلُ إلَى شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَارِيًّا عَنْ الْوَجَاهَةِ وَالْجِدَةِ ، وَهُوَ مَعَ
ذَلِكَ مُتَشَوِّفٌ لِلْإِجَازَةِ كَالْأَوَّلِ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ الْحِيَلَ
فِي رَبْطِهِ عَلَيْهِمْ وَسُكُونِهِ إلَى قَوْلِهِمْ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمْ
فَإِذَا ظَفَرُوا مِنْهُ بِذَلِكَ كَلَّفُوهُ التَّكَالِيفَ الَّتِي تَضُرُّ
بِحَالِهِ وَحَالِ عِيَالِهِ غَالِبًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا فَرْقَ
إذَنْ بَيْنَ مَنْ هَذَا حَالُهُ وَبَيْنَ الظَّلَمَةِ إلَّا أَنَّ الظَّلَمَةُ
يَفْعَلُونَ ذَلِكَ بِالْعُنْفِ وَالْقَهْرِ وَهَؤُلَاءِ يَفْعَلُونَ مِثْلَهُ
بِالْحِيَلِ ، وَالْخَدِيعَةِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَجَاهَةَ
فَإِنَّهُمْ يَسْتَخْدِمُونَهُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ لِيَحْصُلَ لَهُمْ مِنْ
تَكَلُّفِ النَّاسِ وَالتَّسَلُّطِ عَلَيْهِمْ ، وَالْإِلْحَاحِ عَلَيْهِمْ
بِالْمَسْأَلَةِ عَلَى الْغَنِيِّ مِنْهُمْ وَالْفَقِيرِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُمْ
مَا يُرْضِيهِمْ كَالْأَوَّلِ وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَمَسُّ أَخْلَاقَ
الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ ؛ إذْ إنَّ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ الْمُنَاصَحَةَ
بَيْنَهُمْ وَالشُّفْعَةَ وَرَحْمَةَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضِ نَسْأَلُ اللَّهَ
السَّلَامَةَ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
( فَصْلٌ ) : ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ ادِّعَائِهِمْ
الْمَشْيَخَةَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مَبَادِئَ أَمْرِ دِينِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ
فَكَيْفَ بِالِانْتِمَاءِ إلَى الْمَشْيَخَةِ .
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ مِنْ أَهْلِ
الطَّرِيقِ : إنَّ الْفَقِيرَ لَا يَكُونُ فَقِيرًا يَكُونُ قَلْبُهُ كَأَنَّهُ
فِي كَفِّهِ يَعْنِي مِنْ قُوَّةِ مُعَايَنَتِهِ لَهُ ، وَنَظَرُهُ لَا يَكُونُ
فَيَعْرِفُ الزِّيَادَةَ فِيهِ مِنْ النَّقْصِ بَدِيهَةً .
هَذَا حَالُ الْفَقِيرِ الْمُنْفَرِدِ بِنَفْسِهِ دُونَ
أَنْ يَصِلَ إلَى اقْتِدَاءِ الْغَيْرِ بِهِ .
وَأَمَّا الشَّيْخُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ زِيَادَةٍ
عَلَى ذَلِكَ ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ قُلُوبُ أَصْحَابِهِ كَأَنَّهَا فِي كَفِّهِ
وَكَذَلِكَ أَحْوَالُهُمْ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ فَيَعْلَمُ مَا يَزِيدُ
فِيهَا وَمَا يَنْقُصُ مِنْهَا فَيُرَبِّيهِمْ عَلَى مَا يَتَحَقَّقُ مِنْ حَالِ
كُلِّ وَاحِدٍ وَيُنَبِّهُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ أَحَدٌ مِنْ
جُلَسَائِهِ ، بَلْ الشَّخْصُ نَفْسُهُ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ فِي بَعْضِ
الْأَحْيَانِ وَلَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا أُمُورٌ وَتَصَرُّفٌ لَا يَعْرِفُهُ
غَيْرُهُمْ ، فَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ عَاجِزًا عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَةِ أَعْنِي
أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا زَادَ فِي حَالِ أَصْحَابِهِ وَمَا نَقَصَ فِي
غَيْبَتِهِ فَلَا يَدَّعِي الْمَشْيَخَةَ وَلَا الْهِدَايَةَ ، بَلْ إخْوَانٌ مُجْتَمِعُونَ
يَتَذَاكَرُونَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ وَمَنَاقِبِ أَهْلِ الْأَحْوَالِ
السَّنِيَّةِ فَلَعَلَّ بَرَكَةَ ذَلِكَ وَبَرَكَةَ اجْتِمَاعِهِمْ تَعُودُ
عَلَيْهِمْ دُون أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَالًا ، أَوْ مَقَالًا هَذَا
حَالُ الْقَوْمِ مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَاصِ مِنْهُمْ وَالصِّدْقِ وَالتَّصْدِيقِ
وَالرُّكُونِ إلَى مَوْلَاهُمْ فِي دَقِيقِ الْأُمُورِ وَجَلِيلِهَا وَالْتِزَامِ
الْوُقُوفِ بِبَابِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَمَعَ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ
الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا
وَلَا مَقَالًا ، بَلْ يَقُولُ أَكْثَرُهُمْ إلَى الْآنَ مَا أَحْسَنَ أَنْ أَتُوبَ
حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ يَظُنُّونَ بِي خَيْرًا وَمَا بِي مِنْ خَيْرٍ
وَلَكِنَّنِي عَمْدٌ ظَلُومٌ كَمَا
تَدْرِي سَتَرْتَ عُيُوبِي كُلَّهَا عَنْ عُيُونِهِمْ
وَأَلْبَسْتَنِي ثَوْبًا جَمِيلًا مِنْ السَّتْرِ فَصَارُوا يُحِبُّونِي وَلَسْتُ
أَنَا الَّذِي أَحَبُّوا وَلَكِنْ شَبَّهُونِي بِالْغَيْرِ فَلَا تَفْضَحْنِي فِي
الْقِيَامَةِ بَيْنَهُمْ وَلَا تُخْزِنِي يَا رَبِّ فِي مَوْقِفِ الْحَشْرِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : لِوَلَدِهِ لَمَّا أَنْ رَأَى مِنْهُ شَيْئًا لَا يُعْجِبُهُ يَا
بُنَيَّ أَمَا تَعْرِفُ قَدْرَكَ فَقَالَ : وَمَا قَدْرِي فَقَالَ لَهُ : أُمُّكَ اشْتَرَيْتُهَا
بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَبُوكَ لَا أَكْثَرَ اللَّهُ مِثْلَهُ فِي
الْإِسْلَامِ .
هَذَا مَقَالُهُمْ مَعَ وُجُودِ الْأَحْوَالِ
السَّنِيَّةِ مِنْهُمْ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ هُوَ عَلَى الْعَكْسِ ، ثُمَّ مَعَ
ذَلِكَ يُعْطِي الْإِجَازَاتِ وَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيْهِ الْأَعْلَامُ
وَالرَّايَاتُ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ .
وَبَعْضُهُمْ يَدَّعِي الْوَلَهُ وَيَرْتَكِبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ
مُحَرَّمَاتٍ فَيَرْكَبُ عَلَى جَرِيدَةٍ قَدْ صَوَّرَ لَهَا وَجْهًا وَعَيْنَيْنِ
وَأَنْفًا وَفَمًا وَيَأْخُذُ بِيَدِهِ شَيْئًا كَأَنَّهُ سَوْطٌ وَيَرْكَبُ
تِلْكَ الْجَرِيدَةِ وَيُمْسِكُهَا بِسَيْرٍ أَوْ خَيْطٍ كَأَنَّهُ لِجَامٌ لَهَا
وَيَضْرِبُهَا وَيَجْرِي .
وَبَعْضُهُمْ يُعَلِّقُ فِيهَا جَرَسًا فَإِذَا مَشَى
يُسْمَعُ لَهُ صَوْتٌ قَوِيٌّ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ
وَالشُّبَّانُ غَالِبًا ، وَقَدْ يُدْخِلُونَهُ بُيُوتَهُمْ وَلَا يَخْتَفِي
مِنْهُ أَحَدٌ كَأَنَّهُ امْرَأَةٌ مِنْ جُمْلَةِ نِسَائِهِمْ وَيَعِيبُونَ عَلَى
مَنْ اسْتَتَرَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ هَذَا مُولَهٌ .
وَهَذَا أَشَدُّ قُبْحًا مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ يَنْفَرِدُ وَحْدَهُ فَيَجِدُ السَّبِيلَ إلَى مَا تُسَوِّلُهُ لَهُ نَفْسُهُ
مِنْ الرَّذَائِلِ بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ .
فَكَيْفَ يَدَّعِي الْوِلَايَةَ مَعَ ارْتِكَابِ نَهْيِ
صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ حَيْثُ يَقُولُ : (
مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ
فِيهَا أَبَدًا ) وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ صَوَّرَهَا ، أَوْ اسْتَعْمَلَهَا ،
أَوْ رَضِيَ بِهَا .
وَمَا
الْعَجَبُ مِنْ هَذَا ، بَلْ الْعَجَبُ مِمَّنْ
تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْتَقِدُ مَنْ هَذَا
حَالُهُ وَيُصَوِّبُ فِعْلَهُ بِأَنْ يَقُولَ : هَذَا وَلِيٌّ لِلَّهِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ يُخَرِّبُ عَلَى نَفْسِهِ وَتَخْرِيبُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ
إنَّمَا يَكُونُ بِمَا لَمْ يُعَارِضْهُمْ فِيهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ وَهَذَا قَدْ
عَارَضَهُ النَّهْيُ الصَّرِيحُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
لِلْجَرِيدَةِ صُورَةٌ لَاحْتَمَلَ التَّخْرِيبَ وَغَيْرَهُ .
هَذَا إنْ كَانَتْ أَوْقَاتُ الصَّلَوَاتِ عَلَيْهِ
مَحْفُوظَةً وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَهُوَ
يُظْهِرُ الْوَلَهَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ فَهَذَا مُحْتَمَلٌ مَعَ أَنَّهُ لَا
ضَرُورَةَ دَعَتْ إلَى الدُّخُولِ فِي هَذَا الِاحْتِمَالِ إذْ إنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى الْمُكَلَّفِ إذْ الْعُلَمَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ
مَحْفُوظُونَ فِي ظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ مَوْجُودُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
لَا تَخْلُو مِنْهُمْ الْأَرْضُ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ بِإِخْبَارِ صَاحِبِ
الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
( فَصْلٌ ) : ثُمَّ إنَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ
يَكْتَفُوا بِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ حَتَّى ضَمُّوا إلَيْهَا مَفْسَدَةً أُخْرَى ،
وَهِيَ أَخْذُ بَعْضِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الطَّرِيقِ
مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ شَابٍّ لِيَكُونُوا مِنْ خَوَاصِّهِ وَأَتْبَاعِهِ
، وَبَعْضُهُمْ يَحْلِقُونَ شَعْرَ رَأْسِ مَنْ يَتُوبُ عَلَى أَيْدِيهِمْ حِينَ
يَأْخُذُونَ عَلَيْهِمْ الْعَهْدَ وَهَذَا جَهْلٌ مِنْهُمْ بِالْعَهْدِ
وَمَاهِيَّتِه وَكَيْفِيَّتِهِ وَحَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ
شَرْعِيَّةٍ مِنْ الْبِدَعِ ، وَقَدْ كَانَ فِي عَهْدِ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ مِنْ شِعَارِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَعَلَامَةً عَلَيْهِمْ .
هَذَا إذَا كَانَ الْحَلْقُ لِأَجْلِ الدُّخُولِ فِي
الطَّرِيقِ وَأَمَّا حَلْقُهُ لِكَثْرَةِ الدَّوَابِّ أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ
جَائِزٌ غَيْرُ مَكْرُوهٍ .
{ فَصْلٌ } وَمِنْ هَذَا الْبَابِ أَيْضًا مَا
يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَعْلِيقِ السُّبْحَةِ فِي عُنُقِهِ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِتَمِيمٍ الدَّارِيِّ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَقُولَ : أَنَا تَمِيمٌ الدَّارِيُّ
فَاعْرِفُونِي ، وَمَا كَانَ مُرَادُهُ إلَّا أَنْ يُذَكِّرَ النَّاسَ
بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَأْمُورِ بِإِظْهَارِهَا وَإِشَاعَتِهَا ،
وَإِظْهَارُ السُّبْحَةِ وَالتَّزَيُّنُ بِهَا لَا مَدْخَلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ ،
بَلْ لِلشُّهْرَةِ وَالْبِدْعَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ مَنْ
يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ فَيَتَّخِذَ السُّبْحَةَ فِي يَدِهِ كَاِتِّخَاذِ
الْمَرْأَةِ السِّوَارَ فِي يَدِهَا وَيُلَازِمُهَا ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ
يَتَحَدَّثُ مَعَ النَّاسِ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا وَيَرْفَعُ يَدَهُ
وَيُحَرِّكُهَا فِي ذِرَاعِهِ ، وَبَعْضُهُمْ يُمْسِكُهَا فِي يَدِهِ ظَاهِرَةً
لِلنَّاسِ يَنْقُلُهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً كَأَنَّهُ يَعُدُّ مَا يَذْكُرُ
عَلَيْهَا ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ مَعَ النَّاسِ فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ وَمَا
جَرَى لِفُلَانٍ وَمَا جَرَى عَلَى فُلَانٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ
إلَّا لِسَانٌ وَاحِدٌ فَعَدُّهُ عَلَى السُّبْحَةِ عَلَى هَذَا بَاطِلٌ إذْ
إنَّهُ لَيْسَ لَهُ لِسَانٌ آخَرُ حَتَّى يَكُونَ بِهَذَا اللِّسَانِ يَذْكُرُ
وَاللِّسَانُ الْآخَرُ يَتَكَلَّمُ بِهِ فِيمَا يَخْتَارُ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا
أَنْ يَكُونَ اتِّخَاذُهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الشُّهْرَةِ وَالرِّيَاءِ
وَالْبِدْعَةِ ، ثُمَّ الْعَجَبُ مِمَّنْ يَعُدُّ عَلَى السُّبْحَةِ حَقِيقَةً
وَيَحْصُرُ مَا يُحَصِّلُهُ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَلَا يَعُدُّ مَا اجْتَرَحَهُ مِنْ
السَّيِّئَاتِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : حَاسِبُوا
أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا } فَأَرْشَدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إلَى مُحَاسَبَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ
بِاعْتِقَادِهِ وَجَوَارِحِهِ وَيَعْرِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى السُّنَّةِ
الْمُطَهَّرَةِ فَمَا وَافَقَ مِنْ ذَلِكَ حَمَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَأَثْنَى
عَلَيْهِ وَبَقِيَ خَائِفًا وَجِلًا خَشْيَةً
مِنْ دَسَائِسَ وَقَعَتْ لَهُ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا وَمَا
لَمْ يُوَافِقْ احْتَسَبَ الْمُصِيبَةَ فِي ذَلِكَ وَرَجَعَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى -
بِالتَّوْبَةِ ، وَالْإِقْلَاعِ فَلَعَلَّ بَرَكَةَ التَّوْبَةِ تَمْحُو
الْحَوْبَةَ وَيَنْجَبِرُ بِذَلِكَ مَا وَقَعَ لَهُ مِنْ الْخَلَلِ .
وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ أَصْلُ عَمَلِهَا لِلتَّحَفُّظِ مِنْ
السَّيِّئَاتِ وَالْهَوَاجِسِ وَالْخَوَاطِرِ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَأْخُذُ فِي
كَسْبِ الْحَسَنَاتِ .
وَقَدْ قَالُوا : إنَّ تَرْكَ السَّيِّئَاتِ أَوْجَبُ
مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ ؛ لِمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ } .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ بَكَى أَرْبَعِينَ
سَنَةً فَسُئِلَ عَنْ سَبَبِ بُكَائِهِ فَقَالَ : اسْتَضَافَنِي أَخٌ لِي فَقَدَّمْتُ
لَهُ سَمَكًا فَأَكَلَ ، ثُمَّ أَخَذْتُ تُرَابًا مِنْ حَائِطِ جَارٍ لِي فَغَسَلَ
بِهِ يَدَيْهِ فَأَنَا أَبْكِي عَلَى ذَلِكَ التُّرَابِ الَّذِي أَخَذْتُهُ مُنْذُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَحُكِيَ عَنْ آخَرَ مِثْلُهُ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ
فَقَالَ : طَلَعَ لِي طُلُوعٌ فَرَقَيْتُهُ فَاسْتَرَحْتُ مِنْهُ فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ
لِعَدَمِ رِضَائِي بِمَا فَعَلَهُ اللَّهُ بِي ، أَوْ كَمَا قَالَ وَأَحْوَالُهُمْ
فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُمْ فِي
مِثْلِ مَا وَصَفْنَاهُ عَنْهُمْ فَمَا بَالُكَ بِمَنْ يَحْمِلُ الْأَثْقَالَ
وَأَيُّ أَثْقَالٍ ، ثُمَّ يَحْصُرُ الْحَسَنَاتِ وَلَا يُفَكِّرُ فِي ضِدِّهَا ؟
فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ
يَحْتَجُّ بِأَنَّهَا مُحَرِّكَةٌ وَمُذَكِّرَةٌ فَوَا سَوْأَتَاهُ إنْ لَمْ
يَكُنْ التَّحْرِيكُ وَالتَّذْكِيرُ مِنْ الْقَلْبِ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ
وَبَيْنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ { : إنَّ عَمَلَ السِّرِّ يَفْضُلُ عَمَلَ الْجَهْرِ بِسَبْعِينَ
ضِعْفًا } هَذَا ، وَهُوَ عَمَلٌ فَمَا بَالُكَ بِإِظْهَارِ شَيْءٍ لَيْسَ بِعَمَلٍ
، وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ عَمَلٍ وَمَا زَالَ النَّاسُ يُخْفُونَ أَعْمَالَهُمْ
مَعَ وُجُودِ الْإِخْلَاصِ الْعَظِيمِ مِنْهُمْ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ
خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ دُخُولِهِ الدَّسَائِسَ عَلَيْهِمْ
فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَفِعْلُ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ الشُّهْرَةِ
مَا فِيهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ التَّاجِرَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ
عَارِفًا بِمُحَاوَلَةِ مَا يَتَّجِرُ فِيهِ فَلَا يَتْرُكُ مَا لَهُ فِيهِ
سَبْعُونَ ضِعْفًا وَيَأْخُذُ مَالَهُ فِيهِ شَيْءٌ وَاحِدٌ هَذَا مَعَ
السَّلَامَةِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا فَكَيْفَ بِهِ مَعَ
وُجُودِهَا ، ثُمَّ إنَّهُ مَعَ ذَلِكَ يَحْرِمُ نَفْسَهُ فَضْلَ الذِّكْرِ
وَعَوْدَ بَرَكَتِهِ عَلَى أَعْضَائِهِ وَجَوَارِحِهِ فَلَوْ كَانَ يُسَبِّحُ
وَيَعُدُّ عَلَى أَنَامِلِهِ لَكَانَ نُورُ ذَلِكَ الذِّكْرِ وَبَرَكَتُهُ فِي
أَنَامِلِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَرَأَى نُورًا فِي طَاقٍ
فَقَالَ مَا هَذَا النُّورُ الَّذِي فِي الطَّاقِ ؟ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ سُبْحَتِي الَّتِي كُنْتُ أُسَبِّحُ عَلَيْهَا جَعَلْتُهَا هُنَاكَ ، أَوْ
كَمَا قَالَتْ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَلَّا كَانَ ذَلِكَ
النُّورُ فِي أَنَامِلِكِ } فَهَذَا إرْشَادٌ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى وَالْأَرْجَحِ ، وَقَاعِدَةُ
الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى عَمَلٍ مَفْضُولٍ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى مَا
هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ .
وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
إذَا قَرَأَ فِي الْخِتْمَةِ يَجْعَلُهَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ مَعًا وَيُمْسِكُهَا
بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَجَمِيعُ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى تَمُرُّ عَلَى
الْحُرُوفِ الَّتِي يَتْلُوهَا وَيَتَعَمَّدُ ذَلِكَ وَيُعَلِّلُهُ بِأَنْ يَقُولَ
حَتَّى يَحْصُلَ لِكُلِّ عُضْوٍ حَظُّهُ مِنْ الْعِبَادَةِ لِكَيْ يَكْثُرَ
الثَّوَابُ بِذَلِكَ .
فَأَيْنَ الْحَالُ مِنْ الْحَالِ ؟ فَإِنَّا لِلَّهِ
وَأَنَا إلَيْهِ رَاجِعُونِ .
{ فَصْلٌ } وَمِنْهُمْ مَنْ بَالَغَ فِي أَخْذِ
الْعَهْدِ إلَى حَدٍّ لَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ فَيَقُولُ : إنَّهُ
إذَا أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يَأْخُذُهُ عَلَيْهِ إنَّ الْمَأْخُوذَ عَلَيْهِ
لَمْ يَبْقَ لَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَالِهِ وَلَا زَوْجَتِهِ وَلَا نَفْسِهِ ، بَلْ
التَّصَرُّفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِلشَّيْخِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ
عَلَيْهِ لَزِمَهُ ، وَإِنْ أَخَذَ مَالَهُ لَزِمَهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ
إنَّهُمْ مَعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ الَّتِي يَشْتَرِطُونَهَا لَوْ تَصَرَّفَ
الشَّيْخُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ سَبَبًا لِلْقَطِيعَةِ وَالتَّرْكِ
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَة الْقَوْمِ وَلَا بِمَأْثُورٍ عَنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى أَنْ يَنْتَمِي لِفُلَانٍ مِنْ الْمَشَايِخِ دُونَ
غَيْرِهِ حَتَّى كَأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - عَلَى عَدَدِ
الْمَشَايِخِ فَيَنْتَسِبُونَ إلَيْهِمْ كَمَا يَنْتَسِبُ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ
إلَى مَذَاهِبِهِمْ فَإِذَا انْتَسَبُوا إلَى ذَلِكَ فَالطَّرِيقُ الْمُحَمَّدِيُّ
أَيْنَ هُوَ وَحَصَلَ بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَهُمْ تَعَصُّبَاتٌ وَشَنَآنٌ
كَثِيرٌ حَتَّى صَارُوا أَحْزَابًا وَوَقَعَ بَعْضُهُمْ فِي حَقِّ غَيْرِ شَيْخِهِ
الَّذِي يَنْتَمِي إلَيْهِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ بَلَائِهِ بِمَنِّهِ .
وَالطَّرِيقُ الْمُحَمَّدِيُّ غَيْرُ هَذَا كُلِّهِ .
وَلِذَلِكَ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ
الْمَرْجَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ طَرِيقُ الْقَوْمِ وَاحِدَةٌ ، وَكَانَ
سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ سُنَّةُ
الْأَحْبَابِ وَاحِدَةٌ يَعْنِي أَنَّ مُشْرَبَهُمْ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الِاتِّبَاعُ
وَتَرْكُ الِابْتِدَاعِ وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِيهِ إنْكَارٌ
لِأَخْذِ الْعَهْدِ مِنْ أَهْلِهِ لِأَهْلِهِ بِشَرْطِهِ الْمُعْتَبَرِ عِنْدَهُمْ
إذْ إنَّهُ عَلَيْهِ دَرَجَ السَّلَفُ الصَّالِحُ نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِمْ وَلَا
نُنْكِر أَيْضًا الِانْتِمَاءَ إلَى الْمَشَايِخِ بِشَرْطِهِ ، وَهُوَ أَنْ
يَكُونَ عِنْدَ الْمُرِيدِ شَيْخُهُ ، وَغَيْرُ شَيْخِهِ بِالسَّوَاءِ
بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاتِّبَاعِ وَتَرْكِ الِابْتِدَاعِ وَيَكُونُ إيثَارَهُ
لِشَيْخِهِ
بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ وُصُولُهُ إلَى اللَّهِ -
تَعَالَى - عَلَى يَدَيْهِ فَيَرَى لَهُ ذَلِكَ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَقَعُ
التَّفَضُّلُ لِشَيْخِهِ وَالِاخْتِصَاصُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ
قَدْ كَافَأْتُمُوهُ } ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَأْبَى أَنْ يَأْخُذَ الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَسَأَلْتُهُ مَا الْمُوجِبُ
لِذَلِكَ ؟ أَهُوَ بِدْعَةٌ ؟ قَالَ : لَا وَلَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَعْنِي
نَفْسَهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ فَأَخَافُ إنْ أَخَذْتُ الْعَهْدَ عَلَى أَحَدٍ فَقَدْ
لَا يُوفِي بِمَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَهْدِ فَيَقَعُ لَهُ التَّشْوِيشُ وَأَكُونُ
السَّبَبَ فِي ذَلِكَ فَأَتْرُكُهُمْ رَحْمَةً بِهِمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ
وَأُعَوِّضُ عَنْهُ الدُّعَاءَ لَهُمْ بِظَاهِرِ الْغَيْبِ بِالِاسْتِقَامَةِ ،
أَوْ كَمَا قَالَ .
وَالْحَاصِلُ مِنْ أَخْذِ الْعَهْدِ هُوَ أَنْ يَأْخُذَ
الشَّيْخُ الْعَهْدَ عَلَى الْمُرِيدِ بِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ اللَّهُ حَيْثُ
نَهَاهُ وَلَا يَفْقِدُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ وَهَذَا هُوَ زُبْدَتُهُ وَأَصْلُهُ
وَبَقِيَتْ تَفَارِيعُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَلَّ أَنْ تَتَنَاهَى ، وَهِيَ
الْأَمَانَةُ الَّتِي عَرَضَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَى السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا
الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ :
ظَلُومًا لِنَفْسِهِ جَهُولًا بِأَمْرِ رَبِّهِ ، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى
الْغَالِبِ مِنْهُمْ وَإِلَّا فَكَثِيرُ مَنْ وَفَّى ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
وَكَثِيرٌ مَنْ دَخَلَ فِي جَاهِ مَنْ وَفَّى وَلِأَجْلِ هَذَا الْمَعْنَى بَقِيَ
كَثِيرٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ يَنْتَمُونَ إلَى الْمَشَايِخِ لِيَكُونُوا فِي حُرْمَتِهِمْ
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ إخْبَارًا عَنْ رَبِّ
الْعِزَّةِ عَزَّ وَجَلَّ حَيْثُ يَقُولُ { : هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ
جَلِيسُهُمْ } فَكَمَا لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ
كَذَلِكَ لَا يَشْقَى بِهِمْ مُعْتَقِدُهُمْ وَلَا
مُحِبُّهُمْ .
وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ { :
جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ ؟ قَالَ : فَقَامَ نَبِيُّ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ
: أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ : أَنَا يَا
رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَثِيرَ صَلَاةٍ وَلَا صَوْمٍ إلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ ، وَأَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ } فَمَا رَأَيْتُ
فَرَحَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَفَرَحِهِمْ بِهَذَا الْحَدِيثِ .
وَلَا يَظُنُّ ظَانٌّ أَنَّ هَذَا مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلسَّائِلِ حِينَ سَأَلَهُ مُرَافَقَتَهُ فِي
الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَ غَيْرَ ذَلِكَ
فَقَالَ هُوَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ : أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ ؛ لِأَنَّ هَذَا
طَلَبَ مَنْصِبًا عَظِيمًا فَأَرْشَدَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى
الْأَسْبَابِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَقْرَبُ مَا
يَكُونُ الْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ إذَا
كَانَ سَاجِدًا } فَأَرْشَدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِذَلِكَ ،
وَطَالِبُ الْمَعِيَّةِ تَشْمَلُهُ الدَّارُ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ
الْمَنَازِلُ تَتَفَاوَتُ فِيهَا وَلَكِنْ قَدْ جُعِلَتْ السَّعَادَةُ لِمَنْ
نَالَهَا .
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَمَوْضِعُ
سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } ، فَإِذَا حَصَلَ
لَهُ ذَلِكَ سَلِمَ مِنْ أَهْوَالِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنْ الْعَنَاءِ وَالتَّنْغِيصِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا حِينَ
يَأْخُذُ الْعَهْدَ عَلَى مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ فِي طَرِيقِهِ
فَيُكَلِّفُهُ أَنْ يَعْتَرِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِكُلِّ
مَا فَعَلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ وَفِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ مَا فِيهِ ،
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِبَعْضِ
مَنْ فَعَلَ الذُّنُوبَ { : أَنَا سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا
لَكَ الْيَوْمَ } ، وَقَدْ وَرَدَ { : كُلُّ النَّاسِ مُعَافًى إلَّا
الْمُجَاهِرُونَ } فَإِذَا جَاءَ أَحَدٌ لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ لِيَتُوبَ
عَلَى يَدَيْهِ ، أَوْقَعَهُ الشَّيْخُ بِاعْتِرَافِهِ فِي هَذِهِ الْمَهَالِكِ
فَكَانَ عَدَمُ التَّوْبَةِ بِهِ أَوْلَى ، وَالْحَالَةُ هَذِهِ وَفِي هَذَا
تَشَبُّهٌ بِالْقِسِّيسِينَ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ الذَّمِيمَةِ إذَا
جَاءَهُمْ أَحَدٌ لِيَتُوبَ عَلَى أَيْدِيهِمْ يُطَالِبُونَهُ بِأَنْ يُسَمِّيَ
لَهُمْ ذُنُوبَهُ ذَنْبًا ذَنْبًا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُقْبِلُونَ عَلَيْهِ ،
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ التَّشَبُّهَ بِالْكِرَامِ فَلَاحٌ وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ .
فَإِنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى
تَخْلِيطِ أُمُورِ الدِّينِ بِمَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا فِيهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَكَبَ بِدْعَةً شَنِيعَةً آلَتْ
إلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ ، وَتَرْكُهَا فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ هَلْ
هُوَ ارْتِدَادٌ ، أَوْ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ مِمَّنْ فَعَلَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ
بَعْضَهُمْ يُلَبِّدُونَ شُعُورَ رُءُوسِهِمْ ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْجَنَابَةَ تُصِيبهُمْ
فَإِذَا اغْتَسَلُوا لَمْ يُمْكِنْهُمْ أَنْ يُوصِلُوا الْمَاءَ إلَى الْبَشَرَةِ
وَلَيْسَ ثَمَّ عُذْرٌ شَرْعِيٌّ يُجِيزُ الْمَسْحَ عَلَى حَائِلٍ عِنْدَ مَنْ
يَقُولُ بِهِ فَصَلَاتُهُمْ عَلَى هَذَا بَاطِلَةٌ ، ثُمَّ ضَمُّوا إلَى هَذِهِ
الْمَفْسَدَة مَفْسَدَةً أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْهَا ، وَهُوَ أَنَّهُمْ
مُعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالصَّوَابِ وَعَلَى طَرِيقِ السُّلُوكِ
وَالْهِدَايَةِ .
نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ مِنْ بَلَائِهِ
، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَعَانَى اتِّخَاذَ الْحُرُوزِ الْكَثِيرَةِ وَيَجْعَلُهَا
فِي عُنُقِهِ كَالْقِلَادَةِ لِلْمَرْأَةِ .
وَمِنْهُمْ مِنْ يَجْعَلُهَا عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى
يَتَوَشَّحُ بِهَا وَهَذَا شُهْرَةٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ وَشَوْهٌ ظَاهِرٌ
، وَإِنْ
كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِلتَّبَرُّكِ وَالتَّحَفُّظِ مِنْ
الْعَيْنِ وَمِنْ مَرَدَةِ الْجِنِّ فَلَهُ طَرِيقٌ غَيْرُ هَذَا بِأَنْ يُعَلِّقَ
ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ ثَوْبِهِ بِحَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَلَا يَظْهَرُ
وَأَمَّا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الْمَذْكُورَةِ فَيُمْنَعُ لِمُخَالَفَتِهِ
لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُ سُبْحَةً كَبِيرَةً
وَيُعَلِّقُهَا فِي عُنُقِهِ ، أَوْ يَتَوَشَّحُ بِهَا وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ
مُشْتَغِلٌ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ وَالتَّحَدُّثِ فِي أُمُورِ الْغَيْبِ إظْهَارًا
مِنْهُ أَنَّهُ يُكَاشِفُهَا وَيُخْبِرُ بِوُقُوعِهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَوِّضُ
عَنْهَا خَيْطًا مِنْ صُوفٍ عَلَى صِفَاتٍ وَصِبْغٍ فَيَتَقَلَّدُونَ بِهِ ، وَذَلِكَ
كُلُّهُ مِنْ الشُّهْرَةِ ، أَوْ الشَّهْوَةِ ، وَالْبِدْعَةِ ، وَالْخُرُوجِ عَنْ
الِاتِّبَاعِ لِلسَّلَفِ الْمَاضِينَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَجْمَعِينَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا
رَذِلًا يَأْبَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَ
النَّاسِ فِي الْجَامِعِ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَإِذَا قَامَتْ الصَّلَاةُ
وَقَامَ النَّاسُ إلَيْهَا قَامَ هُوَ فِي جُمْلَتِهِمْ فَإِذَا رَكَعُوا
وَسَجَدُوا بَقِيَ وَاقِفًا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ لَا يُحْرِمُ وَلَا يَرْكَعُ وَلَا
يَسْجُدُ ، ثُمَّ يَتَمَادَى عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ النَّاسُ مِنْ
صَلَاتِهِمْ وَأَقْبَحُ مِنْ هَذَا وَأَرْذَلُ مَنْ يَعْتَقِدُ مَنْ هَذَا حَالُهُ
وَيَرَى أَنَّهُ مِمَّنْ يَتَبَرَّكُ بِهِ ، وَأَنَّهُ مِنْ الْوَاصِلِينَ وَيَتَأَوَّلُ
بِأَنَّهُ يُصَلِّي فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْهُ تَخْرِيبٌ
عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى لَا يُشْهَرَ وَلَا يُعْتَقَدَ ، وَتَأْوِيلُهُمْ هَذَا
مِنْ السَّخَافَةِ وَالْحُمْقِ وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ الْمُطَهَّرَةِ
وَعَدَمِ الْغَيْرَةِ فِي الدِّينِ وَاصْطِلَاحُهُمْ عَلَى الرِّضَا بِتَرْكِ هَذِهِ
الشَّعِيرَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ وَرَأْسُهُ وَأَوَّلُ
أَرْكَانِهِ بَعْد كَلِمَتَيْ التَّوْحِيدِ ؛ إذْ إنَّ مَنْ رَأَى وَلَمْ يُنْكِرْ
كَمَنْ فَعَلَ وَلَا ضَرُورَةَ
تَدْعُو إلَى التَّخْرِيبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ مَشَى عَلَى
لِسَانِ الْعِلْمِ وَاتَّبَعَ الْحَقَّ وَالسُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَاقْتَفَى
آثَارَ السَّلَفِ الْمَاضِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سِيَّمَا إنْ أَنْكَرَ
عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَوَائِدِهِمْ الذَّمِيمَةِ الْمُخَالِفَةِ
لِلسُّنَّةِ فَالْغَالِبُ مِنْ حَالِ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ النُّفُورُ مِنْهُ ؛
لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَدْ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ إنَّمَا تَرَكَ
الْعَوَائِدَ وَالِابْتِدَاعَ وَاتَّبَعَ السُّنَّةَ الْمُحَمَّدِيَّةَ وَتَمَسَّكَ
بِهَا ، وَعَادَةُ النُّفُوسِ فِي الْغَالِبِ النُّفُورُ مِنْ الْحُكْمِ عَلَيْهَا .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَا حَقُّ مَا أَبْقَيْتَ لِي حَبِيبًا .
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى
عَكْسِ هَذَا الْحَالِ مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ أَحَبُّوهُ وَاعْتَقَدُوهُ وَعَظَّمُوهُ
وَوَقَّرُوهُ وَاحْتَرَمُوهُ ، وَمَنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ تَرَكُوهُ وَأَهْمَلُوهُ
وَمَقَتُوهُ وَأَبْغَضُوهُ حَتَّى كَانَ مَنْ يُرِيدُ الرِّفْعَةَ عِنْدَهُمْ
وَالتَّعْظِيمَ مِمَّنْ لَا خَيْرَ فِيهِ يُظْهِرُ الِاتِّبَاعَ حَتَّى
يَعْتَقِدُوهُ عَلَى ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْيَوْمَ فَيَعْتَقِدُونَ وَيَحْتَرِمُونَ
مَنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الْمُحْدَثَةَ وَيَمْشِي عَلَيْهَا وَلَا يُنْكِرُ
عَلَى أَحَدٍ مَا هُوَ فِيهِ فَمَنْ أَرَادَ التَّخْرِيبَ فِي هَذَا الزَّمَانِ
فَلْيَتْبَعْ السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ فَإِنَّهُمْ يَنْفِرُونَ عَنْهُ وَلَا
يَعْتَقِدُونَهُ غَالِبًا لِإِنْكَارِهِ مَا هُمْ فِيهِ حَتَّى قَدْ يَنْفُرَ
عَنْهُ أَبَوَاهُ وَأَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ لِمُخَالَفَتِهِ مَا هُمْ عَلَيْهِ .
ثُمَّ إنَّ الْمُخَرِّبَ لَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ
أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَعْتَقِدَ حِلَّ ذَلِكَ أَمْ لَا فَإِنْ
اعْتَقَدَ حِلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَأَمَّا إنْ فَعَلَهُ مَعَ اعْتِقَادِ
تَحْرِيمِهِ فَهُوَ فَاسِقٌ عَلَى مَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ .
وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَى الْمَكْرُوهُ يَفْسُقُ
فَاعِلُهُ .
ثُمَّ إنَّهُمْ يَتَغَالَوْنَ فِي اعْتِقَادِهِمْ
فَيَقُولُونَ : هَذَا
بَدَلُ هَذَا قُطْبٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَحْسُنُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى
مَنْ اتَّبَعَ السُّنَّةَ وَبَذَلَ جَهْدَهُ فِي الِاتِّبَاعِ فَكَيْفَ يُطْلَقُ
عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، أَوْ الْمَكْرُوهَاتِ ،
أَوْ هُمَا مَعًا ؟ ثُمَّ إنَّ الْمُتَّبِعَ مِنْ النَّاسِ فِي اعْتِقَادِهِ عَلَى
قِسْمَيْنِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ
كُلِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ فَأَيُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ أَوْ قَالَهُ ، أَوْ
أَشَارَ إلَيْهِ مِنْ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ مِثْلَ أَنْ
يَقُولَ : هَذَا مَوْضِعٌ لَا أَدْخُلُهُ لِأَجْلِ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ أَوْ
اسْتَعْمَلَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ الْغَصْبَ ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُونَ :
هَذَا مِنْ بَابِ الْوَرَعِ هَذَا لَيْسَ بِمُتَّبَعٍ ، وَقَدْ دَخَلَهُ فُلَانٌ
وَفُلَانٌ وَيَحْتَجُّونَ بِمَنْ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي
بَعْضِهِمْ أَهْلِيَّةٌ لِلِاحْتِجَاجِ بِهِ فَقَدْ تَكُونُ لَهُ أَعْذَارٌ فِي ارْتِكَابِ
ذَلِكَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَيِّنَ عُذْرَهُ فِيمَا
وَقَعَ مِنْهُ ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : مَا كُلُّ الْأَعْذَارِ تُبْدَى ، وَإِذَا
كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ فِي هَذَا وَمَا شَاكَلَهُ ؛
إذْ إنَّ اتِّبَاعَ لِسَانِ الْعِلْمِ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ عَلَى النَّاسِ
عُمُومًا وَخُصُوصًا ، وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُولُ : إنِّي لَا أَتَكَلَّمُ بِالْوَرَعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَالنَّاسُ يَحْمِلُونَ
مَا أَتَكَلَّمُ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْوَرَعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَصَارَ
لِسَانُ الْعِلْمِ عِنْدَهُمْ وَرَعًا وَتَرَتَّبَتْ عَلَى هَذَا مَفْسَدَةٌ
عَظِيمَةٌ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَنْسِبُونَ كَثِيرًا مِنْ الشَّرِيعَةِ إلَى
الْوَرَعِ فَيَتْرُكُونَ بِسَبَبِ ذَلِكَ الِاتِّبَاعَ ، وَبَابُ الْوَرَعِ
ضَيِّقٌ لَا يَدْخُلُهُ إلَّا الْأَفْذَاذُ إذْ لَيْسَ هَذَا زَمَانُ الْوَرَعِ
غَالِبًا وَمَا يَتَعَلَّلُونَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْوَرَعِ إنَّمَا هُوَ مِنْ تَسْوِيلِ
النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ لِيُثَبِّطَ عَنْ بَرَكَةِ الِاتِّبَاعِ .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ غَيْرُ
الْمُعْتَقِدِ يَقُولُ : هَذَا يَابِسٌ مُشَدَّدٌ
مَرْبُوطٌ يُشِيرُ بِكَلَامِهِ وَحَالِهِ إلَى أَنَّ غَيْرَهُ عَلَى الْبَاطِلِ ،
وَهُوَ عَلَى الْحَقِّ وَالطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ .
وَكَلَامُهُمْ هَذَا يَرُدُّهُ مَا وَرَدَ فِي
الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا
وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ ؟ قَالَ : الَّذِينَ
يَصْلُحُونَ إذَا فَسَدَ النَّاسُ } وَفِي رِوَايَةٍ : الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا
أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي ، وَرَوَى أَبُو دَاوُد فِي
سُنَنِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : كَيْفَ بِكُمْ إذَا فَسَقَ
فِتْيَانُكُمْ وَطَغَى نِسَاؤُكُمْ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ
ذَلِكَ لَكَائِنٌ قَالَ : نَعَمْ وَأَشَدُّ كَيْفَ بِكُمْ إذَا لَمْ تَأْمُرُوا
بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ
لَكَائِنٌ قَالَ : نَعَمْ وَأَشَدُّ ، كَيْفَ بِكُمْ إذَا رَأَيْتُمْ الْمَعْرُوفَ
مُنْكَرًا ، وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ؟ } .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
( فَصْلٌ ) : ثُمَّ إنَّ غَالِبَ حَالِهِمْ أَنَّ
اعْتِقَادَهُمْ يَدُورُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اعْتِقَادُهُ شَهْوَةً
فَيَعْقِدُهُ مُدَّةً ، ثُمَّ يَنْحَلُّ عَنْ اعْتِقَادِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَدُومُ اعْتِقَادُهُ لَكِنْ يَزِيدُ
فِي اعْتِقَادِهِ وَيَتَغَالَى فِيهِ فَيَقُولُ هَذَا بَدَلٌ هَذَا قُطْبٌ كَمَا
تَقَدَّمَ .
وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ فَيَتَنَاقَضُ
قَوْلُهُمْ إذْ إنَّ الْقُطْبَ إنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَعَزُّ مِنْ أَنْ
يَجْتَمِعَ بِهِ إلَّا الْوَاحِدُ مِنْ الْأَفْذَاذِ وَمَعَ ذَلِكَ قَلَّ مَنْ يَعْرِفُهُ
؛ لِأَنَّ صِفَتَهُ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
الصَّقَلِّيُّ فِي كِتَابِ الْأَنْوَارِ لَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
يُدِيرُ الْقُطْبَ فِي الْآفَاقِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ أَرْكَانِ الدُّنْيَا
كَدَوَرَانِ الْفُلْكِ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ ، وَقَدْ سُتِرَتْ أَحْوَالُ
الْغَوْثِ ، وَهُوَ الْقُطْبُ عَنْ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ غَيْرَة مِنْ
الْحَقِّ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ يَرَى عَالِمًا جَاهِلًا أَبْلَهَ فَطِنًا
تَارِكًا آخِذًا قَرِيبًا بَعِيدًا سَهْلًا عَسِرًا آمِنًا حَذِرًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ إذَا حَصَلَ لَهُ اعْتِقَادٌ فِي شَيْخٍ
بِعَيْنِهِ نَقَّصَ غَيْرَهُ ، أَوْ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَيَقَعُ بِسَبَبِ
ذَلِكَ شَنَآنٌ بَيْنَ أَصْحَابِهِمْ وَمَنْ يَنْتَمُونَ إلَيْهِمْ حَتَّى
أَنَّهُمْ لَيَرْجِعُونَ أَحْزَابًا وَيَهْجُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِعَدَمِ تَسْلِيمِ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ
الْفُقَرَاءِ مِمَّنْ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ
الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُهُ ، وَهُوَ يُعَظِّمَ
سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدِ بْنَ أَبِي جَمْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ هَذَا
الْفَقِيرُ يَقُولَ فِي نَفْسِهِ مَا هَذَا إلَّا رَجُلٌ كَبِيرُ الْقَدْرِ مِثْلُ
هَذَا السَّيِّدِ يُعَظِّمُهُ قَالَ : فَمَضَيْتُ يَوْمًا إلَيْهِ حَتَّى أَرَاهُ
فَدَخَلْتُ إلَى الْمَسْجِدِ ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي الدَّرْسِ ، وَالْقَارِئُ يَقْرَأُ
عَلَيْهِ فَرَأَيْتُ عِبَارَتَهُ دُونَ عِبَارَةِ سَيِّدِي رَحِمَهُ اللَّهُ أَبِي
مُحَمَّدٍ
الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَعَجَّبْتُ
وَقُلْتُ فِي نَفْسِي أَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِي أَبِي
مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ فَاسْتَبْعَدْتُ ذَلِكَ فَرَدَّ الشَّيْخُ رَحِمَهُ
اللَّهُ رَأْسَهُ إلَيَّ وَنَظَرَ لِي ، ثُمَّ رَجَعَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا كَانَ
بِسَبِيلِهِ فَقَالَ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ يَنْبَغِي لِلْفَقِيرِ إذَا دَخَلَ
عَلَى الشُّيُوخِ أَنْ لَا يُفَضِّلَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ شَيْخًا عَلَى
غَيْرِهِ يَا مِسْكِينُ هَذَا الَّذِي تُفَضِّلُهُ لَوْ سَأَلْتَهُ عَمَّنْ
فَضَّلْتَهُ عَلَيْهِ كَانَ جَوَابُهُ أَنْ يَقُولَ : هُوَ بَرَكَتِي ، وَهُوَ
كَذَا وَكَذَا أَرْجُو مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ إلَى
غَيْرِ ذَلِكَ فَرُبَّ سَاكِتٍ أَفْضَلُ مِنْ نَاطِقٍ فَيَجِيءُ أَحَدُكُمْ
يُفَضِّلُ مَنْ يَخْطِرُ لَهُ بِمَا يَخْطِرُ لَهُ أَجَاءَ لَكَ أَحَدٌ مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَخْبَرَكَ أَنَّ فُلَانًا عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ
فَهَذَا مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ وَالِاحْتِرَامِ فَتُبْ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى -
وَارْجِعْ إلَيْهِ مَا كَفَى أَنَّ أَحَدَكُمْ يُحْرَمُ الْعَمَلُ حَتَّى يُحْرَمَ
الِاعْتِقَادُ مَا هَذَا الْحَالُ
.
قَالَ فَبَقِيتُ أَتُوبُ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ
لَعَلَّهُ يَسْكُتُ فَمَا سَكَتَ إلَّا بَعْدَ حِينٍ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، وَإِذَا
كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَضِّلَ بَيْنَ شَيْخَيْنِ إلَّا
بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ .
بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ اتِّبَاعًا
لِلسُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ مِنْ الْآخِرِ .
أَوْ يَكُونَ الَّذِي يُفَضِّلُ أَعْلَى مَقَامًا
مِنْهُمَا فَيَكْشِفُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ فِي مَقَامٍ يَكْشِفُ عَلَى
مَنْ هُوَ دُونَهُ وَلَا يَكْشِفُ عَلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ عَلَى مَقَامَاتِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ يَكْشِفْ عَلَى مَقَامِهِ الْخَاصِّ أَحَدٌ
مِنْهُمْ .
وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْمُرِيدِ يُعَظِّمُ
شَيْخَهُ وَيُؤْثِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ فِي وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّ
تَعْظِيمَهُ لَهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ
قَسَمَ لَهُ عَلَى يَدَيْهِ
رِزْقًا حَسَنًا كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَنْ رُزِقَ فِي شَيْءٍ فَلْيَلْزَمْهُ }
وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { : جُبِلَتْ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ
إلَيْهَا } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِمَا يَبْقَى هُوَ أَفْضَلُ وَأَعْلَى مِنْ
الْإِحْسَانِ بِمَا يَفْنَى وَحَقِيقَةُ الْمُرِيدِ مَعَ شَيْخِهِ أَنَّ الشَّيْخَ
وَجَدَهُ غَرِيقًا فِي بَحْرِ التَّلَفِ فَأَنْقَذَهُ وَخَلَّصَهُ مِنْهُ
وَأَوْقَفَهُ بِبَابِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا إحْسَانَ أَعْظَمَ
مِنْ هَذَا الْإِحْسَانِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ مَحَبَّةُ الْمُرِيدِ لِطَاعَةِ
رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمَّا أَنْ رَأَى عِنْدَ شَيْخِهِ مَا يُحِبُّهُ
الْتَزَمَهُ لِمَحْبُوبِهِ الَّذِي وَجَدَهُ عِنْدَهُ .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَخْدُمُ بَعْضَ أَبْنَاءِ
الدُّنْيَا وَيُحِبُّهُ يُؤْثِرُ بِالْخِدْمَةِ لَهُ فَعَذَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ
عَلَى الْتِزَامِ خِدْمَتِهِ لَهُ ، وَهُوَ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا فَكَانَ
جَوَابُهُ أَنْ قَالَ : مَحْبُوبِي عِنْدَهُ .
وَقِيلَ لِآخَرَ أَيْضًا وَقَدْ رَأَوْهُ وَاقِفًا
بِبَابِ عَدُوِّهِ فَعَذَلُوهُ فِي ذَلِكَ فَأَخْبَرَ بِمَا تَقَدَّمَ ، وَهُوَ
أَنَّ مَحْبُوبَهُ عِنْدَهُ ، وَالْمُرِيدُ بِنِيَّتِهِ وَخَاطِرِهِ
وَكُلِّيَّتِهِ رَاغِبٌ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، مُتَسَبِّبٌ فِي
الْوُصُولِ إلَيْهِ فَإِذَا رَأَى مَنْ هُوَ مِثْلُهُ ، أَوْ أَرْفَعُ مِنْهُ قَدْ
أَحْكَمَ الطَّرِيقَ وَعَرَفَهَا أَحَبَّهُ ، وَالْتَزَمَهُ وَأَنِسَ بِهِ لِمَا حَصَلَ
عِنْدَهُ مِنْ الْمَحَاسِنِ الْجَمِيلَةِ .
فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ يُعَظِّمُهُ لِمَا
خَلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَعِ السَّنِيَّةِ الشَّاهِدَةِ
لَهُ بِالْقُرْبِ مِنْ الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَظْهَرُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ
الْكَرَامَاتِ فَيَغْتَرُّ بِهَا فَيَتْلَفُ حَالُهُ بِسَبَبِهَا ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يُسَلِّمُ بِوَاسِطَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا جَرَى لِبَعْضِ
الْمُرِيدِينَ بِمَدِينَةِ فَاسَ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً فِي زَاوِيَةٍ خَارِجَ
الْبَلَدِ فَطَلَعَ عَلَى سَطْحِ الزَّاوِيَةِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ
فَأَعْجَبَهُ ضَوْءُ
الْقَمَرِ فَخَطَرَ لَهُ أَنْ يُجَرِّبَ نَفْسَهُ فِي
الطَّيَرَانِ هَلْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا فَجَرَّبَ نَفْسَهُ فَطَارَ فِي
الْهَوَاءِ فَدَخَلَ الْبَلَدَ مِنْ أَعْلَى سُورِهَا ، وَهُوَ طَائِرٌ فَقَالَ :
أَيُّ مَوْضِعٍ أَقْصِدُهُ فَوَقَعَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ إلَى زِيَارَةِ بَعْضِ الْأَكَابِرِ
مِنْ الْمَشَايِخِ فِي وَقْتِهِ فَأَتَى إلَى بَابِ دَارِهِ وَنَزَلَ وَدَقَّ
الْبَابَ فَخَرَجَ إلَيْهِ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ : مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ :
فُلَانٌ .
فَقَالَ لَهُ : مَا وَجَدْتُ شَيْئًا تَأْتِينِي بِهِ
إلَّا بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ ؟ وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْتُكَ بَعْدَهَا أَبَدًا
فَأَدَّبَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ سَبَبُ اجْتِمَاعِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ
وَسَلَامَتِهِ ، أَوْ كَمَا جَرَى
.
وَمِثْلُ هَذَا مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمُرِيدِينَ
أَنَّهُ كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسَ شَيْخِهِ ، ثُمَّ انْقَطَعَ فَسَأَلَ الشَّيْخُ
عَنْهُ فَقَالُوا لَهُ : هُوَ فِي عَافِيَةٍ فَأَرْسَلَ خَلْفَهُ فَحَضَرَ
فَسَأَلَهُ مَا الْمُوجِبُ لِانْقِطَاعِكَ فَقَالَ : يَا سَيِّدِي كُنْتُ أَجِيءُ
لِكَيْ أَصِلَ ، وَالْآنَ قَدْ وَصَلْتُ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَى الْحُضُورِ فَسَأَلَهُ
عَنْ كَيْفِيَّةِ وُصُولِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ يُصَلِّي
وِرْدَهُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : يَا بُنَيَّ وَاَللَّهِ مَا
دَخَلْتُهَا أَبَدًا فَلَعَلَّكَ أَنْ تَتَفَضَّلَ عَلَيَّ فَتَأْخُذَنِي مَعَكَ
لِعَلِّي أَنْ أَدْخُلَهَا كَمَا دَخَلْتَهَا أَنْتَ قَالَ : نَعَمْ فَبَاتَ
الشَّيْخُ عِنْدَ الْمُرِيدِ فَلَمَّا أَنْ كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ جَاءَ طَائِرٌ
فَنَزَلَ عِنْدَ الْبَابِ فَقَالَ الْمُرِيدُ لِلشَّيْخِ هَذَا الطَّائِرُ الَّذِي
يَحْمِلُنِي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ عَلَى ظَهْرِهِ إلَى الْجَنَّةِ فَرَكِبَ
الشَّيْخُ وَالْمُرِيدُ عَلَى ظَهْرِ الطَّائِرِ فَطَارَ بِهِمَا سَاعَةً ، ثُمَّ
نَزَلَ بِهِمَا فِي مَوْضِعٍ كَثِيرِ الشَّجَرِ فَقَامَ الْمُرِيدُ لِيُصَلِّيَ
وَقَعَدَ الشَّيْخُ فَقَالَ لَهُ الْمُرِيدُ : يَا سَيِّدِي أَمَا تَقُومُ اللَّيْلَةَ
فَقَالَ الشَّيْخُ : يَا بُنَيَّ الْجَنَّةُ هَذِهِ وَلَيْسَ فِي الْجَنَّةِ
صَلَاةٌ فَبَقِيَ الْمُرِيدُ يُصَلِّي وَالشَّيْخُ قَاعِدٌ فَلَمَّا أَنْ طَلَعَ
الْفَجْرُ جَاءَ الطَّائِرُ وَنَزَلَ فَقَالَ الْمُرِيدُ
لِلشَّيْخِ قُمْ بِنَا نَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِنَا فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ اجْلِسْ
مَا رَأَيْتُ أَحَدًا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَيَخْرُجُ مِنْهَا فَجَعَلَ الطَّائِرُ
يَضْرِبُ بِأَجْنِحَتِهِ وَيَصِيحُ حَتَّى أَرَاهُمْ أَنَّ الْأَرْضَ تَتَحَرَّكُ
بِهِمْ فَبَقِيَ الْمُرِيدُ يَقُولُ لِلشَّيْخِ : قُمْ بِنَا لِئَلَّا يَجْرِيَ
عَلَيْنَا مِنْهُ شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ هَذَا يَضْحَكُ عَلَيْكَ يُرِيدُ
أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ الْجَنَّةِ فَاسْتَفْتَحَ الشَّيْخُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ
فَذَهَبَ الطَّائِرُ وَبَقِيَا كَذَلِكَ إلَى أَنْ تَبَيَّنَ الضَّوْءُ ، وَإِذَا هُمَا
عَلَى مَزْبَلَةٍ ، وَالْعُذْرَةُ وَالنَّجَاسَاتُ حَوْلَهُمَا فَصَفَعَ الشَّيْخُ
الْمُرِيدَ وَقَالَ لَهُ هَذِهِ هِيَ الْجَنَّةُ الَّتِي أَوْصَلَكَ الشَّيْطَانُ
إلَيْهَا قُمْ فَاحْضُرْ مَعَ إخْوَانِكَ ، أَوْ كَمَا جَرَى .
وَحِكَايَاتُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ
، وَالْحَاصِلُ مِنْهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتْرُكُ أَحَدًا وَلَا يَيْأَسُ
مِنْهُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَيَضْرِبُ عَلَيْهِ
بِخَيْلِهِ وَرَجْلِهِ وَيَسْتَعْمِلُ حِيَلَهُ كُلَّهَا .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ هَذَا ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ
فَيَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُرِيدِ أَنْ لَا يَدَّعِيَ حَالًا وَلَا مَقَامًا خِيفَةَ
أَنْ يُفْسِدَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مُنَّ بِهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ حَقِيقَةً ، أَوْ
يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ ابْتِدَاءً وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا
الزَّمَانِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ رُسُوخٌ فِي الطَّرِيقِ ، بَلْ بَعْضُهُمْ
مَغْمُوسٌ فِي الْجَهْلِ وَيَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ الشُّيُوخِ الْمُوصِلِينَ إلَى
اللَّهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَوْقٌ فِي طَرِيقِ الْقَوْمِ بِالْكُلِّيَّةِ ، بَلْ
عَكْسُهُ أَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ بِمَنِّهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْعَلُ فِعْلًا قَبِيحًا شَنِيعًا فِي
مُطَالَبَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَقِيَامِ الْمُسْتَغْفِرِ مَكْشُوفَ الرَّأْسِ
زَمَنًا طَوِيلًا وَرُبَّمَا كَانَ مُعْتَلَّ الدِّمَاغِ فَتَأْخُذُهُ نَزْلَةٌ
سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْبَرْدِ ، وَقَدْ يَئُولُ الْأَمْرُ مِنْ ذَلِكَ
إلَى الْمَوْتِ ، أَوْ إلَى أَمْرَاضٍ
خَطِرَةٍ قَدْ تَطُولُ عَلَيْهِ الْمُدَّةُ بِالْعِلَلِ
، ثُمَّ إنَّ بَعْضَهُمْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ بِمَشْهَدٍ مِنْ
النَّاسِ عَامَّةً ، وَذَلِكَ مُخَالِفٌ لِطَرِيقِ الْقَوْمِ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا
كَانَتْ مُطَالَبَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِيمَا
بَيْنَهُمْ مُسْتَتِرِينَ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَمَا قِيلَ
لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ إلَّا ذُو مَحْرَمٍ وَمَحْرَمُهُمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ
أَعْنِي مِنْ أَصْحَابِ الْخِرْقَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَيَزِيدُ بَعْضُهُمْ حَمْلَ الْأَقْدَامِ وَيَقِفُ
طَوِيلًا بِهَا يَنْتَظِرُ إقْبَالَهُمْ عَلَيْهِ .
وَبَعْضُهُمْ يُبَالِغُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَيَأْمُرُ
بِكَشْفِ رَأْسِ الْجَانِي عَلَى زَعْمِهِ وَضَرْبِهِ بِالْجَمَاجِمِ ،
وَالْجَرِيدِ وَغَيْرِهَا وَهَذَا قُبْحٌ وَشَنَاعَةٌ أَنْ يُنْسَبَ هَذَا لِمَنْ
يَدَّعِي الطَّرِيقَ ، وَطَرِيقُ الْقَوْمِ غَيْرُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إذْ
إنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الصَّفْحِ وَالتَّجَاوُزِ وَالْإِغْضَاءِ مَا لَمْ يَكُنْ
فِي أَمْرِ الدِّينِ ، فَإِنْ كَانَ فِي أَمْرِ الدِّينِ فَيَكْفِي فِيهِ
الْهِجْرَانُ لَا غَيْرُ وَفِيهِ مُقْنَعٌ لِلْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ،
وَغَيْرُ هَذَا لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ فِي شَيْءٍ .
وَطَرِيقُهُمْ أَنَّهُمْ إذَا وَقَعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ
فِي مُخَالَفَةٍ يُطَالِبُونَهُ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِقْلَاعِ عَمَّا وَقَعَ فِيهِ .
ثُمَّ زَادَ بَعْضُهُمْ عَلَى ذَلِكَ اعْتِقَادَهُمْ
أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْقَوْمِ الصَّادِقِينَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ مَا
يَفْعَلُهُ لِلصَّادِقِ مِنْهُمْ مَعَ إخْوَانِهِ إذَا اطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ
الْمَكْرُوهِ الَّذِي وَقَعُوا فِيهِ ، وَأَنَّهُ يَتَوَجَّهُ إلَى اللَّهِ -
تَعَالَى - فِي إنْقَاذِ مَنْ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ لِلشَّيْخِ
آكَدُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُرِيدِ ؛ لِأَنَّ بِغَفْلَةِ الشَّيْخِ عَنْهُ
جَرَى عَلَيْهِ مَا جَرَى فَلَوْ كَانَ الشَّيْخُ يَلْحَظُهُ لَمَا قَدَرَ عَلَى
ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا جَرَى لِسَيِّدِي أَبِي عَلِيِّ
بْنِ السَّمَّاطِ شَيْخِ سَيِّدِي أَبِي مُحَمَّدٍ الْمَرْجَانِيِّ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ -
تَعَالَى -
أَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِهِ جَاءَ إلَيْهِ وَطَلَبَ مِنْهُ
إذْنًا أَنْ يَتَزَوَّجَ فَأَبَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ جَاءَهُ ثَانِيًا فَأَبَى
عَلَيْهِ ، ثُمَّ ثَالِثًا كَذَلِكَ فَقَالَ : أَزْنِي ؟ قَالَ : اذْهَبْ .
فَذَهَبَ الْمُرِيدُ فَأَخَذَ امْرَأَةً وَجَاءَ بِهَا
إلَى بَيْتِهِ وَأَغْلَقَ الْبَابَ ، وَإِذَا بِالْحَائِطِ قَدْ انْشَقَّ وَدَخَلَ
عَلَيْهِ الشَّيْخُ فَخَرَجَ هَارِبًا يَسِيحُ فِي الْبَرِّيَّةِ بِحَالٍ أَخَذَهُ
لَا يَعْرِفُ أَيْنَ يَذْهَبُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ عَقْلُهُ بَعْد ذَلِكَ
فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ أَصَابَنِي الْمَرَضُ ؟ مِنْ هُنَاكَ أَتَدَاوَى فَرَجَعَ
إلَى مَوْضِعِ الشَّيْخِ فَدَخَلَ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ
رَحِمَهُ اللَّهُ : أَقَدَرْتَ عَلَى شَيْءٍ تَفْعَلُهُ ؟ أَتَظُنُّ أَنَّكَ
لِنَفْسِكَ ؟ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَتَحَمَّلُونَ أَنْ يَرَوْا مَنْ
يَنْتَمِي إلَيْهِمْ فِي ذَرَّةٍ مِمَّا لَا يَنْبَغِي .
أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ رَأَى
بَعْضَ أَصْحَابِهِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ لَهُ :
مَا لِي أَرَاك هَاهُنَا فَقَالَ لَهُ لِأَجْلِ فَضِيلَةِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ
وَلِلْقُرْبِ مِنْ الْخَطِيبِ فَقَالَ لَهُ : أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ الْبُعْدَ مِنْ
هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ الْقُرْبِ مِنْهُمْ
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِمُشَاهَدَةِ مَا الشَّرْعُ يَأْمُرُ بِتَغْيِيرِهِ عَلَيْهِ .
أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ فِي التَّغْيِيرِ أَنْ لَا يَرَى
شَيْئًا يُخَالِفُ السُّنَّةَ حَتَّى يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ
بِالْقَلْبِ إذْ إنَّ أَصْعَبَ مَا فِي التَّغْيِيرِ التَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ؛
لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْقَلْبِ تَدْنِيسُهُ بِمَا يُشَاهِدُ وَيَرَى
وَيَسْمَعُ فَقَلَّ أَنْ يَتَأَثَّرَ مَعَ مُدَاوَمَةِ هَذَا الْحَالِ عَلَيْهِ
فَالتَّغْيِيرُ بِالْقَلْبِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْمَرْتَبَتَيْنِ اللَّتَيْنِ
قَبْلَهُ فَهُوَ أَصْعَبُ مِنْهُمَا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَتَأَمَّلْهُ .
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِتَأْنِيسِ الْقُلُوبِ غَالِبًا
بِالْعَوَائِدِ الْمُسْتَمِرَّةِ
.
أَلَا تَرَى إلَى مَا حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ
قَالَ : أَوَّلُ بِدْعَةٍ رَأَيْتُ بُلْتُ الدَّمَ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَرَدَ { : وَلُّوا الْبِدَعَ
ظُهُورَكُمْ } وَكَذَلِكَ وَرَدَ { : مَنْ لَمْ يُزِلْ الْمُنْكَرَ فَلْيَزُلْ
عَنْهُ } فَكَيْفَ يُقْبِلُ الْمُكَلَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ يُصْغِي
إلَيْهِ وَأَمَّا إنْ فَاجَأَهُ ذَلِكَ وَعَجَزَ عَنْ التَّغْيِيرِ فَالتَّخَلُّصُ
مِنْهُ أَقْرَبُ وَأَيْسَرُ .
لِمَا وَرَدَ فِيمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّغْيِيرِ
أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا مُنْكَرٌ ثَلَاثًا .
ثُمَّ لِيَمْضِ لِسَبِيلِهِ وَيُعْرِضُ عَنْهُ .
فَصْلٌ فِي مُكَاتَبَةِ الْفَقِيرِ لِأَخِيهِ
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْتَنِبَ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي مُكَاتَبَةِ
بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ بِالْأَلْفَاظِ الَّتِي احْتَوَتْ عَلَى التَّزْكِيَةِ
وَالتَّعْظِيمِ ، وَالْكَذِبِ وَالتَّنْمِيقِ ، وَالْقَوَافِي وَالسَّجْعِ ،
وَالْعِبَارَاتِ الْقَلِقَةِ وَالتَّكَلُّفِ إذْ إنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ كُتُبَ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى مِنْهَاجٍ غَيْرِ هَذَا .
فَمِنْ ذَلِكَ كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى مَنْ يُكَاتِبُهُ مِنْ
وُلَاتِهِ مِنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ
إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَكُتُبُهُمْ لَهُ .
مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ إلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَوَصَفُوهُ بِالصِّفَةِ الْمُلَازِمَةِ لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى هِرَقْلَ : مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلَى هِرَقْلَ
عَظِيمِ الرُّومِ .
فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ
الْعَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي سِرَاجِ الْمُرِيدِينَ لَهُ أَنَّ مَعْنَى .
كَتْبَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
إلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ أَيْ الَّذِي يُعَظِّمُهُ الرُّومُ وَتَعْظِيمُ
الرُّومِ لَهُ بَاطِلٌ وَلَكِنَّهُ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً فَلِذَلِكَ وَصَفَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ وَعَلَى هَذَا دَرَجَ
السَّلَفُ وَالْخَلَفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَتَعْظِيمُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ
إنَّمَا هُوَ بِالْقُلُوبِ لَا بِاللَّقْلَقَةِ مِنْ الْأَلْسُنِ كَمَا هُوَ
الْحَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ فَهَذِهِ بَعْضُ نُبَذٍ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى
مَا عَدَاهَا .
وَأَمَّا طَرِيقُ كَثِيرٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ الْمُسَافِرِينَ
أَعْنِي غَيْرَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْهُمْ فَلَهُمْ اصْطِلَاحَاتٌ وَعَوَائِدُ
قَلَّ أَنْ تَجِدَ لِلِاتِّبَاعِ فِيهَا سَبِيلًا ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا كَانُوا
يُوجِبُونَهُ عَلَى مَنْ يُرِيدُونَ أَخْذَ ثِيَابِهِ وَغَيْرِهَا مِنْ
مُتَطَلَّبَاتٍ كَثِيرَةٍ يُسَمُّونَهَا شُغْلَ الْفُقَرَاءِ
وَلَيْسَ هَذَا الْحَالُ خَاصًّا بِهِمْ ، وَذَلِكَ
كُلُّهُ مَمْنُوعٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { : لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ
مِنْهُ } وَهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى
أَنَّهُمْ لَيُكَلِّفُونَ مَنْ كَانَ فَقِيرًا إلَى الْمَسْأَلَةِ بِالْإِلْحَاحِ
وَتَكْلِيفِ النَّاسِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِمْ فِي الضِّيَافَاتِ
وَالْإِجَازَاتِ ، وَأَحْوَالُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَلَّ أَنْ تَنْحَصِرَ ،
وَفِيمَا ذُكِرَ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا عَدَاهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .
فَصْلٌ فِي صَرْفِ هِمَمِ الْمُرِيدِ كُلِّهَا إلَى
الْآخِرَةِ وَأُمُورِهَا وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ أَهَمُّ الْأُمُورِ
عَلَيْهِ وَآكَدُهَا عِنْدَهُ أُمُورَ الْآخِرَةِ إذْ إنَّهُ مَصِيرُهُ إلَيْهَا
فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إيثَارُهَا وَلَا يَعْبَأُ بِغَيْرِ ذَلِكَ إلَّا مِنْ
طَرِيقِ الِامْتِثَالِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ أَمْرِ الْآخِرَةِ مُنْقَطِعٌ زَائِلٌ وَمَا
هُوَ كَذَلِكَ فَأَمْرُهُ أَقْرَبُ وَأَيْسَرُ مِنْ الدَّائِمِ الَّذِي لَا
يَنْقَطِعُ .
أَلَا تَرَى إلَى حَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَيْفَ كَانَ عَلَى مَا وَصَفَ الْوَاصِفُ مُتَوَاصِلَ
الْأَحْزَانِ ؟ وَقَدْ كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ
غَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى كَأَنَّهُ يُقَدَّمُ لِلْقَتْلِ عَلَى
مَا نُقِلَ عَنْهُ .
وَكَانَ يَقُولُ : أَعْجَبُ مِمَّنْ يَمْلَأُ فَاهُ
بِالضَّحِكِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فِي أَيِّ دِيوَانٍ اسْمُهُ هَلْ فِي
الْجَنَّةِ ، أَوْ فِي النَّارِ
.
وَقَدْ سَأَلَ رَجُلٌ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنْ يَعِظَهُ فَقَالَ لَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : إنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ
تَكَفَّلَ بِالرِّزْقِ فَاهْتِمَامُك بِالرِّزْقِ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ
الرِّزْقُ مَقْسُومًا فَالْحِرْصُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ الْخَلَفُ عَلَى
اللَّهِ حَقًّا فَالْبُخْلُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَنَّةُ حَقًّا فَالرَّاحَةُ
لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ حَقًّا فَالْمَعْصِيَةُ لِمَاذَا ، وَإِنْ
كَانَ سُؤَالُ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ حَقًّا فَالْأُنْسُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَتْ
الدُّنْيَا فَانِيَةً فَالطُّمَأْنِينَةُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ
حَقًّا فَالْجَمْعُ لِمَاذَا ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ
فَالْحُزْنُ لِمَاذَا ؟ .
وَقَدْ قَالَتْ رَابِعَةُ الْعَدَوِيَّةُ لِرَجُلٍ
رَأَتْهُ مَهْمُومًا : إنْ كَانَ هَمُّكَ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَزَادَكَ
اللَّهُ هَمًّا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَفَرَّجَ اللَّهُ هَمَّكَ
، وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُهُمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَقَالَ : لَا تَجْزَعَنَّ
إذَا مَا الْأَمْرُ ضِقْتَ بِهِ ذَرْعًا وَنَمْ وَتَوَسَّدْ خَالِيَ الْبَالِ مَا بَيْنَ
غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا يُغَيِّرُ
اللَّهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالِ .
( فَصْلٌ ) : هَذَا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى
أَدَبِ الْمُرِيدِ وَيَنْبَغِي أَنْ نَخْتِمَهُ بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَرُّكًا بِذِكْرِ آثَارِهِ وَأَحْوَالِهِ
وَلِكَيْ يَكُونَ سُلَّمًا لِلْمُرِيدِ فِي اتِّبَاعِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ وَإِشَارَاتِهِ .
فَمِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِسُنَنِ الصَّالِحِينَ وَسُنَنِ الْعَابِدِينَ
قَالَ مَالِكٌ : إنَّ رَجُلَيْنِ كَانَا جَالِسَيْنِ يَتَحَدَّثَانِ وَكَعْبُ
الْأَحْبَارِ قَرِيبٌ مِنْهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : إنِّي رَأَيْتُ
فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ النَّاسَ جُمِعُوا لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَرَأَيْتُ
النَّبِيِّينَ لَهُمْ نُورَانِ نُورَانِ ، وَلِأَتْبَاعِهِمْ نُورٌ نُورٌ ، قَالَ : وَرَأَيْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مِنْ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِهِ
وَلَا رَأْسِهِ إلَّا وَفِيهَا نُورَانِ ، وَرَأَيْتُ أَتْبَاعَهُ لَهُمْ نُورَانِ
نُورَانِ فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ :
اتَّقِ اللَّهَ وَانْظُرْ مَاذَا تُحَدِّثُ بِهِ فَقَالَ
: إنَّمَا هِيَ رُؤْيَا رَأَيْتُهَا فَقَالَ كَعْبٌ : وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
إنَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمُنَزَّلِ لَكَمَا ذَكَرْتَ .
وَمِنْهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ سُمِعَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ ، وَهُوَ يَبْكِي : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَقَدْ كَانَ
لَكَ جِذْعٌ تَخْطُبُ النَّاسَ عَلَيْهِ فَلَمَّا كَثُرُوا اتَّخَذْت مِنْبَرًا لِتُسْمِعَهُمْ
فَحَنَّ الْجِذْعُ لِفِرَاقِكَ حَتَّى جَعَلْتَ يَدَكَ عَلَيْهِ فَسَكَنَ
فَأُمَّتُكَ أَوْلَى بِالْحَنِينِ عَلَيْكَ حِينَ فَارَقْتَهُمْ ، بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ رَبِّكَ أَنْ
جَعَلَ طَاعَتَكَ طَاعَتَهُ فَقَالَ - تَعَالَى - { : مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ
فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ، بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنْ
بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَذَكَرَكَ فِي أَوَّلِهِمْ فَقَالَ -
تَعَالَى - { : وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ
مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ
مَرْيَمَ } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ بَلَغَ مِنْ
فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَطَاعُوكَ
وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا يُعَذَّبُونَ { يَقُولُونَ : يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا
اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ
لَئِنْ كَانَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ أَعْطَاهُ اللَّهُ حَجَرًا تَتَفَجَّرُ مِنْهُ
الْأَنْهَارُ فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ أَصَابِعِكَ حِينَ نَبَعَ مِنْهَا
الْمَاءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ
لَئِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد أَعْطَاهُ اللَّهُ رِيحًا غُدُوُّهَا شَهْرٌ
وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ فَمَا ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ الْبُرَاقِ حِينَ سَرَيْتَ
عَلَيْهِ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، ثُمَّ صَلَّيْتَ الصُّبْحَ مِنْ
لَيْلَتِكَ بِالْأَبْطَحِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ .
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَئِنْ
كَانَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أَعْطَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - إحْيَاءَ الْمَوْتَى فَمَا
ذَاكَ بِأَعْجَبَ مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ حِينَ كَلَّمَتْكَ ، وَهِيَ
مَسْمُومَةٌ فَقَالَتْ : لَا تَأْكُلْنِي فَإِنِّي مَسْمُومَةٌ .
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ
دَعَا نُوحٌ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ { : رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } .
وَلَوْ دَعَوْتَ مِثْلَهَا عَلَيْنَا لَهَلَكْنَا عَنْ آخِرِنَا
فَلَقَدْ وُطِئَ ظَهْرُكَ وَأُدْمِيَ وَجْهُكَ وَكُسِرَتْ رُبَاعِيَّتُكَ
فَأَبَيْتَ أَنْ تَقُولَ إلَّا خَيْرًا فَقُلْتَ { : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي
فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ
لَقَدْ اتَّبَعَكَ فِي إحْدَاثِ سِنِّكَ وَقِصَرِ عُمُرِكَ مَا لَمْ يَتْبَعْ
نُوحًا فِي كِبَرِ سِنِّهِ وَطُولِ عُمْرِهِ فَلَقَدْ آمَنَ بِكَ الْكَثِيرُ وَمَا
آمَنَ مَعَهُ إلَّا قَلِيلٌ .
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ لَمْ
تُجَالِسْ إلَّا كُفُؤًا لَكَ مَا جَالَسْتَنَا .
وَلَوْ لَمْ تَنْكِحْ إلَّا كُفْئًا لَكَ مَا
نَكَحَتْ إلَيْنَا ، وَلَوْ لَمْ تُؤَاكِلْ إلَّا
كُفْئًا لَكَ مَا آكَلْتنَا .
وَلَبِسَتْ الصُّوفَ وَرَكِبَتْ الْحِمَارَ وَوَضَعْتَ
طَعَامَكَ بِالْأَرْضِ وَلَعَقْتَ أَصَابِعَكَ تَوَاضُعًا مِنْكَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْكَ .
وَمِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ لِلطَّبَرِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْبَسُ الصُّوفَ
وَيَنْتَعِلُ الْمَخْصُوفَ وَلَا يَتَأَنَّفُ مِنْ مَلْبَسٍ يَلْبَسُ مَا وَجَدَهُ
مَرَّةً شَمْلَةً وَمَرَّةً بُرْدَةً حَبِرَةً وَمَرَّةً جُبَّةَ صُوفٍ .
وَكَانَ يَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةِ
وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا وَكَانَ لِنَعْلَيْهِ قِبَالَانِ وَأَوَّلُ مَنْ عَقَدَ
عَقْدًا وَاحِدًا عُثْمَانُ وَكَانَ أَحَبُّ اللِّبَاسِ إلَيْهِ الْحَبِرَةَ ،
وَهِيَ بُرُودُ الْيَمَنِ فِيهَا حُمْرَةٌ وَبَيَاضٌ .
وَكَانَ أَحَبُّ اللِّبَاسِ إلَيْهِ الْقَمِيصُ وَكَانَ
إذَا اسْتَجَدَّ ثَوْبًا سَمَّاهُ بِاسْمِهِ عِمَامَةً كَانَ ، أَوْ قَمِيصًا
وَرِدَاءً وَيَقُولُ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَمَا أَلْبَسْتَنِيهِ أَسْأَلُكَ
خَيْرَهُ وَخَيْرَ مَا صُنِعَ لَهُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ مَا
صُنِعَ لَهُ .
وَكَانَ يُعْجِبُهُ الثِّيَابُ الْخُضْرُ .
وَكَانَ يَلْبَسُ الْكِسَاءَ الصُّوفَ وَحْدَهُ
فَيُصَلِّي فِيهِ وَرُبَّمَا لَبِسَ الْإِزَارَ الْوَاحِدَ لَيْسَ عَلَيْهِ
غَيْرُهُ وَيَعْقِدُ طَرَفَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَيُصَلِّي فِيهِ .
وَكَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ تَحْتَ الْعَمَائِمِ
وَيَلْبَسُهَا دُونَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُ الْعَمَائِمَ دُونَهَا وَيَلْبَسُ
الْقَلَانِسَ ذَاتَ الْآذَانِ فِي الْحَرْبِ وَرُبَّمَا نَزَعَ قَلَنْسُوَتَهُ
وَجَعَلَهَا سُتْرَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَصَلَّى إلَيْهَا ، وَرُبَّمَا مَشَى بِلَا
قَلَنْسُوَةٍ وَلَا عِمَامَةٍ وَلَا رِدَاءٍ رَاجِلًا يَعُودُ الْمَرْضَى كَذَلِكَ
فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ يَعْتَمُّ وَيُسْدِلُ طَرَفَ عِمَامَتِهِ بَيْنَ
كَتِفَيْهِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ
عَمَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعِمَامَةٍ
وَسَدَلَ طَرَفَهَا بَيْنَ كَتِفَيَّ ، وَقَالَ { : إنَّ الْعِمَامَةَ حَاجِزٌ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ
} وَكَانَ يَلْبَسُ
يَوْمَ الْجُمُعَةِ بُرْدَهُ الْأَحْمَرَ وَيَعْتَمُّ .
وَكَانَ يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ فَصُّهُ مِنْهُ
نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي خِنْصَرِهِ الْأَيْمَنِ وَرُبَّمَا
لَبِسَهُ فِي الْأَيْسَرِ وَيَجْعَلُ فَصَّهُ مِمَّا يَلِي بَطْنَ كَفِّهِ .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ
الطِّيبَ وَيَكْرَهُ الرَّائِحَةَ الْكَرِيهَةَ وَكَانَ يَقُولُ { : إنَّ اللَّهَ
- تَعَالَى - جَعَلَ لَذَّتِي فِي الدُّنْيَا لِلنِّسَاءِ وَالطِّيبِ ، وَقُرَّةَ عَيْنِي
فِي الصَّلَاةِ } وَكَانَ يَتَطَيَّبُ بِالْغَالِيَةِ وَبِالْمِسْكِ حَتَّى يُرَى
وَبِيصَهُ فِي مَفَارِقِهِ وَيَتَبَخَّرُ بِالْعُودِ وَيَطْرَحُ فِيهِ الْكَافُورَ .
وَكَانَ يُعْرَفُ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ بِطِيبِ
رِيحِهِ .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتَحِلُ
بِالْإِثْمِدِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ وَرُبَّمَا اكْتَحَلَ
ثَلَاثًا فِي الْيُمْنَى وَاثْنَتَيْنِ فِي الْيُسْرَى وَرُبَّمَا اكْتَحَلَ ،
وَهُوَ صَائِمٌ .
وَكَانَ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِالْإِثْمِدِ فَإِنَّهُ
يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ .
وَكَانَ يُكْثِرُ دَهْنَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ .
وَكَانَ يَتَرَجَّلُ غِبًّا .
وَكَانَ يَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ وَرُبَّمَا نَظَرَ فِي
الْمَاءِ فِي رَكْوَةٍ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَسَوَّى جُمَّتَهُ .
وَكَانَ لَا تُفَارِقُهُ قَارُورَةُ الدُّهْنِ فِي
سَفَرِهِ ، وَالْمُكْحُلَةُ وَالْمِرْآةُ وَالْمُشْطُ ، وَالْمِقْرَاضُ
وَالسِّوَاكُ ، وَالْخُيُوطُ ، وَالْإِبْرَةُ فَيَخِيطُ ثِيَابَهُ وَيَخْصِفُ
نَعْلَهُ .
وَكَانَ يَسْتَاكُ بِالْأَرَاكِ وَكَانَ إذَا قَامَ مِنْ
النَّوْمِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ وَيَسْتَاكُ فِي اللَّيْلَةِ ثَلَاثَ
مَرَّاتٍ قَبْلَ النَّوْمِ وَبَعْدَهُ عِنْدَ الْقِيَامِ ، وَلِوِرْدِهِ عِنْدَ
الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَحْتَجِمُ فِي الْأَخْدَعَيْنِ وَبَيْنَ الْكَتِفَيْنِ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ
مُحْرِمٌ بِمَكَّةَ عَلَى ظَاهِرِ الْقَدَمِ .
وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشَرَةَ وَتِسْعَ عَشَرَةَ
وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْزَحُ وَلَا
يَقُولُ إلَّا حَقًّا .
دَخَلَ يَوْمًا عَلَى أُمِّ
سُلَيْمٍ ، وَقَدْ مَاتَ نَغْرُ ابْنِهَا مِنْ بَنِي
أَبِي طَلْحَةَ فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ، وَجَاءَتْهُ
امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ احْمِلْنِي عَلَى جَمَلٍ فَقَالَ : أَحْمِلُكِ
عَلَى وَلَدِ النَّاقَةِ وَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّ زَوْجِي مَرِيضٌ فَقَالَ لَعَلَّ زَوْجَكِ الَّذِي فِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ
فَرَجَعَتْ الْمَرْأَةُ وَفَتَحَتْ عَيْنَيْ زَوْجِهَا لِتَنْظُرَ إلَيْهِمَا
فَقَالَ مَا لَكِ ؟ فَقَالَتْ :
أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ فِي عَيْنَيْكَ بَيَاضًا فَقَالَ وَيْحَكِ وَهَلْ أَحَدٌ إلَّا
وَفِي عَيْنَيْهِ بَيَاضٌ .
{ وَجَاءَتْ أُخْرَى فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ : يَا أُمَّ فُلَانٍ إنَّ
الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ فَوَلَّتْ الْمَرْأَةُ ، وَهِيَ تَبْكِي
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا
تَدْخُلُهَا ، وَهِيَ عَجُوزٌ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ { إنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ
إنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا } } .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَابَقْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَقْتُهُ فَلَمَّا كَثُرَ
لَحْمِي سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي ، ثُمَّ ضَرَبَ كَتِفِي وَقَالَ : هَذِهِ
بِتِلْكَ .
{ وَجَاءَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
السُّوقِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِ رَجُلٍ اسْمُهُ زَاهِرٌ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّهُ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَمَا كَانَ
يَعْرِفُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قَالَ
: مَنْ يَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ فَجَعَلَ يَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ إذَنْ وَاَللَّهِ تَجِدُنِي كَاسِدًا
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّكَ عِنْدَ رَبِّكَ
لَسْتَ كَاسِدًا } .
{ وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حُسَيْنًا مَعَ صِبْيَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَامَ
الْقَوْمِ وَطَفِقَ الْحُسَيْنُ يَفِرُّ هَارِبًا
هَاهُنَا وَهَاهُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُضَاحِكُهُ حَتَّى أَخَذَهُ فَجَعَلَ إحْدَى يَدَيْهِ تَحْتَ ذَقَنِهِ ،
وَالْأُخْرَى فَوْقَ رَأْسِهِ }
.
وَكَانَ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ
عَلَى عَائِشَةَ ، وَالْجَوَارِي يَلْعَبْنَ عِنْدَهَا فَإِذَا رَأَيْنَهُ تَفَرَّقْنَ
فَيُسِيرَهُنَّ إلَيْهَا .
وَقَالَ لَهَا يَوْمًا ، وَهِيَ تَلْعَبُ بِلُعْبَتِهَا
مَا هَذِهِ يَا عَائِشَةُ ؟ فَقَالَتْ : خَيْلُ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُد فَضَحِكَ
وَطَلَبَ الْبَابَ فَابْتَدَرَتْهُ وَاعْتَنَقَتْهُ فَقَالَ : مَا لَكِ يَا
حُمَيْرَاءُ فَقَالَتْ : بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ اُدْعُ
اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ فَرَفَعَ
يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِعَائِشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ مَغْفِرَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً لَا تُغَادِرُ
ذَنْبًا وَلَا تَكْسِبُ بَعْدَهَا خَطِيئَةً وَلَا إثْمًا .
ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أَفَرِحْتِ يَا عَائِشَةُ فَقَالَتْ : إي وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ فَقَالَ
: أَمَّا وَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا خَصَصْتُكِ بِهَا مِنْ بَيْنِ
أُمَّتِي ، وَإِنَّهَا لَصَلَاتِي لِأُمَّتِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِيمَنْ
مَضَى مِنْهُمْ ، وَمَنْ بَقِيَ ، وَمَنْ هُوَ آتٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَأَنَا أَدْعُو لَهُمْ ، وَالْمَلَائِكَةُ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِي } .
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُكْرِمُ
ضَيْفَهُ وَيَبْسُطُ رِدَاءَهُ لَهُ كَرَامَةً .
{ وَجَاءَتْهُ ظِئْرُهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ يَوْمًا
فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ وَقَالَ مَرْحَبًا بِأُمِّي وَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ } .
وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَبَسُّمًا وَأَحْسَنَهُمْ
بِشْرًا مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَوَاصِلَ الْأَحْزَانِ دَائِمَ الْفِكْرَةِ لَا
يَمْضِي لَهُ وَقْتٌ فِي غَيْرِ عَمَلِ اللَّهِ ، أَوْ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ ،
أَوْ لِأَهْلِهِ ، أَوْ لِأُمَّتِهِ مِنْهُ وَمَا خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا
اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ قَطِيعَةُ رَحِمٍ فَيَكُونَ أَبْعَدَ
النَّاسِ مِنْهُ .
وَكَانَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ
وَيَخْدُمُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ وَيَقْطَعُ اللَّحْمَ مَعَهُنَّ وَيَرْكَبُ الْفَرَسَ
وَالْبَغْلَ وَالْحِمَارَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ عَبْدَهُ أَوْ غَيْرَهُ وَيَمْسَحُ
وَجْهَ فَرَسِهِ بِطَرَفِ كُمِّهِ ، أَوْ بِطَرَفِ رِدَائِهِ .
وَكَانَ يَتَوَكَّأُ عَلَى الْعَصَا ، وَقَالَ { :
التَّوَكُّؤُ عَلَى الْعَصَا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ } .
وَرَعَى الْغَنَمَ وَقَالَ { : مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا ،
وَقَدْ رَعَاهَا وَعَقَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ
مَا جَاءَتْهُ النُّبُوَّةُ } .
وَكَانَ لَا يَدَعُ الْعَقِيقَةَ عَنْ الْمَوْلُودِ مِنْ
أَهْلِهِ وَيَأْمُرُ بِحَلْقِ رَأْسِهِ يَوْمَ السَّابِعِ وَأَنْ يَتَصَدَّقَ
عَنْهُ بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً وَكَانَ يُحِبُّ الْفَأْلَ وَيَكْرَهُ
الطِّيَرَةَ وَيَقُولُ : مَا مِنَّا إلَّا مَنْ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ
.
{ وَكَانَ إذَا جَاءَهُ مَا يُحِبُّ قَالَ : الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَإِذَا جَاءَهُ مَا يَكْرَهُ قَالَ : الْحَمْدُ
لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ } { ، وَإِذَا رُفِعَ
الطَّعَامُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا
وَسَقَانَا وَآوَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ } وَرُوِيَ فِيهِ { : الْحَمْدُ لِلَّهِ
حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ غَيْرُ مُوَدَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى
عَنْهُ رَبَّنَا } { ، وَإِذَا عَطَسَ
خَفَضَ صَوْتَهُ وَاسْتَتَرَ بِيَدِهِ ، أَوْ بِثَوْبِهِ وَحَمِدَ اللَّهَ } .
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ
جُلُوسِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
.
وَإِذَا جَلَسَ فِي الْمَجْلِسِ احْتَبَى بِيَدَيْهِ .
وَكَانَ يُكْثِرُ الذِّكْرَ وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ
وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ وَيَسْتَغْفِرُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ
مَرَّةٍ وَكَانَ يَنَامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ ، ثُمَّ يَقُومُ مِنْ السَّحَرِ ،
ثُمَّ يُوتِرُ ثُمَّ يَأْتِي فِرَاشَهُ فَإِذَا سَمِعَ الْآذَانَ وَثَبَ قَائِمًا
فَإِنْ كَانَ جُنُبًا أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ وَإِلَّا تَوَضَّأَ وَخَرَجَ إلَى
الصَّلَاةِ .
وَكَانَ يُصَلِّي فِي سُبْحَتِهِ قَائِمًا وَرُبَّمَا
صَلَّى قَاعِدًا .
قَالَتْ عَائِشَةُ لَمْ
يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ أَكْثَرَ صَلَاتِهِ جَالِسًا .
وَكَانَ يُسْمَعُ لِجَوْفِهِ أَزِيزًا كَأَزِيزِ
الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ .
وَكَانَ يَصُومُ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ وَثَلَاثَةَ
أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَعَاشُورَاءَ وَقَلَّمَا يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
وَأَكْثَرُ صِيَامِهِ فِي شَعْبَانَ
.
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَامُ
عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ انْتِظَارًا لِلْوَحْيِ ، وَإِذَا نَامَ نَفَخَ
وَلَا يَغُطُّ غَطِيطًا .
{ وَكَانَ إذَا رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَرُوعُهُ قَالَ
: هُوَ اللَّهُ رَبِّي لَا شَرِيكَ لَهُ } ،
وَإِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ وَضَعَ كَفَّهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ
وَقَالَ { : رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ } .
وَكَانَ يَقُولُ { : اللَّهُمَّ بِاسْمِكَ أَمُوتُ
وَأَحْيَا } ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ قَالَ { :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
} وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَكَلَّمَ يُبَيِّنُ كَلَامَهُ
حَتَّى يَحْفَظَهُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ وَيُعِيدُ الْكَلِمَةَ ثَلَاثًا لِتَعْقِلَ
عَنْهُ .
وَيَخْزُنُ لِسَانَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ
حَاجَةٍ وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ فَصْلًا لَا فُضُولًا وَلَا
تَقْصِيرًا وَكَانَ يَتَمَثَّلُ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّعْرِ وَكَانَ يَتَمَثَّلُ
بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ : وَيَأْتِيَكَ بِالْأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدْ وَكَانَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلُّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمَ وَرُبَّمَا ضَحِكَ مِنْ
شَيْءٍ مُعْجِبٍ حَتَّى تَبْدُوَ نَوَاجِذُهُ مِنْ غَيْرِ قَهْقَهَةٍ .
{ وَمَا عَابَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
طَعَامًا قَطُّ إنْ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِيهِ تَرَكَهُ } وَكَانَ لَا
يَأْكُلُ مُتَّكِئًا وَلَا عَلَى خُوَانٍ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَيُكَافِئُ
عَلَيْهَا وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ وَلَا يَأْنَفُ فِي مَأْكَلٍ يَأْكُلُ مَا
وَجَدَ إنْ وَجَدَ تَمْرًا أَكَلَهُ ، وَإِنْ وَجَدَ خُبْزًا أَكَلَهُ ، وَإِنْ
وَجَدَ لَبَنًا اكْتَفَى بِهِ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا مُرَقَّقًا حَتَّى مَاتَ
صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ { : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا يَشْبَعُ بِخُبْزِ
الشَّعِيرِ وَكَانَ يَأْتِي عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الشَّهْرُ وَالشَّهْرَانِ لَا
تُوقَدُ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِ نَارٌ ، وَكَانَ قُوتُهُمْ التَّمْرَ
وَالْمَاءَ وَكَانَ يَعْصِبُ عَلَى بَطْنِهِ الْحَجَرَ مِنْ الْجُوعِ } .
هَذَا وَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ
الْأَرْضِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا وَاخْتَارَ الْآخِرَةَ وَأَكَلَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُبْزَ بِالْخَلِّ ، وَقَالَ { : نِعْمَ الْإِدَامُ
الْخَلُّ } وَأَكَلَ لَحْمَ الدَّجَاجِ وَكَانَ يُحِبُّ الدُّبَّاءَ وَيَأْكُلُهُ وَيُعْجِبُهُ
الذِّرَاعُ مِنْ الشَّاةِ وَقَالَ : إنَّ أَطْيَبَ اللَّحْمِ لَحْمُ الظَّهْرِ
وَقَالَ { : كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ } وَكَانَ يُعْجِبُهُ الثُّفْلُ يَعْنِي مَا بَقِيَ مِنْ الطَّعَامِ
وَكَانَ يَأْكُلُ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ وَيَلْعَقُهُنَّ وَأَكَلَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُبْزَ الشَّعِيرِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ هَذَا أَدَمُ
هَذَا وَأَكَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِطِّيخَ بِالرُّطَبِ ،
وَالْقِثَّاءَ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرَ بِالزُّبْدِ وَكَانَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْرَبُ قَاعِدًا وَرُبَّمَا شَرِبَ
قَائِمًا وَيَتَنَفَّسُ ثَلَاثًا ، وَإِذَا فَضَلَتْ مِنْهُ فَضْلَةٌ وَأَرَادَ
أَنْ يَسْقِيَهَا بَدَأَ بِمَنْ عَنْ يَمِينِهِ وَشَرِبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَبَنًا ، وَقَالَ { : مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ طَعَامًا فَلْيَقُلْ
اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا خَيْرًا مِنْهُ وَمَنْ سَقَاهُ اللَّهُ
لَبَنًا فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيْسَ
شَيْءٌ يُجْزِي مَكَانَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَيْرُ اللَّبَنِ } زَادَ
الْبَاجِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى
خُلُقٍ عَظِيمٍ كَمَا وَصَفَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - وَكَانَ أَحَلَمَ النَّاسِ
وَأَعْدَلَ وَأَعَفَّ النَّاسِ لَمْ تَمَسَّ يَدُهُ قَطُّ
امْرَأَةً إلَّا بِمِلْكِ رَقَبَتِهَا أَوْ عِصْمَةِ
نِكَاحِهَا ، أَوْ تَكُونُ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ .
أَسْخَى النَّاسِ لَا يَبِيتُ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلَا
دِرْهَمٌ فَإِنْ فَضَلَ وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُعْطِيهِ وَفَاجَأَهُ اللَّيْلُ لَمْ
يَأْوِ إلَى مَنْزِلِهِ حَتَّى يُعْطِيَهُ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ .
لَا يَأْخُذُ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ إلَّا قُوتَ عَامِهِ
فَقَطْ مِنْ أَيْسَرِ مَا يَجِدُ مِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَيَضَعُ سَائِرَ
ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يُسْأَلُ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ ،
ثُمَّ يَعُودُ عَلَى قُوتِ عَامِهِ فَيُؤْثِرُ مِنْهُ حَتَّى يَحْتَاجَ قَبْلَ انْقِضَاءِ
الْعَامِ .
أَشَدَّ النَّاسِ حَيَاءً لَا يُثَبِّتُ بَصَرَهُ فِي
وَجْهِ أَحَدٍ .
يُجِيبُ دَعْوَةَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ وَيَقْبَلُ
الْهَدِيَّةَ ، وَلَوْ أَنَّهَا جَرْعَةُ لَبَنٍ .
وَتَسْتَتْبِعُهُ الْأَمَةُ وَالْمِسْكِينُ
فَيَتْبَعُهُمَا حَيْثُ دَعْوَاهُ
.
لَا يَغْضَبُ لِنَفْسِهِ وَيَغْضَبُ لِرَبِّهِ .
مِنْدِيلُهُ بَاطِنُ قَدَمِهِ .
يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ .
أَشَدُّ النَّاسِ تَوَاضُعًا وَأَسْكَتُهُمْ مِنْ غَيْرِ
كِبْرٍ وَأَبْلَغُهُمْ مِنْ غَيْرِ عِيٍّ .
لَا يَهُولُهُ شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا .
يُجَالِسُ الْفُقَرَاءَ وَيُؤَاكِلُ الْمَسَاكِينَ
وَيُكْرِمُ أَهْلَ الْفَضْلِ فِي أَخْلَاقِهِمْ وَيَتَأَلَّفُ أَهْلَ الشَّرَفِ
بِالْبِرِّ لَهُمْ .
يَصِلُ ذَوِي رَحِمِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْثِرَهُمْ
عَلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُمْ لَا يَجْفُو عَلَى أَحَدٍ .
يَقْبَلُ مَعْذِرَةَ الْمُعْتَذِرِ .
يَخْرُجُ إلَى بَسَاتِينِ أَصْحَابِهِ لَا يُحَقِّرُ مِسْكِينًا
لِفَقْرِهِ وَزَمَانَتِهِ .
وَلَا يَهَابُ مَلِكًا لِمُلْكِهِ .
يَدْعُو هَذَا وَهَذَا إلَى اللَّهِ - تَعَالَى -
دُعَاءً مُسْتَوِيًا .
وَقَدْ جَمَعَ اللَّهُ - تَعَالَى - لَهُ السِّيرَةَ
الْفَاضِلَةَ وَالسِّيَاسَةَ التَّامَّةَ ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَقْرَأُ وَلَا
يَكْتُبُ نَشَأَ فِي بِلَادِ الْجَهْلِ وَالصَّحَارَى فَعَلَّمَهُ اللَّهُ جَمِيعَ
مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَالطُّرُقِ الْحَمِيدَةِ وَأَخْبَارَ الْأَوَّلِينَ ، وَالْآخَرِينَ
وَمَا فِيهِ النَّجَاةُ وَالْفَوْزُ فِي الْآخِرَةِ ، وَالْغِبْطَةُ وَالْخَلَاصُ
فِي الدُّنْيَا .
قَالَ الْبَاجِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ : وَذَكَرَ الْعُتْبِىُّ قَالَ { :
كُنْتُ عِنْدَ حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ
أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْتُ اللَّهَ - تَعَالَى -
يَقُولُ { : وَلَوْ أَنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا
اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } .
وَقَدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَجِئْتُكَ مُسْتَغْفِرًا مِنْ
ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِكَ إلَى رَبِّي ، ثُمَّ أَنْشَأَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ
: يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ فِي الْأَرْضِ أَعْظُمُهُ فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ
الْقَاعُ وَالْأَكَمُ نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ
الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ ثُمَّ انْصَرَفَ .
قَالَ الْعُتْبِيُّ : فَغَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَرَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِي :
يَا عُتْبِيُّ الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ
لَهُ } .
وَمِنْ كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ يَأْخُذْ عَنِّي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ
وَيُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : أَنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا فَقَالَ : اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ
النَّاسِ وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ وَأَحْسِنْ
إلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ
مُسْلِمًا وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ } .
وَمِنْهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : { قُلْتُ
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ
وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ } وَمِنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا
وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ مِنْ أُمَّتِي قِيلَ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَنْ الْغُرَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يُصْلِحُونَ
مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي }
( فَصْلٌ ) : قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى
السَّبْعَةِ الَّذِينَ يَدُورُ عَلَيْهِمْ أَمْرُ الدِّينِ ، وَنَرْجِعُ الْآنَ
إلَى الْقِسْمِ الثَّانِي ، وَهُوَ تَصَرُّفُ النَّاسِ فِي أَسْبَابِهِمْ
وَصَنَائِعِهِمْ وَمَعَايِشِهِمْ ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ
النِّيَّةِ فِيمَا هُوَ يُحَاوِلُهُ ، وَمَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ ، وَهَذَا
النَّوْعُ كَثِيرٌ .
فَنَبْدَأُ أَوَّلًا بِمَا هُوَ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى
، وَالْآكَدُ فَالْآكَدُ .
فَأَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى
الصَّنَائِعِ وَالْحِرَفِ : غُسْلُ الْمَيِّتِ وَحَفْرُ الْقَبْرِ وَغَيْرُهُمَا وَمَا
يُفْعَلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى بَعْضِ مَا
أَحْدَثُوهُ فِيهِ إذْ إنَّهُ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَآكَدِهَا .
لَكِنْ نُقَدِّمُ أَوَّلًا ذِكْرَ حَالِ الْمُحْتَضَرِ
وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْآدَابِ وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
قَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ } وَوَرَدَ أَيْضًا { : مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
دَخَلَ الْجَنَّةَ } ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَقْرَبَهُ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ
وَلَا صَغِيرٌ يَعْبَثُ لَا يَرْجِعُ لِمَا يُؤْمَرُ بِهِ أَوْ يُنْهَى عَنْهُ .
وَيَنْبَغِي أَنَّهُ مَهْمَا أَمْكَنَ أَنْ لَا يَكُونَ
عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ثَوْبُهُ طَاهِرًا وَبَدَنُهُ طَاهِرًا
، وَكَذَلِكَ مَنْ حَضَرَهُ يَكُونُ كَذَلِكَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمُحْتَضَرِ إذْ ذَاكَ
مَا تَيَسَّرَ مِنْ الطِّيبِ إكْرَامًا لِلِقَاءِ الْمَلَائِكَةِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْضُرَهُ إذْ ذَاكَ أَحْسَنُ
أَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ هَدْيًا وَخُلُقًا وَدِينًا وَسَمْتًا وَوَقَارًا
فَيُلَقِّنُهُ كَلِمَتَيْ التَّوْحِيدِ بِرِفْقٍ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ : لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَهْرًا ، ثُمَّ يَسْكُتُ سَاعَةً
، ثُمَّ يُعِيدُهَا ، ثُمَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ يُقْضَى .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ : قُلْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ ، أَوْ يُلِحَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ إذَا
قَالَ لَهُ : قُلْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ قَدْ يَتَوَهَّمُ الْمُحْتَضَرُ إذْ ذَاكَ ، وَقَدْ
يَكُونُ أَخَذَتْهُ غَشْيَةٌ فَيَتَوَهَّمُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَوْتِهِ ،
وَإِذَا أَكْثَرَ عَلَيْهِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ ،
فَإِذَا كَانَ عَلَى مَا وُصِفَ قَبْلُ سَلِمَ مِنْ هَذَا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ وَلِلْحَاضِرِينَ
لَكِنْ بِخَفْضِ صَوْتٍ وَحُسْنِ سَمْتٍ وَوَقَارٍ ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ
يَحْضُرُونَ وَيُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَاءِ الدَّاعِي .
وَهَذَا الْمَوْطِنُ مِنْ الْمَوَاطِنِ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا
قَبُولُ الدُّعَاءِ ، وَقَدْ أَنْكَرَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِرَاءَةَ
عِنْدَهُ بِسُورَةِ يس وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ ، وَأَجَازَهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
وَصْفُهُ مِنْ الْوَقَارِ وَالتُّؤَدَةِ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَا فِي تَوْجِيهِهِ
إلَى الْقِبْلَةِ فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِ
النَّاسِ ، وَكَرِهَ أَنْ يُعْمَلَ ذَلِكَ اسْتِنَانًا .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ ؛
لِأَنَّهَا الْجِهَةُ الَّتِي كَانَ يُعَظِّمُهَا فِي حَيَاتِهِ ، فَإِذَا فَعَلَ
الْمُكَلَّفُ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ حَتَّى
يُعَايِنَ ، وَهُوَ أَنْ يَشْخَصَ بِبَصَرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ
قَبْلَ الْمُعَايَنَةِ قَدْ يُوهِمُهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِمَوْتِهِ أَوْ
لِلْغَشَيَانِ عَلَيْهِ .
وَيَنْبَغِي لِمَنْ يُلَقِّنُهُ أَنْ لَا يَضْجَرَ وَلَا
يَقْلَقَ إنْ طَالَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَوَجَدَ مَنْ يَقُومُ عَنْهُ بِذَلِكَ
حَتَّى يَأْخُذَ رَاحَةً لِنَفْسِهِ فَعَلَ ، وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً
فَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ، وَلَا يُلَقِّنُونَهُ
بِجَمَاعَتِهِمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْرِجُهُ وَيُقْلِقُهُ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْجَرَ أَيْضًا مِنْ عَدَمِ
قَبُولِ الْمُحْتَضَرِ لِمَا يُلْقِيهِ إلَيْهِ ، وَقَدْ يُرَى مِنْ بَعْضِهِمْ
عَدَمُ الْقَبُولِ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ فِتْنَةٍ وَأَمْرٍ
شَدِيدٍ .
أَلَا تَرَى إلَى مَا وَرَدَ أَنَّ الْمُحْتَضَرَ إذَا
اُحْتُضِرَ يَأْتِيهِ شَيْطَانَانِ
: أَحَدُهُمَا عَلَى صِفَةِ أَبِيهِ ، وَالْآخَرُ
عَلَى صِفَةِ أُمِّهِ ، فَيَقُولُ لَهُ الَّذِي هُوَ
عَنْ يَمِينِهِ عَلَى صِفَةِ أَبِيهِ : يَا بُنَيَّ أَنَا قَدْ سَبَقْتُك إلَى
هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَقَدْ عَرَفْتُ الْحَقَّ فِيهِ وَالدِّينَ الْأَقْوَمَ
الَّذِي بِهِ النَّجَاةُ ، وَهُوَ دِينُ النَّصْرَانِيَّةِ فَمُتْ عَلَيْهِ فَهُوَ
الْحَقُّ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنِّهِ ، وَيَقُولُ الَّذِي عَلَى
صِفَةِ أُمِّهِ : يَا بُنَيَّ قَدْ كَانَ بَطْنِي لَك وِعَاءً وَثَدْيِي لَك
سِقَاءً وَحِجْرِي لَك وِطَاءً ، وَأَنَا أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي ،
وَقَدْ سَبَقْتُك إلَى هَذَا الْمَوْطِنِ وَعَرَفْتُ الْحَقَّ مِنْ غَيْرِهِ
فَمُتْ عَلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ أَوْ كَمَا قَالَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ الْأَدْيَانَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ إذْ
ذَاكَ ، وَالْأَمْرُ أَمْرٌ خَطِرٌ عَظِيمٌ فِي الْخَطَرِ فَيَنْبَغِي أَنْ
يُكْثِرُوا لَهُ مِنْ الدُّعَاءِ وَأَنْ يَجْتَنِبُوا اللَّغَطَ وَالْقِيلَ
وَالْقَالَ ، وَقَدْ سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي
أَنَّ بَعْضَ الْمَغَارِبَةِ جَاءُوا إلَى الْبِلَادِ بِنِيَّةِ الْحِجَازِ
فَمَرِضَ بَعْضُهُمْ وَاحْتُضِرَ فَجَلَسَ إلَيْهِ رُفَقَاؤُهُ يُلَقِّنُونَهُ
عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَصْفُهُ فَكَانَ إذَا قَالَ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ : لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مَعَّرَ وَجْهَهُ وَرَدَّهُ إلَى
نَاحِيَةِ الْيَسَارِ ، وَإِذَا قَالَ مَنْ عَلَى يَسَارِهِ ذَلِكَ مَعَّرَ
وَجْهَهُ وَرَدَّهُ إلَى النَّاحِيَةِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ كَذَلِكَ ، ثُمَّ
كَذَلِكَ إلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ النَّوْمُ فَنَامُوا ، وَبَقِيَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ
يُلَقِّنُهُ ، فَإِذَا حَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى نَاحِيَةِ الْيَمِينِ دَار إلَيْهِ ،
وَإِذَا حَوَّلَهُ إلَى جِهَةِ الْيَسَارِ دَارَ إلَيْهِ ، ثُمَّ كَذَلِكَ ، ثُمَّ
كَذَلِكَ إلَى أَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ أَيْضًا كَأَصْحَابِهِ فَبَيْنَمَا
هُوَ فِي النَّوْمِ إذْ رَأَى النَّاسَ يَتَجَارَوْنَ قَالَ : فَقُلْت : فَمَا
بَالُ النَّاسِ ؟ فَقَالُوا : هُمْ مَاشُونَ إلَى فُلَانٍ " اسْمِ
الْمُحْتَضَرِ " يُهَنِّؤُنَهُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَقُلْت : هَذَا
صَاحِبِي فَأَسْرَعْت مَعَهُمْ لِأُهَنِّيَهُ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يُهَنِّيهِ
فَجِئْنَا إلَى بَابٍ كَبِيرٍ فَدَخَلَ النَّاسُ مِنْ
ذَلِكَ الْبَابِ ، فَدَخَلْت مَعَهُمْ ، فَإِذَا بِصَاحِبِي وَاقِفٌ ، وَالنَّاسُ
يُهَنُّونَهُ بِالْمَوْتِ عَلَى الْإِسْلَامِ فَزَاحَمْت مَعَهُمْ حَتَّى
اجْتَمَعْت بِهِ فَهَنَّيْتُهُ كَمَا فَعَلَ غَيْرِي ، فَأَمْسَكَ بِيَدِي وَقَالَ : آهٍ يَا فُلَانُ
مَا هَذَا الْحَالُ الَّذِي فَعَلْتُمْ مَعِي تَرَكْتُمُونِي وَحِيدًا
لِلشَّيَاطِينِ يَتَسَلَّمُونِي ، فَقُلْت لَهُ : كُنَّا نُلَقِّنُك وَأَنْتَ تُمَعِّرُ
وَجْهَك وَتُعْرِضُ عَنَّا يَمِينًا وَيَسَارًا فَقَالَ لِي : مَا عَنْكُمْ كُنْت
أُعْرِضُ ، وَإِنَّمَا كُنْت أُعْرِضُ عَنْ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمَا أَتَيَانِي
عَلَى صِفَةِ أَبِي مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ وَعَلَى صِفَةِ أُمِّي مِنْ جِهَةِ
الْيَسَارِ ؛ فَهَذَا يَدْعُونِي إلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَهَذِهِ
تَدْعُونِي إلَى دِينِ الْيَهُودِيَّةِ ، وَكَانَ كَلَامُكُمْ يُؤْنِسُنِي وَأَسْتَوْثِقُ
بِهِ ، فَلَمَّا نِمْتُمْ تَسَلَّمَانِي لَكِنْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَعَانَنِي ، فَإِنَّنِي لَمَّا أَنْ بَقِيت وَحِيدًا نَزَلَ مَلَكٌ مِنْ
السَّمَاءِ وَبِيَدِهِ حَرْبَةٌ فَهَزَّهَا عَلَيْهِمَا ، وَقَالَ لَهُمَا :
إلَيْكُمَا عَنْ وَلِيِّ اللَّهِ فَوَلَّيَا هَارِبَيْنِ ، ثُمَّ لَقَّنَنِي
الشَّهَادَةَ فَقُلْتهَا فَمُتُّ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَهَؤُلَاءِ يُهَنُّونَنِي بِمَا
أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيَّ ، أَوْ كَمَا قَالَ ، فَاسْتَفَاقَ مِنْ نَوْمِهِ
فَقَامَ إلَى صَاحِبِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ الْمَوْتُ وَلُقِّنَ : لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ قَالَ : لَا .
فَرُئِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ :
كُنَّا نَقُولُ لَك : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَنْتَ تَقُولُ : لَا ، فَقَالَ
: كَانَ إبْلِيسُ تَعَرَّضَ لِي وَقَالَ لِي : سَلِمْت مِنِّي يَا أَحْمَدُ
فَقُلْت لَهُ : مَا دَامَتْ الرُّوحُ فِي الْحُلْقُومِ لَا أَسْلَمُ مِنْك ،
وَكَانَ ذَلِكَ جَوَابًا لَهُ لَا لَكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ
فِي مُوَطَّئِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ
بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكَيْنِ فَقَالَ : اُنْظُرْ
مَاذَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ ، فَإِنْ هُوَ إذَا جَاءُوهُ حَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ رَفَعَا ذَلِكَ إلَى اللَّهِ ، وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ
لِعَبْدِي عَلَيَّ إنْ تَوَفَّيْته أُدْخِلْهُ الْجَنَّةَ ، وَإِنْ أَنَا شَفَيْته
أَنْ أُبْدِلَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ وَأَنْ
أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ
} .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُصِيبُ الْعَبْدَ
نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ
عَنْهُ أَكْثَرُ قَالَ وَقَرَأَ
} { : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } الْآيَةَ .
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُتْرَكَ أَحَدًا يَبْكِي حَوْلَهُ
يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ ، وَمَنْ كَانَ بَاكِيًا مِنْ جَمَاعَتِهِ فَلْيَعْتَزِلْ
عَنْهُ بِمَوْضِعٍ لَا يَسْمَعُهُ الْمُحْتَضَرُ وَلَا بَأْسَ بِالْبُكَاءِ
بِالدُّمُوعِ حِينَئِذٍ ، وَحُسْنُ التَّعَزِّي وَالتَّصَبُّرِ أَوْلَى وَأَجْمَلُ
لِمَنْ اسْتَطَاعَ .
وَلْيَحْذَرْ مِنْ السَّخَطِ وَالضَّجَرِ وَلْيَكُنْ
مُوقِنًا بِالْعِوَضِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ إنَّ مَنْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ
بِيَدِهِ حَلٌّ وَلَا رَبْطٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا إرَادَةٌ إلَّا بِأَمْرٍ مِنْ
الْمَوْلَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَاَلَّذِي أَقَامَهُ فِي ذَلِكَ يُقِيمُهُ
فِي غَيْرِهِ أَوْ لَا يُحْوِجُهُ إلَيْهِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَثِلَ السُّنَّةَ ، وَيَتَعَلَّقَ
بِهَا حِينَ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِهِ ، فَيَقُولُ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ صَاحِبِ
الشَّرِيعَةِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ : { مَا مِنْ
امْرِئٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :
إنَّا لِلَّهِ ، وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُمَّ
أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاعْقُبْنِي خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَبْدَلَهُ خَيْرًا
مِنْهَا } قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : فَلَمَّا أَنْ مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ جَعَلْت
أَقُولُهَا وَقُلْت : وَمَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ ، ثُمَّ قُلْت :
أَمْتَثِلُ السُّنَّةَ فَأَقُولُهَا فَقُلْتهَا ؛==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق