ج1وج2.كتاب الزواجر عن اقتراف الكبائر أحمد بن محمد
بن
حجر المكي الهيتمي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ
لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } ( قُرْآنٌ كَرِيمٌ )
[ خُطْبَةُ الْكِتَابِ ] الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
حَمَى مِنْ أَجْلِ رَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ وَغَيْرَتِهِ الْمُنَزَّهَةِ عَمَّا لَا
يَلِيقُ بِجَلَالِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ عِزَّتِهِ حَمَى حَوْمَةَ الْكَبَائِرِ ، وَالْفَوَاحِشِ
وَالْمَنَاهِي وَالْمَفَاسِدِ وَالشَّهَوَاتِ وَالْمَلَاهِي وَالْأَهْوِيَةِ
وَالْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي بِقَوَاطِعِ النُّصُوصِ الزَّوَاجِرِ ، وَآيَاتِ
كُتُبِهِ الْبُحُورِ الزَّوَاخِرِ ، وَنَوَامِيسِ عَدْلِهِ الْقَوَاصِمِ
الْقَوَاهِرِ ، عَنْ أَنْ يُلِمُّوا بِذَلِكَ الْحِمَى الْوَعِرَةِ سُبُلُهُ
وَآثَارُهُ الْمُضْرَمَةِ جَحِيمُهُ وَنَارُهُ الْمُحْرِقَةُ وُرَّادَهُ
وَزُوَّارَهُ ؛ إذَا لَمْ يَخْشَوْا مِنْ غَضَبِ رَبِّ الْأَرْبَابِ الْمُوجِبِ
لِمُعَالَجَتِهِمْ بِعَظِيمِ الْعِقَابِ وَالْخُلُودِ فِي خِزْيِ الْهَوَانِ
وَالْعَذَابِ ، وَلَمْ يَطْمَعُوا فِي الْمُسَارَعَةِ إلَى سَوَابِغِ رَحْمَتِهِ
وَرِضَاهُ ، وَأَفْضَالِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَطَاعَهُ بِمَا يُحِبُّهُ
وَيَتَمَنَّاهُ ، وَتَوْفِيقِهِ إلَى مَا يُبَلِّغُ إلَى دَارِ كَرَامَتِهِ
وَمَحْيَاهُ ، وَلَا آثَرُوا تَقْدِيمَ مُرَادِهِ ، وَلَا أَعْرَضُوا عَمَّا لَا يُرْضِيهِ
فِي عِبَادِهِ ، وَلَا أَحْرَزُوا قَصَبَ السَّبْقِ فِي دَارَيْ مَعَاشِهِ
وَمَعَادِهِ .
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً أَفُوزُ بِهَا بِالْحِفْظِ مِنْ مَعَاصِيهِ الْقَاطِعَةِ
عَنْ عَلِيِّ جَنَابِهِ ، وَأَتَبَوَّأُ بِالْإِخْلَاصِ فِيهَا غُرَفَ قُرْبِهِ
مَعَ الْكُمَّلِ مِنْ أَحْبَابِهِ
.
وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ ، الَّذِي أَمَرَنَا اللَّهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ
نَوَاهِيهِ ، وَالتَّأَدُّبِ بِآدَابِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، الَّذِينَ صَانَهُمْ اللَّهُ عَنْ أَنْ يُدَنِّسُوا
صَفَاءَ صِدْقِهِمْ بِدَنَسِ الْمُخَالَفَاتِ ، وَأَنْ يُؤْثِرُوا عَلَى رِضَا
اللَّهِ وَرَسُولِهِ شَيْئًا مِنْ قَوَاطِعِ الشَّهَوَاتِ ، وَأَنْ لَا يَتَطَلَّعُوا
إلَّا إلَى
امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي فِي
سَائِرِ الْحَالَاتِ ، صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ بِدَوَامِهِ الْأَقْدَسِ
عَطِرَيْنِ بِعُبُوقِ شَذَاهُ الْأَطْيَبِ الْأَنْفَسِ ، وَكَذَا عَلَى
تَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ الَّذِي كَمَا يَدِينُ كُلُّ
أَحَدٍ بِهِ يُدَانُ ، وَيُقَالُ لِلْعَاصِي هَلْ جَزَاءُ الْعِصْيَانِ إلَّا
الْخِزْيُ وَالْهَوَانُ ، وَلِلْمُحْسِنِ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا
الْإِحْسَانُ ؟ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ كَانَ يَنْقَدِحُ فِي نَفْسِي
أَثْنَاءَ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ مُدَّةً مَدِيدَةً
وَأَزْمِنَةً عَدِيدَةً ، أَنْ أُؤَلِّفَ كِتَابًا فِي بَيَانِ الْكَبَائِرِ وَمَا
يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمًا وَزَجْرًا وَوَعْدًا وَوَعِيدًا ، وَأَنْ أَمُدَّ فِي
تَهْذِيبِ ذَلِكَ وَتَنْقِيحِهِ وَتَوْضِيحِهِ بَاعًا طَوِيلًا مَدِيدًا ، وَأَنْ
أَبْسُطَ فِيهِ بَسْطًا مُفِيدًا ، وَأَنْ أُطْنِبَ فِي أَدِلَّتِهِ إطْنَابًا
حَمِيدًا ، لَكِنِّي كُنْت أُقَدِّمُ رِجْلًا وَأُؤَخِّرُ أُخْرَى لِمَا أَنَّهُ
لَيْسَ عِنْدِي مَوَادُّ ذَلِكَ بِأُمِّ الْقُرَى إلَى أَنْ ظَفِرْت بِكِتَابٍ
مَنْسُوبٍ فِي ذَلِكَ لِإِمَامِ عَصْرِهِ وَأُسْتَاذِ أَهْلِ دَهْرِهِ الْحَافِظِ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيِّ فَلَمْ يَشْفِ الْأُوَامَ ، وَلَا أَغْنَى عَنْ
ذَلِكَ الْمَرَامِ ، لِمَا أَنَّهُ اسْتَرْوَحَ فِيهِ اسْتِرْوَاحًا تُجَلُّ مَرْتَبَتُهُ
عَنْ مِثْلِهِ ، وَأَوْرَدَ فِيهِ أَحَادِيثَ وَحِكَايَاتٍ لَمْ يَعْزُ كُلًّا
مِنْهَا إلَى مَحَلِّهِ مَعَ عَدَمِ إمْعَانِ نَظَرِهِ فِي تَتَبُّعِ كَلَامِ
الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ وَعَدَمِ تَعْوِيلِهِ عَلَى كَلَامِ مَنْ سَبَقَهُ إلَى تِلْكَ
الْمَسَالِكِ ، فَدَعَانِي ذَلِكَ مَعَ مَا تَفَاحَشَ مِنْ ظُهُورِ الْكَبَائِرِ
وَعَدَمِ أَنَفَةِ الْأَكْثَرِ عَنْهَا فِي الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، لِمَا أَنَّ
أَبْنَاءَ الزَّمَانِ وَإِخْوَانَ اللَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ قَدْ غَلَبَتْ
عَلَيْهِمْ دَوَاعِي الْفُسُوقِ وَالْخُلُودِ إلَى أَرْضِ الشَّهَوَاتِ
وَالْعُقُوقِ ، وَالرُّكُونِ إلَى دَارِ الْغُرُورِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ دَارِ
الْخُلُودِ ، وَنِسْيَانِ الْعَوَاقِبِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِالْمَعَايِبِ
حَتَّى كَأَنَّهُمْ أَمِنُوا عِقَابَ
اللَّهِ وَمَكْرَهُ ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ ذَلِكَ
الْإِمْهَالَ إنَّمَا هُوَ لِيَحِقَّ عَلَيْهِمْ قَهْرُهُ ، إلَى الشُّرُوعِ فِي
تَأْلِيفٍ يَتَضَمَّنُ مَا قَصَدْته وَيَتَكَفَّلُ بِبَيَانِ جَمِيعِ مَا
قَدَّمْته ، وَيَكُونُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذَا الْبَابِ زَاجِرًا أَيَّ زَجْرٍ
، وَوَاعِظًا وَآمِرًا أَيَّ وَاعِظٍ وَآمِرٍ ، وَمِنْ ثَمَّ سَمَّيْته : (
الزَّوَاجِرَ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ ) وَأَرْجُو إنْ تَمَّ كَمَا ذَكَرْت
أَنْ يَنْفَعَ اللَّهُ بِهِ الْبَادِيَ وَالْحَاضِرَ ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ سَبَبًا
لِتَطْهِيرِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، فَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وَإِلَيْهِ
أَفْزَعُ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ ، وَمَا تَوْفِيقِي إلَّا بِاَللَّهِ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ، حَسْبِي اللَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ
عَلَيْهِ تَوَكَّلْت وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، مَا شَاءَ اللَّهُ لَا
قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ .
وَرَتَّبْته عَلَى مُقَدِّمَةٍ فِي تَعْرِيفِ
الْكَبِيرَةِ وَمَا وَقَعَ لِلنَّاسِ فِيهِ وَفِي عَدِّهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ
بِذَلِكَ ، وَبَابَيْنِ : الْأَوَّلُ
: فِي الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ وَمَا يَتْبَعُهَا
مِمَّا لَيْسَ لَهُ مُنَاسَبَةٌ بِخُصُوصِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ .
وَالثَّانِي : فِي الْكَبَائِرِ الظَّاهِرَةِ .
وَأُرَتِّبُ هَذِهِ عَلَى تَرْتِيبِ أَبْوَابِ فِقْهِنَا
مَعْشَرَ الشَّافِعِيَّةِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَيْسِيرِ الْكَشْفِ عَلَيْهَا
فِي مَحَالِّهَا ؛ وَأَمَّا تَفَاصِيلُ مَرَاتِبِهَا فُحْشًا وَقُبْحًا فَأُشِيرُ
إلَيْهِ فِي كُلٍّ مِنْهَا بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَهْدِي إلَيْهِ .
وَخَاتِمَةٍ فِي ذِكْرِ فَضَائِلِ التَّوْبَةِ .
وَأَمَّا ذِكْرُ شُرُوطِهَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا فَأَذْكُرُهُ
كَمَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الشَّهَادَاتِ .
ثُمَّ فِي ذِكْرِ النَّارِ وَصِفَاتِهَا وَمَا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّوَاجِرِ وَالْعِقَابِ الْأَلِيمِ .
ثُمَّ فِي ذِكْرِ الْجَنَّةِ وَصِفَاتِهَا وَمَا
اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاخِرِ وَالثَّوَابِ وَالنَّضْرَةِ
وَالنَّعِيمِ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ مِنْ آكِدِ الدَّوَاعِي إلَى اجْتِنَابِ
الْكَبَائِرِ الْمُؤَدِّي ارْتِكَابُ بَعْضِهَا بِحَسَبِ الْمَشِيئَةِ
الْإِلَهِيَّةِ إلَى الدُّخُولِ إلَى ذَلِكَ السَّعِيرِ
، وَمُقَاسَاةِ مَا لَهُ مِنْ الْحَمِيمِ وَالشَّهِيقِ وَالزَّفِيرِ ،
وَاجْتِنَابُهَا إلَى الْفَوْزِ بِذَلِكَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، وَالْحُلُولِ
فِي رِضْوَانِ اللَّهِ الْأَكْبَرِ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .
جَعَلَنَا اللَّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَأَدَامَ عَلَيْنَا
هَوَاطِلَ جُودِهِ وَفَضْلِهِ ، وَخَتَمَ لَنَا بِالْحُسْنَى وَبَلَّغَنَا مِنْ
فَضْلِهِ الْمَقَامَ الْأَرْفَعَ الْأَسْنَى إنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ آمِينَ
.
مُقَدِّمَةٌ [ فِي تَعْرِيفِ الْكَبِيرَةِ وَمَا وَقَعَ لِلنَّاسِ
فِيهِ وَفِي عَدِّهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ ] اعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ
الْأَئِمَّةِ أَنْكَرُوا أَنَّ فِي الذُّنُوبِ صَغِيرَةً وَقَالُوا بَلْ سَائِرُ
الْمَعَاصِي كَبَائِرُ ، مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ
، وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي
" الْإِرْشَادِ " ، وَابْنُ
الْقُشَيْرِيِّ فِي " الْمُرْشِدِ " بَلْ حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ عَنْ
الْأَشَاعِرَةِ وَاخْتَارَهُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ : مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى
عِنْدَنَا كُلُّهَا كَبَائِرُ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا صَغِيرَةٌ
وَكَبِيرَةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا ، ثُمَّ أَوَّلَ
الْآيَةَ الْآتِيَةَ : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ }
بِمَا يَنْبُو عَنْهُ ظَاهِرُهَا
.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ : الذُّنُوبُ عَلَى
ضَرْبَيْنِ صَغَائِرُ وَكَبَائِرُ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ انْتَهَى .
وَرُبَّمَا ادَّعَى فِي مَوْضِعٍ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ
عَلَى مَا ذَكَرَهُ وَاعْتَمَدَ ذَلِكَ أَيْضًا التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ .
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : لَا يُمْكِنُ
أَنْ يُقَالَ فِي مَعْصِيَةٍ : إنَّهَا صَغِيرَةٌ ، إلَّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَصْغُرُ بِاجْتِنَابِ
الْكَبَائِرِ .
وَيُوَافِقُ هَذَا الْقَوْلَ مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، لَكِنَّهُ مُنْقَطِعٌ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْكَبَائِرُ
فَقَالَ : كُلُّ مَا نُهِيَ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ :
كُلُّ شَيْءٍ عُصِيَ اللَّهُ فِيهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ .
وَقَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ الْمَعَاصِيَ تَنْقَسِمُ
إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَعْنَى ،
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي التَّسْمِيَةِ وَالْإِطْلَاقِ لِإِجْمَاعِ الْكُلِّ
عَلَى أَنَّ مِنْ الْمَعَاصِي مَا يَقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَمِنْهَا مَا لَا
يَقْدَحُ فِيهَا ، وَإِنَّمَا الْأَوَّلُونَ فَرُّوا مِنْ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ
فَكَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى صَغِيرَةً نَظَرًا إلَى
عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشِدَّةِ عِقَابِهِ وَإِجْلَالًا لَهُ عَزَّ
وَجَلَّ عَنْ تَسْمِيَةِ مَعْصِيَتِهِ صَغِيرَةً ،
لِأَنَّهَا بِالنَّظَرِ إلَى بَاهِرِ عَظَمَتِهِ كَبِيرَةٌ أَيُّ كَبِيرَةٍ ،
وَلَمْ يَنْظُرْ الْجُمْهُورُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ ، بَلْ قَسَّمُوهَا
إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَرَّهَ إلَيْكُمْ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ } فَجَعَلَهَا رُتَبًا ثَلَاثَةً ،
وَسَمَّى بَعْضَ الْمَعَاصِي فُسُوقًا دُونَ بَعْضٍ وقَوْله تَعَالَى : {
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلَّا اللَّمَمَ } .
وَسَيَأْتِي فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { الْكَبَائِرُ
سَبْعٌ } وَفِي رِوَايَةٍ
" تِسْعٌ " وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
أَيْضًا : { وَمِنْ كَذَا إلَى كَذَا كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مَا
اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ } فَخَصَّ الْكَبَائِرَ بِبَعْضِ الذُّنُوبِ ، وَلَوْ
كَانَتْ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرَ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ مَا
عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ أَحَقُّ بِاسْمِ الْكَبِيرَةِ ، عَلَى أَنَّ قَوْله
تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إلَى كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ
، وَلِذَلِكَ قَالَ الْغَزَالِيُّ : لَا يَلِيقُ إنْكَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبَائِرِ
وَالصَّغَائِرِ ، وَقَدْ عُرِفَا مِنْ مَدَارِكِ الشَّرْعِ .
ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ
وَالصَّغِيرَةِ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْكَبِيرَةِ ، وَلِأَصْحَابِنَا فِي
حَدِّهَا وُجُوهٌ .
أَحَدُهَا : أَنَّهَا مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا عَلَيْهَا
بِخُصُوصِهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ .
هَذِهِ عِبَارَةُ الرَّوْضَةِ وَأَصْلِهَا وَغَيْرِهِمَا
، وَحَذَفَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ تَقْيِيدَ الْوَعِيدِ بِكَوْنِهِ شَدِيدًا ،
وَكَأَنَّهُ نَظَرَ إلَى أَنَّ كُلَّ وَعِيدٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ
إلَّا شَدِيدًا فَهُوَ مِنْ الْوَصْفِ اللَّازِمِ ، وَخَرَجَ بِالْخُصُوصِ مَا انْدَرَجَ
تَحْتَ عُمُومٍ فَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي كَوْنِهِ كَبِيرَةً بِخُصُوصِهِ ، قِيلَ
: وَلِكَوْنِ الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ لَمْ
يَحْتَجْ إلَى التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فِي الْحَدِّ .
انْتَهَى ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ بِنَصِّ كِتَابٍ أَوْ
سُنَّةٍ مُصَرِّحٌ بِذَلِكَ .
ثَانِيهَا : أَنَّهَا كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتْ
الْحَدَّ ، وَبِهِ قَالَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ .
قَالَ الرَّافِعِيُّ : وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ أَكْثَرُ
مَا يُوجَدُ لَهُمْ وَهُمْ إلَى تَرْجِيحِ هَذَا أَمْيَلُ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ
أَوْفَقُ بِمَا ذَكَرُوهُ فِي تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ : أَيْ لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى
كَبَائِرَ كَثِيرَةٍ وَلَا حَدَّ فِيهَا ؛ كَآكِلِ الرِّبَا وَمَالِ الْيَتِيمِ
وَالْعُقُوقِ وَقَطْعِ الرَّحِمِ وَالسِّحْرِ وَالنَّمِيمَةِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ
وَالسِّعَايَةِ وَالْقِوَادَةِ وَالدِّيَاثَةِ وَغَيْرِهَا .
وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَدَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ مِنْ
الْحَدِّ الثَّانِي ، وَإِنْ قَالَ الرَّافِعِيُّ إنَّهُمْ إلَى تَرْجِيحِهِ
أَمْيَلُ ؛ وَأَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ الْحَاوِي الصَّغِيرِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ
الرَّاجِحُ فَجَزَمَ بِهِ ، ثُمَّ رَأَيْت الْأَذْرَعِيَّ صَرَّحَ بِمَا ذَكَرْته
فَقَالَ : عَجِيبٌ قَوْلُ الشَّيْخَيْنِ إنَّ الْأَصْحَابَ إلَى الثَّانِي
أَمْيَلُ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ
.
انْتَهَى
.
لَكِنْ إذَا أُوِّلَ عَلَى أَنَّ مُرَادَ قَائِلِهِ مَا
عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ خَفَّ بُعْدُهُ
وَانْدَفَعَ الْإِيرَادُ عَلَيْهِ بِأَنَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ تَسْمِيَةَ
الْعُقُوقِ وَشَهَادَةِ الزُّورِ كَبِيرَتَيْنِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَدَّ فِيهِمَا
عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا بَعْضُ مَا يَأْتِي مِمَّا عُلِمَ
أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، وَسَيَأْتِي عَنْ ابْنِ
عَبْدِ السَّلَامِ ذِكْرُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْكَبَائِرِ اتِّفَاقًا مَعَ أَنَّهُ
لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ بِذَلِكَ
.
ثَالِثُهَا : أَنَّهَا كُلُّ مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى
تَحْرِيمِهِ ، أَوْ وَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ ؛ وَتَرْكُ فَرِيضَةٍ تَجِبُ
فَوْرًا ، وَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالْيَمِينِ ، زَادَ
الْهَرَوِيُّ فِي إشْرَافِهِ وَشُرَيْحٌ فِي رَوْضَتِهِ : وَكُلُّ قَوْلٍ خَالَفَ
الْإِجْمَاعَ الْعَامَّ .
رَابِعُهَا : قَالَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ : كُلُّ جَرِيمَةٍ
عَلَى مَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ ، وَعِبَارَةُ إرْشَادِهِ
جَرِيرَةٍ وَهِيَ بِمَعْنَاهَا تُؤْذِنُ : أَيْ تُعْلِمُ
بِقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ : أَيْ اعْتِنَاءِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ ، وَرِقَّةُ
الدِّيَانَةِ مُبْطِلَةٌ لِلْعَدَالَةِ ، وَكُلُّ جَرِيمَةٍ أَوْ جَرِيرَةٍ لَا
تُؤْذِنُ بِذَلِكَ بَلْ يَبْقَى حُسْنُ الظَّنِّ ظَاهِرًا بِصَاحِبِهَا لَا
تُحِيطُ الْعَدَالَةَ ، قَالَ : وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُمَيَّزُ بِهِ أَحَدُ الضِّدَّيْنِ
عَنْ الْآخَرِ انْتَهَى .
وَلِهَذَا تَابَعَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيِّ فِي الْمُرْشِدِ
وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ السُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي
نِهَايَتِهِ : الصَّادِرُ مِنْ الشَّخْصِ إنْ دَلَّ عَلَى الِاسْتِهَانَةِ لَا
بِالدِّينِ وَلَكِنْ بِغَلَبَةِ التَّقْوَى وَتَمْرِينِ غَلَبَةِ رَجَاءِ
الْعَفْوِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، وَإِنْ صَدَرَ عَنْ فَلْتَةِ خَاطِرٍ أَوْ لَفْتَةِ
نَاظِرٍ فَصَغِيرَةٌ ؛ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَا بِالدِّينِ : أَيْ لَا بِأَصْلِهِ فَإِنَّ
الِاسْتِهَانَةَ بِأَصْلِهِ كُفْرٌ ، وَمِنْ ثَمَّ عَبَّرَ فِي الْأُولَى
بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ وَلَمْ يَقُلْ بِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ ، وَالْكُفْرُ
وَإِنْ كَانَ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ فَالْمُرَادُ تَفْسِيرُ غَيْرِهِ مِمَّا
يَصْدُرُ مِنْ الْمُسْلِمِ .
قَالَ الْبِرْمَاوِيُّ : وَرَجَّحَ الْمُتَأَخِّرُونَ
مَقَالَةَ الْإِمَامِ الْحَسَنِ : الضَّبْطَ بِهَا وَلَعَلَّهَا وَافِيَةٌ بِمَا
وَرَدَ فِي السُّنَّةِ مِنْ تَفْصِيلِ الْكَبَائِرِ الْآتِي بَيَانُهَا وَمَا
أُلْحِقَ بِهَا قِيَاسًا انْتَهَى ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ مُنَازَعَةَ
الْأَذْرَعِيِّ فِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : وَإِذَا تَأَمَّلْت
بَعْضَ مَا عُدَّ مِنْ الصَّغَائِرِ تَوَقَّفْت فِيمَا أَطْلَقَهُ انْتَهَى ،
وَكَأَنَّهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْ اعْتِرَاضِ ابْنِ أَبِي الدَّمِ ضَابِطَ
النِّهَايَةِ بِأَنَّهُ مَدْخُولٌ ، وَبَيَّنَهُ بِمَا بَسَطَهُ عَنْهُ فِي
الْخَادِمِ .
عَلَى أَنَّك إذَا تَأَمَّلْتَ كَلَامَ الْإِمَامِ الْأَوَّلَ
ظَهَرَ لَك أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ حَدًّا لِلْكَبِيرَةِ خِلَافًا لِمَنْ
فَهِمَ مِنْهُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ يَشْمَلُ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ وَلَيْسَتْ بِكَبَائِرَ
، وَإِنَّمَا ضَبْطُهُ بِهِ مَا يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ مِنْ الْمَعَاصِي
الشَّامِلُ لِصَغَائِرِ
الْخِسَّةِ ، نَعَمْ هَذَا الْحَدُّ أَشْمَلُ مِنْ
التَّعْرِيفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِصِدْقِهِ عَلَى سَائِرِ مُفْرَدَاتِ
الْكَبَائِرِ الْآتِيَةِ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِمَا عَلِمْت أَنَّهُ
يَشْمَلُ صَغَائِرَ الْخِسَّةِ وَنَحْوَهَا كَالْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ ،
وَلِمَا نَقَلَ الْبِرْمَاوِيُّ عَنْ الرَّافِعِيِّ الْأَوْجُهَ السَّابِقَةَ
قَالَ : قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ يَنْبَغِي أَنْ تُجْمَعَ هَذِهِ
التَّعَارِيفُ كُلُّهَا لِيَحْصُلَ اسْتِيعَابُ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصَةِ
وَالْمَقِيسَةِ لِأَنَّ بَعْضَهَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ هَذَا وَبَعْضَهَا لَا
يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْآخَرُ .
قُلْت : لَكِنَّ تَعْرِيفَ الْإِمَامِ لَا يَكَادُ
يَخْرُجُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْهَا لِمَنْ تَأَمَّلَهُ انْتَهَى .
وَقَالَ فِي الْخَادِمِ بَعْدَ إيرَادِهِ مَا مَرَّ عَنْ
الرَّافِعِيِّ : التَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ
اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ الْكَبِيرَةِ ، وَأَنَّ مَجْمُوعَ هَذِهِ
الْأَوْجُهِ يَحْصُلُ بِهِ ضَابِطُ الْكَبِيرَةِ انْتَهَى ، وَلِهَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ
: الْكَبِيرَةُ : مَا أَوْجَبَ الْحَدَّ أَوْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ الْوَعِيدُ .
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : كُلُّ مَا وَجَبَ فِيهِ حَدٌّ
أَوْ وَرَدَ فِيهِ تَوَعُّدٌ بِالنَّارِ أَوْ جَاءَتْ فِيهِ لَعْنَةٌ ،
وَسَيَأْتِي نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ الصَّلَاحِ وَغَيْرِهِ .
وَاعْتُرِضَ قَوْلُ الْإِمَامِ كُلُّ جَرِيمَةٍ لَا
تُؤْذِنُ بِذَلِكَ ا هـ .
بِأَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى غَصْبِ مَا دُونَ نِصَابِ
السَّرِقَةِ أَتَى بِصَغِيرَةٍ وَلَا يَحْسُنُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الظَّنُّ
فَكَانَ الْقِيَاسُ ، أَنْ يَكُونَ كَبِيرَةً ، وَكَذَلِكَ قُبْلَةُ الْأَجْنَبِيَّةِ
صَغِيرَةٌ ، وَلَا يَحْسُنُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ الظَّنُّ بِفَاعِلِهَا .
وَيُجَابُ بِأَنَّ كَوْنَ هَذَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ ،
إنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ جَمْعٍ كَمَا يَأْتِي فِيهِمَا ، وَأَمَّا عَلَى
مُقَابِلِهِ الْآتِي أَنَّهُمَا كَبِيرَتَانِ فَلَا اعْتِرَاضَ ، وَإِنَّمَا
يَحْسُنُ أَنْ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا صَغِيرَةٌ وَأَنَّهَا مِمَّا
يَسُوءُ ظَنُّ أَكْثَرِ النَّاسِ بِفَاعِلِهَا .
خَامِسُهَا : أَنَّهَا مَا أَوْجَبَ الْحَدَّ أَوْ
تَوَجَّهَ إلَيْهِ
الْوَعِيدُ ، وَالصَّغِيرَةُ مَا قَلَّ فِيهِ الْإِثْمُ
ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي حَاوِيهِ
.
سَادِسُهَا :
أَنَّهَا كُلُّ مُحَرَّمٍ لِعَيْنِهِ مَنْهِيٍّ عَنْهُ
لِمَعْنًى فِي نَفْسِهِ ، فَإِنْ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهًا
مِنْ التَّحْرِيمِ كَانَ فَاحِشَةً ؛ فَالزِّنَا كَبِيرَةٌ ، وَبِحَلِيلَةِ
الْجَارِ فَاحِشَةٌ ، وَالصَّغِيرَةُ تَعَاطِي مَا تَنْقُصُ رُتْبَتُهُ عَنْ
رُتْبَةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ تَعَاطِيهِ عَلَى وَجْهٍ دُونَ الْمَنْصُوصِ
عَلَيْهِ ، فَإِنْ تَعَاطَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَجْمَعُ وَجْهَيْنِ أَوْ وُجُوهًا
مِنْ التَّحْرِيمِ كَانَ كَبِيرَةً ، فَالْقُبْلَةُ وَاللَّمْسُ وَالْمُفَاخَذَةُ
صَغِيرَةٌ وَمَعَ حَلِيلَةِ الْجَارِ كَبِيرَةٌ ، كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ
الرِّفْعَةِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْقَاضِي حُسَيْنٍ عَنْ الْحَلِيمِيِّ ، وَسَيَأْتِي
بَسْطُ عِبَارَتِهِ فِي مَحَلِّهَا وَأَنَّهُ اخْتَارَ أَنَّهُ مَا مِنْ ذَنْبٍ
إلَّا وَفِيهِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَقَدْ تَنْقَلِبُ الصَّغِيرَةُ كَبِيرَةً بِقَرِينَةٍ
تُضَمُّ إلَيْهَا ، وَتَنْقَلِبُ الْكَبِيرَةُ فَاحِشَةً بِقَرِينَةٍ تُضَمُّ
إلَيْهَا إلَّا الْكُفْرَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ أَفْحَشُ الْكَبَائِرِ
وَلَيْسَ مِنْ نَوْعِهِ صَغِيرَةٌ ، ثُمَّ مَثَّلَ لِذَلِكَ بِأَمْثِلَةٍ تَأْتِي
فِي مَحَالِّهَا مَعَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا .
سَابِعُهَا : أَنَّهَا كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ الْكِتَابُ
عَلَى تَحْرِيمِهِ : أَيْ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ : أَكْلُ لَحْمِ
الْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِهِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ
الزَّحْفِ ، وَرُدَّ بِمَنْعِ الْحَصْرِ فِي الْأَرْبَعَةِ .
ثَامِنُهَا : أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهَا بِحَصْرِهَا يَعْرِفُهُ
الْعِبَادُ وَاعْتَمَدَهُ الْوَاحِدِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي بَسِيطِهِ فَقَالَ
: الصَّحِيحُ أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ يَعْرِفُهَا الْعِبَادُ بِهِ
، وَإِلَّا لَاقْتَحَمَ النَّاسُ الصَّغَائِرَ وَاسْتَبَاحُوهَا ، وَلَكِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْفَى ذَلِكَ عَنْ الْعِبَادِ لِيَجْتَهِدُوا فِي
اجْتِنَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ رَجَاءَ أَنْ تُجْتَنَبَ الْكَبَائِرُ ،
وَنَظَائِرُهُ إخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَلَيْلَةِ
الْقَدْرِ وَسَاعَةِ الْإِجَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
انْتَهَى ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ
.
بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّ لَهَا حَدًّا مَعْلُومًا كَمَا
مَرَّ ؛ ثُمَّ رَأَيْت بَعْضَهُمْ نَقَلَ عَنْهُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ ، لَكِنْ
عَلَى وَجْهٍ يَخِفُّ بِهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَيْهِ فَقَالَ : قَالَ الْوَاحِدِيُّ الْمُفَسِّرُ
الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : الْكَبَائِرُ كُلُّهَا لَا تُعْرَفُ : أَيْ لَا
تَنْحَصِرُ ، قَالُوا : لِأَنَّهُ وَرَدَ وَصْفُ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَعَاصِي
بِأَنَّهَا كَبَائِرُ ، وَأَنْوَاعٍ أَنَّهَا صَغَائِرُ ، وَأَنْوَاعٍ لَمْ
تُوصَفْ بِشَيْءٍ مِنْهُمَا ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ : إنَّهَا مَعْرُوفَةٌ .
وَاخْتَلَفُوا هَلْ تُعْرَفُ بِحَدٍّ وَضَابِطٍ أَوْ
بِالْعَدِّ ؟ انْتَهَى .
وَوَرَاءَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْ الْأَصْحَابِ عِبَارَاتٌ
لِلْمُتَأَخِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ : مِنْهَا : قَوْلُ الْحَسَنِ وَابْنِ جُبَيْرٍ
وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ : كُلُّ ذَنْبٍ أُوعِدَ فَاعِلُهُ بِالنَّارِ .
وَمِنْهَا :
قَوْلُ الْغَزَالِيِّ : كُلُّ مَعْصِيَةٍ يُقْدِمُ
الْمَرْءُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِشْعَارِ خَوْفٍ وَوِجْدَانِ نَدَمٍ
تَهَاوُنًا وَاسْتِجْرَاءً عَلَيْهَا فَهِيَ كَبِيرَةٌ ، وَمَا يُحْمَلُ عَلَى فَلَتَاتِ
النَّفْسِ وَلَا يَنْفَكُّ عَنْ نَدَمٍ يَمْتَزِجُ بِهَا وَيُنَغِّصُ التَّلَذُّذَ
بِهَا فَلَيْسَ بِكَبِيرَةٍ .
وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : وَلَا مَطْمَعَ فِي
مَعْرِفَةِ الْكَبَائِرِ مَعَ الْحَصْرِ ، إذْ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ إلَّا
بِالسَّمْعِ وَلَمْ يَرِدْ .
وَاعْتَرَضَ الْعَلَائِيُّ مَا قَالَهُ أَوَّلًا
بِأَنَّهُ بَسْطٌ لِعِبَارَةِ الْإِمَامِ وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدًّا إنْ كَانَ
ضَابِطًا لِلْكَبِيرَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ ، إذْ يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْ ارْتَكَبَ
نَحْوَ الزِّنَا نَادِمًا عَلَيْهِ ، فَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لَا تَنْخَرِمُ بِهِ عَدَالَتُهُ
وَلَا يُسَمَّى كَبِيرَةً حِينَئِذٍ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ اتِّفَاقًا وَإِنْ كَانَ
ضَابِطًا لِمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَهُوَ قَرِيبٌ انْتَهَى .
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ : كَأَنَّ الْعَلَائِيَّ
فَهِمَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَذْكُرُ حَدًّا يُدْخِلُ الْمَنْصُوصَ وَهَذَا مَمْنُوعٌ
: أَيْ فَضَابِطُ الْغَزَالِيِّ لِمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَهُوَ
قَرِيبٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعَلَائِيُّ نَفْسُهُ أَنَّ
الْحُدُودَ إنَّمَا هِيَ لِمَا عَدَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ .
وَمِنْهَا :
قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ : الْأَوْلَى ضَبْطُ
الْكَبِيرَةِ بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا بِدِينِهِ إشْعَارَ
أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا .
قَالَ : وَإِذَا أَرَدْت الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرَةِ
وَالْكَبِيرَةِ فَاعْرِضْ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ عَلَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَقَلِّ الْكَبَائِرِ فَهِيَ
صَغِيرَةٌ وَإِلَّا فَكَبِيرَةٌ انْتَهَى ، وَاعْتَرَضَهُ الْأَذْرَعِيُّ فَقَالَ
: وَكَيْفَ السَّبِيلُ إلَى الْإِحَاطَةِ بِالْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا
حَتَّى يُنْظَرَ فِي أَقَلِّهَا مَفْسَدَةً وَنَقِيسَ بِهَا مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ الْوَاقِعِ
هَذَا مُتَعَذَّرٌ انْتَهَى .
قَالَ الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ عَقِبَ نَقْلِهِ
اعْتِرَاضَ الْأَذْرَعِيِّ هَذَا : وَلَا تَعَذُّرَ فِي ذَلِكَ إذَا جُمِعَ مَا
صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ انْتَهَى .
وَالْحَقُّ تَعَذُّرُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَإِنْ فُرِضَ إمْكَانُ
جَمْعِ مَا صَحَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْإِحَاطَةَ
بِمَفَاسِدِهَا كُلِّهَا حَتَّى نَعْلَمَ أَقَلَّهَا مَفْسَدَةً فِي غَايَةِ
النُّدُورِ بَلْ التَّعَذُّرِ وَالِاسْتِحَالَةِ ، إذْ لَا يَطَّلِعُ عَلَى ذَلِكَ
إلَّا الشَّارِعُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِمَّا هُوَ مُنْتَقَدٌ أَيْضًا قَوْلُهُ - أَعْنِي
ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ - : مَنْ شَتَمَ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ أَوْ اسْتَهَانَ بِرَسُولِ
مِنْ رُسُلِهِ أَوْ ضَمَّخَ الْكَعْبَةَ أَوْ الْمُصْحَفَ بِالْقَذَرِ كَانَ
فِعْلُهُ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، مَعَ أَنَّ الشَّارِعَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَوَجْهُ
رَدِّهِ أَنَّ هَذَا مُنْدَرِجٌ تَحْتَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى الَّذِي
هُوَ أَوَّلُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ الْكَبَائِرِ إذْ الْمُرَادُ مِنْهُ
مُطْلَقُ الْكُفْرِ إجْمَاعًا لَا خُصُوصُ الشِّرْكِ .
قَالَ الشَّمْسُ الْبِرْمَاوِيُّ : وَهَذَا كُلُّهُ
بِنَاءٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْكَبِيرَةِ بِالْأَعَمِّ مِنْ الْكُفْرِ وَغَيْرِهِ لَا
عَلَى الْمَعْنَى
الَّذِي سَبَقَ مِنْ مُقْتَضَى كَلَامِ إمَامِ
الْحَرَمَيْنِ انْتَهَى ، وَقَدْ قَدَّمْت أَنَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ
وَغَيْرِهِ أَنَّ الْحُدُودَ السَّابِقَةَ إنَّمَا هِيَ لِمَا عَدَا الْكُفْرَ
وَإِنْ صَحَّ أَنْ يُسَمَّى كَبِيرَةً بَلْ هُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي
الْحَدِيثِ .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بَعْدَ مَا ذُكِرَ
: وَكَذَلِكَ مَنْ أَمْسَكَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً لِمَنْ يَزْنِي بِهَا أَوْ
أَمْسَكَ مُسْلِمًا لِمَنْ يَقْتُلُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ أَعْظَمُ
مِنْ مَفْسَدَةِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ الْكُفَّارَ
عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَسْتَأْصِلُونَهُمْ بِدَلَالَتِهِ
وَيَسْبُونَ حَرِيمَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ وَيَغْنَمُونَ أَمْوَالَهُمْ فَإِنَّ
نِسْبَةَ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَعْظَمُ مِنْ التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ
بِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَكَذَا لَوْ كَذَبَ عَلَى إنْسَانٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ
يُقْتَلُ بِسَبَبِ كَذِبِهِ وَأَطَالَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنْ قَالَ : وَقَدْ ضَبَطَ
بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْكَبَائِرَ بِأَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ
حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ فَتَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ أَيْ طُرُقِهَا
كَبِيرَةٌ لِاقْتِرَانِ اللَّعْنِ بِهِ ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ ذَنْبٍ يُعْلَمُ
أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ الْوَعِيدُ أَوْ اللَّعْنُ أَوْ
الْحَدُّ أَوْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ مَفْسَدَتِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ انْتَهَى .
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ : وَعَلَى هَذَا فَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا
تُؤْخَذَ الْمَفْسَدَةُ مُجَرَّدَةً عَمَّا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ أَمْرٍ آخَرَ
فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْغَلَطُ فِي ذَلِكَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّابِقَ إلَى الذِّهْنِ
فِي مَفْسَدَةِ الْخَمْرِ إنَّمَا هُوَ السُّكْرُ وَتَشْوِيشُ الْعَقْلِ فَإِنْ
أَخَذْنَا بِمُجَرَّدِهِ لَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ شُرْبُ الْقَطْرَةِ الْوَاحِدَةِ
مِنْهُ كَبِيرَةً لِخُلُوِّهَا عَنْ الْمَفْسَدَةِ الْمَذْكُورَةِ ، لَكِنَّهَا
كَبِيرَةٌ لِمَفْسَدَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّجَرُّؤ عَلَى شُرْبِ الْكَثِيرِ الْمُوقِعِ
فِي الْمَفْسَدَةِ فَهَذَا الِاقْتِرَانُ يُصَيِّرُهُ كَبِيرَةً انْتَهَى .
قَالَ
الْجَلَالُ الْبُلْقِينِيُّ : وَمَا ذَكَرَهُ فِي
الْقَطْرَةِ مِنْ الْخَمْرِ قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَبْلَهُ ، وَقَالَ
فِي قَوَاعِدِهِ أَيْضًا بَعْدَ حِكَايَتِهِ مَا سَبَقَ : لَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ
مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَابِطِ ذَلِكَ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ ضَابِطًا يَسْلَمُ
مِنْ الِاعْتِرَاضِ أَوْ ضَابِطًا جَامِعًا مَانِعًا انْتَهَى .
وَمِنْهَا
: قَوْلُ ابْنِ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ : قَالَ
الْجَلَال الْبُلْقِينِيُّ وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ : الْكَبِيرَةُ كُلُّ ذَنْبٍ
عَظُمَ عِظَمًا يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَبِيرَةِ
وَيُوصَفَ بِكَوْنِهِ عَظِيمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَلَهَا أَمَارَاتٌ : مِنْهَا : إيجَابُ الْحَدِّ ، وَمِنْهَا :
الْإِيعَادُ عَلَيْهِ بِالْعَذَابِ بِالنَّارِ وَنَحْوِهَا فِي الْكِتَابِ أَوْ
السُّنَّةِ ؛ وَمِنْهَا : وَصْفُ فَاعِلِهَا بِالْفِسْقِ ؛ وَمِنْهَا : اللَّعْنُ
انْتَهَى .
وَلَخَّصَهُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
الْبَارِزِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الَّذِي عَلَى الْحَاوِي فَقَالَ : وَالتَّحْقِيقُ
أَنَّ الْكَبِيرَةَ كُلُّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ لَعْنٌ بِنَصِّ كِتَابٍ
أَوْ سُنَّةٍ أَوْ عُلِمَ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ
أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ ، أَوْ أَشْعَرَ
بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهِ فِي دِينِهِ إشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ كَمَا لَوْ قَتَلَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ مَعْصُومًا
فَظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِدَمِهِ ، أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ظَانًّا أَنَّهُ
زَانٍ بِهَا فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ انْتَهَى ؛ وَمَا ذَكَرَهُ
آخِرًا سَبَقَهُ إلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوَاعِدِهِ ، وَمَا
ذَكَرَهُ أَوَّلًا يُؤَيِّدُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ : الْكَبَائِرُ كُلُّ ذَنْبٍ
خَتَمَهُ اللَّهُ بِنَارٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ لَعْنَةٍ أَوْ عَذَابٍ ، رَوَاهُ
عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ مِنْ الْحُدُودِ
إنَّمَا قَصَدُوا بِهِ التَّقْرِيبَ فَقَطْ ، وَإِلَّا فَهِيَ لَيْسَتْ بِحُدُودٍ جَامِعَةٍ
وَكَيْفَ يُمْكِنُ ضَبْطُ مَا لَا طَمَعَ فِي ضَبْطِهِ .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى تَعْرِيفِهَا بِالْعَدِّ مِنْ
غَيْرِ ضَبْطِهَا بِحَدٍّ ؛ فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَجَمَاعَةٍ أَنَّهَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ
النِّسَاءِ إلَى قَوْله تَعَالَى : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ } وَقِيلَ هِيَ سَبْعٌ .
وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ { اجْتَنِبُوا
السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ : الشِّرْكَ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرَ ، وَقَتْلَ
النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ
، وَأَكْلَ الرِّبَا ، وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ }
، وَفِي
رِوَايَةٍ لَهُمَا { الْكَبَائِرُ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ،
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ } زَادَ الْبُخَارِيُّ : {
وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } .
وَمُسْلِمٌ بَدَلَهَا : { وَقَوْلُ الزُّورِ } .
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا ذَكَرَهُ كَذَلِكَ قَصْدًا لِبَيَانِ
الْمُحْتَاجِ مِنْهَا وَقْتَ ذِكْرِهِ لَا لِحَصْرِ الْكَبَائِرِ فِي ذَلِكَ ،
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْكَبَائِرَ سَبْعٌ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ
وَعَطَاءٌ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَقِيلَ خَمْسَ عَشْرَةَ ، وَقِيلَ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ ، وَقِيلَ أَرْبَعٌ ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَنْهُ أَنَّهَا
ثَلَاثٌ ، وَعَنْهُ أَنَّهَا عَشَرَةٌ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا رَوَاهُ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ هِيَ إلَى السَّبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا
إلَى السَّبْعِ ، وَقَالَ أَكْبَرُ تَلَامِذَتِهِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا : هِيَ إلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ يَعْنِي بِاعْتِبَارِ
أَصْنَافِ أَنْوَاعِهَا ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ
سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ : أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ :
كَمْ الْكَبَائِرُ سَبْعٌ هِيَ ؟ قَالَ : هِيَ إلَى السَّبْعِمِائَةِ أَقْرَبُ مِنْهَا
إلَى سَبْعٍ غَيْرَ أَنَّهُ لَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ : أَيْ
التَّوْبَةِ بِشُرُوطِهَا ، وَلَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ .
قَالَ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا : وَقَدْ
ذَكَرْنَا عَدَدَهَا فِي تَأْلِيفٍ لَنَا بِاجْتِهَادِنَا
، فَزَادَتْ
عَلَى أَرْبَعِينَ كَبِيرَةً فَيُؤَوَّلُ إلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا .
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الْعَلَائِيُّ فِي
قَوَاعِدِهِ : إنَّهُ صَنَّفَ جُزْءًا جَمَعَ فِيهِ مَا نَصَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَهُوَ : الشِّرْكُ ،
وَالْقَتْلُ ، وَالزِّنَا وَأَفْحَشُهُ بِحَلِيلَةِ الْجَارِ ، وَالْفِرَارُ مِنْ
الزَّحْفِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفُ
الْمُحْصَنَاتِ ، وَالسِّحْرُ ، وَالِاسْتِطَالَةُ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ
بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ،
وَالنَّمِيمَةُ ، وَالسَّرِقَةُ ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ ، وَاسْتِحْلَالُ بَيْتِ
اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ ، وَتَرْكُ السُّنَّةِ وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ
الْهِجْرَةِ ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ
، وَمَنْعُ ابْنِ السَّبِيلِ مِنْ فَضْلِ الْمَاءِ ، وَعَدَمُ التَّنَزُّهِ مِنْ
الْبَوْلِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَالتَّسَبُّبُ إلَى شَتْمِهِمَا ،
وَالْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ ، فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ وَالْعِشْرُونَ هِيَ
مَجْمُوعُ مَا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ .
قُلْت
: وَيُزَادُ عَلَيْهِ الْغُلُولُ مِنْ الْغَنِيمَةِ ،
وَمَنْعُ الْفَحْلِ ؛ بَلْ جَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
حَدِيثِ الْبَزَّارِ الْآتِي مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَالْإِلْحَادُ
بِالْبَيْتِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبَيْهَقِيّ وَهَذَا غَيْرُ اسْتِحْلَالِهِ كَمَا
هُوَ ظَاهِرٌ لِصِدْقِهِ بِفِعْلِ مَعْصِيَةٍ فِيهِ وَلَوْ سِرًّا ، ثُمَّ رَأَيْت
الْجَلَالَ الْبُلْقِينِيَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ مَا مَرَّ عَنْهُ : وَقَدْ
بَقِيَ عَلَيْهِ مِمَّا جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ أَشْيَاءُ وَهِيَ
مَنْعُ الْفَحْلِ وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ ، وَطَلَبُ عَمَلِهِ ، وَسُوءُ الظَّنِّ
بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَالْغُلُولُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ صَلَاتَيْنِ
بِغَيْرِ عُذْرٍ لَكِنَّ حَدِيثَهُ ضَعِيفٌ ، وَبِذَلِكَ يَبْلُغُ الْمَنْصُوصُ
عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ كَبِيرَةً ، لَكِنَّ مَنْعَ الْفَحْلِ إسْنَادُ حَدِيثِهِ
ضَعِيفٌ ، وَلَا يَبْلُغُ ضَرَرُهُ
ضَرَرَ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ
لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ فِي الْحَدِيثِ ، وَيُقَالُ عَلَيْهِ : السَّرِقَةُ لَمْ يَجِئْ فِي
الْأَحَادِيثِ النَّصُّ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ إنَّمَا جَاءَ فِيهَا الْغُلُولُ
وَهُوَ السَّرِقَةُ مِنْ مَالِ الْغَنِيمَةِ ، نَعَمْ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ
: { وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ } ، وَفِي
رِوَايَةِ النَّسَائِيّ : { فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ
مِنْ عُنُقِهِ ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ } وَقَوْلُهُ : وَنَكْثُ الصَّفْقَةِ لَمْ
يَجِئْ فِي الْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ
وَإِنَّمَا فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، وَقَوْلُهُ : وَتَرْكُ السُّنَّةِ لَمْ يَأْتِ
أَيْضًا فِي الْأَحَادِيثِ النَّصُّ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَإِنَّمَا رَوَى الْحَاكِمُ
فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ { أَنَّ نَحْوَ
الْمَكْتُوبَةِ وَالْجُمُعَةِ وَرَمَضَانَ كَفَّارَاتٌ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ :
الْإِشْرَاكِ ، وَنَكْثِ الصَّفْقَةِ ، وَتَرْكِ السُّنَّةِ } وَفَسَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَكْثَ الصَّفْقَةِ بِأَنْ تُبَايِعَ رَجُلًا بِيَمِينِك ثُمَّ
تُخَالِفَ إلَيْهِ فَتُقَاتِلَهُ بِسَيْفِك ، وَتَرْكَ السُّنَّةِ بِالْخُرُوجِ
مِنْ الْجَمَاعَةِ ، وَيُعَضِّدُهُ خَبَرُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : { مَنْ
فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ
} وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ اتِّبَاعُ الْبِدَعِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا .
وَلَا بَأْسَ بِالْإِشَارَةِ إلَى تِلْكَ الْأَحَادِيثِ وَهِيَ
نَوْعَانِ : مَا صُرِّحَ فِيهِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَوْ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ
أَوْ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ أَوْ مُوبِقٌ أَوْ مُهْلِكٌ ، وَمَا ذُكِرَ فِيهِ نَحْوُ
لَعْنٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ وَعِيدٍ شَدِيدٍ فَمِنْ الْأَوَّلِ خَبَرُ الشَّيْخَيْنِ
: { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا : الْإِشْرَاكُ
بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَوْلُ الزُّورِ
وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ
} ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا جَعَلَ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ
الْكَبَائِرِ وَضَمَّ الْقَتْلَ إلَيْهِمَا ، وَجَعَلَ
قَوْلَ الزُّورِ وَشَهَادَتَهُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ .
وَرَوَيَا أَيْضًا { أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ :
أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك ، قُلْتُ : إنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ ،
ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك ،
قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك } .
وَرَوَيَا أَيْضًا : { مِنْ الْكَبَائِرِ شَتْمُ
الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ ، قِيلَ
: وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ :
نَعَمْ ، يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ وَأُمَّهُ ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ
وَأُمَّهُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ أَنَّ
هَذِهِ الْأَخِيرَةَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ أَيْضًا
عَدَّ الشِّرْكَ ، وَالْعُقُوقَ ، وَالْقَتْلَ ، وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ مِنْ
الْكَبَائِرِ ، وَعَدَّ فِي أُخْرَى الشِّرْكَ ، وَالْقَتْلَ إلَّا بِالْحَقِّ ،
وَأَكْلَ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَالرِّبَا ، وَالتَّوَلِّيَ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ مُوبِقَاتٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ
صَحِيحَةٍ عَدَّ هَذِهِ السَّبْعَ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ
وَاسْتِحْلَالَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ كَبَائِرَ ، وَسَيَأْتِي رِوَايَاتٌ أَنَّ
عَدَمَ التَّنَزُّهِ مِنْ الْبَوْلِ كَبِيرَةٌ ، وَفِي حَدِيثٍ لِلْبَزَّارِ فِيهِ
مَنْ ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ وَغَيْرُهُ وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ
زِيَادَةُ : وَالِانْتِقَالُ إلَى الْأَعْرَابِ بَعْدَ هِجْرَتِهِ ، وَفِي أُخْرَى فِيهَا
ابْنُ لَهِيعَةَ " وَالتَّعَرُّبُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ " ، وَفِي أُخْرَى
فِيهَا ضَعِيفٌ " وَالرُّجُوعُ إلَى الْأَعْرَابِيَّةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
" وَفُسِّرَ بِأَنْ يُهَاجِرَ الرَّجُلُ حَتَّى إذَا وَقَعَ سَهْمُهُ فِي
الْفَيْءِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْجِهَادُ خَلَعَ ذَلِكَ مِنْ عُنُقِهِ فَرَجَعَ
أَعْرَابِيًّا كَمَا كَانَ ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ بَعْضُ السَّلَفِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى } وَيُوَافِقُهُ نَقْلُ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ
أَنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُرْتَدَّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ
هِجْرَتِهِ
.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ فِيهَا رَجُلٌ
مُنْكَرٌ { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُحْتَبِيًا فَحَلَّ حُبْوَتَهُ وَأَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِطَرَفِ لِسَانِهِ فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ } .
وَفِي أُخْرَى فِيهَا مُدَلِّسٌ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ
بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاَللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إثْمًا عَظِيمًا } وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، ثُمَّ
قَرَأَ : { أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك إلَيَّ الْمَصِيرُ } وَكَانَ
مُتَّكِئًا فَاحْتَفَزَ وَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ : الشِّرْكُ
بِاَللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ
صَبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ
نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعِيفٌ { أَكْبَرُ
الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْعُ فَضْلِ
الْمَاءِ وَمَنْعُ الْفَحْلِ } .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ
أَيْضًا : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْفِرَارُ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَرَمْيُ
الْمُحْصَنَاتِ ، وَتَعَلُّمُ السِّحْرِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَأَكْلُ مَالِ
الْيَتِيمِ } وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
{ هِيَ - أَيْ الْخَمْرُ - أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ
وَأَمُّ الْفَوَاحِشِ ، مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ تَرَكَ الصَّلَاةَ وَوَقَعَ عَلَى
أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ
} .
وَرُوِيَ أَيْضًا : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ :
اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ }
وَيُوَافِقُهُ رِوَايَةُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد : { مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةُ
فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ } وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ : {
مَنْ جَمَعَ بَيْنَ
صَلَاتَيْنِ بِغَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَتَى بَابًا مِنْ
أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ } .
وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَزَّارُ : { أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا الْكَبَائِرُ ؟ فَقَالَ : الشِّرْكُ
بِاَللَّهِ ، وَالْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ
، وَهَذَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ
} .
قِيلَ : وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدِيثُ
مَوْقُوفًا ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ { الْإِضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنْ
الْكَبَائِرِ } .
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : الصَّحِيحُ أَنَّهُ
مَوْقُوفٌ .
وَمِنْ الثَّانِي خَبَرُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ : {
ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
قَالَ أَبُو ذَرٍّ : فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقُلْت : خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ
هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْمُسْبِلُ إزَارَهُ : - أَيْ خُيَلَاءَ كَمَا فِي
رِوَايَاتٍ أُخَرَ - وَالْمَنَّانُ : الَّذِي لَا يُعْطِي شَيْئًا إلَّا مِنَّةً ،
وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ تَفْسِيرُهُمْ { بِشَيْخٍ زَانٍ ،
وَمَلِكٍ كَذَّابٍ ، وَعَائِلٍ مُسْتَكْبِرٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ : { بِرَجُلٍ عَلَى
فَضْلِ مَاءٍ بِفَلَاةٍ يَمْنَعُهُ ابْنَ السَّبِيلِ ، وَرَجُلٍ بَايَعَ رَجُلًا
سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ لَأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا
فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَرَجُلٍ بَايَعَ إمَامًا لَا
يُبَايِعُهُ إلَّا لِلدُّنْيَا فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ
وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ
} .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ { إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى عِبَادًا
لَا يُكَلِّمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَا يَنْظُرُ
إلَيْهِمْ قِيلَ وَمَنْ أُولَئِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مُتَبَرِّئٌ مِنْ
وَالِدَيْهِ رَاغِبٌ عَنْهُمَا أَوْ مُتَبَرِّئٌ مِنْ وَلَدِهِ ، وَرَجُلٌ
أَنْعَمَ عَلَيْهِ قَوْمٌ فَكَفَرَ نِعْمَتَهُمْ وَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ } : أَيْ
أَنْعَمُوا عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ
.
لِخَبَرِ مُسْلِمٍ { مَنْ تَوَلَّى قَوْمًا بِغَيْرِ
إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ
اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا
يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَدْلًا وَلَا صَرْفًا } .
وَرَوَى الشَّيْخَانِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
قَتَّاتٌ } أَيْ نَمَّامٌ .
وَأَحْمَدُ { ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ :
مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَقَاطِعُ رَحِمٍ ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ { ثَلَاثٌ أَنَا خَصْمُهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا
فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ
وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
عَاقٌّ ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ ، وَلَا نَمَّامٌ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا مُكَذِّبٌ بِقَدَرٍ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ ضَعْفٌ { لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ صَاحِبُ خَمْسٍ : مُدْمِنُ خَمْرٍ وَلَا مُؤْمِنٌ بِسِحْرٍ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ
وَلَا كَاهِنٌ وَلَا مَنَّانٌ }
.
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ { لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ
لِغَيْرِ اللَّهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ
آوَى مُحْدِثًا ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ أَيْ طُرُقَهَا } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ
الْجَنَّةَ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالدَّيُّوثُ ، وَرَجُلَةُ النِّسَاءِ } .
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ هِيَ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا
الْعَلَائِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ نُصَّ فِيهَا عَلَى بَعْضِ الذُّنُوبِ
أَنَّهُ كَبِيرَةٌ أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُهَا ، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى بِعَوْنِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِتَفَاصِيلِهَا مِنْ
الْأَحَادِيثِ مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ بِكَثِيرٍ ، وَلَكِنْ قَدْ قَصَدْنَا
بِتَقْدِيمِ هَذِهِ الْإِشَارَةَ إلَى بَيَانِ أَصْلِ مَا قَالَهُ الْعَلَائِيُّ
وَغَيْرُهُ .
وَأَمَّا تَحْقِيقُ كُلِّ كَبِيرَةٍ وَمَا جَاءَ فِيهَا
فَسَنَبْسُطُهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا مُفَصَّلَةً مُسْتَوْفَاةً ، يَسَّرَ اللَّهُ
ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ آمِينَ
.
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ : الْكَبَائِرُ
سَبْعَ عَشْرَةَ : أَرْبَعٌ فِي
الْقَلْبِ : الشِّرْكُ ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى
الْمَعْصِيَةِ ، وَالْقُنُوطُ ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ .
وَأَرْبَعٌ فِي اللِّسَانِ : الْقَذْفُ ، وَشَهَادَةُ
الزُّورِ ، وَالسِّحْرُ - وَهُوَ كُلُّ كَلَامٍ يُغَيِّرُ الْإِنْسَانَ أَوْ شَيْئًا
مِنْ أَعْضَائِهِ - ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ - وَهِيَ الَّتِي تُبْطِلُ بِهَا حَقًّا
أَوْ تُثْبِتُ بِهَا بَاطِلًا ، وَثَلَاثٌ فِي الْبَطْنِ : أَكْلُ مَالِ
الْيَتِيمِ ظُلْمًا ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَشُرْبُ كُلِّ مُسْكِرٍ ، وَاثْنَتَانِ
فِي الْفَرْجِ : الزِّنَا ، وَاللِّوَاطُ ، وَاثْنَتَانِ فِي الْيَدِ : الْقَتْلُ
وَالسَّرِقَةُ وَوَاحِدَةٌ فِي الرِّجْلِ : الْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ،
وَوَاحِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ : عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ انْتَهَى .
[ خَاتِمَةٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعَاصِي
كَبِيرِهَا وَصَغِيرِهَا ] قَدَّمْتهَا هُنَا لِتَكُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
زَاجِرَةً عَنْ اقْتِحَامِ حِمَى الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ ، الْمُوجِبَةِ
لِلْهَلَاكِ وَالْبُعْدِ وَالطَّرْدِ عَنْ دَارِ السَّلَامِ .
وَلِلْخِزْيِ وَالْهَوَانِ وَالذِّلَّةِ وَالْخُسْرَانِ
وَالْبَوَارِ وَالدَّمَارِ وَالْوَبَالِ وَالْعِثَارِ لَا سِيَّمَا فِي دَارِ
الْقَرَارِ .
اعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِطَاعَتِهِ ،
وَأَنَالَنَا مِنْ سَوَابِغِ رِضَاهُ وَمَهَابَتِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
حَذَّرَ عِبَادَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ بِمَا أَعْلَمَهُمْ بِهِ مِنْ نَوَامِيسِ
رُبُوبِيَّتِهِ وَأَقَامَهُ مِنْ سَطَوَاتِ قَهْرِهِ وَجَبَرُوتِهِ
وَوَحْدَانِيِّتِهِ .
قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا } أَيْ
أَغْضَبُونَا { انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا عَتَوْا عَمَّا نُهُوا
عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَوْ
يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } وَقَالَ تَعَالَى : { مَنْ يَعْمَلْ
سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا
} وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ اللَّهَ فَرَضَ
فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا ، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا ، وَحَرَّمَ
أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا ، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ
نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا
} .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ
يَغَارُ ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ } .
وَفِيهِمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ فَلِذَا حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ
الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ الْمُؤْمِنَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ
فِي قَلْبِهِ فَإِنْ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ لَمْ يَتُبْ زَادَتْ
حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ } : أَيْ تُغَشِّيهِ وَتُغَطِّيهِ تِلْكَ النُّكْتَةُ
السَّوْدَاءُ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : {
كَلًّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ اتَّقِ دَعْوَةَ
الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ } .
وَعَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ ذَكَرَ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ
أُمِّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا قَالَتْ : { يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي .
قَالَ : اُهْجُرِي الْمَعَاصِيَ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ
الْهِجْرَةِ ، وَحَافِظِي عَلَى الْفَرَائِضِ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْجِهَادِ ،
وَأَكْثِرِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَأْتِي الْعَبْدُ بِشَيْءٍ
أَحَبَّ إلَى اللَّهِ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ } .
وَسَأَلَ أَبُو ذَرٍّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْهِجْرَةِ - أَيْ
أَصْحَابِهَا - أَفْضَلُ ؟ قَالَ : مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ } .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ : وَعَنْ
حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : هَلْ تَرَكَتْ بَنُو
إسْرَائِيلَ دِينَهُمْ أَيْ حَتَّى عُذِّبُوا بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ
كَمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَأَمْرِهِمْ بِقَتْلِ أَنْفُسِهِمْ ؟ قَالَ :
لَا ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا نُهُوا
عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا يَنْسَلِخُ
الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ
قَالَ : يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لِمَا تَأْمَنُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَلِمَا يَتْبَعُ
الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ ؟ ، وَقِلَّةُ حَيَائِك مِنْ مَلَكِ الْيَمِينِ
وَالشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ
: - أَيْ بَقَاؤُك عَلَيْهِ بِلَا تَوْبَةٍ - أَعْظَمُ
مِنْ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ ، وَفَرَحُك بِالذَّنْبِ إذَا ظَفِرْتَ بِهِ
أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ
بِك أَعْظَمُ مِنْ الذَّنْبِ ، وَحُزْنُك عَلَى الذَّنْبِ إذَا فَاتَك أَعْظَمُ مِنْ
الذَّنْبِ ، وَخَوْفُك مِنْ الرِّيحِ إذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِك وَأَنْتَ عَلَى
الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُك مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إلَيْك أَعْظَمُ مِنْ
الذَّنْبِ ، وَيْحَك هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ ذَنْبُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ فِي جَسَدِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ ؟
إنَّمَا كَانَ ذَنْبُهُ أَنَّهُ اسْتَعَانَ بِهِ مِسْكِينٌ عَلَى ظَالِمٍ
يَدْرَؤُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُعِنْهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَنْهَ الظَّالِمَ عَنْ ظُلْمِ
هَذَا الْمِسْكِينِ فَابْتَلَاهُ اللَّهُ تَعَالَى انْتَهَى .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَلَوْ صَحَّ وَجَبَ تَأْوِيلُهُ ، إذْ الْأَنْبِيَاءُ - صَلَوَاتُ
اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - مَعْصُومُونَ عَنْ الذَّنْبِ كَبِيرِهَا
وَصَغِيرِهَا عَمْدِهَا وَسَهْوِهَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَبَعْدَهَا عَلَى
الصَّحِيحِ الْمُخْتَارِ فِي الْأُصُولِ وَكَأَنَّهُ إنَّمَا سَكَتَ لِعَجْزِهِ
عَنْ نُصْرَتِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
لِكَوْنِهِ تَرَكَ الْأَكْمَلَ مِنْ نَصْرِهِ وَإِنْ ظَنَّ عَجْزَهُ عَنْهُ .
وَقَالَ بِلَالُ بْنُ سَعْدٍ : لَا تَنْظُرْ إلَى صِغَرِ
الْخَطِيئَةِ وَلَكِنْ اُنْظُرْ إلَى مَنْ عَصَيْتَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَا ابْنَ آدَمَ تَرْكُ
الْخَطِيئَةِ أَيْسَرُ مِنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ : مَا عُبِدَ
اللَّهُ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْمَعَاصِي .
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ
: { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا
اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ } ، فَأَتَى
بِالِاسْتِطَاعَةِ فِي جَانِبِ الْمَأْمُورَاتِ وَلَمْ يَأْتِ بِهَا فِي جَانِب الْمَنْهِيَّاتِ
إشَارَةً إلَى عَظِيمِ خَطَرِهَا وَقَبِيحِ وَقْعِهَا ، وَأَنَّهُ
يَجِبُ بَذْلُ الْجَهْدِ وَالْوُسْعِ فِي الْمُبَاعَدَةِ
عَنْهَا سَوَاءٌ اسْتَطَاعَ ذَلِكَ أَمْ لَا ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورَاتِ فَإِنَّ
الْعَجْزَ لَهُ مَدْخَلٌ فِيهَا تَرْكًا وَغَيْرَهُ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بِقَدْرِ مَا
يَصْغُرُ الذَّنْبُ عِنْدَك يَعْظُمُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ
عِنْدَك يَصْغُرُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى مُوسَى : يَا
مُوسَى أَوَّلُ مَنْ مَاتَ ، أَيْ هَلَكَ وَخَسِرَ مِنْ خَلْقِي إبْلِيسُ ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ عَصَانِي وَإِنَّمَا أَعُدُّ مَنْ عَصَانِي مِنْ
الْأَمْوَاتِ .
وَقَالَ حُذَيْفَةُ ، إذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ نُكِتَ
فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ
سَوْدَاءُ حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كُلُّهُ أَسْوَدَ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ
السَّلَفِ : الْمَعَاصِي بَرِيدُ الْكُفْرِ أَيْ رَسُولُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا إذَا
أَوْرَثَتْ الْقَلْبَ هَذَا السَّوَادَ وَعَمَّتْهُ لَمْ يَبْقَ يَقْبَلُ خَيْرًا
قَطُّ ، فَحِينَئِذٍ يَقْسُو وَيَخْرُجُ مِنْهُ كُلُّ رَحْمَةٍ وَرَأْفَةٍ
وَخَوْفٍ فَيَرْتَكِبُ مَا أَرَادَ وَيَفْعَلُ مَا أَحَبَّ ، وَيَتَّخِذُ
الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيُضِلُّهُ وَيُغْوِيهِ وَيَعِدُهُ
وَيُمَنِّيهِ ، وَلَا يَرْضَى مِنْهُ بِدُونِ الْكُفْرِ مَا وَجَدَ لَهُ إلَيْهِ
سَبِيلًا .
قَالَ تَعَالَى : { إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا
إنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ
لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِك نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ
وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ
وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } وَقَالَ تَعَالَى : {
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ إنَّ
الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا
إنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ وَهْبٍ قَالَ :
" إنَّ الرَّبَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - قَالَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ
لِبَنِي إسْرَائِيلَ : إنِّي إذَا أَطَاعَنِي الْعَبْدُ رَضِيتُ عَنْهُ وَإِذَا رَضِيتُ
عَنْهُ بَارَكْتُ فِيهِ .
وَفِي آثَارِهِ وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي نِهَايَةٌ ،
وَإِذَا عَصَانِي الْعَبْدُ غَضِبْتُ عَلَيْهِ وَإِذَا غَضِبْتُ عَلَيْهِ
لَعَنْتُهُ وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنْ وَلَدِهِ " انْتَهَى .
وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ
فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى : {
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } أَيْ الْجَزَاءِ .
وَفِي الْحَدِيثِ { كَمَا تَدِينُ تُدَانُ } أَيْ كَمَا
تَفْعَلُ يُفْعَلُ مَعَك ، فَالْقِصَاصُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيك أُخِذَ مِنْ
ذُرِّيَّتِك ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى : { خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا
اللَّهَ } فَإِنْ كَانَ لَك خَوْفٌ عَلَى صِغَارِك وَأَوْلَادِك الْمَحَاوِيجِ
الْمَسَاكِينِ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَعْمَالِك كُلِّهَا لَا سِيَّمَا فِي
أَوْلَادِ غَيْرِك ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُك فِي ذُرِّيَّتِك
وَيُيَسِّرُ لَهُمْ مِنْ الْحِفْظِ وَالْخَيْرِ وَالتَّوْفِيقِ بِبَرَكَةِ
تَقْوَاك مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُك بَعْدَ مَوْتِك وَيَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُك ، وَأَمَّا
إذَا لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فِي أَوْلَادِ النَّاسِ وَلَا فِي حُرُمِهِمْ ،
فَاعْلَمْ أَنَّك مُؤَاخَذٌ فِي ذَلِكَ بِنَفْسِك وَذُرِّيَّتِك وَأَنَّ مَا
فَعَلْتَهُ كُلَّهُ يُفْعَلُ بِهِمْ
.
فَإِنْ قُلْت : هُمْ لَمْ يَفْعَلُوا فَكَيْفَ عُوقِبُوا
بِزَلَّاتِ آبَائِهِمْ وَانْتُقِمَ مِنْهُمْ بِمَعَاصِي أُصُولِهِمْ ؟ قُلْت :
لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأُولَئِكَ الْأُصُولِ وَنَاشِئُونَ عَنْهُمْ .
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ
رَبِّهِ وَاَلَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلَّا نَكِدًا } - { وَأَمَّا الْجِدَارُ
فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا
وَكَانَ
أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّك أَنْ يَبْلُغَا
أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّك وَمَا فَعَلْتُهُ
عَنْ أَمْرِي } .
قِيلَ كَانَ ذَلِكَ الصَّالِحُ هُوَ الْجَدُّ السَّابِعُ
لِأُمٍّ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ نَجِدُ فِي فَرْعِ الْعُصَاةِ
صَالِحًا وَبِالْعَكْسِ ، أَلَا تَرَى ابْنَ نُوحٍ وَابْنَ آدَمَ الْقَاتِلَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَى آدَمَ وَنُوحٍ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ
وَسَلَّمَ .
قُلْت :
هَذَا مَعَ قِلَّتِهِ لَأَمْرٌ بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ
اللَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مِنْهُ إلَّا الْإِعْلَامُ بِعَجْزِ
الْخَلْقِ حَتَّى الْكُمَّلِ مِنْهُمْ عَنْ هِدَايَةِ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِمْ { إنَّك لَا
تَهْدِي } أَيْ لَا تُوصِلُ مَنْ أَحْبَبْتَ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَفَادَتْهُ
آيَةُ { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ } إلَخْ أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِ رُبَّمَا عُوقِبَ
بِهِ الْفُرُوعُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بِفَرْضِ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ ،
إلَّا أَنَّ صَلَاحَ الْأُصُولِ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِهِ الْفُرُوعُ فَلَيْسَ
ذَلِكَ أَمْرًا كُلِّيًّا فِيهِمَا ، وَرُبَّمَا كَانَ لِلْفَاسِقِ ظَاهِرًا
أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ بَاطِنَةٌ يُثِيبُهُ اللَّهُ بِهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ
فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ
تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ
وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا
} .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَيْضًا " كَتَبَتْ
عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ
إذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ ذَامًّا "
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : احْذَرْ أَنْ تُبْغِضَك قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ لَا
تَشْعُرُ .
قَالَ الْفُضَيْلُ : هُوَ الْعَبْدُ يَخْلُو بِمَعَاصِي
اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بِغَضَبِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا
يَشْعُرُ .
وَلَمَّا ارْتَكَبَ الدَّيْنُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ
وَحَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ قَالَ : إنِّي لَأَعْرِفُ سَبَبَ هَذَا
الْغَمِّ أَصَبْتُ ذَنْبًا مِنْ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ : إنَّ الرَّجُلَ
لَيُصِيبُ
الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّةٌ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : عَجِبْت مِنْ ذِي عَقْلٍ
يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ لَا تُشَمِّتْ بِي الْأَعْدَاءَ ثُمَّ هُوَ يُشَمِّتُ
بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ ، قِيلَ لَهُ كَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ يَعْصِي اللَّهَ
فَيَشْمَتُ فِي الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ : أَوْحَى اللَّهُ إلَى
نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ قُلْ لِقَوْمِك لَا يَدْخُلُوا مَدَاخِلَ أَعْدَائِي
: وَلَا يَلْبَسُوا مَلَابِسَ أَعْدَائِي ، وَلَا يَرْكَبُوا مَرَاكِبَ أَعْدَائِي
، وَلَا يَطْعَمُوا مَطَاعِمَ أَعْدَائِي فَيَكُونُوا أَعْدَائِي كَمَا هُمْ أَعْدَائِي
، وَقَالَ الْحَسَنُ : هَانُوا عَلَى اللَّهِ فَعَصَوْهُ وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ
لَعَصَمَهُمْ .
وَقَالَ : إنَّ الرَّجُلَ أَيْ الْكَامِلَ لَيُذْنِبُ
الذَّنْبَ فَمَا يَنْسَاهُ وَلَا يَزَالُ مُتَخَوِّفًا مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ
الْجَنَّةَ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ فِي أَصْلِ
جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ
كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ .
وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ
: إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَصَابَ ذَنْبًا فَحَزِنَ عَلَيْهِ
فَجَعَلَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَقُولُ بِمَ أُرْضِي رَبِّي فَكُتِبَ صِدِّيقًا .
وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ دَادَا قَالَ : قَالَ لِي كَهْمَسٌ
: يَا أَبَا سَلَمَةَ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ مُنْذُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً ، قُلْت : مَا هُوَ ؟ قَالَ : زَارَنِي أَخٌ لِي فَاشْتَرَيْت
لَهُ سَمَكًا بِدَانِقٍ فَلَمَّا أَكَلَ قُمْت إلَى حَائِطِ جَارٍ لِي فَأَخَذْت
مِنْهُ قِطْعَةَ طِينٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ فَأَنَا أَبْكِي عَلَى ذَلِكَ مُنْذُ
أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ
: أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا مَكَّنَك اللَّهُ الْقُدْرَةَ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ
فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْك ، وَاعْلَمْ أَنَّك لَا تَفْعَلُ بِهِمْ
أَمْرًا مِنْ الظُّلْمِ إلَّا كَانَ زَائِلًا عَنْهُمْ : أَيْ بِمَوْتِهِمْ
بَاقِيًا عَلَيْك أَيْ عَارُهُ وَنَارُهُ فِي الْآخِرَةِ .
وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ آخِذٌ لِلْمَظْلُومِ
حَقَّهُ مِنْ الظَّالِمِ ، وَإِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ تَظْلِمَ مَنْ لَا يَنْتَصِرُ
عَلَيْك إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا
عَلِمَ الْتِجَاءَ عَبْدٍ إلَيْهِ بِالصِّدْقِ وَالِاضْطِرَارِ انْتَصَرَ لَهُ عَلَى
الْفَوْرِ .
{ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
السُّوءَ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ : لَمَّا خَلَقَ
اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْ رُءُوسهَا إلَى السَّمَاءِ فَقَالَتْ رَبَّنَا
مَعَ مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ : مَعَ الْمَظْلُومِ حَتَّى يُؤَدَّى إلَيْهِ حَقُّهُ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : يَا أَهْلَ الْمَعَاصِي لَا
تَغْتَرُّوا بِطُولِ حِلْمِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَاحْذَرُوا أَسَفَهُ أَيْ غَضَبَهُ
بِسَبَبِ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى : { فَلَمَّا آسَفُونَا
انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } .
وَقَالَ يَعْقُوبُ الْقَارِي : رَأَيْتُ فِي النَّوْمِ رَجُلًا
آدَمَ أَيْ أَسْمَرَ طِوَالًا ، وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ ، فَقُلْت مَنْ هَذَا ؟
فَقَالُوا : أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ ، فَاتَّبَعْتُهُ فَقُلْت : أَوْصِنِي رَحِمَك
اللَّهُ تَعَالَى ، فَكَلَحَ - أَيْ عَبَسَ فِي وَجْهِي - ، فَقُلْت مُسْتَرْشِدًا
: فَأَرْشِدْنِي أَرْشَدَك اللَّهُ ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَقَالَ : ابْتَغِ
رَحْمَةَ اللَّهِ عِنْدَ طَاعَتِهِ ، وَاحْذَرْ نِقْمَتَهُ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ
وَلَا تَقْطَعْ رَجَاءَك مِنْهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ ، ثُمَّ وَلَّى وَتَرَكَنِي .
وَفِي التَّوْرَاةِ : يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنِّي
كُنْتُ أُحِبُّكُمْ فَلَمَّا عَصَيْتُمُونِي أَبْغَضْتُكُمْ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : غَرَّنِي
الْقَمَرُ فَمَرَرْت فِي الْمَقَابِرِ فَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ قَدْ خَرَجَ مِنْ
قَبْرٍ يَجُرُّ سِلْسِلَةً فَإِذَا رَجُلٌ آخِذٌ بِالسِّلْسِلَةِ فَجَذَبَهُ
حَتَّى رَدَّهُ إلَى قَبْرِهِ قَالَ فَسَمِعْته يَضْرِبُهُ وَهُوَ يَقُولُ : أَلَمْ أَكُنْ
أُصَلِّي أَلَمْ أَكُنْ أَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ أَلَمْ أَكُنْ أَصُومُ ؟
قَالَ : بَلَى ، وَلَكِنَّك كُنْت إذَا خَلَوْت بِالْمَعَاصِي لَمْ تُرَاقِبْ
اللَّهَ تَعَالَى .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ :
كُنْت كَثِيرَ التَّرَدُّدِ إلَى الْمَقَابِرِ أَذْكُرُ
الْمَوْتَ وَالْبِلَى فَبَيْنَمَا أَنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ بِهَا إذْ غَلَبَتْنِي
عَيْنَايَ فَنِمْت فَرَأَيْت قَبْرًا قَدْ انْشَقَّ وَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ :
خُذُوا هَذِهِ السِّلْسِلَةَ فَاسْلُكُوهَا فِي فِيهِ وَأَخْرِجُوهَا مِنْ دُبُرِهِ
، وَإِذَا الْمَيِّتُ يَقُولُ : يَا رَبِّ أَلَمْ أَكُنْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ
أَلَمْ أَحُجَّ بَيْتَك الْحَرَامَ ؟ وَجَعَلَ يُعَدِّدُ أَفْعَالَ الْبِرِّ
شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، وَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ كُنْت تَفْعَلُ ذَلِكَ ظَاهِرًا
، فَإِذَا خَلَوْت بَارَزْتَنِي بِالْمَعَاصِي وَلَمْ تُرَاقِبْنِي .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ قَالَ : كَانَ لَنَا
صَدِيقٌ فَقَالَ : خَرَجْت إلَى ضَيْعَتِي فَأَدْرَكَتْنِي صَلَاةُ الْمَغْرِبِ
فَأَتَيْت إلَى جَنْبِ مَقْبَرَةٍ فَصَلَّيْت الْمَغْرِبَ قَرِيبًا مِنْهَا ،
فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ إذْ سَمِعْت مِنْ جَانِبِ الْقُبُورِ أَنِينًا
فَدَنَوْت إلَى الْقَبْرِ الَّذِي سَمِعْت مِنْهُ الْأَنِينَ وَهُوَ يَقُولُ : آهْ
قَدْ كُنْت أَصُومُ قَدْ كُنْت أُصَلِّي فَأَصَابَنِي قُشَعْرِيرَةٌ ، فَدَعَوْت
مَنْ حَضَرَنِي فَسَمِعَ مِثْلَ مَا سَمِعْت وَمَضَيْت إلَى ضَيْعَتِي ،
وَرَجَعْتُ يَعْنِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَصَلَّيْت فِي مَوْضِعِي
الْأَوَّلِ وَصَبَرْت حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ وَصَلَّيْت الْمَغْرِبَ ثُمَّ اسْتَمَعْت
إلَى ذَلِكَ الْقَبْرِ فَإِذَا هُوَ يَئِنُّ وَيَقُولُ : آهْ قَدْ كُنْت أُصَلِّي
قَدْ كُنْت أَصُومُ ، فَرَجَعْتُ إلَى مَنْزِلِي وَمَرِضْتُ بِالْحُمَّى
شَهْرَيْنِ .
وَأَقُولُ : قَدْ وَقَعَ لِي نَظِيرُ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ
أَنِّي كُنْت وَأَنَا صَغِيرٌ أَتَعَاهَدُ قَبْرَ وَالِدِي رَحِمَهُ اللَّهُ
لِلْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ فَخَرَجْت يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِغَلَسٍ فِي
رَمَضَانَ ، بَلْ أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ بَلْ فِي
لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَلَمَّا جَلَسْتُ عَلَى قَبْرِهِ وَقَرَأْت شَيْئًا مِنْ
الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَقْبَرَةِ أَحَدٌ غَيْرِي ، فَإِذَا أَنَا
أَسْمَعُ التَّأَوُّهَ الْعَظِيمَ وَالْأَنِينَ الْفَظِيعَ بِآهْ آهْ آهْ
وَهَكَذَا بِصَوْتٍ أَزْعَجَنِي مِنْ قَبْرٍ مَبْنِيٍّ بِالنُّورَةِ وَالْجِصِّ
لَهُ بَيَاضٌ عَظِيمٌ ، فَقَطَعْت الْقِرَاءَةَ
وَاسْتَمَعْت فَسَمِعْت صَوْتَ ذَلِكَ الْعَذَابِ مِنْ دَاخِلِهِ وَذَلِكَ
الرَّجُلُ الْمُعَذَّبُ يَتَأَوَّهُ تَأَوُّهًا عَظِيمًا بِحَيْثُ يُقْلِقُ
سَمَاعُهُ الْقَلْبَ وَيُفْزِعُهُ فَاسْتَمَعْتُ إلَيْهِ زَمَنًا ، فَلَمَّا
وَقَعَ الْإِسْفَارُ خَفِيَ حِسُّهُ عَنِّي ، فَمَرَّ بِي إنْسَانٌ فَقُلْت قَبْرُ
مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ لِرَجُلٍ أَدْرَكْته وَأَنَا صَغِيرٌ ،
وَكَانَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ مُلَازَمَةِ الْمَسْجِدِ وَالصَّلَوَاتِ فِي
أَوْقَاتِهَا وَالصَّمْتِ عَنْ الْكَلَامِ .
وَهَذَا كُلُّهُ شَاهَدْته وَعَرَفْته مِنْهُ فَكَبُرَ
عَلَيَّ الْأَمْرُ جِدًّا لِمَا أَعْلَمُهُ مِنْ أَحْوَالِ الْخَيْرِ الَّتِي
كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مُتَلَبِّسًا بِهَا فِي الظَّاهِرِ ، فَسَأَلْت
وَاسْتَقْصَيْت الَّذِينَ يَطَّلِعُونَ عَلَى حَقِيقَةِ أَحْوَالِهِ
فَأَخْبَرُونِي أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ الرِّبَا ، فَإِنَّهُ كَانَ تَاجِرًا ثُمَّ
كَبِرَ وَبَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْحُطَامِ ، فَلَمْ تَرْضَ نَفْسُهُ
الظَّالِمَةُ الْخَبِيثَةُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ جَنْبِهِ حَتَّى يَأْتِيَهُ
الْمَوْتُ بَلْ سَوَّلَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَحَبَّةَ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا حَتَّى
لَا يَنْقُصَ مَالُهُ فَأَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ حَتَّى فِي
رَمَضَانَ حَتَّى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَلَمَّا قُلْت ذَلِكَ لِبَعْضِ أَهْلِ
بَلَدِهِ قَالَ لِي : أَعْجَبُ مِنْهُ عَبْدُ الْبَاسِطِ رَسُولُ الْقَاضِي
فُلَانٍ وَهَذَا الرَّجُلُ أَعْرِفُهُ أَيْضًا كَانَ رَسُولًا لِلْقُضَاةِ أُولَى
أَمْرِهِ ثُمَّ صَارَ ذَا ثَرْوَةٍ فَقُلْت : وَمَا شَأْنُهُ ؟ قَالَ : لَمَّا
حَفَرْنَا قَبْرَهُ لِنُنْزِلَ عَلَيْهِ مَيِّتًا آخَرَ رَأَيْنَا فِي رَقَبَتِهِ
سِلْسِلَةً عَظِيمَةً ، وَرَأَيْنَا فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ كَلْبًا أَسْوَدَ عَظِيمًا
مَرْبُوطًا مَعَهُ فِي تِلْكَ السِّلْسِلَةِ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِهِ
يُرِيدُ نَهْشَهُ بِأَنْيَابِهِ وَأَظْفَارِهِ فَخِفْنَاهُ خَوْفًا عَظِيمًا
وَبَادَرْنَا بِرَدِّ التُّرَابِ فِي الْقَبْرِ .
قَالُوا :
وَرَأَيْنَا فُلَانًا عَنْ رَجُلٍ آخَرَ لَمَّا
حَفَرْنَا قَبْرَهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا جُمْجُمَةُ رَأْسِهِ فَإِذَا فِيهَا
مَسَامِيرُ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ عَرِيضَةُ الرُّءُوسِ
مَدْقُوقَةٌ فِيهَا كَأَنَّهَا بَابٌ عَظِيمٌ ، فَتَعَجَّبْنَا مِنْهَا
وَرَدَّيْنَا عَلَيْهَا التُّرَابَ ، قَالُوا : وَحَفَرْنَا عَنْ فُلَانٍ
فَخَرَجَتْ لَنَا حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَبْرِهِ وَرَأَيْنَاهَا مُطَوِّقَةً
بِهِ فَأَرَدْنَا دَفْعَهَا عَنْهُ فَتَنَفَّسَتْ عَلَيْنَا حَتَّى كِدْنَا
كُلُّنَا نَهْلَكُ عَنْ آخِرِنَا
.
فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ النَّاشِئِ
عَنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ
.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ :
أَذْنَبْت ذَنْبًا فَاحْتَقَرْته فَأُتِيتُ فِي مَنَامِي فَقِيلَ لِي : لَا تُحَقِّرَنَّ
مِنْ الذُّنُوبِ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا ، إنَّ الصَّغِيرَ عِنْدَك
الْيَوْمَ يَكُونُ كَبِيرًا غَدًا عِنْدَ اللَّهِ .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَنْمَاطِيُّ :
رَأَيْت عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَنَامِ عَلَى
خِلْقَتِهِ الَّتِي وَصَفُوهُ بِهَا وَهُوَ يَقُولُ : لَوْلَا الَّذِينَ لَهُمْ
وِرْدٌ يَقُومُونَا وَآخَرُونَ لَهُمْ سَرْدٌ يَصُومُونَا لَدُكْدِكَتْ أَرْضُكُمْ
مِنْ تَحْتِكُمْ سَحَرًا لِأَنَّكُمْ قَوْمُ سُوءٍ لَا تُطِيعُونَا وَاعْلَمْ
أَنَّ أَعْظَمَ زَاجِرٍ عَنْ الذُّنُوبِ هُوَ خَوْفُ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَةُ انْتِقَامِهِ
وَسَطْوَتِهِ ، وَحَذَرُ عِقَابِهِ وَغَضَبِهِ وَبَطْشِهِ { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
جَاءَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ : كَيْفَ تَجِدُك ؟ قَالَ :
أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَخَاف ذُنُوبِي ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي
مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ مِمَّا
يَخَافُ } .
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ الْوَرْدِ قَالَ : كَانَ عِيسَى
صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَعَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : حُبُّ الْفِرْدَوْسِ وَخَشْيَةُ جَهَنَّمَ يُورِثَانِ
الصَّبْرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ وَيُبْعِدَانِ الْعَبْدَ مِنْ لَذَّاتِ الدُّنْيَا
وَشَهَوَاتِهَا وَمَعَاصِيهَا .
وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ : وَاَللَّهِ لَقَدْ مَضَى
بَيْنَ أَيْدِيكُمْ أَقْوَامٌ لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُهُمْ عَدَدَ الْحَصَى ذَهَبًا
أَنْ لَا يَنْجُوَ لِعِظَمِ الذَّنْبِ فِي نَفْسِهِ .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { هَلْ تَسْمَعُونَ مَا أَسْمَعُ ؟ أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا
أَنْ تَئِطَّ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ
أَصَابِعَ إلَّا وَمَلَكٌ سَاجِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى
أَوْ قَائِمٌ أَوْ رَاكِعٌ ، وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ
لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَخَرَجْتُمْ أَوْ لَصَعِدْتُمْ
إلَى الصُّعُدَاتِ - أَيْ الْجِبَالِ - تَجْأَرُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى خَوْفًا
مِنْ عَظِيمِ سَطْوَتِهِ وَشِدَّةِ انْتِقَامِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { لَا تَدْرُونَ
تَنْجُونَ أَوْ لَا تَنْجُونَ }
.
وَقَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ : مَنْ
أَتَى الْخَطِيئَةَ وَهُوَ يَضْحَكُ دَخَلَ النَّارَ وَهُوَ يَبْكِي .
وَفِي الْحَدِيثِ : { لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ
الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ النَّارَ } .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ : { قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك
الْأَقْرَبِينَ } فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ
اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ
لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ
لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ
لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ
سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا شِئْت لَا أُغْنِي عَنْك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ
: { يَا رَسُولَ اللَّهِ { وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ الَّذِي
يَزْنِي وَيَسْرِقُ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ وَهُوَ يَخَافُ اللَّهَ ؟ قَالَ : لَا
يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ ، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يُصَلِّي
وَيَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَيَخَافُ أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُ } رَوَاهُ
أَحْمَدُ .
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ : يَا أَبَا سَعِيدٍ
كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ قَوْمٍ يُحَدِّثُونَا عَنْ الرَّجَاءِ حَتَّى
تَكَادَ قُلُوبُنَا تَطِيرُ ؟ فَقَالَ لَهُ : إنَّك وَاَللَّهِ أَنْ تَصْحَبَ قَوْمًا
يُخَوِّفُونَك حَتَّى تُدْرِكَ أَمْنًا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا
يُؤَمِّنُونَك حَتَّى تَلْحَقَك الْمَخَاوِفُ .
وَلَمَّا طُعِنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَقَرُبَتْ وَفَاتُهُ قَالَ لِابْنِهِ :
وَيْلَك ضَعْ خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ لَا أُمَّ لَك وَوَيْلِي وَأَيُّ وَيْلِي إنْ
لَمْ يَرْحَمْنِي ، وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا هَذَا الْخَوْفُ يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ بِك الْفُتُوحَ وَمَصَّرَ بِك الْأَمْصَارَ
وَفَعَلَ بِك وَفَعَلَ ؟ قَالَ : وَدِدْت أَنْ أَنْجُوَ لَا عَلَيَّ وَلَا لِي .
وَفِي رِوَايَةٍ : لَا أَجْرًا وَلَا وِزْرًا .
وَكَانَ زَيْنُ الْعَابِدِينَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إذَا تَوَضَّأَ وَفَرَغَ مِنْ وُضُوئِهِ أَخَذَتْهُ
رَعْدَةٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ
.
فَقَالَ : وَيْحَكُمْ ، أَتَدْرُونَ إلَى مَنْ أَقُومُ
وَلِمَنْ أُرِيدُ أَنْ أُنَاجِيَ
.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : الْخَوْفُ يَمْنَعُنِي
مِنْ أَكْلِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَمَا أَشْتَهِيهِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ذَكَرَ مِنْ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ تَحْتَ ظِلِّ
عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ لَهُ إلَّا ظِلُّهُ رَجُلًا ذَكَرَ اللَّهَ أَيْ
وَعِيدَهُ وَعِقَابَهُ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ : أَيْ خَوْفًا مِمَّا
جَنَاهُ وَاقْتَرَفَهُ مِنْ الْمُخَالَفَاتِ وَالذُّنُوبِ .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا
النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، وَعَيْنٌ
بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنًا غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَعَيْنًا يَخْرُجُ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَلِجُ - أَيْ لَا يَدْخُلُ - النَّارَ رَجُلٌ
بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ ، وَلَا
يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ } وَقَالَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لَأَنْ أَدْمَعَ
دَمْعَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ
دِينَارٍ ، وَقَالَ عَوْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : بَلَغَنِي أَنَّهُ لَا تُصِيبُ
دُمُوعُ الْإِنْسَانِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَكَانًا مِنْ جَسَدِهِ إلَّا حَرَّمَ
اللَّهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ عَلَى النَّارِ ، وَكَانَ لِصَدْرِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ
أَيْ فَوَرَانٌ وَغَلَيَانٌ كَغَلَيَانِ الْقِدْرِ عَلَى النَّارِ .
وَقَالَ الْكِنْدِيُّ : الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَةِ
اللَّهِ تُطْفِئُ الدَّمْعَةُ مِنْهُ أَمْثَالَ الْبِحَارِ مِنْ النَّارِ .
وَكَانَ ابْنُ السِّمَاكِ يُعَاتِبُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ
لَهَا : تَقُولِينَ قَوْلَ الزَّاهِدِينَ وَتَعْمَلِينَ عَمَلَ الْمُنَافِقِينَ ،
وَمِنْ ذَلِكَ الْجَنَّةَ تَطْلُبِينَ أَنْ تَدْخُلِيهَا ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِلْجَنَّةِ
قَوْمٌ آخَرُونَ وَلَهُمْ أَعْمَالٌ غَيْرُ مَا نَحْنُ عَامِلُونَ .
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى جَعْفَرٍ
الصَّادِقِ فَقُلْت لَهُ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ أَوْصِنِي ، قَالَ : يَا
سُفْيَانُ لَا مُرُوءَةَ لِكَذُوبٍ وَلَا رَاحَةَ لِحَسُودٍ وَلَا إخَاءَ
لِمَلُولٍ وَلَا سُؤْدُدَ لِسَيِّئِ الْخُلُقِ ، قُلْت : يَا ابْنَ رَسُولِ
اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : يَا سُفْيَانُ كُفَّ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ .
تَكُنْ عَابِرًا وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَك تَكُنْ
مُسْلِمًا ، وَاصْحَبْ النَّاسَ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَصْحَبُوك بِهِ تَكُنْ
مُؤْمِنًا ، وَلَا تَصْحَبْ الْفَاجِرَ فَيُعَلِّمَك مِنْ فُجُورِهِ ، أَيْ
لِلْحَدِيثِ : { الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ
يُخَالِلُ } ؛ وَشَاوِرْ فِي أَمْرِك الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ .
قُلْت : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ :
يَا سُفْيَانُ مَنْ أَرَادَ عِزًّا بِلَا عَشِيرَةٍ وَهَيْبَةً بِلَا سُلْطَانٍ
فَلْيَخْرُجْ مِنْ ذُلِّ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ ، قُلْت : يَا
ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ زِدْنِي ، قَالَ : أَدَّبَنِي أَبِي بِثَلَاثٍ : قَالَ
لِي : أَيْ بُنَيَّ
إنَّ مَنْ يَصْحَبْ صَاحِبَ السُّوءِ لَا يَسْلَمْ ،
وَمَنْ يَدْخُلْ مَدَاخِلَ السُّوءِ يُتَّهَمْ ، وَمَنْ لَا يَمْلِكْ لِسَانَهُ
يَنْدَمْ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : سَأَلْتُ وُهَيْبَ بْنَ
الْوَرْدِ أَيَجِدُ طَعْمَ الْعِبَادَةِ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى ؟ قَالَ
لَا ، وَلَا مَنْ يَهُمُّ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَبُو الْفَرْجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ :
الْخَوْفُ هُوَ النَّارُ الْمُحْرِقَةُ لِلشَّهَوَاتِ ، فَإِذًا فَضِيلَتُهُ
بِقَدْرِ مَا يَحْرُقُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَبِقَدْرِ مَا يَكُفُّ عَنْ
الْمَعْصِيَةِ وَيَحُثُّ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ الْخَوْفُ ذَا
فَضِيلَةٍ وَبِهِ تَحْصُلُ الْعِفَّةُ وَالْوَرَعُ وَالتَّقْوَى وَالْمُجَاهَدَةُ وَالْأَعْمَالُ
الْفَاضِلَةُ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ؟
كَمَا عُلِمَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { هُدًى
وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } وقَوْله تَعَالَى : {
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } وقَوْله
تَعَالَى : { وَخَافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وقَوْله تَعَالَى : {
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } وَقَالَ تَعَالَى : { سَيَذَّكَّرُ
مَنْ يَخْشَى } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ } .
وَكُلُّ مَا دَلَّ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَلَى
فَضِيلَةِ الْعِلْمِ دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الْخَوْفِ ، لِأَنَّ الْخَوْفَ
ثَمَرَةُ الْعِلْمِ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا اقْشَعَرَّ جَسَدُ الْعَبْدِ مِنْ مَخَافَةِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَحَاتَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يَتَحَاتُّ عَنْ
الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ وَرَقُهَا
} .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
: وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ
وَلَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ ، إنْ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ، وَإِنْ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ : كُلُّ
قَلْبٍ لَيْسَ فِيهِ
خَوْفُ اللَّهِ فَهُوَ خَرَابٌ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ :
الْبُكَاءُ عَلَى الْخَطِيئَةِ يَحُطُّ الذُّنُوبَ كَمَا يَحُطُّ الرِّيحُ
الْوَرَقَ الْيَابِسَ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : لَوْ نُودِيَ لِيَدْخُلْ الْجَنَّةَ
كُلُّ النَّاسِ إلَّا رَجُلًا وَاحِدًا لَخَشِيتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ
الرَّجُلَ ، وَهَذَا عُمَرُ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا وَقَدْ بَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالْجَنَّةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ سَأَلَ حُذَيْفَةَ - صَاحِبَ سِرِّ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَعَلِّقِ بِالْمُنَافِقِينَ وَالْفِتَنِ
- فَقَالَ لَهُ : يَا حُذَيْفَةُ هَلْ أَنَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ ؟ فَقَالَ لَا
وَاَللَّهِ لَسْتَ مِنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَخَافَ عُمَرُ أَنْ
تَكُونَ نَفْسُهُ قَدْ لَبَّسَتْ عَلَيْهِ وَسَتَرَتْ عُيُوبَهُ عَنْهُ ، وَعَظُمَ
ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى جَوَّزَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْوَعْدُ مَشْرُوطًا بِشُرُوطٍ
لَمْ تَحْصُلْ مِنْهُ فَلَمْ يَغْتَرَّ بِهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : بَكَى أَبُونَا آدَم صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ ثَلَاثَمِائَةِ عَامٍ حَتَّى
جَرَتْ أَوْدِيَةُ سَرَنْدِيبَ مِنْ دُمُوعِهِ ، وَسَرَنْدِيبُ مَحَلٌّ مِنْ الْهِنْدِ
أَعْدَلُ الْبِلَادِ مُطْلَقًا نَزَلَ بِهِ آدَم حَتَّى لَا يُؤَثِّرَ فِيهِ
مُفَارَقَةُ الْجَنَّةِ إضْرَارًا بَيِّنًا ، وَلَوْ نَزَلَ بِغَيْرِهِ مِمَّا
لَمْ يَعْتَدِلْ حَرُّهُ وَبَرْدُهُ فِي سَائِرِ الْأَزْمِنَةِ لَأَضَرَّ بِهِ
إضْرَارًا بَيِّنًا .
وَقَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ : لَمَّا عَاتَبَ
اللَّهُ تَعَالَى نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنِهِ
فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ { إنِّي أَعِظُك أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } بَكَى
ثَلَاثَمِائَةِ عَامٍ حَتَّى صَارَ فِي خَدَّيْهِ أَمْثَالُ الْجَدَاوِلِ أَيْ
الْأَنْهَارِ الصِّغَارِ مِنْ الْبُكَاءِ .
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ : كَانَ دَاوُد يَبْكِي حَتَّى
يَبِلَّ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ دُمُوعِهِ ، وَيَبْكِي حَتَّى يَنْبُتَ
الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِهِ ،
ثُمَّ يَبْكِي حَتَّى يَنْقَطِعَ صَوْتُهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : كَانَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ يَبْكِي حَتَّى تَقَطَّعَ خَدَّاهُ وَبَدَتْ أَضْرَاسُهُ
، فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ : لَوْ أَذِنْتَ لِي يَا بُنَيَّ حَتَّى أَتَّخِذَ لَك قِطْعَتَيْنِ
مِنْ لُبُودٍ تُوَارِي بِهِمَا أَضْرَاسَك عَنْ النَّاظِرِينَ ، فَأَذِنَ
فَأَلْصَقَتْهُمَا بِخَدَّيْهِ فَكَانَ يَبْكِي فَكَانَتَا تَبْتَلَّانِ
بِالدُّمُوعِ فَتَجِيءُ أُمُّهُ فَتَعْصِرُهُمَا فَتَسِيلُ دُمُوعُهُ عَلَى ذِرَاعَيْهَا .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ : "
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إذَا قَرَأَ
الْقُرْآنَ " .
وَفِيهِ أَيْضًا : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا مَرِضَ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ ،
قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ : أَيْ يَغْلِبُ
عَلَيْهِ الْحُزْنُ إذَا قَامَ مَقَامَك لَا يُسْمِعُ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى : كَانَ فِي وَجْهِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنْ الْبُكَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي
قَوْله تَعَالَى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا
يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ لِضِرَارٍ :
صِفْ لِي عَلِيًّا ، قَالَ : أَلَا تُعْفِينِي ؟ قَالَ : بَلْ صِفْهُ ، قَالَ : أَوَ لَا
تُعْفِينِي ؟ قَالَ : لَا أُعْفِيك ، قَالَ : أَمَّا إذَا أَنَّهُ لَا بُدَّ
فَإِنَّهُ كَانَ بَعِيدَ الْمَدَى : أَيْ وَاسِعَ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ لَا
تُدْرَكُ غَايَتُهُ فِيهِمَا ، شَدِيدَ الْقُوَى : أَيْ فِي ذَاتِ اللَّهِ
وَنُصْرَةِ دِينِهِ ، يَقُولُ فَصْلًا وَيَحْكُمُ عَدْلًا ، يَتَفَجَّرُ الْعِلْمُ
مِنْ جَوَانِبِهِ وَتَنْطِقُ الْحِكْمَةُ مِنْ نَوَاحِيهِ ، يَسْتَوْحِشُ مِنْ
الدُّنْيَا وَزَهْرَتِهَا وَيَسْتَأْنِسُ بِاللَّيْلِ وَظُلْمَتِهِ ، كَانَ
وَاَللَّهِ غَزِيرَ الدَّمْعَةِ طَوِيلَ الْفِكْرَةِ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ :
أَيْ تَأَسُّفًا وَحُزْنًا إذْ هَذَا فِعْلُ
الْمُتَأَسِّفِ الْحَزِينِ ، وَيُخَاطِبُ نَفْسَهُ : أَيْ بِالْمُزْعِجَاتِ
وَالْمُقَلْقِلَاتِ ، يُعْجِبُهُ مِنْ اللِّبَاسِ مَا خَشُنَ وَمِنْ الطَّعَامِ
مَا حَضَرَ ، كَانَ وَاَللَّهِ كَأَحَدِنَا يُجِيبُنَا إذَا سَأَلْنَاهُ
وَيَأْتِينَا إذَا دَعَوْنَاهُ ، وَنَحْنُ وَاَللَّهِ مَعَ تَقْرِيبِهِ لَنَا
وَقُرْبِهِ مِنَّا لَا نُكَلِّمُهُ هَيْبَةً لَهُ ، فَإِنْ تَبَسَّمَ فَعَنْ
مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ ، يُعَظِّمُ أَهْلَ الدِّينِ وَيُحِبُّ الْمَسَاكِينَ
، وَلَا يَطْمَعُ الْقَوِيُّ فِي بَاطِلِهِ وَلَا يَيْأَسُ الضَّعِيفُ مِنْ
عَدْلِهِ ، وَأَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَرَأَيْتُهُ فِي بَعْضِ مَوَاقِفِهِ وَقَدْ
أَرْخَى اللَّيْلُ سُتُورَهُ وَغَارَتْ نُجُومُهُ ، وَقَدْ تَمَثَّلَ فِي
مِحْرَابِهِ قَابِضًا عَلَى لِحْيَتِهِ يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السَّلِيمِ : أَيْ
اللَّدِيغِ ، وَيَبْكِي بُكَاءَ الْحَزِينِ وَكَأَنِّي أَسْمَعُهُ يَقُولُ : يَا
رَبَّنَا يَا رَبَّنَا يَتَضَرَّعُ إلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ : يَا دُنْيَا يَا
دُنْيَا إلَيَّ تَعَرَّضْت أَمْ بِي تَشَوَّقْت ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ غُرِّي
غَيْرِي قَدْ بَتَتُّك ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ لِي فِيكِ ، فَعُمْرُك قَصِيرٌ وَعَيْشُك
حَقِيرٌ وَخَطَرُك كَبِيرٌ ، آهٍ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَبُعْدِ السَّفَرِ وَوَحْشَةِ
الطَّرِيقِ ، فَذَرَفَتْ عُيُونُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا مَلَكَهَا
وَهُوَ يُنَشِّفُهَا بِكُمِّهِ وَقَدْ اخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ ، قَالَ
مُعَاوِيَةُ : رَحِمَ اللَّهُ أَبَا الْحَسَنِ ، كَانَ وَاَللَّهِ كَذَلِكَ ،
فَكَيْفَ حُزْنُك عَلَيْهِ يَا ضِرَارُ ؟ قَالَ : حُزْنُ مَنْ ذُبِحَ وَلَدُهَا
فِي حِجْرِهَا فَلَا تَرْقَأُ عَبْرَتُهَا وَلَا يَسْكُنُ حُزْنُهَا .
وَبَكَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى
صَارَ كَأَنَّهُ الشَّنُّ الْبَالِي ، وَبَكَى تِلْمِيذُهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ
حَتَّى عَمِشَتْ عَيْنَاهُ .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ
قَالَ : قُلْت لِيَزِيدَ بْنِ مَرْثَدٍ : مَالِي أَرَى عَيْنَك لَا تَجِفُّ ؟
قَالَ : وَمَا مَسْأَلَتُك عَنْهُ ؟ فَقُلْت لَهُ : عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَنْفَعَنِي بِهِ ، قَالَ : يَا أَخِي إنَّ اللَّهَ قَدْ تَوَعَّدَنِي إنْ
أَنَا عَصَيْتُهُ أَنْ يَسْجُنَنِي فِي النَّارِ ،
وَاَللَّهُ لَوْ لَمْ يَتَوَعَّدْنِي أَنْ يَسْجُنَنِي إلَّا فِي حَمَّامٍ لَكُنْت
حَرِيًّا أَنْ لَا تَجِفَّ لِي عَيْنٌ ، قَالَ : فَقُلْت لَهُ : فَهَكَذَا أَنْتَ
فِي خَلَوَاتِك ، قَالَ : وَمَا مَسْأَلَتُك عَنْهُ ؟ قُلْت : عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَنْفَعَنِي بِذَلِكَ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنَّ ذَلِكَ لَيَعْرِضُ لِي حِينَ
أَسْكُنُ إلَى أَهْلِي : أَيْ لِإِرَادَةِ وَطْئِهَا ، فَيَحُولُ ذَلِكَ بَيْنِي
وَبَيْنَ مَا أُرِيدُ ، وَإِنَّهُ لَيُوضَعُ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيَّ فَيَعْرِضُ
لِي فَيَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَكْلِهِ حَتَّى تَبْكِيَ امْرَأَتِي وَيَبْكِيَ
صِبْيَانُنَا لَا يَدْرُونَ مَا أَبْكَانَا ، وَلَرُبَّمَا أَضْجَرَ ذَلِكَ
امْرَأَتِي فَتَقُولُ : يَا وَيْحَهَا مَا خُصَّتْ بِهِ مِنْ طُولِ الْحُزْنِ
مَعَك فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا تَقَرُّ لِي مَعَك عَيْنٌ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ : اشْتَكَى ثَابِتٌ
الْبُنَانِيُّ عَيْنَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ : اضْمَنْ لِي خَصْلَةً
تَبْرَأْ عَيْنُك ، فَقَالَ وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : لَا تَبْكِ .
قَالَ : وَأَيُّ خَيْرٍ فِي عَيْنٍ لَا تَبْكِي ؟ وَقَالَ
الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ : رَأَيْت يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ بِوَاسِطَ وَكَانَ
أَحْسَنَ النَّاسِ عَيْنَيْنِ ، ثُمَّ رَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَكْفُوفَ
الْبَصَرِ ، فَقُلْت : يَا أَبَا خَالِدٍ مَا فَعَلَتْ الْعَيْنَانِ
الْجَمِيلَتَانِ ؟ قَالَ : ذَهَبَ بِهِمَا بُكَاءُ الْأَسْحَارِ .
وَدَخَلَ بَعْضُ أَصْحَابِ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ عَلَيْهِ
فَرَآهُ يَبْكِي وَدُمُوعُهُ خَالَطَهَا صُفْرَةٌ ، فَقَالَ : بَكَيْتَ الدَّمَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ،
قَالَ : عَلَى مَاذَا ؟ قَالَ : عَلَى تَخَلُّفِي عَنْ وَاجِبِ حَقِّ اللَّهِ ،
ثُمَّ رَآهُ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا فَعَلَ اللَّهُ
بِك ؟ قَالَ : غَفَرَ لِي ، قَالَ : فَمَا صَنَعَ فِي دُمُوعِك ؟ قَالَ :
قَرَّبَنِي ، فَقَالَ لِي : يَا فَتْحُ عَلَى مَاذَا بَكَيْتَ ؟ قُلْت يَا رَبِّ
عَلَى تَخَلُّفِي عَنْ وَاجِبِ حَقِّك ، قَالَ فَالدَّمُ قُلْت خَوْفًا أَنْ لَا تَفْتَحَ
لِي ، فَقَالَ يَا فَتْحُ مَا أَرَدْتَ بِهَذَا كُلِّهِ ، وَعِزَّتِي لَقَدْ
صَعِدَ حَافِظَاك أَرْبَعِينَ سَنَةً بِصَحِيفَتِك
مَا فِيهَا خَطِيئَةٌ .
وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمِ بْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
عَنْ عَطَاءٍ .
قَالَ :
{ دَخَلْتُ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَرَ عَلَى عَائِشَةَ
فَقَالَتْ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَرَ : قَدْ آنَ لَك أَنْ تَزُورَنَا ؟ فَقَالَ
أَقُولُ يَا أُمَّاهُ كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ : زُرْ غِبًّا تَزْدَدْ حُبًّا ، فَقَالَتْ
دَعُونَا مِنْ بَطَالَتِكُمْ هَذِهِ ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ
رَأَيْتِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ
فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ : لَمَّا كَانَ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِيِ قَالَ يَا
عَائِشَةُ ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي .
قُلْت وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَك وَأُحِبُّ مَا
يَسُرُّك ، قَالَتْ : فَقَامَ فَتَطَهَّرَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي ، قَالَتْ فَلَمْ
يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ ، قَالَتْ : وَكَانَ جَالِسًا فَلَمْ يَزَلْ
يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ ، قَالَتْ ثُمَّ بَكَى فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي
حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ ، فَلَمَّا
رَآهُ يَبْكِي قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غُفِرَ لَك مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ : أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا
شَكُورًا ؟ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا
وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا .
{ إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } الْآيَةَ كُلَّهَا } .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُكَاءَ إمَّا مِنْ حُزْنٍ وَإِمَّا
مِنْ وَجَعٍ ، وَإِمَّا مِنْ فَزَعٍ وَإِمَّا مِنْ فَرَحٍ ، وَإِمَّا شُكْرًا
وَإِمَّا خَشْيَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا هُوَ أَعْلَاهَا دَرَجَةً
وَأَغْلَاهَا ثَمَنًا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا الْبُكَاءُ لِلرِّيَاءِ
وَالْكَذِبِ فَلَا يَزْدَادُ صَاحِبُهُ إلَّا طَرْدًا وَبُعْدًا وَمَقْتًا ،
وَحُقَّ لِمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا جَرَى لَهُ بِهِ الْقَلَمُ فِي سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ
تَعَالَى مِنْ سَعَادَةٍ مُؤَبَّدَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ مُخَلَّدَةٍ ، وَهُوَ فِيمَا
بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ قَدْ رَكِبَ الْمُحَرَّمَاتِ وَخَالَفَ خَالِقَهُ
فِي الْمَنْهِيَّاتِ أَنْ يُكْثِرَ بُكَاءَهُ وَأَسَفَهُ وَحُزْنَهُ وَنَحِيبَهُ
وَلَهَفَهُ ، وَأَنْ يَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ،
وَأَنْ يَجْأَرَ إلَى اللَّهِ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ مِنْ سَوَابِقِ
مُخَالَفَاتِهِ وَقَبَائِحِ شَهَوَاتِهِ ، عَسَى أَنْ يُوَفِّقَهُ إلَى
التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ
وَالْعِصْيَانِ إلَى الْعِلْمِ وَالطَّاعَةِ وَمَا لَهُمَا مِنْ ثَمَرَاتِ
الْمَعْرِفَةِ وَالْفُتُوحِ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : أَرَقُّ النَّاسِ قُلُوبًا أَقَلُّهُمْ
ذُنُوبًا .
وَفِي حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ : أَمْسِكْ
عَلَيْك لِسَانَك وَلْيَسَعْك بَيْتُك وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِك } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَا
أَعْلَمُكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدُّكُمْ لَهُ خَشْيَةً } وَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ
الْخَوْفُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ،
وَغَلَبَ أَمْنُ الْمَكْرِ عَلَى الظَّلَمَةِ الْأَطْغِيَاءِ وَالْفَرَاعِنَةِ الْأَغْبِيَاءِ
وَالْجَهَلَةِ وَالْعَوَامِّ وَالرَّعَاعِ وَالطَّغَامِ ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ
حُوسِبُوا وَفُرِغَ مِنْهُمْ فَلَمْ يَخْشَوْا سَطْوَةَ الْعِقَابِ وَلَا نَارَ
الْعَذَابِ وَلَا بُعْدَ الْحِجَابِ
.
{ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ
هُمْ الْفَاسِقُونَ } .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ
امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ { أَنَّهُمْ اقْتَسَمُوا
الْمُهَاجِرِينَ أَوَّلَ مَا قَدِمُوا عَلَيْهِمْ
بِالْقُرْعَةِ ، قَالَتْ ، فَطَارَ لَنَا : أَيْ وَقَعَ فِي سَهْمِنَا عُثْمَانُ
بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ أَفْضَلِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَكَابِرِهِمْ وَمُتَعَبِّدِيهِمْ
وَمِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا ، فَاشْتَكَى فَمَرَّضْنَاهُ ، حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ وَجَعَلْنَاهُ
فِي ثِيَابِهِ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَقُلْت : رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْك أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي
عَلَيْك لَقَدْ أَكْرَمَك اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا يُدْرِيك أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْت
: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ
الْيَقِينُ ، وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ } : أَيْ فَالْإِنْكَارُ عَلَيْهَا
إنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَبْرَزَتْ تِلْكَ الشَّهَادَةَ جَازِمَةً بِهَا
مُتَيَقِّنَةً لِمُقْتَضَاهَا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ قَطْعِيٍّ تَعْتَمِدُ
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَا أَنْ تُبْرِزَهَا فِي حَيِّزِ
الرَّجَاءِ لَا الْجَزْمِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أَدْرِي
وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ : فَوَاَللَّهِ لَا أُزَكِّي
أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا } : أَيْ عَلَى جِهَةِ الْجَزْمِ وَالتَّيَقُّنِ ، بَلْ عَلَى
جِهَةِ الرَّجَاءِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، قَالَتْ : وَأَحْزَنَنِي
ذَلِكَ فَنِمْت فَرَأَيْت لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي ، فَجِئْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته فَقَالَ : ذَاكَ عَمَلُهُ .
وَلَمَّا تُوُفِّيَ عُثْمَانُ هَذَا قَبَّلَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدَّهُ وَبَكَى حَتَّى سَالَتْ
دُمُوعُهُ الْكَرِيمَةُ عَلَى خَدِّ عُثْمَانَ وَبَكَى الْقَوْمُ ، فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اذْهَبْ عَنْهَا أَيْ الدُّنْيَا أَبَا السَّائِبِ
لَقَدْ خَرَجْت عَنْهَا وَلَمْ تَتَلَبَّسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ } وَسَمَّاهُ صَلَّى
اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّلَفَ الصَّالِحَ " ،
وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ قُبِرَ بِالْبَقِيعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَتَأَمَّلْ زَجْرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَنْ الْجَزْمِ بِالشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ فِي عُثْمَانَ هَذَا مَعَ كَوْنِهِ
شَهِدَ بَدْرًا ، وَقَوْلَهُ : { وَمَا يُدْرِيك لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ
بَدْرٍ ، وَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ } ، وَكَوْنَهُ قَبَّلَهُ وَبَكَى ، وَوَصْفَهُ لَهُ
بِأَعْظَمِ الْأَوْصَافِ وَأَفْضَلِهَا ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَتَلَبَّسْ مِنْ
الدُّنْيَا بِشَيْءٍ ، وَبِأَنَّهُ السَّلَفُ الصَّالِحُ تَعْلَمْ أَنَّهُ
يَنْبَغِي لَك وَإِنْ عَمِلْتَ مِنْ الطَّاعَاتِ مَا عَمِلْتَ أَنْ تَكُونَ عَلَى
حَيِّزِ الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ
، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ .
{ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إنْ
أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا } .
وَنَظِيرُ إنْكَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَذَا عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ إنْكَارُهُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا .
فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ أَنَّهَا قَالَتْ : { دُعِيَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جِنَازَةِ غُلَامٍ مِنْ
الْأَنْصَارِ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لِهَذَا عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ
الْجَنَّةِ لَمْ يُدْرِكْ الشَّرَّ وَلَمْ يَعْمَلْهُ ، قَالَ : أَوْ غَيْرُ
ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ ؟ إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهَا
لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ ، وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهَا
لَهُمْ وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَفِي رِوَايَةٍ خَلَقَهُمْ لَهَا } .
وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ
أَنَّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُقْطَعُ بِدُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ ،
وَاشْتَدَّ إنْكَارُ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ الشَّنِيعَةِ
الْمُخَالِفَةِ لِقَوَاطِعِ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَتَزْيِيفُهُمْ
وَتَغْلِيطُهُمْ لِقَائِلِهَا ، وَلَا مُتَمَسَّكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَنَّ
ظَاهِرَهُ غَيْرُ مُرَادٍ
إجْمَاعًا ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَ
اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ بِأَنَّهُمْ يُقْطَعُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ ،
فَحِينَئِذٍ كَانَ لَا يَنْبَغِي الْجَزْمُ فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ
الْجَزْمُ .
وَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِحَسَبِ مَا شَهِدَتْ بِهِ
النُّصُوصُ الْقَطْعِيَّةُ فَلَا إنْكَارَ عَلَى مَنْ جَزَمَ بِذَلِكَ ،
وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَطْفَالِ الْكُفَّارِ ، وَالْأَصَحُّ مِنْهُ أَنَّهُمْ
فِي الْجَنَّةِ أَيْضًا ، وَرُبَّمَا يَأْتِي لَنَا عَوْدَةٌ إلَى ذَلِكَ ،
وَكَيْفَ لَا يَخَافُ الْمُؤْمِنُونَ كُلُّهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : { شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا الْحَاقَّةُ ،
وَالْوَاقِعَةُ ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ،
وَالْغَاشِيَةُ } .
قَالَ الْعُلَمَاءُ : لَعَلَّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِنَّ
مِنْ التَّخْوِيفِ الْفَظِيعِ وَالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِاعْتِبَارِ
اشْتِمَالِهِنَّ مَعَ قِصَرِهِنَّ عَلَى حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ
وَعَجَائِبِهَا وَفَظَائِعِهَا ، وَأَحْوَالِ الْهَالِكِينَ وَالْمُعَذَّبِينَ
مَعَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هُودٌ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاسْتِقَامَةِ كَمَا
أُمِرَ ، وَهَذَا مِنْ أَصْعَبِ الْمَقَامَاتِ الَّذِي لَا يَتَأَهَّلُ لِلْقِيَامِ
بِهِ إلَّا هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ كَمَقَامِ الشُّكْرِ
إذْ هُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ وَنَفَسٍ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ
اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ حَوَاسِّهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إلَى مَا
خُلِقَ لِأَجْلِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ بِمَا يُنَاسِبُ كُلَّ جَارِحَةٍ
مِنْ جَوَارِحِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ ، وَلِذَا لَمَّا { قِيلَ لَهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُجَاهَدَتِهِ لِنَفْسِهِ وَكَثْرَةِ
بُكَائِهِ وَخَوْفِهِ وَتَضَرُّعِهِ : أَتَفْعَلُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قَالَ :
أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟
} .
وَمِنْ الْعَجَبِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنِّي
لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى } رُبَّمَا
فَهِمَ مِنْهُ بَعْضُ مَنْ لَا تَأَمُّلَ لَهُ أَنَّ فِيهِ رَجَاءً
عَظِيمًا ، وَأَيُّ رَجَاءٍ عَظِيمٍ فِيهِ مَعَ كَوْنِهِ
تَعَالَى شَرَطَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي مَغْفِرَتِهِ أَرْبَعَةَ شُرُوطٍ :
التَّوْبَةَ وَالْإِيمَانَ الْكَامِلَ الْمُرَادَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ
مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } ، وَالْعَمَلَ
الصَّالِحَ ، ثُمَّ سُلُوكَ سَبِيلِ الْمُهْتَدِينَ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ
تَعَالَى وَشُهُودِهِ ، وَإِدَامَةِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَالْإِقْبَالِ
بِالْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَالِهِ وَحَالِهِ وَدُعَائِهِ
وَإِخْلَاصِهِ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَأَمَّا مَنْ
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ } ،
وَلَا تَغْتَرَّ بِمَا قِيلَ : ( عَسَى
) : مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةُ الْوُقُوعِ فَإِنَّ ذَلِكَ
أَكْثَرِيٌّ لَا كُلِّيٌّ .
قَالَ تَعَالَى : { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } ، وَفِرْعَوْنُ لَعَنَهُ اللَّهُ لَمْ يَتَذَكَّرْ
وَلَمْ يَخْشَ تَذَكُّرًا وَخَشْيَةً نَافِعَيْنِ لَهُ ، بَلْ نَبَّهَك اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى أَنَّك إذَا تُبْت تَوْبَةً نَصُوحًا وَآمَنْت إيمَانًا كَامِلًا
وَعَمِلْت صَالِحًا كُنْت عَلَى رَجَاءِ حُصُولِ الْفَلَاحِ لَك وَالْهِدَايَةِ
وَالْقُرْبِ مِنْ حَضْرَةِ الْحَقِّ ؛ فَإِيَّاكَ وَأَنْ تَأْمَنَ مَكْرَ اللَّهِ
وَإِنْ وَصَلْتَ إلَى مَا وَصَلْتَ
.
{ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ
} وَاسْتَحْضِرْ قَوْله تَعَالَى : { لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ }
وَقَوْلَهُ : { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ
إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ
الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } الْآيَةَ ، وقَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ
مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّك حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } وَقَوْلَهُ : {
وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا }
وَقَوْلَهُ : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلَّا
فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } وَقَوْلَهُ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } وَقَوْلَهُ : {
وَالْعَصْرِ إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } .
فَانْظُرْ بِعَيْنِ بَصِيرَتِك وَنُورِ سَرِيرَتِك إلَى
أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ حَكَمَ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ إذْ أَلْ فِيهِ لِلْعُمُومِ
وَالِاسْتِغْرَاقِ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِأَنَّهُ خَاسِرٌ إلَّا مَنْ جَمَعَ
أَرْبَعَةَ أُمُورٍ فَإِنَّهُ الَّذِي يَنْجُو مِنْ الْخُسْرَانِ الْمُؤَدِّي إلَى
الْهَلَاكِ : الْإِيمَانَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ ، وَالتَّوَاصِي بِالْحَقِّ
بِأَنْ يَتَلَبَّسُوا بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ
الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ وَالْأَحْكَامِ وَالشُّرُوطِ فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ
الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ فَلَا يُوجَدُ مِنْهَا شَيْءٌ إلَّا وَقَدْ
أَخْلَصُوا فِيهِ وَابْتَغَوْا بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَحْدَهُ ، وَالتَّوَاصِي
بِالصَّبْرِ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الطَّاعَاتِ وَمَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ
الْمَكَارِهِ وَالْبَلِيَّاتِ ، وَعَنْ الْمَعَاصِي وَمَا لَهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ
وَاللَّذَّاتِ ، فَمَنْ تَحَقَّقَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ كَمَا
ذَكَرْنَا كَانَ عَلَى رَجَاءٍ عَظِيمٍ مِنْ السَّلَامَةِ مِنْ الْخَسَارِ
وَالْعَارِ وَالشَّنَارِ وَالْبَوَارِ ، وَمِنْ الْوُصُولِ إلَى شُهُودِ
الْكَبِيرِ الْمُتَعَالِ ، وَالْفَوْزِ بِرِضَاهُ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ ،
حَقَّقَ اللَّهُ لَنَا ذَلِكَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ .
كَيْفَ يَصِحُّ لِعَاقِلٍ أَنْ يَأْمَنَ سَطَوَاتِ
الْحَقِّ وَانْتِقَامَهُ ، وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ
الرَّحْمَنِ : أَيْ بَيْنَ إرَادَتِهِ تَعَالَى السَّعَادَةَ لِأَقْوَامٍ
وَالشَّقَاوَةَ لِآخَرِينَ ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِأَنَّهُ أَشَدُّ
تَقَلُّبًا مِنْ قِدْرٍ أُغْلِيَ عَلَى مَا فِيهَا
بِأَعْظَمِ الْوَقُودِ ؛ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي سُجُودِهِ { يَا مُقَلِّبَ
الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك } .
وَقَدْ قَالَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ : { إنَّ عَذَابَ
رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } وَلَوْلَا أَنَّهُ تَعَالَى لَطَفَ بِعِبَادِهِ
الْعَارِفِينَ وَالْعُلَمَاءِ الْوَارِثِينَ فَرَوَّحَ قُلُوبَهُمْ بِرُوحِ
الرَّجَاءِ لَاحْتَرَقَتْ أَكْبَادُهُمْ مِنْ نَارِ خَوْفِهِ الَّتِي سَعَّرَهَا
بِمَا أَظْهَرَهُ مِنْ نَوَامِيسِ قَهْرِهِ وَعَدْلِهِ الَّتِي لَوْ انْكَشَفَتْ
حَقَائِقُهَا لَزَهَقَتْ النُّفُوسُ وَتَقَطَّعَتْ الْقُلُوبُ .
وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ
إنَّ مَنْ أَمِنَ السَّلْبَ عِنْدَ مَوْتِهِ سُلِبَ عِنْدَ مَوْتِهِ : أَيْ
جَزَاءً لِأَمْنِهِ مَكْرَ اللَّهِ
.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ : مَاتَ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، فَلَمَّا اشْتَدَّ بِهِ جَعَلَ يَبْكِي فَقَالَ لَهُ
رَجُلٌ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتُرَاكَ كَثِيرَ الذُّنُوبِ ؟ فَرَفَعَ
رَأْسَهُ وَأَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَذُنُوبِي
أَهْوَنُ عِنْدِي مِنْ هَذَا ، إنِّي أَخَافُ أَنْ أُسْلَبَ الْإِيمَانَ قَبْلَ
أَنْ أَمُوتَ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ :
لَمَّا اُحْتُضِرَ أَبِي جَلَسْتُ عِنْدَهُ وَبِيَدِي الْخِرْقَةُ لِأَشَدَّ بِهَا
لَحْيَيْهِ ، فَجَعَلَ يَغْرَقُ ثُمَّ يُفِيقُ وَيَقُولُ : أَلَا ابْعَدْ ،
فَقُلْت : يَا أَبَتِ مَا هَذَا الَّذِي قَدْ لَهِجْتَ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ؟
فَقَالَ : يَا بُنَيَّ أَوَمَا تَعْلَمُ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : إبْلِيسُ
قَائِمٌ بِحِذَائِي يَقُولُ يَا أَحْمَدُ فُتَّنِي ، فَأَقُولُ أَلَا ابْعَدْ
حَتَّى أَمُوتَ .
وَكَانَ سَهْلٌ يَقُولُ : الْمَرِيدُ يَخَافُ أَنْ
يُبْتَلَى بِالْمَعَاصِي ، وَالْعَارِفُ يَخَافُ أَنْ يُبْتَلَى بِالْكُفْرِ .
وَيُرْوَى أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ شَكَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْجُوعَ
وَالْعُرْيَ ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ : عَبْدِي أَمَا رَضِيتَ أَنْ
عَصَمْتُ قَلْبَك عَنْ أَنْ تَكْفُرَ
بِي حَتَّى تَسْأَلَنِي الدُّنْيَا ، فَأَخَذَ
التُّرَابَ فَوَضَعَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ : بَلَى قَدْ رَضِيتُ يَا رَبِّ فَاعْصِمْنِي
مِنْ الْكُفْرِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا خَوْفَ الْعَارِفِينَ مِنْ سُوءِ
الْخَاتِمَةِ مَعَ رُسُوخِ أَقْدَامِهِمْ وَقُوَّةِ إيمَانِهِمْ ، فَكَيْفَ لَا
يَخَافُ ذَلِكَ الضُّعَفَاءُ ؟
.
قَالَ الْعُلَمَاءُ : وَلِسُوءِ الْخَاتِمَةِ عَلَامَاتٌ
تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمَوْتِ مِثْلُ الْبِدْعَةِ ؛ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَهْلُ الْبِدْعَةِ كِلَابُ أَهْلِ
النَّارِ فِي النَّارِ } .
وَمِثْلُ نِفَاقِ الْعَمَلِ ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ
إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { آيَةُ الْمُنَافِقِ
ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ
خَانَ ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ } وَلِذَلِكَ اشْتَدَّ خَوْفُ
السَّلَفِ مِنْهُ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْ
النِّفَاقِ كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ
مِنْ خُشُوعِ النِّفَاقِ ، قِيلَ : وَمَا خُشُوعُ النِّفَاقِ ؟ قَالَ : أَنْ يُرَى
الْجَسَدُ خَاشِعًا وَالْقَلْبُ فَاجِرًا .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ :
إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي
عَيْنِكُمْ مِنْ الشَّعْرِ كُنَّا نَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُوبِقَاتِ .
وَرَوَى الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ إمَامُ
الشَّافِعِيَّةِ فِي زَمَنِهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ : { أَوْصَانِي حَبِيبِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ هُنَّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، قَالَ
لِي : يَا أَبَا ذَرٍّ جَدِّدْ السَّفِينَةَ فَإِنَّ الْبَحْرَ عَمِيقٌ : يَعْنِي الدُّنْيَا
، وَخَفِّفْ الْحِمْلَ فَإِنَّ السَّفَرَ بَعِيدٌ ، وَاحْمِلْ الزَّادَ فَإِنَّ
الْعَقَبَةَ طَوِيلَةٌ ، وَأَخْلِصْ الْعَمَلَ فَإِنَّ النَّاقِدَ بَصِيرٌ } .
وَسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
عَنْ
الْخَشْيَةِ فَقَالَ : هِيَ أَنْ تَخْشَى اللَّهَ
تَعَالَى حَتَّى تَحُولَ خَشْيَتُهُ بَيْنَك وَبَيْنَ مَعَاصِيهِ ، فَهَذِهِ هِيَ
خَشْيَتُهُ .
وَأَمَّا الْغِرَّةُ بِاَللَّهِ : فَهِيَ أَنْ
يَتَمَادَى الرَّجُلُ فِي الْمَعْصِيَةِ وَيَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْمَغْفِرَةَ .
وَدَخَلَ بَعْضُهُمْ مُتَنَزَّهًا فَخَطَرَ فِي سِرِّهِ
أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ مَعْصِيَةً ، وَقَالَ مَنْ يَرَانِي ؟ فَسَمِعَ صَوْتًا
مُزْعِجًا { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } ؟ وَقَالَ
سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ
} وَهُوَ أَنْ يَدُومَ عَلَى الْمَعَاصِي وَيَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ .
وَقَالَ بِشْرٌ لِلْفُضَيْلِ : عِظْنِي يَرْحَمُك اللَّهُ
، فَقَالَ : مَنْ خَافَ اللَّهَ تَعَالَى دَلَّهُ الْخَوْفُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ .
وَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى طَاوُسٍ فَخَرَجَ لَهُ شَيْخٌ
فَقَالَ لَهُ أَنْتَ طَاوُسٌ ؟ قَالَ : لَا ، أَنَا ابْنُهُ ، قَالَ : إنْ كُنْتَ
ابْنَهُ لَقَدْ خَرَّفَ أَبُوك ، فَقَالَ : إنَّ الْعَالِمَ لَا يُخَرِّفُ ، ثُمَّ
قَالَ : إذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ فَأَوْجِزْ ، فَدَخَلَ فَقَالَ إذَا سَأَلْتَ
فَأَوْجِزْ فَقَالَ : لَئِنْ أَوْجَزَ لِي أَوْجَزْتُ ، فَقَالَ إنِّي مُعَلِّمُك
فِي مَجْلِسِي هَذَا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْقُرْآنَ ، فَقَالَ لَئِنْ
عَلَّمْتَنِي هَذِهِ الثَّلَاثَةَ لَا أَسْأَلُك عَنْ شَيْءٍ ، فَقَالَ : خِفْ
اللَّهَ مَخَافَةً حَتَّى لَا يَكُونَ عِنْدَك شَيْءٌ أَخْوَفَ عِنْدَك مِنْهُ ، وَارْجُهُ
رَجَاءً أَشَدَّ مِنْ خَوْفِك إيَّاهُ ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ
لِنَفْسِك .
وَيُؤَيِّدُ قَوْلَهُ : - إنَّ الْعَالِمَ لَا يُخَرِّفُ
- قَوْلُ عِكْرِمَةَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلَى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ } مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ : - أَيْ بِحَقِّهِ - لَا يَصِلُ
لِهَذِهِ الْحَالَةِ ، فَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْعَالِمِ لَا يُخَرِّفُ أَنَّهُ
لَا يَصِلُ إلَى خَرَفِ الْعَوَامّ مِنْ عَوْدِ الْكَبِيرِ كَالطِّفْلِ فِي
سَائِرِ أَحْوَالِهِ ، بَلْ أَقْبَحَ مِنْهُ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُصَانُ
عَنْهُ الْعُلَمَاءُ بِاَللَّهِ
.
وَفَسَّرَ مُجَاهِدٌ قَوْله تَعَالَى : { وَلِمَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ
جَنَّتَانِ }
فَقَالَ : هُوَ الَّذِي يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ
فَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فَيَدَعُهَا وَيَتْرُكُهَا خَوْفًا وَحَيَاءً مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى .
وَرُوِيَ أَنَّ شَابًّا تَقِيًّا عَابِدًا مُلَازِمًا لِلْمَسْجِدِ
فِي زَمَنِ عُمَرَ أَحَبَّتْهُ امْرَأَةٌ فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا حَتَّى
اخْتَلَى بِهَا ثُمَّ ذَكَرَ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ فَخَرَّ مَغْشِيًّا
عَلَيْهِ فَأَخْرَجَتْهُ وَأَلْقَتْهُ عَلَى بَابِهَا فَجَاءَ أَبُوهُ وَحَمَلَهُ
إلَى بَيْتِهِ فَاصْفَرَّ وَارْتَعَدَ حَتَّى مَاتَ فَجُهِّزَ وَدُفِنَ فَوَقَفَ
عُمَرُ عَلَى شَفِيرِ قَبْرِهِ وَقَرَأَ : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ
جَنَّتَانِ } فَنُودِيَ مِنْ قَبْرِهِ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَانِيهِمَا يَا
عُمَرُ وَأَعْطَانِي الرِّضَا .
عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ قَالَ : مِنْ أَعْظَمِ الِاغْتِرَارِ
أَنَّ الْمُذْنِبَ يَرْجُو الْعَفْوَ مِنْ غَيْرِ نَدَامَةٍ ، وَيَتَوَقَّعُ
الْقُرْبَ مِنْ اللَّهِ بِغَيْرِ طَاعَةٍ ، وَيَنْتَظِرُ الْجَزَاءَ بِلَا عَمَلٍ
وَيَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ مَعَ الْإِفْرَاطِ
وَأَعْظَمُ حَامِلٍ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ تَعَالَى
وَخَشْيَةِ سَطْوَتِهِ الْعِلْمُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا يَخْشَى
اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } وَمِنْ ثَمَّ غَلَبَ الْخَوْفُ عَلَى
عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ حَتَّى قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : لَيْتَنِي كُنْتُ شَعْرَةً فِي صَدْرِ مُؤْمِنٍ .
وَقَالَ عُمَرُ عِنْدَ مَوْتِهِ : الْوَيْلُ لِعُمَرَ
إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : لَيْتَنِي إذَا مِتُّ لَا
أُبْعَثُ .
وَقَدْ يَسْتَشْكِلُ هَذَا التَّمَنِّي بِمَا مَرَّ فِي
الْمُكَفِّرَاتِ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ التَّمَنِّي
، بَلْ إظْهَارَ أَنَّ لَهُ قَبَائِحَ يَخَافُ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا بَعْدَ
الْبَعْثِ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِأُسَامَةَ حِبِّ رَسُولِ
اللَّهِ وَابْنِ حِبِّهِ حَيْثُ قَتَلَ مَنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ ظَنًّا أَنَّهُ
إنَّمَا نَطَقَ بِهِمَا اتِّقَاءً لَا حَقِيقَةً فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَاتَبَهُ وَكَرَّرَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ : {
هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ } قَالَ أُسَامَةُ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ
أَكُنْ أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ الْكُفْرَ وَلَا تَأْخِيرَ
إسْلَامِهِ حَقِيقَةً إلَى بَعْدِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ ، وَإِنَّمَا تَمَنَّى
سَبْقَ هَذِهِ الْفِعْلَةِ مِنْهُ لِإِسْلَامِهِ حَتَّى يُكَفِّرَهَا الْإِسْلَامُ
فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
قِيلَ : وَلَمَّا بَعُدَ عَنْ الْعِلْمِ أَقْوَامٌ لَاحَظُوا
أَعْمَالَهُمْ وَاتَّفَقَ لِبَعْضِهِمْ مِنْ الْأَلْطَافِ مَا يُشْبِهُ
الْكَرَامَاتِ انْبَسَطُوا بِالدَّعَاوَى ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا طَرِيقَ السَّلَفِ
الصَّالِحِ فِي تَرْكِ الدَّعَاوَى رَأْسًا حَتَّى نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ
قَالَ : وَدِدْت أَنْ قَدْ قَامَتْ الْقِيَامَةُ حَتَّى أَنْصِبَ خَيْمَتِي عَلَى
جَهَنَّمَ ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ : وَلِمَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : إنِّي أَعْلَمُ أَنَّ
جَهَنَّمَ إذَا رَأَتْنِي تَخْمُدُ فَأَكُونُ رَحْمَةً لِلْخَلْقِ .
وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْكَلَامِ وَأَفْحَشِهِ لِأَنَّهُ
يَتَضَمَّنُ تَحْقِيرَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ شَأْنَهُ مِنْ أَمْرِ النَّارِ ،
فَإِنَّهُ تَعَالَى بَالَغَ
فِي وَصْفِهَا فَقَالَ : { فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا
النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَان
بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ
: { نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي تُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ
جَهَنَّمَ قَالُوا وَاَللَّهِ إنْ كَانَتْ نَارُنَا لَكِفَايَةً يَا رَسُولَ
اللَّهِ .
قَالَ : فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ
وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا : { يُؤْتَى
بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ
سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا } .
وَلَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ كَانَ
جَالِسًا وَعِنْدَهُ سِرَاجٌ فَخَطَرَتْ لَهُ مَعْصِيَةٌ فَقَالَ لِنَفْسِهِ :
أَنَا أَجْعَلُ أُصْبُعِي فِي هَذِهِ الْفَتِيلَةِ فَإِنْ صَبَرْتِ عَلَيْهَا
أَطَعْتُكِ فِي هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ أُصْبُعَهُ فِي النَّارِ
فَصَاحَ صَيْحَةً مُزْعِجَةً فَقَالَ : يَا عَدُوَّةَ اللَّهِ إذَا لَمْ تَصْبِرِي
عَلَى نَارِ الدُّنْيَا هَذِهِ الَّتِي طَفِئَتْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَكَيْفَ
تَصْبِرِينَ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ ؟ وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ
قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ : خَوِّفْنَا يَا كَعْبُ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
لَوْ وَافَيْتَ الْقِيَامَةَ بِعَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَازْدَرَيْت عَمَلَك
مِمَّا تَرَى ، فَأَطْرَقَ عُمَرُ مَلِيًّا ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ : زِدْنَا يَا كَعْبُ .
قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ فُتِحَ مِنْ
جَهَنَّمَ قَدْرُ مَنْخَرِ ثَوْرٍ بِالْمَشْرِقِ ، وَرَجُلٌ بِالْمَغْرِبِ لَغَلَى
دِمَاغُهُ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ حَرِّهَا ، فَأَطْرَقَ عُمَرُ مَلِيًّا ، ثُمَّ
أَفَاقَ فَقَالَ : زِدْنَا يَا كَعْبُ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ
جَهَنَّمَ لَتَزْفِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا
نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إلَّا خَرَّ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَيَقُولُ : رَبِّ نَفْسِي
نَفْسِي لَا أَسْأَلُك الْيَوْمَ غَيْرَ نَفْسِي وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ
أَيْضًا : إذَا كَانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ
وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، وَنَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ فَصَارَتْ
صُفُوفًا فَيَقُولُ يَا جِبْرِيلُ ائْتِنِي بِجَهَنَّمَ فَيَأْتِي بِهَا جِبْرِيلُ
، تُقَادُ بِسَبْعِينَ أَلْفَ زِمَامٍ حَتَّى إذَا كَانَتْ مِنْ الْخَلَائِقِ
عَلَى قَدْرِ مِائَةِ عَامٍ زَفَرَتْ زَفْرَةً طَارَتْ لَهَا أَفْئِدَةُ
الْخَلَائِقِ ثُمَّ زَفَرَتْ ثَانِيَةً فَلَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا
نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ ، ثُمَّ تَزْفِرُ الثَّالِثَةَ فَتَبْلُغُ
الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ، وَتَفْزَعُ الْعُقُولُ فَيَفْزَعُ كُلُّ امْرِئٍ إلَى
عَمَلِهِ ، حَتَّى إنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ يَقُولُ : بِخُلَّتِي لَا أَسْأَلُك إلَّا
نَفْسِي ، وَيَقُولُ مُوسَى : بِمُنَاجَاتِي لَا أَسْأَلُك إلَّا نَفْسِي ، وَإِنَّ عِيسَى
لَيَقُولُ : بِمَا أَكْرَمْتَنِي لَا أَسْأَلُك إلَّا نَفْسِي لَا أَسْأَلُك مَرْيَمَ الَّتِي
وَلَدَتْنِي .
وَفِي حَدِيثٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : { يَا جِبْرِيلُ مَا لِي لَا أَرَى مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا ؟ قَالَ : مَا
ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتْ النَّارُ ، وَمَا جَفَّتْ لِي عَيْنٌ مُنْذُ
خُلِقَتْ جَهَنَّمُ مَخَافَةَ أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَيَجْعَلَنِي
فِيهَا } وَبَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ مَا
يُبْكِيك ؟ قَالَ : أَنْبَأَنِي اللَّهُ أَنِّي وَارِدٌ النَّارَ وَلَمْ
يُنْبِئْنِي أَنِّي خَارِجٌ مِنْهَا
.
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَةَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ
وَالصَّحَابَةِ وَهُمْ الْمُطَهَّرُونَ مِنْ الْأَدْنَاسِ ، وَهَذَا
انْزِعَاجَهُمْ مِنْ النَّارِ ، فَكَيْفَ هَانَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُدَّعِي
الْمَغْرُورِ ، وَسَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّ خَيْمَتَهُ تُطْفِئُ جَهَنَّمَ ،
وَأَنَّهُ يَقْطَعُ لِنَفْسِهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ بِالنَّجَاةِ وَهِيَ
لَيْسَتْ إلَّا لِلْعَشَرَةِ الَّذِينَ بَشَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ
الْخَوْفِ مَا اقْتَضَى أَنْ يَقُولَ الصِّدِّيقُ وَهُوَ أَكْبَرُهُمْ : لَيْتَنِي
كُنْت شَعْرَةً فِي صَدْرِ مُؤْمِنٍ ، وَأَنْ يَقُولَ عُمَرُ : الْوَيْلُ لِعُمَرَ
إنْ
لَمْ يُغْفَرْ لَهُ .
وَفِي حَدِيثٍ { مَنْ قَالَ : إنِّي فِي الْجَنَّةِ
فَهُوَ فِي النَّارِ } وَلَسْنَا نَعْنِي بِالْخَوْفِ رِقَّةَ النِّسَاءِ فَتَبْكِي
سَاعَةً ثُمَّ تَتْرُكُ الْعَمَلَ وَإِنَّمَا نُرِيدُ خَوْفًا يَسْكُنُ الْقَلْبَ
حَتَّى يَمْنَعَ صَاحِبَهُ عَنْ الْمَعَاصِي وَيَحُثَّهُ عَلَى مُلَازَمَةِ الطَّاعَةِ
، فَهَذَا هُوَ الْخَوْفُ النَّافِعُ لَا خَوْفُ الْحَمْقَى الَّذِينَ إذَا
سَمِعُوا مَا يَقْتَضِي الْخَوْفَ مِمَّا مَرَّ وَغَيْرِهِ لَمْ يَزِيدُوا عَلَى
أَنْ يَقُولُوا : يَا رَبِّ سَلِّمْ نَعُوذُ بِاَللَّهِ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ
مُصِرُّونَ عَلَى الْقَبَائِحِ ، وَالشَّيْطَانُ يَسْخَرُ بِهِمْ كَمَا تَسْخَرُ
أَنْتَ بِمَنْ رَأَيْتَهُ وَقَدْ قَصَدَهُ سَبُعٌ ضَارٍ وَهُوَ إلَى جَانِبِ
حِصْنٍ مَنِيعٍ ؛ بَابُهُ مَفْتُوحٌ لَهُ ؛ فَلَمْ يَفْزَعْ إلَيْهِ وَإِنَّمَا
اقْتَصَرَ عَلَى : رَبِّ سَلِّمْ حَتَّى جَاءَهُ السَّبُعُ فَأَكَلَهُ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كَانَ رَجُلٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ ،
فَلَمَّا حَضَرَهُ قَالَ لِبَنِيهِ : إذَا أَنَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي
وَاطْحَنُونِي ثُمَّ ذَرُونِي فِي الرِّيحِ ، فَوَاَللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ
عَلَيَّ ، أَيْ لَئِنْ أَرَادَ تَعْذِيبِي - وَالتَّعْبِيرُ بِالْقُدْرَةِ عَنْ الْإِرَادَةِ
سَائِغٌ - لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا ، فَلَمَّا مَاتَ
فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَقَالَ اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ
فَفَعَلَتْ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ قَالَ مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْتَ ؟ قَالَ
يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ فَغَفَرَ لَهُ
} .
وَفِي رِوَايَةٍ " مَخَافَتُك " .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا قَالَ عُقْبَةُ
لِحُذَيْفَةَ : أَلَا تُحَدِّثُنَا بِمَا سَمِعْتَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : { إنَّ رَجُلًا حَضَرَهُ الْمَوْتُ
فَلَمَّا أَيِسَ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْصَى أَهْلَهُ إذَا مِتُّ فَاجْمَعُوا لِي
حَطَبًا كَثِيرًا ثُمَّ أَوْقِدُوا نَارًا حَتَّى إذَا أَكَلَتْ لَحْمِي
وَخَلَصَتْ إلَى عَظْمِي فَخُذُوهُ وَاطْحَنُوهُ فَذَرُّونِي فِي يَوْمٍ رَائِحٍ
فَجَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ لِمَ فَعَلْتَ ؟
قَالَ خَشِيتُك فَغَفَرَ لَهُ } .
قَالَ عُقْبَةُ : وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ وَفِيهِ
أَيْضًا : { إنَّ رَجُلًا كَانَ قَبْلَكُمْ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَقَالَ
لِبَنِيهِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ : أَيُّ أَبٍ كُنْت لَكُمْ ؟ قَالُوا
خَيْرُ أَبٍ قَالَ : فَإِنِّي لَمْ أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ، فَإِذَا مِتُّ
فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ، فَفَعَلُوا
فَجَمَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ مَخَافَتُك
فَتَلَقَّاهُ بِرَحْمَتِهِ } .
الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي الْكَبَائِرِ الْبَاطِنَةِ
وَمَا يَتْبَعُهَا .
وَقَدَّمْتُهَا لِأَنَّهَا أَخْطَرُ ، وَمُرْتَكِبَهَا
أَذَلُّ الْعُصَاةِ وَأَحْقَرُ ، وَلِأَنَّ مُعْظَمَهَا أَعَمُّ وُقُوعًا
وَأَسْهَلُ ارْتِكَابًا وَأَمَرُّ يَنْبُوعًا فَقَلَّمَا يَنْفَكُّ إنْسَانٌ عَنْ
بَعْضِهَا لِلتَّهَاوُنِ فِي أَدَاءِ فَرْضِهَا ، فَلِذَلِكَ كَانَتْ الْعِنَايَةُ
بِهَذَا الْقِسْمِ أَوْلَى وَكَانَ صَرْفُ عِنَانِ الْفِكْرِ إلَى تَلْخِيصِهِ وَتَحْرِيرِهِ
أَحَقَّ وَأَحْرَى .
وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ : كَبَائِرُ
الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ كَبَائِرِ الْجَوَارِحِ لِأَنَّهَا كُلَّهَا تُوجِبُ
الْفِسْقَ وَالظُّلْمَ ، وَتَزِيدُ كَبَائِرُ الْقُلُوبِ بِأَنَّهَا تَأْكُلُ
الْحَسَنَاتِ وَتُوَالِي شَدَائِدَ الْعُقُوبَاتِ .
وَلَمَّا ذَكَرَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ الْكَبَائِرَ
الْبَاطِنَةَ وَأَوْصَلَهَا إلَى أَكْثَرَ مِنْ سِتِّينَ قَالَ : وَالذَّمُّ عَلَى
هَذِهِ الْكَبَائِرِ أَعْظَمُ مِنْ الذَّمِّ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ
وَالْقَتْلِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ لِعِظَمِ مَفْسَدَتِهَا وَسُوءِ أَثَرِهَا
وَدَوَامِهِ ، فَإِنَّ آثَارَهَا تَدُومُ بِحَيْثُ تَصِيرُ حَالًا لِلشَّخْصِ
وَهَيْئَةً رَاسِخَةً فِي قَلْبِهِ بِخِلَافِ آثَارِ مَعَاصِي الْجَوَارِحِ
فَإِنَّهَا سَرِيعَةُ الزَّوَالِ بِمُجَرَّدِ الْإِقْلَاعِ مَعَ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ
وَالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ { إنَّ الْحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } .
( الْكَبِيرَةُ الْأُولَى : الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ )
أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ وَخَتَمَ لَنَا بِالْحُسْنَى فِي
عَافِيَةٍ بِلَا مِحْنَةٍ إنَّهُ أَكْرَمُ كَرِيمٍ وَأَرْحَمُ رَحِيمٍ .
اعْلَمْ وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ لِمَرْضَاتِهِ
وَأَجْزَلَ عَلَيْنَا هَوَاطِلَ جُودِهِ وَسَوَابِغَ هِبَاتِهِ أَنَّهُ مَرَّ
أَنَّ كُلًّا مِنْ تَعَارِيفِ الْكَبِيرَةِ السَّابِقَةِ ظَاهِرُهُ إنَّمَا هُوَ
تَعْرِيفٌ لِلْكَبِيرَةِ الْمُصَاحِبَةِ لِلْإِيمَانِ ، فَلِذَلِكَ بَدَأَ
كَثِيرُونَ فِي تَعْدَادِهَا بِمَا يَلِي الْكُفْرَ وَهُوَ الْقَتْلُ ، وَلَمْ
نُجْرِ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ مَقْصُودَنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ اسْتِيفَاءُ الْكَلَامِ
عَلَى سَائِرِ مَا قِيلَ : إنَّهُ كَبِيرَةٌ مَعَ
بَيَانِ مَرَاتِبِهَا وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ .
وَلَمَّا كَانَ الْكُفْرُ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ كَانَ
أَحَقَّ بِأَنْ يُبْسَطَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَى أَحْكَامِهِ فَنَقُولَ :
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاَللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
} .
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟
الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ
فَقَالَ : أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ
يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَيْضًا : { اجْتَنِبُوا
السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ وَذَكَرَ مِنْهَا الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ { الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ
الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ } الْحَدِيثَ .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ
{ الْكَبَائِرُ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ
الْوَالِدَيْنِ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَوْلُ الزُّورِ }
، وَكَوْنُهُ أَكْبَرَهُنَّ إنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ مَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ أَكْبَرُ مِنْهَا كَالشِّرْكِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا .
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : { الْكَبَائِرُ تِسْعٌ
وَأَعْظَمُهُنَّ إشْرَاكٌ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { اجْتَنِبُوا الْكَبَائِرَ
السَّبْعَ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ .
وَالْبَزَّارُ : { إنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ
الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ
وَمَنْعُ الْفَحْلِ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ { أَلَا
أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَوْلُ الزُّورِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { الْكَبَائِرُ سَبْعٌ الْإِشْرَاكُ
بِاَللَّهِ } الْحَدِيثَ .
وَذَكَرَ مِنْهَا الْأَعْرَابِيَّةَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْبُخَارِيُّ : { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ
بِاَللَّهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ وَعُقُوقَ
الْوَالِدَيْنِ وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ
يَمِينَ صَبْرٍ فَأَدْخَلَ فِيهَا جَنَاحَ بَعُوضَةٍ إلَّا جُعِلَتْ نُكْتَةً فِي
قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ .
: { مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ
وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : {
أَلَا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ الْمُصَلُّونَ وَمَنْ يُقِيمُ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسَ الَّتِي كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ ، وَيَصُومُ رَمَضَانَ
وَيَحْتَسِبُ صَوْمَهُ يَرَى أَنَّهُ عَلَيْهِ حَقٌّ ، وَيُؤْتِي زَكَاةَ مَالِهِ
طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ أَيَحْتَسِبُهَا وَيَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ الَّتِي
نَهَى اللَّهُ عَنْهَا ؟ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : هِيَ تِسْعٌ
أَعْظَمُهُنَّ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ بِغَيْرِ حَقٍّ ،
وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ ، وَالسِّحْرُ ، وَأَكْلُ
مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ
، وَاسْتِحْلَالُ الْبَيْتِ الْحَرَامِ قِبْلَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لَا
يَمُوتُ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ هَؤُلَاءِ الْكَبَائِرَ ، وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ
وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ إلَّا رَافَقَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي بُحْبُوحَةِ جَنَّةٍ ؛ أَبْوَابُهَا مَصَارِيعُ الذَّهَبِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اذْهَبْ
يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، وَفِي رِوَايَةٍ قُمْ يَا عُمَرُ فَنَادِ فِي النَّاسِ :
إنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا الْمُؤْمِنُونَ } رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا
ابْنَ عَوْفٍ ارْكَبْ فَرَسَك ثُمَّ نَادِ إنَّ الْجَنَّةَ لَا تَحِلُّ إلَّا
لِمُؤْمِنٍ } رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا
بِلَالُ قُمْ فَأَذِّنْ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ ، وَإِنَّ اللَّهَ
لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ } رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد
وَابْنُ مَاجَهْ إنَّهُ { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ
وَإِنَّ اللَّهَ لَيُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ } رَوَاهُ
أَحْمَدُ .
وَالشَّيْخَانِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ }
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالْأَرْبَعَةُ { مَنْ ارْتَدَّ عَنْ دِينِهِ
فَاقْتُلُوهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ { أَسْلِمْ وَإِنْ كُنْت كَارِهًا } .
وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالضِّيَاءُ : {
آمُرُكُمْ بِثَلَاثٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ : أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا
تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا وَتُطِيعُوا لِمَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ
ثَلَاثٍ : قِيلَ وَقَالَ : وَإِضَاعَةِ الْمَالِ وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ } .
وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ { أَيُّمَا رَجُلٍ ارْتَدَّ
عَنْ الْإِسْلَامِ فَادْعُهُ إلَيْهِ فَإِنْ تَابَ فَاقْبَلْ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ
يَتُبْ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ
فَادْعُهَا فَإِنْ تَابَتْ فَاقْبَلْ مِنْهَا وَإِنْ أَبَتْ فَاسْبِهَا } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
، وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ ، وَالْأَصَحُّ
عِنْدَنَا خِلَافُهُ لِعُمُومِ الْخَبَرِ الصَّحِيحِ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ
فَاقْتُلُوهُ } وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ
{ مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ أَوْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ
فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ بِعَذَابِ اللَّهِ } يَعْنِي
النَّارَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ
، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ تَوْبَةَ عَبْدٍ كَفَرَ بَعْدَ إسْلَامِهِ ،
أَيْ مَا دَامَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ { مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ
فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا } يَعْنِي النَّارَ .
وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { مَنْ غَيَّرَ
دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ }
.
وَالطَّبَرَانِيُّ { مَنْ خَالَفَ دِينُهُ دِينَ
الْمُسْلِمِينَ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ ، وَإِذَا شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا أَنْ
يَأْتِيَ شَيْئًا فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّهُ } .
تَنْبِيهَاتٌ مِنْهَا : بَيَانُ الشِّرْكِ وَذِكْرُ
جُمْلَةٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ لِكَثْرَةِ وُقُوعِهَا فِي النَّاسِ وَعَلَى أَلْسِنَةِ
الْعَامَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا كَذَلِكَ ، فَإِذَا بَانَ
لَهُمْ بَعْضُهَا فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَجْتَنِبُوهَا لِئَلَّا تَحْبَطَ
أَعْمَالُهُمْ وَيُخَلَّدُوا فِي أَعْظَمِ الْعَذَابِ وَأَشَدِّ الْعِقَابِ ،
وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَمْرٌ مُهِمٌّ جِدًّا ، فَإِنَّ مَنْ ارْتَكَبَ مُكَفِّرًا
تَحْبَطُ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْوَاجِبِ مِنْهَا
عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ كَأَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَدْ تَوَسَّعَ أَصْحَابُهُ فِي الْمُكَفِّرَاتِ
وَعَدُّوا مِنْهَا جُمَلًا مُسْتَكْثَرَةً ، جِدًّا وَبَالَغُوا فِي ذَلِكَ
أَكْثَرَ مِنْ بَقِيَّةِ أَئِمَّةِ الْمَذَاهِبِ مَعَ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ
الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْأَعْمَالَ وَبِأَنَّ مَنْ ارْتَدَّ بَانَتْ مِنْهُ
زَوْجَتُهُ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ ، فَمَعَ هَذَا التَّشْدِيدِ الْعَظِيمِ
بَالَغُوا فِي الِاتِّسَاعِ فِي الْمُكَفِّرَاتِ فَتَعَيَّنَ عَلَى كُلِّ ذِي
مُسْكَةٍ مِنْ دِينِهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَالُوهُ حَتَّى يَجْتَنِبَهُ .
وَلَا يَقَعَ فِيهِ فَيُحْبِطَ عَمَلَهُ ، وَيَلْزَمَهُ
قَضَاؤُهُ ، وَتَبِينَ زَوْجَتُهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ ، بَلْ عِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرِّدَّةَ وَإِنْ لَمْ تُحْبِطْ
الْعَمَلَ لَكِنَّهَا تُحْبِطُ ثَوَابَهُ فَلَمْ يَبْقَ الْخِلَافُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ غَيْرِهِ إلَّا فِي الْقَضَاءِ فَقَطْ ، وَالْأَكْثَرُونَ وَإِنْ لَمْ يُقَلِّدُوهُمْ
لَكِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لِلدِّينِ وَالنَّفْسِ الْمَأْمُورَ بِهِ يُوجِبُ
الِاحْتِيَاطَ وَمُرَاعَاةَ الْخِلَافِ مَا أَمْكَنَ سِيَّمَا فِي مِثْلِ هَذَا
الْبَابِ الضَّيِّقِ الشَّدِيدِ الْحَرَجِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ لَا
أَشَدَّ مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ اسْتَوْفَيْتُ جَمِيعَ مَا قَالُوهُ مِمَّا هُوَ
مُعْتَمَدٌ وَغَيْرُ مُعْتَمَدٍ عِنْدَهُمْ ، وَمَا قَالَهُ غَيْرُهُمْ مِنْ
بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ فِي كِتَابِي الْآتِي ذِكْرُهُ أُشِيرُ هُنَا إلَى
جُمْلَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ أَرَادَ الْإِحَاطَةَ بِجَمِيعِ تِلْكَ الْفُرُوعِ فَعَلَيْهِ
بِالْكِتَابِ الْمَذْكُورِ .
فَمِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ أَنْ يَعْزِمَ
الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ فِي زَمَنٍ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ أَوْ يُعَلِّقَهُ
بِاللِّسَانِ أَوْ الْقَلْبِ عَلَى شَيْءٍ وَلَوْ مُحَالًا عَقْلِيًّا فِيمَا
يَظْهَرُ فَيَكْفُرُ حَالًا أَوْ يَعْتَقِدُ مَا يُوجِبُهُ أَوْ يَفْعَلُ أَوْ
يَتَلَفَّظُ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَصَدَرَ عَنْ اعْتِقَادٍ أَوْ
عِنَادٍ أَوْ اسْتِهْزَاءٍ كَأَنْ يَعْتَقِدَ قِدَمَ الْعَالَمِ وَلَوْ
بِالنَّوْعِ .
أَوْ نَفْيَ مَا هُوَ ثَابِتٌ لِلَّهِ تَعَالَى
بِالْإِجْمَاعِ الْمَعْلُومِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَإِنْكَارِ أَصْلٍ
نَحْوُ عِلْمِهِ أَوْ قُدْرَتِهِ أَوْ كَوْنِهِ يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّ ، أَوْ
إثْبَاتَ مَا هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْهُ كَذَلِكَ كَاللَّوْنِ ، أَوْ أَنَّهُ
مُتَّصِلٌ بِالْعَالَمِ ، أَوْ خَارِجٌ عَنْهُ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ نِزَاعٍ .
وَتَفْصِيلُ حَاصِلِهِ : أَنَّ النَّقْصَ إمَّا أَنْ
يُعْتَقَدَ اتِّصَافُ اللَّهِ -
عَزَّ وَجَلَّ وَتَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ - بِهِ
صَرِيحًا أَوْ لَازِمًا ، فَالْأَوَّلُ كُفْرٌ إجْمَاعًا ، وَالثَّانِي كَذَلِكَ
عَلَى خِلَافٍ فِيهِ ، الْأَصَحُّ مِنْهُ عِنْدَنَا عَدَمُ الْكُفْرِ ، فَعُلِمَ أَنَّ
نَحْوَ الْمُجَسِّمِ أَوْ الْجَوْهَرِيِّ لَا يُكَفَّرُ بِمَا يَلْزَمُ مِنْ
مَقَالَتِهِ مِنْ النَّقْصِ إلَّا إنْ اعْتَقَدَهُ أَوْ صَرَّحَ بِهِ ، وَكَأَنْ
يَسْجُدَ لِمَخْلُوقٍ كَالشَّمْسِ إنْ لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى
عُذْرِهِ وَيَأْتِي هَذَا الْقَيْدُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ ،
وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إلَّا مِنْ كَافِرٍ وَإِنْ كَانَ مُصَرِّحًا بِالْإِسْلَامِ
: كَالْمَشْيِ إلَى الْكَنَائِسِ مَعَ أَهْلِهَا بِزِيِّهِمْ مِنْ الزَّنَانِيرِ
وَغَيْرِهَا ، أَوْ يُلْقِي وَرَقَةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ عِلْمٍ
شَرْعِيٍّ أَوْ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى بَلْ أَوْ اسْمُ نَبِيٍّ أَوْ
مَلَكٍ فِي نَجَاسَةٍ .
قَالَ بَعْضُهُمْ : أَوْ قَذَرٍ طَاهِرٍ كَمَنِيٍّ أَوْ مُخَاطٍ
أَوْ بُصَاقٍ ، أَوْ يُلَطِّخَ ذَلِكَ أَوْ مَسْجِدًا بِنَجَسٍ وَلَوْ مَعْفُوًّا
عَنْهُ أَوْ يَشُكُّ فِي نُبُوَّةِ نَبِيٍّ أُجْمِعَ عَلَيْهَا لَا
كَالْخَضِرِ وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ أَوْ فِي إنْزَالِ
كِتَابٍ كَذَلِكَ : كَالتَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ أَوْ زَبُورِ دَاوُد أَوْ
صُحُفِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَوْ فِي آيَةٍ مِنْ
الْقُرْآنِ مُجْمَعٍ عَلَيْهَا كَالْمُعَوِّذَتَيْنِ ، أَوْ فِي تَكْفِيرِ كُلِّ
قَائِلٍ قَوْلًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى تَضْلِيلِ الْأُمَّةِ ، أَوْ تَكْفِيرِ
الصَّحَابَةِ .
أَوْ فِي مَكَّةَ أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ أَوْ فِي صِفَةِ الْحَجِّ أَوْ هَيْئَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ وَكَذَا
الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ ، أَوْ فِي حُكْمٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ مَعْلُومٍ مِنْ
الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَتَحْرِيمِ الْمَكْسِ .
وَمَشْرُوعِيَّةِ السُّنَنِ كَصَلَاةِ الْعِيدِ ، أَوْ
اسْتَحَلَّ مُحَرَّمًا كَذَلِكَ كَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ بِخِلَافِهَا مَعَ
نَجَاسَةٍ لِلْخِلَافِ فِيهَا ، وَكَإِيذَاءِ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ ذِمِّيٍّ
بِلَا مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ بِالنِّسْبَةِ لِاعْتِقَادِهِ ، أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا
كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ أَوْ يَقُولُ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: إنَّهُ كَانَ أَسْوَدَ ، أَوْ تُوُفِّيَ قَبْلَ أَنْ يَلْتَحِيَ ، أَوْ لَيْسَ
بِقُرَشِيٍّ أَوْ عَرَبِيٍّ أَوْ إنْسِيٍّ ، لِأَنَّ وَصْفَهُ بِغَيْرِ صِفَتِهِ
تَكْذِيبٌ لَهُ ؛ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ أَجْمَعُوا عَلَى
ثُبُوتِهَا لَهُ يَكُونُ إنْكَارُهَا كُفْرًا كَمَا لَوْ جَوَّزَ بَعْثَةَ نَبِيٍّ
بَعْدَهُ ، أَوْ قَالَ : لَا أَدْرِي أَهُوَ الَّذِي بُعِثَ بِمَكَّةَ وَمَاتَ
بِالْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرُهُ ، أَوْ النُّبُوَّةُ مُكْتَسَبَةٌ ، أَوْ أَنَّ
رُتْبَتَهَا يُوصَلُ إلَيْهَا بِصَفَاءِ الْقَلْبِ ، أَوْ الْوَلِيُّ أَفْضَلُ
مِنْ النَّبِيِّ ، أَوْ إنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَدَّعِ نُبُوَّةً أَوْ
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ مَوْتِهِ ، أَوْ يَعِيبُ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمِثْلُهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بَلْ
وَالْمَلَائِكَةِ .
أَوْ يَلْعَنُهُ أَوْ يَسُبُّهُ أَوْ يَسْتَخِفُّ أَوْ
يَسْتَهْزِئُ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهِ كَلَحْسِ الْأَصَابِعِ ، أَوْ
يُلْحِقُ بِهِ نَقْصًا فِي نَفْسِهِ أَوْ نَسَبِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ فِعْلِهِ ،
أَوْ يُعَرِّضُ
ذَلِكَ أَوْ يُشَبِّهُهُ بِشَيْءٍ عَلَى طَرِيقِ الْإِزْرَاءِ
أَوْ التَّصْغِيرِ لِشَأْنِهِ أَوْ الْغَضِّ مِنْهُ ، أَوْ تَمَنَّى لَهُ
مَضَرَّةً أَوْ نَسَبَ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ عَلَى طَرِيقِ
الذَّمِّ أَوْ عَبِثَ فِي جِهَتِهِ الْعَزِيزَةِ بِسُخْفٍ مِنْ الْكَلَامِ
وَهَجْرٍ وَمُنْكَرٍ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٍ أَوْ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا جَرَى
مِنْ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ عَلَيْهِ ، أَوْ غَمَصَهُ بِبَعْضِ الْعَوَارِضِ
الْبَشَرِيَّةِ الْجَائِزَةِ وَالْمَعْهُودَةِ لَدَيْهِ فَيُكَفَّرُ بِوَاحِدٍ
مِمَّا ذُكِرَ إجْمَاعًا فَيُقْتَلُ
.
وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ
، وَقَدْ قَتَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ قَالَ : لَهُ عِنْدَ
صَاحِبِكُمْ وَعَدَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ تَنْقِيصًا لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
أَوْ يَرْضَى بِالْكُفْرِ وَلَوْ ضِمْنًا كَأَنْ يُشِيرَ
عَلَى كَافِرٍ بِأَنْ لَا يُسْلِمَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْهُ ؛ أَوْ يَقُولَ لَهُ
: لَقِّنِّي كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ فَيُؤَخِّرَ ، كَأَنْ يَقُولَ خَطِيبٌ اصْبِرْ
حَتَّى أَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِي ، بِخِلَافِ الدُّعَاءِ ، نَحْوُ لَا رَزَقَهُ
اللَّهُ الْإِيمَانَ أَوْ ثَبَّتَهُ اللَّهُ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ سَلَبَهُ عَنْ فُلَانٍ
الْمُسْلِمِ إنْ أَرَادَ بِتَشْدِيدِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ الرِّضَا أَوْ سُؤَالَ
الْكُفْرِ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ رِضًا بِهِ ، أَوْ يَقُولُ لِمُسْلِمٍ : يَا
كَافِرُ بِلَا تَأْوِيلٍ لِأَنَّهُ سَمَّى الْإِسْلَامَ كُفْرًا ، أَوْ يَسْخَرُ
بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ نَبِيِّهِ كَأَنْ يُصَغِّرَهُ أَوْ بِأَمْرِهِ أَوْ
نَهْيِهِ أَوْ وَعْدِهِ أَوْ وَعِيدِهِ كَأَنْ يَقُولَ لَوْ أَمَرَنِي بِكَذَا
لَمْ أَفْعَلْهُ أَوْ لَوْ جَعَلَ الْقِبْلَةَ هُنَا مَا صَلَّيْتُ إلَيْهَا أَوْ
لَوْ أَعْطَانِي الْجَنَّةَ مَا دَخَلْتُهَا اسْتِخْفَافًا أَوْ عِنَادًا أَوْ
لَوْ آخَذَنِي بِتَرْكِ الصَّلَاةِ مَعَ مَا بِي مِنْ الشِّدَّةِ وَالْمَرَضِ
ظَلَمَنِي .
أَوْ قَالَ ظَالِمٌ لِمَظْلُومِهِ الْقَائِلِ هَذَا
الظُّلْمُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ : أَنَا أَفْعَلُ بِغَيْرِ تَقْدِيرِ اللَّهِ أَوْ
لَوْ شَهِدَ عِنْدِي مَلَكٌ أَوْ نَبِيٌّ مَا صَدَّقْتُهُ أَوْ لَوْ كَانَ فُلَانٌ
نَبِيًّا
مَا آمَنْتُ بِهِ أَوْ إنْ كَانَ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ
صِدْقًا نَجَوْنَا أَوْ كَفَّرَ مُكَذِّبَهُ لِأَنَّ فِيهِ تَنْقِيصًا لِمَرْتَبَةِ
النُّبُوَّةِ .
أَوْ قِيلَ لَهُ قَلِّمْ أَظْفَارَك فَإِنَّهُ سُنَّةٌ ،
فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ وَإِنْ كَانَ سُنَّةً اسْتِهْزَاءً أَوْ قَالَ : لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ لَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، وَمِثْلُهَا فِي
ذَلِكَ سَائِرُ الْأَذْكَارِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، أَوْ الْمُؤَذِّنُ يَكْذِبُ
أَوْ : صَوْتُهُ كَالْجَرَسِ ، وَأَرَادَ تَشْبِيهَهُ بِنَاقُوسِ الْكُفْرِ أَوْ
الِاسْتِخْفَافَ بِالْأَذَانِ ، .
أَوْ سَمَّى اللَّهَ عَلَى مُحَرَّمٍ كَخَمْرٍ اسْتِهْزَاءً
أَوْ لَا أَخَافُ الْقِيَامَةَ اسْتِهْزَاءً أَيْضًا ، أَوْ قَالَ عَنْ اللَّهِ :
إنَّهُ لَا يَتْبَعُ السَّارِقَ نَاسِبًا الْعَجْزَ إلَيْهِ ، أَوْ تَشَبَّهَ
بِالْعُلَمَاءِ أَوْ الْوُعَّاظِ أَوْ الْمُعَلِّمِينَ عَلَى هَيْئَةٍ مُزْرِيَةٍ
بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ حَتَّى يَضْحَكُوا أَوْ يَلْعَبُوا اسْتِخْفَافًا ، أَوْ
قَالَ قَصْعَةُ ثَرِيدٍ خَيْرٌ مِنْ الْعِلْمِ اسْتِخْفَافًا أَيْضًا ، أَوْ قَالَ
مَنْ اشْتَدَّ مَرَضُهُ أَوْ مَاتَ وَلَدُهُ إنْ شِئْت تَوَفَّنِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا
أَوْ أَخَذْت وَلَدِي فَمَا بَقِيَ لَمْ تَفْعَلْهُ ، أَوْ قِيلَ لَهُ يَا كَافِرُ
فَقَالَ نَعَمْ نَاوِيًا غَيْرَ مُجَرَّدِ الْإِجَابَةِ .
أَوْ تَمَنَّى كُفْرًا ثُمَّ إسْلَامًا حَتَّى يُعْطَى
دَرَاهِمَ مَثَلًا أَوْ تَمَنَّى حِلَّ مَا لَمْ يَحِلَّ فِي زَمَنٍ قَطُّ
كَالْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا أَوْ الظُّلْمِ .
أَوْ نَسَبَ اللَّهَ تَعَالَى إلَى جَوْرٍ فِي
التَّحْرِيمِ ، أَوْ لَبِسَ زِيَّ كَافِرٍ مَيْلًا لِدِينِهِ .
أَوْ قَالَ : الْيَهُودُ خَيْرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا
: النَّصْرَانِيَّةُ خَيْرٌ مِنْ الْمَجُوسِيَّةِ ، إلَّا إنْ أَرَادَ
حَقِيقَتَهَا .
أَوْ قَالَ لِمَنْ شَمَّتَ كَبِيرًا يَرْحَمُك اللَّهُ :
لَا تَقُلْ لَهُ هَكَذَا قَاصِدًا أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ الرَّحْمَةِ أَوْ أَجَلُّ
مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ ، أَوْ قَالَ قِنٌّ : لَا أُصَلِّي فَإِنَّ الثَّوَابَ
يَكُونُ لِمَوْلَايَ عَلَى نَظَرٍ فِيهِ ، وَوَاضِحٌ جَهْلُ أَكْثَرِ الْأَرِقَّاءِ
بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَحْظُورٍ فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِمْ بَلْ فِي
عَالِمٍ بِالْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ .
وَحِينَئِذٍ فَلَا نَظَرَ فِيهِ .
أَوْ قِيلَ لَهُ : مَا الْإِيمَانُ ؟ فَقَالَ : لَا
أَدْرِي اسْتِخْفَافًا ، أَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ
اللَّهِ وَرَسُولِ اللَّهِ ، وَأَرَادَ مَحَبَّةَ التَّعْظِيمِ لَا الْمَيْلِ
كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ شُرَّاحُ الْبُخَارِيِّ .
أَوْ أَنْكَرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ ، أَوْ قَذْفَ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلْقُرْآنِ بِخِلَافِ
غَيْرِهِمَا ، أَوْ قَالَ : إنَّهُ يَخْلُقُ فِعْلَ نَفْسِهِ لَا بِالْمَعْنَى
الَّذِي تَقُولُهُ الْمُعْتَزِلَةُ ، أَوْ قَالَ : أَنَا اللَّهُ وَلَوْ مَازِحًا أَوْ
لَا أَدْرِي حَقَّهُ جَحْدًا لِلْوَاجِبَاتِ ، أَوْ قَالَ : اللَّهُ يَعْلَمُ
أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا وَهُوَ كَاذِبٌ فِيهِ لِنِسْبَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إلَى
الْجَهْلِ .
أَوْ قَالَ اسْتِخْفَافًا شَبِعْت مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ
الصَّلَاةِ أَوْ الذِّكْرِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ الْمَحْشَرُ أَوْ
جَهَنَّمُ ، أَوْ أَيَّ شَيْءٍ عَمِلْتُ وَقَدْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً ، أَوْ أَيَّ
شَيْءٍ أَعْمَلُ بِمَجْلِسِ الْعِلْمِ وَقَدْ أُمِرَ بِحُضُورِهِ ، أَوْ لَعْنَةُ
اللَّهِ عَلَى كُلِّ عَالِمٍ إنْ لَمْ يُرِدْ الِاسْتِغْرَاقَ ، وَإِلَّا لَمْ
يُشْتَرَطْ اسْتِخْفَافٌ لِشُمُولِهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمَلَائِكَةَ أَوْ
أَلْقَى فَتْوَى عَالِمٍ أَوْ قَالَ أَيُّ شَيْءٍ هَذَا الشَّرْعُ ؟ وَقَصَدَ
الِاسْتِخْفَافَ ، أَوْ قَالَ :
فِي حَقِّ فَقِيهٍ : هَذَا هُوَ شَيْءٌ مُسْتَخِفًّا
بِالْعِلْمِ ، أَوْ قَالَ الرُّوحُ قَدِيمٌ ، أَوْ قَالَ إذَا ظَهَرَتْ
الرُّبُوبِيَّةُ زَالَتْ الْعُبُودِيَّةُ وَعَنَى بِذَلِكَ رَفْعَ الْأَحْكَامِ ،
أَوْ أَنَّهُ فَنِيَ مِنْ صِفَاتِهِ النَّاسُوتِيَّةِ إلَى اللَّاهُوتِيَّةِ أَوْ
أَنَّ صِفَاتِهِ تَبَدَّلَتْ بِصِفَاتِ الْحَقِّ ، أَوْ أَنَّهُ يُرَادُ عِيَانًا
فِي الدُّنْيَا أَوْ يُكَلِّمُهُ شِفَاهًا ، أَوْ أَنَّهُ يَحِلُّ فِي صُورَةٍ
حَسَنَةٍ أَوْ أَنَّهُ أُسْقِطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ ، أَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ :
دَعْ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةَ الشَّأْنِ فِي عَمَلِ الْأَسْرَارِ ، أَوْ
سَمَاعُ الْغِنَاءِ مِنْ الدِّينِ أَوْ أَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي الْقُلُوبِ أَكْبَرَ
مِنْ الْقُرْآنِ ،
أَوْ الْعَبْدُ يَصِلُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ
غَيْرِ طَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ ، أَوْ الرُّوحُ مِنْ نُورِ اللَّهِ فَإِذَا
اتَّصَلَ النُّورُ بِالنُّورِ اتَّحَدَ
.
وَبَقِيَتْ فُرُوعٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ بَيَّنْتُهَا مَعَ
بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَيْهَا وَعَلَى جَمِيعِ مَا مَرَّ بِقُيُودِهِ وَمَا فِيهِ
مِنْ الْخِلَافِ وَالْبَحْثِ وَمَعَ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَا فِي هَذَا الْبَابِ
عَلَى الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ، بَلْ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَا قِيلَ بِأَنَّهُ
كُفْرٌ وَلَوْ عَلَى الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ فِي كِتَابِي الْإِعْلَامِ بِمَا
يَقْطَعُ الْإِسْلَامَ ] وَهُوَ كِتَاب حَافِلٌ لَا يَسْتَغْنِي طَالِبُ عِلْمٍ عَنْهُ
وَمَرَّ أَنَّ مَنْ قَالَ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَا
كَافِرُ كَفَرَ بِشَرْطِهِ ، وَكَذَا مَنْ قَالَ : مُطِرْنَا بِنَجْمِ كَذَا
مَرِيدًا أَنَّ لِلنَّجْمِ تَأْثِيرًا
.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ { إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ
: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ الَّذِي قِيلَ لَهُ
كَافِرًا فَهُوَ كَافِرٌ وَإِلَّا رَجَعَ عَلَى مَنْ قَالَ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ
: { مَا شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِكُفْرٍ إلَّا بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ
كَانَ كَافِرًا فَهُوَ كَمَا قَالَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا فَقَدْ كَفَرَ
بِتَكْفِيرِهِ إيَّاهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ { مَا مِنْ
مُسْلِمَيْنِ إلَّا بَيْنَهُمَا سِتْرٌ مِنْ اللَّهِ ، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا
لِصَاحِبِهِ هُجْرًا هَتَكَ سِتْرَ اللَّهِ ، وَإِذَا قَالَ : يَا كَافِرُ فَقَدْ كَفَرَ
أَحَدُهُمَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ :
يَا كَافِرُ فَهُوَ كَقَتْلِهِ ، وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ } .
وَأَبُو دَاوُد { أَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ كَفَّرَ
رَجُلًا مُسْلِمًا فَإِنْ كَانَ كَافِرًا وَإِلَّا كَانَ هُوَ الْكَافِرُ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ
قَالَ : إنِّي بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَهُوَ كَمَا
قَالَ وَإِنْ كَانَ صَادِقًا لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِسْلَامِ سَالِمًا } .
وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { إذَا قَالَ الرَّجُلُ
لِأَخِيهِ : يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { كُفُّوا عَنْ أَهْلِ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ لَا تُكَفِّرُوهُمْ بِذَنْبٍ ، فَمَنْ كَفَّرَ أَهْلَ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ فَهُوَ إلَى الْكُفْرِ أَقْرَبُ } .
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ { أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ
: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا
رَجَعَتْ عَلَيْهِ } .
وَابْنُ حِبَّانَ { مَا كَفَّرَ رَجُلٌ رَجُلًا قَطُّ
إلَّا بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا
} .
وَمُسْلِمٌ {
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ
إلَّا وَأَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ ، يُنْزِلُ اللَّهُ
الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ : مُطِرْنَا بِكَوْكَبِ كَذَا
وَكَذَا
} .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { أَلَمْ
تَرَوْا مَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ قَالَ : مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ
نِعْمَةٍ إلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ يَقُولُونَ
الْكَوْكَبُ وَبِالْكَوْكَبِ }
.
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
: { هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ اللَّيْلَةَ ؟ قَالَ اللَّهُ :
أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا
بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ } .
وَالشِّيرَازِيُّ : { لَا تَزَالُ أُمَّتِي فِي مَسَكَةٍ
مِنْ دِينِهَا مَا لَمْ تُضِلَّهُمْ النُّجُومُ } .
وَأَحْمَدُ :
{ أَصْبَحَ مِنْ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ
فَقَالُوا : هَذِهِ رَحْمَةٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَقَدْ صَدَقَنَا نَوْءُ كَذَا وَكَذَا
} وَمِنْهَا : مَرَّ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَبِهِ يُخَصُّ عُمُومُ قَوْله
تَعَالَى : { يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا
تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
} وَبِالْآيَتَيْنِ جَمِيعًا يُعْلَمُ أَنَّ الْحَقَّ
مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَيِّتَ -
مُؤْمِنًا فَاسِقًا - تَحْتَ الْمَشِيئَةِ ، فَإِنْ شَاءَ تَعَالَى عَذَّبَهُ كَمَا
يُرِيدُ ، ثُمَّ مَآلُهُ إلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ فَيُخْرِجَهُ مِنْ النَّارِ وَقَدْ
اسْوَدَّ فَيَنْغَمِسَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ ثُمَّ يَعُودَ لَهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ
مِنْ الْجَمَالِ وَالنَّضَارَةِ وَالْحُسْنِ ، ثُمَّ يُدْخِلَهُ اللَّهُ
الْجَنَّةَ وَيُعْطِيَهُ مَا أَعَدَّ لَهُ بِسَابِقِ إيمَانِهِ وَمَا قَدَّمَهُ
مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ كَمَا صَحَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ حَدِيثُ
الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَفَا عَنْهُ
ابْتِدَاءً فَسَامَحَهُ وَأَرْضَى عَنْهُ خُصَمَاءَهُ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
مَعَ النَّاجِينَ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْخَوَارِجِ : إنَّ مُرْتَكِبَ
الْكَبِيرَةِ كَافِرٌ .
وَقَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ : إنَّهُ مُخَلَّدٌ فِي
النَّارِ
حَتْمًا ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ كَمَا
لَا يَجُوزُ عِقَابُ الْمُطِيعِ ، فَهُوَ مِنْ تَقَوُّلِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ
عَلَى اللَّهِ ؛ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا
كَبِيرًا .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا
مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } إمَّا مَحْمُولٌ عَلَى
الْمُسْتَحِلِّ لِمَا مَرَّ أَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ فَيَكُونُ الْمُرَادُ
بِالْخُلُودِ حِينَئِذٍ التَّأْبِيدَ فِي النَّارِ كَسَائِرِ الْكُفَّارِ أَوْ
عَلَى غَيْرِهِ ، وَالْخُلُودُ لَا يَسْتَلْزِمُ التَّأْبِيدَ كَمَا تَشْهَدُ
النُّصُوصُ الشَّرْعِيَّةُ وَالْمَوَادُّ اللُّغَوِيَّةُ : أَيْ فَهَذَا جَزَاؤُهُ
إنْ عُذِّبَ ، وَإِلَّا فَقَدْ يَعْفُو تَعَالَى عَنْهُ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ
: { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا } وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ ،
مُرَادُهُمْ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّنْفِيرُ عَنْ الْقَتْلِ ، وَإِلَّا فَنُصُوصُ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَهُ تَوْبَةٌ كَالْكَافِرِ بَلْ
أَوْلَى .
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُرْجِئَةِ : لَا يَضُرُّ مَعَ
الْإِيمَانِ ذَنْبٌ كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الْكُفْرِ طَاعَةٌ ، فَهُوَ مِنْ
افْتِرَائِهِمْ أَيْضًا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَمَا وَرَدَ مِمَّا قَدْ
يُؤَيِّدُهُ لَمْ يُرَدْ بِهِ ظَاهِرُهُ بِدَلِيلِ نُصُوصٍ أُخَرَ قَاطِعٍ
بُرْهَانُهَا وَاضِحٍ بَيَانُهَا ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَقِدَ
أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ لِمَا أَنَّ إنْكَارَ
ذَلِكَ كُفْرٌ ، إذْ هُوَ صَرِيحٌ فِي تَكْذِيبِ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ
الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : نَقْلُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ عَنْ
الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ مَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الرِّدَّةِ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ
أَضْمَرَ تَوْرِيَةً كُفِّرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ،
وَمَنْ حَصَلَ لَهُ وَسْوَسَةٌ فَتَرَدَّدَ فِي الْإِيمَانِ أَوْ الصَّانِعِ ،
أَوْ تَعَرَّضَ بِقَلْبِهِ لِنَقْصٍ أَوْ سَبٍّ وَهُوَ كَارِهٌ لِذَلِكَ
كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ
لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَا إثْمٌ ، بَلْ هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ
فَيَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَى دَفْعِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ نَفْسِهِ لِمَا
كَرِهَهُ .
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ .
وَمِنْهَا :
لَا يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ مِنْ كَافِرٍ أَصْلِيٍّ أَوْ
مُرْتَدٍّ إلَّا بِنُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا
بِإِحْدَاهُمَا ، وَلَوْ أَبْدَلَ الْإِلَهَ فِي : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ بِالْبَارِئِ أَوْ الرَّحْمَنِ أَوْ الْمَلِكِ أَوْ الرَّزَّاقِ جَازَ ، وَكَذَا
لَوْ أَبْدَلَ لَا بِمَا مِنْ فَقَالَ : مَا مِنْ إلَهٍ ، أَوْ إلَّا بِغَيْرٍ
أَوْ سِوَى أَوْ عَدَا ، أَوْ الْجَلَالَةَ بِالْمُحْيِي الْمُمِيتِ وَهُوَ غَيْرُ
طَبَائِعِيٍّ أَوْ بِالرَّحْمَنِ أَوْ الْبَارِئِ ، أَوْ مَنْ آمَنَ بِهِ
الْمُسْلِمُونَ أَوْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَوْ الْمَلِكِ أَوْ الرَّزَّاقِ
بِخِلَافِ سَاكِنِ السَّمَاءِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ فِي السَّمَاءِ
أَنَّ الْأَوَّلَ نَصٌّ فِي الْجِهَةِ الْمُسْتَحِيلَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى
عَنْهَا وَعَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ،
وَالْقَوْلُ بِالْجِهَةِ كُفْرٌ عِنْدَ كَثِيرِينَ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، فَكَيْفَ يَحْصُلُ
الْإِسْلَامُ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْكُفْرِ ، بِخِلَافِ مَنْ فِي السَّمَاءِ
لِأَنَّهُ لَيْسَ صَرِيحًا فِي ذَلِكَ ؛ إذْ الْمُرَادُ مَنْ فِي السَّمَاءِ
أَمْرُهُ وَسُلْطَانُهُ ، وَلِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ الْمُؤَوَّلِ
عِنْدَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ .
فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ خِلَافًا
لِفِرْقَةٍ ضَالَّةٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ
بَيْنَهُمَا فِي أَنَّا نُعَيِّنُ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ وَلَا نَصْرِفُ الظَّاهِرَ
إلَيْهِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْخَلَفِ أَوْ نُؤَوِّلُ إجْمَالًا وَلَا نُعَيِّنُ شَيْئًا
، بَلْ نُفَوِّضُ عِلْمَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ
مَذْهَبُ السَّلَفِ وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ،
وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ تَفْضِيلًا فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ تَعْيِينَ التَّأْوِيلِ
بِأَنْ قَرُبَ مِنْ الظَّاهِرِ وَشَهِدَتْ لَهُ قَوَاعِدُ اللُّغَةِ
الْعَرَبِيَّةِ بِالْقَبُولِ كَانَ أَوْلَى وَإِلَّا فَالتَّفْوِيضُ أَوْلَى ،
وَمَنْ تَأَمَّلَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ وَجَدَهَا شَاهِدَةً لِلتَّأْوِيلِ
لِأَنَّ ظَاهِرَهَا بِدُونِهِ يُوهِمُ التَّنَاقُضَ ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ
صَوْنًا عَنْ ذَلِكَ الْإِيهَامِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { ثُمَّ اسْتَوَى
عَلَى الْعَرْشِ } مَعَ قَوْلِهِ : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ } { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ } وَمَعَ خَبَرِ : { لَوْ
أَدْلَيْتُمْ حَبْلًا لَوَقَعَ عَلَى اللَّهِ } فَأَحَدُ تِلْكَ النُّصُوصِ يَجِبُ
تَأْوِيلُهُ ؛ إذْ لَا يُمَكَّنُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ بِظَوَاهِرِ تِلْكَ النُّصُوصِ
جَمِيعِهَا ، وَإِذَا وَجَبَ تَأْوِيلُ بَعْضِهَا وَجَبَ تَأْوِيلُ كُلِّهَا .
إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ عَلَى أَنَّ الْخَلَفَ لَمْ
يَنْفَرِدُوا بِذَلِكَ بَلْ أَوَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَمَالِكٍ
وَجَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرِهِمَا .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ الْحَقِّ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَرَّرْتُهُ ، وَأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ
اعْتِقَادُهُ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ
وَعَلَا - عَنْ كُلِّ نَقْصٍ صَرِيحًا أَوْ اسْتِلْزَامًا ، بَلْ وَعَنْ كُلِّ مَا لَا
نَقْصَ فِيهِ وَلَا كَمَالَ ، وَاعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا اتَّصَفَ
بِأَكْمَلِ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ فِي ذَاتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَأَوْصَافِهِ
وَأَسْمَائِهِ وَسَائِرِ شُؤُونِهِ وَأَفْعَالِهِ .
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ : فَيَجُوزُ أَنْ
يُبَدِّلَ مُحَمَّدًا فِيهَا بِأَحْمَدَ أَوْ أَبِي الْقَاسِمِ ، وَالرَّسُولَ
بِالنَّبِيِّ ، وَيُشْتَرَطُ تَرْتِيبُ الشَّهَادَتَيْنِ .
فَلَوْ قَالَ : أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَمْ يَسْلَمْ إلَّا
الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا وَلَا النُّطْقُ بِهِمَا بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَكِنْ
يُشْتَرَطُ فَهْمُ مَا تَلَفَّظَ بِهِ ، ثُمَّ مَنْ كَانَ كُفْرُهُ بِإِنْكَارِ
أَصْلِ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَاهُ الشَّهَادَتَانِ
أَوْ بِتَخْصِيصِهَا بِالْعَرَبِ ، كَالْعِيسَوِيَّةِ اُشْتُرِطَ أَنْ يَقُولَ :
رَسُولُ اللَّهِ إلَى كَافَّةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، وَإِشَارَةُ الْأَخْرَسِ كَالنُّطْقِ
، وَلَا يَحْصُلُ الْإِسْلَامُ بِغَيْرِ مَا مَرَّ كَقَوْلِهِ : آمَنْتُ فَقَطْ
أَوْ آمَنْت بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ ، أَوْ أَنَا مُسْلِمٌ أَوْ أَنَا مِنْ
أُمَّةِ مُحَمَّدٍ أَوْ أَنَا أُحِبُّهُ أَوْ أَنَا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ مِثْلُهُمْ أَوْ دِينُهُمْ حَقٌّ ، بِخِلَافِ قَوْلِ مَنْ
لَمْ يَكُنْ قَدْ دَانَ بِشَيْءٍ آمَنْت بِاَللَّهِ أَوْ أَسْلَمْت لِلَّهِ أَوْ
اللَّهُ خَالِقِي أَوْ رَبِّي ثُمَّ أَتَى بِالشَّهَادَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ
يَصِيرُ مُسْلِمًا ؛ وَيُنْدَبُ أَمْرُ كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ بِالْإِيمَانِ
بِالْبَعْثِ ، وَيُشْتَرَطُ لِنَفْعِ الْإِسْلَامِ فِي الْآخِرَةِ مَعَ مَا مَرَّ
تَصْدِيقُ الْقَلْبِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ ، فَإِنْ آمَنَ بِذَلِكَ بِأَنْ صَدَّقَ بِهِ بِقَلْبِهِ ، وَلَمْ يَتَلَفَّظْ
بِالشَّهَادَتَيْنِ بِلِسَانِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ
مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ أَبَدًا ، كَمَا نَقَلَ النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ
الْإِجْمَاعَ ، لَكِنْ اُعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ قَوْلًا لِلْأَئِمَّةِ
الْأَرْبَعَةِ إنَّ إيمَانَهُ يَنْفَعُهُ وَغَايَتُهُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ عَاصٍ ،
وَإِنْ تَلَفَّظَ بِهِمَا بِلِسَانِهِ ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ كَافِرٌ إجْمَاعًا ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَتَجْرِي عَلَيْهِ
أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ ظَاهِرًا فَإِنْ تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً ثُمَّ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ
لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى يُجَدِّدَ النِّكَاحَ بَعْدَ إسْلَامِهِ .
وَمِنْهَا : مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْإِيمَانَ
لَا يَنْفَعُ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ ، وَلَا عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ
الِاسْتِئْصَالِ .
قَالَ تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي
عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } نَعَمْ .
يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ قَوْمُ يُونُسَ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { إلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ } بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ
مُتَّصِلٌ ، وَأَنَّ إيمَانَهُمْ كَانَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ عَذَابِ
الِاسْتِئْصَالِ ، وَهُوَ قَوْلٌ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَعَلَيْهِ
فَوَجْهُ اسْتِثْنَائِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ كَرَامَةً وَخُصُوصِيَّةً
لِنَبِيِّهِمْ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا
.
أَلَا تَرَى أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَدْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِحَيَاةِ أَبَوَيْهِ لَهُ حَتَّى آمَنَا بِهِ ، كَمَا
جَاءَ فِي حَدِيثٍ صَحَّحَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ نَاصِرِ الدِّينِ حَافِظُ
الشَّامِ وَغَيْرُهُمَا فَنَفَعَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بَعْدَ
الْمَوْتِ عَلَى خِلَافِ الْقَاعِدَةِ إكْرَامًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُصُوصِيَّاتُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا ، وَنَازَعَ
بَعْضُهُمْ فِي خَبَرِ إحْيَاءِ أَبَوَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَطَالَ فِيهِ بِمَا رَدَدْته عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى ، وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ
وَابْنُ دِحْيَةَ وَغَيْرُهُمَا : لَمْ تَزَلْ فَضَائِلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَصَائِصُهُ تَتَوَالَى وَتَتَتَابَعُ إلَى حِينِ وَفَاتِهِ
، فَيَكُونُ هَذَا مِمَّا فَضَّلَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَأَكْرَمَهُ ، وَلَيْسَ
إحْيَاؤُهُمَا ، وَإِيمَانُهُمَا بِهِ مُمْتَنِعًا عَقْلًا ، وَلَا سَمْعًا فَقَدْ
أَحْيَا قَتِيلَ بَنِي إسْرَائِيلَ حَتَّى أَخْبَرَ بِقَاتِلِهِ ، وَكَانَ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَحْيَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ جَمَاعَةً مِنْ الْمَوْتَى ،
وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ مَانِعٍ مِنْ إحْيَائِهِمَا بَعْدَ
مَوْتِهِمَا زِيَادَةً فِي كَرَامَتِهِ وَفَضِيلَتِهِ ،
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الشَّمْسَ بَعْدَ مَغِيبِهَا حَتَّى صَلَّى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ
وَجْهَهُ الْعَصْرَ ، فَكَمَا أُكْرِمَ بِعَوْدِ الشَّمْسِ وَالْوَقْتِ بَعْدَ فَوَاتِهِ
، فَكَذَلِكَ أُكْرِمَ بِعَوْدِ الْحَيَاةِ وَوَقْتِ الْإِيمَانِ بَعْدَ فَوَاتِهِ
إكْرَامًا لَهُ أَيْضًا ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ قَوْلَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ
إنَّ { وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ } نَزَلَتْ فِي أَبَوَيْهِ لِأَنَّ
ذَلِكَ أَعْنِي سَبَبَ نُزُولِهَا لَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ ، وَعَلَى
التَّنَزُّلِ فَالْمُرَادُ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ لَوْلَا كَرَامَتُك .
وَخَبَرُ مُسْلِمٍ : { أَبِي وَأَبُوك فِي النَّارِ } .
إمَّا كَانَ قَبْلَ عِلْمِهِ أَوْ قَالَهُ تَطْمِينًا ،
وَإِرْشَادًا لِذَلِكَ الْأَعْرَابِيِّ ، فَإِنَّهُ تَغَيَّرَ لَمَّا قَالَ أَبُوك
فِي النَّارِ ، وَأَخَذَ عُلَمَاءُ الْأُمَّةِ وَمُجْتَهِدُوهَا الَّذِينَ
عَلَيْهِمْ الْمُعَوَّلُ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى أَعْنِي قَوْله تَعَالَى : {
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } إجْمَاعَهُمْ عَلَى
كُفْرِ فِرْعَوْنَ ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ فِي سُورَةِ
يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَقَالَ فِي إحْدَاهُمَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ ، وَفِي الْأُخْرَى حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَدِيٍّ وَالطَّبَرَانِيِّ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { خَلَقَ اللَّهُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي
بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا وَخَلَقَ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا } .
وَأَمَّا مَا حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ
يُونُسَ عَزَّ قَائِلًا : { حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ
أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ } فَهُوَ لَا يَنْفَعُهُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى عَقِبَ ذَلِكَ
: { آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } وَسَبَبُ
ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ كَرَّرَ الْإِيمَانَ مَرَّتَيْنِ بِنَاءً عَلَى فَتْحِ أَنَّ
وَثَلَاثًا بِنَاءً عَلَى كَسْرِهَا أَنَّهُ
إنَّمَا آمَنَ عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ
لَهُ وَلِقَوْمِهِ ، وَالْإِيمَانُ حِينَئِذٍ غَيْرُ نَافِعٍ لِمَا تَقَرَّرَ ،
وَأَيْضًا فَإِيمَانُهُ إنَّمَا كَانَ تَقْلِيدًا مَحْضًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : {
إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } فَكَأَنَّهُ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ
لَا يَعْرِفُ اللَّهَ ، وَإِنَّمَا سَمِعَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّ
لِلْعَالَمِ إلَهًا فَآمَنَ بِذَلِكَ الْإِلَهِ الَّذِي سَمِعَ بَنِي إسْرَائِيلَ
يُقِرُّونَ بِوُجُودِهِ فَآمَنَ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ مَحْضُ التَّقْلِيدِ عَلَى أَنَّهُ
كَانَ دَهْرِيًّا مُنْكِرًا لِوُجُودِ الصَّانِعِ ، وَمِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ
الْخَبِيثِ الْبَالِغِ نِهَايَةَ الْقُبْحِ وَالْفُحْشِ لَا يَزُولُ بِتَقْيِيدٍ
مَحْضٍ ، بَلْ لَا بُدَّ فِي مُزِيلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بُرْهَانًا قَطْعِيًّا
وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَلَا بُدَّ فِي إسْلَامِ الدَّهْرِيِّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ
كَانَ قَدْ دَانَ بِشَيْءٍ أَنْ يُقِرَّ بِبُطْلَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي
كَفَرَ بِهِ ، فَلَوْ قَالَ : آمَنْت بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُ مُسْلِمًا
كَمَا مَرَّ وَفِرْعَوْنُ لَمْ يَعْتَرِفْ بِبُطْلَانِ مَا كَانَ كَفَرَ بِهِ مِنْ
نَفْيِ الصَّانِعِ ، وَإِلَهِيَّةِ نَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُ : { إلَّا الَّذِي
آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ } لَا يُدْرَى مَا الَّذِي أَرَادَ بِهِ ، فَإِذَا
صَرَّحَ الْأَئِمَّةُ فِي " آمَنْتُ بِاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ "
بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْإِيمَانُ لِاحْتِمَالِهِ فَكَذَا فِيمَا قَالَهُ .
وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ
الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ بِرَسُولِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ ،
فَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ آمَنَ بِاَللَّهِ إيمَانًا صَحِيحًا هُوَ لَمْ
يُؤْمِنُ بِمُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا تَعَرَّضَ لَهُ
حِينَئِذٍ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ إيمَانُهُ نَافِعًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ
الْكَافِرَ لَوْ قَالَ أُلُوفًا مِنْ الْمَرَّاتِ : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا
اللَّهُ أَوْ الَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى
يَقُولَ : وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .
فَإِنْ قُلْت : السَّحَرَةُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي
إيمَانِهِمْ لِلْإِيمَانِ بِمُوسَى وَمَعَ ذَلِكَ قُبِلَ
إيمَانُهُمْ .
قُلْت :
مَمْنُوعٌ بَلْ تَعَرَّضُوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ : {
آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } عَلَى أَنَّ إيمَانَهُمْ
حِينَئِذٍ إيمَانٌ بِمُعْجِزَةِ مُوسَى وَهِيَ الْعَصَا الَّتِي تَلَقَّفَتْ مَا
صَنَعُوا ، وَالْإِيمَانُ بِاَللَّهِ مَعَ الْإِيمَانِ بِمُعْجِزَةِ الرَّسُولِ
إيمَانٌ بِالرَّسُولِ فَهُمْ آمَنُوا بِمُوسَى صَرِيحًا بِخِلَافِ فِرْعَوْنَ لَمْ
يُؤْمِنْ بِهِ صَرِيحًا ، وَلَا إشَارَةً ، بَلْ ذِكْرُهُ بَنِي إسْرَائِيلَ دُونَ
مُوسَى مَعَ أَنَّهُ الرَّسُولُ الْحَقُّ الْعَارِفُ بِالْإِلَهِ وَمَا يَلِيقُ
بِهِ وَالْهَادِي إلَى طَرِيقِهِ فِيهِ إشَارَةٌ مَا إلَى بَقَائِهِ عَلَى كُفْرِهِ
بِهِ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ صَرَّحَ الْإِمَامُ الْقَاضِي عَبْدُ
الصَّمَدِ الْحَنَفِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ مَذْهَبَ الصُّوفِيَّةِ أَنَّ
الْإِيمَانَ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَلَوْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ ، وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَذْهَبٌ قَدِيمٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْمَذْكُورَ وَهُوَ
مُتَقَدِّمٌ كَانَ مَوْجُودًا أَوَائِلَ الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ فِي سَنَةِ
ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ، وَقَالَ الذَّهَبِيُّ : الْحَدُّ الْفَاصِلُ
بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ رَأْسُ الْقَرْنِ الثَّالِثِ
وَهُوَ الثَّلَاثُمِائَةِ ، وَإِذَا كَانَ مَذْهَبُ الصُّوفِيَّةِ ذَلِكَ ،
فَكَيْفَ سَاغَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ ؟ .
قُلْت : لَوْ سَلَّمْنَا صِحَّةَ ذَلِكَ عَنْ الصُّوفِيَّةِ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِمْ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ
الْإِجْمَاعُ مَعَ مُخَالَفَتِهِمْ لَمْ يَرُدَّ ذَلِكَ عَلَيْنَا ، وَلَمْ
يَخْتَلَّ بِهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ إجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى كُفْرِ فِرْعَوْنَ
، لِأَنَّا لَمْ نَحْكُمْ بِكُفْرِهِ لِأَجْلِ إيمَانِهِ عِنْدَ الْيَأْسِ
فَحَسْبُ ، بَلْ لِمَا انْضَمَّ إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاَللَّهِ
إيمَانًا صَحِيحًا ، وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَهُوَ لَمْ يُؤْمِنْ بِمُوسَى أَصْلًا
فَلَا يَرُدُّ مَا حُكِيَ عَنْ مَذْهَبِ الصُّوفِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ قَالَ الْإِمَامُ الْعَارِفُ
الْمُحَقِّقُ مُحْيِي الدِّينِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي
فُتُوحَاتِهِ الْمَكِّيَّةِ بِصِحَّةِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ ، وَأَنَّ
فِرْعَوْنَ مُؤْمِنٌ ، فَإِنَّهُ قَالَ : مَا حَاصِلُهُ لَمَّا حَالَ الْغَرَقُ
بَيْنَ فِرْعَوْنَ وَبَيْنَ أَطْمَاعِهِ لَجَأَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِلَى مَا
أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ ،
فَقَالَ : { آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو
إسْرَائِيلَ } لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ ، كَمَا قَالَتْ السَّحَرَةُ لَمَّا آمَنَتْ
: { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } لِرَفْعِ
الِارْتِيَابِ ، وَإِزَاحَةِ الْإِشْكَالِ ثُمَّ قَالَ : { وَأَنَا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ } فَخَاطَبَهُ بِلِسَانِ الْعَتْبِ آلْآنَ أَظْهَرْتَ مَا كُنْتَ
قَبْلُ عَلِمْتَهُ { وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } فِي
اتِّبَاعِك { فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ } فَبَشَّرَهُ قَبْلَ قَبْضِ رُوحِهِ { لِتَكُونَ لِمَنْ
خَلْفَك آيَةً } أَيْ لِتَكُونَ النَّجَاةُ عَلَامَةً لَهُ إذَا قَالَ مَا
قُلْتَهُ كَانَتْ لَهُ النَّجَاةُ مِثْلَ مَا كَانَتْ لَك إذْ الْعَذَابُ مَا
يَتَعَلَّقُ إلَّا بِظَاهِرِك ، وَقَدْ أَرَيْتُ الْخَلْقَ نَجَاتَهُ مِنْ
الْعَذَابِ فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْغَرَقِ عَذَابًا وَصَارَ الْمَوْتُ فِيهِ
شَهَادَةً خَالِصَةً ، كُلُّ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَيْأَسَ أَحَدٌ مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ
الْكَافِرُونَ } وَالْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ
إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } فَكَلَامٌ مُحَقَّقٌ فِي غَايَةِ
الْوُضُوحِ فَإِنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ فَمَا نَفَعَهُمْ إلَّا اللَّهُ ،
وقَوْله تَعَالَى : { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ }
يَعْنِي الْإِيمَانَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْيَأْسِ ، وَإِنَّمَا قَبَضَ فِرْعَوْنَ ،
وَلَمْ يُؤَخِّرْ فِي أَجَلِهِ فِي حَالِ إيمَانِهِ لِئَلَّا يَرْجِعَ إلَى مَا
كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الدَّعْوَى
.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ }
فَمَا فِيهِ نَصٌّ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا مَعَهُمْ بَلْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ } ، وَلَمْ يَقُلْ أَدْخِلُوا
فِرْعَوْنَ ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ مِنْ حَيْثُ أَنْ لَا يَقْبَلَ إيمَانَ
الْمُضْطَرِّ ، وَأَيُّ اضْطِرَارٍ أَعْظَمَ مِنْ اضْطِرَارِ فِرْعَوْنَ فِي حَالِ
الْغَرَقِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا
دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } فَقَرَنَ لِلْمُضْطَرِّ إذَا دَعَاهُ الْإِجَابَةَ
وَكَشْفَ السُّوءِ عَنْهُ فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ الْغَرَقِ فِي
الْمَاءِ انْتَهَى كَلَامُهُ .
فَهَلْ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرٌ أَوْ مَرْدُودٌ فَمَا
وَجْهُ رَدِّهِ ؟ قُلْت : لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ مُقَرَّرًا ، وَإِنْ كُنَّا
نَعْتَقِدُ جَلَالَةَ قَائِلِهِ فَإِنَّ الْعِصْمَةَ لَيْسَتْ إلَّا
لِلْأَنْبِيَاءِ .
، وَلَقَدْ
قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ : مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا
مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ وَمَرْدُودٌ عَلَيْهِ إلَّا صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ
يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ
نُقِلَ عَنْ بَعْضِ كُتُبِ ذَلِكَ الْإِمَامِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِيهَا بِأَنَّ
فِرْعَوْنَ مَعَ هَامَانَ وَقَارُونَ فِي النَّارِ ، ، وَإِذَا اخْتَلَفَ كَلَامُ
إمَامٍ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ بِمَا يُوَافِقُ الْأَدِلَّةَ الظَّاهِرَةَ وَيُعْرَضُ
عَمَّا خَالَفَهَا ، بَلْ قَدْ مَرَّ لَك أَنَّ الْآيَةَ وَحَدِيثَ التِّرْمِذِيِّ
الصَّحِيحَ صَرِيحَانِ فِي بُطْلَانِ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْيَأْسِ فَلَا
يُلْتَفَتُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَا مَرَّ مِنْ تَأْوِيلِ { فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ } بِأَنَّ النَّافِعَ هُوَ اللَّهُ ، وَأَيْضًا فَمِمَّا
يُبْطِلُ هَذَا التَّأْوِيلَ أَنَّ اصْطِلَاحَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ إضَافَةُ الْأَشْيَاءِ
إلَى أَسْبَابِهَا .
فَإِذَا قِيلَ : لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ فَلَيْسَ
مَعْنَاهُ الشَّرْعِيُّ إلَّا الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا يُعْتَدُّ
بِهِ ، وَأَيُّ مَعْنًى مُسَوِّغٍ لِهَذَا الْقَائِلِ أَنْ يَخُصَّ نَفْعَ اللَّهِ
بِهَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي هِيَ حَالَةُ وُقُوعِ الْعَذَابِ مَعَ النَّظَرِ إلَى
مَا هُوَ الْوَاقِعُ الْحَقُّ مِنْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ حَقِيقَةً فِي
كُلِّ وَقْتٍ ، وَلَوْ نَفَعَهُمْ اللَّهُ لَمَا اسْتَأْصَلَهُمْ
بِالْعَذَابِ
.
وقَوْله تَعَالَى : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ
} دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ
} أَنَّهُمْ بَاقُونَ مَعَ ذَلِكَ الْإِيمَانِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَكَفَى
بِتَفْسِيرِ أَئِمَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ
الْمُوَافِقِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَلِلْإِجْمَاعِ السَّابِقَيْنِ الْآيَةَ
بِمَا يُوَافِقُ مَا ذَكَرْنَاهُ ؟ ، وَإِذَا ثَبَتَ وَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ
إيمَانُ الْيَأْسِ ثَبَتَ أَنَّ إيمَانَ فِرْعَوْنَ لَا يَصِحُّ ، عَلَى أَنَّنَا
قَدَّمْنَا أَنَّنَا لَوْ قُلْنَا بِصِحَّةِ إيمَانِ الْيَأْسِ ، فَالْآيَةُ
دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ أَيْضًا لِعَدَمِ إيمَانِهِ
بِمُوسَى وَهَارُونَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ بِخِلَافِ السَّحَرَةِ
، وَمَنْ تَأَمَّلَ صِيغَةَ إيمَانِهِمْ الْمَحْكِيَّتَيْنِ عَنْهُمَا فِي
الْقُرْآنِ عَلِمَ اتِّضَاحَ مَا بَيْنَ الْإِيمَانَيْنِ فَلَا يَصْغَ إلَى
قِيَاسِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَقَوْلُهُ : إنَّهُ لَجَأَ إلَى مَا
أَعْطَاهُ بَاطِنُهُ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الذِّلَّةِ وَالِافْتِقَارِ
عَجِيبٌ ، وَأَيُّ ذِلَّةٍ وَافْتِقَارٍ كَانَ عَلَيْهِمَا بَاطِنُهُ وَهُوَ
يُنْكِرُ رُبُوبِيَّةَ رَبِّ الْأَرْبَابِ ، وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ الْإِلَهَ الْمُطْلَقَ
وَالرَّبَّ الْأَكْبَرَ يُؤْذِي مُوسَى وَيُكَذِّبُهُ وَيُعَانِدُهُ ، فَهَلْ هُوَ
فِي ذَلِكَ إلَّا كَأَبِي جَهْلٍ
.
وَمِنْ ثَمَّ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَبِتَسْلِيمِ أَنَّ بَاطِنَهُ
كَانَ عَلَيْهِمَا فَأَيُّ نَفْعٍ لَهُمَا مَعَ عَدَمِ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ وَحَمْلُ
{ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } عَلَى الْعَتْبِ
فِي غَايَةِ الْبُعْدِ إذْ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ ، وَإِيمَانُهُ لَكَانَ
الْأَنْسَبُ بِمَقَامِ الْفَضْلِ الَّذِي طَمَحَ إلَيْهِ نَظَرُ الشَّيْخِ أَنْ
يُقَالَ لَهُ : الْآنَ نَقْبَلُك وَنُكْرِمُك لِاسْتِلْزَامِ صِحَّةِ إيمَانِهِ
رِضَا الْحَقِّ عَنْهُ .
وَمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ الرِّضَا الْأَكْبَرُ لَا
يُقَالُ لَهُ بِاعْتِبَارِ رِعَايَةِ مَقَامِ الْفَضْلِ جَوَابًا لِإِيمَانِهِ
الصَّحِيحِ {
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ
} لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَهُ أَدْنَى رَوِيَّةٍ وَسَلِيقَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّ
هَذَا الْخِطَابَ إنَّمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِ لَا الْمَرْضِيُّ عَنْهُ
، وَتَخْصِيصُ { وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ } بِمَا مَرَّ يَأْبَاهُ هَذَا
الْبَيَانُ الَّذِي تَقَرَّرَ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ إيمَانُهُ مُحِيَ عَنْهُ مَا
عَصَاهُ وَأَفْسَدَهُ فِي أَتْبَاعِهِ وَغَيْرِهِمْ ، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ
الْمَحْوِ الْعَظِيمِ يُعَاقَبُ وَيُخَاطَبُ بِذَلِكَ التَّأْنِيبِ الْمَحْضِ
وَالتَّقْرِيعِ الصِّرْفِ وَالتَّوْبِيخِ الْحَقِّ ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا إلَّا
لِإِقَامَةِ أَعْظَمِ نَوَامِيسِ الْغَضَبِ عَلَيْهِ ، وَتَذْكِيرِهِ
بِقَبَائِحِهِ الَّتِي قَدَّمَهَا ، وَإِعْلَامِهِ بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي
مَنَعَتْهُ عَنْ النُّطْقِ بِالْإِيمَانِ إلَى آخِرِ رَمَقٍ مِنْهُ فَلَمْ
يَنْفَعْهُ النُّطْقُ بِهَا حِينَئِذٍ
.
سِيَّمَا وَهُوَ بَاقٍ عَلَى تَكْذِيبِهِ بِرَسُولِهِ
وَعِنَادِهِ لِآيَاتِهِ ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْ جَنَابِهِ ، وَتَخْصِيصُ النَّجَاةِ
، بِالْبَدَنِ أَعْظَمُ وَأَعْدَلُ شَاهِدٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرَدْ بِهَا إلَّا
مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْمُعْتَبِرُونَ مِنْ
أَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا بِغَرَقِهِ سِيَّمَا مَعَ دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةَ ،
وَأَنَّ مِثْلَهُ لَا يَمُوتُ فَأُلْقِيَ بِنَجْوَةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَيْ رَبْوَةٍ
مُرْتَفِعَةٍ ، وَعَلَيْهِ دِرْعُهُ لِيُعْرَفَ بِهَا ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ
الْبَدَنَ عَلَى الدِّرْعِ وَكَانَتْ لَهُ دِرْعٌ يُعْرَفُ بِهَا ، وَيُؤَيِّدُهُ الْقِرَاءَةُ
الشَّاذَّةُ بِأَبْدَانِك أَيْ دُرُوعِك ، لِأَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ كَثِيرًا
مِنْهَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَهُوَ عُرْيَانٌ لَا شَيْءَ يَسْتُرُهُ أَوْ
أَنَّهُ بَدَنٌ بِلَا رُوحٍ ، وَلَا تُنَافِيهِ الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ
لِأَنَّهُ عَلَيْهَا جُعِلَ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ بَدَنِهِ بَدَنًا عَلَى حَدِّ :
شَابَتْ مَفَارِقُهُ .
وَقُرِئَ شَاذًّا أَيْضًا نُنَحِّيكَ بِالْحَاءِ
الْمُهْمَلَةِ أَيْ نُلْقِيك بِنَاحِيَةٍ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : رَمَاهُ إلَى جَانِبِ الْبَحْرِ
كَالثَّوْرِ لِيَكُونَ لِمَنْ
خَلْفَهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ عَلَامَةً
عَلَى أَنَّ مِثْلَهُ مِمَّنْ تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ عَلَى اللَّهِ لَا بُدَّ
وَأَنْ يُقْصَمَ وَيُؤْخَذَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الذِّلَّةِ وَالْمَهَانَةِ ،
لِيَنْزَجِرَ النَّاسُ عَنْ طَرِيقَتِهِ مَعَ مَا فِي تَخْصِيصِهِ مِنْ بَيْنِ
سَائِرِ قَوْمِهِ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى بَاهِرِ قُدْرَةِ
اللَّهِ تَعَالَى وَصِدْقِ مُوسَى فِيمَا جَاءَ بِهِ ، ثُمَّ خَتَمَ تَعَالَى هَذَا
الْمَقَامَ عَزَّ قَائِلًا : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا
لَغَافِلُونَ } زَجْرًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَنْ الْإِعْرَاضِ
عَنْ الدَّلَائِلِ وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيهَا وَالِاعْتِبَارِ
بِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي
الْأَلْبَابِ } .
وَمِنْهَا : دَلَّتْ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ عَلَى
أَنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ فِي جَهَنَّمَ دَائِمٌ مُؤَبَّدٌ وَمَا وَرَدَ مِمَّا
يُخَالِفُ ذَلِكَ يَجِبُ تَأْوِيلُهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إلَّا مَا شَاءَ رَبُّك
إنَّ رَبَّك فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } فَظَاهِرُهُ أَنَّ مُدَّةَ عِقَابِهِمْ مُسَاوِيَةٌ
لِمُدَّةِ بَقَاءِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ
الْمُدَّةِ فَلَا يَكُونُونَ فِيهِ خَالِدِينَ فِيهَا ، وَقَدْ أَوَّلَهُ
الْعُلَمَاءُ بِنَحْوِ عِشْرِينَ وَجْهًا يَرْجِعُ بَعْضُهَا إلَى حِكْمَةِ
التَّقْيِيدِ بِمُدَّةِ دَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَبَعْضُهَا إلَى
حِكْمَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَمَعْنَاهُ
.
فَمِنْ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْمُرَادَ سَمَوَاتُ
الْجَنَّةِ وَأَرْضُهَا ؛ إذْ السَّمَاءُ كُلُّ مَا عَلَاك ، وَالْأَرْضُ كُلُّ
مَا اسْتَقْرَيْتَ عَلَيْهِ ، وَكَوْنُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَهُمَا سَمَاءٌ
وَأَرْضٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، فَانْدَفَعَ
التَّنْظِيرُ فِي هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ مَا فِي الْآيَةِ
عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَعْرُوفٍ لِلْمُخَاطَبِينَ أَوْ سَمَوَاتِ الدُّنْيَا
وَأَرْضِهَا ، وَأُجْرِيَ ذَلِكَ عَلَى عَادَاتِ الْعَرَبِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ
دَوَامِ
الشَّيْءِ وَتَأْبِيدِهِ بِذَلِكَ وَنَحْوِهِ
كَقَوْلِهِمْ : لَا آتِيك مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ، أَوْ مَا جَنَّ
لَيْلٌ وَسَالَ سَيْلٌ ، أَوْ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ، أَوْ مَا
طَمَا الْبَحْرُ ، أَوْ مَا قَامَ الْجَبَلُ ، لِأَنَّهُ تَعَالَى يُخَاطِبُ
الْعَرَبَ عَلَى عُرْفِهِمْ فِي كَلَامِهِمْ .
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ فِي عُرْفِهِمْ تُفِيدُ الْأَبَدَ
وَالدَّوَامَ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ الْمَخْلُوقَةِ
أَصْلُهَا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ ، وَأَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي
الْآخِرَةِ يُرَدَّانِ إلَى النُّورِ الَّذِي خُلِقَا مِنْهُ وَهُمَا دَائِمَانِ
أَبَدًا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ ، ثُمَّ هَذَا الْجَوَابُ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ
بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَفْهُومَ التَّقْيِيدِ بِدَوَامِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
أَنَّهُمْ لَا يَبْقَوْنَ فِي النَّارِ إلَّا بِقَدْرِ مُدَّةِ دَوَامِهِمَا مِنْ
حِينِ إيجَادِهِمَا إلَى إعْدَامِهِمَا ، وَمَنَعَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الْمَفْهُومَ
مِنْ الْآيَةِ أَنَّهُمَا مَتَى كَانَتَا دَائِمَتَيْنِ كَانَ كَوْنُهُمَا فِي
النَّارِ بَاقِيًا ، وَقَضِيَّةُ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا حَصَلَ الشَّرْطُ وَهُوَ
دَوَامُهُمَا حَصَلَ الْمَشْرُوطُ وَهُوَ بَقَاؤُهُمْ فِي النَّارِ ، وَلَا
يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا عُدِمَ الشَّرْطُ يُعْدَمُ الْمَشْرُوطُ ، وَنَظِيرُهُ
أَنَّك إذَا قُلْت : إنْ كَانَ هَذَا إنْسَانًا فَهُوَ حَيَوَانٌ ، ثُمَّ قُلْت :
لَكِنَّهُ إنْسَانٌ ، أَنْتَجَ أَنَّهُ حَيَوَانٌ ، أَوْ لَكِنَّهُ لَيْسَ هَذَا بِإِنْسَانٍ
لَمْ يُنْتِجْ أَنَّهُ لَيْسَ بِحَيَوَانٍ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ
عَقِيمٌ ، فَكَذَا هُنَا إذَا قُلْنَا : مَا دَامَتَا بَقِيَ عِقَابُهُمْ ، ثُمَّ
قُلْنَا : لَكِنَّهُمَا دَائِمَتَانِ لَزِمَ دَوَامُ عِقَابِهِمْ .
أَوْ لَكِنَّهُمَا مَا بَقِيَتَا لَمْ يَلْزَمْ عَدَمُ
دَوَامِ عِقَابِهِمْ .
لَا يُقَالُ : إذَا دَامَ عِقَابُهُمْ بَقِيَتَا أَوْ
عُدِمَتَا فَلَا فَائِدَةَ لِلتَّقْيِيدِ بِدَوَامِهِمَا .
لِأَنَّا نَقُولُ : بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ
وَهُوَ دَلَالَتُهُ عَلَى بَقَاءِ ذَلِكَ الْعَذَابِ دَهْرًا دَائِمًا طَوِيلًا
لَا يُحِيطُ الْعَقْلُ بِقَدْرِ طُولِهِ وَامْتِدَادِهِ ،
فَأَمَّا أَنَّهُ هَلْ لِذَلِكَ الْعَذَابِ آخِرٌ أَمْ
لَا ؟ فَذَلِكَ يَحْصُلُ مِنْ أَدِلَّةٍ أُخْرَى وَهُوَ الْآيَاتُ الْمُصَرِّحَةُ
بِتَأْبِيدِ خُلُودِهِمْ الْمُسْتَلْزِمِ أَنَّهُ لَا آخِرَ لَهُ .
وَمِنْ الثَّانِي : أَنَّهُ اسْتِثْنَاءُ مَنْ فِيهَا
لِأَنَّهُمْ يُخْرَجُونَ مِنْ النَّارِ إلَى الزَّمْهَرِيرِ ، وَإِلَى شُرْبِ
الْحَمِيمِ ثُمَّ يَعُودُونَ فِيهَا فَهُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا إلَّا فِي
تِلْكَ الْأَوْقَاتِ ، فَإِنَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ أَوْقَاتَ عَذَابٍ أَيْضًا
إلَّا أَنَّهُمْ لَيْسُوا حِينَئِذٍ فِيهَا حَقِيقَةً أَوْ أَنَّ مَا لِمَنْ
يَعْقِلُ كَ { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَحِينَئِذٍ
فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً لِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ضَمِيرِ خَالِدِينَ
مُتَّصِلًا بِنَاءً عَلَى شُمُولِ شَقُوا لَهُمْ أَوْ مُنْقَطِعًا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ
شُمُولِهِ لَهُمْ وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَوْ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ، وَإِلَّا
بِمَعْنَى سِوَى : أَيْ مَا دَامَتَا سِوَى مَا شَاءَ رَبُّك زِيَادَةً عَلَى
ذَلِكَ ، وَبَقِيَتْ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَعْرَضْتُ عَنْهَا لِبُعْدِهَا ، وَلَا
يُنَافِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : {
لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ يَوْمٌ تَصْفِقُ فِيهِ أَبْوَابُهَا لَيْسَ فِيهَا
أَحَدٌ وَذَلِكَ بَعْدَمَا يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا } .
لِأَنَّ فِي سَنَدِهِ مَنْ قَالُوا فِيهِ : إنَّهُ
غَيْرُ ثِقَةٍ وَصَاحِبُ أَكَاذِيبَ كَثِيرَةٍ عَظِيمَةٍ ، نَعَمْ نَقَلَ غَيْرُ
وَاحِدٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ
ابْنُ تَيْمِيَّةَ : وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ،
وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَأَنَسٍ .
وَذَهَبَ إلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَحَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ طَلْحَةَ الْوَالِبِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ
الْمُفَسِّرِينَ انْتَهَى .
وَيَرُدُّ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْحَسَنِ قَوْلَ غَيْرِهِ .
قَالَ الْعُلَمَاءُ ، قَالَ ثَابِتٌ : سَأَلْت الْحَسَنَ
عَنْ هَذَا فَأَنْكَرَهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ
لَمْ يَصِحَّ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ .
وَعَلَى التَّنَزُّلِ فَمَعْنَى كَلَامِهِمْ كَمَا
قَالَهُ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ مِنْ عُصَاةِ
الْمُؤْمِنِينَ .
أَمَّا مَوَاضِعُ الْكُفَّارِ فَهِيَ مُمْتَلِئَةٌ
بِهِمْ لَا يُخْرَجُونَ عَنْهَا أَبَدًا ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، وَفِي تَفْسِيرِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ .
قَالَ قَوْمٌ : إنَّ عَذَابَ الْكُفَّارِ مُنْقَطِعٌ ،
وَلَهُ نِهَايَةٌ ، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْآيَةِ .
وَبِ {
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا } وَبِأَنَّ مَعْصِيَةَ
الظُّلْمِ مُتَنَاهِيَةٌ ، فَالْعِقَابُ عَلَيْهَا بِمَا لَا يَتَنَاهَى ظُلْمٌ انْتَهَى .
وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ مَرَّ وقَوْله تَعَالَى : { أَحْقَابًا }
لَا يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ نِهَايَةً لِمَا مَرَّ أَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ
بِهِ وَبِنَحْوِهِ عَنْ الدَّوَامِ ، وَلَا ظُلْمَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَافِرَ
كَانَ عَازِمًا عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ حَيًّا فَعُوقِبَ دَائِمًا فَهُوَ لَمْ
يُعَاقَبْ بِالدَّائِمِ إلَّا عَلَى دَائِمٍ ، فَلَمْ يَكُنْ عَذَابُهُ إلَّا
جَزَاءً وِفَاقًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْيِيدَ وَالِاسْتِثْنَاءَ فِي
أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِمَا ظَاهِرَهُمَا بِاتِّفَاقِ الْكُلِّ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { غَيْرَ مَجْذُوذٍ } فَيُؤَوَّلُ بِنَظِيرِ مَا مَرَّ ،
وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِمَا إذَا جَعَلْنَاهَا بِمَعْنًى مِنْ أَهْلِ الْأَعْرَافِ
وَعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَدْخُلُوهَا إلَّا بَعْدُ ، قَالَ ابْنُ
زَيْدٍ أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ
فَقَالَ : { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } أَيْ مَقْطُوعٍ ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا
بِاَلَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ النَّارِ
.
[ خَاتِمَةٌ ] أَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْكَعْبَةِ { مَا أَطْيَبَك وَأَطْيَبَ رِيحَك
، مَا أَعْظَمَك وَأَعْظَمَ حُرْمَتَك ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ
الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْك مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ
نَظُنَّ بِهِ إلَّا خَيْرًا } .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ جَاءَ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا
وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ وَيُؤْتِي الزَّكَاةَ وَيَصُومُ رَمَضَانَ وَيَتَّقِي
الْكَبَائِرَ فَإِنَّ
لَهُ الْجَنَّةَ ، قَالُوا : وَمَا هِيَ الْكَبَائِرُ ؟
قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ } الْحَدِيثَ .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ .
وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَنَا زَعِيمٌ لِمَنْ
آمَنَ بِي وَأَسْلَمَ وَهَاجَرَ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ - أَيْ
أَسْفَلِهَا - وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى غُرَفِ
الْجَنَّةِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا ، وَلَا مِنْ
الشَّرِّ مَهْرَبًا يَمُوتُ حَيْثُ شَاءَ أَنْ يَمُوتَ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ فَارَقَ
الدُّنْيَا عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَقَامَ
الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ مَاتَ وَاَللَّهُ عَنْهُ رَاضٍ } .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا
يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً يُعْطَى عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ
عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُعْطَى بِحَسَنَاتِهِ فِي
الدُّنْيَا حَتَّى إذَا أَفْضَى إلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ
يُعْطَى بِهَا خَيْرًا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يُقْبَلُ إيمَانٌ بِلَا
عَمَلٍ ، وَلَا عَمَلٌ بِلَا إيمَانٍ
} .
وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ : { إنِّي رَأَيْتُ
فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ جِبْرِيلَ عِنْدَ رَأْسِي وَمِيكَائِيلَ عِنْدَ رِجْلِي
يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : اضْرِبْ لَهُ مَثَلًا فَقَالَ اسْمَعْ سَمِعَتْ
أُذُنُك وَاعْقِلْ عَقَلَ قَلْبُكَ ، إنَّمَا مَثَلُك وَمَثَلُ أُمَّتِك كَمَثَلِ مَلِكٍ
اتَّخَذَ دَارًا ثُمَّ بَنَى فِيهَا بَيْتًا ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو
النَّاسَ إلَى طَعَامِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ الرَّسُولَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
تَرَكَهُ ، فَاَللَّهُ هُوَ الْمَلِكُ ، وَالدَّارُ الْإِسْلَامُ وَالْبَيْتُ
الْجَنَّةُ ، وَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ رَسُولٌ ، مَنْ أَجَابَك دَخَلَ الْإِسْلَامَ
، وَمَنْ دَخَلَ الْإِسْلَامَ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ
أَكَلَ مَا فِيهَا } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعَذِّبُ
الْمُوَحِّدِينَ فِي جَهَنَّمَ بِقَدْرِ نُقْصَانِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ
يَرُدُّهُمْ إلَى الْجَنَّةِ خُلُودًا دَائِمًا أَبَدًا بِإِيمَانِهِمْ } .
وَأَحْمَدُ وَغَيْرُهُ : {
طُوبَى لِمَنْ رَآنِي وَآمَنَ بِي مَرَّةً وَطُوبَى
لِمَنْ لَمْ يَرَنِي وَآمَنَ بِي سَبْعَ مَرَّاتٍ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّيَالِسِيِّ : ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { أَفْلَحَ مَنْ
هُدِيَ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ بِهِ } .
وَمُسْلِمٌ :
{ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ
قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ
مَا كَانَ قَبْلَهُ } .
( الْكَبِيرَةُ الثَّانِيَةُ : الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَهُوَ
الرِّيَاءُ ) قَدْ شَهِدَ بِتَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَانْعَقَدَ
عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ .
أَمَّا الْكِتَابُ : فَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ قَائِلًا :
{ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ
السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَاب شَدِيدٌ } قَالَ مُجَاهِدٌ : هُمْ أَهْلُ الرِّيَاءِ
، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } أَيْ لَا
يُرَائِي بِعَمَلِهِ وَمِنْ ثَمَّ نَزَلَتْ فِيمَنْ يَطْلُبُ الْأَجْرَ وَالْحَمْدَ
بِعِبَادَاتِهِ وَأَعْمَالِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا } .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ : { إنَّ أَخْوَفَ
مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إذَا جَزَى النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ : اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا اُنْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ أَدْنَى الرِّيَاءِ
وَأَحَبَّ الْعَبِيدِ إلَى اللَّهِ الْأَتْقِيَاءُ الْأَسْخِيَاءُ الْأَخْفِيَاءُ
} أَيْ الْمُبَالِغُونَ فِي سَتْرِ عِبَادَاتِهِمْ وَتَنْزِيهِهَا عَنْ شَوَائِبِ
الْأَغْرَاضِ الْفَانِيَةِ وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ { الَّذِينَ إذَا غَابُوا
لَمْ يُفْتَقَدُوا ، وَإِذَا شَهِدُوا - أَيْ حَضَرُوا - لَمْ يُعْرَفُوا
أُولَئِكَ أَئِمَّةُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ
وَالرِّيَاءُ شِرْكٌ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى
أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ أَمَا إنِّي لَسْتُ أَقُولُ يَعْبُدُونَ شَمْسًا
وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ وَشَهْوَةً
خَفِيَّةً } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ : { الشِّرْكُ أَخْفَى فِي
أُمَّتِي مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا } .
وَالْحَاكِمُ : { الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَعْمَلَ
الرَّجُلُ لِمَكَانِ الرَّجُلِ
} .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ وَالْحَاكِمُ وَأَبُو
نُعَيْمٍ : { الشِّرْكُ أَخْفَى فِي أُمَّتِي مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى
الصَّفَا فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ وَأَدْنَاهُ أَنْ
تُحِبَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْجَوْرِ أَوْ تُبْغِضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعَدْلِ
وَهَلْ الدِّينُ إلَّا الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ ؟ قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ
اللَّهُ } } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ { إنَّ اللَّهَ إذَا
كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْزِلُ إلَى الْعِبَادِ أَيْ يَتَجَلَّى لَهُمْ
تَجَلِّيًا مُنَزَّهًا عَنْ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ وَسَائِرِ لَوَازِمِ
الْجِهَاتِ وَالْأَجْسَامِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ ،
فَأَوَّلُ مَنْ يُدْعَى بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَرَجُلٌ كَثِيرُ الْمَالِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ : أَلَمْ
أُعَلِّمْك مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ .
قَالَ
: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ ؟ قَالَ : كُنْتُ
أَقُومُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ : لَهُ
كَذَبْتَ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ ،
وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : أَلَمْ أُوَسِّعْ
عَلَيْك حَتَّى لَمْ أَدَعْك تَحْتَاجُ إلَى أَحَدٍ ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَبِّ ، قَالَ
: فَمَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُك ؟ قَالَ : كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ
، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ : بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ : فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ
، وَيُؤْتَى بِاَلَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ :
فِي مَاذَا قُتِلْتَ ؟ ، فَيَقُولُ : أُمِرْتُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِك
فَقَاتَلْتُ حَتَّى قُتِلْتُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ : لَهُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ
اللَّهُ : لَهُ بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ جَرِيءٌ أَيْ شُجَاعٌ فَقَدْ
قِيلَ ذَلِكَ ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ
تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { إنَّ أَوَّلَ
النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اُسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ
فَعَرَّفَهُ - أَيْ اللَّهُ - نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا : قَالَ : فَمَا عَمِلْتَ
فِيهَا
؟ قَالَ :
قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اُسْتُشْهِدْتُ ، قَالَ : كَذَبْتَ وَلَكِنَّك قَاتَلْتَ
لِيُقَالَ : جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ
حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ؛ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ
وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فَعَرَفَهَا ، قَالَ :
فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ
وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ .
قَالَ :
كَذَبْتَ وَلَكِنَّك تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ :
عَالِمٌ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أَمَرَ
بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ
اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ
فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ ، فَقَالَ : فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا
تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا
قَالَ : كَذَبْتَ وَلَكِنَّك فَعَلْتَهُ لِيُقَالَ : هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ،
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ } .
وَالْحَاكِمُ
: { أَوَّلُ النَّاسِ يَدْخُلُ النَّارَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ ، يُؤْتَى بِالرَّجُلِ ، فَيَقُولُ : رَبِّ
عَلَّمْتَنِي الْكِتَابَ فَقَرَأْتُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَيْ سَاعَاتِهِمَا
رَجَاءَ ثَوَابِك ، فَيَقُولُ : كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تُصَلِّي لِيُقَالَ : إنَّك قَارِئٌ
مُصَلٍّ وَقَدْ قِيلَ ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ ؛ ثُمَّ يُؤْتَى بِآخَرَ ،
فَيَقُولُ : رَبِّ رَزَقْتَنِي مَالًا فَوَصَلْتُ بِهِ الرَّحِمَ وَتَصَدَّقْتُ
بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَحَمَّلْتُ بِهِ ابْنَ السَّبِيلِ رَجَاءَ ثَوَابِك
وَجَنَّتِك ، فَيُقَالُ : كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ تَتَصَدَّقُ وَتَصِلُ لِيُقَالَ
: إنَّهُ سَمْحٌ جَوَّادٌ فَقَدْ قِيلَ ، اذْهَبُوا بِهِ إلَى النَّارِ ، ثُمَّ
يُجَاءُ بِالثَّالِثِ فَيَقُولُ : رَبِّ خَرَجْتُ فِي سَبِيلِك فَقَاتَلْتُ فِيك
غَيْرَ مُدْبِرٍ رَجَاءَ ثَوَابِك وَجَنَّتِك فَيُقَالُ : كَذَبْتَ إنَّمَا كُنْتَ
تُقَاتِلُ لِيُقَالَ : إنَّك جَرِيءٌ وَشُجَاعٌ فَقَدْ قِيلَ ، اذْهَبُوا بِهِ
إلَى النَّارِ } .
وَالْحَاكِمُ : { ثَلَاثَةٌ
مُهْلَكُونَ عِنْدَ الْحِسَابِ : جَوَّادٌ وَشُجَاعٌ
وَعَالِمٌ } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { إذَا
جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى
مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ
ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِهِ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ } .
وَالطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ : " إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ : { أَنَا خَيْرُ قَسِيمٍ لِمَنْ أَشْرَكَ بِي مَنْ أَشْرَكَ بِي
شَيْئًا فَإِنَّ عَمَلَهُ قَلِيلَهُ وَكَثِيرَهُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي أَشْرَكَ بِي
، أَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ } .
وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ
مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ، إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُتِيَ
بِصُحُفٍ مُخْتَمَةٍ فَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ تَعَالَى ، فَيَقُولُ
اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ : اقْبَلُوا هَذَا وَأَلْقُوا هَذَا ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ
: وَعِزَّتِك مَا رَأَيْنَا إلَّا خَيْرًا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ لَكِنْ كَانَ لِغَيْرِي وَلَا
أَقْبَلُ الْيَوْمَ إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي } وَفِي رِوَايَةٍ : { إذَا
كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُجَاءُ بِالْأَعْمَالِ فِي صُحُفٍ مُخْتَمَةٍ ،
فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - اقْبَلُوا هَذَا وَرُدُّوا هَذَا ، فَتَقُولُ
الْمَلَائِكَةُ وَعِزَّتِك مَا كَتَبْنَا إلَّا مَا عَمِلَ ، فَيَقُولُ : إنَّ عَمَلَهُ
كَانَ لِغَيْرِ وَجْهِي ، وَإِنِّي لَا أَقْبَلُ الْيَوْمَ إلَّا مَا كَانَ
لِوَجْهِي } .
وَفِي أُخْرَى لِابْنِ عَسَاكِرَ وَالدَّارَقُطْنِيِّ :
{ يُجَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصُحُفٍ مَخْتُومَةٍ فَتُنْصَبُ بَيْنَ يَدَيْ
اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ : أَلْقُوا هَذَا
وَاقْبَلُوا هَذَا ، فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ وَعِزَّتِك مَا رَأَيْنَا إلَّا
خَيْرًا ، فَيَقُولُ - وَهُوَ أَعْلَمُ - : إنَّ هَذَا كَانَ لِغَيْرِي لَا أَقْبَلُ
الْيَوْمَ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهِي } .
وَفِي أُخْرَى مُرْسَلَةٍ لِابْنِ الْمُبَارَكِ : { إنَّ
الْمَلَائِكَةَ يَرْفَعُونَ عَمَلَ الْعَبْدِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ
يَسْتَكْثِرُونَهُ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِ إلَى حَيْثُ
شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ فَيُوحِي اللَّهُ إلَيْهِمْ : إنَّكُمْ حَفَظَةٌ
عَلَى عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ ، إنَّ عَبْدِي
هَذَا لَمْ يُخْلِصْ لِي فِي عَمَلِهِ فَاجْعَلُوهُ فِي سِجِّينٍ ، وَيَصْعَدُونَ بِعَمَلِ
الْعَبْدِ يَسْتَقِلُّونَهُ وَيُحَقِّرُونَهُ حَتَّى يَبْلُغُوا بِهِ إلَى حَيْثُ
شَاءَ اللَّهُ مِنْ سُلْطَانِهِ فَيُوحِي إلَيْهِمْ إنَّكُمْ حَفَظَةٌ عَلَى
عَمَلِ عَبْدِي وَأَنَا رَقِيبٌ عَلَى نَفْسِهِ ، إنَّ عَبْدِي هَذَا أَخْلَصَ لِي
عَمَلَهُ فَاجْعَلُوهُ فِي عِلِّيِّينَ
} .
وَابْنُ سَعْدٍ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
نَادَى مُنَادٍ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لِغَيْرِ اللَّهِ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ
مِمَّنْ عَمِلَ لَهُ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ
الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الَّذِينَ إذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا .
وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا وَلَمْ يُعْرَفُوا
مَصَابِيحُ الْهُدَى يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ } .
وَالْبُخَارِيُّ فِي التَّارِيخِ ، وَالتِّرْمِذِيُّ
وَابْنُ مَاجَهْ : { تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ جُبِّ الْحَزَنِ وَادٍ فِي
جَهَنَّمَ تَتَعَوَّذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ
يَدْخُلُهُ الْقُرَّاءُ الْمُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ ، وَإِنَّ أَبْغَضَ
الْقُرَّاءِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلطَّبَرَانِيِّ : { إنَّ فِي
جَهَنَّمَ لَوَادِيًا تَسْتَعِيذُ جَهَنَّمُ مِنْ ذَلِكَ الْوَادِي فِي كُلِّ
يَوْمٍ أَرْبَعَمِائَةِ مَرَّةٍ أُعِدَّ ذَلِكَ الْوَادِي لِلْمُرَائِينَ مِنْ
أُمَّةِ مُحَمَّدٍ لِحَامِلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِلْمُتَصَدِّقِ فِي
غَيْرِ ذَاتِ اللَّهِ وَلِلْحَاجِّ إلَى بَيْتِ اللَّهِ وَلِلْخَارِجِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ } ، وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ : { مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ
رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } .
وَالْعُقَيْلِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ : { أَبْغَضُ الْعِبَادِ إلَى اللَّهِ
مَنْ كَانَ ثَوْبَاهُ خَيْرًا مِنْ عَمَلِهِ أَنْ تَكُونَ ثِيَابُهُ ثِيَابَ
الْأَنْبِيَاءِ
وَعَمَلُهُ عَمَلَ الْجَبَّارِينَ } .
وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ فِي سِتْرِ
الصُّوفِيَّةِ ، وَالدَّيْلَمِيُّ : { احْذَرُوا الشُّهْرَتَيْنِ : الصُّوفَ
وَالْخَزَّ ، أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ
أَنَّ فِيهِ خَيْرًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ } وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ اللَّهَ
حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ مُرَاءٍ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ الْأَرْضَ لَتَعِجُّ إلَى
اللَّهِ مِنْ الَّذِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ رِيَاءً } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ
صِيَامِهِ إلَّا الْجُوعُ ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إلَّا
السَّهَرُ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { رُبَّ
قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ
صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ }
.
وَالدَّيْلَمِيُّ .
{ رِيحُ الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ
خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَلَا يَجِدُهُ مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ : {
مَنْ أَحْسَنَ الصَّلَاةَ حَيْثُ يَرَاهُ النَّاسُ ثُمَّ أَسَاءَهَا حَيْثُ
يَخْلُو فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ اسْتَهَانَ بِهَا رَبَّهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ تَزَيَّنَ بِعَمَلِ
الْآخِرَةِ وَهُوَ لَا يُرِيدُهَا وَلَا يَطْلُبُهَا لُعِنَ فِي السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { إذَا تَزَيَّنَ الْقَوْمُ
بِالْآخِرَةِ وَتَجَمَّلُوا لِلدُّنْيَا فَالنَّارُ مَأْوَاهُمْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ رَاءَى بِاَللَّهِ لِغَيْرِ
اللَّهِ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ قَامَ مَقَامَ رِيَاءٍ
وَسُمْعَةٍ فَإِنَّهُ فِي مَقْتِ اللَّهِ حَتَّى يَجْلِسَ } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ .
{ مَنْ يُرَاءِ يُرَاءِ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ يُسَمِّعْ
يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ } .
وَهُوَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ : أَيْ مَنْ يُظْهِرْ
عَمَلَهُ لِلنَّاسِ رِيَاءً يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ أَيْ يَفْضَحْهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ، وَمَعْنَى مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ أَيْ مَنْ أَظْهَرَ
لِلنَّاسِ الْعَمَلَ الصَّالِحَ لِيَعْظُمَ عِنْدَهُمْ وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ
رَاءَى اللَّهُ بِهِ : أَيْ أَظْهَرَ
سَرِيرَتَهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد : {
الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ } .
وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ : { الشِّرْكُ فِي أُمَّتِي
أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا } أَيْ عَلَى الْحَجَرِ
الْأَمْلَسِ .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا الشِّرْكَ فَإِنَّهُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ، قَالُوا :
وَكَيْفَ نَتَّقِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ إنَّا
نَعُوذُ بِك أَنْ نُشْرِكَ بِك شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا
نَعْلَمُهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الشِّرْكُ فِيكُمْ
أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ وَسَأَدُلُّك عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتَهُ
أَذْهَبَ عَنْك صِغَارَ الشِّرْكِ وَكِبَارَهُ تَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ
بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا أَعْلَمُ ، تَقُولُهَا
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ } .
وَفِي أُخْرَى عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ الْحَكِيمِ عَنْ
ابْنِ جُرَيْجٍ بَلَاغًا : { يَا أَبَا بَكْرٍ الشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ
دَبِيبِ النَّمْلِ ، إنَّ مِنْ الشِّرْكِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : مَا شَاءَ
اللَّهُ وَشِئْتَ ، وَمِنْ النِّدِّ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : لَوْلَا فُلَانٌ
لَقَتَلَنِي فُلَانٌ ، أَفَلَا أَدُلُّك عَلَى مَا يُذْهِبُ اللَّهُ بِهِ عَنْك
صِغَارَ الشِّرْكِ وَكِبَارَهُ ؛ تَقُولُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ :
اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أُشْرِكَ بِك وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُك
لِمَا لَا أَعْلَمُ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الشِّرْكَ وَالشَّهْوَةَ
الْخَفِيَّةَ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُشْرِكُ أُمَّتُك مِنْ بَعْدِك ؟
قَالَ : نَعَمْ ، أَمَا إنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا
حَجَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنْ يُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ،
وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ أَنْ يُصْبِحَ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضَ لَهُ
شَهْوَةٌ مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيَتْرُكَ صَوْمَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : {
يُصْبِحُ الْعَبْدُ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهْوَةٌ
مِنْ شَهَوَاتِهِ فَيُوَاقِعُهَا وَيَدَعُ صَوْمَهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلًا
سِرًّا فَيَكْتُبُهُ اللَّهُ عِنْدَهُ سِرًّا ، فَلَا يَزَالُ بِهِ الشَّيْطَانُ
حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِهِ فَيُمْحَى مِنْ السِّرِّ وَيُكْتَبَ عَلَانِيَةً فَإِنْ
عَادَ تَكَلَّمَ الثَّانِيَةَ مُحِيَ مِنْ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَكُتِبَ رِيَاءً } .
وَالْخَطِيبُ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : أَنَا
خَيْرُ شَرِيكٍ فَمَنْ أَشْرَكَ مَعِي شَيْئًا فَهُوَ لِشَرِيكِي ، يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ
الْأَعْمَالِ إلَّا مَا أُخْلِصَ لَهُ وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ
فَإِنَّهُ لِلرَّحِمِ وَلَيْسَ لِلَّهِ مِنْهُ شَيْءٌ } ، وَأَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ
صَحِيحٍ : { مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ - عَزَّ
وَجَلَّ - لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ
يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَيْ رِيحَهَا الطَّيِّبَ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ
عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ الرِّيَاءُ ، يُقَالُ : لِمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
إذَا جَاءَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُرَاءُونَ فَاطْلُبُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ } .
وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَلَا
أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ ، الشِّرْكُ
الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِمَكَانِ الرَّجُلِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إيَّاكُمْ أَنْ تَخْلِطُوا طَاعَةَ
اللَّهِ تَعَالَى بِحُبِّ ثَنَاءِ الْعِبَادِ فَتَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ .
{ أَيُّهَا النَّاسُ إيَّاكُمْ وَشِرْكَ السَّرَائِرِ
أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيُصَلِّيَ فَيُزَيِّنَ صَلَاتَهُ جَاهِدًا لِمَا يَرَى
مِنْ نَظَرِ النَّاسِ إلَيْهِ فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : { إيَّاكُمْ وَشِرْكَ
السَّرَائِرِ أَنْ يُتِمَّ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا لِمَا يَلْحَظُهُ مِنْ
الْحَدَقِ وَالنَّظَرِ فَذَلِكَ شِرْكُ السَّرَائِرِ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { الشِّرْكُ أَخْفَى
فِي أُمَّتِي مِنْ دَبِيبِ الذَّرِّ عَلَى الصَّفَا
وَلَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْكُفْرِ إلَّا تَرْكُ الصَّلَاةِ } وَابْنُ جَرِيرٍ
وَالنَّسَائِيُّ : { قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ
فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ وَأَنَا أَغْنَى عَنْ الشُّرَكَاءِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُومُ فِي
الدُّنْيَا مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ إلَّا سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ عَلَى رُءُوسِ
الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ }
أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ
الْأَعْظَمَ .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { مَنْ تَزَيَّنَ لِلنَّاسِ بِمَا
يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ شَنَأَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ تَهَيَّأَ لِلنَّاسِ بِقَوْلِهِ
وَلِبَاسِهِ وَخَالَفَ ذَلِكَ فِي أَعْمَالِهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } .
وَالطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ صَلَّى وَهُوَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ صَامَ
وَهُوَ يُرَائِي فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ تَصَدَّقَ وَهُوَ يُرَائِي فَقَدْ
أَشْرَكَ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ سَعْدٍ وَيَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ
وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ السَّكَنِ وَالْبَاوَرْدِيُّ وَابْنُ مَنْدَهْ وَابْنُ
نَافِعٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ : { مَنْ
قَامَ بِخُطْبَةٍ لَا يَلْتَمِسُ بِهَا إلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً أَوْقَفَهُ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَوْقِفَ رِيَاءٍ وَسُمْعَةٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ يُسَمِّعْ
يُسَمِّعْ اللَّهُ بِهِ ، وَمَنْ يُرَاءِ يُرَاءِ اللَّهُ بِهِ : وَمَنْ كَانَ ذَا
لِسَانَيْنِ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَيْنِ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ النَّجَّارِ : { يُؤْمَرُ بِنَاسٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { بِفِئَةٍ } أَيْ جَمَاعَةٍ : { مِنْ
النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إذَا دَنَوْا مِنْهَا
وَاسْتَنْشَقُوا رِيحَهَا وَنَظَرُوا إلَى قُصُورِهَا ، وَإِلَى مَا أَعَدَّهُ
اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا نُودُوا أَنْ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا لَا نَصِيبَ لَهُمْ
فِيهَا
فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ مَا رَجَعَ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ
بِمِثْلِهَا ، فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا لَوْ أَدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أَنْ
تُرِيَنَا مَا أَرَيْتَنَا مِنْ ثَوَابِك وَمَا أَعْدَدْتَ فِيهَا لِأَوْلِيَائِك
كَانَ أَهْوَنَ عَلَيْنَا ، قَالَ
: ذَاكَ أَرَدْتُ بِكُمْ يَا أَشْقِيَاءُ كُنْتُمْ إذَا
خَلَوْتُمْ بَارَزْتُمُونِي بِالْعَظَائِمِ ، وَإِذَا لَقِيتُمْ النَّاسَ لَقِيتُمُونِي
مُخْبِتِينَ ، تُرَاءُونَ النَّاسَ بِأَعْمَالِكُمْ خِلَافَ مَا تُعْطُونِي مِنْ
قُلُوبِكُمْ .
هِبْتُمْ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي وَأَجْلَلْتُمْ
النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي وَتَرَكْتُمْ لِلنَّاسِ وَلَمْ تَتْرُكُوا لِي
فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ الْعَذَابَ مَعَ مَا حُرِمْتُمْ مِنْ الثَّوَابِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَالْيَوْمَ أُذِيقُكُمْ أَلِيمَ
عَذَابِي مَعَ مَا حَرَمْتُكُمْ مِنْ جَزِيلِ ثَوَابِي } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { لَا يَسْمَعُ اللَّهُ مِنْ
مُسَمِّعٍ وَلَا مِنْ مُرَاءٍ وَلَا لَاهٍ وَلَا لَاعِبٍ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
نَادَى مُنَادٍ لِيَسْمَعَ أَهْلُ الْجَمْعِ : أَيْنَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ
النَّاسَ قُومُوا وَخُذُوا أُجُورَكُمْ مِمَّنْ عَمِلْتُمْ لَهُ فَإِنِّي لَا
أَقْبَلُ عَمَلًا خَالَطَهُ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا } .
وَالذَّهَبِيُّ : { سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا النَّجَاةُ غَدًا ؟ قَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ لَا تُخَادِعَ اللَّهَ .
قَالَ : وَكَيْفَ يُخَادَعُ اللَّهُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْمَلَ
بِمَا أَمَرَك اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَتُرِيدَ بِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ ،
فَاتَّقُوا الرِّيَاءَ فَإِنَّهُ الشِّرْكُ بِاَللَّهِ ، وَإِنَّ الْمُرَائِيَ
يُنَادَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ بِأَرْبَعَةِ
أَسْمَاءَ : يَا كَافِرُ يَا فَاجِرُ يَا غَادِرُ يَا خَاسِرُ ضَلَّ عَمَلُك
وَبَطَلَ أَجْرُك فَلَا خَلَاقَ } أَيْ نَصِيبَ { لَك الْيَوْمَ فَالْتَمِسْ أَجْرَك
مِمَّنْ كُنْتَ لَهُ تَعْمَلُ يَا مُخَادِعُ } .
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ : فَهُوَ وَاضِحٌ بَعْدَ أَنْ عَلِمْتَ
مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ تِلْكَ النُّصُوصِ الْقَطْعِيَّةِ وَالْأَحَادِيثِ
الصَّحِيحَةِ السَّنِيَّةِ
، وَمِنْ
ثَمَّ تَطَابَقَتْ كَلِمَاتُ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَمِّهِ وَأَطْبَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى
تَحْرِيمِهِ وَتَعْظِيمِ إثْمِهِ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
لِمَنْ رَآهُ يُطَأْطِئُ رَقَبَتَهُ : يَا صَاحِبَ الرَّقَبَةِ ارْفَعْ رَقَبَتَك
، لَيْسَ الْخُشُوعُ فِي الرِّقَابِ وَإِنَّمَا الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ .
وَرَأَى أَبُو أُمَامَةَ رَجُلًا يَبْكِي فِي
الْمَسْجِدِ فِي سُجُودِهِ فَقَالَ : أَنْتَ أَنْتَ لَوْ كَانَ هَذَا فِي بَيْتِك .
وَقَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ :
لِلْمُرَائِي ثَلَاثُ عَلَامَاتٍ
: يَكْسَلُ إذَا كَانَ وَحْدَهُ ، وَيَنْشَطُ إذَا كَانَ
فِي النَّاسِ ، وَيَزِيدُ فِي الْعَمَلِ إذَا أُثْنِيَ عَلَيْهِ وَيَنْقُصُ إذَا
ذُمَّ .
وَقَالَ : يُعْطَى الْعَبْدُ عَلَى نِيَّتِهِ مَا لَا
يُعْطَى عَلَى عَمَلِهِ لِأَنَّ النِّيَّةَ لَا رِيَاءَ فِيهَا .
{ وَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لِمَنْ قَالَ : أُقَاتِلُ بِسَيْفِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُرِيدُ وَجْهَ
اللَّهِ وَمَحْمَدَةَ النَّاسِ : لَا شَيْءَ لَك ، لَا شَيْءَ لَك ، لَا شَيْءَ
لَك ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ
} الْحَدِيثَ ، وَقَدْ ذَمَّ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ مَنْ يَقُولُ : هَذِهِ
لِوَجْهِ اللَّهِ وَوَجْهِ فُلَانٍ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا شَرِيكَ لَهُ ،
وَقَالَ قَتَادَةُ : إذَا رَاءَى الْعَبْدُ يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - :
عَبْدِي يَسْتَهْزِئُ بِي .
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ : مَا صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَهِرَ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ
أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مُرَاءٍ فَلْيَنْظُرْ إلَيَّ ، وَقَالَ أَيْضًا :
تَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ
شِرْكٌ ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَك اللَّهُ مِنْهُمَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : مَثَلُ مَنْ يَعْمَلُ
رِيَاءً وَسُمْعَةً كَمَثَلِ مَنْ مَلَأَ كِيسَهُ حَصًى ثُمَّ دَخَلَ السُّوقَ
لِيَشْتَرِيَ بِهِ ، فَإِذَا فَتَحَهُ بَيْنَ يَدَيْ الْبَائِعِ افْتَضَحَ ،
وَضَرَبَ بِهِ وَجْهَهُ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ بِهِ مَنْفَعَةٌ سِوَى قَوْلِ
النَّاسِ : مَا أَمْلَأَ
كِيسَهُ وَلَا يُعْطَى بِهِ شَيْئًا ، فَكَذَلِكَ مَنْ عَمِلَ
لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي عَمَلِهِ سِوَى مَقَالَةِ
النَّاسِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ .
قَالَ تَعَالَى : { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا مِنْ
عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا } أَيْ الْأَعْمَالُ الَّتِي قُصِدَ
بِهَا غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى يَبْطُلُ ثَوَابُهَا صَارَتْ كَالْهَبَاءِ
الْمَنْثُورِ ، وَهُوَ الْغُبَارُ الَّذِي يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ .
( تَنْبِيهَاتٌ ) مِنْهَا : الرِّيَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ
الرُّؤْيَةِ وَالسُّمْعَةُ مِنْ السَّمَاعِ .
وَحَدُّ الرِّيَاءِ الْمَذْمُومِ إرَادَةُ الْعَامِلِ
بِعِبَادَتِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كَأَنْ يَقْصِدَ اطِّلَاعَ النَّاسِ
عَلَى عِبَادَتِهِ وَكَمَالِهِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ مِنْهُمْ نَحْوُ مَالٍ أَوْ
جَاهٍ أَوْ ثَنَاءٍ .
إمَّا بِإِظْهَارِ نُحُولٍ وَصُفْرَةٍ ، وَنَحْوِ
تَشَعُّثِ شَعْرٍ ، وَبَذَاذَةِ هَيْئَةٍ ، وَخَفْضِ صَوْتٍ ، وَغَمْضِ جَفْنٍ إيهَامًا
لِشِدَّةِ اجْتِهَادِهِ فِي الْعِبَادَةِ وَحُزْنِهِ وَقِلَّةِ أَكْلِهِ وَعَدَمِ
مُبَالَاتِهِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ لِاشْتِغَالِهِ عَنْهَا بِالْأَهَمِّ ، وَتَوَالِي
صَوْمِهِ وَسَهَرِهِ ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا ، وَمَا دَرَى
الْمَخْذُولُ أَنَّهُ حِينَئِذٍ أَقْبَحُ مِنْ أَرَاذِلِهِمْ كَالْمَكَّاسِينَ
وَقُطَّاعِ السَّبِيلِ .
وَأَمْثَالِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ مُعْتَرِفُونَ
بِذُنُوبِهِمْ لَا غُرُورَ لَهُمْ فِي الدِّينِ بِخِلَافِ ذَلِكَ الْمَخْذُولِ
الْمَمْقُوتِ .
وَإِمَّا بِإِظْهَارِ زِيِّ الصَّالِحِينَ كَإِطْرَاقِ
الرَّأْسِ فِي الْمَشْيِ وَالْهُدُوءِ فِي الْحَرَكَةِ ، وَإِبْقَاءِ أَثَرِ
السُّجُودِ عَلَى الْوَجْهِ وَلُبْسِ الصُّوفِ وَخَشِنِ الثِّيَابِ وَتَقْصِيرِهَا
وَغَيْرِ ذَلِكَ إيهَامًا أَنَّهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالسَّادَةِ الصُّوفِيَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ
- عَنْ مُحِقِّيهِمْ وَخَذَلَ مُبْطِلِيهِمْ مَعَ الْإِفْلَاسِ عَنْ حَقِيقَةِ
الْعِلْمِ وَالتَّصَوُّفِ بِبَاطِنِهِ ، وَمَا دَرَى الْمُخَادِعُ أَنَّ كُلَّ مَا
وَصَلَ إلَيْهِ لِأَجْلِ هَذَا التَّلْبِيسِ حَرَامٌ عَلَيْهِ قَبُولُهُ ، فَإِنْ
قَبِلَهُ كَانَ فَاسِقًا لِأَكْلِهِ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ .
وَإِمَّا
بِالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ ، وَإِظْهَارِ حِفْظِ
السُّنَنِ وَلِقَاءِ الْمَشَايِخِ وَإِتْقَانِ الْعُلُومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
الطُّرُقِ الْكَثِيرَةِ ؛ إذْ الرِّيَاءُ بِالْقَوْلِ كَثِيرٌ وَأَنْوَاعُهُ لَا
تَنْحَصِرُ .
وَإِمَّا بِنَحْوِ تَطْوِيلِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ
وَتَحْسِينِهَا ، وَإِظْهَارِ التَّخَشُّعِ فِيهَا وَكَذَا الصَّوْمُ وَالْحَجُّ
وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْعِبَادَاتِ
.
وَأَنْوَاعُ الرِّيَاءِ بِالْأَعْمَالِ لَا تَنْحَصِرُ ،
وَرُبَّمَا أَنَّ الْمُرَائِيَ مِنْ شِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى إحْكَامِ الرِّيَاءِ ،
وَإِتْقَانِهِ يَتَأَلَّفُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ فِي خَلَوَاتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ
خُلُقًا لَهُ فِي الْمَلَإِ لَا لِلْخَوْفِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَيَاءِ
مِنْهُ .
وَإِمَّا بِالْأَصْحَابِ وَالزَّائِرِينَ
وَالْمُخَالِطِينَ كَمَنْ يَطْلُبُ مِنْ عَالِمٍ أَوْ أَمِيرٍ أَوْ صَالِحٍ أَنْ
يَأْتِيَ إلَيْهِ لِزِيَارَتِهِ إيهَامًا لِرِفْعَتِهِ وَتَبَرُّكِ الْأَكَابِرِ
بِهِ ، وَكَمَنْ يَذْكُرُ أَنَّهُ لَقِيَ شُيُوخًا كَثِيرِينَ افْتِخَارًا بِهِمْ
وَتَرَفُّعًا بِذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ
.
فَهَذِهِ مَجَامِعُ أَبْوَابِ الرِّيَاءِ الْحَامِلِ إيثَارُهَا
عَلَى طَلَبِ نَحْوِ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ وَاشْتِهَارِ الصِّيتِ حَتَّى
تَنْطَلِقَ الْأَلْسُنُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ، وَيُجْلَبَ الْحُطَامُ مِنْ
سَائِرِ الْآفَاقِ إلَيْهِ .
وَمِنْهَا
: حَيْثُ أُطْلِقَ الرِّيَاءُ عَلَى لِسَانِ حَمَلَةِ
الشَّرْعِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَذْمُومُ الَّذِي مَرَّ حَدُّهُ ، ثُمَّ إنْ لَمْ
يَقْصِدْ غَيْرَ الرِّيَاءِ فَعِبَادَتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَلَيْتَهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ
مِنْ السُّوءِ غَيْرُ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ عَظِيمُ الْإِثْمِ وَقَبِيحُ الذَّمِّ
، كَمَا عُلِمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ ،
وَالْمَعْنَى فِي تَحْرِيمِهِ وَكَوْنِهِ كَبِيرَةً وَشِرْكًا - مُقْتَضِيًا
لِلَّعْنِ - أَنَّ فِيهِ اسْتِهْزَاءً بِالْحَقِّ تَعَالَى كَمَا مَرَّتْ
الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الْأَحَادِيثِ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ قَتَادَةُ كَمَا
مَرَّ : إذَا رَاءَى الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : اُنْظُرُوا إلَيْهِ كَيْفَ
يَسْتَهْزِئُ بِي ، وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ أَحَدَ خُدَّامِ الْمَلِكِ الْقَائِمِينَ
فِي
خِدْمَتِهِ لَوْ كَانَ قَاصِدًا بِوُقُوفِهِ فِيهَا
مُلَاحَظَةَ أَمَةٍ أَوْ أَمْرَدَ لِلْمَلِكِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ مَنْ لَهُ
أَدْنَى مُسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ اسْتِهْزَاءً بِذَلِكَ الْمَلِكِ ، لِأَنَّهُ لَمْ
يَقْصِدْ تَقَرُّبًا إلَيْهِ بِوَجْهٍ مَعَ إيهَامِهِ أَنَّهُ عَلَى غَايَةٍ مِنْ التَّقَرُّبِ
، وَحِينَئِذٍ فَأَيُّ اسْتِحْقَارٍ وَاسْتِهْزَاءٍ يَزِيدُ عَلَى قَصْدِك -
بِعِبَادَةِ رَبِّك - مِثْلَك عَاجِزًا عَنْ نَفْسِهِ مِنْ سَائِرِ الْوُجُوهِ
فَضْلًا عَنْك ، وَمَعَ ذَلِكَ فَقَصْدُك إيَّاهُ مُتَبَرِّعًا بِعِبَادَتِك
يُنْبِئُ عَنْ اعْتِقَادِك فِيهِ أَنَّهُ أَقْدَرُ عَلَى تَحْصِيلِ أَغْرَاضِك
مِنْ اللَّهِ فَرَفَعْتَ الْعَبْدَ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ عَلَى مَوْلَاك
الْقَوِيِّ الْقَادِرِ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ الرِّيَاءُ مِنْ كَبَائِرِ
الْكَبَائِرِ الْمُهْلِكَةِ ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ " .
وَفِيهِ أَيْضًا تَلْبِيسٌ عَلَى الْخَلْقِ لِإِيهَامِهِ
لَهُمْ أَنَّهُ مُخْلِصٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ بَلْ
التَّلْبِيسُ فِي الدُّنْيَا حَرَامٌ أَيْضًا حَتَّى لَوْ قَضَى دَيْنَ إنْسَانٍ
لِيُخَيِّلَ إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ حَتَّى يَعْتَقِدُوا
سَخَاوَتَهُ أَثِمَ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّلْبِيسِ وَتَمَلُّكِ الْقُلُوبِ
بِالْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ .
فَإِنْ قُلْت : قَدْ تَقَرَّرَ وَجْهُ كَوْنِ الرِّيَاءِ
الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ ، فَمَا وَجْهُ افْتِرَاقِهِ مِنْ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ ؟
قُلْت : يَتَّضِحُ ذَلِكَ بِمِثَالٍ هُوَ أَنَّ الْمُصَلِّيَ حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ
: إنَّهُ صَالِحٌ مَثَلًا يَكُونُ رِيَاؤُهُ سَبَبًا بَاعِثًا لَهُ عَلَى
الْعَمَلِ ، لَكِنَّهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ الْعَمَلِ تَارَةً يَقْصِدُ بِهِ
تَعْظِيمَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَتَارَةً لَا يَقْصِدُ بِهِ شَيْئًا ، وَفِي كُلٍّ
مِنْهُمَا لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ مُكَفِّرٌ بِخِلَافِ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ ،
فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي هَذَا إلَّا إذَا قَصَدَ بِالسُّجُودِ مَثَلًا
تَعْظِيمَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَائِيَ إنَّمَا نَشَأَ
لَهُ ذَلِكَ الشِّرْكُ بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ عَظُمَ قَدْرُ الْمَخْلُوقِ
عِنْدَهُ حَتَّى حَمَلَهُ ذَلِكَ التَّعْظِيمُ عَلَى
أَنْ يَرْكَعَ وَيَسْجُدَ ، فَكَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ هُوَ الْمُعَظَّمُ
بِالسُّجُودِ مِنْ وَجْهٍ وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الشِّرْكِ الْخَفِيِّ لَا
الْجَلِيِّ وَذَلِكَ غَايَةُ الْجَهْلِ ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ
خَدَعَهُ الشَّيْطَانُ وَأَوْهَمَ عِنْدَهُ أَنَّ الْعَبْدَ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ
يَمْلِكُ مِنْ مَعَايِشِهِ وَمَنَافِعِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَمْلِكُهُ اللَّهُ
تَعَالَى ، فَلِذَلِكَ عَدَلَ بِوَجْهِهِ وَقَصْدِهِ إلَيْهِمْ عَنْ اللَّهِ
تَعَالَى ، فَأَقْبَلَ يَسْتَمِيلُ قَلْبَهُمْ فَيَكِلُهُ - تَعَالَى - إلَيْهِمْ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كَمَا مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ : { اذْهَبُوا إلَى الَّذِينَ
كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فَاطْلُبُوا ذَلِكَ عِنْدَهُمْ } ، وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ
لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا سِيَّمَا فِي الْآخِرَةِ : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا
بَنُونَ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } { يَوْمًا لَا يَجْزِي
وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا
يَغُرَّنَّكُمْ بِاَللَّهِ الْغَرُورُ
} .
وَقَدْ يُطْلَقُ الرِّيَاءُ عَلَى أَمْرٍ مُبَاحٍ وَهُوَ
طَلَبُ نَحْوِ الْجَاهِ وَالتَّوْقِيرِ بِغَيْرِ عِبَادَةٍ كَأَنْ يَقْصِدَ
بِزِينَةِ لِبَاسِهِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِالنَّظَافَةِ وَالْجَمَالَةِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ مِنْ كُلِّ تَجَمُّلٍ وَتَزَيُّنٍ
وَتَكَرُّمٍ لِأَجْلِ النَّاسِ
.
كَالْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ لَا فِي مَعْرِضِ
الْعِبَادَةِ وَالصَّدَقَةِ بَلْ لِيُقَالَ : إنَّهُ سَخِيٌّ .
وَوَجْهُ عَدَمِ حَرَكَةِ هَذَا النَّوْعِ أَنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ مَا مَرَّ فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ التَّلْبِيسِ بِالدِّينِ
وَالِاسْتِهْزَاءِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، { وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ سَوَّى عِمَامَتَهُ وَشَعْرَهُ
وَنَظَرَ وَجْهَهُ فِي الْمِرْآةِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا :
أَوَتَفْعَلُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
مِنْ الْعَبْدِ أَنْ يَتَزَيَّنَ لِإِخْوَانِهِ إذَا خَرَجَ
إلَيْهِمْ
} .
نَعَمْ هَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عِبَادَةٌ مُتَأَكِّدَةٌ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَعْوَةِ الْخَلْقِ وَاسْتِمَالَةِ
قُلُوبِهِمْ مَا أَمْكَنَهُ .
إذْ لَوْ سَقَطَ مِنْ أَعْيُنِهِمْ لَأَعْرَضُوا عَنْهُ فَلَزِمَهُ
أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مَحَاسِنَ أَحْوَالِهِ لِئَلَّا يَزْدَرُوهُ فَيُعْرِضُوا
عَنْهُ لِامْتِدَادِ أَعْيُنِ عَامَّةِ الْخَلْقِ إلَى الظَّوَاهِرِ دُونَ
السَّرَائِرِ ، فَهَذَا قَصْدُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ
قُرْبَةٌ أَيُّ قُرْبَةٍ ، وَيَجْرِي ذَلِكَ فِي الْعُلَمَاءِ وَنَحْوِهِمْ إذَا
قَصَدُوا بِتَحْسِينِ هَيْئَاتِهِمْ نَحْوَ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : اخْتَلَفَ الْغَزَالِيُّ وَابْنُ عَبْدِ
السَّلَامِ فِيمَنْ قَصَدَ بِعَمَلِهِ الرِّيَاءَ وَالْعِبَادَةَ ، فَقَالَ
الْغَزَالِيُّ : إنْ غَلَبَ بَاعِثُ الدُّنْيَا فَلَا ثَوَابَ لَهُ ، أَوْ بَاعِثُ
الْآخِرَةِ فَلَهُ الثَّوَابُ وَإِنْ تَسَاوَيَا تَسَاقَطَا فَلَا ثَوَابَ أَيْضًا
، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : لَا ثَوَابَ مُطْلَقًا لِلْأَخْبَارِ
السَّابِقَةِ كَخَبَرِ : { مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَأَنَا
مِنْهُ بَرِيءٌ هُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ
} .
وَأَوَّلَ الْغَزَالِيُّ الْحَدِيثَ عَلَى مَا إذَا اسْتَوَى
الْقَصْدَانِ أَوْ كَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ أَرْجَحَ ، وَصَرِيحُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ
أَنَّ الرِّيَاءَ وَلَوْ مُحَرَّمًا لَا يَمْنَعُ أَصْلَ الثَّوَابِ عِنْدَهُ إذَا
كَانَ بَاعِثُ الْعِبَادَةِ أَغْلَبَ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ : لَوْ كَانَ اطِّلَاعُ
النَّاسِ مُرَجِّحًا وَمُقَوِّيًا نَشَاطَهُ ، وَلَوْ فُقِدَ لَمْ يَتْرُكْ
الْعِبَادَةَ ، وَلَوْ انْفَرَدَ قَصْدُ الرِّيَاءِ لَمَا أَقْدَمَ ، فَاَلَّذِي
نَظُنُّهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُحْبِطُ أَصْلَ الثَّوَابِ
، وَلَكِنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى مِقْدَارِ قَصْدِ الرِّيَاءِ وَيُثَابُ عَلَى
مِقْدَارِ قَصْدِ الثَّوَابِ انْتَهَى ، وَقَدْ يُنَافِيهِ قَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ
: إذَا قَصَدَ الْأَجْرَ وَالْمَحْمَدَةَ جَمِيعًا فِي صَدَقَتِهِ وَصَلَاتِهِ
فَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي يُنَاقِضُ الْإِخْلَاصَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِي
كِتَابِ الْإِخْلَاصِ ، وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا
ثَوَابَ لَهُ أَصْلًا انْتَهَى ، وَبِهَذَا يَتَرَجَّحُ كَلَامُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الَّذِي يُتَّجَهُ تَرْجِيحُهُ فِي
ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْمُصَاحِبُ لِقَصْدِ الْعِبَادَةِ رِيَاءً مُبَاحًا
لَمْ يَقْتَضِ إسْقَاطَ ثَوَابِهَا مِنْ أَصْلِهِ بَلْ يُثَابُ عَلَى مِقْدَارِ
قَصْدِهِ الْعِبَادَةَ وَإِنْ ضَعُفَ ، أَوْ مُحَرَّمًا اقْتَضَى سُقُوطَهُ مِنْ
أَصْلِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ السَّابِقَةُ ،
قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ }
قَدْ لَا يُعَكِّرُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ تَقْصِيرَهُ
بِقَصْدِهِ الْمُحَرَّمَ أَوْجَبَ سُقُوطَ الْأَجْرِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ ذَرَّةٌ
مِنْ خَيْرٍ فَلَمْ تَشْمَلْهُ الْآيَةُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا عَقَدَ عِبَادَتَهُ
عَلَى الْإِخْلَاصِ ثُمَّ وَرَدَ عَلَيْهِ وَارِدُ الرِّيَاءِ ، فَإِنْ كَانَ
بَعْدَ تَمَامِ الْعَمَلِ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ لِأَنَّهُ تَمَّ عَلَى
الْإِخْلَاصِ فَلَا يَنْعَطِفُ عَلَيْهِ أَثَرُ مَا طَرَأَ إنْ لَمْ يَتَكَلَّفْ
إظْهَارَهُ وَالتَّحَدُّثَ بِهِ
.
فَإِنْ تَكَلَّفَ ذَلِكَ قَصْدًا لِلرِّيَاءِ قَالَ
الْغَزَالِيُّ : فَهَذَا مَخُوفٌ ؛ وَفِي الْآثَارِ وَالْأَخْبَارِ مَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ يُحْبِطُ الْعَمَلَ ، وَسَاقَ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَبْعَدَ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ الطَّارِئُ مُبْطِلًا لِثَوَابِ الْعَمَلِ .
قَالَ : بَلْ الْأَقْيَسُ أَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى
عَمَلِهِ الَّذِي انْقَضَى وَيُعَاقَبُ عَلَى مُرَاءَاتِهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ
وَلَوْ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَغَيَّرَ عَقْدُهُ إلَى
الرِّيَاءِ فِي أَثْنَائِهَا فَإِنَّهُ يُحْبِطُهَا بَلْ يُفْسِدُهَا إنْ
تَمَحَّضَ قَصْدُ الرِّيَاءِ فَإِنْ لَمْ يَتَمَحَّضْ لَكِنَّهُ غَلَبَ حَتَّى انْغَمَرَ
قَصْدُ الْقُرْبَةِ فِيهِ فَهَذَا يَتَرَدَّدُ فِي إفْسَادِهِ لِلْعِبَادَةِ ،
وَمَيْلُ الْحَارِثِ الْمُحَاسِبِيِّ إلَى إفْسَادِهِ .
وَالْأَحْسَنُ عِنْدَنَا أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ إذَا
لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُهُ فِي الْعَمَلِ بَلْ بَقِيَ الْعَمَلُ صَادِرًا عَنْ
بَاعِثِ الدِّينِ ، وَإِنَّمَا انْضَافَ إلَيْهِ سُرُورٌ بِاطِّلَاعٍ فَلَا
يَفْسُدُ عَمَلُهُ لِبَقَاءِ أَصْلِ النِّيَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهِ
وَالْحَامِلَةِ عَلَى إتْمَامِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَرَضَ لَهُ مَا لَوْلَا
النَّاسُ لَقَطَعَ صَلَاتَهُ مَثَلًا فَإِنَّهُ يُفْسِدُهَا فَيُعِيدُهَا ، وَإِنْ
كَانَتْ فَرْضًا .
وَالْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي الرِّيَاءِ مَحْمُولَةٌ
عَلَى مَا إذَا لَمْ يُرِدْ بِالْعَمَلِ إلَّا الْخَلْقَ .
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الشَّرِكَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ
عَلَى مَا إذَا كَانَ قَصْدُ الرِّيَاءِ مُسَاوِيًا لِقَصْدِ الثَّوَابِ أَوْ
أَغْلَبَ مِنْهُ ، أَمَّا إذَا كَانَ ضَعِيفًا بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ فَلَا
يُحْبِطُ بِالْكُلِّيَّةِ ثَوَابَ الْعَمَلِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَفْسُدَ الصَّلَاةُ
، وَلَوْ قَارَنَ الرِّيَاءُ ابْتِدَاءَ عَقْدِ الصَّلَاةِ مَثَلًا وَاسْتَمَرَّ
إلَى أَنْ سَلَّمَ فَلَا خِلَافَ
أَنَّهُ يَقْضِي وَلَا يَعْتَدُّ بِصَلَاتِهِ فَإِنْ
نَدِمَ عَلَيْهِ أَثْنَاءَهَا وَاسْتَغْفَرَ ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ : هِيَ لَمْ
تَنْعَقِدْ ، فَيَسْتَأْنِفُهَا ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : يَلْغُو جَمِيعُ مَا
فَعَلَهُ إلَّا التَّحْرِيمَ فَيُتِمُّ عَلَيْهِ ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : لَا يَلْزَمُهُ
شَيْءٌ بَلْ يُتِمُّهَا لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْخَوَاتِيمِ ، كَمَا لَوْ
ابْتَدَأَ بِالْإِخْلَاصِ وَخَتَمَ بِالرِّيَاءِ فَإِنَّ عَمَلَهُ يَفْسُدُ ،
وَالْقَوْلَانِ الْأَخِيرَانِ خَارِجَانِ عَنْ قِيَاسِ الْفِقْهِ جِدًّا خُصُوصًا
أَوَّلَهُمَا ، وَكَذَا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ إذَا خَتَمَ بِالْإِخْلَاصِ صَحَّ
لِأَنَّ الرِّيَاءَ يَقْدَحُ فِي النِّيَّةِ ، وَاَلَّذِي يَسْتَقِيمُ عَلَى
قِيَاسِ الْفِقْهِ أَنْ يُقَالَ :
إنْ كَانَ بَاعِثُهُ هُوَ مُجَرَّدُ الرِّيَاءِ فِي
ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دُونَ طَلَبِ الثَّوَابِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ لَمْ
يَنْعَقِدْ افْتِتَاحُهُ ، وَلَمْ يَصِحَّ مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمْ بِالنِّيَّةِ
لِأَنَّهُ إنَّمَا تَحْرُمُ لِأَجْلِ النَّاسِ ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبُهُ نَجِسًا
وَلَوْ كَانَ وَحْدَهُ لَمْ يُصَلِّ أَصْلًا ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ إنَّهُمْ
لَوْ فُقِدُوا صَلَّى أَيْضًا صَلَاةً صَحِيحَةً إلَّا أَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ
الرَّغْبَةُ فِي الْمَحْمَدَةِ أَيْضًا فَاجْتَمَعَ الْبَاعِثَانِ ، فَإِنْ كَانَ
فِي نَحْوِ صَدَقَةٍ فَقَدْ عَصَى بِإِجَابَةِ بَاعِثِ الرِّيَاءِ وَأَطَاعَ
بِإِجَابَةِ بَاعِثِ الثَّوَابِ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } فَلَهُ ثَوَابٌ
بِقَدْرِ قَصْدِهِ الصَّحِيحِ ، وَعِقَابٌ بِقَدْرِ قَصْدِهِ الْفَاسِدِ وَلَا يُحْبِطُ
أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، وَصَلَاةُ النَّافِلَةِ كَالصَّدَقَةِ فِيمَا ذُكِرَ ،
وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : صَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَلَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ
بَاطِلٌ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّ قَصْدَهُ الرِّيَاءُ وَإِظْهَارُ حُسْنِ
قِرَاءَتِهِ تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ أَنَّهُ يَقْصِدُ الثَّوَابَ
أَيْضًا بِتَطَوُّعِهِ فَتَصِحُّ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْقَصْدِ صَلَاتُهُ
وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ .
وَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ قَصْدٌ آخَرُ هُوَ عَاصٍ بِهِ ،
فَإِنْ اجْتَمَعَ الْبَاعِثَانِ
فِي فَرْضٍ ، وَكُلٌّ لَا يَسْتَقِلُّ وَإِنَّمَا
يَحْصُلُ الِانْبِعَاثُ بِمَجْمُوعِهِمَا فَهَذَا لَا يُسْقِطُ الْوَاجِبَ عَنْهُ
، فَإِنْ اسْتَقَلَّ كُلٌّ مِنْهُمَا بِحَيْثُ لَوْ عُدِمَ بَاعِثُ الرِّيَاءِ أَدَّى
الْفَرْضَ وَلَوْ عُدِمَ بَاعِثُ الْفَرْضِ أَنْشَأَ صَلَاةً لِلرِّيَاءِ فَهَذَا
مَحَلُّ النَّظَرِ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ جِدًّا ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ :
الْوَاجِبُ صَلَاةٌ خَالِصَةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ تُوجَدْ ، وَأَنْ
يُقَالَ : الْوَاجِبُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ بِبَاعِثٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ
وَقَدْ وُجِدَ فَاقْتِرَانُ غَيْرِهِ بِهِ لَا يُسِيغُ سُقُوطَ الْفَرْضِ عَنْهُ
كَمَا لَوْ صَلَّى فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ ، وَلَوْ كَانَ الرِّيَاءُ فِي نَحْوِ
الْمُبَادَرَةِ إلَى الصَّلَاةِ دُونَ ذَاتِهَا قُطِعَ بِصِحَّتِهَا لِأَنَّ
بَاعِثَ أَصْلِ الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُعَارِضْهُ غَيْرُهُ .
هَذَا فِي رِيَاءٍ بَاعِثٍ عَلَى الْعَمَلِ .
فَأَمَّا مُجَرَّدُ السُّرُورِ بِإِطْلَاعِ النَّاسِ
إذَا لَمْ يَبْلُغْ أَثَرُهُ بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ فَبَعِيدٌ أَنْ
يُفْسِدَ الصَّلَاةَ فَهَذَا مَا تَرَاهُ لَائِقًا بِقَانُونِ الْفِقْهِ ،
وَالْمَسْأَلَةُ غَامِضَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْفُقَهَاءَ لَمْ يَتَعَرَّضُوا
لَهَا فِي الْفِقْهِ ، وَاَلَّذِينَ خَاضُوا فِيهَا لَمْ يُلَاحِظُوا قَوَانِينَ الْفُقَهَاءِ
بَلْ حَمَلَهُمْ الْحِرْصُ عَلَى تَصْفِيَةِ الْقُلُوبِ وَطَلَبِ الْإِخْلَاصِ
عَلَى إفْسَادِ الْعِبَادَاتِ بِأَدْنَى الْخَوَاطِرِ ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ
الْقَصْدُ فِيمَا نَرَاهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ انْتَهَى .
وَمَرَّ آنِفًا مَا يُعْلَمُ بِهِ مَا فِي بَعْضِهِ .
وَمِنْهَا :
الرِّيَاءُ يَنْقَسِمُ إلَى دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي
الْقُبْحِ ، فَأَقْبَحُهَا الرِّيَاءُ فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ شَأْنُ
الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنْ ذَمِّهِمْ فِي كِتَابِهِ
الْعَزِيزِ وَتَوَعَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ - عَزَّ قَائِلًا - : { إنَّ
الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ } ، وَهَؤُلَاءِ قَلُّوا
مِنْ بَعْدِ زَمَنِ الصَّحَابَةِ ، نَعَمْ كَثُرَ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الْقُبْحِ
كَالْمُعْتَقِدِينَ لِلْبِدَعِ الْمُكَفِّرَةِ كَإِنْكَارِ الْحَشْرِ أَوْ عِلْمِ
اللَّهِ تَعَالَى بِالْجُزْئِيَّاتِ ، وَاعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ الْمُطْلَقَةِ
مَعَ إظْهَارِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ فَلَيْسَ وَرَاءَ قَبِيحِ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ
شَيْءٌ ، وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِأُصُولِ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ كَأَنْ
يَعْتَادَ تَرْكَهَا فِي الْخَلْوَةِ وَيَفْعَلَهَا فِي الْمَلَأِ خَوْفَ
الْمَذَمَّةِ ، وَهَذَا أَيْضًا عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لِإِنْبَائِهِ
عَلَى غَايَةِ الْجَهْلِ وَأَدَائِهِ إلَى أَعْلَى أَنْوَاعِ الْمَقْتِ ،
وَيَلِيهِمْ الْمُرَاءُونَ بِالنَّوَافِلِ كَأَنْ يَعْتَادَ ذَلِكَ فِيهَا
وَحْدَهَا خَوْفَ الِاسْتِنْقَاصِ بِعَدَمِ فِعْلِهَا فِي الْمَلَإِ ، وَإِيثَارًا
لِلْكَسَلِ وَعَدَمِ الرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهَا فِي الْخَلْوَةِ ، وَيَلِيهِمْ
الْمُرَاءُونَ بِأَوْصَافِ الْعِبَادَاتِ كَتَحْسِينِهَا وَإِطَالَةِ أَرْكَانِهَا
، وَإِظْهَارِ التَّخَشُّعِ فِيهَا ، وَاسْتِكْمَالِ سَائِرِ مُكَمِّلَاتِهَا فِي
الْمَلَإِ ، وَالِاقْتِصَارِ فِي الْخَلْوَةِ عَلَى أَدْنَى وَاجِبَاتِهَا خَوْفَ
إيثَارِ مَا ذُكِرَ فِي النَّوَافِلِ ، فَهَذَا مَحْظُورٌ أَيْضًا لِأَنَّ فِيهِ
كَاَلَّذِي قَبْلَهُ تَقْدِيمَ الْمَخْلُوقِ عَلَى الْخَالِقِ ، وَقَدْ يَكِيدُ الشَّيْطَانُ
فَاعِلَهُ فَيُزَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ صِيَانَةً لَهُمْ
عَنْ الْوُقُوعِ فِيهِ ، وَلَوْ صَدَقَ لَصَانَ نَفْسَهُ عَنْ فَوَاتِ تِلْكَ
الْكِمَالَاتِ بِمَا يَفْعَلُهُ فِي خَلَوَاتِهِ ؛ فَدَلَّتْ قَرَائِنُ
أَحْوَالِهِ عَلَى أَنَّ بَاعِثَ ذَلِكَ لَيْسَ إلَّا النَّظَرَ إلَى الْخَلْقِ
رَجَاءَ مَحْمَدَتِهِمْ لَا صِيَانَتِهِمْ .
وَلِلْمُرَائِي لِأَجْلِهِ دَرَجَاتٌ أَيْضًا ،
فَأَقْبَحُهَا أَنْ يَقْصِدَ التَّمَكُّنَ مِنْ
مَعْصِيَةٍ كَمَنْ يُظْهِرُ الْوَرَعَ وَالزُّهْدَ حَتَّى يُعْرَفَ بِهِ
فَيُوَلَّى الْمَنَاصِبَ وَالْوَصَايَا ، وَتُودَعَ عِنْدَهُ الْأَمْوَالُ ، أَوْ
يُفَوَّضَ إلَيْهِ تَفْرِقَةُ الصَّدَقَاتِ وَقَصْدُهُ بِكُلِّ ذَلِكَ
الْخِيَانَةُ فِيهِ ، وَكَمَنْ يُذَكِّرُ أَوْ يَعِظُ أَوْ يُعَلِّمُ أَوْ
يَتَعَلَّمُ لِلظَّفَرِ بِامْرَأَةٍ أَوْ غُلَامٍ ، ثَمَّ فَهَؤُلَاءِ أَقْبَحُ
الْمُرَائِينَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا طَاعَةَ رَبِّهِمْ سُلَّمًا
إلَى مَعْصِيَتِهِ وَوَصْلَةً إلَى فِسْقِهِمْ وَتَسُوءُ عَاقِبَتُهُمْ .
وَيَلِيهَا مَنْ يُتَّهَمُ بِمَعْصِيَةٍ أَوْ خِيَانَةٍ
فَيُظْهِرُ الطَّاعَةَ وَالصَّدَقَةَ قَصْدًا لِدَفْعِ تِلْكَ التُّهْمَةِ .
وَيَلِيهَا أَنْ يَقْصِدَ نَيْلَ حَظٍّ مُبَاحٍ مِنْ
نَحْوِ مَالٍ أَوْ نِكَاحٍ ، أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا .
وَيَلِيهَا أَنْ يَقْصِدَ بِإِظْهَارِ عِبَادَتِهِ
وَوَرَعِهِ وَتَخَشُّعِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ أَنْ لَا يُحْتَقَرَ وَيُنْظَرَ إلَيْهِ
بِعَيْنِ النَّقْصِ ، أَوْ أَنْ يُعَدَّ مِنْ جُمْلَةِ الصَّالِحِينَ وَفِي
الْخَلْوَةِ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ
إظْهَارَ النَّظَرِ فِي يَوْمٍ يُسَنُّ صَوْمُهُ خَشْيَةَ أَنْ يُظَنَّ بِهِ
أَنَّهُ لَا اعْتِنَاءَ لَهُ بِالنَّوَافِلِ ، فَهَذِهِ أُصُولُ دَرَجَاتِ
الرِّيَاءِ وَمَرَاتِبُ أَصْنَافِ الْمُرَائِينَ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَجَمِيعُهُمْ تَحْتَ مَقْتِ
اللَّهِ تَعَالَى وَغَضَبِهِ وَهُوَ مِنْ أَشَدِّ الْمُهْلِكَاتِ .
وَمِنْهَا : مَرَّ فِي الْخَبَرِ { أَنَّ مِنْ
الرِّيَاءِ مَا هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ } .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَزِلُّ فِيهِ فُحُولُ
الْعُلَمَاءِ فَضْلًا عَنْ الْعِبَادِ الْجُهَلَاءِ بِآفَاتِ النُّفُوسِ
وَغَوَائِلِ الْقُلُوبِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الرِّيَاءَ إمَّا جَلِيٌّ وَهُوَ مَا
يَحْمِلُ عَلَى الْعَمَلِ وَيَبْعَثُ عَلَيْهِ .
وَإِمَّا خَفِيٌّ وَهُوَ مَا لَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ
لَكِنَّهُ يُخَفِّفُ مَشَقَّتَهُ كَمَنْ يَعْتَادُ التَّهَجُّدَ كُلَّ لَيْلَةٍ
وَيَثْقُلُ عَلَيْهِ ، لَكِنَّهُ إذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ أَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
نَشِطَ لَهُ وَخُفِّفَ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ إنَّمَا يَعْمَلُ لِلَّهِ ،
وَلَوْلَا رَجَاءُ الثَّوَابِ لَمَا صَلَّى .
وَأَمَارَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَتَهَجَّدُ ، وَإِنْ لَمْ
يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؛ وَأَخْفَى مِنْ هَذَا مَا لَا يَحْمِلُ عَلَى
تَسْهِيلٍ ، وَتَخْفِيفٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ عِنْدَهُ رِيَاءٌ كَامِنٌ فِي قَلْبِهِ
كَكُمُونِ النَّارِ فِي الْحَجَرِ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْعَلَامَاتِ
، وَأَجْلَى عَلَامَاتِهِ أَنَّهُ يَسُرُّهُ اطِّلَاعُ النَّاسِ عَلَى طَاعَتِهِ
وَعِبَادَتِهِ ، فَرُبَّ عَبْدٍ مُخْلِصٍ فِي عَمَلِهِ يَكْرَهُ الرِّيَاءَ
وَيَذُمُّهُ فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ مِنْهُ شَيْءٌ يَحْمِلُ عَلَى الْعَمَلِ
ابْتِدَاءً وَلَا دَوَامًا ، وَلَكِنَّهُ إذَا اطَّلَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ سَرَّهُ
ذَلِكَ وَارْتَاحَ لَهُ وَرَوَّحَ ذَلِكَ عَنْ قَلْبِهِ شِدَّةَ الْعِبَادَةِ
عَلَيْهِ ، وَهَذَا السُّرُورُ يَدُلُّ عَلَى رِيَاءٍ خَفِيٍّ إذْ لَوْلَا
الْتِفَاتُ الْقَلْبِ لِلنَّاسِ لَمَا ظَهَرَ سُرُورُهُ عِنْدَ اطِّلَاعِهِمْ ،
فَاطِّلَاعُهُمْ مَعَ عَدَمِ كَرَاهَتِهِ لَهُ حَرَّكَ مَا كَانَ سَاكِنًا ،
وَصَارَ غِذَاءً لِلْعِرْقِ الْخَفِيِّ مِنْ الرِّيَاءِ ، وَحِينَئِذٍ يَحْمِلُ
عَلَى تَكَلُّفِ سَبَبِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ أَوْ نَحْوِهِ
كَإِظْهَارِ النُّحُولِ وَخَفْضِ الصَّوْتِ وَيُبْسِ الشَّفَتَيْنِ وَغَلَبَةِ
النُّعَاسِ الدَّالِّ عَلَى طُولِ التَّهَجُّدِ .
وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَخْتَفِيَ بِحَيْثُ لَا
يُرِيدُ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ وَلَا يَسُرُّهُ ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُبْدَأَ
بِالسَّلَامِ
وَالتَّعْظِيمِ وَأَنْ يُقَابَلَ بِمَزِيدِ الثَّنَاءِ
وَالْمُبَادَرَةِ إلَى حَوَائِجِهِ وَأَنْ يُسَامَحَ فِي مُعَامَلَتِهِ ، وَأَنْ
يُوَسَّعَ لَهُ الْمَكَانُ إذَا أَقْبَلَ ، وَمَتَى قَصَّرَ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ
ثَقُلَ عَلَى قَلْبِهِ لِعَظَمَةِ طَاعَتِهِ الَّتِي أَخْفَاهَا عِنْدَ نَفْسِهِ
فَكَأَنَّ نَفْسَهُ تَطْلُبُ أَنْ يُحْتَرَمَ فِي مُقَابَلَتِهَا ، حَتَّى لَوْ فُرِضَ
أَنَّهَا لَمْ تَفْعَلْ تِلْكَ الطَّاعَاتِ لَمَا كَانَتْ تَطْلُبُ ذَلِكَ
الِاحْتِرَامَ ، وَمَهْمَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ الطَّاعَةِ كَعَدَمِهَا فِي كُلِّ
مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ لَمْ يَكُنْ قَدْ قَنِعَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى ،
وَلَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنْ شَوْبٍ خَفِيٍّ مِنْ الرِّيَاءِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ
النَّمْلِ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَكُلُّ ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ
يُحْبِطَ الْأَجْرَ وَلَا يَسْلَمُ مِنْهُ إلَّا الصِّدِّيقُونَ .
وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَالَ
: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِلْقُرَّاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَلَمْ
يَكُنْ يُرَخَّصُ عَلَيْكُمْ السِّعْرُ أَلَمْ تَكُونُوا تُبْدَءُونَ بِالسَّلَامِ
أَلَمْ تَكُنْ تُقْضَى لَكُمْ الْحَوَائِجُ ؟ وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا أَجْرَ
لَكُمْ قَدْ اسْتَوْفَيْتُمْ أُجُورَكُمْ } وَمِنْ ثَمَّ لَمْ يَزَلْ
الْمُخْلِصُونَ خَائِفِينَ مِنْ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ يَشْهَدُونَ ذَلِكَ فِي
مُخَادَعَةِ النَّاسِ عَنْ أَعْمَالِهِمْ الصَّالِحَةِ يَحْرِصُونَ عَلَى
إخْفَائِهَا أَعْظَمَ مَا يَحْرِصُ النَّاسُ عَلَى إخْفَاءِ فَوَاحِشِهِمْ .
كُلُّ ذَلِكَ رَجَاءُ أَنْ يَخْلُصَ عَمَلُهُمْ
فَيُجَازِيَهُمْ اللَّهُ فِي الْقِيَامَةِ عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْخَلَائِقِ إذْ
عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ فِي الْقِيَامَةِ إلَّا الْخَالِصَ
، وَعَلِمُوا شِدَّةَ حَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ وَأَنْ لَا
يَنْفَعَ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، وَلَا
يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَنْ وَالِدِهِ ، وَيَشْتَغِلُ
الصِّدِّيقُونَ بِأَنْفُسِهِمْ ، فَيَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ : نَفْسِي
نَفْسِي ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَرْقًا بَيْنَ
اطِّلَاعِ الصِّغَارِ
وَالْمَجَانِينِ وَاطِّلَاعِ غَيْرِهِمْ عَلَى
عِبَادَاتِهِ فَعِنْدَهُ شَوْبٌ مِنْ الرِّيَاءِ .
إذْ لَوْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ النَّافِعُ الضَّارُّ
الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَغَيْرَهُ هُوَ الْعَاجِزُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ
لَاسْتَوَى عِنْدَهُ الصِّغَارُ وَغَيْرُهُمْ ، وَلَمْ تَتَأَثَّرْ نَفْسُهُ
بِحُضُورِ كَبِيرِهِمْ وَلَا صَغِيرِهِمْ ، وَلَيْسَ كُلُّ شَوْبٍ مِنْ الرِّيَاءِ
مُفْسِدًا لِلْعَمَلِ وَمُحْبِطًا لَهُ ، بَلْ السُّرُورُ إمَّا مَحْمُودٌ بِأَنْ
يَشْهَدَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ إظْهَارًا لِجَمِيلِ أَحْوَالِهِ
وَلُطْفِهِ بِهِ ، فَإِنَّهُ فِي نَفْسِهِ يَسْتُرُ طَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ ،
ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتُرُ مَعْصِيَتَهُ وَيُظْهِرُ طَاعَتَهُ وَلَا لُطْفَ
أَعْظَمَ مِنْ سَتْرِ الْقَبِيحِ ، وَإِظْهَارِ الْجَمِيلِ فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِجَمِيلِ
نَظَرِ اللَّهِ وَلُطْفِهِ بِهِ لَا بِحَمْدِ النَّاسِ وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ
فِي قُلُوبِهِمْ : { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا } .
أَوْ يَشْهَدَ أَنَّهُ لَمَّا سَتَرَ قَبِيحَهُ
وَأَظْهَرَ جَمِيلَهُ فِي الدُّنْيَا فَكَذَلِكَ يَفْعَلُ مَعَهُ فِي الْآخِرَةِ .
لِخَبَرِ :
{ مَا سَتَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ ذَنْبًا فِي
الدُّنْيَا إلَّا سَتَرَهُ عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ } أَوْ بِأَنْ يَظُنَّ
رَغْبَةَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الطَّاعَةِ فَيَتَضَاعَفَ بِذَلِكَ
أَجْرُهُ فَيَكُونَ لَهُ أَجْرُ الْعَلَانِيَةِ بِمَا ظَهَرَ آخِرًا وَأَجْرُ
السِّرِّ بِمَا قَصَدَهُ أَوَّلًا ، إذْ مَنْ اُقْتُدِيَ بِهِ فِي طَاعَةٍ لَهُ
مِثْلُ أَجْرِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ
شَيْءٌ ، وَتَوَقُّعُ ذَلِكَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ السُّرُورُ ، فَإِنَّ
ظُهُورَ مَخَايِلِ الرِّبْحِ لَذِيذٌ يُوجِبُ السُّرُورَ لَا مَحَالَةَ ، أَوْ
بِأَنْ يَفْرَحَ بِكَوْنِهِ - تَعَالَى - وَفَّقَهُ إلَى سَبَبٍ يَحْمَدُونَهُ عَلَيْهِ
وَيُحِبُّونَهُ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ كَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ مُذْنِبِينَ يَهْزَئُونَ
بِالْمُطِيعِينَ وَيُؤْذُونَهُمْ ، وَعَلَامَةُ هَذَا الْفَرَحِ أَنْ يَكُونَ
فَرَحُهُ بِحَمْدِهِمْ غَيْرَهُ كَفَرَحِهِ بِحَمْدِهِمْ لَهُ .
وَإِمَّا
مَذْمُومٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ لِقِيَامِ
مَنْزِلَتِهِ فِي قُلُوبِهِمْ حَتَّى يُعَظِّمُوهُ وَيُكْرِمُوهُ وَيَقُومُوا لَهُ
بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَهَذَا مَكْرُوهٌ ، وَبِمَا تَقَرَّرَ عُلِمَ أَنَّ فِي
كَتْمِ الْعَمَلِ فَائِدَةَ الْإِخْلَاصِ وَالنَّجَاةَ مِنْ الرِّيَاءِ وَفِي
إظْهَارِهِ فَائِدَةَ الِاقْتِدَاءِ وَتَرْغِيبَ النَّاسِ فِي الْخَيْرِ وَلَكِنْ
فِيهِ آفَةُ الرِّيَاءِ ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْقِسْمَيْنِ فَقَالَ -
عَزَّ قَائِلًا - : { إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } لَكِنَّهُ مَدَحَ الْإِسْرَارَ
لِسَلَامَتِهِ مِنْ تِلْكَ الْآفَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ
مِنْهَا .
وَقَدْ يُمْدَحُ الْإِظْهَارُ فِيمَا يَتَعَذَّرُ
الْإِسْرَارُ فِيهِ كَالْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ ،
فَالْإِظْهَارُ الْمُبَادَرَةُ إلَيْهِ ، وَإِظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِيهِ
لِلتَّحْرِيضِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ شَائِبَةُ رِيَاءٍ .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّهُ مَتَى خَلَصَ الْعَمَلُ مِنْ
تِلْكَ الشَّوَائِبِ وَلَمْ يَكُنْ فِي إظْهَارِهِ إيذَاءٌ لِأَحَدٍ فَإِنْ كَانَ
فِيهِ حَمْلٌ لِلنَّاسِ عَلَى الِاقْتِدَاءِ وَالتَّأَسِّي بِهِ فِي فِعْلِهِ
ذَلِكَ الْخَيْرَ وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ
الصُّلَحَاءِ الَّذِينَ تُبَادِرُ الْكَافَّةُ إلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ ،
فَالْإِظْهَارُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ مَقَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَوُرَّاثِهِمْ وَلَا يُخَصُّونَ
إلَّا بِالْأَكْمَلِ ، وَلِأَنَّ نَفْعَهُ مُتَعَدٍّ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ
يَعْمَلُ بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ
فَالْإِسْرَارُ أَفْضَلُ .
وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ يُحْمَلُ إطْلَاقُ مَنْ
أَطْلَقَ أَفْضَلِيَّةَ الْإِسْرَارِ
.
نَعَمْ مَرْتَبَةُ الْإِظْهَارِ الْفَاضِلِ مَزَلَّةُ
قَدَمٍ لِلْعِبَادِ وَالْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يَتَشَبَّهُونَ بِالْأَقْوِيَاءِ
فِي الْإِظْهَارِ وَلَا تَقْوَى قُلُوبُهُمْ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَتَحْبَطُ أُجُورُهُمْ
بِالرِّيَاءِ ، وَالتَّفَطُّنُ لِذَلِكَ
غَامِضٌ وَعَلَامَةُ الْحَقِّ فِيهِ أَنَّ مَنْ قَامَ
بِهِ مَعَ عِلْمِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ غَيْرَهُ لَوْ قَامَ بِهِ مِثْلُهُ مِنْ
أَقْرَانِهِ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ كَانَ مُخْلِصًا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ
نَفْسِهِ ذَلِكَ كَانَ مُرَائِيًا ، إذْ لَوْلَا مُلَاحَظَةُ نَظَرِهِ لِلْخَلْقِ لَمَا
آثَرَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِكِفَايَةِ غَيْرِهِ ، فَلْيَحْذَرْ
الْعَبْدُ خُدَعَ النَّفْسِ فَإِنَّهَا خَدُوعٌ ، وَالشَّيْطَانُ مُتَرَصِّدٌ ،
وَحُبُّ الْجَاهِ عَلَى الْقَلْبِ غَالِبٌ وَقَلَّمَا تَسْلَمُ الْأَعْمَالُ
الظَّاهِرَةُ عَنْ الْآفَاتِ وَالْأَخْطَارِ .
فَالسَّلَامَةُ الْإِخْفَاءُ ، وَمِنْ الْإِظْهَارِ التَّحَدُّثُ
بِالْعَمَلِ بَعْدَ فَرَاغِهِ ، بَلْ هَذَا أَشَدُّ خَطَرًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ
قَدْ يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ زِيَادَةٌ أَوْ مُبَالَغَةٌ وَلِلنَّفْسِ لَذَّةٌ
فِي إظْهَارِ الدَّعَاوَى ، وَأَهْوَنُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الرِّيَاءَ بِهِ لَا
يُحْبِطُ مَا مَضَى خَالِصًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ كَثِيرِينَ رُبَّمَا يَتْرُكُونَ
الطَّاعَاتِ خَوْفَ الرِّيَاءِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْمُودٍ مُطْلَقًا ، فَإِنَّ
الْأَعْمَالَ إمَّا لَازِمَةٌ لِلْبَدَنِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْغَيْرِ وَلَا
لَذَّةَ فِي عَيْنِهَا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ ، فَإِنْ كَانَ
بَاعِثُ الِابْتِدَاءِ فِيهَا رُؤْيَةَ النَّاسِ وَحْدَهَا فَهَذَا مَحْضُ مَعْصِيَةٍ
فَيَجِبُ تَرْكُهُ وَلَا رُخْصَةَ فِيهَا عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ ، وَإِنْ
كَانَ الْبَاعِثُ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ؛ لَكِنْ عَرَضَ
الرِّيَاءُ عِنْدَ عَقْدِهَا شَرَعَ فِيهَا وَجَاهَدَ نَفْسَهُ فِي دَفْعِ ذَلِكَ
الْعَارِضِ ، وَكَذَا لَوْ عَرَضَ فِي أَثْنَائِهَا فَيَرُدُّ نَفْسَهُ
لِلْإِخْلَاصِ قَهْرًا حَتَّى يُتِمَّهَا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْعُوك أَوَّلًا
إلَى التَّرْكِ ، فَإِذَا عَصَيْتَهُ وَعَزَمْتَ وَشَرَعْتَ دَعَاك لِلرِّيَاءِ ،
فَإِذَا أَعْرَضْتَ عَنْهُ وَجَاهَدْتَهُ إلَى أَنْ فَرَغْتَ نَدَمَكَ حِينَئِذٍ ،
وَقَالَ : لَك أَنْتَ مُرَاءٍ ، وَلَا يَنْفَعُك اللَّهُ بِهَذَا الْعَمَلِ شَيْئًا
حَتَّى تَتْرُكَ الْعَوْدَ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَيَحْصُلَ غَرَضُهُ
مِنْك فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ فَإِنَّهُ لَا
أَمْكَرَ مِنْهُ ، وَأَلْزِمْ قَلْبَك الْحَيَاءَ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى إذْ أَوْجَدَ فِيك بَاعِثًا دِينِيًّا عَلَى الْعَمَلِ فَلَمْ
تَتْرُكْهُ بَلْ جَاهَدْتَ نَفْسَك فِي الْإِخْلَاصِ فِيهِ وَلَمْ تَغْتَرَّ
بِمَكَائِدِ عَدُوِّك وَعَدُوِّ أَبِيك آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَإِمَّا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْخَلْقِ وَهَذِهِ تَعْظُمُ
فِيهَا الْآفَاتُ وَالْأَخْطَارُ فَأَعْظَمُهَا الْخِلَافَةُ ، ثُمَّ الْقَضَاءُ ،
ثُمَّ التَّذْكِيرُ وَالتَّدْرِيسُ وَالْإِفْتَاءُ ، ثُمَّ إنْفَاقُ الْمَالِ فَمَنْ
لَا تَسْتَمِيلُهُ الدُّنْيَا وَلَا يَسْتَفِزُّهُ الطَّمَعُ وَلَا تَأْخُذُهُ فِي
اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ وَأَعْرَضَ عَنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا جُمْلَةً وَلَا
يَتَحَرَّكُ إلَّا لِلْحَقِّ وَلَا يَسْكُنُ إلَّا لَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ
أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ ،
وَمَنْ فُقِدَ فِيهِ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ فَالْوِلَايَاتُ بِأَقْسَامِهَا
الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ أَيُّ ضَرَرٍ فَلْيُمْسِكْ عَنْهَا وَلَا
يَغْتَرَّ ، فَإِنَّ نَفْسَهُ تُسَوِّلُ لَهُ الْعَدْلَ فِيهَا وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِهَا
وَعَدَمَ الْمَيْلِ إلَى شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالطَّمَعِ فَإِنَّهَا كَاذِبَةٌ
فِي ذَلِكَ فَلْيَحْذَرْ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَا أَلَذَّ عِنْدَهَا مِنْ الْجَاهِ
وَالْوِلَايَاتِ فَرُبَّمَا حَمَلَتْهَا مَحَبَّةُ ذَلِكَ عَلَى هَلَاكِهَا .
وَمِنْ ثَمَّ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنْ يَعِظَ النَّاسَ إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَمَنَعَهُ ،
فَقَالَ : تَمْنَعُنِي مِنْ نُصْحِ النَّاسِ ؟ فَقَالَ : أَخْشَى أَنْ نَنْتَفِخَ
حَتَّى تَبْلُغَ الثُّرَيَّا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْتَرَّ الْإِنْسَانُ بِمَا
جَاءَ فِي فَضَائِلِ التَّذْكِيرِ بِاَللَّهِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّ خَطَرَهُ
عَظِيمٌ ، وَلَسْنَا نَأْمُرُ أَحَدًا بِتَرْكِهِ إذْ لَيْسَ فِيهِ نَفْسِهِ آفَةٌ
إنَّمَا الْآفَةُ فِي إظْهَارِهِ بِالتَّصَدِّي لَهُ وَعْظًا ، وَإِقْرَاءً وَإِفْتَاءً
وَرِوَايَةً ، وَلَا يَتْرُكُ التَّصَدِّي لَهُ مَا دَامَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ
بَاعِثًا دِينِيًّا ، وَإِنْ مُزِجَ بِشَيْءٍ مِنْ رِيَاءٍ بَلْ نَأْمُرُهُ بِهِ
مَعَ مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ عَلَى الْإِخْلَاصِ
وَالتَّنَزُّهِ عَنْ خَطَرَاتِ الرِّيَاءِ فَضْلًا عَنْ
شَوَائِبِهِ .
فَالْأُمُورُ ثَلَاثَةٌ : الْوِلَايَاتُ وَهِيَ
أَعْظَمُهَا آفَةً فَلْيَتْرُكْهَا الضُّعَفَاءُ رَأْسًا ، وَالصَّلَوَاتُ
وَنَحْوُهَا فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَهَا الضُّعَفَاءُ وَلَا الْأَقْوِيَاءُ
، وَلَكِنْ يُجَاهِدُونَ فِي دَفْعِ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ عَنْهَا ، وَالتَّصَدِّي
لِلْعُلُومِ ، وَهِيَ مَرْتَبَةٌ وُسْطَى بَيْنَ تَيْنِكَ الْمَرْتَبَتَيْنِ
لَكِنَّهَا بِالْوِلَايَاتِ أَشْبَهُ ، وَإِلَى الْآفَاتِ أَقْرَبُ فَالْحَذَرُ مِنْهَا
فِي حَقِّ الضَّعِيفِ أَسْلَمُ
.
وَبَقِيَتْ مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ جَمْعُ الْمَالِ
، وَإِنْفَاقُهُ ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ فَضَّلَهُ عَلَى الِاشْتِغَالِ
بِالذِّكْرِ وَالنَّوَافِلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ ؛ وَالْحَقُّ أَنَّ فِيهِ
آفَاتٍ عَظِيمَةً كَطَلَبِ الثَّنَاءِ ، وَاسْتِجْلَابِ الْقُلُوبِ وَتَمَيُّزِ
النَّفْسِ بِالْإِعْطَاءِ ، فَمَنْ خَلَصَ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ فَالْجَمْعُ وَالْإِنْفَاقُ
لَهُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْلِ الْمُنْقَطِعِينَ وَكِفَايَةِ
الْمُسْتَحِقِّينَ وَالتَّقَرُّبِ بِبِرِّهِمْ إلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَمَنْ
لَمْ يَخْلُصْ مِنْهَا فَالْأَوْلَى لَهُ مُلَازَمَةُ الْعِبَادَاتِ ،
وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِيمَا لَهَا مِنْ الْأَدَبِ وَالْمُكَمِّلَاتِ .
وَمِنْ عَلَامَاتِ إخْلَاصِ الْعَالِمِ فِي عِلْمِهِ
أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ مَنْ هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ وَعْظًا وَأَغْزَرُ مِنْهُ عِلْمًا
وَالنَّاسُ لَهُ أَشَدُّ قَبُولًا فَرِحَ بِهِ وَلَمْ يَحْسُدْهُ ، نَعَمْ لَا
بَأْسَ بِالْغِبْطَةِ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى لِنَفْسِهِ مِثْلَ عِلْمِهِ ؛
وَأَنَّهُ لَوْ حَضَرَ الْأَكَابِرُ مَجْلِسَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ كَلَامُهُ بَلْ
يَكُونُ نَاظِرًا لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَأَنْ لَا يُحِبَّ
اتِّبَاعَ النَّاسِ لَهُ فِي الطُّرُقَاتِ .
وَمِنْهَا : قَدْ بَانَ لَك بِمَا سَبَقَ مِنْ الْآيَاتِ
وَالْأَحَادِيثِ وَكَلَامِ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الرِّيَاءَ مُحْبِطٌ لِلْأَعْمَالِ
، وَسَبَبٌ لِلْمَقْتِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَاللَّعْنِ وَالطَّرْدِ وَأَنَّهُ مِنْ
كَبَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ .
وَمَا هَذَا وَصْفُهُ فَجَدِيرٌ بِأَنْ يُشَمِّرَ كُلُّ
مُوَفَّقٍ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ فِي
إزَالَتِهِ بِالْمُجَاهَدَةِ وَتَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ
الشَّدِيدَةِ وَالْمُكَابَدَةِ لِقُوَّةِ الشَّهَوَاتِ ، إذْ لَا يَنْفَكُّ أَحَدٌ
عَنْ الِاحْتِيَاجِ لِذَلِكَ إلَّا مَنْ رُزِقَ قَلْبًا سَلِيمًا نَقِيًّا
خَالِصًا عَنْ شَوَائِبِ مُلَاحَظَةِ الْأَغْرَاضِ وَالْمَخْلُوقِينَ ،
وَمُسْتَغْرِقًا دَائِمًا فِي شُهُودِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ .
وَإِلَّا فَغَالِبُ الْخَلْقِ إنَّمَا طُبِعَ عَلَيْهِ ،
إذْ الصَّبِيُّ يُخْلَقُ ضَعِيفَ الْعَقْلِ ، مُمْتَدَّ الْعَيْنِ لِلْخَلْقِ ،
كَثِيرَ الطَّمَعِ فِيهِمْ ، فَيَرَى بَعْضَهُمْ يَتَصَنَّعُ لِبَعْضٍ فَيَغْلِبُ
عَلَيْهِ حُبُّ التَّصَنُّعِ بِالضَّرُورَةِ وَيَتَرَسَّخُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ ؛ فَإِذَا
كَمُلَ عَقْلُهُ وَوُفِّقَ لِاتِّبَاعِ الْحَقِّ رَأَى ذَلِكَ مَرَضًا مُهْلِكًا
فَاحْتَاجَ إلَى دَوَاءٍ يُزِيلُهُ وَيَقْطَعُ عُرُوقَهُ بِاسْتِئْصَالِ أُصُولِهِ
مِنْ حُبِّ لَذَّةِ الْمَحْمَدَةِ وَالْجَاهِ وَالطَّمَعِ فِيمَا بِأَيْدِي
النَّاسِ ، وَذَلِكَ الدَّوَاءُ النَّافِعُ هُوَ أَنْ يُعْرِضَ عَنْ رَغْبَتِهِ
فِي كُلِّ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَضَرَّةِ ، وَفَوَاتِ صَلَاحِ الْقَلْبِ ،
وَحِرْمَانِ التَّوْفِيقِ فِي الْحَالِ وَالْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ فِي
الْآخِرَةِ ، وَالْعِقَابِ الْعَظِيمِ وَالْمَقْتِ الشَّدِيدِ وَالْخِزْيِ
الظَّاهِرِ ، حَيْثُ يُنَادَى عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ وَيُقَالُ لِلْمُرَائِي
: يَا فَاجِرُ ، يَا غَادِرُ ، يَا مُرَائِي أَمَا اسْتَحْيَيْتَ إذَا اشْتَرَيْتَ
بِطَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، رَاقَبْتَ قُلُوبَ
الْعِبَادِ وَاسْتَهْزَأْتَ بِنَظَرِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتِهِ ،
وَتَحَبَّبْتَ إلَى الْعِبَادِ بِالتَّبْغِيضِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَتَزَيَّنْتَ لَهُمْ بِالشَّيْنِ عِنْدَ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَتَقَرَّبْتَ إلَيْهِمْ بِالْبُعْدِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الرِّيَاءِ إلَّا إحْبَاطُ
عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ لَكَفَى فِي شُؤْمِهِ وَضَرَرِهِ ، فَقَدْ يَحْتَاجُ
الْإِنْسَانُ فِي الْآخِرَةِ إلَى عِبَادَةٍ تَرْجَحُ بِهَا كِفَّةُ حَسَنَاتِهِ ،
وَإِلَّا ذُهِبَ بِهِ إلَى النَّارِ ، وَمَنْ طَلَبَ رِضَا الْخَلْقِ فِي سَخَطِ
اللَّهِ تَعَالَى سَخِطَ عَلَيْهِ
=================
ج2.
اتصل بنا
| Other
languages | الصفحة الرئيسية
مكتبة القرآن
مكتبة علوم القران مكتبة الحديث
مكتبة العقيدة مكتبة الفقه مكتبة التاريخ
مكتبة الأدب
المكتبة العامة
كتاب : الزواجر عن اقتراف الكبائر
المؤلف : أحمد بن محمد بن حجر المكي الهيتمي
وَأَسْخَطَهُمْ عَلَيْهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ رِضَاهُمْ
غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ وَمَا أَرْضَى قَوْمًا إلَّا أَغْضَبَ آخَرِينَ ، ثُمَّ
أَيُّ غَرَضٍ لَهُ فِي مَدْحِهِمْ وَإِيثَارِهِ عَلَى ذَمِّ اللَّهِ وَغَضَبِهِ
مَعَ أَنَّ مَدْحَهُمْ لَا يُفِيدُهُ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ ضُرًّا ، وَإِنَّمَا
ذَلِكَ اللَّهُ وَحْدَهُ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُقْصَدَ وَحْدَهُ إذْ هُوَ
الْمُسَخِّرُ لِلْقُلُوبِ بِالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ فَلَا رَازِقَ وَلَا
مُعْطِيَ وَلَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إلَّا هُوَ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَلَا يَخْلُو
الطَّامِعُ فِي الْخَلْقِ مِنْ الذُّلِّ وَالْخَيْبَةِ أَوْ مِنْ الْمِنَّةِ
وَالْمَهَانَةِ ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِرَجَاءٍ
كَاذِبٍ وَوَهْمٍ فَاسِدٍ قَدْ يُصِيبُ وَقَدْ يُخْطِئُ ، عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ
اطَّلَعُوا عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الرِّيَاءِ لَطَرَدُوهُ وَمَقَتُوهُ
وَذَمُّوهُ وَأَحْرَمُوهُ ، وَمَنْ نَظَرَ لِذَلِكَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ
فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ فِي الْخَلْقِ وَأَقْبَلَ عَلَى الصِّدْقِ ، فَهَذَا دَوَاءٌ عِلْمِيٌّ
وَثَمَّ دَوَاءٌ عَمَلِيٌّ وَهُوَ أَنْ يَتَعَوَّدَ إخْفَاءَ الْعِبَادَاتِ
كَإِخْفَاءِ الْفَوَاحِشِ حَتَّى يَقْنَعَ قَلْبُهُ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى
وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ وَلَا تُنَازِعَهُ نَفْسُهُ إلَى طَلَبِ عِلْمِ غَيْرِ
اللَّهِ تَعَالَى بِهِ .
وَيُكَلَّفُ الْإِخْفَاءَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ شَقَّ
ابْتِدَاءً ، لَكِنْ مَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ مُدَّةً بِالتَّكَلُّفِ سَقَطَ عَنْهُ
ثِقَلُهُ وَأَمَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ فَضْلِهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا
لِرُقِيِّهِ { إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِمْ } فَمِنْ الْعَبْدِ الْمُجَاهَدَةُ وَقَرْعُ بَابِ الْكَرِيمِ
، وَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْهِدَايَةُ وَالْفَتْحُ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ : { ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } .
( خَاتِمَةٌ فِي الْإِخْلَاصِ ) لَمَّا تَكَلَّمْنَا
بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَإِمْدَادِهِ وَمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ عَلَى
هَذِهِ الْكَبِيرَةِ الْعَظِيمَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا يَحْتَاجُ الْخَلْقُ
إلَيْهِ ، وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْضُوعِ
الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اتِّسَاعِ كَلَامِ
النَّاسِ فِي الرِّيَاءِ وَتَوَابِعِهِ سِيَّمَا الْأَحْيَاءُ مُخْتَصَرًا جِدًّا
؛ أَرَدْنَا أَنْ نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ الْآيَاتِ
وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مَدْحِ الْإِخْلَاصِ وَثَوَابِ الْمُخْلِصِينَ
وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا لِلْخَلْقِ عَلَى
تَحَرِّي الْإِخْلَاصِ وَمُبَاعَدَةِ الرِّيَاءِ إذْ الْأَشْيَاءُ لَا تُعْرَفُ كَمَالًا
وَضِدَّهُ إلَّا بِأَضْدَادِهَا
.
قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ
أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
} .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ،
وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا
فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ
} .
وَأَخْرَجَا أَيْضًا : { يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ
فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ .
قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ
بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ؟
قَالَ : يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ
} وَأَخْرَجَا أَيْضًا : { وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ } .
وَأَخْرَجَا أَيْضًا : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً
وَيُقَاتِلُ رِيَاءً ؛ أَيُّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ
قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، وَفِي نُسْخَةٍ {
فَذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ : { نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ
خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ ، وَعَمَلُ الْمُنَافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ ، وَكُلٌّ
يَعْمَلُ عَلَى نِيَّتِهِ فَإِذَا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ عَمَلًا نَارَ فِي قَلْبِهِ
نُورٌ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ : { أَفْضَلُ الْعَمَلِ
النِّيَّةُ الصَّادِقَةُ } .
وَابْنُ الْمُبَارَكِ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي
الدُّنْيَا عَلَى نِيَّةِ الْآخِرَةِ وَأَبَى أَنْ يُعْطِيَ الْآخِرَةَ عَلَى
نِيَّةِ الدُّنْيَا } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { النِّيَّةُ الْحَسَنَةُ تُدْخِلُ
صَاحِبَهَا الْجَنَّةَ } .
وَالْخَطِيبُ : { النِّيَّةُ الصَّادِقَةُ مُعَلَّقَةٌ
بِالْعَرْشِ فَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بِنِيَّتِهِ تَحَرَّكَ الْعَرْشُ فَيُغْفَرُ
لَهُ } .
وَمُسْلِمٌ :
{ الْعَجَبُ إنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ
الْبَيْتَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ - أَيْ وَهُوَ الْمَهْدِيُّ - قَدْ لَجَأَ
بِالْبَيْتِ حَتَّى إذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ ، فِيهِمْ الْمُسْتَبْصِرُ
وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ
مَصَادِرَ شَتَّى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ : { إذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ
عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى
نِيَّاتِهِمْ } .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْحَاكِمُ : {
أَخْلِصْ دِينَك يَكْفِك الْقَلِيلُ مِنْ الْعَمَلِ } .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ
لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إلَّا مَا خَلَصَ لَهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا
أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا
خَلَصَ لَهُ ، وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -
لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ
} : وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَخْلِصُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَأَقِيمُوا خُمُسَكُمْ
وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ
وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ
تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ }
.
وَابْنُ عَدِيٍّ وَالدَّيْلَمِيُّ : { اعْمَلْ لِوَجْهٍ
وَاحِدٍ } - أَيْ لِلَّهِ وَحْدَهُ - { يَكْفِكَ الْوُجُوهَ كُلُّهَا } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { الْأَعْمَالُ كَالْوِعَاءِ إذَا
طَابَ أَسْفَلُهُ طَابَ أَعْلَاهُ
} .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ الْأَعْمَالَ
بِخَوَاتِيمِهَا كَالْوِعَاءِ إذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ ، وَإِذَا
خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ }
.
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { إنَّ مَا بَقِيَ مِنْ
الدُّنْيَا بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ إنَّمَا مَثَلُ أَعْمَالِ أَحَدِكُمْ كَمَثَلِ الْوِعَاءِ
إذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ
أَسْفَلُهُ } .
وَالنَّسَائِيُّ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ
مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ } .
وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ اللَّهَ لَا
يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَى
قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }
.
وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا صَلَّى فِي
الْعَلَانِيَةِ فَأَحْسَنَ ، وَصَلَّى فِي السِّرِّ فَأَحْسَنَ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذَا عَبْدِي حَقًّا
} .
وَالرَّافِعِيُّ : { إذَا صَلَّى الْعَبْدُ فِي
الْعَلَانِيَةِ فَأَحْسَنَ وَصَلَّى فِي السِّرِّ فَأَحْسَنَ قَالَ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحْسَنَ عَبْدِي
} .
وَأَبُو يَعْلَى : { تَمَامُ الْبِرِّ أَنْ تَعْمَلَ فِي
السِّرِّ عَمَلَ الْعَلَانِيَةِ ، صَلَاةُ الرَّجُلِ تَطَوُّعًا حَيْثُ لَا
يَرَاهُ النَّاسُ تَعْدِلُ صَلَاتَهُ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ } .
وَابْنُ الْمُبَارَكِ مُرْسَلًا : { طُوبَى
لِلْمُخْلِصِينَ أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى تَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ
ظَلْمَاءَ } .
وَابْنُ حِبَّانَ : { مَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إلَى
اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ سُجُودٍ خَفِيٍّ } .
وَابْنُ حِبَّانَ : { مَا كَرِهْتَ أَنْ يَرَاهُ
النَّاسُ مِنْك فَلَا تَفْعَلْ بِنَفْسِك إذَا خَلَوْتَ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ
أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ أَحَدٌ
فَلْيَفْعَلْ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { السِّرُّ أَفْضَلُ مِنْ
الْعَلَانِيَةِ وَالْعَلَانِيَةُ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ } ، وَفِي
رِوَايَةٍ : { وَلِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ الْعَلَانِيَةُ أَفْضَلُ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ : { لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ
لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ كَائِنًا مَا كَانَ } .
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ أَحْسَنَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَمَنْ أَصْلَحَ
سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إلَّا
أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ سَرِيرَةٌ
صَالِحَةٌ أَوْ سَيِّئَةٌ أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْهَا رِدَاءً
يُعْرَفُ بِهِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ وَالْحَاكِمُ : { هَلْ
تَدْرُونَ مَنْ الْمُؤْمِنُ ؟ الْمُؤْمِنُ مَنْ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَمْلَأَ
اللَّهُ مَسَامِعَهُ مِمَّا يُحِبُّ ، وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا اتَّقَى فِي جَوْفِ
بَيْتٍ إلَى سَبْعِينَ بَيْتًا عَلَى كُلِّ بَيْتٍ بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ أَلْبَسَهُ
اللَّهُ رِدَاءَ عَمَلِهِ حَتَّى يَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِهِ وَيَزِيدُونَ .
قَالُوا
: كَيْفَ يَزِيدُونَ ؟ قَالَ : إنَّ التَّقِيَّ لَوْ
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزِيدَ فِي سِرِّهِ لَزَادَ ، وَكَذَلِكَ الْفَاجِرُ
يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِفُجُورِهِ وَيَزِيدُونَ لِأَنَّهُ لَوْ يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَزِيدَ فِي فُجُورِهِ لَزَادَ
} .
وَابْنُ جَرِيرٍ : { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
مَا عَمِلَ أَحَدٌ قَطُّ سِرًّا إلَّا أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَ عَلَانِيَتِهِ
إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ } .
وَسُئِلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مَنْ الْمُخْلِصُ ؟
فَقَالَ : الْمُخْلِصُ الَّذِي يَكْتُمُ حَسَنَاتِهِ كَمَا يَكْتُمُ سَيِّئَاتِهِ
، وَسُئِلَ آخَرُ مَا غَايَةُ الْإِخْلَاصِ ؟ قَالَ : أَنْ لَا تُحِبَّ مَحْمَدَةَ
النَّاسِ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ : الْغَضَبُ بِالْبَاطِلِ
وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ ) لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بَيْنَهَا
تَلَازُمٌ وَتَرَتُّبٌ إذْ الْحَسَدُ مِنْ نَتَائِجِ الْحِقْدِ ، وَالْحِقْدُ مِنْ
نَتَائِجِ الْغَضَبِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلِذَلِكَ جَمَعْتُهَا
فِي تَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ ذَمَّ كُلٍّ يَسْتَلْزِمُ ذَمَّ الْآخَرِ إذْ
ذَمُّ الْفَرْعِ وَفَرْعِهِ يَسْتَلْزِمُ ذَمَّ الْأَصْلِ وَأَصْلِهِ
وَبِالْعَكْسِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } ذَمَّ الْكُفَّارَ
بِمَا تَظَاهَرُوا بِهِ مِنْ الْحَمِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْغَضَبِ
بِالْبَاطِلِ ، وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ النَّاشِئِ عَنْهَا إلْزَامُهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَأَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُهَا وَأَحَقُّ بِهَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى
مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
} .
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ : { الْغَضَبُ مِنْ
الشَّيْطَانِ ، وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ النَّارِ ، وَالْمَاءُ يُطْفِئُ
النَّارَ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ عَسَاكِرَ : {
اجْتَنِبْ الْغَضَبَ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَقَالَ :
أَعُوذُ بِاَللَّهِ سَكَنَ غَضَبُهُ
} .
وَأَحْمَدُ : { إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { إذَا غَضِبْتَ فَاجْلِسْ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ : { إذَا
غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ ،
وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا
وَجَدَهُ أَحَدُكُمْ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ ، وَإِنْ وَجَدَهُ جَالِسًا
فَلْيَضْطَجِعْ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ { إذَا غَضِبْتَ فَاقْعُدْ فَإِنْ لَمْ
يَذْهَبْ عَنْك فَاضْطَجِعْ فَإِنَّهُ سَيَذْهَبُ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { أَشَدُّكُمْ مَنْ غَلَبَ
نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَأَحْلَمُكُمْ مَنْ عَفَا
بَعْدَ الْقُدْرَةِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد : { إنَّ الْغَضَبَ مِنْ
الشَّيْطَانِ ، وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ النَّارِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ
بِالْمَاءِ النَّارُ ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { إنَّ لِجَهَنَّمَ بَابًا
لَا يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظَهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى
أَشَدِّكُمْ ؟ أَشَدُّكُمْ أَمْلَكُكُمْ لِنَفْسِهِ عِنْدَ الْغَضَبِ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مُرْسَلًا : { الْخَرَقُ
شُؤْمٌ ، وَالرِّفْقُ يُمْنٌ }
.
وَالْبَزَّارُ : { سَأُحَدِّثُكُمْ بِأُمُورِ النَّاسِ
وَأَخْلَاقِهِمْ ، الرَّجُلُ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ أَيْ
الرُّجُوعِ فَلَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ كَفَافًا ، وَالرَّجُلُ بَعِيدُ الْغَضَبِ
سَرِيعُ الْفَيْءِ فَذَلِكَ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ، وَالرَّجُلُ يَقْتَضِي الَّذِي لَهُ
وَيَقْتَضِي الَّذِي عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ، وَالرَّجُلُ
يَقْتَضِي الَّذِي لَهُ وَلَا يَقْضِي الَّذِي عَلَيْهِ فَذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا
لَهُ } .
وَأَحْمَدُ : { الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي
يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ
فَيَصْرَعُهُ غَضَبُهُ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { أَتَحْسَبُونَ أَنَّ
الشِّدَّةَ فِي حَمْلِ الْحِجَارَةِ إنَّمَا الشِّدَّةُ فِي أَنْ يَمْتَلِئَ
أَحَدُكُمْ غَيْظًا ثُمَّ يَغْلِبَهُ
} .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ
بِالصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } .
وَالْعَسْكَرِيُّ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ الَّذِي يَغْلِبُ
النَّاسَ إنَّمَا الشَّدِيدُ مَنْ يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } .
وَابْنُ النَّجَّارِ : { إنَّ الشَّدِيدَ لَيْسَ الَّذِي
يَغْلِبُ وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { هَلْ تَدْرُونَ مَا الشَّدِيدُ ؟
إنَّ الشَّدِيدَ كُلَّ الشَّدِيدِ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ ،
تَدْرُونَ مَا الرَّقُوبُ ؟ الرَّقُوبُ الَّذِي لَهُ الْوَلَدُ لَمْ يُقَدِّمْ
مِنْهُمْ شَيْئًا ، تَدْرُونَ مَا الصُّعْلُوكُ كُلُّ الصُّعْلُوكِ ؟
الرَّجُلُ لَهُ الْمَالُ لَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُ شَيْئًا } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ : { لِلنَّارِ بَابٌ لَا
يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظَهُ بِسَخَطِ اللَّهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ دَفَعَ غَضَبَهُ دَفَعَ اللَّهُ
عَنْهُ عَذَابَهُ ، وَمَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو
يَعْلَى : { أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَوْصِنِي .
قَالَ : لَا تَغْضَبْ ، قَالَ : أَوْصِنِي قَالَ : لَا
تَغْضَبْ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَا تَغْضَبْ فَإِنَّ الْغَضَبَ
مَفْسَدَةٌ } .
وَفِي أُخْرَى : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي
بِعَمَلٍ وَأَقْلِلْ ، قَالَ : لَا تَغْضَبْ ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ :
لَا تَغْضَبْ } .
وَفِي أُخْرَى { عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لِي
قَوْلًا وَأَقْلِلْ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ ، قَالَ : لَا تَغْضَبْ ، فَأَعَدْتُ
عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ يُرَجِّعُ إلَيَّ لَا تَغْضَبْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا تَغْضَبْ وَلَك الْجَنَّةُ } .
وَالْحَكِيمُ : { لَا تَغْضَبْ يَا مُعَاوِيَةُ بْنَ
حَيْدَةَ فَإِنَّ الْغَضَبَ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ
الْعَسَلَ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { يَا مُعَاوِيَةُ
إيَّاكَ وَالْغَضَبَ فَإِنَّ الْغَضَبَ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ
الْعَسَلَ } .
وَالْحَكِيمُ : { الْغَضَبُ مِيسَمٌ مِنْ نَارِ
جَهَنَّمَ يَضَعُهُ اللَّهُ عَلَى نِيَاطِ أَحَدِكُمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا
غَضِبَ احْمَرَّتْ عَيْنُهُ وَأَرْبَدَ وَجْهُهُ ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْبَغْضَاءَ
فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { قَالَ : اللَّهُ تَعَالَى مَنْ
ذَكَرَنِي حِينَ يَغْضَبُ ذَكَرْتُهُ حِينَ أَغْضَبُ وَلَا أَمْحَقُهُ فِيمَنْ
أَمْحَقُ } .
وَابْنُ شَاهِينَ : { يَقُولُ اللَّهُ : ابْنَ آدَمَ
اُذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرُك حِينَ أَغْضَبُ وَلَا أَمْحَقُك فِيمَنْ
أَمْحَقُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَوْ يَقُولُ أَحَدُكُمْ إذَا
غَضِبَ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ ذَهَبَ عَنْهُ غَضَبُهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { إنِّي
لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا هَذَا الْغَضْبَانُ لَأَذْهَبَتْ الَّذِي بِهِ
مِنْ الْغَضَبِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ : { اللَّهُمَّ مُطْفِئَ
الْكَبِيرِ وَمُكَبِّرَ الصَّغِيرِ أَطْفِئْهَا عَنِّي } .
وَالْخَرَائِطِيُّ { عَنْ أَمِّ هَانِئٍ : قُولِي
اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَذْهِبْ غَيْظَ
قَلْبِي وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ } .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ : يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْغَضَبِ
فَإِنَّ كَثْرَةَ الْغَضَبِ تَسْتَخِفُّ فُؤَادَ الرَّجُلِ الْحَلِيمِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا } .
السَّيِّدُ : الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ .
وَقَالَ يَحْيَى لِعِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - : لَا تَغْضَبْ ، قَالَ يَا أَخِي لَا
أَسْتَطِيعُ أَنْ لَا أَغْضَبَ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، قَالَ : لَا تَقْتَنِ
مَالًا ، قَالَ هَذَا عَسَى .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَا ابْنَ آدَمَ كُلَّمَا غَضِبْتَ
وَثَبْتَ يُوشِكُ أَنْ تَثِبَ وَثْبَةً تَقَعُ فِي النَّارِ .
وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ : أَنَّهُ لَقِيَ مَلَكًا
وَقَالَ : لَهُ عَلِّمْنِي عِلْمًا أَزْدَادُ بِهِ إيمَانًا وَيَقِينًا ، قَالَ :
لَا تَغْضَبْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَقْدَرُ مَا يَكُونُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حِينَ يَغْضَبُ
فَرُدَّ الْغَضَبَ بِالْكَظْمِ وَسَكِّنْهُ بِالتُّؤَدَةِ ، وَإِيَّاكَ
وَالْعَجَلَةَ فَإِنَّك إذَا عَجِلْتَ أَخْطَأْتَ حَظَّك وَكُنْ سَهْلًا لَيِّنًا
لِلْقَرِيبِ وَلِلْبَعِيدِ وَلَا تَكُنْ جَبَّارًا عَنِيدًا .
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
أَنَّ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَتِهِ أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُ فَعَجَزَ عَنْهُ
فَنَادَاهُ لِيَفْتَحَ لَهُ فَسَكَتَ ، فَقَالَ : إنْ ذَهَبْت نَدِمْت فَسَكَتَ ،
فَقَالَ : أَنَا الْمَسِيحُ ، فَأَجَابَهُ وَقَالَ : إنْ كُنْتَ الْمَسِيحَ فَمَا أَصْنَعُ
بِك ؟ أَلَسْتَ قَدْ أَمَرْتَنَا بِالْعِبَادَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَوَعَدْتنَا
الْقِيَامَةَ ، فَلَوْ جِئْتنَا الْيَوْمَ بِغَيْرِ
ذَلِكَ لَمْ نَقْبَلْهُ مِنْك ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ جَاءَ
لِيُضِلَّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ، ثُمَّ قَالَ : لَهُ سَلْنِي عَمَّا شِئْت أُخْبِرْك ،
قَالَ : مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ شَيْءٍ فَوَلَّى الشَّيْطَانُ مُدْبِرًا
، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ : أَلَا تَسْمَعُ قَالَ : بَلَى .
قَالَ : أَخْبِرْنِي أَيُّ أَخْلَاقِ بَنِي آدَمَ
أَعْوَنُ لَك عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : الْحِدَّةُ إنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ حَدِيدًا
قَلَّبْنَاهُ كَمَا يُقَلِّبُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : الْغَضَبُ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ : رَأْسُ الْحُمْقِ
الْحِدَّةُ وَقَائِدُهُ الْغَضَبُ ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْجَهْلِ اسْتَغْنَى عَنْ
الْحِلْمِ ، وَالْحِلْمُ زَيْنٌ وَمَنْفَعَةٌ وَالْجَهْلُ شَيْنٌ وَمَضَرَّةٌ ،
وَالسُّكُوتُ عَنْ جَوَابِ الْأَحْمَقِ سَعَادَةٌ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : قَالَ إبْلِيسُ : مَا أَعْجَزَنِي
بَنُو آدَمَ فَلَنْ يُعْجِزُونِي فِي ثَلَاثٍ : إذَا سَكِرَ أَحَدُهُمْ أَخَذْنَا
بِخَرَامَتِهِ فَقُدْنَاهُ حَيْثُ نَشَاءُ وَعَمِلَ لَنَا بِمَا أَحْبَبْنَا ،
وَإِذَا غَضِبَ قَالَ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَعَمِلَ بِمَا يَنْدَمُ ، وَإِذَا
بَخِلَ بِمَا فِي يَدِهِ مَنَّيْنَاهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
اُنْظُرُوا إلَى حِلْمِ الرَّجُلِ عِنْدَ غَضَبِهِ وَأَمَانَتِهِ عِنْدَ طَمَعِهِ
، وَمَا عِلْمُك بِحِلْمِهِ إذَا لَمْ يَغْضَبْ ، وَمَا عِلْمُك بِأَمَانَتِهِ
إذَا لَمْ يَطْمَعْ .
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَامِلِهِ
: لَا تُعَاقِبْ غَضَبَك بَلْ احْبِسْهُ فَإِذَا سَكَنَ غَضَبُك عَاقِبْهُ
بِقَدْرِ ذَنْبِهِ وَلَا تُجَاوِزْ بِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَوْطًا .
وَأَغْلَظَ لَهُ قُرَشِيٌّ فَأَطْرَقَ طَوِيلًا ، ثُمَّ
قَالَ : أَرَدْت أَنْ يَسْتَفِزَّنِي الشَّيْطَانُ لِعِزِّ السُّلْطَانِ فَأَنَالَ
مِنْك الْيَوْمَ مَا تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَقَلُّ النَّاسِ غَضَبًا
أَعْقَلُهُمْ فَإِنْ كَانَ لِلدُّنْيَا كَانَ دَهَاءً وَمَكْرًا ، وَإِنْ كَانَ
لِلْآخِرَةِ كَانَ عِلْمًا وَحُكْمًا
.
كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : أَفْلَحَ مَنْ حُفِظَ
مِنْ الْهَوَى وَالطَّمَعِ وَالْغَضَبِ
.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ أَطَاعَ شَهْوَتَهُ
وَغَضَبَهُ قَادَاهُ إلَى النَّارِ
.
وَقَالَ الْحَسَنُ : مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِ :
قُوَّةٌ فِي دِينٍ ، وَحَزْمٌ فِي لِينٍ ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ ، وَعِلْمٌ فِي
حِلْمٍ ، وَكَيْسٌ فِي رِفْقٍ ، وَإِعْطَاءٌ فِي حَقٍّ ، وَقَصْدٌ فِي غِنًى ،
وَتَجَمُّلٌ فِي فَاقَةٍ ، وَإِحْسَانٌ فِي قُدْرَةٍ ، وَصَبْرٌ فِي شِدَّةٍ ، لَا
يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ ؛ وَلَا تُجْمَعُ بِهِ الْحَمِيَّةُ ، وَلَا تَغْلِبُهُ
شَهْوَتُهُ وَلَا يَفْضَحُهُ بَطْنُهُ وَلَا يَسْتَخِفُّهُ حِرْصُهُ ، يَنْصُرُ
الْمَظْلُومَ وَيَرْحَمُ الضَّعِيفَ ، وَلَا يَبْخَلُ وَلَا يُبَذِّرُ وَلَا
يُسْرِفُ وَلَا يَقْتُرُ ، يَغْفِرُ إذَا ظُلِمَ وَيَعْفُو عَنْ الْجَاهِلِ ،
نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَخَاءٍ .
وَقَالَ وَهْبٌ : لِلْكُفْرِ أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ : الْغَضَبُ
وَالشَّهْوَةُ وَالْخُلْفُ وَالطَّمَعُ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ
حَمَلَهُ الْغَضَبُ عَلَى أَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَمَاتَ كَافِرًا ،
فَتَأَمَّلْ شَرَّ الْغَضَبِ وَمَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ نَبِيٌّ لِأَتْبَاعِهِ : مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي
مِنْكُمْ أَنْ لَا يَغْضَبَ يَكُنْ خَلِيفَتِي وَمَعِي فِي دَرَجَتِي فِي
الْجَنَّةِ ، فَقَالَ شَابٌّ : أَنَا فَأَعَادَ فَقَالَ ذَلِكَ الشَّابُّ : أَنَا
وَوَفَّى ، فَلَمَّا مَاتَ كَانَ خَلِيفَتَهُ فِي مَنْزِلَتِهِ وَهُوَ ذُو
الْكِفْلِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَغْضَبَ وَوَفَّى
بِهِ ، وَقِيلَ : لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ
وَوَفَّى بِهِ .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ
عَلَى عِبَادِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ
لِلْمُسْتَغْفِرِينَ وَيَرْحَمُ الْمُسْتَرْحِمِينَ وَيُؤَخِّرُ أَهْلَ الْحِقْدِ
كَمَا هُمْ عَلَيْهِ } .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا : { إذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ
مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللَّهُ إلَى خَلْقِهِ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى
يَدَعُوهُ } .
وَمُسْلِمٌ : { تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ
جُمُعَةٍ مَرَّةً يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ لِكُلِّ
عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ : اُتْرُكُوا
هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ إلَّا مَا
كَانَ مِنْ مُتَشَاحِنَيْنِ أَوْ قَاطِعِ رَحِمٍ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ : { تُفْتَحُ أَبْوَابُ
الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ فِيهِمَا لِكُلِّ
عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ
يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ
بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلَيْنِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : أَخِّرُوا هَذَيْنِ
حَتَّى يَصْطَلِحَا } .
وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ أَعْمَالَ
الْعِبَادِ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ ، فَيَغْفِرُ
اللَّهُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْخَرَائِطِيُّ : { تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ
عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ الذُّنُوبَ
إلَّا مَا كَانَ مِنْ مُتَشَاحِنَيْنِ أَوْ قَاطِعِ رَحِمٍ } .
وَابْنُ زَنْجُوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ : { تُعْرَضُ أَعْمَالُ
بَنِي آدَمَ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيَرْحَمُ الْمُسْتَرْحِمِينَ
وَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ ثُمَّ يَذَرُ أَهْلَ
الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ } .
وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ زَنْجُوَيْهِ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
: { تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
وَالْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ
شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ :
أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا } .
وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ : { يَنْزِلُ
اللَّهُ - أَيْ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ - إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ
النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، فَيَغْفِرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إلَّا الْعَاقَّ
وَالْمُشَاحِنَ } .
وَالْبَزَّارُ وَحَسَّنَهُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ
النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إلَّا رَجُلًا مُشْرِكًا
أَوْ رَجُلًا فِي قَلْبِهِ شَحْنَاءُ
} .
وَابْنُ زَنْجُوَيْهِ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ
إلَّا مُشْرِكًا أَوْ مُشَاحِنًا
} .
وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ شَاهِينِ
وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { يَطَّلِعُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إلَى
خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ
إلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ
} .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ : { يَطَّلِعُ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ
لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إلَّا لِاثْنَيْنِ
مُشَاحِنٍ أَوْ قَاتِلِ نَفْسٍ
} .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ : { الْحَسَدُ يَأْكُلُ
الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ
الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ ، وَالصَّلَاةُ نُورُ الْمُؤْمِنِ
، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ } أَيْ سَاتِرٌ وَوِقَايَةٌ مِنْ النَّارِ .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { الْحَسَدُ فِي اثْنَيْنِ رَجُلٍ
آتَاهُ الْقُرْآنَ فَقَامَ بِهِ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ ،
وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَوَصَلَ بِهِ أَقْرِبَاءَهُ وَرَحِمَهُ وَعَمِلَ
بِطَاعَةِ اللَّهِ تَمَنِّي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { الْحَسَدُ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ
كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ الْعَسَلَ } وَابْنُ عَدِيٍّ : { إذَا حَسَدْتُمْ فَلَا
تَبْغُوا ، وَإِذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا ، وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ
فَامْضُوا وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } .
وَأَبُو دَاوُد : { إيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ
الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ : { دَبَّ
إلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ ، الْحَسَدُ ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ
الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا
حَتَّى تَحَابُّوا ، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ
؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ
} .
وَابْنُ صَصْرَى : { الْغِلُّ وَالْحَسَدُ يَأْكُلَانِ
الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَيْسَ مِنِّي ذُو حَسَدٍ وَلَا
نَمِيمَةٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا أَنَا مِنْهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { كُلُّ ابْنِ آدَمَ حَسُودٌ وَلَا
يَضُرُّ حَاسِدًا حَسَدُهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِاللِّسَانِ أَوْ يَعْمَلْ
بِالْيَدِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { كُلُّ ابْنِ آدَمَ حَسُودٌ وَبَعْضُ
النَّاسِ فِي الْحَسَدِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَلَا يَضُرُّ حَاسِدًا حَسَدُهُ مَا
لَمْ يَتَكَلَّمْ بِاللِّسَانِ أَوْ يَعْمَلْ بِالْيَدِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ
مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا } .
وَالْحَاكِمُ وَالدَّيْلَمِيُّ : " إنَّ إبْلِيسَ
يَقُولُ : { ابْغُوا مِنْ بَنِي آدَمَ
الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ فَإِنَّهُمَا يَعْدِلَانِ عِنْدَ
اللَّهِ الشِّرْكَ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ : { مَا مِنْ
ذَنْبٍ أَجْدَرُ مِنْ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي
الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ
الرَّحِمِ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ النَّجَّارِ : { وَاحْذَرُوا
الْبَغْيَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ هِيَ أَخْطَرُ مِنْ عُقُوبَةِ
الْبَغْيِ } .
وَابْنُ لَالٍ : { لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ
لَدُكَّ الْبَاغِي مِنْهُمَا }
.
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { لَا تُظْهِرْ
الشَّمَاتَةَ لِأَخِيك فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ
وَيَبْتَلِيَكَ } وَالْبَيْهَقِيُّ
: { مِنْ أَسْوَأِ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ أَذْهَبَ
آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ }
.
وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ : { إنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا
غَيْرِهِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مِنْ شَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ
مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ
مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ
بِدُنْيَا غَيْرِهِ } .
وَالسِّجْزِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْهَوَى فَإِنَّ
الْهَوَى يُصِمُّ وَيُعْمِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَا تَحْتَ
ظِلِّ سَمَاءٍ مِنْ إلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ
مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النَّهْيِ عَنْ الْحَسَدِ وَأَسْبَابِهِ وَثَمَرَاتِهِ : { لَا تَبَاغَضُوا وَلَا
تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَابَزُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ
إخْوَانًا ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةٍ } رَوَاهُ
الشَّيْخَانِ .
وَقَالَ أَنَسٌ { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّا جُلُوسًا
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَطْلُعُ الْآنَ
مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَطَلَعَ رَجُلٌ
مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ
وَقَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ بِيَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ
الْغَدِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ
فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِعَيْنِهِ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى ، فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ
الْأَوَّلِ ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ،
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إنِّي لَاحَيْتُ أَبِي خَاصَمْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ
أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، فَإِنْ أَرَدْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْك حَتَّى
تَمْضِيَ الثَّلَاثُ فَعَلْت ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
قَالَ أَنَسٌ
: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ
مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ
شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ } بِالتَّشْدِيدِ أَيْ اسْتَيْقَظَ وَتَقَلَّبَ
عَلَى فِرَاشِهِ { ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَهُ وَلَا يَقُومُ حَتَّى
تَقُومَ الصَّلَاةُ ، قَالَ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا
خَيْرًا ، فَلَمَّا مَرَّتْ الثَّلَاثُ وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ فَقُلْتُ يَا
عَبْدَ اللَّهِ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا
هِجْرَةٌ وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : لَك أَيْ عَنْك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْت أَنْتَ الثَّلَاثَ الْمَرَّاتِ ، فَأَرَدْتُ
أَنْ آوِيَ إلَيْك فَأَنْظُرَ مَا عَمَلُك فَأَقْتَدِيَ بِك ، فَلَمْ أَرَك عَمِلْتَ
كَبِيرَ عَمَلٍ ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِك مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْت ، فَلَمَّا
وَلَّيْتُ دَعَانِي وَقَالَ : مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْت غَيْرَ أَنِّي لَا
أَجِدُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا
عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
: هِيَ الَّتِي بَلَغَتْ بِك } رَوَاهُ أَحْمَدُ
بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَيْضًا .
وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ ، وَسَمَّى
الرَّجُلَ الْمُبْهَمَ سَعْدًا ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ : { فَقَالَ : مَا هُوَ
إلَّا مَا رَأَيْتَ يَا ابْنَ أَخِي إلَّا أَنَّنِي لَمْ أَبِتْ ضَاغِنًا عَلَى
مُسْلِمٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا } ، زَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ ، وَالْبَيْهَقِيُّ
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك
وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ - أَيْ نَحْنُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا - } وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَيَطْلُعَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ هَذَا
الْبَابِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَجَاءَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فَدَخَلَ مِنْهُ } .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، قَالَ : {
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَا أَنَا بِاَلَّذِي أَنْتَهِي حَتَّى
أُبَايِت هَذَا الرَّجُلَ فَأَنْظُرَ عَمَلَهُ } ، قَالَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِهِ
عَلَيْهِ ، قَالَ : { فَنَاوَلَنِي عَبَاءَةً فَاضْطَجَعْتُ عَلَيْهَا قَرِيبًا
مِنْهُ وَجَعَلْتُ أَرْمُقُهُ بِعَيْنِي لَيْلَةً كُلَّمَا تَعَارَّ سَبَّحَ
وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ حَتَّى إذَا كَانَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ قَامَ
فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً
بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ لَيْسَ مِنْ طِوَالِهِ وَلَا مِنْ
قِصَارِهِ ، يَدْعُو فِي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ بِثَلَاثِ دَعَوَاتٍ
يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ؛ اللَّهُمَّ اكْفِنَا مَا أَهَمَّنَا مِنْ أَمْرِ
آخِرَتِنَا وَدُنْيَانَا ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ
وَنَعُوذُ بِك مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ ، حَتَّى إذَا فَرَغَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
فِي اسْتِقْلَالِ عَمَلِهِ إلَى أَنْ قَالَ : { فَقَالَ آخُذُ مَضْجَعِي وَلَيْسَ
فِي قَلْبِي غِمْرٌ } بِكَسْرِ
الْمُعْجَمَةِ : أَيْ حِقْدٌ عَلَى أَحَدٍ .
وَفِي حَدِيثٍ : { كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا
، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ } .
وَفِي آخَرَ : { سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ ،
قَالُوا : وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ ؟ قَالَ : الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ وَالتَّكَاثُرُ
وَالتَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ
الْبَغْيُ ، ثُمَّ يَكُونَ الْهَرَجُ
} .
وَفِي آخَرَ : { أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي
أَنْ يَكْثُرَ بِهِمْ الْمَالُ فَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتَتِلُونَ } ، ثُمَّ قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ
بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ } .
وَفِي آخَرَ : { إنَّ لِنِعَمِ اللَّهِ أَعْدَاءً قِيلَ
: وَمَنْ أُولَئِكَ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وَفِي آخَرَ
: { سِتَّةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَبْلَ الْحِسَابِ
بِسَنَةٍ ؟ قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ الْأُمَرَاءُ
بِالْجَوْرِ ، وَالْعَرَبُ بِالْعَصَبِيَّةِ ، وَالدَّهَاقِينُ بِالتَّكَبُّرِ ،
وَالتُّجَّارُ بِالْخِيَانَةِ ، وَأَهْلُ الرُّسْتَاقِ بِالْجَهَالَةِ ،
وَالْعُلَمَاءُ بِالْحَسَدِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ لَمَّا تَعَجَّلَ إلَى رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلًا
فَغَبَطَهُ بِمَكَانِهِ ، وَقَالَ
: إنَّ هَذَا لَكَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْبِرَهُ بِاسْمِهِ ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْمِهِ وَقَالَ :
أُحَدِّثُك مِنْ عَمَلِهِ بِثَلَاثٍ : كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا
آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَكَانَ لَا يَعُقُّ وَالِدَيْهِ ، وَكَانَ لَا يَمْشِي
بِالنَّمِيمَةِ .
وَعَنْ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَاسِدُ
عَدُوٌّ لِنِعْمَتِي مُتَسَخِّطٌ لِقَضَائِي غَيْرُ رَاضٍ بِقِسْمَتِي الَّتِي
قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادِي
" .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : " أَوَّلُ خَطِيئَةٍ
عُصِيَ اللَّهُ بِهَا هِيَ الْحَسَدُ حَسَدَ إبْلِيسُ آدَمَ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ
فَحَمَلَهُ
الْحَسَدُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ " .
وَوَعَظَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ
فَقَالَ : إيَّاكَ وَالْكِبْرَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ تَعَالَى
بِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { ، وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ } الْآيَةَ ، وَإِيَّاكَ وَالْحِرْصَ
فَإِنَّهُ أَخْرَجَ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ جَنَّةً عَرْضُهَا
السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ يَأْكُلُ فِيهَا إلَّا شَجَرَةً وَاحِدَةً نَهَاهُ
عَنْهَا فَمِنْ حِرْصِهِ أَكَلَ مِنْهَا فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ الْجَنَّةِ ،
ثُمَّ قَرَأَ : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا } الْآيَةَ ، وَإِيَّاكَ
وَالْحَسَدَ فَإِنَّهُ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ آدَمَ عَلَى أَنْ قَتَلَ أَخَاهُ
حِينَ حَسَدَهُ ثُمَّ قَرَأَ : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ
يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } .
وَقِيلَ : كَانَ السَّبَبُ أَيْضًا فِي قَتْلِهِ لَهُ أَنَّ
زَوْجَتَهُ أُخْتَ الْقَاتِلِ كَانَتْ أَجْمَلَ مِنْ زَوْجَةِ الْقَاتِلِ أُخْتِ
الْمَقْتُولِ لِأَنَّ حَوَّاءَ وَلَدَتْ لِآدَمَ عِشْرِينَ بَطْنًا فِي كُلِّ
بَطْنٍ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى ، فَكَانَ آدَم صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ
عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ يُزَوِّجُ أُنْثَى كُلِّ بَطْنٍ لِذَكَرِ بَطْنٍ
آخَرَ لَا لِذَكَرِ بَطْنِهَا ، فَلَمَّا رَأَى قَابِيلُ أَنَّ زَوْجَةَ أَخِيهِ
هَابِيلَ أَجْمَلُ حَسَدَهُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلَهُ ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا
قَالَهُ لَهُ أَيْضًا : وَإِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْكُتْ ، وَإِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَاسْكُتْ ، وَإِذَا ذُكِرَتْ
النُّجُومُ فَاسْكُتْ .
وَكَانَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ يَجْلِسُ بِجَانِبِ مَلِكٍ
يَنْصَحُهُ وَيَقُولُ لَهُ : أَحْسِنْ إلَى الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ فَإِنَّ
الْمُسِيءَ سَتَكْفِيهِ إسَاءَتُهُ ، فَحَسَدَهُ عَلَى قُرْبِهِ مِنْ الْمَلِكِ
بَعْضُ الْجَهَلَةِ وَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ عَلَى قَتْلِهِ ، فَسَعَى بِهِ
لِلْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ : إنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّك أَبْخَرُ ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ أَنَّك
إذَا قَرُبْتَ مِنْهُ يَضَعُ
يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ لِئَلَّا يَشُمَّ رَائِحَةَ
الْبَخَرِ ، فَقَالَ : لَهُ انْصَرِفْ حَتَّى أَنْظُرَ ، فَخَرَجَ فَدَعَا
الرَّجُلَ لِمَنْزِلِهِ وَأَطْعَمَهُ ثُومًا فَخَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ
وَجَاءَ لِلْمَلِكِ وَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ السَّابِقِ : أَحْسِنْ
لِلْمُحْسِنِ كَعَادَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : اُدْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَشُمَّ الْمَلِكُ مِنْهُ
رَائِحَةَ الثُّومِ ، فَقَالَ الْمَلِكُ فِي نَفْسِهِ : مَا أَرَى فُلَانًا إلَّا
قَدْ صَدَقَ ، وَكَانَ الْمَلِكُ لَا يَكْتُبُ بِخَطِّهِ إلَّا بِجَائِزَةٍ أَوْ
صِلَةٍ فَكَتَبَ لَهُ بِخَطِّهِ لِبَعْضِ عُمَّالِهِ : إذَا أَتَاك صَاحِبُ
كِتَابِي هَذَا فَاذْبَحْهُ وَاسْلُخْهُ وَاحْشُ جِلْدَهُ تِبْنًا وَابْعَثْ بِهِ
إلَيَّ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَخَرَجَ فَلَقِيَهُ الَّذِي سَعَى بِهِ فَقَالَ : مَا
هَذَا الْكِتَابُ ؟ فَقَالَ : خَطَّ الْمَلِكُ لِي بِصِلَةٍ ، فَقَالَ : هَبْهُ مِنِّي
فَقَالَ : هُوَ لَك فَأَخَذَهُ وَمَضَى إلَى الْعَامِلِ فَقَالَ الْعَامِلُ فِي
كِتَابِك أَنْ أَذْبَحَك وَأَسْلُخَك : فَقَالَ : إنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ هُوَ لِي ،
اللَّهَ اللَّهَ فِي أَمْرِي حَتَّى أُرَاجِعَ الْمَلِكَ ، قَالَ : لَيْسَ
لِكِتَابِ الْمَلِكِ مُرَاجَعَةٌ ، فَذَبَحَهُ وَسَلَخَهُ وَحَشَا جِلْدَهُ
تِبْنًا وَبَعَثَ بِهِ ، ثُمَّ عَادَ الرَّجُلُ إلَى الْمَلِكِ كَعَادَتِهِ
وَقَالَ مِثْلَ ، قَوْلِهِ ، فَعَجِبَ الْمَلِكُ وَقَالَ : مَا فَعَلَ الْكِتَابُ
؟ فَقَالَ : لَقِيَنِي فُلَانٌ فَاسْتَوْهَبَهُ مِنِّي فَدَفَعْتُهُ لَهُ ،
فَقَالَ الْمَلِكُ : إنَّهُ ذَكَرَ لِي أَنَّك تَزْعُمُ أَنِّي أَبْخَرُ ، قَالَ :
مَا قُلْت ذَلِكَ ، قَالَ : فَلِمَ وَضَعْتَ يَدَكَ عَلَى أَنْفِك وَفِيك ؟ قَالَ : أَطْعَمَنِي
ثُومًا فَكَرِهْتُ أَنْ تَشُمَّهُ ، قَالَ : صَدَقْتَ ارْجِعْ إلَى مَكَانِك
فَقَدْ كَفَى الْمُسِيءَ إسَاءَتُهُ
.
فَتَأَمَّلْ رَحِمَك اللَّهُ شُؤْمَ الْحَسَدِ وَمَا
جَرَّ إلَيْهِ تَعْلَمْ سِرَّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحَدِيثِ السَّابِقِ : { لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيك فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ
وَيَبْتَلِيَك } .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : مَا حَسَدْتُ أَحَدًا عَلَى
شَيْءٍ مِنْ
أَمْرِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى الدُّنْيَا وَهِيَ حَقِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ
، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا
وَهُوَ يَصِيرُ إلَى النَّارِ .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا
أَكْثَرَ عَبْدٌ ذِكْرَ الْمَوْتِ إلَّا قَلَّ فَرَحُهُ وَقَلَّ حَسَدُهُ .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُلُّ
النَّاسِ أَقْدِرُ عَلَى رِضَاهُ إلَّا حَاسِدَ نِعْمَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ
إلَّا زَوَالُهَا
.
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : مَأْ رَأَيْت ظَالِمًا أَشْبَهَ
بِمَظْلُومٍ مِنْ حَاسِدٍ ؛ إنَّهُ يَرَى النِّعْمَةَ عَلَيْك نِقْمَةً عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا ابْنَ
آدَمَ لَا تَحْسُدْ أَخَاك ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ لِكَرَامَتِهِ
عَلَيْهِ فَلَا تَحْسُدْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ
لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلِمَ تَحْسُدُ مَنْ مَصِيرُهُ إلَى النَّارِ ؟ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : الْحَاسِدُ لَا يَنَالُ مِنْ الْمَجَالِسِ إلَّا مَذَمَّةً وَذُلًّا ، وَلَا
يَنَالُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلَّا لَعْنَةً وَبُغْضًا ، وَلَا يَنَالُ مِنْ
الْخَلْقِ إلَّا جَزَعًا وَغَمًّا ، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ النَّزْعِ إلَّا شِدَّةً
وَهَوْلًا ، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْمَوْقِفِ إلَّا فَضِيحَةً وَهَوَانًا
وَنَكَالًا .
( تَنْبِيهَاتٌ ) مِنْهَا : مَرَّ فِي أَحَادِيثِ الْغَضَبِ
السَّابِقَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْغَضَبَ مِنْ
نَارٍ وَغَرَزَهُ فِي الْإِنْسَانِ وَعَجَنَهُ بِطِينَتِهِ ، فَمَهْمَا قَصَدَ فِي
غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ اشْتَعَلَتْ فِيهِ تِلْكَ النَّارُ إلَى أَنْ يَغْلِيَ
مِنْهَا دَمُ قَلْبِهِ ثُمَّ تَنْتَشِرَ فِي بَقِيَّةِ عُرُوقِ الْبَدَنِ
فَتَرْتَفِعَ إلَى أَعَالِيهِ كَمَا يَرْتَفِعُ الْمَاءُ الْمَغْلِيُّ فَيَنْصَبُّ
الدَّمُ بَعْدَ انْبِسَاطِهِ إلَى الْوَجْهِ وَتَحْمَرُّ الْوَجْنَةُ وَالْعَيْنُ
، وَالْبَشَرَةُ لِصَفَائِهَا تَحْكِي لَوْنَ مَا وَرَاءَهَا مِنْ حُمْرَةِ
الدَّمِ هَذَا إنْ اسْتَشْعَرَ الْقُدْرَةَ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا
فَإِنْ غَضِبَ عَلَى مَنْ قُوَّتُهُ أَشَدُّ مِنْ قُوَّتِهِ وَكَانَ مَعَهُ يَأْسٌ
مِنْ الِانْتِقَامِ انْقَبَضَ دَمُهُ مِنْ ظَاهِرِ جِلْدِهِ إلَى جَوْفِ قَلْبِهِ
وَصَارَ خَوْفًا فَيَصْفَرُّ لَوْنُهُ ، أَوْ مَنْ مُسَاوِيهِ وَشَكَّ فِي
قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُ تَرَدَّدَ دَمُهُ بَيْنَ الِانْقِبَاضِ وَالِانْبِسَاطِ
فَيَحْمَرُّ وَيَصْفَرُّ وَيَضْطَرِبُ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ قُوَّةَ الْغَضَبِ
مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَأَنَّ مَعْنَاهَا غَلَيَانُ دَمِهِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ
، وَأَنَّ هَذِهِ الْقُوَّةَ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ عِنْدَ ثَوَرَانِهَا إلَى دَفْعِ
مُؤْذٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ ، أَوْ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ بَعْدَهُ .
فَالِانْتِقَامُ هُوَ لَذَّتُهَا وَمُمْسِكُهَا ، ثُمَّ
إنَّ التَّفْرِيطَ فِيهَا بِانْعِدَامِهَا أَوْ ضَعْفِهَا مَذْمُومٌ جِدًّا
لِانْعِدَامِ الْحَمِيَّةِ وَالْغَيْرَةِ حِينَئِذٍ ، وَمَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ
وَلَا مُرُوءَةَ لَا يَتَأَهَّلُ لِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ بِوَجْهٍ مِنْ
الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ بِالنِّسَاءِ بَلْ بِحَشَرَاتِ الْحَيَوَانِ أَشْبَهُ ،
وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ
اُسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ ، وَمَنْ اُسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ
فَهُوَ شَيْطَانٌ ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بِالشِّدَّةِ وَالْحَمِيَّةِ فَقَالَ تَعَالَى : { أَذِلَّةً
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً
عَلَى الْكَافِرِينَ } { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَثَمَرَةُ التَّفْرِيطِ فِي ذَلِكَ قِلَّةُ الْأَنَفَةِ
مِمَّا يُؤْنَفُ مِنْهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْحَرَمِ كَالْأُخْتِ وَالزَّوْجَةِ ،
وَاحْتِمَالِ الذُّلِّ مِنْ الْأَخِسَّاءِ ، وَصِغَرِ النَّفْسِ ، وَهَذِهِ
كُلُّهَا قَبَائِحُ وَمَذَامُّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَمَرَاتِهَا إلَّا
قِلَّةُ الْغَيْرَةِ وَخُنُوثَةُ الطَّبْعِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ أَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ
، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ غَيْرَتِهِ أَنْ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ :
{ لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ وَلِذَلِكَ
مَدَحَ نَفْسَهُ ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ الْغَيْرَةَ مِنْ الْإِيمَانِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ : { إنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا مَا
يُبْغِضُ اللَّهُ ، وَإِنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا
يُبْغِضُ اللَّهُ ، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ
فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ .
وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ
فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ
.
وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ
فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْقِتَالِ وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ ،
وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي
الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ
عِبَادِهِ الْغَيُورَ ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ لِلْمُسْلِمِ فَلْيَغَرْ } .
وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَغَارُ ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ
الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ فِي تِلْكَ الْقُوَّةِ فَهُوَ
مَذْمُومٌ جِدًّا أَيْضًا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ
عَنْ سِيَاسَةِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَلَا يَبْقَى لَهُ مَعَهَا فِكْرٌ وَلَا
بَصِيرَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ ، بَلْ يَصِيرُ فِي صُورَةِ الْمُضْطَرِّ إمَّا
لِأُمُورٍ خُلُقِيَّةٍ أَوْ عَادِيَّةٍ أَوْ مُرَكَّبَةٍ مِنْهُمَا بِأَنْ تَكُونَ
فِطْرَتُهُ مُسْتَعِدَّةً لِسُرْعَةِ الْغَضَبِ أَوْ يُخَالِطَ مَنْ يَتَبَجَّحُ
بِهِ وَيَعُدُّهُ كَمَالًا وَشَجَاعَةً حَتَّى تَرَسَّخَ مَدْحُهُ عِنْدَهُ ،
وَمَهْمَا اشْتَدَّتْ نَارُ الْغَضَبِ وَاشْتَعَلَتْ أَعْمَتْ صَاحِبَهُ
وَأَصَمَّتْهُ عَنْ كُلِّ مَوْعِظَةٍ ، بَلْ لَا تَزِيدُهُ الْمَوْعِظَةُ إلَّا
اشْتِعَالًا لِانْطِفَاءِ نُورِ عَقْلِهِ وَمَحْوِهِ حَالًا بِدُخَانِ الْغَضَبِ
الصَّاعِدِ إلَى الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ مَعْدِنُ الْفِكْرِ وَبِمَا يَتَعَدَّى
إلَى مَعَادِنِ الْحِسِّ ؛ فَيَظْلِمُ بَصَرَهُ حَتَّى لَا يَرَى شَيْئًا إلَّا
سَوَادًا ، بَلْ رُبَّمَا زَادَ اشْتِعَالُ نَارِهِ حَتَّى تَفْنَى رُطُوبَةُ
الْقَلْبِ الَّتِي بِهَا حَيَاتُهُ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ غَيْظًا .
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الْغَضَبِ فِي الظَّاهِرِ تَغَيُّرُ
اللَّوْنِ كَمَا مَرَّ ، وَشِدَّةُ رَعْدَةِ الْأَطْرَافِ ، وَخُرُوجُ
الْأَفْعَالِ عَنْ الِانْتِظَامِ ، وَاضْطِرَابُ الْحَرَكَةِ وَالْكَلَامِ حَتَّى
يَظْهَرَ الزَّبَدُ عَلَى الْأَشْدَاقِ وَتَشْتَدَّ حُمْرَةُ الْأَحْدَاقِ وَتَنْقَلِبَ
الْمَنَاخِرُ وَتَسْتَحِيلَ الْخِلْقَةُ ، وَلَوْ يَرَى الْغَضْبَانُ فِي حَالِ
غَضَبِهِ صُورَةَ نَفْسِهِ لَسَكَنَ غَضَبُهُ حَيَاءً مِنْ قُبْحِ صُورَتِهِ
لِاسْتِحَالَةِ خِلْقَتِهِ ، وَقُبْحُ بَاطِنِهِ أَعْظَمُ مِنْ قُبْحِ ظَاهِرِهِ ،
فَإِنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ إذْ قُبْحُ ذَاكَ إنَّمَا نَشَأَ عَنْ
قُبْحِ هَذَا فَتَغَيُّرُ الظَّاهِرِ ثَمَرَةُ تَغَيُّرِ الْبَاطِنِ هَذَا
أَثَرُهُ فِي الْجَسَدِ .
وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي اللِّسَانِ ؛ فَانْطِلَاقُهُ
بِالْقَبَائِحِ كَالشَّتْمِ وَالْفُحْشِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَسْتَحِي مِنْهُ ذَوُو
الْعُقُولِ مُطْلَقًا ، وَقَائِلُهُ عِنْدَ فُتُورِ غَضَبِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْتَظِمُ
كَلَامُهُ ، بَلْ يَتَخَبَّطُ نَظْمُهُ وَيَضْطَرِبُ
لَفْظُهُ
.
وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي الْأَعْضَاءِ ، فَالضَّرْبُ فَمَا
فَوْقَهُ إلَى الْقَتْلِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ التَّشَفِّي
رَجَعَ غَضَبُهُ عَلَيْهِ فَمَزَّقَ ثَوْبَهُ وَضَرَبَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ حَتَّى
الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ - بِالْكَسْرِ - وَغَيْرِهِ ، وَعَدَا عَدْوَ الْوَالِهِ
السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ الْحَيْرَانِ ، وَرُبَّمَا سَقَطَ وَعَجَزَ عَنْ
الْحَرَكَةِ وَاعْتَرَاهُ مِثْلُ الْغَشْيَةِ لِشِدَّةِ اسْتِيلَاءِ الْغَضَبِ
عَلَيْهِ .
وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي الْقَلْبِ ، فَالْحِقْدُ عَلَى
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَحَسَدُهُ ، وَإِظْهَارُ الشَّمَاتَةِ بِمُسَاءَتِهِ ،
وَالْحُزْنِ بِسُرُورِهِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى إفْشَاءِ سِرِّهِ وَهَتْكِ سِتْرِهِ
وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَبَائِحِ .
وَأَمَّا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ : فَهُوَ اعْتِدَالُ
تِلْكَ الْقُوَّةِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَفْرِيطٌ وَلَا إفْرَاطٌ ،
وَإِنَّمَا تَكُونُ طَوْعَ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ، فَتَنْبَعِثُ حَيْثُ وَجَبَتْ
الْحَمِيَّةُ ، وَتَنْطَفِئُ حَيْثُ حَسُنَ الْحِلْمُ ، وَهَذَا هُوَ
الِاسْتِقَامَةُ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ ، وَالْوَسَطُ الَّذِي
مَدَحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { خَيْرُ
الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا } ، فَمَنْ أَفْرَطَ أَوْ فَرَّطَ فَلْيُعَالِجْ نَفْسَهُ
إلَى وُصُولِهَا إلَى هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَوْ إلَى الْقُرْبِ ،
قَالَ تَعَالَى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
} وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَجَزَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِالْخَيْرِ كُلِّهِ أَنْ يَأْتِيَ
بِالشَّرِّ كُلِّهِ فَإِنَّ بَعْضَ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ ، وَبَعْضَ
الْخَيْرِ أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ يُعْطِي
كُلَّ عَامِلٍ مَا أَمَّلَهُ ، وَيُيَسِّرُ لَهُ مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ وَأَمَّ
لَهُ .
وَمِنْهَا : مَحَلُّ ذَمِّ الْغَضَبِ إنْ كَانَ
بِبَاطِلٍ ، وَإِلَّا فَهُوَ مَحْمُودٌ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْضَبُ إلَّا لِلَّهِ .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ
الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ
فِي مَوْعِظَتِهِ يَوْمَئِذٍ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ
فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ
وَالصَّغِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ
} .
قَالَتْ عَائِشَةُ : { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي - أَيْ
صِفَةً - بَيْنَ يَدَيْ الْبَيْتِ بِقِرَامٍ - أَيْ سِتْرٍ رَقِيقٍ - فِيهِ
تَمَاثِيلُ ، فَلَمَّا رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ أَيْ
أَفْسَدَ الصُّورَةَ الَّتِي فِيهَا وَرَمَاهُ بِيَدِهِ وَقَالَ : يَا عَائِشَةُ أَشَدُّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ -
عَزَّ وَجَلَّ - } .
قَالَ أَنَسٌ : { رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي
وَجْهِهِ الْغَضَبُ فَقَامَ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ ، وَقَالَ : إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا
قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ قَالَ : إنَّ رَبَّهُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ
وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ،
ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ
وَقَالَ : أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا
} .
وَمِنْهَا : ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الرِّيَاضَةَ تُزِيلُ
الْغَضَبَ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَآخَرُونَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ أَصْلًا .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَالْحَقُّ مَا سَنَذْكُرُهُ .
وَحَاصِلُهُ ؛ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يُحِبُّ
شَيْئًا وَيَكْرَهُ شَيْئًا فَلَا يَخْلُو مِنْ الْغَضَبِ ، ثُمَّ الْمَحْبُوبُ
إنْ كَانَ ضَرُورِيًّا كَالْقُوتِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَلْبَسِ وَصِحَّةِ
الْبَدَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْغَضَبِ لِأَجْلِ تَفْوِيتِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
ضَرُورِيٍّ كَالْجَاهِ وَالصِّيتِ وَالتَّصَدُّرِ فِي الْمَجَالِسِ
وَالْمُبَاهَاةِ بِالْعِلْمِ وَالْمَالِ الْكَثِيرِ أَمْكَنَ
عَدَمُ الْغَضَبِ عَلَيْهِ بِالزُّهْدِ وَنَحْوِهِ ،
وَإِنْ صَارَ مَحْبُوبًا بِالْعَادَةِ وَالْجَهْلِ بِمَقَاصِدِ الْأُمُورِ ،
وَأَكْثَرُ غَضَبِ النَّاسِ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ ، أَوْ ضَرُورِيًّا فِي حَقِّ
بَعْضِ النَّاسِ كَكُتُبِ الْعُلَمَاءِ وَآلَاتِ الْمُحْتَرِفِينَ ، وَهَذَا
الْقِسْمُ لَا يَغْضَبُ لِفَوَاتِهِ إلَّا الْمُضْطَرُّ إلَيْهِ بِخِلَافِ
غَيْرِهِ .
إذَا عُلِمَ ذَلِكَ ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : لَا
تُؤَثِّرُ الرِّيَاضَةُ فِي زَوَالِهِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ قَضِيَّةُ
الطَّبْعِ بَلْ فِي اسْتِعْمَالِهِ عَلَى حَدٍّ يَسْتَحْسِنُهُ الشَّرْعُ
وَالْعَقْلُ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِالْمُجَاهَدَةِ وَتَكَلُّفِ التَّحَلُّمِ
وَالِاحْتِمَالِ مُدَّةً حَتَّى يَصِيرَ الْحِلْمُ وَالِاحْتِمَالُ خُلُقًا
رَاسِخًا .
وَكَذَلِكَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ
ضَرُورِيٌّ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ إلَى الْغَضَبِ عَلَى فَوَاتِهِ
، فَلَا يُمْكِنُ بِالْمُجَاهَدَةِ زَوَالُهُ بَلْ ضَعْفُهُ نَظِيرُ مَا تَقَرَّرَ
فِي الَّذِي قَبْلَهُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : فَيُمْكِنُ بِالْمُجَاهَدَةِ
زَوَالُهُ بِالْكُلِّيَّةِ لِإِمْكَانِ إخْرَاجِ حُبِّهِ مِنْ الْقَلْبِ لِعَدَمِ
اضْطِرَارِهِ إلَيْهِ ، وَلِمُلَاحَظَةِ أَنَّ وَطَنَ الْإِنْسَانِ الْحَقِيقِيَّ
الْقَبْرُ وَمُسْتَقَرَّهُ الْآخِرَةُ ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مَحَلُّ
تَزَوُّدِهِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَبَالٌ عَلَيْهِ فِي
وَطَنِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ فَلْيَزْهَدْ فِيهَا مَا حَيَا حُبُّهَا مِنْ قَلْبِهِ .
نَعَمْ وُصُولُ الرِّيَاضَةِ إلَى قَلْعِ أَصْلِ هَذَا
نَادِرٌ جِدًّا .
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ،
فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ أَوْ ضَرَبْتُهُ فَاجْعَلْهَا
مِنِّي صَلَاةً عَلَيْهِ وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
{ وَقَالَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَكْتُبُ عَنْك مَا قُلْت فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا يَخْرُجُ
مِنْهُ إلَّا حَقٌّ وَأَشَارَ
إلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقُلْ إنِّي لَا أَغْضَبُ ،
وَلَكِنْ قَالَ : إنَّ الْغَضَبَ لَا يُخْرِجُنِي عَنْ الْحَقِّ } : أَيْ لَا
أَعْمَلُ بِمُوجَبِ الْغَضَبِ .
قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : { كَانَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْضَبُ لِلدُّنْيَا فَإِذَا غَضِبَ لِلْحَقِّ
لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ } .
وَالْحَاصِلُ ؛ أَنَّ أَعْظَمَ الطُّرُقِ فِي الْخَلَاصِ
مِنْ الْغَضَبِ مَحْوُهُ حُبَّ الدُّنْيَا عَنْ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ آفَاتِهَا
وَغَوَائِلِهَا ، وَأَعْظَمَ الطُّرُقِ فِي الْوُقُوعِ فِي وَرْطَتِهِ الزَّهْوُ
وَالْعُجْبُ وَالْمُزَاحُ وَالْهَزْلُ وَالْهُزْءُ وَالتَّعْيِيرُ وَالْمُمَارَاةُ
وَالْمُضَارَّةُ وَالْغَدْرُ وَشِدَّةُ الْحِرْصِ عَلَى فُضُولِ الْمَالِ
وَالْجَاهِ ، فَهَذِهِ بِأَجْمَعِهَا أَخْلَاقٌ رَدِيئَةٌ مَذْمُومَةٌ شَرْعًا ،
وَلَا خَلَاصَ مِنْ الْغَضَبِ مَعَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ ، فَلَا بُدَّ
مِنْ إزَالَتِهَا بِالْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ إلَى أَنْ يَتَحَلَّى بِأَضْدَادِهَا .
وَمِنْهَا : مَرَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا يُعْلَمُ بِهِ
دَوَاءُ الْغَضَبِ وَمُزِيلُهُ بَعْدَ هَيَجَانِهِ ، وَمَرْجِعُهُ إلَى الْعِلْمِ
وَالْعَمَلِ ، فَالْعِلْمُ بِأَنْ يَتَفَكَّرَ فِيمَا سَيَجِيءُ فِي فَضْلِ كَظْمِ
الْغَيْظِ وَفِي الْعَفْوِ وَالْحِلْمِ وَالِاحْتِمَالِ ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ
يَرْغَبُ فِيمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ فَيَزُولُ مَا عِنْدَهُ
وَمَا يَضْطَرُّهُ إلَى الْهَوَانِ وَالْعَذَابِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا أَمَرَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِضَرْبِ رَجُلٍ قَرَأَ عَلَيْهِ : { خُذْ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } فَقَرَأَهَا عُمَرُ وَتَأَمَّلَهَا
فَخَلَّاهُ ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ ،
وَتَأَسَّى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَفِيدُهُ فِي هَذَا فَأَمَرَ
بِضَرْبِ رَجُلٍ ثُمَّ قَرَأَ : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } فَأَمَرَ
بِإِطْلَاقِهِ ، وَبِأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ
أَعْظَمُ مِنْ قُدْرَتِهِ هُوَ فَرُبَّمَا لَوْ أَمْضَى غَضَبَهُ أَمْضَى اللَّهُ
عَلَيْهِ غَضَبَهُ فَهُوَ أَحْوَجُ مَا
يَكُونُ لِلْعَفْوِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمِنْ ثَمَّ
جَاءَ كَمَا مَرَّ : { يَا ابْنَ آدَمَ اُذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرُك
حِينَ أَغْضَبُ فَلَا أَمْحَقُك فِيمَنْ أَمْحَقُ } ، وَبِأَنْ يُحَذِّرَ نَفْسَهُ
عَاقِبَةَ الِانْتِقَامِ مِنْ تَسَلُّطِ الْمُنْتَقَمِ مِنْهُ عَلَى عِرْضِهِ ، وَإِظْهَارِ
مَعَايِبِهِ وَالشَّمَاتَةِ بِمَصَائِبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَكَائِدِ
الْأَعْدَاءِ ، فَهَذِهِ غَوَائِلُ دُنْيَوِيَّةٌ يَنْبَغِي لِمَنْ لَا يُعَوِّلُ
عَلَى الْآخِرَةِ أَنْ لَا يَقْطَعَ نَظَرَهُ عَنْهَا ، وَبِأَنْ يَتَفَكَّرَ فِي
قُبْحِ صُورَتِهِ عِنْدَ غَضَبِهِ مَعَ قُبْحِ الْغَضَبِ عِنْدَ نَفْسِهِ
وَمُشَابَهَةِ صَاحِبِهِ لِلْكَلْبِ الضَّارِي ، وَمُشَابَهَةِ الْحَلِيمِ
لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَيَتَأَمَّلُ بُعْدَ مَا بَيْنَ الشَّبَهَيْنِ
، وَبِأَنْ لَا يُصْغِيَ إلَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الْمُهَيِّجَةِ لِغَضَبِهِ
فَإِنَّ تَرْكَهُ يُورِثُ عَجْزَهُ عِنْدَ النَّاسِ ، وَيَتَأَمَّلَ أَنَّ هَذَا
دُونَ عَذَابِ اللَّهِ وَانْتِقَامِهِ الْمُفَرَّعَيْنِ عَلَى الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ .
إذْ الْغَضْبَانُ يَوَدُّ جَرَيَانَ الشَّيْءِ عَلَى وَفْقِ
مُرَادِهِ دُونَ مُرَادِ اللَّهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ لَا
يَأْمَنُ غَضَبَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ غَضَبِهِ
وَانْتِقَامِهِ ، وَالْعَمَلُ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ وَيَأْخُذَ بِأَنْفِ نَفْسِهِ وَيَقُولَ : اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ
مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي ، وَأَجِرْنِي مِنْ
مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ لِحَدِيثٍ فِيهِ ثُمَّ لِيَجْلِسْ ثُمَّ يَضْطَجِعْ
لِيَقْرُبَ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا حَتَّى يَعْرِفَ حَقَارَةَ
أَصْلِهِ وَذُلَّ نَفْسِهِ ، وَلْيَسْكُنْ عَنْ الْحَرَكَةِ النَّاشِئِ عَنْهَا
الْحَرَارَةُ النَّاشِئُ عَنْهَا الْغَضَبُ كَمَا فِي حَدِيثِ : { إنَّ الْغَضَبَ
جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي الْقَلْبِ أَلَمْ تَرَوْا إلَى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ
وَحُمْرَةِ عَيْنَيْهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
فَلْيَجْلِسْ ، وَإِنْ كَانَ جَالِسًا فَلْيَنَمْ فَإِنْ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فَلْيَتَوَضَّأْ
بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَوْ
لِيَغْتَسِلْ فَإِنَّ النَّارَ لَا يُطْفِئُهَا إلَّا
الْمَاءُ } .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَتَوَضَّأْ بِالْمَاءِ فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنْ النَّارِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ ،
وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ
بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ } .
وَفِي أُخْرَى : { أَلَا إنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي
قَلْبِ ابْنِ آدَمَ : أَلَا تَرَوْنَ إلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ
أَوْدَاجِهِ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيُلْصِقْ خَدَّهُ بِالْأَرْضِ } .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَكَأَنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى
السُّجُودِ وَتَمْكِينِ أَعَزِّ الْأَعْضَاءِ مِنْ أَذَلِّ الْمَوَاضِعِ - وَهُوَ
التُّرَابُ - لِتَسْتَشْعِرَ بِهِ النَّفْسُ فَتُزِيلَ بِهِ الْعِزَّةَ وَالزَّهْوَ الَّذِي
هُوَ سَبَبُ الْغَضَبِ ، وَاسْتَنْشَقَ عُمَرُ بِمَاءٍ عِنْدَ غَضَبِهِ وَقَالَ :
إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهَذَا يُذْهِبُ الْغَضَبَ .
{ وَعَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا بِأُمِّهِ
قِيلَ : هُوَ بِلَالٌ فَعَتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ قَالَ لَهُ : يَا أَبَا ذَرٍّ ارْفَعْ رَأْسَك فَانْظُرْ - أَيْ إلَى
السَّمَاءِ - وَعِظَمِ خَالِقِهَا ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّك لَسْتَ بِأَفْضَلَ مِنْ
أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ إلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ بِالْعِلْمِ ، ثُمَّ قَالَ : إذَا
غَضِبْتَ فَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاقْعُدْ ، وَإِنْ كُنْتَ قَاعِدًا فَاتَّكِئْ ،
وَإِنْ كُنْت مُتَّكِئًا فَاضْطَجِعْ
} .
وَمِنْهَا : لَا يَجُوزُ لَك إذَا ظُلِمْتَ بِنَحْوِ
غِيبَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ تَجَسُّسٍ أَنْ تُقَابِلَ ذَلِكَ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ
لَا حَدَّ لَهُ يُوقَفُ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ ، وَالْقِصَاصُ إنَّمَا
يَجْرِي فِيمَا فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ ، نَعَمْ رَخَّصَ أَئِمَّتُنَا أَنْ
يُقَابِلَهُ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَحَدٌ كَأَحْمَقَ ، وَقَالَ مُطَرِّفٌ :
كُلُّ النَّاسِ أَحْمَقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ
النَّاسِ أَقَلُّ حَمَاقَةً مِنْ بَعْضٍ .
وَقَالَ عُمَرُ : النَّاسُ كُلُّهُمْ حَمْقَى فِي ذَاتِ
اللَّهِ
،
وَكَجَاهِلٍ ، إذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَفِيهِ جَهْلٌ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَكَذَا يَا سَيِّئَ الْخُلُقِ
يَا صَفِيقَ الْوَجْهِ يَا ثَلَّابَ الْأَعْرَاضِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِيهِ ،
وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيك حَيَاءٌ مَا تَكَلَّمْتَ مَا أَحْقَرَك فِي عَيْنِي بِمَا
فَعَلْتَ ، وَخَزَاك اللَّهُ وَانْتَقَمَ مِنْك ، فَأَمَّا نَحْوُ الْقَذْفِ
وَسَبِّ الْوَالِدَيْنِ فَحَرَامٌ اتِّفَاقًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ : { أَنَّ
زَيْنَبَ سَبَّتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَجَابَتْهَا حَتَّى
غَلَبَتْهَا بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّهَا
ابْنَةُ أَبِيهَا } .
وَالْمُرَادُ بِالسَّبِّ هُنَا أَنَّهَا أَجَابَتْهَا
عَنْ كَلَامِهَا بِالْحَقِّ وَقَابَلَتْهَا بِالصِّدْقِ ، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُ
ذَلِكَ ، وَإِنْ جَازَ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى مَا هُوَ أَقْبَحُ وَأَفْحَشُ .
وَفِي حَدِيثٍ : { الْمُؤْمِنُ سَرِيعُ الْغَضَبِ
سَرِيعُ الرِّضَا فَهَذِهِ بِتِلْكَ
} وَفِي آخَرَ : { أَنَّهُ قَسَّمَ الْخَلْقَ إلَى
سَرِيعِهِمَا وَبَطِيئِهِمَا وَسَرِيعِ أَحَدِهِمَا بَطِيءِ الْآخَرِ وَجَعَلَ خَيْرَهُمْ
بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا وَشَرَّهُمْ عَكْسَهُ } .
وَمِنْهَا :
قَدْ مَرَّ أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ الْغَضَبِ الْحِقْدُ
وَالْحَسَدُ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْغَضَبَ إذَا لَزِمَ كَظْمُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّشَفِّي
حَالًا رَجَعَ إلَى الْبَاطِنِ وَاحْتَقَنَ فِيهِ فَصَارَ حِقْدًا وَحَسَدًا ،
وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ قَلْبَهُ اسْتِثْقَالُهُ وَبُغْضُهُ دَائِمًا فَهَذَا هُوَ
الْحِقْدُ .
وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ أَنْ تَحْسُدَهُ بِأَنْ تَتَمَنَّى
زَوَالَ نِعْمَتِهِ عَنْهُ ، وَتَتَمَتَّعَ بِنِعْمَتِهِ وَتَفْرَحَ بِمُصِيبَتِهِ
، وَأَنْ تَشْمَتَ بِبَلِيَّتِهِ وَتَهْجُرَهُ وَتُقَاطِعَهُ ، وَإِنْ أَقْبَلَ
عَلَيْك ، وَتُطْلِقَ لِسَانَك فِيهِ بِمَا لَا يَحِلُّ ، وَتَهْزَأَ بِهِ
وَتَسْخَرَ مِنْهُ وَتُؤْذِيَهُ ، وَتَمْنَعَهُ حَقَّهُ مِنْ نَحْوِ صِلَةِ رَحِمٍ
أَوْ رَدِّ مَظْلِمَةٍ وَكُلُّ ذَلِكَ شَدِيدُ الْإِثْمِ وَالتَّحْرِيمِ ؛
وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ الْحِقْدِ الِاحْتِرَازُ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ الْمُنْقِصَةِ
لِلدِّينِ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْمُؤْمِنُ لَيْسَ بِحَقُودٍ } .
وَمِنْهَا :
قَدْ عَلِمْتَ قَرِيبًا مَعْنَى الْحَسَدِ فَلَا حَسَدَ
إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ بِأَنْ تَكْرَهَهَا لِلْغَيْرِ وَتُحِبَّ زَوَالَهَا عَنْهُ
، فَإِنْ اشْتَهَيْتَ لِنَفْسِك مِثْلَهَا مَعَ بَقَائِهَا لِذَوِيهَا فَهُوَ غِبْطَةٌ
، وَقَدْ يُخَصُّ بِاسْمِ الْمُنَافَسَةِ وَهِيَ قَدْ تُسَمَّى حَسَدًا كَمَا
مَرَّ فِي خَبَرِ : { لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ } وَفِي حَدِيثٍ : { الْمُؤْمِنُ
يَغْبِطُ وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ
} .
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ ، فَالْأَوَّلُ حَرَامٌ وَفُسُوقٌ
بِكُلِّ حَالٍ .
نَعَمْ إنْ تَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةِ فَاجِرٍ مِنْ
حَيْثُ إنَّهَا آلَةُ فَسَادِهِ ، وَإِيذَائِهِ الْخَلْقَ وَلَوْ صَلُحَ حَالُهُ
لَمْ يَتَمَنَّ زَوَالَهَا عَنْهُ فَلَا حُرْمَةَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ
زَوَالَهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا نِعْمَةً بَلْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا آلَةَ الْفَسَادِ
وَالْإِيذَاءِ ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَأَنَّهُ فُسُوقٌ
وَكَبِيرَةٌ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَخْبَارِ .
وَمِنْ آفَاتِهِ ؛ أَنَّ فِيهِ تَسَخُّطًا لِقَضَاءِ
اللَّهِ إذْ أَنْعَمَ عَلَى الْغَيْرِ مِمَّا لَا مَضَرَّةَ عَلَيْك فِيهِ ،
وَشَمَاتَةً بِأَخِيك الْمُسْلِمِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } { وَدَّ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا
حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَوَاءً } { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ } .
وَالثَّانِي
: أَعْنِي الْغِبْطَةَ وَالْمُنَافَسَةَ ، فَلَيْسَ
بِحَرَامٍ ، بَلْ هُوَ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ ، قَالَ
تَعَالَى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } - { سَابِقُوا
إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } وَالْمُسَابَقَةُ تَقْتَضِي خَوْفَ الْفَوْتِ كَعَبْدَيْنِ
يَتَسَابَقَانِ لِخِدْمَةِ مَوْلَاهُمَا حَتَّى يَحْظَى السَّابِقُ عِنْدَهُ ،
فَالْوَاجِبُ يَكُونُ فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ الْوَاجِبَةِ كَنِعْمَةِ
الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُحِبَّ
أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْقَائِمِ
بِذَلِكَ ، وَإِلَّا كُنْتَ رَاضِيًا بِالْمَعْصِيَةِ ،
وَالرِّضَا بِهَا حَرَامٌ ، وَالْمَنْدُوبُ يَكُونُ فِي الْفَضَائِلِ :
كَالْعُلُومِ ، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي الْمَبَرَّاتِ ، وَالْمُبَاحُ
يَكُونُ فِي النِّعَمِ الْمُبَاحَةِ كَالنِّكَاحِ ، نَعَمْ الْمُنَافَسَةُ فِي
الْمُبَاحَاتِ تُنْقِصُ مِنْ الْفَضَائِلِ وَتُنَاقِضُ الزُّهْدَ وَالرِّضَا وَالتَّوَكُّلَ
، وَتَحْجُبُ عَنْ الْمَقَامَاتِ الرَّفِيعَةِ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ ، نَعَمْ هُنَا
دَقِيقَةٌ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهَا ، وَإِلَّا وَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي
الْحَسَدِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَيِسَ مِنْ
أَنْ يَنَالَ مِثْلَ نِعْمَةِ الْغَيْرِ فَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَفْسَهُ
تَعْتَقِدُ أَنَّهُ نَاقِصٌ عَنْ صَاحِبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَأَنَّهَا تُحِبُّ
زَوَالَ نَقْصِهَا ، وَزَوَالُهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُسَاوَاةِ ذِي النِّعْمَةِ
، أَوْ بِزَوَالِهَا عَنْهُ قَدْ فَرَضَ يَأْسَهُ عَنْ مُسَاوَاتِهِ فِيهَا فَلَمْ
يَبْقَ إلَّا مَحَبَّتُهُ لِزَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ الْمُتَمَيِّزِ بِهَا
عَنْهُ إذْ بِزَوَالِهَا يَزُولُ تَخَلُّفُهُ وَتَقَدُّمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ بِهَا
، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ قَدَرَ عَلَى إزَالَتِهَا عَنْ الْغَيْرِ أَزَالَهَا
فَهُوَ حَسُودٌ حَسَدًا مَذْمُومًا ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّقْوَى مَا
يَمْنَعُهُ عَنْ إزَالَتِهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا وَعَنْ مَحَبَّةِ
زَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ
لَا تَنْفَكُّ النَّفْسُ عَنْهُ وَلَعَلَّهُ الْمَعْنِيُّ بِالْخَبَرِ السَّابِقِ
: { كُلُّ ابْنِ آدَمَ حَسُودٌ
} .
وَفِي رِوَايَةٍ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْفَكُّ
الْمُسْلِمُ عَنْهُنَّ : الْحَسَدُ ، وَالظَّنُّ ، وَالطِّيَرَةُ ؛ وَلَهُ
مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ إذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ } : أَيْ إنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِك
شَيْئًا فَلَا تَعْمَلْ بِهِ ، وَيَبْعُدُ مِمَّنْ يُرِيدُ مُسَاوَاةَ غَيْرِهِ
فِي النِّعْمَةِ فَيَعْجِزُ عَنْهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ أَنْ
يَنْفَكَّ عَنْ الْمَيْلِ إلَى زَوَالِهَا ، فَهَذَا الْحَدُّ مِنْ الْمُنَافَسَةِ
يُشْبِهُ الْحَسَدَ الْحَرَامَ فَيَنْبَغِي الِاحْتِيَاطُ التَّامُّ ، فَإِنَّهُ
مَتَى صَغِيَ إلَى
مَحَبَّةِ نَفْسِهِ وَمَالَ بِاخْتِيَارِهِ إلَى
مُسَاوَاتِهِ لِذِي النِّعْمَةِ بِمَحَبَّةِ زَوَالِهَا عَنْهُ فَهُوَ مُرْتَبِكٌ
فِي الْحَسَدِ الْحَرَامِ وَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ إلَّا إنْ قَوِيَ إيمَانُهُ
وَرَسَخَ قَدَمُهُ فِي التَّقْوَى ، وَمَهْمَا حَرَّكَهُ خَوْفُ نَقْصِهِ عَنْ
غَيْرِهِ جَرَّهُ إلَى الْحَسَدِ الْمَحْظُورِ ، وَإِلَى مَيْلِ الطَّبْعِ إلَى زَوَالِ
نِعْمَةِ الْغَيْرِ حَتَّى يَنْزِلَ لِمُسَاوَاتِهِ ، وَهُنَا لَا رُخْصَةَ فِيهِ
بِوَجْهٍ ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مَقَاصِدِ الدِّينِ أَمْ الدُّنْيَا .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَلَكِنَّ ذَلِكَ يُعْفَى عَنْهُ مَا
لَمْ يَعْمَلْ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَكُونُ كَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ
مِنْ نَفْسِهِ كَفَّارَةً لَهُ : وَمِنْهَا : قَدْ عَرَفْتَ مَاهِيَّةَ الْحَسَدِ
وَأَحْكَامَهُ .
وَأَمَّا مَرَاتِبُهُ : فَهِيَ إمَّا مَحَبَّةُ زَوَالِ
نِعْمَةِ الْغَيْرِ ، وَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ لِلْحَاسِدِ ، وَهَذَا غَايَةُ
الْحَسَدِ ، أَوْ مَعَ انْتِقَالِهَا إلَيْهِ أَوْ انْتِقَالِ مِثْلِهَا إلَيْهِ ،
وَإِلَّا أَحَبَّ زَوَالَهَا لِئَلَّا يَتَمَيَّزَ عَلَيْهِ أَوْ لَا مَعَ
مَحَبَّةِ زَوَالِهَا ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنْ
الْحَسَدِ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا ، وَالْمَطْلُوبُ إنْ كَانَ فِي الدِّينِ
كَمَا مَرَّ .
وَمِنْهَا :
لَا شَكَّ أَنَّ الْحَسَدَ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ
الْعَظِيمَةِ ، وَأَمْرَاضُ الْقُلُوبُ لَا تُدَاوَى إلَّا بِالْعِلْمِ ،
فَالْعِلْمُ النَّافِعُ لِمَرَضِ الْحَسَدِ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُ يَضُرُّ دِينًا وَدُنْيَا
وَلَا يَضُرُّ الْمَحْسُودَ لَا دِينًا وَلَا دُنْيَا ، إذْ لَا تَزُولُ نِعْمَةٌ
بِحَسَدٍ قَطُّ ، وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى
الْإِيمَانُ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُحِبُّونَ زَوَالَهُ عَنْ أَهْلِهِ ، بَلْ
الْمَحْسُودُ مُنْتَفِعٌ بِحَسَدِك دِينًا لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَتِك
سِيَّمَا إنْ أَبْرَزْتَ حَسَدَك إلَى الْخَارِجِ بِالْغِيبَةِ وَهَتْكِ السِّتْرِ
وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ ، فَهَذِهِ هَدَايَا تُهْدِي إلَيْهِ
حَسَنَاتِك بِسَبَبِهَا حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفْلِسًا
مَحْرُومًا مِنْ النِّعَمِ كَمَا حُرِمْتَ مِنْهَا فِي
الدُّنْيَا وَدِينًا لِسَلَامَتِهِ مِنْ غَمِّك
وَحُزْنِك وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَأْتِي ، وَمَتَى انْكَشَفَ غِشَاءُ بَصِيرَتِك
وَرَيْنُ قَلْبِك وَتَأَمَّلْتَ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ عَدُوَّ نَفْسِك وَلَا
صَدِيقَ عَدُوِّك أَعْرَضْت عَنْ الْحَسَدِ أَصْلًا وَرَأْسًا حَذَرًا مِنْ أَنْ
تَكُونَ قَدْ وَقَعْتَ بِهِ فِي وَرْطَةٍ عَظِيمَةٍ ، وَهِيَ أَنَّك قَدْ سَخِطْتَ
قَضَاءَ اللَّهِ وَكَرِهْتَ قِسْمَةَ اللَّهِ وَعَدْلَهُ ، وَهَذِهِ جِنَايَةٌ
أَيُّ جِنَايَةٍ عَلَى حَضْرَةِ التَّوْحِيدِ وَنَاهِيكَ بِهَا جِنَايَةً عَلَى
الدِّينِ ، وَكَيْفَ لَا وَأَنْتَ قَدْ فَارَقْتَ بِذَلِكَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ
وَالْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ فِي حُبِّهِمْ وُصُولَ الْخَيْرِ لِعِبَادِ اللَّهِ
وَشَارَكْت إبْلِيسَ وَالشَّيَاطِينَ فِي مَحَبَّتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ
الْبَلَايَا وَزَوَالَ النِّعَمِ ؟ وَهَذِهِ خَبَائِثُ فِي الْقَلْبِ تَأْكُلُ
حَسَنَاتِك كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ ، هَذَا مَعَ مَا يَنْضَمُّ
لِذَلِكَ مِنْ ضَرَرِك الدُّنْيَوِيِّ بِتَوَالِي الْهَمِّ وَالْغَمِّ عَلَيْك
كُلَّمَا رَأَيْتَ مَحْسُودَك يَتَزَايَدُ فِي النِّعَمِ وَأَنْتَ تَتَنَاقَصُ
فِيهَا ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ آفَاتِ حَسَدِك فَأَنْتَ دَائِمًا فِي
غَايَةِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَتَشَعُّبِ الْقَلْبِ ، فَلَوْ فُرِضَ
أَنَّك لَمْ تُؤْمِنْ بِبَعْثٍ وَلَا حِسَابٍ لَكَانَ مِنْ الْحَزْمِ تَرْكُ
الْحَسَدِ حَتَّى تَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ النَّاجِزَةِ
قَبْلَ الْعُقُوبَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ ، فَظَهَرَ أَنَّك عَدُوُّ نَفْسِك
وَصَدِيقُ عَدُوِّك إذْ تَعَاطَيْتَ مَا تَضَرَّرْت بِهِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَانْتَفَعَ بِهِ عَدُوُّك فِيهِمَا ، وَصِرْتَ مَذْمُومًا عِنْدَ
الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ شَقِيًّا حَالًا وَمَآلًا .
وَأَمَّا الْعَمَلُ النَّافِعُ لِذَلِكَ الْمَرَضِ ؛ فَهُوَ
أَنْ تُكَلِّفَ نَفْسَك أَنْ تَصْنَعَ بِالْمَحْسُودِ ضِدَّ مَا اقْتَضَاهُ
حَسَدُك فَتُبَدِّلُ الذَّمَّ بِالْمَدْحِ ، وَالتَّكَبُّرَ عَلَيْهِ
بِالتَّوَاضُعِ لَهُ ، وَمَنْعَ إدْخَالِ رِفْقٍ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ
الْإِرْفَاقِ بِهِ وَهَكَذَا ، فَبِهَذَا يَضْعُفُ دَاءُ الْحَسَدِ وَكُلَّمَا
زِدْت مِنْ ذَلِكَ زَادَ
تَنَاقُصُ الْحَسَدِ إلَى أَنْ يَنْعَدِمَ ، فَافْهَمْ
تَسْلَمْ وَامْتَثِلْ تَغْنَمْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ .
وَمِنْهَا :
لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُبْغِضُ مَنْ آذَاهُ
طَبْعًا فَلَا يَسْتَوِي عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِهِ وَسُوءُهُ غَالِبًا ، وَبِهَذَا يُنَازِعُ
الشَّيْطَانُ النَّفْسَ إلَى حَسَدِهِ فَإِنْ أَطَاعَتْهُ حَتَّى أَظْهَرَتْ الْحَسَدَ
بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ أَوْ أَبْطَنَتْهُ بِأَنْ أَحَبَّتْ زَوَالَ
نِعْمَتِهِ فَهِيَ عَاصِيَةٌ بِحَسَدِهَا إذْ مَعْصِيَةُ الْحَسَدِ بِالْقَلْبِ
فَحُسِبَتْ مَظْلِمَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْخَلْقِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي
التَّوْبَةِ مِنْهَا اسْتِحْلَالُ الْمَحْسُودِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا
يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، فَمَتَى كَفَفْت ظَاهِرَك
وَأَلْزَمْت مَعَ ذَلِكَ قَلْبَك كَرَاهَةَ مَا يَتَرَسَّخُ فِيهِ بِالطَّبْعِ
مِنْ حُبِّ زَوَالِ النِّعْمَةِ حَتَّى كَأَنَّك مَقَتَّ نَفْسَك عَلَى مَا فِي طَبْعِهَا
كَانَتْ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَيْلِ
مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ قَدْ أَدَّيْت الْوَاجِبَ وَلَا
يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِك غَالِبًا أَكْثَرُ مِنْ هَذَا ، فَأَمَّا تَغْيِيرُ
الطَّبْعِ إلَى أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْمُؤْذِي وَالْمُحْسِنُ وَيَكُونَ
فَرَحُهُ بِنِعْمَتِهِمَا وَغَمِّهِ بِبَلِيَّتِهِمَا سَوَاءً ، فَأَمْرٌ
يَأْبَاهُ الطَّبْعُ مَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَيَشْتَغِلْ بِهَا إلَى أَنْ يَرَى الْخَلْقَ كُلَّهُمْ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ
وَهِيَ عَيْنُ الرَّحْمَةِ ، وَبِتَقْدِيرِ حُصُولِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَدُومُ
بَلْ تَكُونُ كَالْبَرْقِ ، ثُمَّ يَعُودُ الْقَلْبُ إلَى طَبْعِهِ وَالشَّيْطَانُ
إلَى مُنَازَعَتِهِ بِالْوَسْوَسَةِ ، وَمَهْمَا قَابَلَ ذَلِكَ بِكَرَاهَتِهِ بِقَلْبِهِ
فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَهُ .
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ مَا
دَامَ الْحَسَدُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى جَوَارِحِهِ ، لِخَبَرِ : { ثَلَاثٌ لَا
يَخْلُو مِنْهُنَّ مُؤْمِنٌ وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ ، فَمَخْرَجُهُ مِنْ
الْحَسَدِ أَنْ لَا يَبْغِيَ } وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ شَاذٌّ بَلْ الصَّوَابُ مَا
مَرَّ مِنْ حُرْمَتِهِ مُطْلَقًا ، وَيُحْمَلُ الْخَبَرُ
إنْ صَحَّ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ دِينًا وَعَقْلًا فِي
مُقَابَلَةِ حُبِّ الطَّبْعِ لِزَوَالِ نِعْمَةِ الْعَدُوِّ ، وَهَذِهِ
الْكَرَاهَةُ تَمْنَعُهُ مِنْ الْبَغْيِ وَالْإِيذَاءِ ، وَقَدْ مَرَّتْ
الْأَخْبَارُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَمِّ كُلِّ حَاسِدٍ وَإِثْمِهِ ،
وَالْحَسَدُ لَيْسَ حَقِيقَتُهُ إلَّا فِي الْقَلْبِ ، وَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ
أَنْ يُجَوِّزَ مَحَبَّةَ إسَاءَةِ مُسْلِمٍ ، وَاشْتِمَالَ قَلْبِهِ عَلَيْهَا مِنْ
غَيْرِ كَرَاهَةٍ مِنْهُ لِذَلِكَ ؟
.
فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ كَظْمِ الْغَيْظِ
وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ فِي اللَّهِ
تَعَالَى قَالَ تَعَالَى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ
وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } { وَلَمَنْ
صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } { فَاصْفَحْ الصَّفْحَ
الْجَمِيلَ } { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُمْ } { وَاخْفِضْ جَنَاحَك لِلْمُؤْمِنِينَ } { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك } وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ
مَعْلُومَةٌ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ، يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا
وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا
} .
{ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ
إثْمًا فَإِنْ كَانَ إثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ } .
{ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ فِي شَيْءٍ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ
اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
{ هَلْ أَتَى عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمٌ كَانَ
أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ : لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِك وَكَانَ
أَشَدُّ مَا لَقِيتُهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى
ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلَى مَا أَرَدْتُ
فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا وَأَنَا
بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي
، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَادَانِي فَقَالَ :
إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -
قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَمَا رَدُّوا عَلَيْك ،
وَقَدْ بَعَثَ إلَيْك مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ،
فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إنَّ
اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ
بَعَثَنِي رَبِّي إلَيْك لِتَأْمُرَنِي بِمَا شِئْتَ ، فَإِنْ شِئْتَ أَطْبَقْتُ عَلَيْهِمْ
الْأَخْشَبَيْنِ ، فَقُلْتُ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ
- مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا } .
{ قَالَ أَنَسٌ : كُنْت أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ
الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً
شَدِيدَةً فَنَظَرْتُ إلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ،
ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَك ، فَالْتَفَتَ
إلَيْهِ وَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ } .
{ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ وَقَدْ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ
عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } .
{ لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ
الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } .
وَمُسْلِمٌ :
{ إنَّ فِيك خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ :
الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ قَالَهُ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ } كَمَا يَأْتِي : {
إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي
عَلَى مَا سِوَاهُ } .
{ إنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ
وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ } .
{ مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ كُلَّهُ } .
{ إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - كَتَبَ الْإِحْسَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا
ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ
شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } .
{ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً وَلَا
خَادِمًا إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَا نِيلَ شَيْءٌ قَطُّ
فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ
- عَزَّ وَجَلَّ - فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ
إلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْت فَكَأَنَّمَا
تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ - : أَيْ الرَّمَادَ الْحَارَّ - وَلَا يَزَالُ مَعَك مِنْ
اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ } .
وَالْبُخَارِيُّ : { أَنَّ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ لَمَّا
بَالَ فِي الْمَسْجِدِ قَامَ النَّاسُ إلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ ، فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعُوهُ وَأَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا } - :
أَيْ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ - { مِنْ مَاءٍ ، أَوْ قَالَ
ذَنُوبًا } - : أَيْ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكِلَاهُمَا الدَّلْوُ الْمُمْتَلِئَةُ
مَاءً - { فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ ، وَابْنُ
سَعْدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ الْأَشَجِّ -
وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَامِرٍ - : { إنَّ فِيك لَخَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا
اللَّهُ : الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ
} .
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ،
وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ،
وَالْبَغَوِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُمِّ أَبَانَ عَنْ جَدِّهَا ،
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ الْأَشَجِّ ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ { عَنْ جُوَيْرِيَةَ : إنَّ فِيك
لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ }
وَاَلْبَارُودِيُّ : { يَا أَشَجُّ إنَّ فِيك
خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { فِيك خُلُقَانِ يُحِبُّهُمَا
اللَّهُ : الْأَنَاةُ وَالتُّؤَدَةُ
} .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ
بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ قَالَ : بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ ؟
قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ
هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { خِيَارُ أُمَّتِي أَحِدَّاؤُهُمْ
الَّذِينَ إذَا غَضِبُوا رَجَعُوا
.
الْحِدَّةُ تَعْتَرِي خِيَارَ أُمَّتِي } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { الْحِدَّةُ تَعْتَرِي حَمَلَةَ
الْقُرْآنِ لِعِزَّةِ الْقُرْآنِ فِي أَجْوَافِهِمْ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { الْحِدَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي
صَالِحِي أُمَّتِي وَأَبْرَارِهَا
} .
وَالسِّجْزِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ : { لَيْسَ أَحَدٌ
أَحَقَّ بِالْحِدَّةِ مِنْ حَامِلِ الْقُرْآنِ لِعِزَّةِ الْقُرْآنِ فِي جَوْفِهِ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ
بِالْحِلْمِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ ، وَإِنَّهُ لَيُكْتَبُ جَبَّارًا
وَلَا يَمْلِكُ إلَّا أَهْلَ بَيْتِهِ } .
وَالْخَطِيبُ : { الْحَلِيمُ سَيِّدٌ فِي الدُّنْيَا
وَسَيِّدٌ فِي الْآخِرَةِ .
كَادَ الْحَلِيمُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { يَا أَشَجُّ إنَّ فِيك خَصْلَتَيْنِ
يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : الْحِلْمُ وَالتُّؤَدَةُ } وَهِيَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ
التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حُسْنُهَا مِنْ قُبْحِهَا .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { لَيْسَ بِحَلِيمٍ مَنْ لَمْ
يُعَاشِرْ بِالْمَعْرُوفِ مَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ حَتَّى يَجْعَلَ
اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجًا
} .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَا أَزْيَنَ مَنْ حَلُمَ ، مَا
أُوذِيَ أَحَدٌ مَا أُوذِيتُ فِي اللَّهِ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ
جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا ابْتِغَاءَ
وَجْهِ اللَّهِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَعْظَمَ أَجْرًا
عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { مَا جَرْعَةٌ أَحَبَّ إلَى
اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ ، مَا
كَظَمَهَا عَبْدٌ إلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ
إيمَانًا } .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ
عَلَى إنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا ، وَإِيمَانًا ، وَمَنْ تَرَكَ
لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَوَاضُعًا كَسَاهُ اللَّهُ
حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ، وَمَنْ زَوَّجَ لِلَّهِ تَوَجَّهَ اللَّهُ تَاجَ الْمُلْكِ } .
وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ : { مَنْ كَظَمَ
غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ يُزَوِّجُهُ
مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ
سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { وَجَبَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَلَى
مَنْ أُغْضِبَ فَحَلُمَ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { ابْغِ الرِّفْعَةَ عِنْدَ اللَّهِ
تَحْلُمُ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْك وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك } .
وَابْنُ السُّنِّيِّ : { مَا أُضِيفَ شَيْءٌ إلَى شَيْءٍ
أَفْضَلُ مِنْ حِلْمٍ إلَى عِلْمٍ
} .
وَابْنُ شَاهِينَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : مَا أَعَزَّ
اللَّهُ بِجَهْلٍ قَطُّ وَلَا أَذَلَّ اللَّهُ بِحِلْمٍ قَطُّ وَلَا نَقَصَتْ
صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ قَطُّ
" .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { غَرِيبَتَانِ : كَلِمَةُ حِكْمَةٍ
مِنْ سَفِيهٍ ، وَكَلِمَةُ سَفَهٍ مِنْ حَلِيمٍ فَاغْفِرُوهَا ، فَإِنَّهُ لَا حَلِيمَ
إلَّا ذُو عَثْرَةٍ وَلَا حَكِيمَ إلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ } .
وَالْعَسْكَرِيُّ : { لَا حَلِيمَ إلَّا ذُو أَنَاةٍ
وَلَا عَلِيمَ إلَّا ذُو عَثْرَةٍ وَلَا حَكِيمَ إلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ لَا يَرْحَمْ مَنْ فِي
الْأَرْضِ لَا يَرْحَمْهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ } أَيْ عِزُّهُ وَسُلْطَانُهُ {
مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ ، وَمَنْ لَا يَغْفِرْ لَا يُغْفَرْ لَهُ ، وَمَنْ
لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ
الرُّحَمَاءَ .
لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ
يَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا } ، { وَلَيْسَ مِنَّا
مَنْ غَشَّنَا } ، { وَلَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُحِبَّ
لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } .
{ الْبَرَكَةُ فِي أَكَابِرِنَا .
فَمَنْ لَمْ يَرْحَمْ
صَغِيرَنَا وَيُجِلَّ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالدُّولَابِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ :
{ خَابَ وَخَسِرَ عَبْدٌ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً
لِلْبَشَرِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالْحَاكِمُ : { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ،
ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } .
زَادَ الثَّلَاثَةُ الْمُتَأَخِّرُونَ : { وَالرَّحِمُ
شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ : أَيْ لَفْظُهَا مُشْتَقٌّ مِنْ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ ،
فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ : { لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : {
ارْحَمُوا تُرْحَمُوا وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ .
وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَهُ
وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ ، وَوَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
.
وَمُسْلِمٌ : { لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي
الدُّنْيَا إلَّا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ
الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كَشَفَ
عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا
فِي بَيْتِهِ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ
عَدِيٍّ : { أَشْكَرُ النَّاسِ لِلَّهِ أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ
كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا ، وَمَنْ لَمْ تَكُونَا فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ
اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا مَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ
فَاقْتَدَى بِهِ .
وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَحَمِدَ
اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا ، وَمَنْ
نَظَرَ فِي دِينِهِ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إلَى مَنْ هُوَ
فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ
مِنْهُ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { اُنْظُرُوا إلَى مَنْ
هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ
أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { بُعِثْتُ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ :
رَأْسُ الْعَقْلِ الْمُدَارَاةُ ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ
أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ
} .
وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ :
{ مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ
} .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي
بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِإِقَامَةِ الْفَرَائِضِ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ
الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ مُدَارَاةُ النَّاسِ ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي
الدُّنْيَا أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَهْلُ التَّكَبُّرِ فِي
الدُّنْيَا أَهْلُ التَّكَبُّرِ فِي الْآخِرَةِ } .
وَأَحْمَدُ : { مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ
يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ : { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ : أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ لِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي
ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي
} .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { الْمُتَحَابُّونَ
لِجَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ
وَالشُّهَدَاءُ } .
وَمَالِكٌ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي وَالْمُتَجَالِسِينَ فِي
، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِي ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِي } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ
أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ } .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ : الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ
وَالْخُيَلَاءُ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ
كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } { إنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }
أَيْ صَاغِرِينَ .
وَالْآيَاتُ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ كَثِيرَةٌ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي
فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ } : أَيْ مُمَشِّطٌ رَأْسَهُ {
مُخْتَالٌ فِي مِشْيَتِهِ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي
الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
} .
وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ
مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ
يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالْخُيَلَاءُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَوْ
كَسْرِهَا وَبِفَتْحِ الْيَاءِ مَمْدُودًا هُوَ الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ ، وَيَتَجَلْجَلُ
بِجِيمَيْنِ : أَيْ يَغُوصُ وَيَنْزِلُ فِيهَا .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : {
بَيْنَمَا رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ
مُخْتَالًا فِيهِمَا ، أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ
فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
} .
وَصَحَّ أَيْضًا { أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي حُلَّةٍ
حَمْرَاءَ فَتَبَخْتَرَ وَاخْتَالَ فِيهَا فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ
يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ :
{ إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى مَنْ يَجُرُّ إزَارَهُ
بَطَرًا ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ
مِنْ كِبْرٍ ، قِيلَ : إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ
حَسَنَةً ، قَالَ : إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ
الْحَقِّ } : أَيْ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ ، رَدُّهُ وَدَفْعُهُ
، { وَغَمْطُ النَّاسِ } : أَيْ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ ،
وَبِالْمُهْمَلَةِ ، وَهُوَ
احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ وَكَذَا غَمْصُهُمْ
بِالْمُهْمَلَةِ .
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فَقَالَ : { وَلَكِنَّ
الْكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ } .
وَقَدْ احْتَجَّا : أَيْ الشَّيْخَانِ : بِرُوَاتِهِ .
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ
الَّذِي يَجُرُّ ثِيَابَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { خَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ فِي حُلَّةٍ لَهُ يَخْتَالُ فِيهَا ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ
فَأَخَذَتْهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ : { لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ
خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ
} .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَكَبَّرُ
وَيَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارِينَ فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ
: حَدِيثٌ حَسَنٌ : { يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ
الذَّرِّ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ ، يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَان
يُسَاقُونَ إلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ
الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ } ، وَبُولَسُ
بِمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُهْمَلَةٍ ،
وَالْخَبَالُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ فَالْمُوَحَّدَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ذَرًّا فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ
الصَّغَارِ ثُمَّ يُسَاقُونَ إلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ
تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةَ
أَهْلِ النَّارِ } .
وَفِي أُخْرَى : { يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ تَطَؤُهُمْ النَّاسُ لِهَوَانِهِمْ عَلَى
اللَّهِ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : {
الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، فَمَنْ
نَازَعَنِي فِي رِدَائِي قَصَمْتُهُ } .
وَمَيْمُونَةُ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الْكِبْرِيَاءُ
رِدَائِي وَالْعِزُّ إزَارِي ، مَنْ نَازَعَنِي فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ : { قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إزَارِي ، فَمَنْ
نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ :
الْعِزُّ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا
عَذَّبْتُهُ } .
وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ
لَهُ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، وَالْعَظَمَةُ
إزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْته فِي جَهَنَّمَ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَا مِنْ
رَجُلٍ يَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ
تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ
} .
وَالْبَزَّارُ : { كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ ، وَآدَمُ
خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ ، لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ أَوْ
لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجِعْلَانِ } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إيَّاكُمْ وَالْكِبْرَ ، فَإِنَّ
إبْلِيسَ حَمَلَهُ الْكِبْرُ عَلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لِآدَمَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْحِرْصَ
، فَإِنَّ آدَمَ حَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى أَنْ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ ؛
وَإِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ ، فَإِنَّ ابْنَيْ آدَمَ إنَّمَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا
صَاحِبَهُ حَسَدًا فَهَذَا أَصْلُ خَطِيئَتِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْكِبْرَ ، فَإِنَّ
الْكِبْرَ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ ، وَإِنَّ عَلَيْهِ الْعَبَاءَةَ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ
: { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ ؟ كُلُّ
عُتُلٍّ } : أَيْ بِضَمَّتَيْنِ فَشَدَّةٍ : الْغَلِيظُ الْجَافِي ، { جَوَّاظٍ }
: أَيْ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ بِالْمُعْجَمَةِ هُوَ الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ
، وَقِيلَ : الضَّخْمُ الْمُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ ، وَقِيلَ : الْقَصِيرُ
الْبَطِينُ { جَعْظَرِيٍّ مُسْتَكْبِرٍ
} .
وَالشَّيْخَانِ ، { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ
النَّارِ ؟
كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ } .
وَأَبُو دَاوُد : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ
وَلَا الْجَعْظَرِيُّ } .
قَالَ : وَالْجَوَّاظُ الْغَلِيظُ الْفَظُّ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ ابْنَ
سَبْعِينَ فِي أَهْلِهِ ابْنَ عِشْرِينَ فِي مِشْيَتِهِ وَمَنْظَرِهِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ
الْبَذِخِينَ الْفَرِحِينَ الْمَرِحِينَ } .
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ لَالٍ وَعَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ
سَعْدٍ وَابْنُ عَدِيٍّ : { اجْتَنِبُوا الْكِبْرَ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ
يَتَكَبَّرُ حَتَّى يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى : اُكْتُبُوا عَبْدِي هَذَا فِي
الْجَبَّارِينَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { لَا يَزَالُ الْعَبْدُ
يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ : أَيْ يَرْتَفِعُ وَيَتَكَبَّرُ حَتَّى يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارِينَ
فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ }
.
وَصَحَّ : { لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ
مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ الْعُجْبَ
} .
وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ : { الْكِبْرُ مَنْ بَطِرَ
الْحَقَّ وَغَمَطَ النَّاسَ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { بَرَاءَةٌ مِنْ
الْكِبْرِ لُبْسُ الصُّوفِ وَمُجَالَسَةُ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَرُكُوبُ
الْحِمَارِ وَاعْتِقَالُ الْعَنْزِ
} .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ حَمَلَ سِلْعَتَهُ فَقَدْ
بَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ } .
وَالْحَاكِمُ : { سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ
؛ الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّشَاحُنُ فِي الدُّنْيَا
وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ } .
وَأَحْمَدُ : { الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ
الْإِبِلِ ، وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ } .
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { ثَلَاثَةٌ لَا
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَا يَنْظُرُ
إلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : شَيْخٌ زَانٍ ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ،
وَعَائِلٌ } أَيْ فَقِيرٌ { مُسْتَكْبِرٌ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : {
أَرْبَعَةٌ يُبْغِضُهُمْ اللَّهُ : الْبَيَّاعُ الْحَلَّافُ ، وَالْفَقِيرُ
الْمُخْتَالُ ، وَالشَّيْخُ الزَّانِي ، وَالْإِمَامُ الْجَائِرُ } .
وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ : { عُرِضَ
عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ
يَدْخُلُونَ النَّارَ : أَمِيرٌ مُسَلَّطٌ ، وَذُو
ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِيهِ ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ } .
وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { ثَلَاثَةٌ لَا
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الشَّيْخُ الزَّانِي ، وَالْإِمَامُ الْكَذَّابُ ،
وَالْعَائِلُ الْمَزْهُوُّ } : أَيْ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِهِ الْمُتَكَبِّرُ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِسْكِينٌ
مُتَكَبِّرٌ ، وَلَا شَيْخٌ زَانٍ ، وَلَا مَنَّانٌ عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ : {
مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَقْبَلَ رَجُلٌ يَمْشِي فِي
بُرْدَيْنِ لَهُ قَدْ أَسْبَلَ إزَارَهُ وَنَظَرَ فِي عِطْفَيْهِ وَهُوَ
يَتَبَخْتَرُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا
إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ابْنَ عِشْرِينَ
إذَا كَانَ شَبَهَ ابْنِ ثَمَانِينَ } : أَيْ فِي التَّضَعُّفِ وَالتَّوَاضُعِ ، {
وَيُبْغِضُ ابْنَ السِّتِّينَ إذَا كَانَ شَبَهَ ابْنِ عِشْرِينَ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ
الْأَرْبَعَةِ : { مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ لَالٍ : { الْجَبَرُوتُ فِي الْقَلْبِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ النَّاسَ لَا يَرْفَعُونَ
شَيْئًا إلَّا وَضَعَهُ اللَّهُ
} .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ الْعُجْبَ يُحْبِطُ عَمَلَ
سَبْعِينَ سَنَةً } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَوْ كَانَ الْعُجْبُ رَجُلًا
لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ
لَصُبَّ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ ؛ الْعُجْبُ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ
، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : { الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى الْمَرْوَةِ فَتَحَدَّثَا ثُمَّ مَضَى ابْنُ
عَمْرٍو وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ يَبْكِي .
قَالُوا : وَمَا يُبْكِيك يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ
؟ قَالَ : هَذَا ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ، زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ كَانَ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ أَكَبَّهُ اللَّهُ فِي
النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { لَيَنْتَهِيَنَّ
أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا ، إنَّمَا هُمْ فَحْمُ
جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلِ } - أَيْ
بِضَمٍّ فَفَتْحٍ : دُوَيْبَّةٌ أَرْضِيَّةٌ ، { - الَّذِي يُدَهْدِهُ } - : أَيْ
يُدَحْرِجُ وَزْنًا وَمَعْنًى {
- الْخَرْأَةَ بِأَنْفِهِ .
إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ
وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ ، إنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ
النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ } .
وَعُبِّيَّةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَوْ
كَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ
هِيَ الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالنَّخْوَةُ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ
وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا يَوْمًا لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ
وَالطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ : اُخْرُجُوا فَخَرَجُوا فِي مِائَتَيْ أَلْفٍ مِنْ
الْإِنْسِ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ مِنْ الْجِنِّ ، فَرُفِعَ حَتَّى سَمِعَ زَجَلَ
الْمَلَائِكَةِ بِالتَّسْبِيحِ فِي السَّمَوَاتِ ، ثُمَّ خُفِضَ حَتَّى مَسَّتْ
قَدَمَاهُ الْبَحْرَ فَسَمِعَ صَوْتًا : لَوْ كَانَ فِي قَلْبِ صَاحِبِكُمْ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَخَسَفْتُ بِهِ أَبْعَدَ مِمَّا رَفَعْتُهُ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ يَجُرُّ إزَارَهُ بَطَرًا } ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : دَخَلْت عَلَى ابْنِ
عُمَرَ فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ جَدِيدٌ
فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : يَا بُنَيَّ ارْفَعْ إزَارَك فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ
جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ } ،
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَرْفُوعِ دُونَ
ذِكْرِ مُرُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : إنَّ الْمَارَّ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي لَيْثٍ غَيْرُ مُسَمًّى
.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَ
إسْنَادَهُ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَزَقَ يَوْمًا
عَلَى كَفِّهِ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ عَلَيْهَا وَقَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى
: يَا ابْنَ آدَمَ أَتُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُك مِنْ مِثْلِ هَذِهِ ؟ حَتَّى
إذَا سَوَّيْتُك وَعَدَلْتُك مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ ، وَلِلْأَرْضِ مِنْك وَئِيدٌ
، جَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ قُلْتَ أَتَصَدَّقُ
وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ }
.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَخْرُجُ
مِنْ النَّارِ عَقْرَبٌ لَهُ أُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَعَيْنَانِ تُبْصِرَانِ
وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ : وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ، وَبِكُلِّ
مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ، وَبِالْمَصُورِينَ } ، رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ
النَّارُ : أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، وَقَالَتْ
الْجَنَّةُ : مَالِي لَا يَدْخُلُنِي إلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَأَسْقَاطُهُمْ
وَعَجَزَتُهُمْ ، فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِلْجَنَّةِ : إنَّمَا أَنْتِ
رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي ، وَقَالَ لِلنَّارِ : إنَّمَا
أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْكُمَا مِلْؤُهَا } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : { احْتَجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ،
فَقَالَتْ النَّارُ : فِي الْجَبَّارُونَ ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ ، وَقَالَتْ
الْجَنَّةُ : فِي ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِينُهُمْ ، فَقَضَى اللَّهُ
تَعَالَى بَيْنَهُمَا ؛ إنَّك الْجَنَّةُ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ أَشَاءُ ، وَإِنَّك
النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بِئْسَ
الْعَبْدُ
عَبْدٌ بَخِلَ وَاخْتَالَ وَنَسِيَ الْكَبِيرَ
الْمُتَعَالِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى وَنَسِيَ
الْجَبَّارَ الْأَعْلَى ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا وَلَهَا وَنَسِيَ
الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا وَطَغَى وَنَسِيَ
الْمُبْتَدَا وَالْمُنْتَهَى ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ
بِالشَّهَوَاتِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ ، بِئْسَ الْعَبْدُ
عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ } ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ : غَرِيبٌ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَاكَ ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ ، وَالْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ
حَدِيثِ نُعَيْمٍ الْغَطَفَانِيِّ أَخَصْرَ مِنْهُ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا
مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَا وَخَدَمَتْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ سُلِّطَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ، رَوَاهُ ابْنُ
حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ
أُخْرَى ، وَالْمُطَيْطَا بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءَيْنِ
الْمُهْمَلَتَيْنِ بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ مُصَغَّرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مُكَبَّرًا
مَمْدُودًا وَيُقْصَرُ : هُوَ التَّبَخْتُرُ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ فِي الْمَشْيِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ
تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ أَوْ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى
وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثٌ
مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ ،
وَالْحَاكِمُ بِزِيَادَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ
نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا
ابْنَيْهِ وَقَالَ : إنِّي آمُرُكُمَا بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكُمَا عَنْ
اثْنَتَيْنِ أَنْهَاكُمَا عَنْ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ ، وَآمُرُكُمَا بِلَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ لَوْ
وُضِعَتْ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَوُضِعَتْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى كَانَتْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
أَرْجَحَ مِنْهَا ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا حَلْقَةً
فَوُضِعَتْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَلَيْهِمَا لَقَصَمَتْهُمَا ، وَآمُرُكُمَا بِسُبْحَانَ
اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ كُلُّ
شَيْءٍ } .
وَقَالَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ : طُوبَى لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ كِتَابَهُ ثُمَّ لَمْ
يَمُتْ جَبَّارًا .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ فِي السُّوقِ ، وَعَلَيْهِ حُزْمَةٌ مِنْ حَطَبٍ فَقِيلَ
لَهُ : مَا يَحْمِلُك عَلَى هَذَا وَقَدْ أَغْنَاك اللَّهُ عَنْ هَذَا ؟ قَالَ :
أَرَدْتُ أَنْ أَدْفَعَ الْكِبْرَ عَنْ نَفْسِي ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي
قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ مِنْ كِبْرٍ } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ،
وَالْأَصْبَهَانِيّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ } .
وَعَنْ كُرَيْبٍ قَالَ : كُنْت أَقُودُ ابْنَ عَبَّاسٍ
فِي زُقَاقِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ : يَا كُرَيْبُ بَلَغْنَا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا
؟ قُلْت : أَنْتَ عِنْدَهُ الْآنَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
قَالَ : { بَيْنَمَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْنِ وَيَنْظُرُ
إلَى عِطْفَيْهِ فَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فِي
هَذَا الْمَوْطِنِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ
أَبُو يَعْلَى .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَهْلُ النَّارِ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ
مُسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الضُّعَفَاءُ
الْمَغْلُوبُونَ } .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ،
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ : { يَا
سُرَاقَةُ أَلَا أُخْبِرُك بِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ؟ قُلْتُ
: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَمَّا أَهْلُ
النَّارِ فَكُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ ، وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ
فَالضُّعَفَاءُ الْمَغْلُوبُونَ
} .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ رُوَاتُهَا رُوَاةُ الصَّحِيحِ
: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَقَالَ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ عِبَادِ
اللَّهِ ؟ الْفَظُّ الْمُسْتَكْبِرُ ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ عِبَادِ
اللَّهِ ؟ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ ذُو الطِّمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ
عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ
الْجَنَّةِ ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُسْتَضْعَفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ
، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ
مِنْ أَحَبِّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي
مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ } : أَيْ الْمُتَوَسِّعُونَ
فِي الْكَلَامِ { الْمُتَفَيْهِقُونَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ
عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَالَ :
الْمُتَكَبِّرُونَ } ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ : وَالثَّرْثَارُ - بِمُثَلَّثَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَتَكْرِيرِ
الرَّاءِ - كَثِيرُ الْكَلَامِ تَكَلُّفًا ، وَالْمُتَشَدِّقُ الْمُتَكَلِّمُ
بِمِلْءِ شِدْقِهِ تَفَاصُحًا وَتَعَاظُمًا وَاسْتِعْلَاءً عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ
مَعْنَى الْمُتَفَيْهِقِ .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى
بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ فَقُلْت لَهُ : يَا بِلَالُ إنَّ أَبَاك حَدَّثَنِي
عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ إنَّ فِي جَهَنَّمَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ : هَبْهَبُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ
يَسْكُنَهُ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ، فَإِيَّاكَ يَا بِلَالُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ
يَسْكُنُهُ } ، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ
وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ .
وَهَبْهَبُ بِفَتْحِ الْهَاءَيْنِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُحْشَرُ
الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ } ، رَوَاهُ
الْبَزَّارُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ
.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ فِي
النَّارِ تَوَابِيتَ يُجْعَلُ فِيهَا الْمُتَكَبِّرُونَ فَتُغْلَقُ عَلَيْهِمْ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ فَارَقَتْ
رُوحُهُ جَسَدَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ : الْكِبْرِ
وَالدَّيْنِ وَالْغُلُولِ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ : { مَنْ مَاتَ وَهُوَ
بَرِيءٌ مِنْ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ
: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا ، وَضَبَطَهُ بَعْضُ
الْحُفَّاظِ : الْكَنْزِ ، بِالنُّونِ وَالزَّايِ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا
تُحَقِّرَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ حَقِيرَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ
اللَّهِ كَبِيرٌ .
وَقَالَ وَهْبٌ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى
جَنَّةَ عَدْنٍ نَظَرَ إلَيْهَا فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ : عَجَبًا لِابْنِ آدَمَ
يَتَكَبَّرُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : الْعَجَبُ لِابْنِ آدَمَ يَغْسِلُ
الْخِرَاءَ بِيَدِهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُعَارِضُ
جَبَّارَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
.
وَسُئِلَ سُلَيْمَانُ عَنْ السَّيِّئَةِ الَّتِي لَا
تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ ؟ فَقَالَ : الْكِبْرُ .
وَنَظَرَ الْحَسَنُ إلَى أَمِيرٍ يَمْشِي مُتَبَخْتِرًا
فَقَالَ : أُفٍّ أُفٍّ لِشَامِخٍ بِأَنْفِهِ ثَانٍ عِطْفَهُ مُصَعِّرٍ خَدَّهُ
يَنْظُرُ فِي عِطْفَيْهِ : أَيْ حُمَيْقٍ أَيْنَ تَنْظُرُ فِي عِطْفَيْك ؟ فِي
نِعَمٍ غَيْرِ مَشْكُورَةٍ وَلَا مَذْكُورَةٍ ، غَيْرِ الْمَأْخُوذِ بِأَمْرِ اللَّهِ
فِيهَا وَلَا الْمُؤَدَّى حَقُّ اللَّهِ مِنْهَا ، فَسَمِعَ فَجَاءَهُ مُعْتَذِرًا
فَقَالَ : لَا تَعْتَذِرْ إلَيَّ وَتُبْ إلَى رَبِّك ،
أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا
تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّك لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ
طُولًا } وَاخْتَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مِشْيَتِهِ قَبْلَ
الْخِلَافَةِ ، فَغَمَزَ طَاوُسٌ جَنْبَهُ بِأُصْبُعِهِ وَقَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ
مِشْيَةَ مَنْ فِي بَطْنِهِ خَيْرٌ ، فَقَالَ كَالْمُعْتَذِرِ : يَا عَمِّ لَقَدْ
ضُرِبَ كُلُّ عُضْوٍ مِنِّي عَلَى هَذِهِ الْمِشْيَةِ حَتَّى تَعَلَّمْتُهَا .
وَرَأَى مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ وَلَدَهُ يَخْتَالُ فِي
مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ : أَتَدْرِي مَا أَنْتَ ؟ أَمَّا أُمُّك فَاشْتَرَيْتُهَا
بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَأَمَّا أَبُوك فَلَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي
الْمُسْلِمِينَ مِثْلَهُ .
وَرَأَى مُطَرِّفٌ الْمُهَلَّبَ يَتَبَخْتَرُ فِي
جُبَّةِ خَزٍّ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ إنَّ هَذِهِ مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، فَقَالَ لَهُ الْمُهَلَّبُ : أَمَا تَعْرِفُنِي ؟ فَقَالَ :
بَلَى أَعْرِفُك ، أَوَّلُك نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ وَآخِرُك جِيفَةٌ قَذِرَةٌ ، وَأَنْتَ
بَيْنَ ذَلِكَ تَحْمِلُ الْعَذِرَةَ ، فَتَرَكَ الْمُهَلَّبُ مِشْيَتَهُ تِلْكَ .
تَنْبِيهَاتٌ : مِنْهَا : عَدُّ مَا ذُكِرَ مِنْ
الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ وَبِهِ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ .
وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ : الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةَ
عَشْرَةَ ، الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ وَالْعُجْبُ وَالتِّيهُ ،
وَسَيَأْتِي فِي بَابِ اللِّبَاسِ بَسْطٌ فِيهِ ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِبَعْضِ
مَا مَرَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ } ، وَحَدِيثِ الْخَسْفِ
بِالْمُتَبَخْتِرِ ، وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ فِي قَوْلِهِ - تَبَارَكَ
وَتَعَالَى - : { وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } إنْ فَعَلَتْهُ تَبَرُّجًا
وَتَعَرُّضًا لِلرِّجَالِ حَرُمَ ، وَكَذَا مَنْ ضَرَبَ بِنَعْلِهِ مِنْ الرِّجَالِ
عُجْبًا حَرُمَ لِأَنَّ الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ .
وَمِنْهَا : الْكِبْرُ إمَّا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى -
وَهُوَ أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ
.
كَتَكَبُّرِ فِرْعَوْنَ وَنُمْرُودَ حَيْثُ اسْتَنْكَفَا
أَنْ يَكُونَا عَبْدَيْنِ لَهُ تَعَالَى وَادَّعَيَا الرُّبُوبِيَّةَ ، قَالَ
تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أَيْ صَاغِرِينَ .
{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ } الْآيَةَ ، وَإِمَّا
عَلَى رَسُولِهِ بِأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الِانْقِيَادِ لَهُ تَكَبُّرًا جَهْلًا
وَعِنَادًا كَمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ
، وَإِمَّا عَلَى الْعِبَادِ بِأَنْ يَسْتَعْظِمَ نَفْسَهُ وَيَحْتَقِرَ غَيْرَهُ
وَيَزْدَرِيَهُ فَيَأْبَى عَلَى الِانْقِيَادِ لَهُ أَوْ يَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ
وَيَأْنَفَ مِنْ مُسَاوَاتِهِ ، وَهَذَا ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ
إلَّا أَنَّهُ عَظِيمٌ إثْمُهُ أَيْضًا لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ
إنَّمَا يَلِيقَانِ بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ دُونَ الْعَبْدِ
الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ ، فَتَكَبُّرُهُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ لِلَّهِ فِي صِفَةٍ لَا
تَلِيقُ إلَّا بِجَلَالِهِ ، فَهُوَ كَعَبْدٍ أَخَذَ تَاجَ مَلِكٍ وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ
فَمَا أَعْظَمَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْمَقْتِ وَأَقْرَبَ اسْتِعْجَالَهُ لِلْخِزْيِ ،
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى كَمَا مَرَّ فِي أَحَادِيثَ : إنَّ مَنْ نَازَعَهُ
الْعَظَمَةَ وَالْكِبْرِيَاءَ أَهْلَكَهُ ، أَيْ لِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِهِ
الْخَاصَّةِ بِهِ تَعَالَى ، فَالْمُنَازِعُ فِيهِمَا مُنَازِعٌ فِي بَعْضِ صِفَاتِهِ
تَعَالَى ؛ وَأَيْضًا فَالتَّكَبُّرُ عَلَى عِبَادِهِ لَا يَلِيقُ إلَّا بِهِ - تَبَارَكَ
وَتَعَالَى - ، فَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ إذْ مَنْ
اسْتَذَلَّ خَوَاصَّ غِلْمَانِ الْمَلِكِ مُنَازِعٌ لَهُ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ ،
وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قُبْحَ مَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ عَلَى سَرِيرِهِ ، وَمِنْ
لَازِمِ هَذَا الْكِبْرِ بِنَوْعَيْهِ مُخَالَفَةُ أَوَامِرِ الْحَقِّ ، لِأَنَّ
الْمُتَكَبِّرَ - وَمِنْهُ الْمُتَجَادِلُونَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ بِالْهَوَى
وَالتَّعَصُّبِ - تَأْبَى نَفْسُهُ مِنْ قَبُولِ مَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ
وَإِنْ اتَّضَحَ سَبِيلُهُ ، بَلْ يَدْعُوهُ كِبْرُهُ إلَى الْمُبَالَغَةِ فِي
تَزْيِيفِهِ وَإِظْهَارِ إبْطَالِهِ ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى : {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ } { ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كَفَى
بِالرَّجُلِ إثْمًا إذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَقُولَ : عَلَيْك
بِنَفْسِك .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ : {
كُلْ بِيَمِينِك ، فَقَالَ مُتَكَبِّرًا : لَا أَسْتَطِيعُ فَشُلَّتْ يَدُهُ
فَلَمْ يَرْفَعْهَا بَعْدُ } .
فَإِذَنْ التَّكَبُّرُ عَلَى الْخَلْقِ يَدْعُو إلَى التَّكَبُّرِ
عَلَى الْخَالِقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ إبْلِيسَ لَمَّا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ
وَحَسَدَهُ بِقَوْلِهِ : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } جَرَّهُ ذَلِكَ إلَى التَّكَبُّرِ
عَلَى اللَّهِ لِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ فَهَلَكَ هَلَاكًا مُؤَبَّدًا ، وَمِنْ
ثَمَّ جُعِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَلَامَةِ الْكِبْرِ بَطَرُ
الْحَقِّ أَيْ رَدُّهُ ، وَغَمْطُ النَّاسِ : أَيْ احْتِقَارُهُمْ
وَازْدِرَاؤُهُمْ ؛ ثُمَّ الْحَامِلُ عَلَى التَّكَبُّرِ هُوَ اعْتِقَادُ كَمَالِ
تَمَيُّزِهِ عَلَى الْغَيْرِ بِعِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ مَالٍ أَوْ
جَمَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ كَثْرَةِ أَتْبَاعٍ ، فَالتَّكَبُّرُ
أَسْرَعُ إلَى الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُمْنَحُوا نُورَ التَّوْفِيقِ مِنْهُ إلَى
غَيْرِهِمْ ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَرَى غَيْرَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ
كَالْبَهِيمَةِ فَيُقَصِّرُ فِي حُقُوقِهِ الَّتِي طَلَبَهَا الشَّارِعُ مِنْهُ
كَالسَّلَامِ وَالْعِيَادَةِ وَالْبِشْرِ ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يُخِلَّ
بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِ لِمَحَبَّتِهِ التَّرَفُّعَ عَلَيْهِ ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ
أَجْهَلُ الْجَاهِلِينَ لِأَنَّهُ جَهِلَ مِقْدَارَ نَفْسِهِ وَرَبِّهِ ، وَخَطَرَ
الْخَاتِمَةِ ، وَعَكَسَ الْمَوْضُوعَ ، إذْ مِنْ شَأْنِ الْعِلْمِ أَنْ يُوجِبَ
مَزِيدَ الْخَوْفِ وَالتَّوَاضُعِ لِعِظَمِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَتَقْصِيرِهِ
فِي شُكْرِ نِعْمَتِهِ ، لَكِنْ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَهُ إمَّا يَرْجِعُ إلَى
الدُّنْيَا ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ فِيهِ فَخَاضَ فِيهِ عَلَى
غَيْرِ وَجْهِهِ فَأَنْتَجَ لَهُ تِلْكَ الْقَبَائِحَ ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ
الَّذِينَ ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ سِيمَا الصَّالِحِينَ يُسْرِعُ إلَيْهِمْ
الْكِبْرُ ، لَكِنَّ النَّاسَ يَتَرَدَّدُونَ إلَيْهِمْ
بِقَضَاءِ مَآرِبِهِمْ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إكْرَامِهِمْ فَيَرَوْنَ حِينَئِذٍ
أَنَّهُمْ أَرْفَعُ وَأَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ النَّاسُ دُونَهُمْ لِعَدَمِ وُصُولِهِمْ
إلَى صُوَرِ أَعْمَالِهِمْ ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا
لِسَلْبِهِمْ .
كَمَا وَقَعَ أَنَّ خَلِيعًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ
جَلَسَ إلَى عَابِدٍ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَأَنِفَ مِنْ مُجَالَسَتِهِ وَطَرَدَهُ ،
فَأَوْحَى اللَّهُ - تَعَالَى - إلَى نَبِيِّهِمْ أَنَّهُ غَفَرَ لِلْخَلِيعِ
وَأَحْبَطَ عَمَلَ الْعَابِدِ .
فَالْجَاهِلُ الْعَامِّيُّ إذَا تَوَاضَعَ وَذُلَّ
هَيْبَةً لِلَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ فَقَدْ أَطَاعَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ أَطْوَعُ
مِنْ الْعَالِمِ الْمُتَكَبِّرِ وَالْعَابِدِ الْمُعْجَبِ .
وَقَدْ يَنْتَهِي الْحُمْقُ وَالْغَبَاوَةُ بِبَعْضِ
الْعِبَادِ إلَى أَنَّهُ إذَا أُوذِيَ يَتَوَعَّدُ مُؤْذِيَهُ وَيَقُولُ :
سَتَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِ ، وَإِذَا نُكِبَ مُؤْذِيهِ يَعُدُّ ذَلِكَ مِنْ
كَرَامَاتِهِ لِعِظَمِ قَدْرِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ وَاسْتِيلَاءِ الْجَهْلِ عَلَيْهِ
لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ الْأَنْبِيَاءَ وَمَاتُوا مِنْ
غَيْرِ أَنْ يُعَاجَلُوا بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا فَمَا مَرْتَبَةُ هَذَا
الْجَاهِلِ ؟ ، وَإِذَا اتَّضَحَ لَك كِبْرُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ
هُمَا فِي الظَّاهِرِ عَلَيْهِمَا مُعَوَّلُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا اتَّضَحَ لَك
كِبْرُ الْبَقِيَّةِ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ وَالْجَاهِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَالْمُتَكَبِّرُ
بِالنَّسَبِ قَدْ يَرَى مَنْ لَيْسَ كَنَسَبِهِ مِثْلَ عَبْدِهِ ، وَكَذَا
بِالْجَمَالِ ، وَأَكْثَرُ مَا يَجْرِي بَيْنَ النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ ، وَكَذَا
بِالْمَالِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّنْيَا مِنْ الْمَنَاصِبِ
وَالْمَتَاجِرِ وَغَيْرِهَا ، وَكَذَا بِالْأَتْبَاعِ وَالْجُنْدِ ، وَأَكْثَرُ
مَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُلُوكِ ؛ وَمِمَّا يُهَيِّجُ الْكِبْرَ وَيُسَعِّرُ
نَارَهُ الْعُجْبُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَالرِّيَاءُ ؛ إذْ التَّكَبُّرُ
خُلُقٌ بَاطِنِيٌّ لِأَنَّهُ اسْتِعْظَامُ النَّفْسِ وَرُؤْيَةُ قَدْرِهَا فَوْقَ قَدْرِ
الْغَيْرِ ، وَمُوجِبُهُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْعُجْبُ ،
وَحَدُّهُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي مَعْنَاهُ : مَنْ أُعْجِبَ بِشَيْءٍ
مِنْ عِلْمِهِ أَوْ عَمَلِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا مَرَّ اسْتَعْظَمَ نَفْسَهُ
وَتَكَبَّرَ وَتَمَرَّدَ وَتَجَبَّرَ
.
وَأَمَّا غَيْرُ الْعُجْبِ مِمَّا ذَكَرْنَا فَإِنَّمَا
هُوَ سَبَبٌ لِلتَّكَبُّرِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ بَاعِثَهُ عَلَى التَّكَبُّرِ
عَلَيْهِ هُوَ الْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَعَلَى غَيْرِهِ هُوَ الرِّيَاءُ .
وَمِنْهَا
: يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَرَادَ الْخَلَاصَ
مِنْ وَرْطَةِ الْكِبْرِ وَثَمَرَتِهِ الْقَبِيحَةِ - إذْ هُوَ مِنْ
الْمُهْلِكَاتِ وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ،
وَإِزَالَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَهِيَ لَا تُمْكِنُ بِمُجَرَّدِ التَّمَنِّي ، بَلْ بِالْمُعَالَجَةِ
بِاسْتِعْمَالِ أَدْوِيَتِهِ النَّافِعَةِ فِي إزَالَتِهِ مِنْ أَصْلِهِ - أَنْ
يَعْرِفَ نَفْسَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ بِأَنْ يَتَأَمَّلَ مَا أَشَارَ إلَى
بِدَايَتِهِ مِنْ أَذَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَحْقَرِهَا وَأَقْذَرِهَا - وَهُوَ
التُّرَابُ ثُمَّ الْمَنِيُّ - ، وَوَسَطِهِ مِنْ
التَّأَهُّلِ لِاكْتِسَابِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَحِيَازَةِ الْمَنَاصِبِ
وَالْمَرَاتِبِ ، وَنِهَايَتِهِ مِنْ الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ وَالْعَوْدِ إلَى
مِثْلِ بِدَايَتِهِ ثُمَّ إعَادَتِهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْأَكْبَرِ ثُمَّ
إلَى الْجَنَّةِ أَوْ إلَى النَّارِ ، وَمِنْ أَظْهَرِ مَا أَشَارَ لِكُلِّ ذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى : { قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ
أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلًّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ
فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ .
وقَوْله تَعَالَى : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ
حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } الْآيَاتِ
.
فَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ وَنَظَائِرَهُ وَمَا أَشَارَتْ
إلَيْهِ الْآيَاتُ عَلِمَ أَنَّهُ أَذَلُّ وَأَحْقَرُ مِنْ كُلِّ ذَلِيلٍ
وَحَقِيرٍ ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ إلَّا الذِّلَّةُ وَالتَّوَاضُعُ ، وَأَنْ
يَعْرِفَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا تَلِيقُ الْعَظَمَةُ
وَالْكِبْرِيَاءُ إلَّا بِهِ - تَعَالَى - ، بِخِلَافِ
نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ الْفَرَحُ لَحْظَةً وَاحِدَةً ، فَكَيْفَ
الْبَطَرُ وَالْخُيَلَاءُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَهُ مَبْدَأُ أَمْرِهِ وَوَسَطُهُ ،
وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ آخِرُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ رُبَّمَا اخْتَارَ أَنْ
يَكُونَ بَهِيمَةً ، وَلَوْ كَلْبًا سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ
أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَلَوْ رَأَى أَهْلُ الدُّنْيَا صُورَةً مِنْ
صُوَرِ أَهْلِ النَّارِ لَصُعِقُوا مِنْ قُبْحِهَا وَمَاتُوا مِنْ نَتْنِهَا ، فَمَنْ
هَذَا عَاقِبَتُهُ - إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَلَى شَكٍّ فِي
الْعَفْوِ - كَيْفَ يَتَكَبَّرُ وَيَرَى نَفْسَهُ شَيْئًا ، وَأَيُّ عَبْدٍ لَمْ
يُذْنِبْ ذَنْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ عُقُوبَةَ اللَّهِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ
الْكَرِيمُ بِفَضْلِهِ .
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذَكَرْنَاهُ حَقِيقَةَ التَّأَمُّلِ
زَالَ عَنْهُ النَّظَرُ إلَى عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَمَنْصِبِهِ وَجَاهِهِ
وَمَالِهِ ، وَفَرَّ إلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَتَوَاضَعَ لَهُ وَعَلِمَ
أَنَّهُ أَحْقَرُ وَأَذَلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، كَيْفَ وَهُوَ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ شَقِيًّا ؟
وَمِمَّا يُظْهِرُ التَّكَبُّرَ الْكَامِلَ فِي النَّفْسِ
وَيُعْلِمُ بِهِ مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّهَا مُتَنَزِّهَةٌ عَنْهُ أَنْ
يُنَاظِرَ فِي مَسْأَلَةٍ مَعَ بَعْضِ أَقْرَانِهِ وَيَظْهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدِ
صَاحِبِهِ ، فَإِنْ اطْمَأَنَّ لِقَبُولِهِ وَأَعْلَنَ بِشُكْرِهِ وَفَضْلِهِ
وَأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ وَكَانَ كَذَلِكَ مَعَ كُلِّ
مُنَاظِرٍ ظَهَرَتْ الْقَرَائِنُ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ الْكِبْرِ ، وَإِنْ
اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَامِنٌ فِيهِ فَعَلَيْهِ عِلَاجُهُ
بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا مَرَّ وَنَحْوِهِ إلَى أَنْ تَنْقَطِعَ عُرُوقُهُ مِنْ
نَفْسِهِ ، وَبِأَنْ يُقَدِّمَ أَقْرَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَجَالِسِ وَنَحْوِهَا
لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُظَنُّ بِهِ فِيهِ أَنَّهُ أَظْهَرَ تَوَاضُعًا ، كَأَنْ
يَتْرُكَ صَفَّهُمْ وَيَجْلِسَ مُعَبِّسًا كَانَ ذَلِكَ عَيْنَ الْكِبْرِ ،
وَبِأَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ الْفَقِيرِ وَيُحَادِثَهُ وَيُجَالِسَهُ وَيَمُرَّ فِي
الْأَسْوَاقِ لِحَاجَتِهِ وَحَاجَاتِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُنْقَطِعِينَ ، وَبِأَنْ
يَحْمِلَ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ غَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَرَاءَةٌ مِنْ الْكِبْرِ
كَمَا فِي حَدِيثٍ ، وَيَسْتَوِي ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي الْخَلَاءِ وَبِحَضْرَةِ الْمَلَأِ
، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ أَوْ مُرَاءٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ
وَعِلَلِهَا الْمُهْلِكَةِ لَهَا إنْ لَمْ يَتَدَارَكْ ، وَقَدْ أَهْمَلَ النَّاسُ
طِبَّهَا وَاشْتَغَلُوا بِطِبِّ الْأَجْسَادِ مَعَ أَنَّهُ لَا سَلَامَةَ فِي
الْآخِرَةِ إلَّا بِسَلَامَتِهَا { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
أَيْ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ مِمَّا سِوَى اللَّهِ .
وَمِنْهَا : مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ ذَمُّ الْعُجْبِ
وَأَنَّهُ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ ، وَمِنْ ثَمَّ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِقَوْلِهِ : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئًا } .
وَبِقَوْلِهِ : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا } فَقَدْ يُعْجَبُ الْإِنْسَانُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ مُصِيبٌ
فِيهِ أَوْ مُخْطِئٌ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْهَلَاكُ فِي اثْنَتَيْنِ ،
الْقُنُوطِ وَالْعُجْبِ : أَيْ لِأَنَّ الْقَانِطَ آيِسٌ مِنْ
نَفْعِ الْأَعْمَالِ وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ تَرْكُهَا ،
وَالْمُعْجَبُ يَرَى أَنَّهُ سَعِدَ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ فَلَا يَحْتَاجُ
لِعَمَلٍ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى } وَمِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ اعْتِقَادُ أَنَّهَا بَارَّةٌ
وَهُوَ مَعْنَى الْعُجْبِ .
وَقَالَ مُطَرِّفٌ : لَأَنْ أَبِيتَ نَائِمًا وَأُصْبِحَ
نَادِمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قَائِمًا وَأُصْبِحَ مُعْجَبًا .
وَلَقَدْ أَطَالَ بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ الصَّلَاةَ
فَقَالَ بَعْدَ سَلَامِهِ لِمَنْ أَدْرَكَ أَنَّهُ فَطِنَ لَهُ : لَا يُعْجِبُك
مَا رَأَيْتَ مِنِّي فَإِنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ
مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ صَارَ إلَى مَا صَارَ إلَيْهِ .
وَمِنْهَا :
لِلْعُجْبِ آفَاتٌ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا تَوَلُّدُ
الْكِبْرِ عَنْهُ كَمَا مَرَّ فَتَكُونُ آفَاتُ الْكِبْرِ آفَاتِ الْعُجْبِ
لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، هَذَا مَعَ الْعِبَادِ ؛ وَأَمَّا مَعَ اللَّهِ فَهُوَ
يُنْسِي الذُّنُوبَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا فَلَا يَتَدَارَكُ وَرَطَاتِهَا
وَلَا يَتَنَصَّلُ مِنْ مَذَامِّهَا ، وَيُورِثُ اسْتِعْظَامَ عِبَادَتِهِ ،
وَيَمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ بِفِعْلِهَا فَيَعْمَى عَنْ تَفَقُّدِ آفَاتِهَا
فَيَضِيعُ كُلُّ سَعْيِهِ أَوْ أَكْثَرُهُ ، إذْ الْعَمَلُ مَا لَمْ يَتَنَقَّ
مِنْ الشَّوَائِبِ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا يَحْمِلُ عَلَى تَنْقِيَتِهِ مِنْهَا
الْخَوْفُ ، وَالْمُعْجَبُ غَرَّتْهُ نَفْسُهُ بِرَبِّهِ فَأَمِنَ مَكْرَهُ
وَعِقَابَهُ وَعَدَّ أَنَّ لَهُ عَلَى اللَّهِ حَقًّا بِعَمَلِهِ فَزَكَّى
نَفْسَهُ وَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ وَعَقْلِهِ وَعِلْمِهِ ، حَتَّى اسْتَبَدَّ
بِذَلِكَ وَلَمْ تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ أَنْ يَرْجِعَ لِغَيْرِهِ فِي عِلْمٍ وَلَا
عَمَلٍ فَلَا يَسْمَعُ نُصْحًا وَلَا وَعْظًا لِنَظَرِهِ إلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ
الِاحْتِقَارِ ؛ فَعَلِمَ أَنَّ الْعُجْبَ إنَّمَا يَكُونُ بِوَصْفٍ هُوَ كَمَالٌ
فِي حَدِّ ذَاتِهِ ، لَكِنَّهُ مَا دَامَ خَائِفًا مِنْ سَلْبِهِ مِنْ أَصْلِهِ فَهُوَ
غَيْرُ مُعْجَبٍ بِهِ وَكَذَا لَوْ فَرِحَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نِعْمَةٌ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا
فَرِحَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَمَالٌ مُتَّصِفٌ بِهِ
مَعَ قَطْعِ نَظَرِهِ عَنْ نِسْبَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ
الْعُجْبُ فَهُوَ اسْتِعْظَامُ النِّعْمَةِ وَالرُّكُونُ إلَيْهَا مَعَ نِسْيَانِ
إضَافَتِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ ضَمَّ لِذَلِكَ تَوَقُّعَهُ جَزَاءً
عَلَيْهَا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ حَقًّا وَأَنَّهُ مِنْهُ
بِمَكَانٍ سُمِّيَ مُدِلًّا ، فَالْإِدْلَالُ أَخَصُّ مِنْ الْعُجْبِ .
وَمِنْهَا : قَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ الْفَرْقُ بَيْنَ
الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ .
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْكِبْرَ إمَّا بَاطِنٌ وَهُوَ
خُلُقٌ فِي النَّفْسِ وَاسْمُ الْكِبْرِ بِهَذَا أَحَقُّ ، وَإِمَّا ظَاهِرٌ
وَهُوَ أَعْمَالٌ تَصْدُرُ مِنْ الْجَوَارِحِ وَهِيَ ثَمَرَاتُ ذَلِكَ الْخُلُقِ
وَعِنْدَ ظُهُورِهَا يُقَالُ لَهُ تَكَبَّرَ ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا يُقَالُ فِي
نَفْسِهِ كِبْرٌ ، فَالْأَصْلُ هُوَ خُلُقُ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ
الِاسْتِرْوَاحُ وَالرُّكُونُ إلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ
عَلَيْهِ فَهُوَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ وَمُتَكَبَّرًا بِهِ ، وَبِهِ فَارَقَ
الْعُجْبَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي غَيْرَ الْمُعْجَبِ بِهِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ
انْفِرَادُهُ دَائِمًا أَمْكَنَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْعُجْبُ دُونَ الْكِبْرِ ،
وَمُجَرَّدُ اسْتِعْظَامِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي التَّكَبُّرَ إلَّا إنْ كَانَ
ثَمَّ مَنْ يَرَى أَنَّهُ فَوْقَهُ .
وَمِنْهَا : يَتَعَيَّنُ عِلَاجُ الْعُجْبِ أَيْضًا ؛
وَعِلَاجُ كُلِّ عِلَّةٍ إنَّمَا يَكُونُ بِضِدِّهَا ؛ وَعِلَّةُ الْعُجْبِ
الْجَهْلُ الْمَحْضُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي حَدِّهِ ، وَشِفَاؤُهَا النَّظَرُ
إلَى مَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ
الْمُقَدِّرُ لَك عَلَى نَحْوِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْك
بِالتَّوْفِيقِ إلَى حِيَازَتِهِ وَيَجْعَلُك ذَا نَسَبٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ ،
فَكَيْفَ يُعْجَبُ بِمَا لَيْسَ إلَيْهِ وَلَا مِنْهُ ، وَكَوْنُهُ مَحَلَّ ذَلِكَ
لَا يُجْدِيهِ شَيْئًا ، لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْإِيجَادِ
وَالتَّحْصِيلِ ، وَكَوْنُهُ سَبَبًا فِيهِ نُزُولُ مُلَاحَظَتِهِ لَهُ إذَا
تَأَمَّلَ أَنَّ الْأَسْبَابَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا
، وَإِنَّمَا
التَّأْثِيرُ لِمُوجِدِهَا وَالْمُنْعِمِ بِهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ
إعْجَابُهُ إلَّا بِمَا أَسَدَاهُ إلَيْهِ الْحَقُّ وَأَجْرَاهُ عَلَيْهِ
وَآثَرَهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَزَايَا جُودِهِ وَكَرَمِهِ مَعَ عَدَمِ
سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ لِذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَ : لَوْلَا مَا عَلِمَ فِي مِنْ
صِفَةٍ مَحْمُودَةٍ بَاطِنَةٍ لَمَا آثَرَنِي بِذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : وَتِلْكَ الصِّفَاتُ أَيْضًا مِنْ خَلْقِهِ
وَإِنْعَامِهِ ؛ عَلَى أَنَّ مَنْ انْطَوَى عِلْمُ خَاتِمَتِهِ وَعَاقِبَتِهِ عَنْ
نَفْسِهِ ، كَيْفَ يَسُوغُ لَهُ عُجْبٌ بِأَيِّ نَوْعٍ فُرِضَ مِنْ أَنْوَاعِهِ فَإِنَّهُ
لَا أَعْبَدَ مِنْ إبْلِيسَ ، وَلَا أَعْلَمَ مِنْ بَلْعَمَ بْنِ بَاعُورَاءَ فِي
زَمَنِهِ ، وَلَا أَقْرَبَ وَلَا أَشْفَقَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ عَلَى نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا أَشْرَفَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَكَّةَ ، وَقَدْ
عَلِمْتَ مَا وَقَعَ لِأُولَئِكَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ - وَالْعِيَاذُ
بِاَللَّهِ - ، وَمَا وَقَعَ لِآدَمَ فِي الْجَنَّةِ وَلِكُفَّارِ مَكَّةَ فِيهَا
، فَاحْذَرْ أَنْ تُعْجَبَ وَتَغْتَرَّ بِنَسَبٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ مَحَلٍّ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ ، هَذَا كُلُّهُ إنْ كُنْتَ مُعْجَبًا بِحَقٍّ ، فَكَيْفَ وَكَثِيرًا
مَا يَقَعُ الْإِعْجَابُ بِبَاطِلٍ ، قَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ } وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا
يَغْلِبُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، إذْ جَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ
وَالضَّلَالِ إنَّمَا أَصَرُّوا عَلَيْهَا لِعُجْبِهِمْ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ
، وَبِذَلِكَ أُهْلِكَتْ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ لَمَّا افْتَرَقُوا فِرَقًا
وَأُعْجِبَ كُلٌّ بِرَأْيِهِ : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } { فَذَرْهُمْ
فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَمَّا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ
مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ } أَيْ
إنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ مَقْتًا وَاسْتِدْرَاجًا { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ
حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } .
قَدْ بَانَ لَك ذَمُّ الْكِبْرِ وَالِاخْتِيَالِ
وَالْعُجْبِ ، وَآفَاتُ ذَلِكَ وَقَبَائِحُهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي ذِكْرَ
فَضَائِلِ التَّوَاضُعِ وَغَايَاتِهِ الرَّفِيعَةِ ، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ إنَّمَا
تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ : {
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ
أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ } .
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ
وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ
لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ
} .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { وَالتَّوَاضُعُ لَا
يَزِيدُ الْعَبْدَ إلَّا رِفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُمْ اللَّهُ ،
وَالْعَفْوُ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ إلَّا عِزًّا فَاعْفُوا يَعِزَّكُمْ اللَّهُ ،
وَالصَّدَقَةُ لَا تَزِيدُ الْمَالَ إلَّا كَثْرَةً فَتَصَدَّقُوا يَرْحَمْكُمْ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ حَسَنٍ : { طُوبَى لِمَنْ
تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ ، وَذَلَّ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةٍ ،
وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ
وَالْمَسْكَنَةِ ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ .
طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ ، وَصَلُحَتْ سَرِيرَتُهُ ،
وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ ، وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ ، طُوبَى لِمَنْ
عَمِلَ بِعِلْمِهِ ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ
مِنْ قَوْلِهِ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { إذَا تَوَاضَعَ الْعَبْدُ
رَفَعَهُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ يَتَوَاضَعُ لِلَّهِ دَرَجَةً يَرْفَعُهُ اللَّهُ دَرَجَةً
حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ : { فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ
، وَمَنْ يَتَكَبَّرُ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً يَضَعُهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ
فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ تَوَاضَعَ لِأَخِيهِ
الْمُسْلِمِ
رَفَعَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَضَعَهُ
اللَّهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ سَنَدُهَا صَحِيحٌ : { إيَّاكُمْ
وَالْكِبْرَ فَإِنَّ الْكِبْرَ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ ، وَإِنَّ عَلَيْهِ
الْعَبَاءَةَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ مِنْ
التَّوَاضُعِ لِلَّهِ الرِّضَا بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمَجَالِسِ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { تَوَاضَعُوا وَجَالِسُوا
الْمَسَاكِينَ تَكُونُوا مِنْ كِبَارِ عِبَادِ اللَّهِ وَتَخْرُجُوا مِنْ
الْكِبْرِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { صَاحِبُ
الشَّيْءِ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا
يَعْجَزُ عَنْهُ فَيُعِينَهُ عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاضُعِ
فَإِنَّ التَّوَاضُعَ فِي الْقَلْبِ وَلَا يُؤْذِيَنَّ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا .
فَلَرُبَّ مُتَضَعِّفٍ فِي أَطْمَارٍ لَوْ أَقْسَمَ
عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَا اسْتَكْبَرَ
مَنْ أَكَلَ خَادِمُهُ مَعَهُ ، وَرَكِبَ الْحِمَارَ بِالْأَسْوَاقِ ، وَاعْتَقَلَ
الشَّاةَ فَحَلَبَهَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { مَا مِنْ آدَمِيٍّ
إلَّا وَفِي رَأْسِهِ حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ فَإِنْ تَوَاضَعَ قِيلَ لِلْمَلَكِ :
ارْفَعْ حَكَمَتَهُ ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ : ضَعْ حَكَمَتَهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ
اللَّهُ } .
وَابْنُ مَنْدَهْ : { الْبَسْ الْخَشِنَ الضَّيِّقَ
حَتَّى لَا يَجِدَ الْعِزُّ وَالْفَخْرُ فِيك مَسَاغًا } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ : {
الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ
} : أَيْ تَرْكُ رَفِيعِ الثِّيَابِ ، وَإِيثَارُ
رَثِّهَا تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى
.
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ تَرَكَ
اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ
حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا
} .
وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ
: { التُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ
وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ
} .
وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ
خَيْرٌ إلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ ،
وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ
} .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { يَا عَائِشَةُ تَوَاضَعِي فَإِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْمُتَوَاضِعِينَ وَيُبْغِضُ الْمُتَكَبِّرِينَ } .
وَابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ تَوَاضَعَ
لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ } .
وَابْنُ النَّجَّارِ { مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ
اللَّهُ ، وَمَنْ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ أَحَبَّهُ
اللَّهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ
اللَّهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ ضَعِيفٌ وَفِي أَنْفُسِ النَّاسِ عَظِيمٌ ، وَمَنْ
تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ وَفِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ
حَتَّى لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ
تَخَشُّعًا رَفَعَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ تَطَاوَلَ تَعَظُّمًا وَضَعَهُ اللَّهُ
وَالنَّاسُ تَحْتَ كَنَفِ اللَّهِ يَعْمَلُونَ أَعْمَالَهُمْ ، فَإِذَا أَرَادَ -
عَزَّ وَجَلَّ - فَضِيحَةَ عَبْدٍ أَخْرَجَهُ مِنْ تَحْتِ كَنَفِهِ فَبَدَتْ
ذُنُوبُهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { التَّوَاضُعُ لَا يَزِيدُ
الْعَبْدَ إلَّا رِفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُمْ اللَّهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَانَ
لِخَلْقِي وَتَوَاضَعَ لِي وَلَمْ يَتَكَبَّرْ فِي أَرْضِي رَفَعْتُهُ حَتَّى
أَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ } .
وَابْنُ صَصْرَى : { مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا وَفِي رَأْسِهِ
حَكَمَةٌ مُوَكَّلٌ بِهَا مَلَكٌ ، فَإِنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ
ارْتَفَعَ قَمَعَهُ اللَّهُ ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاءُ اللَّهِ فَمَنْ نَازَعَ
اللَّهَ قَمَعَهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ : { مَا مِنْ
آدَمِيٍّ إلَّا وَفِي رَأْسِهِ حَكَمَةٌ } أَيْ وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ
وَالْكَافِ : مَا يُجْعَلُ فِي رَأْسِ الدَّابَّةِ كَاللِّجَامِ وَنَحْوِهِ {
بِيَدِ مَلَكٍ ، فَإِذَا تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا وَقَالَ : ارْتَفِعْ
رَفَعَك اللَّهُ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ جَذَبَهُ إلَى الْأَرْضِ وَقَالَ :
اخْفِضْ خَفَضَك اللَّهُ } .
وَابْنُ صَصْرَى : { مَا مِنْ عَبْدٍ إلَّا فِي رَأْسِهِ
حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ ، فَإِذَا تَوَاضَعَ رُفِعَ بِهَا وَقَالَ : ارْتَفِعْ
رَفَعَك اللَّهُ ، وَإِنْ رَفَعَ نَفْسَهُ جَذَبَهُ إلَى الْأَرْضِ وَقَالَ :
انْخَفِضْ خَفَضَك اللَّهُ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ
لَالٍ وَالدَّيْلَمِيُّ : { مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا وَفِي رَأْسِهِ سِلْسِلَتَانِ
، سِلْسِلَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَسِلْسِلَةٌ فِي الْأَرْضِ
السَّابِعَةِ ، فَإِنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللَّهُ بِالسِّلْسِلَةِ إلَى
السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، وَإِذَا تَجَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ بِالسِّلْسِلَةِ
إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ }
.
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ فِي
الدُّنْيَا قَمَعَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ تَوَاضَعَ فِي
الدُّنْيَا بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَانْتَشَطَهُ
مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ فَقَالَ : أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ ، يَقُولُ اللَّهُ
- عَزَّ وَجَلَّ - : إلَيَّ فَإِنَّك مِمَّنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ كَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ فِي حَسَبٍ
لَا يَشِينُهُ مُتَوَاضِعًا كَانَ مِنْ أَخَالِصِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالْخَطِيبُ لَكِنْ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
الْمَوْضُوعَاتِ : { مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ مِنْ سُؤْرِ
أَخِيهِ ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْ سُؤْرِ أَخِيهِ رُفِعَتْ لَهُ سَبْعُونَ دَرَجَةً
وَمُحِيَتْ عَنْهُ سَبْعُونَ خَطِيئَةً وَكُتِبَتْ لَهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً } .
وَأَبُو عَلِيٍّ الذَّهَبِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ : {
مَنْ تَرَكَ زِينَةً لِلَّهِ وَآثَرَ ثِيَابًا خَشِنَةً تَوَاضُعًا لِلَّهِ
وَابْتِغَاءَ وَجْهِهِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ تُبَدَّلَ بِعَبْقَرِيِّ
الْجَنَّةِ } : وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا .
عَنْ طَارِقٍ قَالَ : خَرَجَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
إلَى الشَّامِ وَمَعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ
عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ
وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا مَا يَسُرُّنِي
أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوك ، فَقَالَ : أَوَّهْ لَوْ يَقُولُ هَذَا
غَيْرُك أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، إنَّا كُنَّا
أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ ، فَمَهْمَا نَطْلُبْ
الْعِزَّ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ .
وَأَخْرَجَ الْبَغَوِيّ وَابْنُ قَانِعٍ
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ : { طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ
مَسْكَنَةٍ ، وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَرَحِمَ أَهْلَ
الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ } .
وَفِي حَدِيثٍ : { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَنَا بِقُبَاءَ وَكَانَ صَائِمًا فَأَتَيْنَاهُ عِنْدَ إفْطَارِهِ
بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ وَجَعَلْنَا فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَسَلٍ فَلَمَّا رَفَعَهُ
وَذَاقَهُ وَجَدَ حَلَاوَتَهُ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
جَعَلْنَا فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَسَلٍ ، فَوَضَعَهُ وَقَالَ : أَمَا إنِّي لَا
أُحَرِّمُهُ ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ
اللَّهُ وَمَنْ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللَّهُ
، وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ اللَّهُ } .
رَوَاهُ الْبَزَّارُ دُونَ قَوْلِهِ { وَمَنْ أَكْثَرَ
ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ اللَّهُ } ، وَلَمْ يَقُلْ بِقُبَاءَ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ :
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ : إنَّهُ خَبَرٌ مُنْكَرٌ .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ قَالَتْ : { أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَدَحٍ فِيهِ لَبَنٌ وَعَسَلٌ
} .
الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ : { أَمَا إنِّي لَا أَزْعُمُ أَنَّهُ
حَرَامٌ } الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ : { وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أَحَبَّهُ
اللَّهُ } .
وَرَوَى الْمَرْفُوعَ مِنْهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى
مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ دُونَ قَوْلِهِ : { وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللَّهُ
} ، وَذَكَرَا فِيهِ قَوْلَهُ : { وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ
اللَّهُ } .
وَفِي آخَرَ : { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَيْتٍ
يَأْكُلُونَ فَقَامَ سَائِلٌ عَلَى الْبَابِ وَبِهِ زَمَانَةٌ يُكْرَهُ مِنْهَا
فَأُذِنَ لَهُ ، فَلَمَّا دَخَلَ أَجْلَسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : اطْعَمْ فَكَأَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَرِهَ
ذَلِكَ وَاشْمَأَزَّ مِنْهُ ، فَمَا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى كَانَتْ بِهِ
زَمَانَةٌ } كَذَا فِي الْإِحْيَاءِ
.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ :
لَمْ أَجِدْ لَهُ أَصْلًا .
وَالْمَوْجُودُ حَدِيثٌ أَكْمَلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَجْذُومٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ وَقَالَ : غَرِيبٌ .
وَفِي آخَرَ : { إذَا هَدَى اللَّهُ عَبْدًا
لِلْإِسْلَامِ وَحَسَّنَ صُورَتَهُ وَجَعَلَهُ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ شَائِنٍ لَهُ
وَرَزَقَهُ مَعَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا فَذَلِكَ مِنْ صَفْوَةِ اللَّهِ } .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا عَلَى
ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَفِي آخَرَ : { أَرْبَعٌ لَا يُعْطِيهِنَّ اللَّهُ
إلَّا مَنْ يُحِبُّ : الصَّمْتُ وَهُوَ أَوَّلُ الْعِبَادَةِ ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى
اللَّهِ ، وَالتَّوَاضُعُ ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ : { أَرْبَعٌ لَا يُصَبْنَ إلَّا بِعُجْبٍ : الصَّمْتُ ،
وَهُوَ أَوَّلُ الْعِبَادَةِ ، وَالتَّوَاضُعُ وَذِكْرُ اللَّهِ ، وَقِلَّةُ
الْمَشْيِ } .
وَقَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ مَنْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ
فِي حَقِّهِ : إنَّهُ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ ، ثُمَّ رَوَى لَهُ هَذَا
الْحَدِيثَ .
وَفِي آخَرَ
: { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْعَمُ
فَجَاءَ رَجُلٌ أَسْوَدُ بِهِ جُدَرِيٌّ قَدْ تَقَشَّرَ فَجَعَلَ لَا يَجْلِسُ
إلَى أَحَدٍ إلَّا قَامَ مِنْ جَنْبِهِ فَأَجْلَسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَى جَنْبِهِ } كَذَا فِي الْإِحْيَاءِ .
وَاعْتُرِضَ بِنَحْوِ مَا مَرَّ آنِفًا .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لَكِنَّهُ غَرِيبٌ : أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : { مَا لِي لَا أَرَى عَلَيْكُمْ
حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ ؟ قَالُوا : وَمَا حَلَاوَةُ الْعِبَادَةِ ؟ قَالَ :
التَّوَاضُعُ
} .
وَفِي آخَرَ غَرِيبٍ أَيْضًا : { إذَا رَأَيْتُمْ
الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْ أُمَّتِي فَتَوَاضَعُوا لَهُمْ ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ
الْمُتَكَبِّرِينَ فَتَكَبَّرُوا عَلَيْهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُمْ مَذَلَّةٌ
وَصَغَارٌ } .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ الْعَبْدَ
إذَا تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَ اللَّهُ حَكَمَتَهُ وَقَالَ : انْتَعِشْ رَفَعَك
اللَّهُ ، وَإِذَا تَكَبَّرَ وَعَدَا طَوْرَهُ رَهَصَهُ اللَّهُ ، أَيْ رَمَاهُ
بِشِدَّةٍ إلَى الْأَرْضِ ، وَقَالَ : اخْسَأْ أَخْسَأَك اللَّهُ فَهُوَ فِي
نَفْسِهِ كَبِيرٌ وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ حَقِيرٌ حَتَّى إنَّهُ لَأَحْقَرُ عِنْدَهُمْ
مِنْ الْخِنْزِيرِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ
التَّوَاضُعُ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ : التَّوَاضُعُ أَنْ تَخْضَعَ
لِلْحَقِّ وَتَنْقَادَ لَهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ قَبِلْتَهُ
مِنْهُ .
وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - صَلَّى اللَّهُ
وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ - إذَا أَصْبَحَ تَصَفَّحَ وُجُوهَ
النَّاسِ حَتَّى يَجِيءَ إلَى الْمَسَاكِينِ فَيَقُولَ : مِسْكِينٌ جَلَسَ مَعَ
مَسَاكِينَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : التَّوَاضُعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ
مَنْزِلِك فَلَا تَلْقَى مُسْلِمًا إلَّا رَأَيْتَ لَهُ عَلَيْك فَضْلًا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : اسْتَأْثَرَ اللَّهُ الْجُودِيَّ
بِالسَّفِينَةِ لِأَنَّهُ تَوَاضَعَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ أَيْ وَكَذَا حِرَاءٌ
اسْتَأْثَرَهُ اللَّهُ بِتَعَبُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
لِمَزِيدِ تَوَاضُعِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَاخْتَصَّ اللَّهُ قَلْبَ نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْيِيزِهِ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ
فَاقَهُمْ فِي التَّوَاضُعِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : رَأَيْتُ عِنْدَ الصَّفَا
رَجُلًا رَاكِبًا بَغْلَةً وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِلْمَانٌ يُعَنِّفُونَ النَّاسَ ،
ثُمَّ رَأَيْتُهُ بِبَغْدَادَ حَافِيًا حَاسِرًا طَوِيلَ الشَّعْرِ فَقُلْتُ لَهُ
: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك ؟ قَالَ
: تَرَفَّعْتُ فِي مَوْضِعٍ يَتَوَاضَعُ النَّاسُ فِيهِ
فَوَضَعَنِي اللَّهُ حَيْثُ يَرْتَفِعُ النَّاسُ .
الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ : الْغِشُّ .
السَّادِسَةُ : النِّفَاقُ .
السَّابِعَةُ : الْبَغْيُ .
الثَّامِنَةُ : الْإِعْرَاضُ عَنْ الْخَلْقِ
اسْتِكْبَارًا وَاحْتِقَارًا لَهُمْ
.
التَّاسِعَةُ : الْخَوْضُ فِيمَا لَا يَعْنِي .
الْعَاشِرَةُ : الطَّمَعُ .
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : خَوْفُ الْفَقْرِ .
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : سَخَطُ الْمَقْدُورِ .
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : النَّظَرُ إلَى الْأَغْنِيَاءِ
وَتَعْظِيمُهُمْ لِغِنَاهُمْ .
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الِاسْتِهْزَاءُ بِالْفُقَرَاءِ
لِفَقْرِهِمْ .
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : الْحِرْصُ .
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : التَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا
وَالْمُبَاهَاةُ بِهَا .
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : التَّزَيُّنُ لِلْمَخْلُوقِينَ
بِمَا يَحْرُمُ التَّزَيُّنُ بِهِ
.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : الْمُدَاهَنَةُ .
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : حُبُّ الْمَدْحِ بِمَا لَا
يَفْعَلُهُ .
الْعِشْرُونَ : الِاشْتِغَالُ بِعُيُوبِ الْخَلْقِ عَنْ
عُيُوبِ النَّفْسِ .
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : نِسْيَانُ النِّعْمَةِ .
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : الْحَمِيَّةُ لِغَيْرِ
دِينِ اللَّهِ .
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : تَرْكُ الشُّكْرِ .
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : عَدَمُ الرِّضَا
بِالْقَضَاءِ .
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : هَوَانُ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ .
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : سُخْرِيَتُهُ بِعِبَادِ
اللَّهِ - تَعَالَى - وَازْدِرَاؤُهُ لَهُمْ وَاحْتِقَارُهُ إيَّاهُمْ .
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : اتِّبَاعُ الْهَوَى
وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْحَقِّ .
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : الْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ .
التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : إرَادَةُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا .
الثَّلَاثُونَ : مُعَانَدَةُ الْحَقِّ .
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : سُوءُ الظَّنِّ
بِالْمُسْلِمِ .
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : عَدَمُ قَبُولِ الْحَقِّ
إذَا جَاءَ بِمَا لَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ أَوْ جَاءَ عَلَى يَدِ مَنْ تَكْرَهُهُ
وَتُبْغِضُهُ .
الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : فَرَحُ الْعَبْدِ
بِالْمَعْصِيَةِ .
الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : الْإِصْرَارُ عَلَى
الْمَعْصِيَةِ .
الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَحَبَّةُ أَنْ يُحْمَدَ
بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الطَّاعَاتِ
.
السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : الرِّضَا بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَالطُّمَأْنِينَةُ إلَيْهَا .
السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : نِسْيَانُ اللَّهِ
تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ
.
الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : الْغَضَبُ لِلنَّفْسِ
وَالِانْتِصَارُ لَهَا بِالْبَاطِلِ
.
اعْلَمْ أَنَّ التَّصْرِيحَ يَكُونُ جَمِيعُ هَذِهِ
الْمَذْكُورَاتِ مِنْ الْخَامِسَةِ إلَى هُنَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ التَّدَاخُلِ
الْكَثِيرِ كَبَائِرَ بَاطِنَةً وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ
مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ،
وَهِدَايَةِ السَّالِكِينَ وَتَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ ، وَالْكَرَامَاتِ
الظَّاهِرَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ الْعَلِيَّةِ الْمُتَكَاثِرَةِ ،
وَقَالَ فِي أَوَّلِهَا : وَأَمَّا كَبَائِرُ الْبَاطِنِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ
مَعْرِفَتُهَا لِيُعَالِجَ زَوَالَهَا لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
مِنْهَا لَمْ يَلْقَ اللَّهَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - بِقَلْبٍ سَلِيمٍ .
وَمِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ وَتَعْتَرِيهِ
الْكُفْرُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - وَالنِّفَاقُ وَالْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ
وَالْحَسَدُ وَالْغِلُّ وَالْحِقْدُ وَالْبَغْيُ وَالْغَضَبُ لِغَيْرِ اللَّهِ
وَالْغَيْظُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ وَالْغِشُّ وَالْبُخْلُ
وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْحَقِّ إلَى آخِرِ مَا قَدَّمْته .
ثُمَّ قَالَ عَقِبَهُ : وَأَمْثَالُ هَذِهِ يُذَمُّ
الْعَبْدُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِمَّا يُذَمُّ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ
وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهَا مِنْ كَبَائِرِ الْبَدَنِ وَذَلِكَ لِعِظَمِ
مَفْسَدَتِهَا وَسُوءِ أَثَرِهَا وَدَوَامِهِ ، فَإِنَّ آثَارَ هَذِهِ
الْكَبَائِرِ وَنَحْوِهَا تَدُومُ بِحَيْثُ تَصِيرُ حَالًا وَهَيْئَةً رَاسِخَةً
فِي الْقَلْبِ بِخِلَافِ آثَارِ مَعَاصِي الْجَوَارِحِ فَإِنَّهَا سَرِيعَةُ
الزَّوَالِ ؛ تَزُولُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْحَسَنَاتِ
الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ فِي الْجَسَدِ
مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ
الْقَلْبُ
} ، وَالْقَلْبُ
مَلِكُ الْأَعْضَاءِ وَهِيَ جُنُودُهُ وَتَابِعَةٌ لَهُ ، فَإِذَا فَسَدَ
الْمَلِكُ فَسَدَتْ الْجُنُودُ كُلُّهَا ؛ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ ، فَإِذَا طَابَ
الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ ، وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ ،
فَمَنْ أُعْطِيَ قَلْبًا سَلِيمًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ
تَعَالَى ، وَمَنْ وَجَدَ فِي قَلْبِهِ مَرَضًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ وَجَبَ
عَلَيْهِ أَنْ يُعَالِجَهُ حَتَّى يَزُولَ ، فَإِنْ لَمْ يُعَالِجْهُ أَثِمَ ،
وَإِنَّمَا يَأْثَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ عَلَى مَا نَوَاهُ وَقَصَدَهُ بِقَلْبِهِ
دُونَ مَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ أَوْ سَبَقَ إلَيْهِ لِسَانُهُ وَوَهْمُهُ انْتَهَى .
وَتَسْمِيَةُ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كَبَائِرَ
إنَّمَا يَلِيقُ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ الْمَعَارِفِ وَالْأَخْلَاقِ وَالتَّصَوُّفِ
الَّذِينَ مِنْهُمْ هَذَا الْإِمَامُ الْفَقِيهُ ، فَلِذَا جَرَى عَلَى ذَلِكَ
مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ ، نَعَمْ
فِيهَا مَا هُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ
: كَالْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَغَيْرِهَا مِمَّا مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَكَذَا
كَثِيرٌ مِنْهَا لَا يَبْعُدُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ كَمَا سَتَعْلَمُهُ مِمَّا
أُورِدُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَعِيدِ
الشَّدِيدِ ، نَعَمْ الْبَغْيُ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ صَغِيرَةٌ لَا كَبِيرَةٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهَا ، وَسَيَأْتِي
الْكَلَامُ عَلَى بَعْضٍ مِنْهَا فِي مَحَالِّهِ - كَالْبُخْلِ وَالشُّحِّ - فِي
الْكَلَامِ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ ، وَكَسُوءِ الظَّنِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى
الْغِيبَةِ .
وَمِمَّنْ صَرَّحَ مِنْ أَئِمَّتِنَا بِأَنَّ الْفَرَحَ
بِالدُّنْيَا حَرَامٌ الْبَغَوِيّ فِي تَهْذِيبِهِ ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ
أَخَذَ مَا مَرَّ عَنْهُ ثُمَّ زَادَ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَبَائِحَ
يَعْظُمُ ضَرَرُهَا وَيَضْطَرِمُ شَرَرُهَا ؛ إذْ مِنْ الْوَاضِحِ أَنَّ مَحَلَّ
حُرْمَةِ الْفَرَحِ بِهَا إنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ
الْخُيَلَاءُ وَالْفَخْرُ وَالتَّكَبُّرُ
وَالِاسْتِطَالَةُ عَلَى الْأَقْرَانِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ
وَالْقَبَائِحِ .
أَمَّا الْفَرَحُ بِهَا لِيَسْتُرَ بِهَا عِرْضَهُ
وَيَصُونَ بِهَا مَاءَ وَجْهِهِ وَوَجْهِ عِيَالِهِ عَنْ التَّطَلُّعِ لِمَا فِي
أَيْدِي النَّاسِ أَوْ لِيُوَاسِيَ مِنْهَا الْمُحْتَاجَ ، فَهَذَا فَرَحٌ
مَحْمُودٌ { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } ثُمَّ أَصْلُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا سُوءُ الْخُلُقِ
وَفَسَادُ الْقَلْبِ ، فَلْنَبْدَأْ بِبَعْضِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ ثُمَّ
بِبَعْضِ مَا جَاءَ فِيهَا أَوْ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ بَعْضَهَا أَوْ يَقْرُبُ
مِنْهُ فَنَقُولُ : أَخْرَجَ الْحَارِثُ وَالْحَاكِمُ : { سُوءُ الْخُلُقِ
يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ } .
وَابْنُ مَنْدَهْ : { سُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ وَطَاعَةُ
النِّسَاءِ نَدَامَةٌ وَحُسْنُ الْمَلَكَةِ نَمَاءٌ } .
وَالْخَطِيبُ : { سُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ ،
وَشِرَارُكُمْ أَسْوَءُكُمْ خُلُقًا
} .
وَأَحْمَدُ :
{ إذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ
فَصَدِّقُوا ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ زَالَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا
، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ } .
وَالْخَطِيبُ : { إنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً إلَّا
صَاحِبَ سُوءِ الْخُلُقِ فَإِنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا وَقَعَ فِيمَا
هُوَ شَرٌّ مِنْهُ } .
وَالصَّابُونِيُّ .
{ مَا مِنْ ذَنْبٍ إلَّا وَلَهُ تَوْبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ
إلَّا سُوءَ الْخُلُقِ فَإِنَّهُ لَا يَتُوبُ } أَيْ صَاحِبُهُ { مِنْ ذَنْبٍ
إلَّا رَجَعَ إلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : {
الشُّؤْمُ سُوءُ الْخُلُقِ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { لَوْ كَانَ سُوءُ الْخُلُقِ رَجُلًا
يَمْشِي فِي النَّاسِ لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَخْلُقْنِي فَحَّاشًا } .
وَالْحَارِثُ وَابْنُ السُّنِّيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : {
مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ عَذَّبَ نَفْسَهُ ، وَمَنْ كَثُرَ هَمُّهُ سَقِمَ بَدَنُهُ ،
وَمَنْ لَاحَى الرِّجَالَ ذَهَبَتْ كَرَامَتُهُ وَسَقَطَتْ مُرُوءَتُهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْخُلُقِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { النَّاسُ مَعَادِنُ ، وَالْعِرْقُ
دَسَّاسٌ ، وَأَدَبُ السُّوءِ كَعِرْقِ السُّوءِ } .
وَالْعَسْكَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { إنَّ الْخُلُقَ
السَّيِّئَ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ } .
وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي افْتِتَاحِ صَلَاتِهِ : { اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ
الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي
سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ } .
وَبَقِيَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ مِنْهَا : {
ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } ،
وَإِنَّهُ يُدْرِكُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَدَرَجَاتِ
الْآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ ، وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ
، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ مِنْ خُلُقِهِ أَسْفَلَ دَرْكِ جَهَنَّمَ ،
وَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ يُذِيبُ الْخَطِيئَةَ كَمَا تُذِيبُ الشَّمْسُ
الْجَلِيدَ ، وَإِنَّهُ يُمْنٌ ، وَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا ،
وَإِنَّ أَحْسَنَ الْخُلُقِ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَإِنَّ أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّهُ
أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَثْقَلُ مَا وُضِعَ فِي الْمِيزَانِ .
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { كَانَ خُلُقُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ : { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : هُوَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ
عَمَّنْ ظَلَمَك } وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ إبْلِيسَ
يَقُولُ ابْغُوا مِنْ بَنِي آدَمَ الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ فَإِنَّهُمَا يَعْدِلَانِ
عِنْدَ اللَّهِ الشِّرْكَ } ،
وَالْخَرَائِطِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْبَغْضَاءَ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ
وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ لَا تَذُمُّوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا
تَتَّبِعُوا
عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْ عَوْرَةَ أَخِيهِ
الْمُسْلِمِ هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ وَأَبْدَى عَوْرَتَهُ وَلَوْ كَانَ فِي
سِتْرِ بَيْتِهِ } .
وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ : { يَا مَعْشَرَ مَنْ
آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَخْلُصْ الْإِيمَانُ إلَى قَلْبِهِ ، لَا تُؤْذُوا
الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ
عَوْرَةَ أَخِيهِ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ اللَّهُ فِي
بَطْنِ بَيْتِهِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ مُرْسَلًا : { يَا مَعْشَرَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ
، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَضُرُّوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا
عَثَرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَثْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ
اللَّهُ عَثْرَتَهُ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَهُوَ فِي
قَعْرِ بَيْتِهِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتْرٌ ؟
قَالَ : سُتُورُ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، إنَّ
الْمُؤْمِنَ لَيَعْمَلُ بِالذُّنُوبِ فَيَهْتِكُ عَنْهُ سِتْرًا سِتْرًا حَتَّى
لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ :
اُسْتُرُوا عَلَى عَبْدِي مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَ وَلَا
يُغَيِّرُونَ ، فَتَحُفُّ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا يَسْتُرُونَهُ
، فَإِنْ تَتَابَعَ فِي الذُّنُوبِ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : يَا رَبَّنَا قَدْ
غَلَبَنَا وَأَقْذَرَنَا ، فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ : تَخَلَّوْا عَنْهُ ،
فَلَوْ عَمِلَ ذَنْبًا فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي جُحْرٍ
أَبْدَى اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ عَوْرَتِهِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { حُبُّ الثَّنَاءِ مِنْ النَّاسِ
يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
وَتَمَّامٌ وَالْخَطِيبُ : { إذَا كَانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ دَعَا اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَيَسْأَلُهُ عَنْ جَاهِهِ كَمَا يَسْأَلُهُ عَنْ مَالِهِ } .
وَابْنُ النَّجَّارِ { مَنْ أَسَاءَ بِأَخِيهِ الظَّنَّ
فَقَدْ أَسَاءَ بِرَبِّهِ ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { اجْتَنِبُوا
كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ } } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا
تُحَقِّقُوا ، وَإِذَا حَسَدْتُمْ فَلَا تَبْغُوا ،
وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا ، وَإِذَا
وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَعْرِضُوا عَنْ النَّاسِ أَلَمْ
تَرَ أَنَّك إنْ ابْتَغَيْتَ الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ
تُفْسِدُهُمْ } .
وَابْنُ قَانِعٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ : { الصَّفَا
الزِّلَالُ الَّذِي لَا تَثْبُتُ عَنْهُ أَقْدَامُ الْعُلَمَاءِ الطَّمَعُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ ثَلَاثٍ
: مِنْ طَمَعٍ حَيْثُ لَا مَطْمَعَ ، وَمِنْ مَطْمَعٍ يَرُدُّ إلَى طَبْعٍ ،
وَمِنْ طَبْعٍ يَرُدُّ إلَى مَطْمَعٍ ، تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ طَمَعٍ
يَهْوِي إلَى طَبْعٍ ، وَمِنْ طَبْعٍ يَهْوِي إلَى مَطْمَعٍ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { اسْتَعِيذُوا
بِاَللَّهِ مِنْ مَطْمَعٍ يَهْوِي إلَى طَبْعٍ ، وَمِنْ طَمَعٍ يَهْوِي إلَى
غَيْرِ مَطْمَعٍ ، وَمِنْ مَطْمَعٍ حَيْثُ لَا مَطْمَعَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ
الْفَقْرُ الْحَاضِرُ ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ } .
وَالْحَاكِمُ : { عَلَيْك بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي
أَيْدِي النَّاسِ ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ ،
وَصَلِّ صَلَاتَك وَأَنْتَ مُوَدِّعٌ ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ فِي حُبِّ
اثْنَتَيْنِ طُولِ الْأَمَلِ وَحُبِّ الْمَالِ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { أَلَا
تَعْجَبُونَ مِنْ أُسَامَةَ الْمُشْتَرِي إلَى شَهْرٍ إنَّ أُسَامَةَ لَطَوِيلُ
الْأَمَلِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ إلَّا ظَنَنْتُ
أَنَّ شُفْرَيَّ لَا يَلْتَقِيَانِ حَتَّى يَقْبِضَ اللَّهُ رُوحِي ، وَلَا
رَفَعْتُ طَرْفِي وَظَنَنْتُ أَنِّي وَاضِعُهُ حَتَّى أُقْبَضَ ، وَلَا لَقَمْت لُقْمَةً
إلَّا ظَنَنْت أَنِّي لَا أَسِيغُهَا حَتَّى أَغَصَّ بِهَا مِنْ الْمَوْتِ ، يَا
بَنِي آدَمَ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْمَوْتَى ،
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى
أُمَّتِي الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ
} .
وَالْبُخَارِيُّ : { لَا يُزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ
شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : {
لَوْلَا أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ مِنْ الْعُجْبِ مَا
خَلَّيْت بَيْنَ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الذَّنْبِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { لَوْلَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ
يُعْجَبُ بِعَمَلِهِ لَعُصِمَ مِنْ الذَّنْبِ حَتَّى لَا يَهُمَّ بِهِ ، وَلَكِنَّ
الذَّنْبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْعُجْبِ
} .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ : " لَيْسَ بِالْخَيْرِ أَنْ
يَقْضِيَ الْعَبْدُ الْقَوْلَ بِلِسَانِهِ وَالْعُجْبُ فِي قَلْبِهِ " .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { شِرَارُ أُمَّتِي الْمُعْجَبُ
بِدِينِهِ ، الْمُرَائِي بِعَمَلِهِ ، الْمُخَاصِمُ بِحُجَّتِهِ ، وَالرِّيَاءُ
شِرْكٌ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلٍ
صَالِحٍ فَقَدْ ضَلَّ شُكْرُهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ
بِمَيْتٍ إنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ وَالْحَاكِمُ : { يُنْصَبُ
لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : { إنَّ
الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ : أَلَا هَذِهِ
غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ
} .
وَالطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ : { إنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ
لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ عِنْدَ اسْتِهِ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { لِكُلِّ
غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ : { إذَا جَمَعَ اللَّهُ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ
لِوَاءٌ ، فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { أَلَّا إنَّهُ يُنْصَبُ لِكُلِّ
غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ } .
وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ : { لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ ، أَلَا وَلَا غَادِرَ
أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { لِوَاءُ الْغَادِرِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ } .
وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ : { لِكُلِّ غَادِرٍ
لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد : { لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ
حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ
} .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي
النَّارِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِيَانَةُ
فِي النَّارِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا
أَوْ مَكَرَ بِهِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ
مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا }
.
وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ
خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ غَشَّنَا
فَلَيْسَ مِنَّا ، وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ } .
وَالرَّافِعِيُّ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ مُسْلِمًا
أَوْ ضَرَّهُ أَوْ مَاكَرَهُ }
.
وَالتِّرْمِذِيُّ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ -
أَيْ لَئِيمٌ - وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ غَشَّ مُسْلِمًا فِي أَهْلِهِ
وَضَارَّهُ فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ خَبَّبَ خَادِمًا
عَلَى أَهْلِهِ وَمَنْ أَفْسَدَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالشِّيرَازِيُّ : { مَنْ خَبَّبَ عَبْدًا عَلَى
مَوْلَاهُ فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالسِّجْزِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْهَوَى فَإِنَّ
الْهَوَى يُصِمُّ وَيُعْمِي } .
.
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَا تَحْتَ
ظِلِّ سَمَاءٍ مِنْ إلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ
مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { مَنْ اعْتَذَرَ إلَيْهِ أَخُوهُ
الْمُسْلِمُ مِنْ ذَنْبٍ قَدْ أَتَاهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ لَمْ يَرِدْ عَلَى
الْحَوْضِ غَدًا } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْعُذْرَ مِنْ
مُحِقٍّ أَوْ مُبْطِلٍ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْحَوْضِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { سِتَّةُ أَشْيَاءَ تُحْبِطُ
الْأَعْمَالَ : الِاشْتِغَالُ بِعُيُوبِ الْخَلْقِ وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ وَحُبُّ
الدُّنْيَا وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ وَطُولُ الْأَمَلِ وَظَالِمٌ لَا يَنْتَهِي } .
وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ مُرْسَلًا : {
ثَمَانِيَةٌ هُمْ
أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
السَّفَّارُونَ وَهُمْ الْكَذَّابُونَ ، وَالْمُخْتَالُونَ وَهُمْ
الْمُسْتَكْبِرُونَ ، وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الْبُغْضَ لِإِخْوَانِهِمْ فِي
صُدُورِهِمْ فَإِذَا أَتَوْهُمْ تَخَلَّقُوا لَهُمْ ، وَاَلَّذِينَ إذَا دُعُوا
إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانُوا بِطَاءٍ ، وَإِذَا دُعُوا إلَى الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ
كَانُوا سِرَاعًا .
وَاَلَّذِينَ لَا يُشْرِفُ لَهُمْ طَمَعٌ مِنْ
الدُّنْيَا إلَّا اسْتَحَلُّوهُ بِأَيْمَانِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
ذَلِكَ بِحَقٍّ ، وَالْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ وَالْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ
الْأَحِبَّةِ ، وَالْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الدَّحَضَةِ أُولَئِكَ يُقْذِرُهُمْ
الرَّحْمَنُ - عَزَّ وَجَلَّ -
} .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرِّ
النَّاسِ ؟ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ ، وَمَنَعَ رِفْدَهُ ، وَسَافَرَ وَحْدَهُ
وَضَرَبَ عَبْدَهُ ؛ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا ؟ مَنْ يُبْغِضُ
النَّاسَ وَيُبْغِضُونَهُ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا ؟ مَنْ
يُخْشَى شَرُّهُ وَلَا يُرْجَى خَيْرُهُ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا
؟ مَنْ بَاعَ آخِرَةً بِدُنْيَا غَيْرِهِ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
هَذَا ؟ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ النَّجَّارِ : { ابْنَ آدَمَ عِنْدَك مَا
يَكْفِيك وَأَنْتَ تَطْلُبُ مَا يُطْغِيك ، ابْنَ آدَمَ لَا بِقَلِيلٍ تَقْنَعُ
وَلَا مِنْ كَثِيرٍ تَشْبَعُ ، ابْنَ آدَمَ إذَا أَصْبَحْتَ مُعَافًى فِي جَسَدِك
آمِنًا فِي سِرْبِك عِنْدَك قُوتُ يَوْمِك فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ
خَيْرًا أَرْضَاهُ بِمَا قَسَمَ لَهُ وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ } .
وَهَنَّادٌ وَالْبَيْهَقِيُّ : { إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ
إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْجِسْمِ ، فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ
هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْجِسْمِ
} .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ : { إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ
إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخُلُقِ ، فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ
هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَكِيمُ
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ
خَيْرًا جَعَلَ غِنَاهُ فِي نَفْسِهِ وَتُقَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَإِذَا أَرَادَ
بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ } .
وَابْنُ لَالٍ : { إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ مَا
قَنِعَتْ بِهِ نَفْسُهُ ثُمَّ يَصِيرُ إلَى أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ فِي شِبْرٍ - أَيْ
الْقَبْرِ - ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى الْآخِرَةِ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ أَحَبَّكُمْ إلَيَّ
وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَنْ لَقِيَنِي عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي فَارَقَنِي
عَلَيْهَا } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { خَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ الْقَانِعُ
، وَشَرُّهُمْ الطَّامِعُ } وَابْنُ شَاهِينَ وَقَالَ غَرِيبٌ وَابْنُ عَسَاكِرَ :
{ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ جَدْيٌ تُرْضِعُهُ أُمُّهُ فَتَرْوِيهِ فَأَفْلَتَ
فَارْتَضَعَ الْغَنَمَ ثُمَّ لَمْ يَشْبَعْ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِمْ : إنَّ
مَثَلَ هَذَا كَمَثَلِ قَوْمٍ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُعْطَى الرَّجُلُ
مِنْهُمْ مَا يَكْفِي الْأُمَّةَ وَالْقَبِيلَةَ ثُمَّ لَا يَشْبَعُ } .
وَتَمَّامٌ
: { شِرَارُ أُمَّتِي أَوَّلُ مَنْ يُسَاقُ إلَى
النَّارِ الْأَقْمَاعُ مِنْ أُمَّتِي الَّذِينَ إذَا أَكَلُوا لَمْ يَشْبَعُوا ،
وَإِذَا جَمَعُوا لَمْ يَسْتَغْنُوا
} .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ سَخِطَ رِزْقَهُ وَبَثَّ شَكْوَاهُ
وَلَمْ يَصْبِرْ لَمْ يَصْعَدْ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ وَلَقِيَ اللَّهَ
تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ
} .
وَأَبُو يَعْلَى وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ : {
مَنْ قَلَّ مَالُهُ وَكَثُرَ عِيَالُهُ وَحَسُنَتْ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَغْتَبْ
الْمُسْلِمِينَ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مَعِي كَهَاتَيْنِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ وَالْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ لَكِنْ تُعُقِّبَ : { يَا عَائِشَةُ إذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي
فَلْيَكْفِك مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ
الْأَغْنِيَاءِ ، وَلَا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -
يَقُولُ أَحَبُّ عِبَادَةِ عَبْدِي إلَيَّ النَّصِيحَةُ } .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ
وَأَبُو عَوَانَةَ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ وَالْبَغَوِيُّ
وَاَلْبَارُودِيُّ وَابْنُ قَانِعٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ
وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدُ ،
وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ثَوْبَانَ : { إنَّ
الدِّينَ النَّصِيحَةُ ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ
، قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ
وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } .
وَابْنُ النَّجَّارِ : { مَنْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِخَمْسٍ لَمْ يُصَدَّ وَجْهُهُ عَنْ الْجَنَّةِ : النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِدِينِهِ
وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ } .
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ وَالدَّيْلَمِيِّ : { لَا يَزَالُ
الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةِ مِنْ دِينِهِ مَا مَحَضَ أَخَاهُ النَّصِيحَةَ ، فَإِذَا
حَادَ عَنْ ذَلِكَ سُلِبَ التَّوْفِيقَ
} .
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةِ
حَمِيَّةٍ يَنْصُرُ الْعَصَبِيَّةَ وَيَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ فَقِتْلَتُهُ
جَاهِلِيَّةٌ } .
وَأَبُو دَاوُد : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إلَى
عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا
مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ }
.
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مِنْ أَسْوَأِ النَّاسِ مَنْزِلَةً
مَنْ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : " أَنَّهُ أَشَرُّ النَّاسِ
نَدَامَةً " وَفِي أُخْرَى
: " أَنَّهُ أَشَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ " .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ
بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا
النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا : { ثَلَاثُ خِلَالٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ
فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ الْكَلْبُ خَيْرًا مِنْهُ : وَرَعٌ يَحْجِزُهُ
عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، أَوْ حِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ جَاهِلٍ ،
أَوْ حُسْنُ خُلُقٍ يَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ : { ثَلَاثٌ
لَازِمَاتٌ لِأُمَّتِي } : { سُوءُ الظَّنِّ وَالْحَسَدُ وَالطِّيَرَةُ ، فَإِذَا
ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ ، وَإِذَا حَسَدْتَ
فَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ مُرْسَلَةٍ : { ثَلَاثٌ لَمْ تَسْلَمْ
مِنْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ : الْحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ ، أَلَا
أُنَبِّئُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْهَا ؟ إذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ ، وَإِذَا
حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { ثَلَاثٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ
النَّاسِ فِيهِنَّ رُخْصَةٌ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ كَانَا أَوْ
كَافِرَيْنِ ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ لِمُسْلِمٍ كَانَ أَوْ كَافِرًا ،
وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ إلَى مُسْلِمٍ كَانَ أَوْ كَافِرًا } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { ثَلَاثٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ
، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا
فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوفِهِ حَقَّهُ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ .
تَنْبِيهَاتٌ ) : مِنْهَا قَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ
وَمِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ مَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ عَدُوُّ الْإِنْسَانِ
الْمُبِينُ ، وَأَنَّ أَشْرَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ فَهُوَ - أَعْنِي
الشَّيْطَانَ - لَا يَقْنَعُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِفَسَادِ ظَاهِرِهِ بَلْ لَا
مَقْصِدَ لَهُ بِطَرِيقِ الذَّاتِ إلَّا فَسَادُ ذَلِكَ الْأَشْرَفِ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ
وُجُوبًا عَيْنِيًّا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حِمَايَةُ قَلْبِهِ عَنْ فَسَادِ
الشَّيْطَانِ ، لَكِنْ لَا يُتَوَصَّلُ لِذَلِكَ إلَّا بِمَعْرِفَةِ مَدَاخِلِهِ ،
وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ ، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ
مَعْرِفَةُ مَدَاخِلِهِ وَهِيَ صِفَاتُ الْعَبْدِ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مِنْ
أَعْظَمِهَا : الْحَسَدُ وَالْحِرْصُ ، فَمَهْمَا كَانَ الْعَبْدُ حَرِيصًا عَلَى
شَيْءٍ أَعْمَاهُ حِرْصُهُ وَأَصَمَّهُ
.
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَبَرِ
السَّابِقِ : { حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
فَنُورُ الْبَصِيرَةِ هُوَ الَّذِي يُدْرِكُ تِلْكَ
الْمَدَاخِلَ ، فَإِذَا غَطَّاهُ الْحِرْصُ وَالْحَسَدُ لَمْ يُبْصِرْ ،
فَحِينَئِذٍ يَجِدُ الشَّيْطَانُ فُرْصَةً أَيَّ فُرْصَةٍ وَمَدْخَلًا أَيَّ
مَدْخَلٍ : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نُوحًا وَجَدَهُ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَقَالَ
: لِمَ دَخَلْتَ ؟ قَالَ : لِأُصِيبَ قُلُوبَ أَصْحَابِك حَتَّى يَكُونُوا مَعِي وَلَا
يَكُونَ مَعَك إلَّا أَبْدَانُهُمْ ، قَالَ : اُخْرُجْ مِنْهَا يَا عَدُوَّ
اللَّهِ فَإِنَّك رَجِيمٌ ، فَقَالَ إبْلِيسُ : خَمْسٌ أُهْلِكُ بِهِنَّ النَّاسَ
وَسَأُحَدِّثُك بِثَلَاثٍ مِنْهَا دُونَ اثْنَتَيْنِ .
فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى لِنُوحٍ - صَلَّى اللَّهُ
وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ - : مُرْهُ يُحَدِّثُك بِالِاثْنَتَيْنِ ،
وَلَا حَاجَةَ لَك فِي الثَّلَاثِ ، قَالَ لَهُ : مَا الِاثْنَتَانِ ؟ فَقَالَ :
هُمَا اللَّتَانِ لَا يَكْذِبَانِي هُمَا اللَّتَانِ لَا يُخْلِفَانِي بِهِمَا أُهْلِكُ
النَّاسَ : الْحِرْصُ وَالْحَسَدُ ، بِالْحَسَدِ لُعِنْتُ وَجُعِلْتُ شَيْطَانًا رَجِيمًا
، وَبِالْحِرْصِ أَصَبْتُ حَاجَتِي مِنْ آدَمَ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْجَنَّةُ
كُلُّهَا إلَّا شَجَرَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَصْبِرْ عَنْهَا .
وَمِنْ
أَعْظَمِهَا أَيْضًا الْغَضَبُ وَالشَّهْوَةُ ،
فَبِالْغَضَبِ يَضْعُفُ الْعَقْلُ فَيَلْعَبُ الشَّيْطَانُ بِالْغَضْبَانِ كَمَا
يَلْعَبُ الصَّبِيُّ بِالْكُرَةِ
.
وَرُوِيَ أَنَّ إبْلِيسَ اسْتَشْفَعَ بِمُوسَى - صَلَّى
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَبِّهِ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْهِ فَشَفَعَ ، فَقَالَ : يَا مُوسَى إنْ سَجَدَ لِقَبْرِ آدَمَ .
فَأَعْلَمَهُ ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ الْغَضَبَ
: لَمْ أَسْجُدْ لَهُ حَيًّا فَكَيْفَ أَسْجُدُ لَهُ مَيِّتًا ، لَكِنْ لَك
عَلَيَّ حَقُّ شَفَاعَتِك ، اُذْكُرْنِي عِنْدَ ثَلَاثٍ لَا أُهْلِكُكَ فِيهِنَّ :
اُذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ فَإِنِّي أَجْرِي مِنْك مَجْرَى الدَّمِ ، وَحِينَ
تَلْقَى الزَّحْفَ فَإِنِّي أُذَكِّرُ ابْنَ آدَمَ حِينَئِذٍ وَلَدَهُ
وَزَوْجَتَهُ وَأَهْلَهُ حَتَّى يُوَلِّيَ ، وَحِينَ تُجَالِسُ امْرَأَةً
أَجْنَبِيَّةً فَإِنِّي رَسُولُهَا إلَيْك وَرَسُولُك إلَيْهَا .
وَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ : بِأَيِّ شَيْءٍ
تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ ؟ قَالَ : آخُذُهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَعِنْدَ الْهَوَى ،
وَقِيلَ لَهُ : أَيُّ أَخْلَاقِ بَنِي آدَمَ أَعْوَنُ لَك ؟ قَالَ : الْحِدَّةُ -
أَيْ الْمَذْمُومَةُ - حَتَّى لَا يُنَافِيَ مَا مَرَّ فِي مَدْحِهَا : إنَّ الْعَبْدَ
إذَا كَانَ حَدِيدًا قَلَّبْنَاهُ كَمَا تُقَلِّبُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ .
وَمِنْ أَعْظَمِهَا أَيْضًا : حُبُّ الْقَلْبِ زِينَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهَا فَيَبِيضُ الشَّيْطَانُ فِيهِ
حِينَئِذٍ ، وَيُفْرِخُ وَيَفْتَحُ لَهُ مِنْ الْمَلَاهِي وَالْقَوَاطِعِ عَنْ
اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ وَسُنَّتِهِ مَا يُزَيِّنُ لَهُ الْبَقَاءَ عَلَيْهِ
إلَى أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى نَقْصِهِ وَغَفْلَتِهِ ، وَإِنْفَاقِ
نَفَائِسِ أَوْقَاتِهِ فِي الْبَطَالَاتِ ، فَرُبَّمَا خَتَمَ اللَّهُ لَهُ
بِسُوءٍ ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَمِنْ أَعْظَمِهَا : مَحَبَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إذْ
الشِّبَعُ - وَلَوْ مِنْ حَلَالٍ طَيِّبٍ - يُقَوِّي الشَّهَوَاتِ وَهِيَ
أَسْلِحَةُ الشَّيْطَانِ ، وَمِنْ ثَمَّ رَآهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا - صَلَّى
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ مَعَالِيقُ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ : هِيَ الشَّهَوَاتُ الَّتِي بِهَا أُصِيبُ
ابْنَ آدَمَ ، فَقَالَ : هَلْ لِي فِيهَا شَيْءٌ ؟ فَقَالَ : رُبَّمَا شَبِعْتَ
فَثَقَّلْنَاك عَنْ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ ، قَالَ : هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ قَالَ
: لَا ، قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَمْلَأَ بَطْنِي مِنْ طَعَامٍ أَبَدًا
، قَالَ إبْلِيسُ : وَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَنْصَحَ مُسْلِمًا أَبَدًا .
وَمِنْ أَعْظَمِهَا أَيْضًا : الطَّمَعُ .
فَإِنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَى قَلْبٍ لَمْ يَزَلْ
الشَّيْطَانُ يُحْسِنُ التَّزَيُّنَ وَالتَّصَنُّعَ ، وَلِلْمَطْمُوعِ فِيهِ
بِأَنْوَاعِ الرِّيَاءِ وَالتَّلْبِيسِ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ إلَهُهُ ، فَلَا
يَزَالُ يَتَفَكَّرُ فِي حَبْلِ التَّوَدُّدِ وَالتَّحَبُّبِ إلَيْهِ وَالتَّوَصُّلِ
إلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَا رَضِيَهُ ، وَإِنْ أَغْضَبَ اللَّهَ كَالْمُدَاهَنَةِ
لَهُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ .
وَمِنْهَا :
الْعَجَلَةُ ، وَتَرْكُ التَّثْبِيتِ فِي الْأُمُورِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا } وَفِي الْحَدِيثِ : { الْعَجَلَةُ
مِنْ الشَّيْطَانِ وَالتَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ } ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَجَلَةُ
مِنْ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ عِنْدَهَا يَرُوجُ شَرُّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ
حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِخِلَافِ مَنْ تَمَهَّلَ وَتَرَوَّى عِنْدَ الْإِقْدَامِ
عَلَى عَمَلٍ يُرِيدُهُ فَإِنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ بَصِيرَةٌ بِهِ ، وَمَتَى لَمْ
تَحْصُلْ تِلْكَ الْبَصِيرَةُ فَلَا يَنْبَغِي الِاسْتِعْجَالُ اللَّهُمَّ إلَّا
فِي وَاجِبٍ فَوْرِيٍّ ، فَهَذَا لَا مَسَاغَ لِلتَّمَهُّلِ فِيهِ ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا
الْمَالُ إذَا مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ وَالْقُوتِ فَهُوَ مُسْتَقَرُّ
الشَّيْطَانِ ، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ ذَلِكَ الزَّائِدُ قَلْبُهُ فَارِغٌ ،
فَلَوْ وَجَدَ مِائَةَ دِينَارٍ بِطَرِيقٍ انْبَعَثَ مِنْ قَلْبِهِ عَشْرُ
شَهَوَاتٍ ، كُلُّ شَهْوَةٍ مِنْهَا تَحْتَاجُ إلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَيَحْتَاجُ
إلَى تِسْعِمِائَةٍ أُخْرَى ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ظَفَرِهِ بِالْمِائَةِ
مُسْتَغْنِيًا ، فَلَمَّا وَجَدَ الْمِائَةَ ظَنَّ أَنَّهُ اسْتَغْنَى وَقَدْ
بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَارَ مُحْتَاجًا لِتِسْعِمِائَةٍ لِشِرَاءِ دَارٍ وَأَمَةٍ
وَأَثَاثٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي شَيْئًا آخَرَ يَلِيقُ بِهِ
وَذَلِكَ لَا آخِرَ لَهُ ، فَيَقَعُ فِي هَاوِيَةٍ لَا آخِرَ لَهَا إلَّا قَعْرُ
جَهَنَّمَ ، وَلَمَّا ضَجِرَتْ شَيَاطِينُ إبْلِيسَ مِنْ عَدَمِ ظَفَرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ وَشَكَوْا إلَيْهِ قَالَ لَهُمْ :
رُوَيْدًا عَسَى تُفْتَحُ لَهُمْ الدُّنْيَا فَتُصِيبُوا حَاجَتَكُمْ مِنْهُمْ .
وَمِنْهَا : الْبُخْلُ وَخَوْفُ الْفَقْرِ ، فَإِنَّهُ
يَمْنَعُ مِنْ التَّصَدُّقِ وَالْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ وَيَأْمُرُ
بِالْإِمْسَاكِ وَالتَّقْتِيرِ وَالْكَنْزِ ، وَعَذَابُ اللَّهِ الْأَلِيمُ هُوَ
الْمَوْعِدُ لِلْكَانِزِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ .
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : لِلشَّيْطَانِ سِلَاحٌ مِثْلُ خَوْفِ
الْفَقْرِ ، فَإِذَا قَبِلَ مِنْهُ أَخَذَ فِي الْبَاطِلِ وَتَكَلَّمَ بِالْهَوَى
وَظَنَّ بِرَبِّهِ السُّوءَ .
وَمِنْ آفَاتِ الْبُخْلِ : الْحِرْصُ عَلَى مُلَازَمَةِ
الْأَسْوَاقِ لِجَمْعِ الْمَالِ وَهِيَ مُعَشَّشُ الشَّيْطَانِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : { لَمَّا نَزَلَ إبْلِيسُ إلَى
الْأَرْضِ قَالَ : يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بَيْتًا .
قَالَ : الْحَمَّامُ : قَالَ : اجْعَلْ لِي مَجْلِسًا .
قَالَ : الْأَسْوَاقُ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا .
قَالَ : الْمَزَامِيرُ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي طَعَامًا .
قَالَ : مَا لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي قُرْآنًا .
قَالَ : الشِّعْرُ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي حَدِيثًا .
قَالَ : الْكَذِبُ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي مَصَائِدَ .
قَالَ : النِّسَاءُ } .
وَمِنْهَا :
التَّعَصُّبُ لِلْمَذَاهِبِ وَالْأَهْوَاءِ ،
وَالْحِقْدُ عَلَى الْخُصُومِ ، وَالنَّظَرُ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالِاحْتِقَارِ
، وَذَلِكَ مِمَّا يُهْلِكُ الْعِبَادَ وَالْعُلَمَاءَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ ،
فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالطَّعْنِ فِي النَّاسِ وَذِكْرِ نَقَائِصِهِمْ مِمَّا
جُبِلَ عَلَيْهِمْ الطَّبْعُ ، فَإِذَا خَيَّلَ الشَّيْطَانُ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ
هُوَ الْحَقُّ زَادَ فِيهِ وَاسْتَكْثَرَ وَحَلَا لَهُ وَفَرِحَ بِهِ ظَنًّا
مِنْهُ أَنَّهُ يَسْعَى فِي الدِّينِ وَمَا هُوَ إلَّا سَاعٍ فِي اتِّبَاعِ
الشَّيْطَانِ دُونَ اتِّبَاعِ الْمُتَعَصَّبِ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ مَنْ
بَعْدَهُمْ ، وَلَوْ اعْتَنَى بِصَلَاحِ نَفْسِهِ وَكَانَ عَلَى نَحْوِ أَخْلَاقِ
مَنْ تَعَصَّبَ لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَوْلَى لَهُ وَالْأَحْرَى بِهِ ، وَظَنُّ
أَنَّ التَّعَصُّبَ لَهُ بِنَقْصِ النَّاسِ وَاحْتِقَارِهِمْ بِحُبِّهِ إلَيْهِ
كَاذِبٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَتَعَصَّبْ لِنَفْسِهِ وَعَفَا
عَمَّنْ سَفِهَ عَلَيْهِ فَاتِّبَاعُهُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ ، وَكُلُّ مَنْ
تَعَصَّبَ لِإِمَامٍ وَلَمْ يَسِرْ عَلَى سِيرَتِهِ فَذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ خَصْمُهُ
وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُوَبِّخِينَ لَهُ ، وَقَدْ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ وَهِيَ بَضْعَةٌ مِنْهُ : اعْمَلِي فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكِ
مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } .
فَعَلَيْكَ أَنْ تُصْلِحَ بَاطِنَك وَظَاهِرَك ، وَلَا
تَشْتَغِلْ بِغَيْرِك إلَّا حَيْثُ كَلَّفَك الشَّرْعُ بِذَلِكَ ، كَأَنْ تَأْمُرَ
بِمَعْرُوفٍ وَتَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ بَعْدَ اسْتِيفَائِك لِشُرُوطِهِ
الشَّرْعِيَّةِ .
وَمِنْهَا : حَمْلُ الْعَوَامّ وَمَنْ لَمْ يُمَارِسْ
الْعُلُومَ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ ، وَفِي أُمُورٍ لَا
تَبْلُغُهَا عُقُولُهُمْ وَهَذَا مَضِلَّةٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَشَكَّكُونَ
بِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ ، بَلْ رُبَّمَا تَخَيَّلُوا فِي اللَّهِ - تَعَالَى -
مَا هُوَ مُتَعَالٍ عَنْهُ فَيَصِيرُ بِهِ كَافِرًا أَوْ مُبْتَدِعًا وَهُوَ بِهِ
فَرِحٌ مَسْرُورٌ لِغَلَبَةِ حُمْقِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ ، وَأَشَدُّ النَّاسِ حَمَاقَةً
أَقْوَاهُمْ اعْتِقَادًا فِي نَفْسِهِ ، وَأَثْبَتُهُمْ عَقْلًا أَشَدُّهُمْ
اتِّهَامًا لِنَفْسِهِ وَظَنِّهِ وَأَحْرَصُهُمْ عَلَى السُّؤَالِ مِنْ الْعُلَمَاءِ
الْعَامِلِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ .
وَمِنْهَا : سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ } وَمَنْ حَكَمَ بِشَرٍّ عَلَى
غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ حَمَلَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى احْتِقَارِهِ وَعَدَمِ
الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَالْتَوَانِي فِي إكْرَامِهِ ، وَإِطَالَةِ اللِّسَانِ
فِي عِرْضِهِ وَكُلُّ هَذِهِ مُهْلِكَاتٌ .
وَقَدْ { قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِمَنْ أَبْصَرَهُ يُكَلِّمُ زَوْجَتَهُ صَفِيَّةَ : إنَّهَا أُمُّكُمَا
فَتَطَوَّرَا لِذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ
مَجْرَى الدَّمِ ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا }
فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمَا فَحَرَسَهُمَا وَعَلَى أُمَّتِهِ فَعَلَّمَهُمْ طَرِيقَ الِاحْتِرَازِ
مِنْ التُّهْمَةِ حَتَّى لَا يَتَسَاهَلَ الْعَالِمُ الْوَرِعُ فِي أَحْوَالِهِ
ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِ إلَّا الْخَيْرُ إعْجَابًا مِنْهُ
بِنَفْسِهِ ، وَهِيَ زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ ؛ إذْ أَوْرَعُ النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ
وَأَعْلَمُهُمْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُنْقِصٍ وَمُبْغِضٍ ، فَتَعَيَّنَ
الِاحْتِرَازُ عَنْ تُهْمَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْأَشْرَارِ فَإِنَّهُمْ لَا
يَظُنُّونَ بِالنَّاسِ كُلِّهِمْ إلَّا الشَّرَّ ، وَكُلُّ مَنْ رَأَيْتَهُ
سَيِّئَ الظَّنِّ بِالنَّاسِ طَالِبًا لِإِظْهَارِ مَعَايِبِهِمْ .
فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ لِخُبْثِ بَاطِنِهِ وَسُوءِ
طَوِيَّتِهِ ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَطْلُبُ الْمَعَاذِيرَ لِسَلَامَةِ بَاطِنِهِ
، وَالْمُنَافِقُ يَطْلُبُ الْعُيُوبَ لِخُبْثِ بَاطِنِهِ ، فَهَذِهِ بَعْضُ
مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ إلَى الْقَلْبِ وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى بَاقِيهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ : فَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّ صِفَةٌ
مَذْمُومَةٌ إلَّا وَهِيَ سِلَاحُ الشَّيْطَانِ ، وَبِهَا يَسْتَعِينُ عَلَى
إضْلَالِهِ ، وَإِغْوَائِهِ فَالْجَأْ إلَى اللَّهِ وَفِرَّ إلَيْهِ مِنْ
مَكَائِدِهِ لَعَلَّ أَنْ يُنْجِيَك مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ ، وَاِتَّخِذْ الذِّكْرَ
سَمِيرًا وَتَذَكَّرْ الْآخِرَةَ مُعِينًا وَظَهِيرًا ، وَدُمْ عَلَى ذَلِكَ تُحْفَظُ
- إنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ سَائِرِ تِلْكَ الْمَهَالِكِ .
وَمِنْهَا : إذَا تَأَمَّلْتَ مَا قَرَّرْنَا وَاتَّضَحَ
مِنْ جَمِيعِ
مَا ذَكَرْنَاهُ لَك عَظِيمَ ضَرَرِ أَكْثَرِ تِلْكَ
الْكَبَائِرِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا عَنْ ذَلِكَ الْإِمَامِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ
لَيْسَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بَلْ أَخَذَهُ مِنْ كَلِمَاتِ الْأَئِمَّةِ
وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ ، فَاحْذَرْ أَنْ يَكُونَ بِقَلْبِك أَوْ بِبَاطِنِك
شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ مِنْك الْبَاطِنَ بَلْ وَالظَّاهِرَ .
وَمِنْهَا : أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْكَبَائِرِ يَرْجِعُ
فِعْلُهَا إلَى سُوءِ الْخُلُقِ ، وَتَرْكُهَا إلَى حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَحُسْنُهُ
يَرْجِعُ إلَى اعْتِدَالِ قُوَّةِ الْعَقْلِ بِكَمَالِ الْحِكْمَةِ ، وَإِلَى
اعْتِدَالِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَالشَّهَوِيَّةِ ، وَإِطَاعَةِ كُلٍّ
مِنْهَا لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ ، ثُمَّ هَذَا الِاعْتِدَالُ إمَّا أَنْ
يَكُونَ بِجُودٍ إلَهِيٍّ وَكَمَالٍ فِطْرِيٍّ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
بِاكْتِسَابِ أَسْبَابِهِ مِنْ الْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ بِأَنْ يَحْمِلَ
نَفْسَهُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ يُوجِبُ حُسْنَ خُلُقِهَا وَيُضَادُّ سُوءَ
طَوِيَّتِهَا إذْ هِيَ لَا تَأْلَفُ رَبَّهَا وَلَا تَأْنَسُ بِذِكْرِهِ إلَّا
إذَا فُطِمَتْ عَنْ عَادَتِهَا وَحُفِظَتْ عَنْ شَهَوَاتِهَا بِالْخَلْوَةِ
وَالْعُزْلَةِ أَوَّلًا لِيُحْفَظَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ ،
ثُمَّ بِإِدْمَانِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي تِلْكَ الْخَلْوَةِ إلَى أَنْ يَغْلِبَ
عَلَيْهِ الْأُنْسُ بِاَللَّهِ وَبِذِكْرِهِ ، فَحِينَئِذٍ يَتَنَعَّمُ بِهِ فِي
نِهَايَتِهِ ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ فِي بِدَايَتِهِ ، وَرُبَّمَا ظَنَّ مَنْ
جَاهَدَ نَفْسَهُ أَدْنَى مُجَاهَدَةٍ بِتَرْكِ فَوَاحِشِ الْمَعَاصِي أَنَّهُ
قَدْ هَذَّبَهَا وَحَسَّنَ خُلُقَهَا ، وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ تُوجَدْ
فِيهِ صِفَاتُ الْكَامِلِينَ وَلَا أَخْلَاقُ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } إلَى
أَنْ قَالَ : { أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } إلَى أَنْ قَالَ { أُولَئِكَ هُمْ
الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَقَالَ
تَعَالَى : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ } إلَى { وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ }
وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْنًا } إلَى آخِرِ السُّورَةِ .
فَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ حَالُ نَفْسِهِ
فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظَائِرِهَا ، فَوُجُودُ جَمِيعِ
هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَامَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَفَقْدُ جَمِيعِهَا عَلَامَةُ
سُوءِ الْخُلُقِ وَوُجُودُ الْبَعْضِ يَدُلُّ عَلَى الْبَعْضِ .
وَقَدْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
مَجَامِعِ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بِقَوْلِهِ : { الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا
يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } وَيَأْمُرُهُ بِإِكْرَامِ الضَّيْفِ وَالْجَارِ ، وَبِأَنَّ
الْمُؤْمِنَ إمَّا أَنْ يَقُولَ خَيْرًا أَوْ يَصْمُتَ ، وَبِمَا جَاءَ : { إذَا
رَأَيْتُمْ الْمُؤْمِنَ صَمُوتًا وَقُورًا فَادْنُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ } .
{ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُشِيرَ إلَى أَخِيهِ
بِنَظَرٍ يُؤْذِيهِ } .
{ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا } .
{ إنَّمَا يَتَجَالَسُ الْمُتَجَالِسَانِ بِأَمَانَةِ
اللَّهِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْشِيَ عَلَى أَخِيهِ مَا يَكْرَهُ } .
وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ
فَقَالَ : أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الْحَيَاءِ ، قَلِيلَ الْأَذَى ، كَثِيرَ الصَّلَاحِ
، صَدُوقَ اللِّسَانِ ، قَلِيلَ الْكَلَامِ ، كَثِيرَ الْعَمَلِ ، قَلِيلَ
الْفُضُولِ ، قَلِيلَ الزَّلَلِ ، وَهُوَ بَرٌّ وَصُولٌ وَقُورٌ صَبُورٌ رَضِيٌّ
شَكُورٌ حَلِيمٌ ، رَفِيقٌ عَفِيفٌ شَفِيقٌ لَا لَمَّازٌ وَلَا سَبَّابٌ وَلَا
نَمَّامٌ وَلَا مُغْتَابٌ وَلَا عَجُولٌ وَلَا حَقُودٌ وَلَا بَخِيلٌ وَلَا
حَسُودٌ ، هَشَّاشٌ بَشَّاشٌ ، يُحِبُّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضُ فِي اللَّهِ وَيَرْضَى
فِي اللَّهِ وَيَغْضَبُ فِي اللَّهِ ؛ فَهَذَا هُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ .
وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِلتَّحَلِّي بِمَعَالِيهِ وَأَدَامَ
عَلَيْنَا سَوَابِغَ أَفْضَالِهِ وَمَوَانِحَ قُرَبِهِ وَالِانْدِرَاجَ فِي سِلْكِ
أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَمَوَالِيهِ آمِينَ .
الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِالِاسْتِرْسَالِ فِي الْمَعَاصِي
مَعَ الِاتِّكَالِ عَلَى الرَّحْمَةِ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَذَلِكُمْ
ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ
الْخَاسِرِينَ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { إذَا رَأَيْتُمْ اللَّهَ يُعْطِي
الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ .
فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ .
ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا
بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } } أَيْ آيِسُونَ
مِنْ النَّجَاةِ وَكُلِّ خَيْرٍ سَدِيدٍ ، وَلَهُمْ الْحَسْرَةُ وَالْحُزْنُ وَالْخِزْيُ
لِاغْتِرَارِهِمْ بِتَرَادُفِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ مُقَابَلَتِهِمْ لَهَا
بِمَزِيدِ الْإِعْرَاضِ وَالْإِدْبَارِ
.
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْحَسَنُ : مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ
عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ مَكْرٌ بِهِ فَلَا عَقْلَ لَهُ ، وَقَالَ فِي قَوْمٍ
لَمْ يَشْكُرُوا : مُكِرَ بِهِمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ
أُخِذُوا .
وَفِي الْأَثَرِ { لَمَّا مُكِرَ بِإِبْلِيسَ بَكَى جِبْرِيلُ
وَمِيكَائِيلُ ، فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمَا : وَمَا يُبْكِيكُمَا ؟ قَالَا :
رَبَّنَا مَا أَمِنَّا مِنْ مَكْرِك ، فَقَالَ تَعَالَى : هَكَذَا كُونَا لَا
تَأْمَنَا مَكْرِي } وَمِنْ ثَمَّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : { يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك
} وَفِي رِوَايَةٍ : { فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَخَافُ ؟ قَالَ : إنَّ
الْقَلْبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ
يَشَاءُ } .
أَيْ بَيْنَ مَظْهَرَيْ إرَادَتِهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ
، فَهُوَ يَصْرِفُهَا أَسْرَعَ مِنْ مَمَرِّ الرِّيحِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي
الْقَبُولِ وَالرَّدِّ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ .
وَفِي التَّنْزِيلِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } ، أَيْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَقْلِهِ حَتَّى لَا
يَدْرِيَ
مَا يَصْنَعُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله
تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ } ، أَيْ عَقْلٌ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ مَعْنَى تِلْكَ
الْإِحَالَةِ إعْلَامُ الْعِبَادِ بِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِقُلُوبِهِمْ مِنْهُمْ
وَأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا إذَا شَاءَ حَتَّى لَا يُدْرِكَ أَحَدٌ
شَيْئًا إلَّا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى
.
وَلَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : { يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك ، قَالَتْ
لَهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّك تُكْثِرُ أَنْ
تَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فَهَلْ تَخْشَى ؟ قَالَ : وَمَا يُؤَمِّنُنِي يَا عَائِشَةُ
وَقُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إذَا
أَرَادَ أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَ عَبْدِهِ قَلَّبَهُ } .
وَقَدْ أَثْنَى تَعَالَى عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي
الْعِلْمِ بِقَوْلِهِمْ : { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ
لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّك أَنْتَ الْوَهَّابُ } .
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةً
ظَاهِرَةً وَحُجَّةً وَاضِحَةً لِرَدِّ مَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ ،
وَالْحَقِيقَةُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الزَّيْغَ
وَالْهِدَايَةَ بِخَلْقِ اللَّهِ ، وَإِرَادَتِهِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقَلْبَ
صَالِحٌ لِلْمَيْلِ إلَى الْخَيْرِ ، وَإِلَى الشَّرِّ ، وَإِلَى الْإِيمَانِ ،
وَإِلَى الْكُفْرِ ، وَمُحَالٌ أَنْ يَمِيلَ إلَى أَحَدِهِمَا بِدُونِ دَاعِيَةٍ ،
بَلْ لَا بُدَّ فِي مَيْلِهِ لِذَلِكَ مِنْ حُدُوثِ دَاعِيَةٍ ، وَإِرَادَةٍ
يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِنْ كَانَ دَاعِيَةَ الْكُفْرِ فَهُوَ
الْخِذْلَانُ وَالْإِزَاغَةُ وَالصَّدُّ وَالْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالرَّيْنُ وَالْقَسْوَةُ
وَالْوَقْرُ وَالْكِنَانُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي
الْقُرْآنِ ، وَإِنْ كَانَ دَاعِيَةَ الْإِيمَانِ فَهُوَ التَّوْفِيقُ
وَالْإِرْشَادُ وَالْهِدَايَةُ وَالتَّسْدِيدُ وَالتَّثْبِيتُ وَالْعِصْمَةُ
وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ .
ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْأُصْبُعَيْنِ فِي الْحَدِيثِ
السَّابِقِ وَفِيمَا رُوِيَ : {
قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ
الرَّحْمَنِ إذَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ
أَزَاغَهُ } هُمَا الدَّاعِيَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
وَمِمَّا يُحَذِّرُك أَيْضًا مِنْ أَمْنِ الْمَكْرِ
اسْتِحْضَارُك قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ : { إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا
يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ
فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا } .
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ : { إنَّ الْعَبْدَ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ،
وَيَعْمَلُ الرَّجُلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ } .
وَلَا يُتَّكَلُ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمَّا قَالُوا عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ فَفِيمَ
الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِ أَعْمَالِنَا ؟
قَالَ لَهُمْ : بَلَى اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ
: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } وَتَأَمَّلْ أَيْضًا مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ
قِصَّةِ بَلْعَامٍ عَالِمِ بَنِي إسْرَائِيلَ حَيْثُ أَمِنَ الْمَكْرَ فَقَنِعَ
بِالْفَانِي مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا عَنْ الْبَاقِي مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ
فَأَطَاعَ هَوَاهُ ، وَقِيلَ : مَا بُذِلَ لَهُ عَلَى أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَدْلَعَ لِسَانَهُ عَلَى صَدْرِهِ
وَصَارَ يَلْهَثُ كَالْكَلْبِ وَسَلَبَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَالْعِلْمَ
وَالْمَعْرِفَةَ ، وَكَذَلِكَ بَرْصِيصَا الْعَابِدُ مَاتَ بَعْدَ عِبَادَتِهِ
الَّتِي لَا تُطَاقُ عَلَى الْكُفْرِ
.
وَكَانَ ابْنُ السَّقَّاءِ بِبَغْدَادَ مِنْ
مَشَاهِيرِهَا فَضْلًا وَذَكَاءً وَقَعَ لَهُ مَعَ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَدَعَا عَلَيْهِ فَانْتَقَلَ بِهِ الْحَالُ إلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّة ، فَهَوَى امْرَأَةً فَتَنَصَّرَ
لِأَجْلِهَا ثُمَّ مَرِضَ فَأُلْقِيَ عَلَى الطَّرِيقِ يَسْأَلُ ، فَمَرَّ بِهِ
بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَحَكَى لَهُ فِتْنَتَهُ ،
وَأَنَّهُ تَنَصَّرَ وَالْآنَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ
الْقُرْآنِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَمُرُّ بِخَاطِرِهِ ، قَالَ ذَلِكَ
الرَّائِي لَهُ : فَمَرَرْتُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَلِيلٍ فَرَأَيْتُهُ مُحْتَضَرًا ، وَوَجْهُهُ
إلَى الشَّرْقِ فَصِرْت كُلَّمَا أَدَرْت وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ الْتَفَتَ
لِلشَّرْقِ ، وَلَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتْ رُوحُهُ .
وَكَانَ بِمِصْرَ مُؤَذِّنٌ عَلَيْهِ سِيمَا الصَّلَاحِ فَرَأَى
نَصْرَانِيَّةً مِنْ الْمَنَارَةِ فَافْتُتِنَ بِهَا فَذَهَبَ إلَيْهَا
فَامْتَنَعَتْ أَنْ تُجِيبَهُ لِرِيبَةٍ ، فَقَالَ : النِّكَاحُ ، فَقَالَتْ :
أَنْتَ مُسْلِمٌ وَلَا يَرْضَى أَبِي ، فَقَالَ إنَّهُ يَتَنَصَّرُ ، فَقَالَتْ :
الْآنَ يُجِيبُك ، فَتَنَصَّرَ وَوَعَدُوهُ أَنْ يُدْخِلُوهُ عَلَيْهَا ، فَفِي
أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ رَقِيَ سَطْحًا لِحَاجَةٍ فَزَلَّتْ قَدَمُهُ ،
فَوَقَعَ مَيِّتًا ؛ فَلَا هُوَ بِدِينِهِ وَلَا هُوَ بِهَا .
فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَكْرِهِ ، وَنَعُوذُ بِهِ
مِنْهُ وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَبِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا كَانَتْ
الْهِدَايَةُ مَصْرُوفَةً ، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى مَشِيئَتِهِ مَوْقُوفَةً ،
وَالْعَاقِبَةُ مُغَيَّبَةً ، وَالْإِرَادَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا
مُغَالَبَةٍ ، فَلَا تُعْجَبْ بِإِيمَانِك ، وَصَلَاتِك وَجَمِيعِ قُرَبِكَ
فَإِنَّهَا مِنْ مَحْضِ فَضْلِ رَبِّك وُجُودِهِ فَرُبَّمَا سَلَبَهَا عَنْك فَوَقَعَتْ
فِي هُوَّةِ النَّدَمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ
لِمَا عَلِمْتَ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي فِيهِ ، بَلْ جَاءَ
تَسْمِيَتُهُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي
تَفْسِيرِهِ ، وَالْبَزَّارُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : {
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا الْكَبَائِرُ ؟ فَقَالَ : الشِّرْكُ
بِاَللَّهِ ، وَالْإِيَاسُ
مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ
وَهَذَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ
} .
قِيلَ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا ،
وَبِكَوْنِهِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ
.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَكْرِ مُسْتَحِيلَةٌ
عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ قَائِلًا : { وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللَّهُ وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } فَهُوَ مِنْ بَابِ
الْمُقَابَلَةِ عَلَى حَدِّ { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } { تَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك } قِيلَ : وَمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ - تَعَالَى - بِالْمَكْرِ إلَّا لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ
مَعَهُ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ مُسْنَدٍ لِمَنْ يَلِيقُ بِهِ انْتَهَى .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ جَاءَ وَصْفُهُ - تَعَالَى - بِهِ
مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا
يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ } عَلَى أَنَّ الْمَكْرَ رُبَّمَا يَصِحُّ اتِّصَافُهُ -
تَعَالَى - بِهِ إذْ هُوَ - لُغَةً - السِّتْرُ يُقَالُ : مَكَرَ اللَّيْلُ : أَيْ سَتَرَ
بِظُلْمَتِهِ مَا هُوَ فِيهِ ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الِاحْتِيَالِ
وَالْخِدَاعِ وَالْخُبْثِ ؛ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ
اللُّغَوِيِّينَ بِأَنَّهُ السَّعْيُ بِالْفَسَادِ ، وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ
صَرْفُ الْغَيْرِ عَمَّا يَقْصِدُ بِحِيلَةٍ ، وَهَذَا الْأَخِيرُ : إمَّا
مَحْمُودٌ بِأَنْ يَتَحَيَّلَ فِي أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى خَيْرٍ وَعَلَيْهِ
يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ، وَإِمَّا مَذْمُومٌ
بِأَنْ يَتَحَيَّلَ بِهِ فِي أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى شَرٍّ وَمِنْهُ { وَلَا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ
} .
( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ : الْيَأْسُ مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ ) قَالَ تَعَالَى
: { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى : {
قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { إنْ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ ،
كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنْزَلَ
مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ ، فَبِهَا
يَتَعَاطَفُونَ ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ
عَلَى أَوْلَادِهَا ، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا
عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
} .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَك
عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك
عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَك ، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتنِي
بِقُرَابَةِ الْأَرْضِ - بِضَمِّ الْقَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ قَرِيبِ
مِلْئِهَا - خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ
بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً } .
وَعَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ :
كَيْفَ تَجِدُك ؟ قَالَ : أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنِّي أَخَافُ
ذُنُوبِي ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَجْتَمِعَانِ فِي
قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ
مِمَّا يَخَافُ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إنْ شِئْتُمْ
أَنْبَأْتُكُمْ : مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ -
عَزَّ وَجَلَّ - لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا
يَقُولُونَ لَهُ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ يَا رَبَّنَا .
فَيَقُولُ : لِمَ ؟ فَيَقُولُونَ رَجَوْنَا عَفْوَك
وَمَغْفِرَتَك ، فَيَقُولُ : قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي } .
وَالشَّيْخَانِ : { قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي } الْحَدِيثَ .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : {
حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ : { إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ
بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ
} .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ { سَمِعَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ يَقُولُ : لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ
بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - }
.
وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ
؛ { قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ
خَيْرًا فَلَهُ ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَمَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -
بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ :
أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنًا ، فَقَالَ اللَّهُ -
عَزَّ وَجَلَّ - رُدُّوهُ ، أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } .
وَالْبَغَوِيُّ : { إنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ حُسْنُ
الظَّنِّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ
- ، يَقُولُ
اللَّهُ لِعِبَادِهِ أَنَا عِنْدَ ظَنِّك بِي } .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ
وَهُوَ ظَاهِرٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي عَلِمْته مِمَّا
ذُكِرَ ، بَلْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ آنِفًا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ
، بَلْ جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ .
الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالثَّانِيَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْقُنُوطُ مِنْ
رَحْمَتِهِ أَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ
الظَّنِّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ
- } .
وَقَالَ - عَزَّ قَائِلًا : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ
} .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ
لِلْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ هُوَ مَا وَقَعَ لِلْجَلَالِ الْبُلْقِينِيِّ
وَغَيْرِهِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ مِنْ التَّلَازُمِ
، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : فِي مَعْنَى الْإِيَاسِ الْقُنُوطُ ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْهُ لِلتَّرَقِّي إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى :
{ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } انْتَهَى ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا
أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ أَبْلَغُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَأْسٌ ، وَقُنُوطٌ ،
وَزِيَادَةٌ لِتَجْوِيزِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ لَا تَلِيقُ
بِكَرَمِهِ وُجُودِهِ .
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ -
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَالَ : أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ
، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَفِي
تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ .
فَإِنْ قُلْت : يُنَافِي هَذَا إطْبَاقُ أَئِمَّتِنَا
عَلَى أَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَنْدُوبٌ لِلْمَرِيضِ ،
وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّحِيحِ ، فَقِيلَ الْأَوْلَى لَهُ تَغْلِيبُ خَوْفِهِ عَلَى
رَجَائِهِ .
وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى
الْمُهَذَّبِ : الْأَوْلَى لَهُ اسْتِوَاؤُهُمَا .
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : إنْ أَمِنَ دَاءَ الْقُنُوطِ
فَالرَّجَاءُ أَوْلَى ، أَوْ أَمِنَ الْمَكْرَ فَالْخَوْفُ أَوْلَى .
قُلْت :
الْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا : شَخْصٌ
يَجُوزُ وُقُوعُ الرَّحْمَةِ لَهُ وَالْعَذَابُ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَعَرَّضَ
لَهُ الْفُقَهَاءُ ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا نُدِبَ لَهُ تَغْلِيبُ جَانِبِ الرَّجَاءِ
، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا اخْتَلَفُوا فِيهِ
كَمَا رَأَيْت .
ثَانِيهِمَا :
شَخْصٌ أَيِسَ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ
الرَّحْمَةِ لَهُ مَعَ إسْلَامِهِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَلَامُنَا هُنَا فِيهِ
، فَهَذَا الْيَأْسُ كَبِيرَةٌ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ النُّصُوصِ
الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا ، ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ
يَنْضَمُّ إلَيْهِ حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ ، وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى
عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ ، وَهُوَ الْقُنُوطُ بِحَسَبِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ
سِيَاقُ ( فَهُوَ يَئُوسٌ قُنُوطٌ
) .
وَتَارَةً يَنْضَمُّ إلَيْهِ أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ
وُقُوعِ رَحْمَتِهِ لَهُ يُشَدَّدُ عَذَابُهُ كَالْكُفَّارِ ، وَهَذَا هُوَ
الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ هُنَا ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ .
الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : تَعَلُّمُ
الْعِلْمِ لِلدُّنْيَا ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ
وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ
الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَمَرَّ فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ
، وَفِيهِ : { وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ
فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْت فِيهَا ؟
قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيك الْقُرْآنَ قَالَ :
كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّك تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ وَقَرَأْتَ لِيُقَالَ :
قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ
فِي النَّارِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَابْنُ أَبِي
الدُّنْيَا وَالْحَاكِمُ شَاهِدًا وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ
لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ
بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ } .
وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ : { مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ
لِيُمَارِيَ بِهِ أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ
النَّاسِ إلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ
} .
وَبِلَفْظِ : { مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ
بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ
النَّاسِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ جَهَنَّمَ
} .
وَابْنَ مَاجَهْ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَنْ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا
وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ شَذَّ فِيهِ : { لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا
بِهِ الْعُلَمَاءَ وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ وَلَا تَحْبُرُوا بِهِ
الْمَجَالِسَ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ } .
وَصَحَّ بِسَنَدٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ .
: { مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ
أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ
} .
وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { إنَّ
أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ
وَيَقُولُونَ : نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ
وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا كَمَا لَا يُجْتَنَى
مِنْ الْقَتَادِ إلَّا الشَّوْكُ } كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ لَا كَمَا
قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ كَأَنَّهُ يَعْنِي الْخَطَايَا .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلَامِ
لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوْ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ
يَكُونَ فِيهِ انْقِطَاعٌ .
وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا :
{ كَيْفَ بِكُمْ إذَا أَتَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ
فِيهَا الْكَبِيرُ وَتُتَّخَذُ سُنَّةٌ فَإِنْ غُيِّرَتْ يَوْمًا قِيلَ هَذَا مُنْكَرٌ .
قَالُوا وَمَتَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : إذَا قَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ
، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ ، وَكَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ
، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ } .
وَرُوِيَ مَوْقُوفًا أَيْضًا : أَنَّ عَلِيًّا ذَكَرَ فِتَنًا
تَكُونُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَتَى ذَلِكَ يَا عَلِيُّ
؟ قَالَ : { إذَا تُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ ، وَتُعُلِّمَ الْعِلْمُ لِغَيْرِ
الْعَمَلِ وَالْتُمِسَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً غَيْرَ الرِّيَاءِ
السَّابِقِ هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ
وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى مَا فِي هَذَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْخَاصِّ
فَأَفْرَدُوهُ لِذَلِكَ ، وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى أَنَّ تِلْكَ تَشْمَلُ هَذِهِ
وَغَيْرَهَا فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : كَتْمُ
الْعِلْمِ ) قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى ، وَقِيلَ فِي الْيَهُودِ لِكَتْمِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ ، وَقِيلَ : إنَّهَا عَامَّةٌ
، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ
السَّبَبِ ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ
بِالْعِلِّيَّةِ ، وَكِتْمَانُ الدِّينِ يُنَاسِبُ اسْتِحْقَاقَ اللَّعْنِ ؛ فَوَجَبَ
عُمُومُ الْحُكْمِ عِنْدَ عُمُومِ الْوَصْفِ ، وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنْ
الصَّحَابَةِ بِالْعُمُومِ كَعَائِشَةَ فَإِنَّهَا اسْتَدَلَّتْ بِالْآيَةِ عَلَى
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُمْ شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ
إلَيْهِ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِأَنَّهُ لَوْلَا هَذِهِ
الْآيَةُ وَنَحْوُهَا مَا كَثُرَ الْحَدِيثُ ، وَالْكَتْمُ تَرْكُ إظْهَارِ
الشَّيْءِ الْمُحْتَاجِ إلَى إظْهَارِهِ ، وَنَظِيرُهَا { إنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا
قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلَّا النَّارَ وَلَا
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ
فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } وَنَظِيرُهَا أَيْضًا : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا
يَشْتَرُونَ } فَهَاتَانِ ، وَإِنْ كَانَتَا فِي الْيَهُودِ أَيْضًا
لِكَتْمِهِمْ صِفَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهَا إلَّا أَنَّ
الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَقَرَّرَ : وَالْبَيِّنَاتِ : مَا أُنْزِلَ
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ
الْكُتُبِ وَالْوَحْيِ .
وَالْهُدَى :
الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ ، وَمِنْ
بَعْدِ : ظَرْفٌ لَيَكْتُمُونَ ، لَا لَأَنْزَلْنَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى .
قِيلَ
: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ
بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا
إلَيْهَا ثُمَّ تَرَكَهَا أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ الْحَاجَةِ
إلَيْهِ فَقَدْ لَحِقَهُ هَذَا الْوَعِيدُ انْتَهَى ؛ وَاللَّعْنَةُ لُغَةً
الْإِبْعَادُ ، وَشَرْعًا الْإِبْعَادُ مِنْ الرَّحْمَةِ ، اللَّاعِنُونَ :
دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا تَقُولُ : مُنِعْنَا الْقَطْرَ لِمَعَاصِي بَنِي
آدَمَ ، وَلِإِدْرَاكِهَا ذَلِكَ جُمِعَتْ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ جَمْعَ مَنْ
يَعْقِلُ نَحْوُ { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } {
أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْجِنَّ ، وَالْإِنْسَ الْمُؤْمِنِينَ
كُلَّهُمْ ، الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ ، أَقْوَالٌ .
وَصَوَّبَ الزَّجَّاجُ أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ
وَالْمُؤْمِنُونَ .
وَرُدَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَصٍّ
وَلَمْ يُوجَدْ ، وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ خَبَرٌ فِي ابْنِ
مَاجَهْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ اللَّاعِنُونَ
بِدَوَابِّ الْأَرْضِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ : هُمْ جَمِيعُ عِبَادِ اللَّهِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى
أَنَّ هَذَا الْكِتْمَانَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ
فِيهِ اللَّعْنَ ، وَالنَّبْذَ وَرَاءَ الظَّهْرِ كِنَايَةً عَنْ الْإِعْرَاضِ
الشَّدِيدِ ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنْ سَفَلَتِهِمْ
بِرِئَاسَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ ، { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } مَعْنَاهُ قَبُحَ
شِرَاؤُهُمْ وَخَسِرُوا فِيهِ .
وَجَاءَ فِي الْكَتْمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي
السُّنَّةِ .
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
وَابْنَا مَاجَهْ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ
بِنَحْوِهِ ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ
فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ : { مَا مِنْ
رَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَيَكْتُمُهُ إلَّا أُتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا
بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } .
وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { مَنْ سُئِلَ عَنْ
عِلْمٍ فَكَتَمَهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ ،
وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ شَطْرُهُ الْأَوَّلُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ ؛ وَخَبَرُ { مَنْ
كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } ،
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَجَابِرٍ
وَأَنَسٍ وَابْنَيْ عُمَرَ وَمَسْعُودٍ وَعَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ وَعَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ
وَغَيْرِهِمْ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِزِيَادَةِ { مِمَّا يَنْفَعُ
اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ فِي الدِّينِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ : { إذَا لَعَنَ
آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَمَنْ كَتَمَ حَدِيثًا فَقَدْ كَتَمَ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ابْنُ أَبِي
لَهِيعَةَ ، { مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ
كَمَثَلِ الَّذِي يَكْنِزُ الْكَنْزَ ثُمَّ لَا يُنْفِقُ مِنْهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا
وَاحِدًا اُخْتُلِفَ فِيهِ : { نَاصِحُوا فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ خِيَانَةَ
أَحَدِكُمْ فِي عِلْمِهِ أَشَدُّ مِنْ خِيَانَتِهِ فِي مَالِهِ ، وَإِنَّ اللَّهَ
- عَزَّ وَجَلَّ - مُسَائِلُكُمْ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ
مَعْرُوفٍ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ،
عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { خَطَبَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خُطْبَةً فَأَثْنَى عَلَى
طَوَائِفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا
يُفَقِّهُونَ جِيرَانَهُمْ وَلَا يُعَلِّمُونَهُمْ وَلَا
يَأْمُرُونَهُمْ وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ ، وَمَا بَالُ
أَقْوَامٍ لَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَلَا يَتَفَقَّهُونَ وَلَا
يَتَّعِظُونَ ، وَاَللَّهِ لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ ،
وَيُفَقِّهُونَهُمْ ، وَيَعِظُونَهُمْ ، وَيَأْمُرُونَهُمْ ، وَلَيَتَعَلَّمَنَّ
قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَيَتَفَقَّهُونَ وَيَتَّعِظُونَ أَوْ لَأُعَاجِلَنَّهُمْ
الْعُقُوبَةَ ثُمَّ نَزَلَ } ، فَقَالَ قَوْمٌ : { مَنْ تَرَوْنَ عَنَى بِهَؤُلَاءِ
؟ قَالُوا : الْأَشْعَرِيِّينَ هُمْ قَوْمٌ فُقَهَاءُ وَلَهُمْ جِيرَانٌ جُفَاةٌ
مِنْ أَهْلِ الْمِيَاهِ وَالْأَعْرَابِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ الْأَشْعَرِيِّينَ
فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا يَا
رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ بِخَيْرٍ وَذَكَرْتَنَا بِشَرٍّ فَمَا بَالُنَا ؟
فَقَالَ : لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ وَلِيُفَقِّهْنَهُمْ
وَلَيَعِظُنَّهُمْ ، وَلِيَأْمُرْنَهُمْ وَلِيَنْهَوْهُمْ وَلَيَتَعَلَّمُنَّ
قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ ، وَيَتَفَقَّهُونَ ، وَيَتَّعِظُونَ أَوْ
لَأُعَاجِلَنَّهُمْ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَنَعِظُ غَيْرَنَا ؟ فَأَعَادَ قَوْلَهُ عَلَيْهِمْ ، وَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ :
أَنَعِظُ غَيْرَنَا ؟ فَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَالُوا : أَمْهِلْنَا سَنَةً فَأَمْهَلَهُمْ
سَنَةً لِيُفَقِّهُوهُمْ وَيُعَلِّمُوهُمْ وَيَعِظُوهُمْ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } الْآيَةَ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ
بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى مَا
ذَكَرْته مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى
إطْلَاقِهِ فَإِنَّ الْكَتْمَ قَدْ يَجِبُ وَالْإِظْهَارَ قَدْ يَجِبُ وَقَدْ
يُنْدَبُ ، فَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ عَقْلُ الطَّالِبِ ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ
مِنْ إعْلَامِهِ بِهِ فِتْنَةٌ يَجِبُ الْكَتْمُ عَنْهُ ، وَفِي غَيْرِهِ إنْ
وَقَعَ - وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ فِي حُكْمِهِ - وَجَبَ الْإِعْلَامُ ،
وَإِلَّا نُدِبَ مَا لَمْ
يَكُنْ وَسِيلَةً لِمَحْظُورٍ .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ التَّعْلِيمَ وَسِيلَةٌ إلَى
الْعِلْمِ فَيَجِبُ فِي الْوَاجِبِ عَيْنًا فِي الْعَيْنِ وَكِفَايَةً فِيمَا هُوَ
عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَيُنْدَبُ فِي الْمَنْدُوبِ كَالْعَرُوضِ وَيَحْرُمُ فِي
الْحَرَامِ كَالسِّحْرِ وَالشَّعْبَذَةِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ
الْكَافِرِ قُرْآنًا وَلَا عِلْمًا حَتَّى يُسْلِمَ ، وَلَا تَعْلِيمُ
الْمُبْتَدِعِ الْجَدَلَ وَالْحِجَاجَ لِيُحَاجَّ بِهِ أَهْلَ الْحَقِّ ، وَلَا
تَعْلِيمُ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ حُجَّةً يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَهُ ، وَلَا
السُّلْطَانِ تَأْوِيلًا يَتَطَرَّقُ بِهِ إلَى إضْرَارِ الرَّعِيَّةِ ، وَلَا
نَشْرُ الرُّخَصِ فِي السُّفَهَاءِ يَتَّخِذُونَهَا طَرِيقًا لِارْتِكَابِ
الْمَحْظُورَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَمْنَعُوا
الْحِكْمَةَ أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ وَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا
فَتَظْلِمُوهَا } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
تُعَلِّقُوا الدُّرَّ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ } يُرِيدُ تَعْلِيمَ الْفِقْهِ مَنْ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ انْتَهَى
.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى الْكَافِرِ
بَعِيدٌ مِنْ قَوَاعِدِنَا لِأَنَّ الْمَرْجُوَّ إسْلَامُهُ ؛ يَجُوزُ تَعْلِيمُهُ
الْقُرْآنَ عِنْدَنَا فَأَوْلَى الْعِلْمُ ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ
ذَكَرَهُمَا وَارِدَانِ ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ : { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ
عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ
الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ } .
( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : عَدَمُ الْعَمَلِ
بِالْعِلْمِ ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا
يَنْفَعُ ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ، وَمِنْ
دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا
} .
وَالشَّيْخَانِ : { يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ بِهَا
كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ
فَيَقُولُونَ : يَا فُلَانُ مَا شَأْنُك ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ فَيَقُولُ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الشَّرِّ وَآتِيهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَقَالَ غَرِيبٌ : {
الزَّبَانِيَةُ أَسْرَعُ إلَى فَسَقَةِ الْقُرَّاءِ مِنْهُمْ إلَى عَبَدَةِ
الْأَوْثَانِ فَيَقُولُونَ يُبْدَأُ بِنَا قَبْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ؟
فَيُقَالُ لَهُمْ لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَلِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ غَرَابَتِهِ
شَاهِدٌ صَحِيحٌ وَهُوَ مَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ :
{ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ
لَهُ قَارِئٌ } وَفِي آخِرِهِ : { أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ نَفَرٍ أَوَّلُ
خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ إسْنَادُهُ لَيْسَ
بِالْقَوِيِّ : { مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ : { لَا
تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ
أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ
اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فِي الْمُتَابَعَاتِ :
{ لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ
خَمْسٍ : عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ،
وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ
أَنْفَقَهُ ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ : { إنَّ أُنَاسًا
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَنْطَلِقُونَ إلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ
فَيَقُولُونَ بِمَ دَخَلْتُمْ النَّارَ فَوَاَللَّهِ مَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ
إلَّا بِمَا تَعَلَّمْنَا مِنْكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ إنَّا كُنَّا نَقُولُ وَلَا
نَفْعَلُ } وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا بِإِسْنَادٍ
جَيِّدٍ عَنْ الْحَسَنِ : { مَا مِنْ عَبْدٍ يَخْطُبُ خُطْبَةً إلَّا اللَّهُ - عَزَّ
وَجَلَّ - سَائِلُهُ عَنْهَا - أَظُنُّهُ قَالَ مَا أَرَادَ بِهَا } .
قَالَ جَعْفَرٌ : كَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ إذَا
حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى حَتَّى يَنْقَطِعَ ثُمَّ يَقُولُ : تَحْسِبُونَ
أَنَّ عَيْنِي تَقَرُّ بِكَلَامِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ -
عَزَّ وَجَلَّ - سَائِلِي عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا أَرَدْتُ بِهِ .
وَالْبَزَّارُ وَهُوَ غَرِيبٌ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ
اغْفِرْ ، سَلْ عَنْ الْخَيْرِ وَلَا تَسَلْ عَنْ الشَّرِّ ، شِرَارُ النَّاسِ
شِرَارُ الْعُلَمَاءِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ
النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ
وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ } الْحَدِيثَ ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي سَنَدِهَا مَنْ تَكَلَّمَ
فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ : { كُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ
بِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَشَدُّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ } .
وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ
يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حَيٍّ مِنْ قَيْسٍ أُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ
الْإِسْلَامِ ، قَالَ : فَإِذَا هُمْ قَوْمٌ كَأَنَّهُمْ الْإِبِلُ الْوَحْشِيَّةُ
طَامِحَةٌ أَبْصَارُهُمْ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إلَّا شَاةٌ أَوْ بَعِيرٌ ، فَانْصَرَفْتُ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا عَمَّارُ
مَا عَمِلْتَ ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْقَوْمِ وَأَخْبَرْتُهُ
بِمَا فِيهِمْ مِنْ السَّهْوَةِ فَقَالَ : يَا عَمَّارُ
أَلَا أُخْبِرُك بِأَعْجَبَ مِنْهُمْ ؟ قَوْمٌ عَلِمُوا بِمَا جَهِلَ أُولَئِكَ
ثُمَّ سَهَوْا كَسَهْوِهِمْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ الْأَعْوَرُ ، وَثَّقَهُ
ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ : { إنِّي لَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِنًا وَلَا
مُشْرِكًا ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْجِزُهُ إيمَانُهُ وَأَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ
كُفْرُهُ ، وَلَكِنْ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ مُنَافِقًا عَلِيمَ اللِّسَانِ ،
يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ ، وَيَعْمَلُ مَا تُنْكِرُونَ } وَصَحَّ : { إنَّ
أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ } .
وَصَحَّ عَنْ ابْنٍ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ : { إنِّي
لَأَحْسِبُ الرَّجُلَ يَنْسَى الْعِلْمَ كَمَا تَعَلَّمَهُ لِلْخَطِيئَةِ
يَعْمَلُهَا } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَنْصُورِ
بْنِ زَاذَانَ قَالَ : { نُبِّئْت أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ
يَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ فَيُقَالُ لَهُ وَيْلَكَ مَا كُنْتَ
تَعْمَلُ مَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ حَتَّى اُبْتُلِينَا بِك
وَبِنَتْنِ رِيحِك ؟ فَيَقُولُ كُنْتُ عَالِمًا فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ .
فَإِنْ قُلْت : التَّغْلِيظُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ
إنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ
عَدَمِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ ، وَلَوْ فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ ، وَحِينَئِذٍ
فَلَوْ سُلِّمَ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ لَمْ يَحْسُنْ عَدُّهُ
كَبِيرَةً مُغَايِرَةً لِنَحْوِ تَرْكِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا
مِمَّا يَأْتِي .
قُلْتُ : يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ عَدُّهُ ، وَإِنْ لَمْ
أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَعَ الْعِلْمِ أَفْحَشُ مِنْهَا
مَعَ الْجَهْلِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَيْضًا تِلْكَ الْأَحَادِيثُ ، وَنَظِيرُ
ذَلِكَ مَا يَأْتِي فِي الْمَعْصِيَةِ بِحَرَمِ مَكَّةَ وَنَحْوِهِ مِنْ أَنَّ شَرَفَهُ
اقْتَضَى فُحْشَ الْمَعْصِيَةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ، فَكَذَلِكَ
الْعَالِمُ إذَا
أَفْحَشَ فِي فِعْلِ الصَّغَائِرِ فَلَا بُعْدَ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ كَبِيرَةً بِوَاسِطَةِ مَا أُوتِيَهُ مِنْ تِلْكَ
الْمَعَارِفِ الْمُقْتَضِيَةِ لِانْزِجَارِهِ عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ فَضْلًا عَنْ
الْمُحَرَّمَاتِ .
الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ :
الدَّعْوَى فِي الْعِلْمِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ زَهْوًا
وَافْتِخَارًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا ضَرُورَةٍ ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي
الْأَوْسَطِ وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عُمَرَ وَأَبُو
يَعْلَى ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَظْهَرُ الْإِسْلَامُ حَتَّى
تَخْتَلِفَ التُّجَّارُ فِي الْبَحْرِ وَحَتَّى تَخُوضَ الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ، ثُمَّ يَظْهَرُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَقُولُونَ مَنْ أَقْرَأُ
مِنَّا ؟ مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا ؟ مَنْ أَفْقَهُ مِنَّا ؟ ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ
هَلْ فِي أُولَئِكَ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ
: أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ الْحَافِظُ
الْمُنْذِرِيُّ ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ
بِمَكَّةَ مِنْ اللَّيْلِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
فَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَكَانَ أَوَّاهًا .
فَقَالَ : اللَّهُمَّ نَعَمْ وَحَرَّضْتَ وَجَهَدْتَ
وَنَصَحْتَ .
فَقَالَ :
لَيَظْهَرَنَّ الْإِيمَانُ حَتَّى يَرُدَّ الْكُفْرَ
إلَى مَوَاطِنِهِ ، وَلَتُخَاضُ الْبِحَارُ بِالْإِسْلَامِ ، وَلَيَأْتِيَنَّ
عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَعَلَّمُونَ فِيهِ الْقُرْآنَ ؛ يَتَعَلَّمُونَهُ وَيَقْرَءُونَهُ
ثُمَّ يَقُولُونَ : قَدْ قَرَأْنَا وَعَلِمْنَا فَمَنْ ذَا الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
مِنَّا ؟ ، فَهَلْ فِي أُولَئِكَ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَمَنْ أُولَئِكَ ؟ قَالَ أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ
جَاهِلٌ } .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً بِالْقُيُودِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا
فِيهِ هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ قِيَاسِ
كَلَامِهِمْ لِأَنَّهُمْ إذَا عَدُّوا إسْبَالَ نَحْوِ الْإِزَارِ خُيَلَاءَ
كَبِيرَةً ،
فَأَوْلَى أَنْ يَعُدُّوا هَذَا لِأَنَّهُ أَقْبَحُ
وَأَفْحَشُ ، وَقِيَاسُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ كَاَلَّذِي ذَكَرْتُهُ ظَاهِرٌ
أَيْضًا ، وَقَوْلِي : بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا ضَرُورَةٍ احْتَرَزْتُ بِهِ عَمَّا
لَوْ دَخَلَ بَلَدًا لَا يَعْرِفُونَ عِلْمَهُ وَطَاعَتَهُ ، فَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ
ذَلِكَ لَهُمْ قَصْدًا لَأَنْ يُقْبِلُوا عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُوا بِهِ وَمِنْهُ
نَحْوُ قَوْلِ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ
إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } وَكَذَا لَوْ أَنْكَرَ عِلْمَهُ مُعَانِدٌ أَوْ جَاهِلٌ ،
فَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ عِلْمَهُ وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ إرْغَامًا لِأَنْفِ ذَلِكَ
الْجَاهِلِ الْعَنِيدِ حَتَّى يُقْبِلَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُوا
بِعُلُومِهِ .
الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : إضَاعَةُ
نَحْوِ الْعُلَمَاءِ وَالِاسْتِخْفَافُ بِهِمْ ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ
حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا
يَسْتَخِفُّ بِهِمْ إلَّا مُنَافِقٌ : ذُو الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَذُو
الْعِلْمِ ، وَإِمَامٌ مُقْسِطٌ
} .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي
مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ
صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا
لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَعَلَّمُونَ مِنْهُ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ : {
اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكْنِي زَمَانٌ أَوْ لَا تُدْرِكُوا زَمَانًا لَا يُتْبَعُ
فِيهِ الْعَلِيمُ وَلَا يُسْتَحْيَا فِيهِ مِنْ الْحَلِيمِ ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ
الْأَعَاجِمِ ، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ الْعَرَبِ } .
وَصَحَّ : { الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ
الْكَبِيرَ وَيَرْحَمْ الصَّغِيرَ وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنْ
الْمُنْكَرِ } .
وَصَحَّ أَيْضًا .
{ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا
وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا }
.
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْحَدِيثِ
الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ قِيَاسًا ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ
، لِأَنَّهُمْ إذَا فَرَّقُوا بَيْنَ نَحْوِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْغِيبَةِ
عَلَى مَا يَأْتِي فَكَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِي نَحْوِ الِاسْتِخْفَافِ ،
وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي أَذِيَّةِ الْأَوْلِيَاءِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذَا ،
إذْ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ هُمْ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ .
خَاتِمَةٌ : فِي سَرْدِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ أَوْ
حَسَنَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ .
إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ
خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ .
أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْفِقْهُ ، وَأَفْضَلُ الدِّينِ
الْوَرَعُ } .
وَفِي حَدِيثٍ سَنَدُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْجُمْهُورُ
عَلَى قَبُولِهِ : .
{ فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ ،
وَخَيْرُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا
سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ
أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ
لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى
الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ .
وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ
الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ
الْأَنْبِيَاءِ ، إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا
، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ أَوْفَرَ }
وَوَقَعَ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ .
قَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ
جِئْت أَطْلُبُ الْعِلْمَ قَالَ : مَرْحَبًا بِطَالِبِ الْعِلْمِ ، إنَّ طَالِبَ
الْعِلْمِ لَتَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ مَحَبَّتِهِمْ لِمَا
يَطْلُبُ .
يَا أَبَا ذَرٍّ لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ ، وَلَأَنْ
تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ
خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ .
الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا
ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا .
إنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ
وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا نَشْرَهُ أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ
أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ
بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ
وَحَيَاتِهِ وَتَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ .
خَيْرُ مَا يَخْلُفُ الرَّجُلُ مِنْ بَعْدِهِ ثَلَاثٌ :
وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ
، وَصَدَقَةٌ
تَجْرِي يَبْلُغُهُ أَجْرُهَا ، وَعِلْمٌ يَعْمَلُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ .
عُلَمَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلَانِ : رَجُلٌ آتَاهُ
اللَّهُ عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا وَلَمْ
يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا فَذَلِكَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيتَانُ الْبَحْرِ وَدَوَابُّ
الْبَرِّ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ عِلْمًا فَبَخِلَ
بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا وَاشْتَرَى بِهِ ثَمَنًا فَذَلِكَ
يُلْجَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ وَيُنَادِي مُنَادٍ : هَذَا
الَّذِي آتَاهُ عِلْمًا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ
طَمَعًا وَاشْتَرَى بِهِ ثَمَنًا وَكَذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ الْحِسَابُ .
فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى
أَدْنَاكُمْ .
إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ
وَأَهْلَ الْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ فِي
الْمَاءِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ .
يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
إنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِلْمِي فِيكُمْ إلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ
أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ فِيكُمْ وَلَا أُبَالِي } .
وَإِضَافَةُ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ اللَّذَيْنِ فِيهِمْ
إلَيْهِ - تَعَالَى - صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا عَامِلِينَ مُخْلِصِينَ .
{ الْعِلْمُ عِلْمَانِ : عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَلِكَ
الْعِلْمُ النَّافِعُ ، وَعِلْمٌ فِي اللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى
ابْنِ آدَمَ .
مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إلَّا أَنْ
يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمَهُ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حَجُّهُ .
مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ .
مَنْ غَدَا يُرِيدُ الْعِلْمَ يَتَعَلَّمُهُ لِلَّهِ
فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابًا إلَى الْجَنَّةِ وَفَرَشَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ
أَكْتَافَهَا وَصَلَّتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ .
وَلِلْعَالِمِ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ
الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى أَصْغَرِ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ .
وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ .
=--------
ج2. كتاب : الزواجر عن اقتراف الكبائر أحمد بن محمد بن
حجر المكي الهيتمي
وَأَسْخَطَهُمْ عَلَيْهِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ رِضَاهُمْ
غَايَةٌ لَا تُدْرَكُ وَمَا أَرْضَى قَوْمًا إلَّا أَغْضَبَ آخَرِينَ ، ثُمَّ
أَيُّ غَرَضٍ لَهُ فِي مَدْحِهِمْ وَإِيثَارِهِ عَلَى ذَمِّ اللَّهِ وَغَضَبِهِ
مَعَ أَنَّ مَدْحَهُمْ لَا يُفِيدُهُ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ ضُرًّا ، وَإِنَّمَا
ذَلِكَ اللَّهُ وَحْدَهُ فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لَأَنْ يُقْصَدَ وَحْدَهُ إذْ هُوَ
الْمُسَخِّرُ لِلْقُلُوبِ بِالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ فَلَا رَازِقَ وَلَا
مُعْطِيَ وَلَا ضَارَّ وَلَا نَافِعَ إلَّا هُوَ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَلَا يَخْلُو
الطَّامِعُ فِي الْخَلْقِ مِنْ الذُّلِّ وَالْخَيْبَةِ أَوْ مِنْ الْمِنَّةِ
وَالْمَهَانَةِ ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِرَجَاءٍ
كَاذِبٍ وَوَهْمٍ فَاسِدٍ قَدْ يُصِيبُ وَقَدْ يُخْطِئُ ، عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ
اطَّلَعُوا عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ الرِّيَاءِ لَطَرَدُوهُ وَمَقَتُوهُ
وَذَمُّوهُ وَأَحْرَمُوهُ ، وَمَنْ نَظَرَ لِذَلِكَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ
فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ فِي الْخَلْقِ وَأَقْبَلَ عَلَى الصِّدْقِ ، فَهَذَا دَوَاءٌ عِلْمِيٌّ
وَثَمَّ دَوَاءٌ عَمَلِيٌّ وَهُوَ أَنْ يَتَعَوَّدَ إخْفَاءَ الْعِبَادَاتِ
كَإِخْفَاءِ الْفَوَاحِشِ حَتَّى يَقْنَعَ قَلْبُهُ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَاطِّلَاعِهِ
عَلَيْهِ وَلَا تُنَازِعَهُ نَفْسُهُ إلَى طَلَبِ عِلْمِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى
بِهِ .
وَيُكَلَّفُ الْإِخْفَاءَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ شَقَّ
ابْتِدَاءً ، لَكِنْ مَنْ صَبَرَ عَلَيْهِ مُدَّةً بِالتَّكَلُّفِ سَقَطَ عَنْهُ
ثِقَلُهُ وَأَمَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ فَضْلِهِ مَا يَكُونُ سَبَبًا
لِرُقِيِّهِ { إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنْفُسِهِمْ } فَمِنْ الْعَبْدِ الْمُجَاهَدَةُ وَقَرْعُ بَابِ الْكَرِيمِ
، وَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْهِدَايَةُ وَالْفَتْحُ إنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ : { ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ
لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } .
( خَاتِمَةٌ فِي الْإِخْلَاصِ ) لَمَّا تَكَلَّمْنَا
بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ وَإِمْدَادِهِ وَمَعُونَتِهِ وَتَوْفِيقِهِ عَلَى
هَذِهِ الْكَبِيرَةِ الْعَظِيمَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِمَّا يَحْتَاجُ الْخَلْقُ
إلَيْهِ ، وَبَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْضُوعِ
الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى اتِّسَاعِ كَلَامِ
النَّاسِ فِي الرِّيَاءِ وَتَوَابِعِهِ سِيَّمَا الْأَحْيَاءُ مُخْتَصَرًا جِدًّا
؛ أَرَدْنَا أَنْ نَخْتِمَ الْكَلَامَ فِيهَا بِذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ الْآيَاتِ
وَالْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مَدْحِ الْإِخْلَاصِ وَثَوَابِ الْمُخْلِصِينَ
وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ، لِيَكُونَ ذَلِكَ بَاعِثًا لِلْخَلْقِ عَلَى
تَحَرِّي الْإِخْلَاصِ وَمُبَاعَدَةِ الرِّيَاءِ إذْ الْأَشْيَاءُ لَا تُعْرَفُ كَمَالًا
وَضِدَّهُ إلَّا بِأَضْدَادِهَا
.
قَالَ تَعَالَى : { وَمَا أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ
أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ
} .
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ
هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ،
وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا
فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ
} .
وَأَخْرَجَا أَيْضًا : { يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ
فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنْ الْأَرْضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ .
قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُخْسَفُ
بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ ؟
قَالَ : يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ
} وَأَخْرَجَا أَيْضًا : { وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ } .
وَأَخْرَجَا أَيْضًا : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً
وَيُقَاتِلُ رِيَاءً ؛ أَيُّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ
قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا
فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، وَفِي نُسْخَةٍ {
فَذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ : { نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ
خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ ، وَعَمَلُ الْمُنَافِقِ خَيْرٌ مِنْ نِيَّتِهِ ، وَكُلٌّ
يَعْمَلُ عَلَى نِيَّتِهِ فَإِذَا عَمِلَ الْمُؤْمِنُ عَمَلًا نَارَ فِي قَلْبِهِ
نُورٌ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ : { أَفْضَلُ الْعَمَلِ
النِّيَّةُ الصَّادِقَةُ } .
وَابْنُ الْمُبَارَكِ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي
الدُّنْيَا عَلَى نِيَّةِ الْآخِرَةِ وَأَبَى أَنْ يُعْطِيَ الْآخِرَةَ عَلَى
نِيَّةِ الدُّنْيَا } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { النِّيَّةُ الْحَسَنَةُ تُدْخِلُ
صَاحِبَهَا الْجَنَّةَ } .
وَالْخَطِيبُ : { النِّيَّةُ الصَّادِقَةُ مُعَلَّقَةٌ
بِالْعَرْشِ فَإِذَا صَدَقَ الْعَبْدُ بِنِيَّتِهِ تَحَرَّكَ الْعَرْشُ فَيُغْفَرُ
لَهُ } .
وَمُسْلِمٌ :
{ الْعَجَبُ إنَّ نَاسًا مِنْ أُمَّتِي يَؤُمُّونَ
الْبَيْتَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ - أَيْ وَهُوَ الْمَهْدِيُّ - قَدْ لَجَأَ
بِالْبَيْتِ حَتَّى إذَا كَانُوا بِالْبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ ، فِيهِمْ الْمُسْتَبْصِرُ
وَالْمَجْبُورُ وَابْنُ السَّبِيلِ يَهْلِكُونَ مَهْلَكًا وَاحِدًا وَيَصْدُرُونَ
مَصَادِرَ شَتَّى يَبْعَثُهُمْ اللَّهُ عَلَى نِيَّاتِهِمْ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ : { إذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ
عَذَابًا أَصَابَ الْعَذَابُ مَنْ كَانَ فِيهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى
نِيَّاتِهِمْ } .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْحَاكِمُ : {
أَخْلِصْ دِينَك يَكْفِك الْقَلِيلُ مِنْ الْعَمَلِ } .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ : { أَخْلِصُوا أَعْمَالَكُمْ
لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ إلَّا مَا خَلَصَ لَهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَخْلِصُوا
أَعْمَالَكُمْ لِلَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْأَعْمَالِ إلَّا مَا
خَلَصَ لَهُ ، وَلَا تَقُولُوا هَذَا لِلَّهِ وَلِلرَّحِمِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -
لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ
} : وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَخْلِصُوا عِبَادَةَ اللَّهِ وَأَقِيمُوا خُمُسَكُمْ
وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ طَيِّبَةً بِهَا أَنْفُسُكُمْ
وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَحُجُّوا بَيْتَ رَبِّكُمْ
تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ }
.
وَابْنُ عَدِيٍّ وَالدَّيْلَمِيُّ : { اعْمَلْ لِوَجْهٍ
وَاحِدٍ } - أَيْ لِلَّهِ وَحْدَهُ - { يَكْفِكَ الْوُجُوهَ كُلُّهَا } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { الْأَعْمَالُ كَالْوِعَاءِ إذَا
طَابَ أَسْفَلُهُ طَابَ أَعْلَاهُ
} .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ الْأَعْمَالَ
بِخَوَاتِيمِهَا كَالْوِعَاءِ إذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ ، وَإِذَا
خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ أَسْفَلُهُ }
.
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ : { إنَّ مَا بَقِيَ مِنْ
الدُّنْيَا بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ إنَّمَا مَثَلُ أَعْمَالِ أَحَدِكُمْ كَمَثَلِ الْوِعَاءِ
إذَا طَابَ أَعْلَاهُ طَابَ أَسْفَلُهُ ، وَإِذَا خَبُثَ أَعْلَاهُ خَبُثَ
أَسْفَلُهُ } .
وَالنَّسَائِيُّ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَقْبَلُ
مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ } .
وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ اللَّهَ لَا
يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَى
قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ }
.
وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ الْعَبْدَ إذَا صَلَّى فِي
الْعَلَانِيَةِ فَأَحْسَنَ ، وَصَلَّى فِي السِّرِّ فَأَحْسَنَ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذَا عَبْدِي حَقًّا
} .
وَالرَّافِعِيُّ : { إذَا صَلَّى الْعَبْدُ فِي
الْعَلَانِيَةِ فَأَحْسَنَ وَصَلَّى فِي السِّرِّ فَأَحْسَنَ قَالَ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَحْسَنَ عَبْدِي
} .
وَأَبُو يَعْلَى : { تَمَامُ الْبِرِّ أَنْ تَعْمَلَ فِي
السِّرِّ عَمَلَ الْعَلَانِيَةِ ، صَلَاةُ الرَّجُلِ تَطَوُّعًا حَيْثُ لَا
يَرَاهُ النَّاسُ تَعْدِلُ صَلَاتَهُ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ } .
وَابْنُ الْمُبَارَكِ مُرْسَلًا : { طُوبَى
لِلْمُخْلِصِينَ أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى تَنْجَلِي عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ
ظَلْمَاءَ } .
وَابْنُ حِبَّانَ : { مَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إلَى
اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ سُجُودٍ خَفِيٍّ } .
وَابْنُ حِبَّانَ : { مَا كَرِهْتَ أَنْ يَرَاهُ
النَّاسُ مِنْك فَلَا تَفْعَلْ بِنَفْسِك إذَا خَلَوْتَ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ
يَوْمًا ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ
أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ أَحَدٌ
فَلْيَفْعَلْ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { السِّرُّ أَفْضَلُ مِنْ
الْعَلَانِيَةِ وَالْعَلَانِيَةُ لِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ } ، وَفِي
رِوَايَةٍ : { وَلِمَنْ أَرَادَ الِاقْتِدَاءَ الْعَلَانِيَةُ أَفْضَلُ } .
وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ : { لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ
لَهَا بَابٌ وَلَا كُوَّةٌ لَخَرَجَ عَمَلُهُ كَائِنًا مَا كَانَ } .
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ أَحْسَنَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَمَنْ أَصْلَحَ
سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَا أَسَرَّ عَبْدٌ سَرِيرَةً إلَّا
أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ سَرِيرَةٌ
صَالِحَةٌ أَوْ سَيِّئَةٌ أَظْهَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْهَا رِدَاءً
يُعْرَفُ بِهِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ وَالْحَاكِمُ : { هَلْ
تَدْرُونَ مَنْ الْمُؤْمِنُ ؟ الْمُؤْمِنُ مَنْ لَا يَمُوتُ حَتَّى يَمْلَأَ
اللَّهُ مَسَامِعَهُ مِمَّا يُحِبُّ ، وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا اتَّقَى فِي جَوْفِ
بَيْتٍ إلَى سَبْعِينَ بَيْتًا عَلَى كُلِّ بَيْتٍ بَابٌ مِنْ حَدِيدٍ أَلْبَسَهُ
اللَّهُ رِدَاءَ عَمَلِهِ حَتَّى يَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِهِ وَيَزِيدُونَ .
قَالُوا
: كَيْفَ يَزِيدُونَ ؟ قَالَ : إنَّ التَّقِيَّ لَوْ
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزِيدَ فِي سِرِّهِ لَزَادَ ، وَكَذَلِكَ الْفَاجِرُ
يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِفُجُورِهِ وَيَزِيدُونَ لِأَنَّهُ لَوْ يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَزِيدَ فِي فُجُورِهِ لَزَادَ
} .
وَابْنُ جَرِيرٍ : { وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
مَا عَمِلَ أَحَدٌ قَطُّ سِرًّا إلَّا أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَ عَلَانِيَتِهِ
إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ } .
وَسُئِلَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مَنْ الْمُخْلِصُ ؟
فَقَالَ : الْمُخْلِصُ الَّذِي يَكْتُمُ حَسَنَاتِهِ كَمَا يَكْتُمُ سَيِّئَاتِهِ
، وَسُئِلَ آخَرُ مَا غَايَةُ الْإِخْلَاصِ ؟ قَالَ : أَنْ لَا تُحِبَّ مَحْمَدَةَ
النَّاسِ .
( الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ : الْغَضَبُ بِالْبَاطِلِ
وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ ) لَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ بَيْنَهَا تَلَازُمٌ
وَتَرَتُّبٌ إذْ الْحَسَدُ مِنْ نَتَائِجِ الْحِقْدِ ، وَالْحِقْدُ مِنْ نَتَائِجِ
الْغَضَبِ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلِذَلِكَ جَمَعْتُهَا فِي
تَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ ذَمَّ كُلٍّ يَسْتَلْزِمُ ذَمَّ الْآخَرِ إذْ ذَمُّ
الْفَرْعِ وَفَرْعِهِ يَسْتَلْزِمُ ذَمَّ الْأَصْلِ وَأَصْلِهِ وَبِالْعَكْسِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ
اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ
كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } ذَمَّ الْكُفَّارَ
بِمَا تَظَاهَرُوا بِهِ مِنْ الْحَمِيَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ الْغَضَبِ
بِالْبَاطِلِ ، وَمَدَحَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ النَّاشِئِ عَنْهَا إلْزَامُهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَأَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُهَا وَأَحَقُّ بِهَا .
وَقَالَ تَعَالَى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى
مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
} .
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ : { الْغَضَبُ مِنْ
الشَّيْطَانِ ، وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ النَّارِ ، وَالْمَاءُ يُطْفِئُ
النَّارَ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَغْتَسِلْ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَابْنُ عَسَاكِرَ : {
اجْتَنِبْ الْغَضَبَ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَقَالَ :
أَعُوذُ بِاَللَّهِ سَكَنَ غَضَبُهُ
} .
وَأَحْمَدُ : { إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { إذَا غَضِبْتَ فَاجْلِسْ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ : { إذَا
غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ ،
وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { الْغَضَبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا
وَجَدَهُ أَحَدُكُمْ قَائِمًا فَلْيَجْلِسْ ، وَإِنْ وَجَدَهُ جَالِسًا
فَلْيَضْطَجِعْ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ { إذَا غَضِبْتَ فَاقْعُدْ فَإِنْ لَمْ
يَذْهَبْ عَنْك فَاضْطَجِعْ فَإِنَّهُ سَيَذْهَبُ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { أَشَدُّكُمْ مَنْ غَلَبَ
نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَأَحْلَمُكُمْ مَنْ عَفَا
بَعْدَ الْقُدْرَةِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد : { إنَّ الْغَضَبَ مِنْ
الشَّيْطَانِ ، وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ النَّارِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ
بِالْمَاءِ النَّارُ ، فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { إنَّ لِجَهَنَّمَ بَابًا
لَا يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظَهُ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى
أَشَدِّكُمْ ؟ أَشَدُّكُمْ أَمْلَكُكُمْ لِنَفْسِهِ عِنْدَ الْغَضَبِ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مُرْسَلًا : { الْخَرَقُ
شُؤْمٌ ، وَالرِّفْقُ يُمْنٌ }
.
وَالْبَزَّارُ : { سَأُحَدِّثُكُمْ بِأُمُورِ النَّاسِ
وَأَخْلَاقِهِمْ ، الرَّجُلُ يَكُونُ سَرِيعَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ أَيْ
الرُّجُوعِ فَلَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ كَفَافًا ، وَالرَّجُلُ بَعِيدُ الْغَضَبِ
سَرِيعُ الْفَيْءِ فَذَلِكَ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ، وَالرَّجُلُ يَقْتَضِي الَّذِي لَهُ
وَيَقْتَضِي الَّذِي عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ، وَالرَّجُلُ
يَقْتَضِي الَّذِي لَهُ وَلَا يَقْضِي الَّذِي عَلَيْهِ فَذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَا
لَهُ } .
وَأَحْمَدُ : { الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي
يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ
فَيَصْرَعُهُ غَضَبُهُ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { أَتَحْسَبُونَ أَنَّ
الشِّدَّةَ فِي حَمْلِ الْحِجَارَةِ إنَّمَا الشِّدَّةُ فِي أَنْ يَمْتَلِئَ
أَحَدُكُمْ غَيْظًا ثُمَّ يَغْلِبَهُ
} .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ
بِالصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } .
وَالْعَسْكَرِيُّ : { لَيْسَ الشَّدِيدُ الَّذِي
يَغْلِبُ النَّاسَ إنَّمَا الشَّدِيدُ مَنْ يَغْلِبُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } .
وَابْنُ النَّجَّارِ : { إنَّ الشَّدِيدَ لَيْسَ الَّذِي
يَغْلِبُ وَلَكِنَّ الشَّدِيدَ مَنْ غَلَبَ نَفْسَهُ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { هَلْ تَدْرُونَ مَا الشَّدِيدُ ؟
إنَّ الشَّدِيدَ كُلَّ الشَّدِيدِ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ ،
تَدْرُونَ مَا الرَّقُوبُ ؟ الرَّقُوبُ الَّذِي لَهُ الْوَلَدُ لَمْ يُقَدِّمْ
مِنْهُمْ شَيْئًا ، تَدْرُونَ مَا الصُّعْلُوكُ كُلُّ الصُّعْلُوكِ ؟
الرَّجُلُ لَهُ الْمَالُ لَمْ يُقَدِّمْ مِنْهُ شَيْئًا } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ : { لِلنَّارِ بَابٌ لَا
يَدْخُلُهُ إلَّا مَنْ شَفَى غَيْظَهُ بِسَخَطِ اللَّهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ دَفَعَ غَضَبَهُ دَفَعَ اللَّهُ
عَنْهُ عَذَابَهُ ، وَمَنْ حَفِظَ لِسَانَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو
يَعْلَى : { أَنَّ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَوْصِنِي .
قَالَ : لَا تَغْضَبْ ، قَالَ : أَوْصِنِي قَالَ : لَا
تَغْضَبْ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَا تَغْضَبْ فَإِنَّ الْغَضَبَ
مَفْسَدَةٌ } .
وَفِي أُخْرَى : { قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي
بِعَمَلٍ وَأَقْلِلْ ، قَالَ : لَا تَغْضَبْ ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ فَقَالَ :
لَا تَغْضَبْ } .
وَفِي أُخْرَى { عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْ لِي
قَوْلًا وَأَقْلِلْ لَعَلِّي أَعْقِلُهُ ، قَالَ : لَا تَغْضَبْ ، فَأَعَدْتُ
عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ كُلُّ ذَلِكَ يُرَجِّعُ إلَيَّ لَا تَغْضَبْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا تَغْضَبْ وَلَك الْجَنَّةُ } .
وَالْحَكِيمُ : { لَا تَغْضَبْ يَا مُعَاوِيَةُ بْنَ
حَيْدَةَ فَإِنَّ الْغَضَبَ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ
الْعَسَلَ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { يَا مُعَاوِيَةُ
إيَّاكَ وَالْغَضَبَ فَإِنَّ الْغَضَبَ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ كَمَا يُفْسِدُ
الصَّبْرُ الْعَسَلَ } .
وَالْحَكِيمُ : { الْغَضَبُ مِيسَمٌ مِنْ نَارِ
جَهَنَّمَ يَضَعُهُ اللَّهُ عَلَى نِيَاطِ أَحَدِكُمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا
غَضِبَ احْمَرَّتْ عَيْنُهُ وَأَرْبَدَ وَجْهُهُ ، وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْبَغْضَاءَ
فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { قَالَ : اللَّهُ تَعَالَى مَنْ
ذَكَرَنِي حِينَ يَغْضَبُ ذَكَرْتُهُ حِينَ أَغْضَبُ وَلَا أَمْحَقُهُ فِيمَنْ
أَمْحَقُ } .
وَابْنُ شَاهِينَ : { يَقُولُ اللَّهُ : ابْنَ آدَمَ
اُذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرُك حِينَ أَغْضَبُ وَلَا أَمْحَقُك فِيمَنْ
أَمْحَقُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَوْ يَقُولُ أَحَدُكُمْ إذَا
غَضِبَ : أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ ذَهَبَ عَنْهُ غَضَبُهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : { إنِّي
لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا هَذَا الْغَضْبَانُ لَأَذْهَبَتْ الَّذِي بِهِ
مِنْ الْغَضَبِ : اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
وَأَحْمَدُ وَالْحَاكِمُ : { اللَّهُمَّ مُطْفِئَ
الْكَبِيرِ وَمُكَبِّرَ الصَّغِيرِ أَطْفِئْهَا عَنِّي } .
وَالْخَرَائِطِيُّ { عَنْ أَمِّ هَانِئٍ : قُولِي
اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَأَذْهِبْ غَيْظَ
قَلْبِي وَأَجِرْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ } .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ : يَا بُنَيَّ إيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْغَضَبِ
فَإِنَّ كَثْرَةَ الْغَضَبِ تَسْتَخِفُّ فُؤَادَ الرَّجُلِ الْحَلِيمِ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَسَيِّدًا
وَحَصُورًا } .
السَّيِّدُ : الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ .
وَقَالَ يَحْيَى لِعِيسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - : لَا تَغْضَبْ ، قَالَ يَا أَخِي لَا
أَسْتَطِيعُ أَنْ لَا أَغْضَبَ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، قَالَ : لَا تَقْتَنِ
مَالًا ، قَالَ هَذَا عَسَى .
وَقَالَ الْحَسَنُ : يَا ابْنَ آدَمَ كُلَّمَا غَضِبْتَ
وَثَبْتَ يُوشِكُ أَنْ تَثِبَ وَثْبَةً تَقَعُ فِي النَّارِ .
وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ : أَنَّهُ لَقِيَ مَلَكًا
وَقَالَ : لَهُ عَلِّمْنِي عِلْمًا أَزْدَادُ بِهِ إيمَانًا وَيَقِينًا ، قَالَ :
لَا تَغْضَبْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ أَقْدَرُ مَا يَكُونُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حِينَ يَغْضَبُ
فَرُدَّ الْغَضَبَ بِالْكَظْمِ وَسَكِّنْهُ بِالتُّؤَدَةِ ، وَإِيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ
فَإِنَّك إذَا عَجِلْتَ أَخْطَأْتَ حَظَّك وَكُنْ سَهْلًا لَيِّنًا لِلْقَرِيبِ
وَلِلْبَعِيدِ وَلَا تَكُنْ جَبَّارًا عَنِيدًا .
وَعَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
أَنَّ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَتِهِ أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُ فَعَجَزَ عَنْهُ
فَنَادَاهُ لِيَفْتَحَ لَهُ فَسَكَتَ ، فَقَالَ : إنْ ذَهَبْت نَدِمْت فَسَكَتَ ،
فَقَالَ : أَنَا الْمَسِيحُ ، فَأَجَابَهُ وَقَالَ : إنْ كُنْتَ الْمَسِيحَ فَمَا أَصْنَعُ
بِك ؟ أَلَسْتَ قَدْ أَمَرْتَنَا بِالْعِبَادَةِ وَالِاجْتِهَادِ وَوَعَدْتنَا
الْقِيَامَةَ ، فَلَوْ جِئْتنَا الْيَوْمَ بِغَيْرِ
ذَلِكَ لَمْ نَقْبَلْهُ مِنْك ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ الشَّيْطَانُ جَاءَ
لِيُضِلَّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ، ثُمَّ قَالَ : لَهُ سَلْنِي عَمَّا شِئْت أُخْبِرْك
، قَالَ : مَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ شَيْءٍ فَوَلَّى الشَّيْطَانُ
مُدْبِرًا ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ : أَلَا تَسْمَعُ قَالَ : بَلَى .
قَالَ : أَخْبِرْنِي أَيُّ أَخْلَاقِ بَنِي آدَمَ
أَعْوَنُ لَك عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : الْحِدَّةُ إنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ حَدِيدًا
قَلَّبْنَاهُ كَمَا يُقَلِّبُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ .
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : الْغَضَبُ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ .
وَقَالَ بَعْضُ الْأَنْصَارِ : رَأْسُ الْحُمْقِ
الْحِدَّةُ وَقَائِدُهُ الْغَضَبُ ، وَمَنْ رَضِيَ بِالْجَهْلِ اسْتَغْنَى عَنْ
الْحِلْمِ ، وَالْحِلْمُ زَيْنٌ وَمَنْفَعَةٌ وَالْجَهْلُ شَيْنٌ وَمَضَرَّةٌ ،
وَالسُّكُوتُ عَنْ جَوَابِ الْأَحْمَقِ سَعَادَةٌ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : قَالَ إبْلِيسُ : مَا أَعْجَزَنِي
بَنُو آدَمَ فَلَنْ يُعْجِزُونِي فِي ثَلَاثٍ : إذَا سَكِرَ أَحَدُهُمْ أَخَذْنَا
بِخَرَامَتِهِ فَقُدْنَاهُ حَيْثُ نَشَاءُ وَعَمِلَ لَنَا بِمَا أَحْبَبْنَا ،
وَإِذَا غَضِبَ قَالَ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَعَمِلَ بِمَا يَنْدَمُ ، وَإِذَا
بَخِلَ بِمَا فِي يَدِهِ مَنَّيْنَاهُ بِمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ :
اُنْظُرُوا إلَى حِلْمِ الرَّجُلِ عِنْدَ غَضَبِهِ وَأَمَانَتِهِ عِنْدَ طَمَعِهِ
، وَمَا عِلْمُك بِحِلْمِهِ إذَا لَمْ يَغْضَبْ ، وَمَا عِلْمُك بِأَمَانَتِهِ
إذَا لَمْ يَطْمَعْ .
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عَامِلِهِ
: لَا تُعَاقِبْ غَضَبَك بَلْ احْبِسْهُ فَإِذَا سَكَنَ غَضَبُك عَاقِبْهُ
بِقَدْرِ ذَنْبِهِ وَلَا تُجَاوِزْ بِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ سَوْطًا .
وَأَغْلَظَ لَهُ قُرَشِيٌّ فَأَطْرَقَ طَوِيلًا ، ثُمَّ
قَالَ : أَرَدْت أَنْ يَسْتَفِزَّنِي الشَّيْطَانُ لِعِزِّ السُّلْطَانِ فَأَنَالَ
مِنْك الْيَوْمَ مَا تَنَالُهُ مِنِّي غَدًا .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَقَلُّ النَّاسِ غَضَبًا
أَعْقَلُهُمْ فَإِنْ كَانَ لِلدُّنْيَا كَانَ دَهَاءً وَمَكْرًا ، وَإِنْ كَانَ
لِلْآخِرَةِ كَانَ عِلْمًا وَحُكْمًا
.
كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ : أَفْلَحَ مَنْ حُفِظَ
مِنْ الْهَوَى وَالطَّمَعِ وَالْغَضَبِ
.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنْ أَطَاعَ شَهْوَتَهُ
وَغَضَبَهُ قَادَاهُ إلَى النَّارِ
.
وَقَالَ الْحَسَنُ : مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِ :
قُوَّةٌ فِي دِينٍ ، وَحَزْمٌ فِي لِينٍ ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ ، وَعِلْمٌ فِي
حِلْمٍ ، وَكَيْسٌ فِي رِفْقٍ ، وَإِعْطَاءٌ فِي حَقٍّ ، وَقَصْدٌ فِي غِنًى ،
وَتَجَمُّلٌ فِي فَاقَةٍ ، وَإِحْسَانٌ فِي قُدْرَةٍ ، وَصَبْرٌ فِي شِدَّةٍ ، لَا
يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ ؛ وَلَا تُجْمَعُ بِهِ الْحَمِيَّةُ ، وَلَا تَغْلِبُهُ
شَهْوَتُهُ وَلَا يَفْضَحُهُ بَطْنُهُ وَلَا يَسْتَخِفُّهُ حِرْصُهُ ، يَنْصُرُ
الْمَظْلُومَ وَيَرْحَمُ الضَّعِيفَ ، وَلَا يَبْخَلُ وَلَا يُبَذِّرُ وَلَا
يُسْرِفُ وَلَا يَقْتُرُ ، يَغْفِرُ إذَا ظُلِمَ وَيَعْفُو عَنْ الْجَاهِلِ ،
نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رَخَاءٍ .
وَقَالَ وَهْبٌ : لِلْكُفْرِ أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ : الْغَضَبُ
وَالشَّهْوَةُ وَالْخُلْفُ وَالطَّمَعُ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ
حَمَلَهُ الْغَضَبُ عَلَى أَنْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَمَاتَ كَافِرًا ،
فَتَأَمَّلْ شَرَّ الْغَضَبِ وَمَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ نَبِيٌّ لِأَتْبَاعِهِ : مَنْ يَتَكَفَّلُ لِي
مِنْكُمْ أَنْ لَا يَغْضَبَ يَكُنْ خَلِيفَتِي وَمَعِي فِي دَرَجَتِي فِي
الْجَنَّةِ ، فَقَالَ شَابٌّ : أَنَا فَأَعَادَ فَقَالَ ذَلِكَ الشَّابُّ : أَنَا
وَوَفَّى ، فَلَمَّا مَاتَ كَانَ خَلِيفَتَهُ فِي مَنْزِلَتِهِ وَهُوَ ذُو
الْكِفْلِ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ نَفْسَهُ أَنْ لَا يَغْضَبَ وَوَفَّى
بِهِ ، وَقِيلَ : لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ
وَوَفَّى بِهِ .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ اللَّهَ يَطَّلِعُ
عَلَى عِبَادِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ
لِلْمُسْتَغْفِرِينَ وَيَرْحَمُ الْمُسْتَرْحِمِينَ وَيُؤَخِّرُ أَهْلَ الْحِقْدِ
كَمَا هُمْ عَلَيْهِ } .
وَأَخْرَجَ أَيْضًا : { إذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ
مِنْ شَعْبَانَ اطَّلَعَ اللَّهُ إلَى خَلْقِهِ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيُمْلِي لِلْكَافِرِينَ وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى
يَدَعُوهُ } .
وَمُسْلِمٌ : { تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ
جُمُعَةٍ مَرَّةً يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ لِكُلِّ
عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ : اُتْرُكُوا
هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ إلَّا مَا
كَانَ مِنْ مُتَشَاحِنَيْنِ أَوْ قَاطِعِ رَحِمٍ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ : { تُفْتَحُ
أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ
فِيهِمَا لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَتْ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ : أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى
يَصْطَلِحَا } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ الْأَعْمَالَ تُعْرَضُ
يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ
بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلَيْنِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : أَخِّرُوا هَذَيْنِ
حَتَّى يَصْطَلِحَا } .
وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ أَعْمَالَ
الْعِبَادِ تُعْرَضُ عَلَى اللَّهِ فِي كُلِّ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ ، فَيَغْفِرُ
اللَّهُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا عَبْدًا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْخَرَائِطِيُّ : { تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ
عَلَى اللَّهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ الذُّنُوبَ
إلَّا مَا كَانَ مِنْ مُتَشَاحِنَيْنِ أَوْ قَاطِعِ رَحِمٍ } .
وَابْنُ زَنْجُوَيْهِ وَالطَّبَرَانِيُّ : { تُعْرَضُ أَعْمَالُ
بَنِي آدَمَ كُلَّ يَوْمِ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ فَيَرْحَمُ الْمُسْتَرْحِمِينَ
وَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ ثُمَّ يَذَرُ أَهْلَ
الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ } .
وَالشَّيْخَانِ وَابْنُ زَنْجُوَيْهِ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ
: { تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ
وَالْخَمِيسِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ فِيهِمَا لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ
شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ :
أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا } .
وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْبَيْهَقِيُّ : { يَنْزِلُ
اللَّهُ - أَيْ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ - إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ
النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، فَيَغْفِرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إلَّا الْعَاقَّ
وَالْمُشَاحِنَ } .
وَالْبَزَّارُ وَحَسَّنَهُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ
النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إلَّا رَجُلًا مُشْرِكًا
أَوْ رَجُلًا فِي قَلْبِهِ شَحْنَاءُ
} .
وَابْنُ زَنْجُوَيْهِ : { يَنْزِلُ رَبُّنَا إلَى السَّمَاءِ
الدُّنْيَا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِأَهْلِ الْأَرْضِ
إلَّا مُشْرِكًا أَوْ مُشَاحِنًا
} .
وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ شَاهِينِ
وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { يَطَّلِعُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - إلَى
خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ
إلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ
} .
وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ : { يَطَّلِعُ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ
لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ ، فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إلَّا لِاثْنَيْنِ
مُشَاحِنٍ أَوْ قَاتِلِ نَفْسٍ
} .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ : { الْحَسَدُ يَأْكُلُ
الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ
الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ ، وَالصَّلَاةُ نُورُ الْمُؤْمِنِ
، وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ } أَيْ سَاتِرٌ وَوِقَايَةٌ مِنْ النَّارِ .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { الْحَسَدُ فِي اثْنَيْنِ رَجُلٍ
آتَاهُ الْقُرْآنَ فَقَامَ بِهِ وَأَحَلَّ حَلَالَهُ وَحَرَّمَ حَرَامَهُ ،
وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَوَصَلَ بِهِ أَقْرِبَاءَهُ وَرَحِمَهُ وَعَمِلَ
بِطَاعَةِ اللَّهِ تَمَنِّي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { الْحَسَدُ يُفْسِدُ الْإِيمَانَ
كَمَا يُفْسِدُ الصَّبْرُ الْعَسَلَ } وَابْنُ عَدِيٍّ : { إذَا حَسَدْتُمْ فَلَا
تَبْغُوا ، وَإِذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا ، وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ
فَامْضُوا وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا } .
وَأَبُو دَاوُد : { إيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ
الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالضِّيَاءُ : { دَبَّ
إلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ ، الْحَسَدُ ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ
الْحَالِقَةُ حَالِقَةُ الدِّينِ لَا حَالِقَةُ الشَّعْرِ ، وَاَلَّذِي نَفْسُ
مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا
حَتَّى تَحَابُّوا ، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ
؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ
} .
وَابْنُ صَصْرَى : { الْغِلُّ وَالْحَسَدُ يَأْكُلَانِ
الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَيْسَ مِنِّي ذُو حَسَدٍ وَلَا
نَمِيمَةٍ وَلَا كِهَانَةٍ وَلَا أَنَا مِنْهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { كُلُّ ابْنِ آدَمَ حَسُودٌ وَلَا
يَضُرُّ حَاسِدًا حَسَدُهُ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِاللِّسَانِ أَوْ يَعْمَلْ
بِالْيَدِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { كُلُّ ابْنِ آدَمَ حَسُودٌ وَبَعْضُ
النَّاسِ فِي الْحَسَدِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ وَلَا يَضُرُّ حَاسِدًا حَسَدُهُ مَا
لَمْ يَتَكَلَّمْ بِاللِّسَانِ أَوْ يَعْمَلْ بِالْيَدِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ
مَا لَمْ يَتَحَاسَدُوا } .
وَالْحَاكِمُ وَالدَّيْلَمِيُّ : " إنَّ إبْلِيسَ
يَقُولُ : { ابْغُوا مِنْ بَنِي آدَمَ
الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ فَإِنَّهُمَا يَعْدِلَانِ عِنْدَ
اللَّهِ الشِّرْكَ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ : { مَا مِنْ
ذَنْبٍ أَجْدَرُ مِنْ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي
الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ
الرَّحِمِ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ النَّجَّارِ : { وَاحْذَرُوا
الْبَغْيَ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ عُقُوبَةٍ هِيَ أَخْطَرُ مِنْ عُقُوبَةِ
الْبَغْيِ } .
وَابْنُ لَالٍ : { لَوْ بَغَى جَبَلٌ عَلَى جَبَلٍ
لَدُكَّ الْبَاغِي مِنْهُمَا }
.
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { لَا تُظْهِرْ
الشَّمَاتَةَ لِأَخِيك فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَيَرْحَمَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ
} وَالْبَيْهَقِيُّ : { مِنْ أَسْوَأِ النَّاسِ مَنْزِلَةً مَنْ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ
بِدُنْيَا غَيْرِهِ } .
وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ : { إنَّ أَشَدَّ
النَّاسِ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا
غَيْرِهِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مِنْ شَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ
مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ
مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا
غَيْرِهِ } .
وَالسِّجْزِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْهَوَى فَإِنَّ
الْهَوَى يُصِمُّ وَيُعْمِي } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَا تَحْتَ
ظِلِّ سَمَاءٍ مِنْ إلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ
مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
النَّهْيِ عَنْ الْحَسَدِ وَأَسْبَابِهِ وَثَمَرَاتِهِ : { لَا تَبَاغَضُوا وَلَا
تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَابَزُوا وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ
إخْوَانًا ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةٍ } رَوَاهُ
الشَّيْخَانِ .
وَقَالَ أَنَسٌ { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّا جُلُوسًا
عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَطْلُعُ الْآنَ
مِنْ هَذَا الْفَجِّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَطَلَعَ رَجُلٌ
مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ
وَقَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ بِيَدِهِ الشِّمَالِ فَسَلَّمَ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ
الْغَدِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ
فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِعَيْنِهِ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى ، فَلَمَّا
كَانَ يَوْمُ الثَّالِثِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ
الْأَوَّلِ ، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ : إنِّي لَاحَيْتُ أَبِي خَاصَمْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ
عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، فَإِنْ أَرَدْت أَنْ تُؤْوِيَنِي إلَيْك حَتَّى تَمْضِيَ
الثَّلَاثُ فَعَلْت ؟ فَقَالَ : نَعَمْ
.
قَالَ أَنَسٌ
: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ
مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِيَ الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ
شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إذَا تَعَارَّ } بِالتَّشْدِيدِ أَيْ اسْتَيْقَظَ وَتَقَلَّبَ
عَلَى فِرَاشِهِ { ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَهُ وَلَا يَقُومُ حَتَّى
تَقُومَ الصَّلَاةُ ، قَالَ : غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إلَّا
خَيْرًا ، فَلَمَّا مَرَّتْ الثَّلَاثُ وَكِدْتُ أَحْتَقِرُ عَمَلَهُ فَقُلْتُ يَا
عَبْدَ اللَّهِ إنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ وَالِدِي غَضَبٌ وَلَا
هِجْرَةٌ وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : لَك أَيْ عَنْك ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْت أَنْتَ الثَّلَاثَ الْمَرَّاتِ ، فَأَرَدْتُ
أَنْ آوِيَ إلَيْك فَأَنْظُرَ مَا عَمَلُك فَأَقْتَدِيَ بِك ، فَلَمْ أَرَك عَمِلْتَ
كَبِيرَ عَمَلٍ ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِك مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ : مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْت ، فَلَمَّا
وَلَّيْتُ دَعَانِي وَقَالَ : مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْت غَيْرَ أَنِّي لَا
أَجِدُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا
عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ
: هِيَ الَّتِي بَلَغَتْ بِك } رَوَاهُ أَحْمَدُ
بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ .
وَالنَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَيْضًا .
وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَزَّارُ بِنَحْوِهِ ، وَسَمَّى
الرَّجُلَ الْمُبْهَمَ سَعْدًا ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ : { فَقَالَ : مَا هُوَ
إلَّا مَا رَأَيْتَ يَا ابْنَ أَخِي إلَّا أَنَّنِي لَمْ أَبِتْ ضَاغِنًا عَلَى
مُسْلِمٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا } ، زَادَ النَّسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ لَهُ ، وَالْبَيْهَقِيُّ
وَالْأَصْبَهَانِيّ : { فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِك
وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ - أَيْ نَحْنُ عَلَى الْقِيَامِ بِهَا - } وَرَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : { كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَيَطْلُعَنَّ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ مِنْ هَذَا
الْبَابِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَجَاءَ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فَدَخَلَ مِنْهُ } .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، قَالَ : {
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَا أَنَا بِاَلَّذِي أَنْتَهِي حَتَّى
أُبَايِت هَذَا الرَّجُلَ فَأَنْظُرَ عَمَلَهُ } ، قَالَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِهِ
عَلَيْهِ ، قَالَ : { فَنَاوَلَنِي عَبَاءَةً فَاضْطَجَعْتُ عَلَيْهَا قَرِيبًا
مِنْهُ وَجَعَلْتُ أَرْمُقُهُ بِعَيْنِي لَيْلَةً كُلَّمَا تَعَارَّ سَبَّحَ
وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ حَتَّى إذَا كَانَ فِي وَقْتِ السَّحَرِ قَامَ
فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَصَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً
بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سُورَةً مِنْ الْمُفَصَّلِ لَيْسَ مِنْ طِوَالِهِ وَلَا مِنْ
قِصَارِهِ ، يَدْعُو فِي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ بِثَلَاثِ دَعَوَاتٍ
يَقُولُ : اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً
وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ؛ اللَّهُمَّ اكْفِنَا مَا أَهَمَّنَا مِنْ أَمْرِ
آخِرَتِنَا وَدُنْيَانَا ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك مِنْ الْخَيْرِ كُلِّهِ
وَنَعُوذُ بِك مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ ، حَتَّى إذَا فَرَغَ } فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
فِي اسْتِقْلَالِ عَمَلِهِ إلَى أَنْ قَالَ : { فَقَالَ آخُذُ مَضْجَعِي وَلَيْسَ
فِي قَلْبِي غِمْرٌ } بِكَسْرِ
الْمُعْجَمَةِ : أَيْ حِقْدٌ عَلَى أَحَدٍ .
وَفِي حَدِيثٍ : { كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا
، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ } .
وَفِي آخَرَ : { سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ ،
قَالُوا : وَمَا دَاءُ الْأُمَمِ ؟ قَالَ : الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ وَالتَّكَاثُرُ
وَالتَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ
الْبَغْيُ ، ثُمَّ يَكُونَ الْهَرَجُ
} .
وَفِي آخَرَ : { أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي
أَنْ يَكْثُرَ بِهِمْ الْمَالُ فَيَتَحَاسَدُونَ وَيَقْتَتِلُونَ } ، ثُمَّ قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { اسْتَعِينُوا عَلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ
بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ } .
وَفِي آخَرَ : { إنَّ لِنِعَمِ اللَّهِ أَعْدَاءً قِيلَ
: وَمَنْ أُولَئِكَ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } .
وَفِي آخَرَ
: { سِتَّةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَبْلَ الْحِسَابِ
بِسَنَةٍ ؟ قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ الْأُمَرَاءُ
بِالْجَوْرِ ، وَالْعَرَبُ بِالْعَصَبِيَّةِ ، وَالدَّهَاقِينُ بِالتَّكَبُّرِ ،
وَالتُّجَّارُ بِالْخِيَانَةِ ، وَأَهْلُ الرُّسْتَاقِ بِالْجَهَالَةِ ،
وَالْعُلَمَاءُ بِالْحَسَدِ } .
وَرُوِيَ أَنَّ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ لَمَّا تَعَجَّلَ إلَى رَبِّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - رَأَى فِي ظِلِّ الْعَرْشِ رَجُلًا
فَغَبَطَهُ بِمَكَانِهِ ، وَقَالَ
: إنَّ هَذَا لَكَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْبِرَهُ بِاسْمِهِ ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْمِهِ وَقَالَ :
أُحَدِّثُك مِنْ عَمَلِهِ بِثَلَاثٍ : كَانَ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا
آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَكَانَ لَا يَعُقُّ وَالِدَيْهِ ، وَكَانَ لَا يَمْشِي
بِالنَّمِيمَةِ .
وَعَنْ زَكَرِيَّا صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : الْحَاسِدُ
عَدُوٌّ لِنِعْمَتِي مُتَسَخِّطٌ لِقَضَائِي غَيْرُ رَاضٍ بِقِسْمَتِي الَّتِي
قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادِي
" .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : " أَوَّلُ خَطِيئَةٍ
عُصِيَ اللَّهُ بِهَا هِيَ الْحَسَدُ حَسَدَ إبْلِيسُ آدَمَ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ
فَحَمَلَهُ
الْحَسَدُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ " .
وَوَعَظَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ
فَقَالَ : إيَّاكَ وَالْكِبْرَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللَّهُ تَعَالَى
بِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ : { ، وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ } الْآيَةَ ، وَإِيَّاكَ وَالْحِرْصَ
فَإِنَّهُ أَخْرَجَ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ جَنَّةً عَرْضُهَا
السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ يَأْكُلُ فِيهَا إلَّا شَجَرَةً وَاحِدَةً نَهَاهُ
عَنْهَا فَمِنْ حِرْصِهِ أَكَلَ مِنْهَا فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ الْجَنَّةِ ،
ثُمَّ قَرَأَ : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا } الْآيَةَ ، وَإِيَّاكَ
وَالْحَسَدَ فَإِنَّهُ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ آدَمَ عَلَى أَنْ قَتَلَ أَخَاهُ
حِينَ حَسَدَهُ ثُمَّ قَرَأَ : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ
بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ
يُتَقَبَّلْ مِنْ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ
اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ } .
وَقِيلَ : كَانَ السَّبَبُ أَيْضًا فِي قَتْلِهِ لَهُ أَنَّ
زَوْجَتَهُ أُخْتَ الْقَاتِلِ كَانَتْ أَجْمَلَ مِنْ زَوْجَةِ الْقَاتِلِ أُخْتِ
الْمَقْتُولِ لِأَنَّ حَوَّاءَ وَلَدَتْ لِآدَمَ عِشْرِينَ بَطْنًا فِي كُلِّ
بَطْنٍ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى ، فَكَانَ آدَم صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ
عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ يُزَوِّجُ أُنْثَى كُلِّ بَطْنٍ لِذَكَرِ بَطْنٍ
آخَرَ لَا لِذَكَرِ بَطْنِهَا ، فَلَمَّا رَأَى قَابِيلُ أَنَّ زَوْجَةَ أَخِيهِ
هَابِيلَ أَجْمَلُ حَسَدَهُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلَهُ ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا
قَالَهُ لَهُ أَيْضًا : وَإِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَاسْكُتْ ، وَإِذَا ذُكِرَ الْقَدَرُ فَاسْكُتْ ، وَإِذَا ذُكِرَتْ
النُّجُومُ فَاسْكُتْ .
وَكَانَ بَعْضُ الصُّلَحَاءِ يَجْلِسُ بِجَانِبِ مَلِكٍ
يَنْصَحُهُ وَيَقُولُ لَهُ : أَحْسِنْ إلَى الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ فَإِنَّ
الْمُسِيءَ سَتَكْفِيهِ إسَاءَتُهُ ، فَحَسَدَهُ عَلَى قُرْبِهِ مِنْ الْمَلِكِ
بَعْضُ الْجَهَلَةِ وَأَعْمَلَ الْحِيلَةَ عَلَى قَتْلِهِ ، فَسَعَى بِهِ
لِلْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ : إنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّك أَبْخَرُ ، وَأَمَارَةُ ذَلِكَ أَنَّك
إذَا قَرُبْتَ مِنْهُ يَضَعُ
يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ لِئَلَّا يَشُمَّ رَائِحَةَ
الْبَخَرِ ، فَقَالَ : لَهُ انْصَرِفْ حَتَّى أَنْظُرَ ، فَخَرَجَ فَدَعَا
الرَّجُلَ لِمَنْزِلِهِ وَأَطْعَمَهُ ثُومًا فَخَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ عِنْدِهِ
وَجَاءَ لِلْمَلِكِ وَقَالَ لَهُ مِثْلَ قَوْلِهِ السَّابِقِ : أَحْسِنْ
لِلْمُحْسِنِ كَعَادَتِهِ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ : اُدْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ
فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَشُمَّ الْمَلِكُ مِنْهُ
رَائِحَةَ الثُّومِ ، فَقَالَ الْمَلِكُ فِي نَفْسِهِ : مَا أَرَى فُلَانًا إلَّا
قَدْ صَدَقَ ، وَكَانَ الْمَلِكُ لَا يَكْتُبُ بِخَطِّهِ إلَّا بِجَائِزَةٍ أَوْ
صِلَةٍ فَكَتَبَ لَهُ بِخَطِّهِ لِبَعْضِ عُمَّالِهِ : إذَا أَتَاك صَاحِبُ
كِتَابِي هَذَا فَاذْبَحْهُ وَاسْلُخْهُ وَاحْشُ جِلْدَهُ تِبْنًا وَابْعَثْ بِهِ
إلَيَّ فَأَخَذَ الْكِتَابَ وَخَرَجَ فَلَقِيَهُ الَّذِي سَعَى بِهِ فَقَالَ : مَا
هَذَا الْكِتَابُ ؟ فَقَالَ : خَطَّ الْمَلِكُ لِي بِصِلَةٍ ، فَقَالَ : هَبْهُ مِنِّي
فَقَالَ : هُوَ لَك فَأَخَذَهُ وَمَضَى إلَى الْعَامِلِ فَقَالَ الْعَامِلُ فِي
كِتَابِك أَنْ أَذْبَحَك وَأَسْلُخَك : فَقَالَ : إنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ هُوَ لِي ،
اللَّهَ اللَّهَ فِي أَمْرِي حَتَّى أُرَاجِعَ الْمَلِكَ ، قَالَ : لَيْسَ لِكِتَابِ
الْمَلِكِ مُرَاجَعَةٌ ، فَذَبَحَهُ وَسَلَخَهُ وَحَشَا جِلْدَهُ تِبْنًا وَبَعَثَ
بِهِ ، ثُمَّ عَادَ الرَّجُلُ إلَى الْمَلِكِ كَعَادَتِهِ وَقَالَ مِثْلَ ،
قَوْلِهِ ، فَعَجِبَ الْمَلِكُ وَقَالَ : مَا فَعَلَ الْكِتَابُ ؟ فَقَالَ :
لَقِيَنِي فُلَانٌ فَاسْتَوْهَبَهُ مِنِّي فَدَفَعْتُهُ لَهُ ، فَقَالَ الْمَلِكُ : إنَّهُ ذَكَرَ
لِي أَنَّك تَزْعُمُ أَنِّي أَبْخَرُ ، قَالَ : مَا قُلْت ذَلِكَ ، قَالَ : فَلِمَ
وَضَعْتَ يَدَكَ عَلَى أَنْفِك وَفِيك ؟ قَالَ : أَطْعَمَنِي ثُومًا فَكَرِهْتُ أَنْ
تَشُمَّهُ ، قَالَ : صَدَقْتَ ارْجِعْ إلَى مَكَانِك فَقَدْ كَفَى الْمُسِيءَ
إسَاءَتُهُ .
فَتَأَمَّلْ رَحِمَك اللَّهُ شُؤْمَ الْحَسَدِ وَمَا
جَرَّ إلَيْهِ تَعْلَمْ سِرَّ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْحَدِيثِ السَّابِقِ : { لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ لِأَخِيك فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ
وَيَبْتَلِيَك } .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : مَا حَسَدْتُ أَحَدًا عَلَى
شَيْءٍ مِنْ
أَمْرِ الدُّنْيَا لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى الدُّنْيَا وَهِيَ حَقِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ
، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَكَيْفَ أَحْسُدُهُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا
وَهُوَ يَصِيرُ إلَى النَّارِ .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا
أَكْثَرَ عَبْدٌ ذِكْرَ الْمَوْتِ إلَّا قَلَّ فَرَحُهُ وَقَلَّ حَسَدُهُ .
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُلُّ
النَّاسِ أَقْدِرُ عَلَى رِضَاهُ إلَّا حَاسِدَ نِعْمَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُرْضِيهِ
إلَّا زَوَالُهَا .
وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ : مَأْ رَأَيْت ظَالِمًا أَشْبَهَ
بِمَظْلُومٍ مِنْ حَاسِدٍ ؛ إنَّهُ يَرَى النِّعْمَةَ عَلَيْك نِقْمَةً عَلَيْهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا ابْنَ
آدَمَ لَا تَحْسُدْ أَخَاك ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ
لِكَرَامَتِهِ عَلَيْهِ فَلَا تَحْسُدْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ
كَانَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلِمَ تَحْسُدُ مَنْ مَصِيرُهُ إلَى النَّارِ ؟ وَقَالَ
بَعْضُهُمْ : الْحَاسِدُ لَا يَنَالُ مِنْ الْمَجَالِسِ إلَّا مَذَمَّةً وَذُلًّا ، وَلَا
يَنَالُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إلَّا لَعْنَةً وَبُغْضًا ، وَلَا يَنَالُ مِنْ
الْخَلْقِ إلَّا جَزَعًا وَغَمًّا ، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ النَّزْعِ إلَّا شِدَّةً
وَهَوْلًا ، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْمَوْقِفِ إلَّا فَضِيحَةً وَهَوَانًا
وَنَكَالًا .
( تَنْبِيهَاتٌ ) مِنْهَا : مَرَّ فِي أَحَادِيثِ الْغَضَبِ
السَّابِقَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْغَضَبَ مِنْ
نَارٍ وَغَرَزَهُ فِي الْإِنْسَانِ وَعَجَنَهُ بِطِينَتِهِ ، فَمَهْمَا قَصَدَ فِي
غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ اشْتَعَلَتْ فِيهِ تِلْكَ النَّارُ إلَى أَنْ يَغْلِيَ
مِنْهَا دَمُ قَلْبِهِ ثُمَّ تَنْتَشِرَ فِي بَقِيَّةِ عُرُوقِ الْبَدَنِ
فَتَرْتَفِعَ إلَى أَعَالِيهِ كَمَا يَرْتَفِعُ الْمَاءُ الْمَغْلِيُّ فَيَنْصَبُّ
الدَّمُ بَعْدَ انْبِسَاطِهِ إلَى الْوَجْهِ وَتَحْمَرُّ الْوَجْنَةُ وَالْعَيْنُ
، وَالْبَشَرَةُ لِصَفَائِهَا تَحْكِي لَوْنَ مَا وَرَاءَهَا مِنْ حُمْرَةِ
الدَّمِ هَذَا إنْ اسْتَشْعَرَ الْقُدْرَةَ عَلَى مَنْ غَضِبَ عَلَيْهِ ، وَإِلَّا
فَإِنْ غَضِبَ عَلَى مَنْ قُوَّتُهُ أَشَدُّ مِنْ قُوَّتِهِ وَكَانَ مَعَهُ يَأْسٌ
مِنْ الِانْتِقَامِ انْقَبَضَ دَمُهُ مِنْ ظَاهِرِ جِلْدِهِ إلَى جَوْفِ قَلْبِهِ
وَصَارَ خَوْفًا فَيَصْفَرُّ لَوْنُهُ ، أَوْ مَنْ مُسَاوِيهِ وَشَكَّ فِي
قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُ تَرَدَّدَ دَمُهُ بَيْنَ الِانْقِبَاضِ وَالِانْبِسَاطِ
فَيَحْمَرُّ وَيَصْفَرُّ وَيَضْطَرِبُ ؛ فَعُلِمَ أَنَّ قُوَّةَ الْغَضَبِ
مَحَلُّهَا الْقَلْبُ وَأَنَّ مَعْنَاهَا غَلَيَانُ دَمِهِ لِطَلَبِ الِانْتِقَامِ
، وَأَنَّ هَذِهِ الْقُوَّةَ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ عِنْدَ ثَوَرَانِهَا إلَى دَفْعِ
مُؤْذٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ ، أَوْ التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ بَعْدَهُ .
فَالِانْتِقَامُ هُوَ لَذَّتُهَا وَمُمْسِكُهَا ، ثُمَّ
إنَّ التَّفْرِيطَ فِيهَا بِانْعِدَامِهَا أَوْ ضَعْفِهَا مَذْمُومٌ جِدًّا
لِانْعِدَامِ الْحَمِيَّةِ وَالْغَيْرَةِ حِينَئِذٍ ، وَمَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ
وَلَا مُرُوءَةَ لَا يَتَأَهَّلُ لِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَمَالِ بِوَجْهٍ مِنْ
الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ بِالنِّسَاءِ بَلْ بِحَشَرَاتِ الْحَيَوَانِ أَشْبَهُ ،
وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ
اُسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبْ فَهُوَ حِمَارٌ ، وَمَنْ اُسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ
فَهُوَ شَيْطَانٌ ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ
اللَّهِ عَلَيْهِمْ - بِالشِّدَّةِ وَالْحَمِيَّةِ فَقَالَ تَعَالَى : { أَذِلَّةً
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةً
عَلَى الْكَافِرِينَ } { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ } { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وَثَمَرَةُ التَّفْرِيطِ فِي ذَلِكَ قِلَّةُ الْأَنَفَةِ
مِمَّا يُؤْنَفُ مِنْهُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْحَرَمِ كَالْأُخْتِ وَالزَّوْجَةِ ،
وَاحْتِمَالِ الذُّلِّ مِنْ الْأَخِسَّاءِ ، وَصِغَرِ النَّفْسِ ، وَهَذِهِ
كُلُّهَا قَبَائِحُ وَمَذَامُّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ثَمَرَاتِهَا إلَّا
قِلَّةُ الْغَيْرَةِ وَخُنُوثَةُ الطَّبْعِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ أَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ
، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ غَيْرَتِهِ أَنْ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ :
{ لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْمَدْحُ مِنْ اللَّهِ وَلِذَلِكَ
مَدَحَ نَفْسَهُ ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ وَمِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكُتُبَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ الْغَيْرَةَ مِنْ الْإِيمَانِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ : { إنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْهَا مَا
يُبْغِضُ اللَّهُ ، وَإِنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا
يُبْغِضُ اللَّهُ ، فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ
فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ .
وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ
فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ
.
وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ
فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي الْقِتَالِ وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ ،
وَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ فِي
الْبَغْيِ وَالْفَخْرِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مِنْ
عِبَادِهِ الْغَيُورَ ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَغَارُ لِلْمُسْلِمِ فَلْيَغَرْ } .
وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَغَارُ ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ
الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } .
وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ فِي تِلْكَ الْقُوَّةِ فَهُوَ
مَذْمُومٌ جِدًّا أَيْضًا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ
عَنْ سِيَاسَةِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَلَا يَبْقَى لَهُ مَعَهَا فِكْرٌ وَلَا
بَصِيرَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ ، بَلْ يَصِيرُ فِي صُورَةِ الْمُضْطَرِّ إمَّا
لِأُمُورٍ خُلُقِيَّةٍ أَوْ عَادِيَّةٍ أَوْ مُرَكَّبَةٍ مِنْهُمَا بِأَنْ تَكُونَ
فِطْرَتُهُ مُسْتَعِدَّةً لِسُرْعَةِ الْغَضَبِ أَوْ يُخَالِطَ مَنْ يَتَبَجَّحُ
بِهِ وَيَعُدُّهُ كَمَالًا وَشَجَاعَةً حَتَّى تَرَسَّخَ مَدْحُهُ عِنْدَهُ ،
وَمَهْمَا اشْتَدَّتْ نَارُ الْغَضَبِ وَاشْتَعَلَتْ أَعْمَتْ صَاحِبَهُ
وَأَصَمَّتْهُ عَنْ كُلِّ مَوْعِظَةٍ ، بَلْ لَا تَزِيدُهُ الْمَوْعِظَةُ إلَّا
اشْتِعَالًا لِانْطِفَاءِ نُورِ عَقْلِهِ وَمَحْوِهِ حَالًا بِدُخَانِ الْغَضَبِ
الصَّاعِدِ إلَى الدِّمَاغِ الَّذِي هُوَ مَعْدِنُ الْفِكْرِ وَبِمَا يَتَعَدَّى
إلَى مَعَادِنِ الْحِسِّ ؛ فَيَظْلِمُ بَصَرَهُ حَتَّى لَا يَرَى شَيْئًا إلَّا
سَوَادًا ، بَلْ رُبَّمَا زَادَ اشْتِعَالُ نَارِهِ حَتَّى تَفْنَى رُطُوبَةُ
الْقَلْبِ الَّتِي بِهَا حَيَاتُهُ فَيَمُوتُ صَاحِبُهُ غَيْظًا .
وَمِنْ آثَارِ هَذَا الْغَضَبِ فِي الظَّاهِرِ تَغَيُّرُ
اللَّوْنِ كَمَا مَرَّ ، وَشِدَّةُ رَعْدَةِ الْأَطْرَافِ ، وَخُرُوجُ
الْأَفْعَالِ عَنْ الِانْتِظَامِ ، وَاضْطِرَابُ الْحَرَكَةِ وَالْكَلَامِ حَتَّى
يَظْهَرَ الزَّبَدُ عَلَى الْأَشْدَاقِ وَتَشْتَدَّ حُمْرَةُ الْأَحْدَاقِ وَتَنْقَلِبَ
الْمَنَاخِرُ وَتَسْتَحِيلَ الْخِلْقَةُ ، وَلَوْ يَرَى الْغَضْبَانُ فِي حَالِ
غَضَبِهِ صُورَةَ نَفْسِهِ لَسَكَنَ غَضَبُهُ حَيَاءً مِنْ قُبْحِ صُورَتِهِ
لِاسْتِحَالَةِ خِلْقَتِهِ ، وَقُبْحُ بَاطِنِهِ أَعْظَمُ مِنْ قُبْحِ ظَاهِرِهِ ،
فَإِنَّ الظَّاهِرَ عُنْوَانُ الْبَاطِنِ إذْ قُبْحُ ذَاكَ إنَّمَا نَشَأَ عَنْ
قُبْحِ هَذَا فَتَغَيُّرُ الظَّاهِرِ ثَمَرَةُ تَغَيُّرِ الْبَاطِنِ هَذَا
أَثَرُهُ فِي الْجَسَدِ .
وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي اللِّسَانِ ؛ فَانْطِلَاقُهُ
بِالْقَبَائِحِ كَالشَّتْمِ وَالْفُحْشِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَسْتَحِي مِنْهُ
ذَوُو الْعُقُولِ مُطْلَقًا ، وَقَائِلُهُ عِنْدَ فُتُورِ غَضَبِهِ عَلَى أَنَّهُ
لَا يَنْتَظِمُ كَلَامُهُ ، بَلْ يَتَخَبَّطُ نَظْمُهُ وَيَضْطَرِبُ
لَفْظُهُ
.
وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي الْأَعْضَاءِ ، فَالضَّرْبُ فَمَا
فَوْقَهُ إلَى الْقَتْلِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ التَّشَفِّي
رَجَعَ غَضَبُهُ عَلَيْهِ فَمَزَّقَ ثَوْبَهُ وَضَرَبَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ حَتَّى
الْحَيَوَانِ وَالْجَمَادِ - بِالْكَسْرِ - وَغَيْرِهِ ، وَعَدَا عَدْوَ الْوَالِهِ
السَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ الْحَيْرَانِ ، وَرُبَّمَا سَقَطَ وَعَجَزَ عَنْ
الْحَرَكَةِ وَاعْتَرَاهُ مِثْلُ الْغَشْيَةِ لِشِدَّةِ اسْتِيلَاءِ الْغَضَبِ
عَلَيْهِ .
وَأَمَّا أَثَرُهُ فِي الْقَلْبِ ، فَالْحِقْدُ عَلَى
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ وَحَسَدُهُ ، وَإِظْهَارُ الشَّمَاتَةِ بِمُسَاءَتِهِ ،
وَالْحُزْنِ بِسُرُورِهِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى إفْشَاءِ سِرِّهِ وَهَتْكِ سِتْرِهِ
وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقَبَائِحِ .
وَأَمَّا الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ : فَهُوَ اعْتِدَالُ
تِلْكَ الْقُوَّةِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا تَفْرِيطٌ وَلَا إفْرَاطٌ ،
وَإِنَّمَا تَكُونُ طَوْعَ الْعَقْلِ وَالدِّينِ ، فَتَنْبَعِثُ حَيْثُ وَجَبَتْ
الْحَمِيَّةُ ، وَتَنْطَفِئُ حَيْثُ حَسُنَ الْحِلْمُ ، وَهَذَا هُوَ
الِاسْتِقَامَةُ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ ، وَالْوَسَطُ الَّذِي
مَدَحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { خَيْرُ
الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا } ، فَمَنْ أَفْرَطَ أَوْ فَرَّطَ فَلْيُعَالِجْ نَفْسَهُ
إلَى وُصُولِهَا إلَى هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ أَوْ إلَى الْقُرْبِ ،
قَالَ تَعَالَى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ
} وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَجَزَ عَنْ الْإِتْيَانِ بِالْخَيْرِ كُلِّهِ أَنْ يَأْتِيَ
بِالشَّرِّ كُلِّهِ فَإِنَّ بَعْضَ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ ، وَبَعْضَ
الْخَيْرِ أَرْفَعُ مِنْ بَعْضٍ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ يُعْطِي
كُلَّ عَامِلٍ مَا أَمَّلَهُ ، وَيُيَسِّرُ لَهُ مَا تَوَجَّهَ إلَيْهِ وَأَمَّ
لَهُ .
وَمِنْهَا : مَحَلُّ ذَمِّ الْغَضَبِ إنْ كَانَ بِبَاطِلٍ
، وَإِلَّا فَهُوَ مَحْمُودٌ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَا يَغْضَبُ إلَّا لِلَّهِ
.
أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلَاةِ
الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلَانٍ مِمَّا يُطِيلُ ، فَمَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ أَشَدَّ مِمَّا غَضِبَ
فِي مَوْعِظَتِهِ يَوْمَئِذٍ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ
فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ
وَالصَّغِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ
} .
قَالَتْ عَائِشَةُ : { قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ سَفَرٍ وَقَدْ سَتَرْتُ سَهْوَةً لِي - أَيْ
صِفَةً - بَيْنَ يَدَيْ الْبَيْتِ بِقِرَامٍ - أَيْ سِتْرٍ رَقِيقٍ - فِيهِ
تَمَاثِيلُ ، فَلَمَّا رَآهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَتَكَهُ أَيْ
أَفْسَدَ الصُّورَةَ الَّتِي فِيهَا وَرَمَاهُ بِيَدِهِ وَقَالَ : يَا عَائِشَةُ أَشَدُّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ -
عَزَّ وَجَلَّ - } .
قَالَ أَنَسٌ : { رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي
وَجْهِهِ الْغَضَبُ فَقَامَ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ ، وَقَالَ : إنَّ أَحَدَكُمْ إذَا
قَامَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ أَوْ قَالَ : إنَّ رَبَّهُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ فَلَا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ
وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ،
ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ
وَقَالَ : أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا
} .
وَمِنْهَا : ظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ الرِّيَاضَةَ تُزِيلُ
الْغَضَبَ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَآخَرُونَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْعِلَاجَ أَصْلًا .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَالْحَقُّ مَا سَنَذْكُرُهُ .
وَحَاصِلُهُ ؛ أَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ يُحِبُّ
شَيْئًا وَيَكْرَهُ شَيْئًا فَلَا يَخْلُو مِنْ الْغَضَبِ ، ثُمَّ الْمَحْبُوبُ
إنْ كَانَ ضَرُورِيًّا كَالْقُوتِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَلْبَسِ وَصِحَّةِ
الْبَدَنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْغَضَبِ لِأَجْلِ تَفْوِيتِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
ضَرُورِيٍّ كَالْجَاهِ وَالصِّيتِ وَالتَّصَدُّرِ فِي الْمَجَالِسِ
وَالْمُبَاهَاةِ بِالْعِلْمِ وَالْمَالِ الْكَثِيرِ أَمْكَنَ
عَدَمُ الْغَضَبِ عَلَيْهِ بِالزُّهْدِ وَنَحْوِهِ ،
وَإِنْ صَارَ مَحْبُوبًا بِالْعَادَةِ وَالْجَهْلِ بِمَقَاصِدِ الْأُمُورِ ، وَأَكْثَرُ
غَضَبِ النَّاسِ عَلَى هَذَا الْقِسْمِ ، أَوْ ضَرُورِيًّا فِي حَقِّ بَعْضِ
النَّاسِ كَكُتُبِ الْعُلَمَاءِ وَآلَاتِ الْمُحْتَرِفِينَ ، وَهَذَا الْقِسْمُ
لَا يَغْضَبُ لِفَوَاتِهِ إلَّا الْمُضْطَرُّ إلَيْهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ .
إذَا عُلِمَ ذَلِكَ ، فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ : لَا
تُؤَثِّرُ الرِّيَاضَةُ فِي زَوَالِهِ بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ قَضِيَّةُ
الطَّبْعِ بَلْ فِي اسْتِعْمَالِهِ عَلَى حَدٍّ يَسْتَحْسِنُهُ الشَّرْعُ
وَالْعَقْلُ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ بِالْمُجَاهَدَةِ وَتَكَلُّفِ التَّحَلُّمِ
وَالِاحْتِمَالِ مُدَّةً حَتَّى يَصِيرَ الْحِلْمُ وَالِاحْتِمَالُ خُلُقًا
رَاسِخًا .
وَكَذَلِكَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ ، لِأَنَّ مَنْ هُوَ
ضَرُورِيٌّ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ إلَى الْغَضَبِ عَلَى فَوَاتِهِ
، فَلَا يُمْكِنُ بِالْمُجَاهَدَةِ زَوَالُهُ بَلْ ضَعْفُهُ نَظِيرُ مَا تَقَرَّرَ
فِي الَّذِي قَبْلَهُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : فَيُمْكِنُ بِالْمُجَاهَدَةِ
زَوَالُهُ بِالْكُلِّيَّةِ لِإِمْكَانِ إخْرَاجِ حُبِّهِ مِنْ الْقَلْبِ لِعَدَمِ
اضْطِرَارِهِ إلَيْهِ ، وَلِمُلَاحَظَةِ أَنَّ وَطَنَ الْإِنْسَانِ الْحَقِيقِيَّ
الْقَبْرُ وَمُسْتَقَرَّهُ الْآخِرَةُ ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مَحَلُّ
تَزَوُّدِهِ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَبَالٌ عَلَيْهِ فِي
وَطَنِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ فَلْيَزْهَدْ فِيهَا مَا حَيَا حُبُّهَا مِنْ قَلْبِهِ .
نَعَمْ وُصُولُ الرِّيَاضَةِ إلَى قَلْعِ أَصْلِ هَذَا
نَادِرٌ جِدًّا .
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { اللَّهُمَّ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ،
فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ سَبَبْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ أَوْ ضَرَبْتُهُ فَاجْعَلْهَا
مِنِّي صَلَاةً عَلَيْهِ وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْك يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
{ وَقَالَ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَكْتُبُ عَنْك مَا قُلْت فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُكْتُبْ فَوَاَلَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا يَخْرُجُ
مِنْهُ إلَّا حَقٌّ وَأَشَارَ
إلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقُلْ إنِّي لَا أَغْضَبُ ،
وَلَكِنْ قَالَ : إنَّ الْغَضَبَ لَا يُخْرِجُنِي عَنْ الْحَقِّ } : أَيْ لَا
أَعْمَلُ بِمُوجَبِ الْغَضَبِ .
قَالَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ : { كَانَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَغْضَبُ لِلدُّنْيَا فَإِذَا غَضِبَ لِلْحَقِّ
لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَنْتَصِرَ لَهُ } .
وَالْحَاصِلُ ؛ أَنَّ أَعْظَمَ الطُّرُقِ فِي الْخَلَاصِ
مِنْ الْغَضَبِ مَحْوُهُ حُبَّ الدُّنْيَا عَنْ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ آفَاتِهَا
وَغَوَائِلِهَا ، وَأَعْظَمَ الطُّرُقِ فِي الْوُقُوعِ فِي وَرْطَتِهِ الزَّهْوُ
وَالْعُجْبُ وَالْمُزَاحُ وَالْهَزْلُ وَالْهُزْءُ وَالتَّعْيِيرُ وَالْمُمَارَاةُ
وَالْمُضَارَّةُ وَالْغَدْرُ وَشِدَّةُ الْحِرْصِ عَلَى فُضُولِ الْمَالِ
وَالْجَاهِ ، فَهَذِهِ بِأَجْمَعِهَا أَخْلَاقٌ رَدِيئَةٌ مَذْمُومَةٌ شَرْعًا ،
وَلَا خَلَاصَ مِنْ الْغَضَبِ مَعَ بَقَاءِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ
إزَالَتِهَا بِالْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ إلَى أَنْ يَتَحَلَّى بِأَضْدَادِهَا .
وَمِنْهَا : مَرَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ مَا يُعْلَمُ بِهِ
دَوَاءُ الْغَضَبِ وَمُزِيلُهُ بَعْدَ هَيَجَانِهِ ، وَمَرْجِعُهُ إلَى الْعِلْمِ
وَالْعَمَلِ ، فَالْعِلْمُ بِأَنْ يَتَفَكَّرَ فِيمَا سَيَجِيءُ فِي فَضْلِ كَظْمِ
الْغَيْظِ وَفِي الْعَفْوِ وَالْحِلْمِ وَالِاحْتِمَالِ ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ
يَرْغَبُ فِيمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الثَّوَابِ فَيَزُولُ مَا عِنْدَهُ
وَمَا يَضْطَرُّهُ إلَى الْهَوَانِ وَالْعَذَابِ ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا أَمَرَ
عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِضَرْبِ رَجُلٍ قَرَأَ عَلَيْهِ : { خُذْ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } فَقَرَأَهَا عُمَرُ وَتَأَمَّلَهَا
فَخَلَّاهُ ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ لَا يَتَجَاوَزُهُ ،
وَتَأَسَّى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَفِيدُهُ فِي هَذَا فَأَمَرَ
بِضَرْبِ رَجُلٍ ثُمَّ قَرَأَ : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } فَأَمَرَ
بِإِطْلَاقِهِ ، وَبِأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي أَنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ
أَعْظَمُ مِنْ قُدْرَتِهِ هُوَ فَرُبَّمَا لَوْ أَمْضَى غَضَبَهُ أَمْضَى اللَّهُ
عَلَيْهِ غَضَبَهُ فَهُوَ أَحْوَجُ مَا
يَكُونُ لِلْعَفْوِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمِنْ ثَمَّ
جَاءَ كَمَا مَرَّ : { يَا ابْنَ آدَمَ اُذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرُك
حِينَ أَغْضَبُ فَلَا أَمْحَقُك فِيمَنْ أَمْحَقُ } ، وَبِأَنْ يُحَذِّرَ نَفْسَهُ
عَاقِبَةَ الِانْتِقَامِ مِنْ تَسَلُّطِ الْمُنْتَقَمِ مِنْهُ عَلَى عِرْضِهِ ، وَإِظْهَارِ
مَعَايِبِهِ وَالشَّمَاتَةِ بِمَصَائِبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَكَائِدِ
الْأَعْدَاءِ ، فَهَذِهِ غَوَائِلُ دُنْيَوِيَّةٌ يَنْبَغِي لِمَنْ لَا يُعَوِّلُ
عَلَى الْآخِرَةِ أَنْ لَا يَقْطَعَ نَظَرَهُ عَنْهَا ، وَبِأَنْ يَتَفَكَّرَ فِي
قُبْحِ صُورَتِهِ عِنْدَ غَضَبِهِ مَعَ قُبْحِ الْغَضَبِ عِنْدَ نَفْسِهِ
وَمُشَابَهَةِ صَاحِبِهِ لِلْكَلْبِ الضَّارِي ، وَمُشَابَهَةِ الْحَلِيمِ
لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَيَتَأَمَّلُ بُعْدَ مَا بَيْنَ الشَّبَهَيْنِ
، وَبِأَنْ لَا يُصْغِيَ إلَى وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ الْمُهَيِّجَةِ لِغَضَبِهِ
فَإِنَّ تَرْكَهُ يُورِثُ عَجْزَهُ عِنْدَ النَّاسِ ، وَيَتَأَمَّلَ أَنَّ هَذَا
دُونَ عَذَابِ اللَّهِ وَانْتِقَامِهِ الْمُفَرَّعَيْنِ عَلَى الْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ .
إذْ الْغَضْبَانُ يَوَدُّ جَرَيَانَ الشَّيْءِ عَلَى وَفْقِ
مُرَادِهِ دُونَ مُرَادِ اللَّهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ لَا
يَأْمَنُ غَضَبَ اللَّهِ وَعَذَابَهُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ غَضَبِهِ
وَانْتِقَامِهِ ، وَالْعَمَلُ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ وَيَأْخُذَ بِأَنْفِ نَفْسِهِ وَيَقُولَ : اللَّهُمَّ رَبَّ النَّبِيِّ
مُحَمَّدٍ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي ، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي ، وَأَجِرْنِي مِنْ
مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ لِحَدِيثٍ فِيهِ ثُمَّ لِيَجْلِسْ ثُمَّ يَضْطَجِعْ
لِيَقْرُبَ مِنْ الْأَرْضِ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا حَتَّى يَعْرِفَ حَقَارَةَ
أَصْلِهِ وَذُلَّ نَفْسِهِ ، وَلْيَسْكُنْ عَنْ الْحَرَكَةِ النَّاشِئِ عَنْهَا
الْحَرَارَةُ النَّاشِئُ عَنْهَا الْغَضَبُ كَمَا فِي حَدِيثِ : { إنَّ الْغَضَبَ
جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي الْقَلْبِ أَلَمْ تَرَوْا إلَى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ
وَحُمْرَةِ عَيْنَيْهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا
فَلْيَجْلِسْ ، وَإِنْ كَانَ جَالِسًا فَلْيَنَمْ فَإِنْ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فَلْيَتَوَضَّأْ
بِالْمَاءِ الْبَارِدِ أَوْ
لِيَغْتَسِلْ فَإِنَّ النَّارَ لَا يُطْفِئُهَا إلَّا
الْمَاءُ } .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ
فَلْيَتَوَضَّأْ بِالْمَاءِ فَإِنَّ الْغَضَبَ مِنْ النَّارِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ ،
وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ
بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ } .
وَفِي أُخْرَى : { أَلَا إنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي
قَلْبِ ابْنِ آدَمَ : أَلَا تَرَوْنَ إلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ
أَوْدَاجِهِ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيُلْصِقْ خَدَّهُ بِالْأَرْضِ } .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَكَأَنَّ هَذَا إشَارَةٌ إلَى
السُّجُودِ وَتَمْكِينِ أَعَزِّ الْأَعْضَاءِ مِنْ أَذَلِّ الْمَوَاضِعِ - وَهُوَ
التُّرَابُ - لِتَسْتَشْعِرَ بِهِ النَّفْسُ فَتُزِيلَ بِهِ الْعِزَّةَ وَالزَّهْوَ الَّذِي
هُوَ سَبَبُ الْغَضَبِ ، وَاسْتَنْشَقَ عُمَرُ بِمَاءٍ عِنْدَ غَضَبِهِ وَقَالَ :
إنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهَذَا يُذْهِبُ الْغَضَبَ .
{ وَعَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا بِأُمِّهِ
قِيلَ : هُوَ بِلَالٌ فَعَتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ قَالَ لَهُ : يَا أَبَا ذَرٍّ ارْفَعْ رَأْسَك فَانْظُرْ - أَيْ إلَى
السَّمَاءِ - وَعِظَمِ خَالِقِهَا ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّك لَسْتَ بِأَفْضَلَ مِنْ
أَحْمَرَ وَلَا أَسْوَدَ إلَّا أَنْ تَفْضُلَهُ بِالْعِلْمِ ، ثُمَّ قَالَ : إذَا
غَضِبْتَ فَإِنْ كُنْتَ قَائِمًا فَاقْعُدْ ، وَإِنْ كُنْتَ قَاعِدًا فَاتَّكِئْ ،
وَإِنْ كُنْت مُتَّكِئًا فَاضْطَجِعْ
} .
وَمِنْهَا : لَا يَجُوزُ لَك إذَا ظُلِمْتَ بِنَحْوِ
غِيبَةٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ تَجَسُّسٍ أَنْ تُقَابِلَ ذَلِكَ بِمِثْلِهِ لِأَنَّهُ
لَا حَدَّ لَهُ يُوقَفُ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ ، وَالْقِصَاصُ إنَّمَا
يَجْرِي فِيمَا فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ ، نَعَمْ رَخَّصَ أَئِمَّتُنَا أَنْ
يُقَابِلَهُ بِمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ أَحَدٌ كَأَحْمَقَ ، وَقَالَ مُطَرِّفٌ :
كُلُّ النَّاسِ أَحْمَقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ
النَّاسِ أَقَلُّ حَمَاقَةً مِنْ بَعْضٍ .
وَقَالَ عُمَرُ : النَّاسُ كُلُّهُمْ حَمْقَى فِي ذَاتِ
اللَّهِ
، وَكَجَاهِلٍ
، إذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَفِيهِ جَهْلٌ .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَكَذَا يَا سَيِّئَ الْخُلُقِ
يَا صَفِيقَ الْوَجْهِ يَا ثَلَّابَ الْأَعْرَاضِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِيهِ ،
وَكَذَا لَوْ كَانَ فِيك حَيَاءٌ مَا تَكَلَّمْتَ مَا أَحْقَرَك فِي عَيْنِي بِمَا
فَعَلْتَ ، وَخَزَاك اللَّهُ وَانْتَقَمَ مِنْك ، فَأَمَّا نَحْوُ الْقَذْفِ
وَسَبِّ الْوَالِدَيْنِ فَحَرَامٌ اتِّفَاقًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ : { أَنَّ
زَيْنَبَ سَبَّتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَأَجَابَتْهَا حَتَّى
غَلَبَتْهَا بِحَضْرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّهَا
ابْنَةُ أَبِيهَا } .
وَالْمُرَادُ بِالسَّبِّ هُنَا أَنَّهَا أَجَابَتْهَا
عَنْ كَلَامِهَا بِالْحَقِّ وَقَابَلَتْهَا بِالصِّدْقِ ، وَالْأَفْضَلُ تَرْكُ
ذَلِكَ ، وَإِنْ جَازَ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَى مَا هُوَ أَقْبَحُ وَأَفْحَشُ .
وَفِي حَدِيثٍ : { الْمُؤْمِنُ سَرِيعُ الْغَضَبِ
سَرِيعُ الرِّضَا فَهَذِهِ بِتِلْكَ
} وَفِي آخَرَ : { أَنَّهُ قَسَّمَ الْخَلْقَ إلَى
سَرِيعِهِمَا وَبَطِيئِهِمَا وَسَرِيعِ أَحَدِهِمَا بَطِيءِ الْآخَرِ وَجَعَلَ خَيْرَهُمْ
بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا وَشَرَّهُمْ عَكْسَهُ } .
وَمِنْهَا :
قَدْ مَرَّ أَنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ الْغَضَبِ الْحِقْدُ
وَالْحَسَدُ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْغَضَبَ إذَا لَزِمَ كَظْمُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّشَفِّي
حَالًا رَجَعَ إلَى الْبَاطِنِ وَاحْتَقَنَ فِيهِ فَصَارَ حِقْدًا وَحَسَدًا ،
وَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ قَلْبَهُ اسْتِثْقَالُهُ وَبُغْضُهُ دَائِمًا فَهَذَا هُوَ
الْحِقْدُ .
وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ أَنْ تَحْسُدَهُ بِأَنْ تَتَمَنَّى
زَوَالَ نِعْمَتِهِ عَنْهُ ، وَتَتَمَتَّعَ بِنِعْمَتِهِ وَتَفْرَحَ بِمُصِيبَتِهِ
، وَأَنْ تَشْمَتَ بِبَلِيَّتِهِ وَتَهْجُرَهُ وَتُقَاطِعَهُ ، وَإِنْ أَقْبَلَ
عَلَيْك ، وَتُطْلِقَ لِسَانَك فِيهِ بِمَا لَا يَحِلُّ ، وَتَهْزَأَ بِهِ
وَتَسْخَرَ مِنْهُ وَتُؤْذِيَهُ ، وَتَمْنَعَهُ حَقَّهُ مِنْ نَحْوِ صِلَةِ رَحِمٍ
أَوْ رَدِّ مَظْلِمَةٍ وَكُلُّ ذَلِكَ شَدِيدُ الْإِثْمِ وَالتَّحْرِيمِ ؛
وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ الْحِقْدِ الِاحْتِرَازُ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ الْمُنْقِصَةِ
لِلدِّينِ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْمُؤْمِنُ لَيْسَ بِحَقُودٍ } .
وَمِنْهَا :
قَدْ عَلِمْتَ قَرِيبًا مَعْنَى الْحَسَدِ فَلَا حَسَدَ
إلَّا عَلَى نِعْمَةٍ بِأَنْ تَكْرَهَهَا لِلْغَيْرِ وَتُحِبَّ زَوَالَهَا عَنْهُ
، فَإِنْ اشْتَهَيْتَ لِنَفْسِك مِثْلَهَا مَعَ بَقَائِهَا لِذَوِيهَا فَهُوَ غِبْطَةٌ
، وَقَدْ يُخَصُّ بِاسْمِ الْمُنَافَسَةِ وَهِيَ قَدْ تُسَمَّى حَسَدًا كَمَا
مَرَّ فِي خَبَرِ : { لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ } وَفِي حَدِيثٍ : { الْمُؤْمِنُ
يَغْبِطُ وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ
} .
إذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ ، فَالْأَوَّلُ حَرَامٌ وَفُسُوقٌ
بِكُلِّ حَالٍ .
نَعَمْ إنْ تَمَنَّى زَوَالَ نِعْمَةِ فَاجِرٍ مِنْ
حَيْثُ إنَّهَا آلَةُ فَسَادِهِ ، وَإِيذَائِهِ الْخَلْقَ وَلَوْ صَلُحَ حَالُهُ
لَمْ يَتَمَنَّ زَوَالَهَا عَنْهُ فَلَا حُرْمَةَ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَنَّ
زَوَالَهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا نِعْمَةً بَلْ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا آلَةَ الْفَسَادِ
وَالْإِيذَاءِ ، وَيَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَدِ وَأَنَّهُ فُسُوقٌ
وَكَبِيرَةٌ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَخْبَارِ .
وَمِنْ آفَاتِهِ ؛ أَنَّ فِيهِ تَسَخُّطًا لِقَضَاءِ
اللَّهِ إذْ أَنْعَمَ عَلَى الْغَيْرِ مِمَّا لَا مَضَرَّةَ عَلَيْك فِيهِ ،
وَشَمَاتَةً بِأَخِيك الْمُسْلِمِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تَمْسَسْكُمْ
حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } { وَدَّ كَثِيرٌ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّارًا
حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا
فَتَكُونُونَ سَوَاءً } { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ } .
وَالثَّانِي
: أَعْنِي الْغِبْطَةَ وَالْمُنَافَسَةَ ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ
، بَلْ هُوَ إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ أَوْ مُبَاحٌ ، قَالَ تَعَالَى : {
وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } - { سَابِقُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ } وَالْمُسَابَقَةُ تَقْتَضِي خَوْفَ الْفَوْتِ كَعَبْدَيْنِ
يَتَسَابَقَانِ لِخِدْمَةِ مَوْلَاهُمَا حَتَّى يَحْظَى السَّابِقُ عِنْدَهُ ،
فَالْوَاجِبُ يَكُونُ فِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ الْوَاجِبَةِ كَنِعْمَةِ
الْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَالزَّكَاةِ ، فَيَجِبُ أَنْ يُحِبَّ
أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْقَائِمِ
بِذَلِكَ ، وَإِلَّا كُنْتَ رَاضِيًا بِالْمَعْصِيَةِ ،
وَالرِّضَا بِهَا حَرَامٌ ، وَالْمَنْدُوبُ يَكُونُ فِي الْفَضَائِلِ :
كَالْعُلُومِ ، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي الْمَبَرَّاتِ ، وَالْمُبَاحُ
يَكُونُ فِي النِّعَمِ الْمُبَاحَةِ كَالنِّكَاحِ ، نَعَمْ الْمُنَافَسَةُ فِي الْمُبَاحَاتِ
تُنْقِصُ مِنْ الْفَضَائِلِ وَتُنَاقِضُ الزُّهْدَ وَالرِّضَا وَالتَّوَكُّلَ ،
وَتَحْجُبُ عَنْ الْمَقَامَاتِ الرَّفِيعَةِ مِنْ غَيْرِ إثْمٍ ، نَعَمْ هُنَا
دَقِيقَةٌ يَنْبَغِي التَّنَبُّهُ لَهَا ، وَإِلَّا وَقَعَ الْإِنْسَانُ فِي
الْحَسَدِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْعُرَ وَهِيَ أَنَّ مَنْ أَيِسَ مِنْ
أَنْ يَنَالَ مِثْلَ نِعْمَةِ الْغَيْرِ فَبِالضَّرُورَةِ أَنَّ نَفْسَهُ
تَعْتَقِدُ أَنَّهُ نَاقِصٌ عَنْ صَاحِبِ تِلْكَ النِّعْمَةِ وَأَنَّهَا تُحِبُّ
زَوَالَ نَقْصِهَا ، وَزَوَالُهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُسَاوَاةِ ذِي النِّعْمَةِ
، أَوْ بِزَوَالِهَا عَنْهُ قَدْ فَرَضَ يَأْسَهُ عَنْ مُسَاوَاتِهِ فِيهَا فَلَمْ
يَبْقَ إلَّا مَحَبَّتُهُ لِزَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ الْمُتَمَيِّزِ بِهَا
عَنْهُ إذْ بِزَوَالِهَا يَزُولُ تَخَلُّفُهُ وَتَقَدُّمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ بِهَا
، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ قَدَرَ عَلَى إزَالَتِهَا عَنْ الْغَيْرِ أَزَالَهَا
فَهُوَ حَسُودٌ حَسَدًا مَذْمُومًا ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ التَّقْوَى مَا
يَمْنَعُهُ عَنْ إزَالَتِهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا وَعَنْ مَحَبَّةِ
زَوَالِهَا عَنْ الْغَيْرِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ
لَا تَنْفَكُّ النَّفْسُ عَنْهُ وَلَعَلَّهُ الْمَعْنِيُّ بِالْخَبَرِ السَّابِقِ
: { كُلُّ ابْنِ آدَمَ حَسُودٌ
} .
وَفِي رِوَايَةٍ : { ثَلَاثَةٌ لَا يَنْفَكُّ
الْمُسْلِمُ عَنْهُنَّ : الْحَسَدُ ، وَالظَّنُّ ، وَالطِّيَرَةُ ؛ وَلَهُ
مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ إذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ } : أَيْ إنْ وَجَدْتَ فِي قَلْبِك
شَيْئًا فَلَا تَعْمَلْ بِهِ ، وَيَبْعُدُ مِمَّنْ يُرِيدُ مُسَاوَاةَ غَيْرِهِ
فِي النِّعْمَةِ فَيَعْجِزُ عَنْهَا سِيَّمَا إنْ كَانَ مِنْ أَقْرَانِهِ أَنْ
يَنْفَكَّ عَنْ الْمَيْلِ إلَى زَوَالِهَا ، فَهَذَا الْحَدُّ مِنْ الْمُنَافَسَةِ
يُشْبِهُ الْحَسَدَ الْحَرَامَ فَيَنْبَغِي الِاحْتِيَاطُ التَّامُّ ، فَإِنَّهُ
مَتَى صَغِيَ إلَى
مَحَبَّةِ نَفْسِهِ وَمَالَ بِاخْتِيَارِهِ إلَى
مُسَاوَاتِهِ لِذِي النِّعْمَةِ بِمَحَبَّةِ زَوَالِهَا عَنْهُ فَهُوَ مُرْتَبِكٌ
فِي الْحَسَدِ الْحَرَامِ وَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ إلَّا إنْ قَوِيَ إيمَانُهُ
وَرَسَخَ قَدَمُهُ فِي التَّقْوَى ، وَمَهْمَا حَرَّكَهُ خَوْفُ نَقْصِهِ عَنْ
غَيْرِهِ جَرَّهُ إلَى الْحَسَدِ الْمَحْظُورِ ، وَإِلَى مَيْلِ الطَّبْعِ إلَى زَوَالِ
نِعْمَةِ الْغَيْرِ حَتَّى يَنْزِلَ لِمُسَاوَاتِهِ ، وَهُنَا لَا رُخْصَةَ فِيهِ
بِوَجْهٍ ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي مَقَاصِدِ الدِّينِ أَمْ الدُّنْيَا .
قَالَ الْغَزَالِيُّ : وَلَكِنَّ ذَلِكَ يُعْفَى عَنْهُ مَا
لَمْ يَعْمَلْ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَتَكُونُ كَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ
مِنْ نَفْسِهِ كَفَّارَةً لَهُ : وَمِنْهَا : قَدْ عَرَفْتَ مَاهِيَّةَ الْحَسَدِ
وَأَحْكَامَهُ .
وَأَمَّا مَرَاتِبُهُ : فَهِيَ إمَّا مَحَبَّةُ زَوَالِ
نِعْمَةِ الْغَيْرِ ، وَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ لِلْحَاسِدِ ، وَهَذَا غَايَةُ
الْحَسَدِ ، أَوْ مَعَ انْتِقَالِهَا إلَيْهِ أَوْ انْتِقَالِ مِثْلِهَا إلَيْهِ ،
وَإِلَّا أَحَبَّ زَوَالَهَا لِئَلَّا يَتَمَيَّزَ عَلَيْهِ أَوْ لَا مَعَ
مَحَبَّةِ زَوَالِهَا ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنْ
الْحَسَدِ إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا ، وَالْمَطْلُوبُ إنْ كَانَ فِي الدِّينِ
كَمَا مَرَّ .
وَمِنْهَا :
لَا شَكَّ أَنَّ الْحَسَدَ مِنْ أَمْرَاضِ الْقُلُوبِ
الْعَظِيمَةِ ، وَأَمْرَاضُ الْقُلُوبُ لَا تُدَاوَى إلَّا بِالْعِلْمِ ،
فَالْعِلْمُ النَّافِعُ لِمَرَضِ الْحَسَدِ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّهُ يَضُرُّ دِينًا وَدُنْيَا
وَلَا يَضُرُّ الْمَحْسُودَ لَا دِينًا وَلَا دُنْيَا ، إذْ لَا تَزُولُ نِعْمَةٌ
بِحَسَدٍ قَطُّ ، وَإِلَّا لَمْ يَبْقَ لِلَّهِ نِعْمَةٌ عَلَى أَحَدٍ حَتَّى
الْإِيمَانُ لِأَنَّ الْكُفَّارَ يُحِبُّونَ زَوَالَهُ عَنْ أَهْلِهِ ، بَلْ
الْمَحْسُودُ مُنْتَفِعٌ بِحَسَدِك دِينًا لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ مِنْ جِهَتِك
سِيَّمَا إنْ أَبْرَزْتَ حَسَدَك إلَى الْخَارِجِ بِالْغِيبَةِ وَهَتْكِ السِّتْرِ
وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ ، فَهَذِهِ هَدَايَا تُهْدِي إلَيْهِ
حَسَنَاتِك بِسَبَبِهَا حَتَّى تَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُفْلِسًا
مَحْرُومًا مِنْ النِّعَمِ كَمَا حُرِمْتَ مِنْهَا فِي
الدُّنْيَا وَدِينًا لِسَلَامَتِهِ مِنْ غَمِّك
وَحُزْنِك وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَأْتِي ، وَمَتَى انْكَشَفَ غِشَاءُ بَصِيرَتِك
وَرَيْنُ قَلْبِك وَتَأَمَّلْتَ ذَلِكَ وَلَمْ تَكُنْ عَدُوَّ نَفْسِك وَلَا
صَدِيقَ عَدُوِّك أَعْرَضْت عَنْ الْحَسَدِ أَصْلًا وَرَأْسًا حَذَرًا مِنْ أَنْ
تَكُونَ قَدْ وَقَعْتَ بِهِ فِي وَرْطَةٍ عَظِيمَةٍ ، وَهِيَ أَنَّك قَدْ سَخِطْتَ
قَضَاءَ اللَّهِ وَكَرِهْتَ قِسْمَةَ اللَّهِ وَعَدْلَهُ ، وَهَذِهِ جِنَايَةٌ
أَيُّ جِنَايَةٍ عَلَى حَضْرَةِ التَّوْحِيدِ وَنَاهِيكَ بِهَا جِنَايَةً عَلَى
الدِّينِ ، وَكَيْفَ لَا وَأَنْتَ قَدْ فَارَقْتَ بِذَلِكَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ
وَالْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ فِي حُبِّهِمْ وُصُولَ الْخَيْرِ لِعِبَادِ اللَّهِ
وَشَارَكْت إبْلِيسَ وَالشَّيَاطِينَ فِي مَحَبَّتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ
الْبَلَايَا وَزَوَالَ النِّعَمِ ؟ وَهَذِهِ خَبَائِثُ فِي الْقَلْبِ تَأْكُلُ
حَسَنَاتِك كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ ، هَذَا مَعَ مَا يَنْضَمُّ
لِذَلِكَ مِنْ ضَرَرِك الدُّنْيَوِيِّ بِتَوَالِي الْهَمِّ وَالْغَمِّ عَلَيْك
كُلَّمَا رَأَيْتَ مَحْسُودَك يَتَزَايَدُ فِي النِّعَمِ وَأَنْتَ تَتَنَاقَصُ
فِيهَا ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ آفَاتِ حَسَدِك فَأَنْتَ دَائِمًا فِي
غَايَةِ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ وَضِيقِ الصَّدْرِ وَتَشَعُّبِ الْقَلْبِ ، فَلَوْ فُرِضَ
أَنَّك لَمْ تُؤْمِنْ بِبَعْثٍ وَلَا حِسَابٍ لَكَانَ مِنْ الْحَزْمِ تَرْكُ
الْحَسَدِ حَتَّى تَسْلَمَ مِنْ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ
النَّاجِزَةِ قَبْلَ الْعُقُوبَاتِ الْأُخْرَوِيَّةِ ، فَظَهَرَ أَنَّك عَدُوُّ
نَفْسِك وَصَدِيقُ عَدُوِّك إذْ تَعَاطَيْتَ مَا تَضَرَّرْت بِهِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَانْتَفَعَ بِهِ عَدُوُّك فِيهِمَا ، وَصِرْتَ مَذْمُومًا عِنْدَ
الْخَلْقِ وَالْخَالِقِ شَقِيًّا حَالًا وَمَآلًا .
وَأَمَّا الْعَمَلُ النَّافِعُ لِذَلِكَ الْمَرَضِ ؛ فَهُوَ
أَنْ تُكَلِّفَ نَفْسَك أَنْ تَصْنَعَ بِالْمَحْسُودِ ضِدَّ مَا اقْتَضَاهُ
حَسَدُك فَتُبَدِّلُ الذَّمَّ بِالْمَدْحِ ، وَالتَّكَبُّرَ عَلَيْهِ
بِالتَّوَاضُعِ لَهُ ، وَمَنْعَ إدْخَالِ رِفْقٍ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ
الْإِرْفَاقِ بِهِ وَهَكَذَا ، فَبِهَذَا يَضْعُفُ دَاءُ الْحَسَدِ وَكُلَّمَا
زِدْت مِنْ ذَلِكَ زَادَ
تَنَاقُصُ الْحَسَدِ إلَى أَنْ يَنْعَدِمَ ، فَافْهَمْ
تَسْلَمْ وَامْتَثِلْ تَغْنَمْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُوَفِّقُ وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ .
وَمِنْهَا :
لَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُبْغِضُ مَنْ آذَاهُ
طَبْعًا فَلَا يَسْتَوِي عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِهِ وَسُوءُهُ غَالِبًا ، وَبِهَذَا يُنَازِعُ
الشَّيْطَانُ النَّفْسَ إلَى حَسَدِهِ فَإِنْ أَطَاعَتْهُ حَتَّى أَظْهَرَتْ
الْحَسَدَ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ اخْتِيَارِيٍّ أَوْ أَبْطَنَتْهُ بِأَنْ أَحَبَّتْ
زَوَالَ نِعْمَتِهِ فَهِيَ عَاصِيَةٌ بِحَسَدِهَا إذْ مَعْصِيَةُ الْحَسَدِ
بِالْقَلْبِ فَحُسِبَتْ مَظْلِمَةً مُتَعَلِّقَةً بِالْخَلْقِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ
فِي التَّوْبَةِ مِنْهَا اسْتِحْلَالُ الْمَحْسُودِ لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا
يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، فَمَتَى كَفَفْت ظَاهِرَك
وَأَلْزَمْت مَعَ ذَلِكَ قَلْبَك كَرَاهَةَ مَا يَتَرَسَّخُ فِيهِ بِالطَّبْعِ
مِنْ حُبِّ زَوَالِ النِّعْمَةِ حَتَّى كَأَنَّك مَقَتَّ نَفْسَك عَلَى مَا فِي طَبْعِهَا
كَانَتْ تِلْكَ الْكَرَاهَةُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فِي مُقَابَلَةِ الْمَيْلِ
مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ قَدْ أَدَّيْت الْوَاجِبَ وَلَا
يَدْخُلُ تَحْتَ اخْتِيَارِك غَالِبًا أَكْثَرُ مِنْ هَذَا ، فَأَمَّا تَغْيِيرُ
الطَّبْعِ إلَى أَنْ يَسْتَوِيَ عِنْدَهُ الْمُؤْذِي وَالْمُحْسِنُ وَيَكُونَ
فَرَحُهُ بِنِعْمَتِهِمَا وَغَمِّهِ بِبَلِيَّتِهِمَا سَوَاءً ، فَأَمْرٌ
يَأْبَاهُ الطَّبْعُ مَا لَمْ يَسْتَغْرِقْ فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَيَشْتَغِلْ بِهَا إلَى أَنْ يَرَى الْخَلْقَ كُلَّهُمْ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ
وَهِيَ عَيْنُ الرَّحْمَةِ ، وَبِتَقْدِيرِ حُصُولِ هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَدُومُ
بَلْ تَكُونُ كَالْبَرْقِ ، ثُمَّ يَعُودُ الْقَلْبُ إلَى طَبْعِهِ وَالشَّيْطَانُ
إلَى مُنَازَعَتِهِ بِالْوَسْوَسَةِ ، وَمَهْمَا قَابَلَ ذَلِكَ بِكَرَاهَتِهِ بِقَلْبِهِ
فَقَدْ أَدَّى مَا كُلِّفَهُ .
وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ مَا
دَامَ الْحَسَدُ لَمْ يَظْهَرْ عَلَى جَوَارِحِهِ ، لِخَبَرِ : { ثَلَاثٌ لَا
يَخْلُو مِنْهُنَّ مُؤْمِنٌ وَلَهُ مِنْهُنَّ مَخْرَجٌ ، فَمَخْرَجُهُ مِنْ
الْحَسَدِ أَنْ لَا يَبْغِيَ } وَهَذَا ضَعِيفٌ أَوْ شَاذٌّ بَلْ الصَّوَابُ مَا
مَرَّ مِنْ حُرْمَتِهِ مُطْلَقًا ، وَيُحْمَلُ الْخَبَرُ
إنْ صَحَّ عَلَى مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ دِينًا وَعَقْلًا فِي
مُقَابَلَةِ حُبِّ الطَّبْعِ لِزَوَالِ نِعْمَةِ الْعَدُوِّ ، وَهَذِهِ
الْكَرَاهَةُ تَمْنَعُهُ مِنْ الْبَغْيِ وَالْإِيذَاءِ ، وَقَدْ مَرَّتْ
الْأَخْبَارُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ فِي ذَمِّ كُلِّ حَاسِدٍ وَإِثْمِهِ ،
وَالْحَسَدُ لَيْسَ حَقِيقَتُهُ إلَّا فِي الْقَلْبِ ، وَكَيْفَ يَسُوغُ لِأَحَدٍ
أَنْ يُجَوِّزَ مَحَبَّةَ إسَاءَةِ مُسْلِمٍ ، وَاشْتِمَالَ قَلْبِهِ عَلَيْهَا مِنْ
غَيْرِ كَرَاهَةٍ مِنْهُ لِذَلِكَ ؟
.
فِي ذِكْرِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ كَظْمِ الْغَيْظِ
وَالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحُبِّ فِي اللَّهِ
تَعَالَى قَالَ تَعَالَى : { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ
وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا
السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَك
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا
الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } { وَلَمَنْ
صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } { فَاصْفَحْ الصَّفْحَ
الْجَمِيلَ } { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَكُمْ } { وَاخْفِضْ جَنَاحَك لِلْمُؤْمِنِينَ } { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك } وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ ، يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا
وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا
} .
{ مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ قَطُّ إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ
إثْمًا فَإِنْ كَانَ إثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ } .
{ وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ فِي شَيْءٍ إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ
اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
{ هَلْ أَتَى عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ يَوْمٌ كَانَ
أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ قَالَ : لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِك وَكَانَ
أَشَدُّ مَا لَقِيتُهُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى
ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلَى مَا أَرَدْتُ
فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلَّا وَأَنَا
بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي
، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَادَانِي فَقَالَ :
إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -
قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَمَا رَدُّوا عَلَيْك ،
وَقَدْ بَعَثَ إلَيْك مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ،
فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ وَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إنَّ
اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ
بَعَثَنِي رَبِّي إلَيْك لِتَأْمُرَنِي بِمَا شِئْتَ ، فَإِنْ شِئْتَ أَطْبَقْتُ عَلَيْهِمْ
الْأَخْشَبَيْنِ ، فَقُلْتُ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ
- مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا } .
{ قَالَ أَنَسٌ : كُنْت أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ
الْحَاشِيَةِ ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً
شَدِيدَةً فَنَظَرْتُ إلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ ،
ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَك ، فَالْتَفَتَ
إلَيْهِ وَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ } .
{ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
وَقَدْ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ
وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } .
{ لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إنَّمَا الشَّدِيدُ
الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ } .
وَمُسْلِمٌ :
{ إنَّ فِيك خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ :
الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ قَالَهُ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ } كَمَا يَأْتِي : {
إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي
عَلَى مَا سِوَاهُ } .
{ إنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ
وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ } .
{ مَنْ يُحْرَمْ الرِّفْقَ يُحْرَمْ الْخَيْرَ كُلَّهُ } .
{ إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - كَتَبَ الْإِحْسَانَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا
ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ
شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } .
{ مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَةً
وَلَا خَادِمًا إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَمَا نِيلَ شَيْءٌ قَطُّ
فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ
- عَزَّ وَجَلَّ - فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ } .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : { قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ
إلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْت فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ
الْمَلَّ - : أَيْ الرَّمَادَ الْحَارَّ - وَلَا يَزَالُ مَعَك مِنْ اللَّهِ -
عَزَّ وَجَلَّ - ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ } .
وَالْبُخَارِيُّ : { أَنَّ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ لَمَّا
بَالَ فِي الْمَسْجِدِ قَامَ النَّاسُ إلَيْهِ لِيَقَعُوا فِيهِ ، فَقَالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعُوهُ وَأَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا } - :
أَيْ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْجِيمِ - { مِنْ مَاءٍ ، أَوْ قَالَ
ذَنُوبًا } - : أَيْ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَكِلَاهُمَا الدَّلْوُ
الْمُمْتَلِئَةُ مَاءً - { فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا
مُعَسِّرِينَ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ ، وَابْنُ
سَعْدٍ وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ عَنْ الْأَشَجِّ -
وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَامِرٍ - : { إنَّ فِيك لَخَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا
اللَّهُ : الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ
} .
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ،
وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ،
وَالْبَغَوِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُمِّ أَبَانَ عَنْ جَدِّهَا ،
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو يَعْلَى عَنْ الْأَشَجِّ ، وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ
ابْنِ عُمَرَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ { عَنْ جُوَيْرِيَةَ : إنَّ فِيك
لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ }
وَاَلْبَارُودِيُّ : { يَا أَشَجُّ إنَّ فِيك
خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { فِيك خُلُقَانِ يُحِبُّهُمَا
اللَّهُ : الْأَنَاةُ وَالتُّؤَدَةُ
} .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ
بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ قَالَ : بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ ؟
قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ
هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { خِيَارُ أُمَّتِي أَحِدَّاؤُهُمْ
الَّذِينَ إذَا غَضِبُوا رَجَعُوا
.
الْحِدَّةُ تَعْتَرِي خِيَارَ أُمَّتِي } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { الْحِدَّةُ تَعْتَرِي حَمَلَةَ
الْقُرْآنِ لِعِزَّةِ الْقُرْآنِ فِي أَجْوَافِهِمْ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { الْحِدَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي
صَالِحِي أُمَّتِي وَأَبْرَارِهَا
} .
وَالسِّجْزِيُّ وَالدَّيْلَمِيُّ : { لَيْسَ أَحَدٌ
أَحَقَّ بِالْحِدَّةِ مِنْ حَامِلِ الْقُرْآنِ لِعِزَّةِ الْقُرْآنِ فِي جَوْفِهِ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { إنَّ الرَّجُلَ لَيُدْرِكُ
بِالْحِلْمِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ ، وَإِنَّهُ لَيُكْتَبُ جَبَّارًا
وَلَا يَمْلِكُ إلَّا أَهْلَ بَيْتِهِ
} .
وَالْخَطِيبُ : { الْحَلِيمُ سَيِّدٌ فِي الدُّنْيَا
وَسَيِّدٌ فِي الْآخِرَةِ .
كَادَ الْحَلِيمُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { يَا أَشَجُّ إنَّ فِيك خَصْلَتَيْنِ
يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : الْحِلْمُ وَالتُّؤَدَةُ } وَهِيَ بِالدَّالِ
الْمُهْمَلَةِ التَّأَنِّي فِي الْأُمُورِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حُسْنُهَا مِنْ
قُبْحِهَا .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { لَيْسَ بِحَلِيمٍ مَنْ لَمْ
يُعَاشِرْ بِالْمَعْرُوفِ مَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُعَاشَرَتِهِ حَتَّى يَجْعَلَ
اللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَخْرَجًا
} .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَا أَزْيَنَ مَنْ حَلُمَ ، مَا
أُوذِيَ أَحَدٌ مَا أُوذِيتُ فِي اللَّهِ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَا تَجَرَّعَ عَبْدٌ
جَرْعَةً أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا ابْتِغَاءَ
وَجْهِ اللَّهِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَا مِنْ جَرْعَةٍ أَعْظَمَ أَجْرًا
عِنْدَ اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { مَا جَرْعَةٌ أَحَبَّ إلَى
اللَّهِ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ ، مَا
كَظَمَهَا عَبْدٌ إلَّا مَلَأَ اللَّهُ جَوْفَهُ
إيمَانًا } .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ
عَلَى إنْفَاذِهِ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ أَمْنًا ، وَإِيمَانًا ، وَمَنْ تَرَكَ
لُبْسَ ثَوْبِ جَمَالٍ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ تَوَاضُعًا كَسَاهُ اللَّهُ حُلَّةَ
الْكَرَامَةِ ، وَمَنْ زَوَّجَ لِلَّهِ تَوَجَّهَ اللَّهُ تَاجَ الْمُلْكِ } .
وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ : { مَنْ كَظَمَ
غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ يُزَوِّجُهُ
مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ
سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { وَجَبَتْ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَلَى
مَنْ أُغْضِبَ فَحَلُمَ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { ابْغِ الرِّفْعَةَ عِنْدَ اللَّهِ
تَحْلُمُ عَمَّنْ جَهِلَ عَلَيْك وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَك } .
وَابْنُ السُّنِّيِّ : { مَا أُضِيفَ شَيْءٌ إلَى شَيْءٍ
أَفْضَلُ مِنْ حِلْمٍ إلَى عِلْمٍ
} .
وَابْنُ شَاهِينَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : مَا أَعَزَّ
اللَّهُ بِجَهْلٍ قَطُّ وَلَا أَذَلَّ اللَّهُ بِحِلْمٍ قَطُّ وَلَا نَقَصَتْ
صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ قَطُّ
" .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { غَرِيبَتَانِ : كَلِمَةُ حِكْمَةٍ
مِنْ سَفِيهٍ ، وَكَلِمَةُ سَفَهٍ مِنْ حَلِيمٍ فَاغْفِرُوهَا ، فَإِنَّهُ لَا حَلِيمَ
إلَّا ذُو عَثْرَةٍ وَلَا حَكِيمَ إلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ } .
وَالْعَسْكَرِيُّ : { لَا حَلِيمَ إلَّا ذُو أَنَاةٍ
وَلَا عَلِيمَ إلَّا ذُو عَثْرَةٍ وَلَا حَكِيمَ إلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ لَا يَرْحَمْ مَنْ فِي
الْأَرْضِ لَا يَرْحَمْهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ } أَيْ عِزُّهُ وَسُلْطَانُهُ {
مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ ، وَمَنْ لَا يَغْفِرْ لَا يُغْفَرْ لَهُ ، وَمَنْ
لَا يَتُبْ لَا يُتَبْ عَلَيْهِ إنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ
الرُّحَمَاءَ .
لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَلَمْ
يَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا } ، { وَلَيْسَ مِنَّا
مَنْ غَشَّنَا } ، { وَلَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنًا حَتَّى يُحِبَّ
لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } .
{ الْبَرَكَةُ فِي أَكَابِرِنَا .
فَمَنْ لَمْ يَرْحَمْ
صَغِيرَنَا وَيُجِلَّ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالدُّولَابِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ :
{ خَابَ وَخَسِرَ عَبْدٌ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِهِ رَحْمَةً
لِلْبَشَرِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالْحَاكِمُ : { الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ،
ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ } .
زَادَ الثَّلَاثَةُ الْمُتَأَخِّرُونَ : { وَالرَّحِمُ
شَجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ : أَيْ لَفْظُهَا مُشْتَقٌّ مِنْ اسْمِهِ الرَّحْمَنِ ،
فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ
وَالْحَاكِمُ : { لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : {
ارْحَمُوا تُرْحَمُوا وَاغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ .
وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَهُ
وَلَا يَعْمَلُونَ بِهِ ، وَوَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا
فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
.
وَمُسْلِمٌ : { لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي
الدُّنْيَا إلَّا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ
الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ كَشَفَ
عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا
فِي بَيْتِهِ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ
عَدِيٍّ : { أَشْكَرُ النَّاسِ لِلَّهِ أَشْكَرُهُمْ لِلنَّاسِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ
كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا ، وَمَنْ لَمْ تَكُونَا فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ
اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا مَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ
فَاقْتَدَى بِهِ .
وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَحَمِدَ
اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا ، وَمَنْ
نَظَرَ فِي دِينِهِ إلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إلَى مَنْ هُوَ
فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ
مِنْهُ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلَا صَابِرًا } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ : { اُنْظُرُوا إلَى مَنْ
هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ
أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { بُعِثْتُ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ :
رَأْسُ الْعَقْلِ الْمُدَارَاةُ ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا هُمْ
أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ
} .
وَابْنُ حِبَّانَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ :
{ مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ
} .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي
بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِإِقَامَةِ الْفَرَائِضِ } .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ
الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ مُدَارَاةُ النَّاسِ ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي
الدُّنْيَا أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَهْلُ التَّكَبُّرِ فِي
الدُّنْيَا أَهْلُ التَّكَبُّرِ فِي الْآخِرَةِ } .
وَأَحْمَدُ : { مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ
يَنْصُرْهُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ : { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ : أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ لِجَلَالِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي
ظِلِّي يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلِّي
} .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { الْمُتَحَابُّونَ
لِجَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ
وَالشُّهَدَاءُ } .
وَمَالِكٌ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِي وَالْمُتَجَالِسِينَ فِي
، وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِي ، وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِي } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ
أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ } .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ : الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ
وَالْخُيَلَاءُ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ
يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ
كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ
مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } { إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } { إنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ }
أَيْ صَاغِرِينَ .
وَالْآيَاتُ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ كَثِيرَةٌ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي
فِي حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ } : أَيْ مُمَشِّطٌ رَأْسَهُ {
مُخْتَالٌ فِي مِشْيَتِهِ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي
الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
} .
وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ
مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَجُرُّ إزَارَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ خُسِفَ بِهِ فَهُوَ
يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالْخُيَلَاءُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَوْ
كَسْرِهَا وَبِفَتْحِ الْيَاءِ مَمْدُودًا هُوَ الْكِبْرُ وَالْعُجْبُ ، وَيَتَجَلْجَلُ
بِجِيمَيْنِ : أَيْ يَغُوصُ وَيَنْزِلُ فِيهَا .
وَأَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : {
بَيْنَمَا رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَ فِي بُرْدَيْنِ أَخْضَرَيْنِ
مُخْتَالًا فِيهِمَا ، أَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ فَأَخَذَتْهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ
فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
} .
وَصَحَّ أَيْضًا { أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِي حُلَّةٍ
حَمْرَاءَ فَتَبَخْتَرَ وَاخْتَالَ فِيهَا فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ
يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ :
{ إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى مَنْ يَجُرُّ إزَارَهُ
بَطَرًا ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ
مِنْ كِبْرٍ ، قِيلَ : إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ
حَسَنَةً ، قَالَ : إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ
} : أَيْ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمُهْمَلَةِ ، رَدُّهُ وَدَفْعُهُ ، {
وَغَمْطُ النَّاسِ } : أَيْ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ ،
وَبِالْمُهْمَلَةِ ، وَهُوَ
احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ وَكَذَا غَمْصُهُمْ
بِالْمُهْمَلَةِ .
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فَقَالَ : { وَلَكِنَّ
الْكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ } .
وَقَدْ احْتَجَّا : أَيْ الشَّيْخَانِ : بِرُوَاتِهِ .
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ
الَّذِي يَجُرُّ ثِيَابَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { خَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ فِي حُلَّةٍ لَهُ يَخْتَالُ فِيهَا ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْأَرْضَ
فَأَخَذَتْهُ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ : { لَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ
خَرْدَلٍ مِنْ إيمَانٍ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ
} .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَتَكَبَّرُ
وَيَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارِينَ فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَاللَّفْظُ لَهُ وَقَالَ
: حَدِيثٌ حَسَنٌ : { يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ
الذَّرِّ فِي صُورَةِ الرِّجَالِ ، يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَان
يُسَاقُونَ إلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ
الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ } ،
وَبُولَسُ بِمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَلَامٍ مَفْتُوحَةٍ
فَمُهْمَلَةٍ ، وَالْخَبَالُ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ فَالْمُوَحَّدَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : { يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ذَرًّا فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَعْلُوهُمْ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ
الصَّغَارِ ثُمَّ يُسَاقُونَ إلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ بُولَسُ
تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ عُصَارَةَ
أَهْلِ النَّارِ } .
وَفِي أُخْرَى : { يُحْشَرُ الْجَبَّارُونَ ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ تَطَؤُهُمْ النَّاسُ لِهَوَانِهِمْ عَلَى
اللَّهِ } .
وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ : {
الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، فَمَنْ
نَازَعَنِي فِي رِدَائِي قَصَمْتُهُ } .
وَمَيْمُونَةُ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعِزُّ إزَارِي ، مَنْ نَازَعَنِي فِي شَيْءٍ
مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ : { قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إزَارِي ، فَمَنْ
نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ :
الْعِزُّ إزَارِي وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي فِيهِمَا
عَذَّبْتُهُ } .
وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَاللَّفْظُ
لَهُ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، وَالْعَظَمَةُ
إزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْته فِي جَهَنَّمَ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ : { مَا مِنْ
رَجُلٍ يَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ
تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ
} .
وَالْبَزَّارُ : { كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ ، وَآدَمُ
خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ ، لَيَنْتَهِيَنَّ قَوْمٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ أَوْ
لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجِعْلَانِ } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إيَّاكُمْ وَالْكِبْرَ ، فَإِنَّ
إبْلِيسَ حَمَلَهُ الْكِبْرُ عَلَى أَنْ لَا يَسْجُدَ لِآدَمَ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْحِرْصَ
، فَإِنَّ آدَمَ حَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى أَنْ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ ؛
وَإِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ ، فَإِنَّ ابْنَيْ آدَمَ إنَّمَا قَتَلَ أَحَدُهُمَا
صَاحِبَهُ حَسَدًا فَهَذَا أَصْلُ خَطِيئَتِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْكِبْرَ ، فَإِنَّ
الْكِبْرَ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ ، وَإِنَّ عَلَيْهِ الْعَبَاءَةَ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ
: { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ ؟ كُلُّ
عُتُلٍّ } : أَيْ بِضَمَّتَيْنِ فَشَدَّةٍ : الْغَلِيظُ الْجَافِي ، { جَوَّاظٍ }
: أَيْ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ بِالْمُعْجَمَةِ هُوَ الْجَمُوعُ الْمَنُوعُ
، وَقِيلَ : الضَّخْمُ الْمُخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ ، وَقِيلَ : الْقَصِيرُ
الْبَطِينُ { جَعْظَرِيٍّ مُسْتَكْبِرٍ
} .
وَالشَّيْخَانِ ، { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ
النَّارِ ؟
كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ } .
وَأَبُو دَاوُد : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْجَوَّاظُ
وَلَا الْجَعْظَرِيُّ } .
قَالَ : وَالْجَوَّاظُ الْغَلِيظُ الْفَظُّ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ ابْنَ
سَبْعِينَ فِي أَهْلِهِ ابْنَ عِشْرِينَ فِي مِشْيَتِهِ وَمَنْظَرِهِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ
الْبَذِخِينَ الْفَرِحِينَ الْمَرِحِينَ } .
وَأَبُو بَكْرِ بْنُ لَالٍ وَعَبْدُ الْغَنِيِّ بْنُ
سَعْدٍ وَابْنُ عَدِيٍّ : { اجْتَنِبُوا الْكِبْرَ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ
يَتَكَبَّرُ حَتَّى يَقُولَ اللَّهُ تَعَالَى : اُكْتُبُوا عَبْدِي هَذَا فِي
الْجَبَّارِينَ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { لَا يَزَالُ الْعَبْدُ
يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ : أَيْ يَرْتَفِعُ وَيَتَكَبَّرُ حَتَّى يُكْتَبَ فِي الْجَبَّارِينَ
فَيُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ }
.
وَصَحَّ : { لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ
مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ الْعُجْبَ
} .
وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ : { الْكِبْرُ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ
وَغَمَطَ النَّاسَ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { بَرَاءَةٌ مِنْ
الْكِبْرِ لُبْسُ الصُّوفِ وَمُجَالَسَةُ فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَرُكُوبُ
الْحِمَارِ وَاعْتِقَالُ الْعَنْزِ
} .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ حَمَلَ سِلْعَتَهُ فَقَدْ
بَرِئَ مِنْ الْكِبْرِ } .
وَالْحَاكِمُ : { سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الْأُمَمِ
؛ الْأَشَرُ وَالْبَطَرُ وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّشَاحُنُ فِي الدُّنْيَا
وَالتَّبَاغُضُ وَالتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ } .
وَأَحْمَدُ : { الْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ فِي أَهْلِ
الْإِبِلِ ، وَالسَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ } .
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { ثَلَاثَةٌ لَا
يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ، وَلَا يَنْظُرُ
إلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ : شَيْخٌ زَانٍ ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ ، وَعَائِلٌ
} أَيْ فَقِيرٌ { مُسْتَكْبِرٌ
} .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : {
أَرْبَعَةٌ يُبْغِضُهُمْ اللَّهُ : الْبَيَّاعُ الْحَلَّافُ ، وَالْفَقِيرُ
الْمُخْتَالُ ، وَالشَّيْخُ الزَّانِي ، وَالْإِمَامُ الْجَائِرُ } .
وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ وَصَحَّحَاهُ : { عُرِضَ
عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلَاثَةٍ
يَدْخُلُونَ النَّارَ : أَمِيرٌ مُسَلَّطٌ ، وَذُو
ثَرْوَةٍ مِنْ مَالٍ لَا يُؤَدِّي حَقَّ اللَّهِ فِيهِ ، وَفَقِيرٌ فَخُورٌ } .
وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ : { ثَلَاثَةٌ لَا
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الشَّيْخُ الزَّانِي ، وَالْإِمَامُ الْكَذَّابُ ،
وَالْعَائِلُ الْمَزْهُوُّ } : أَيْ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِهِ الْمُتَكَبِّرُ .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِسْكِينٌ
مُتَكَبِّرٌ ، وَلَا شَيْخٌ زَانٍ ، وَلَا مَنَّانٌ عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ : {
مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ وَاخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ
عَلَيْهِ غَضْبَانُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَقْبَلَ رَجُلٌ يَمْشِي فِي
بُرْدَيْنِ لَهُ قَدْ أَسْبَلَ إزَارَهُ وَنَظَرَ فِي عِطْفَيْهِ وَهُوَ
يَتَبَخْتَرُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا
إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ابْنَ
عِشْرِينَ إذَا كَانَ شَبَهَ ابْنِ ثَمَانِينَ } : أَيْ فِي التَّضَعُّفِ
وَالتَّوَاضُعِ ، { وَيُبْغِضُ ابْنَ السِّتِّينَ إذَا كَانَ شَبَهَ ابْنِ
عِشْرِينَ } .
وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ
الْأَرْبَعَةِ : { مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إلَيْهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَابْنُ لَالٍ : { الْجَبَرُوتُ فِي الْقَلْبِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ النَّاسَ لَا يَرْفَعُونَ
شَيْئًا إلَّا وَضَعَهُ اللَّهُ
} .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ الْعُجْبَ يُحْبِطُ عَمَلَ
سَبْعِينَ سَنَةً } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { لَوْ كَانَ الْعُجْبُ رَجُلًا
لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ
لَصُبَّ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ ؛ الْعُجْبُ } .
وَرَوَى أَحْمَدُ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ رُوَاةُ الصَّحِيحِ
، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ مِنْ طَرِيقِهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : { الْتَقَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عَمْرٍو وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى الْمَرْوَةِ فَتَحَدَّثَا ثُمَّ مَضَى
ابْنُ
عَمْرٍو وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ يَبْكِي .
قَالُوا : وَمَا يُبْكِيك يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ
؟ قَالَ : هَذَا ، يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو ، زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ كَانَ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ أَكَبَّهُ اللَّهُ فِي
النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ : { لَيَنْتَهِيَنَّ
أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا ، إنَّمَا هُمْ فَحْمُ
جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْ الْجُعَلِ } - أَيْ
بِضَمٍّ فَفَتْحٍ : دُوَيْبَّةٌ أَرْضِيَّةٌ ، { - الَّذِي يُدَهْدِهُ } - : أَيْ
يُدَحْرِجُ وَزْنًا وَمَعْنًى {
- الْخَرْأَةَ بِأَنْفِهِ .
إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ
وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ ، إنَّمَا هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ
النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ } .
وَعُبِّيَّةُ بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَوْ
كَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرِهَا وَتَشْدِيدِ التَّحْتِيَّةِ
هِيَ الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالنَّخْوَةُ .
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد صَلَّى اللَّهُ
وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا يَوْمًا لِلْجِنِّ وَالْإِنْسِ
وَالطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ : اُخْرُجُوا فَخَرَجُوا فِي مِائَتَيْ أَلْفٍ مِنْ
الْإِنْسِ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ مِنْ الْجِنِّ ، فَرُفِعَ حَتَّى سَمِعَ زَجَلَ
الْمَلَائِكَةِ بِالتَّسْبِيحِ فِي السَّمَوَاتِ ، ثُمَّ خُفِضَ حَتَّى مَسَّتْ
قَدَمَاهُ الْبَحْرَ فَسَمِعَ صَوْتًا : لَوْ كَانَ فِي قَلْبِ صَاحِبِكُمْ
مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ لَخَسَفْتُ بِهِ أَبْعَدَ مِمَّا رَفَعْتُهُ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى رَجُلٍ يَجُرُّ إزَارَهُ بَطَرًا } ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : دَخَلْت عَلَى ابْنِ
عُمَرَ فَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَاقِدٍ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ جَدِيدٌ
فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : يَا بُنَيَّ ارْفَعْ إزَارَك فَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ
جَرَّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ } ،
رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُقْتَصِرًا عَلَى الْمَرْفُوعِ دُونَ
ذِكْرِ مُرُورِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَاقِدٍ عَلَى ابْنِ عُمَرَ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : إنَّ الْمَارَّ رَجُلٌ
مِنْ بَنِي لَيْثٍ غَيْرُ مُسَمًّى
.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَ
إسْنَادَهُ : { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَزَقَ يَوْمًا
عَلَى كَفِّهِ وَوَضَعَ أُصْبُعَهُ عَلَيْهَا وَقَالَ : يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى
: يَا ابْنَ آدَمَ أَتُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُك مِنْ مِثْلِ هَذِهِ ؟ حَتَّى
إذَا سَوَّيْتُك وَعَدَلْتُك مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ ، وَلِلْأَرْضِ مِنْك وَئِيدٌ
، جَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ قُلْتَ أَتَصَدَّقُ
وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ }
.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَخْرُجُ
مِنْ النَّارِ عَقْرَبٌ لَهُ أُذُنَانِ تَسْمَعَانِ وَعَيْنَانِ تُبْصِرَانِ
وَلِسَانٌ يَنْطِقُ يَقُولُ : وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ، وَبِكُلِّ
مَنْ دَعَا مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ، وَبِالْمَصُورِينَ } ، رَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ : حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ
النَّارُ : أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، وَقَالَتْ
الْجَنَّةُ : مَالِي لَا يَدْخُلُنِي إلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَأَسْقَاطُهُمْ وَعَجَزَتُهُمْ
، فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِلْجَنَّةِ : إنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ
بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي ، وَقَالَ لِلنَّارِ : إنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي
أُعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا
مِلْؤُهَا } .
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ : { احْتَجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ،
فَقَالَتْ النَّارُ : فِي الْجَبَّارُونَ ، وَالْمُتَكَبِّرُونَ ، وَقَالَتْ
الْجَنَّةُ : فِي ضُعَفَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَمَسَاكِينُهُمْ ، فَقَضَى اللَّهُ
تَعَالَى بَيْنَهُمَا ؛ إنَّك الْجَنَّةُ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِك مَنْ أَشَاءُ ، وَإِنَّك
النَّارُ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِك مَنْ أَشَاءُ وَلِكِلَيْكُمَا عَلَيَّ مِلْؤُهَا } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بِئْسَ
الْعَبْدُ
عَبْدٌ بَخِلَ وَاخْتَالَ وَنَسِيَ الْكَبِيرَ
الْمُتَعَالِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَجَبَّرَ وَاعْتَدَى وَنَسِيَ
الْجَبَّارَ الْأَعْلَى ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا وَلَهَا وَنَسِيَ
الْمَقَابِرَ وَالْبِلَى ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ عَتَا وَطَغَى وَنَسِيَ
الْمُبْتَدَا وَالْمُنْتَهَى ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ
بِالشَّهَوَاتِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ ، بِئْسَ الْعَبْدُ
عَبْدٌ هَوًى يُضِلُّهُ بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ رَغَبٌ يُذِلُّهُ } ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَقَالَ : غَرِيبٌ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِذَاكَ ، وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ
، وَالْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ
نُعَيْمٍ الْغَطَفَانِيِّ أَخَصْرَ مِنْهُ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا
مَشَتْ أُمَّتِي الْمُطَيْطَا وَخَدَمَتْهُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ سُلِّطَ بَعْضُهُمْ
عَلَى بَعْضٍ } ، رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ،
وَالْمُطَيْطَا بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ
بَيْنَهُمَا تَحْتِيَّةٌ مُصَغَّرًا وَلَمْ يُسْمَعْ مُكَبَّرًا مَمْدُودًا
وَيُقْصَرُ : هُوَ التَّبَخْتُرُ وَمَدُّ الْيَدَيْنِ فِي الْمَشْيِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ
تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ أَوْ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى
وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { ثَلَاثٌ
مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ وَهَوًى مُتَّبَعٌ وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ ،
وَالْحَاكِمُ بِزِيَادَةٍ فِي أَوَّلِهِ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ
نُوحًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ دَعَا
ابْنَيْهِ وَقَالَ : إنِّي آمُرُكُمَا بِاثْنَتَيْنِ وَأَنْهَاكُمَا عَنْ
اثْنَتَيْنِ أَنْهَاكُمَا عَنْ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ ، وَآمُرُكُمَا بِلَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا فِيهِنَّ لَوْ
وُضِعَتْ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ وَوُضِعَتْ لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى كَانَتْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ
أَرْجَحَ مِنْهَا ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا حَلْقَةً
فَوُضِعَتْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عَلَيْهِمَا لَقَصَمَتْهُمَا ، وَآمُرُكُمَا بِسُبْحَانَ
اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِنَّهَا صَلَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِهَا يُرْزَقُ كُلُّ
شَيْءٍ } .
وَقَالَ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى
نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ : طُوبَى لِمَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ كِتَابَهُ ثُمَّ لَمْ
يَمُتْ جَبَّارًا .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ فِي السُّوقِ ، وَعَلَيْهِ حُزْمَةٌ مِنْ حَطَبٍ فَقِيلَ
لَهُ : مَا يَحْمِلُك عَلَى هَذَا وَقَدْ أَغْنَاك اللَّهُ عَنْ هَذَا ؟ قَالَ :
أَرَدْتُ أَنْ أَدْفَعَ الْكِبْرَ عَنْ نَفْسِي ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي
قَلْبِهِ خَرْدَلَةٌ مِنْ كِبْرٍ } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ،
وَالْأَصْبَهَانِيّ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ } .
وَعَنْ كُرَيْبٍ قَالَ : كُنْت أَقُودُ ابْنَ عَبَّاسٍ
فِي زُقَاقِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ : يَا كُرَيْبُ بَلَغْنَا مَكَانَ كَذَا وَكَذَا
؟ قُلْت : أَنْتَ عِنْدَهُ الْآنَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
قَالَ : { بَيْنَمَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْنِ وَيَنْظُرُ
إلَى عِطْفَيْهِ فَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ إذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فِي
هَذَا الْمَوْطِنِ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } رَوَاهُ
أَبُو يَعْلَى .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَهْلُ النَّارِ كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ
مُسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ الضُّعَفَاءُ
الْمَغْلُوبُونَ } .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ،
وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ : { يَا
سُرَاقَةُ أَلَا أُخْبِرُك بِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ ؟ قُلْتُ
: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : أَمَّا أَهْلُ
النَّارِ فَكُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ ، وَأَمَّا أَهْلُ الْجَنَّةِ
فَالضُّعَفَاءُ الْمَغْلُوبُونَ
} .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَحْمَدَ رُوَاتُهَا رُوَاةُ الصَّحِيحِ
: أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جِنَازَةٍ فَقَالَ : أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِشَرِّ
عِبَادِ اللَّهِ ؟ الْفَظُّ الْمُسْتَكْبِرُ ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ
عِبَادِ اللَّهِ ؟ الضَّعِيفُ الْمُسْتَضْعَفُ ذُو الطِّمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ
لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ : { أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ
الْجَنَّةِ ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُسْتَضْعَفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ
، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ
مِنْ أَحَبِّكُمْ إلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي
مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ } : أَيْ الْمُتَوَسِّعُونَ
فِي الْكَلَامِ { الْمُتَفَيْهِقُونَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ
عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ ؟ قَالَ :
الْمُتَكَبِّرُونَ } ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ : وَالثَّرْثَارُ - بِمُثَلَّثَتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ وَتَكْرِيرِ
الرَّاءِ - كَثِيرُ الْكَلَامِ تَكَلُّفًا ، وَالْمُتَشَدِّقُ الْمُتَكَلِّمُ
بِمِلْءِ شِدْقِهِ تَفَاصُحًا وَتَعَاظُمًا وَاسْتِعْلَاءً عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ
مَعْنَى الْمُتَفَيْهِقِ .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى
بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ فَقُلْت لَهُ : يَا بِلَالُ إنَّ أَبَاك حَدَّثَنِي
عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :
{ إنَّ فِي جَهَنَّمَ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ : هَبْهَبُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ
يَسْكُنَهُ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ، فَإِيَّاكَ يَا بِلَالُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ
يَسْكُنُهُ } ، رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ
وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ .
وَهَبْهَبُ بِفَتْحِ الْهَاءَيْنِ وَبِمُوَحَّدَتَيْنِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يُحْشَرُ
الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُوَرِ الذَّرِّ } ، رَوَاهُ
الْبَزَّارُ وَسَنَدُهُ حَسَنٌ
.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ فِي
النَّارِ تَوَابِيتَ يُجْعَلُ فِيهَا الْمُتَكَبِّرُونَ فَتُغْلَقُ عَلَيْهِمْ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ فَارَقَتْ
رُوحُهُ جَسَدَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ : الْكِبْرِ
وَالدَّيْنِ وَالْغُلُولِ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِ : { مَنْ مَاتَ وَهُوَ
بَرِيءٌ مِنْ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } .
وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَقَالَ
: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا ، وَضَبَطَهُ بَعْضُ
الْحُفَّاظِ : الْكَنْزِ ، بِالنُّونِ وَالزَّايِ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا
تُحَقِّرَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ حَقِيرَ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ
اللَّهِ كَبِيرٌ .
وَقَالَ وَهْبٌ : لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى
جَنَّةَ عَدْنٍ نَظَرَ إلَيْهَا فَقَالَ لَهَا : أَنْتِ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ
مُتَكَبِّرٍ .
وَقَالَ الْأَحْنَفُ : عَجَبًا لِابْنِ آدَمَ
يَتَكَبَّرُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : الْعَجَبُ لِابْنِ آدَمَ يَغْسِلُ
الْخِرَاءَ بِيَدِهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُعَارِضُ
جَبَّارَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ
.
وَسُئِلَ سُلَيْمَانُ عَنْ السَّيِّئَةِ الَّتِي لَا
تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ ؟ فَقَالَ : الْكِبْرُ .
وَنَظَرَ الْحَسَنُ إلَى أَمِيرٍ يَمْشِي مُتَبَخْتِرًا
فَقَالَ : أُفٍّ أُفٍّ لِشَامِخٍ بِأَنْفِهِ ثَانٍ عِطْفَهُ مُصَعِّرٍ خَدَّهُ
يَنْظُرُ فِي عِطْفَيْهِ : أَيْ حُمَيْقٍ أَيْنَ تَنْظُرُ فِي عِطْفَيْك ؟ فِي
نِعَمٍ غَيْرِ مَشْكُورَةٍ وَلَا مَذْكُورَةٍ ، غَيْرِ الْمَأْخُوذِ بِأَمْرِ اللَّهِ
فِيهَا وَلَا الْمُؤَدَّى حَقُّ اللَّهِ مِنْهَا ، فَسَمِعَ فَجَاءَهُ مُعْتَذِرًا
فَقَالَ : لَا تَعْتَذِرْ إلَيَّ وَتُبْ إلَى رَبِّك ،
أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا
تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّك لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ
طُولًا } وَاخْتَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي مِشْيَتِهِ قَبْلَ
الْخِلَافَةِ ، فَغَمَزَ طَاوُسٌ جَنْبَهُ بِأُصْبُعِهِ وَقَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ
مِشْيَةَ مَنْ فِي بَطْنِهِ خَيْرٌ ، فَقَالَ كَالْمُعْتَذِرِ : يَا عَمِّ لَقَدْ
ضُرِبَ كُلُّ عُضْوٍ مِنِّي عَلَى هَذِهِ الْمِشْيَةِ حَتَّى تَعَلَّمْتُهَا .
وَرَأَى مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ وَلَدَهُ يَخْتَالُ فِي
مِشْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ : أَتَدْرِي مَا أَنْتَ ؟ أَمَّا أُمُّك فَاشْتَرَيْتُهَا
بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، وَأَمَّا أَبُوك فَلَا أَكْثَرَ اللَّهُ فِي
الْمُسْلِمِينَ مِثْلَهُ .
وَرَأَى مُطَرِّفٌ الْمُهَلَّبَ يَتَبَخْتَرُ فِي
جُبَّةِ خَزٍّ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ إنَّ هَذِهِ مِشْيَةٌ يُبْغِضُهَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، فَقَالَ لَهُ الْمُهَلَّبُ : أَمَا تَعْرِفُنِي ؟ فَقَالَ :
بَلَى أَعْرِفُك ، أَوَّلُك نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ وَآخِرُك جِيفَةٌ قَذِرَةٌ ، وَأَنْتَ
بَيْنَ ذَلِكَ تَحْمِلُ الْعَذِرَةَ ، فَتَرَكَ الْمُهَلَّبُ مِشْيَتَهُ تِلْكَ .
تَنْبِيهَاتٌ : مِنْهَا : عَدُّ مَا ذُكِرَ مِنْ
الْكَبَائِرِ ظَاهِرٌ وَبِهِ صَرَّحَ جَمَاعَةٌ .
وَعِبَارَةُ بَعْضِهِمْ : الْكَبِيرَةُ التَّاسِعَةَ
عَشْرَةَ ، الْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ وَالْعُجْبُ وَالتِّيهُ ،
وَسَيَأْتِي فِي بَابِ اللِّبَاسِ بَسْطٌ فِيهِ ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِبَعْضِ
مَا مَرَّ مِنْ الْأَحَادِيثِ كَحَدِيثِ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي
قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ } ، وَحَدِيثِ الْخَسْفِ بِالْمُتَبَخْتِرِ
، وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ فِي قَوْلِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - : { وَلَا
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } إنْ فَعَلَتْهُ تَبَرُّجًا وَتَعَرُّضًا لِلرِّجَالِ
حَرُمَ ، وَكَذَا مَنْ ضَرَبَ بِنَعْلِهِ مِنْ الرِّجَالِ عُجْبًا حَرُمَ لِأَنَّ
الْعُجْبَ كَبِيرَةٌ .
وَمِنْهَا : الْكِبْرُ إمَّا عَلَى اللَّهِ - تَعَالَى -
وَهُوَ أَفْحَشُ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ
.
كَتَكَبُّرِ فِرْعَوْنَ وَنُمْرُودَ حَيْثُ اسْتَنْكَفَا
أَنْ يَكُونَا عَبْدَيْنِ لَهُ تَعَالَى وَادَّعَيَا الرُّبُوبِيَّةَ ، قَالَ
تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أَيْ صَاغِرِينَ .
{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ } الْآيَةَ ، وَإِمَّا
عَلَى رَسُولِهِ بِأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الِانْقِيَادِ لَهُ تَكَبُّرًا جَهْلًا
وَعِنَادًا كَمَا حَكَى اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ
، وَإِمَّا عَلَى الْعِبَادِ بِأَنْ يَسْتَعْظِمَ نَفْسَهُ وَيَحْتَقِرَ غَيْرَهُ
وَيَزْدَرِيَهُ فَيَأْبَى عَلَى الِانْقِيَادِ لَهُ أَوْ يَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ
وَيَأْنَفَ مِنْ مُسَاوَاتِهِ ، وَهَذَا ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْأَوَّلَيْنِ
إلَّا أَنَّهُ عَظِيمٌ إثْمُهُ أَيْضًا لِأَنَّ الْكِبْرِيَاءَ وَالْعَظَمَةَ
إنَّمَا يَلِيقَانِ بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ الْقَوِيِّ الْمَتِينِ دُونَ الْعَبْدِ
الْعَاجِزِ الضَّعِيفِ ، فَتَكَبُّرُهُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ لِلَّهِ فِي صِفَةٍ لَا
تَلِيقُ إلَّا بِجَلَالِهِ ، فَهُوَ كَعَبْدٍ أَخَذَ تَاجَ مَلِكٍ وَجَلَسَ عَلَى سَرِيرِهِ
فَمَا أَعْظَمَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْمَقْتِ وَأَقْرَبَ اسْتِعْجَالَهُ لِلْخِزْيِ ،
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى كَمَا مَرَّ فِي أَحَادِيثَ : إنَّ مَنْ نَازَعَهُ
الْعَظَمَةَ وَالْكِبْرِيَاءَ أَهْلَكَهُ ، أَيْ لِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِهِ
الْخَاصَّةِ بِهِ تَعَالَى ، فَالْمُنَازِعُ فِيهِمَا مُنَازِعٌ فِي بَعْضِ
صِفَاتِهِ تَعَالَى ؛ وَأَيْضًا فَالتَّكَبُّرُ عَلَى عِبَادِهِ لَا يَلِيقُ إلَّا
بِهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - ، فَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَيْهِمْ فَقَدْ جَنَى عَلَيْهِ
إذْ مَنْ اسْتَذَلَّ خَوَاصَّ غِلْمَانِ الْمَلِكِ مُنَازِعٌ لَهُ فِي بَعْضِ
أَمْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ قُبْحَ مَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ عَلَى سَرِيرِهِ
، وَمِنْ لَازِمِ هَذَا الْكِبْرِ بِنَوْعَيْهِ مُخَالَفَةُ أَوَامِرِ الْحَقِّ ،
لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ - وَمِنْهُ الْمُتَجَادِلُونَ فِي مَسَائِلِ الدِّينِ
بِالْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ - تَأْبَى نَفْسُهُ مِنْ قَبُولِ مَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ
وَإِنْ اتَّضَحَ سَبِيلُهُ ، بَلْ يَدْعُوهُ كِبْرُهُ إلَى الْمُبَالَغَةِ فِي
تَزْيِيفِهِ وَإِظْهَارِ إبْطَالِهِ ، فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْله تَعَالَى : {
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ
تَغْلِبُونَ } { ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ
اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ
فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كَفَى
بِالرَّجُلِ إثْمًا إذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَنْ يَقُولَ : عَلَيْك
بِنَفْسِك .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ : {
كُلْ بِيَمِينِك ، فَقَالَ مُتَكَبِّرًا : لَا أَسْتَطِيعُ فَشُلَّتْ يَدُهُ
فَلَمْ يَرْفَعْهَا بَعْدُ } .
فَإِذَنْ التَّكَبُّرُ عَلَى الْخَلْقِ يَدْعُو إلَى التَّكَبُّرِ
عَلَى الْخَالِقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ إبْلِيسَ لَمَّا تَكَبَّرَ عَلَى آدَمَ
وَحَسَدَهُ بِقَوْلِهِ : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } جَرَّهُ ذَلِكَ إلَى التَّكَبُّرِ
عَلَى اللَّهِ لِمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ فَهَلَكَ هَلَاكًا مُؤَبَّدًا ، وَمِنْ
ثَمَّ جُعِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَلَامَةِ الْكِبْرِ بَطَرُ
الْحَقِّ أَيْ رَدُّهُ ، وَغَمْطُ النَّاسِ : أَيْ احْتِقَارُهُمْ
وَازْدِرَاؤُهُمْ ؛ ثُمَّ الْحَامِلُ عَلَى التَّكَبُّرِ هُوَ اعْتِقَادُ كَمَالِ
تَمَيُّزِهِ عَلَى الْغَيْرِ بِعِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ مَالٍ أَوْ
جَمَالٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ كَثْرَةِ أَتْبَاعٍ ، فَالتَّكَبُّرُ
أَسْرَعُ إلَى الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُمْنَحُوا نُورَ التَّوْفِيقِ مِنْهُ إلَى
غَيْرِهِمْ ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَرَى غَيْرَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ
كَالْبَهِيمَةِ فَيُقَصِّرُ فِي حُقُوقِهِ الَّتِي طَلَبَهَا الشَّارِعُ مِنْهُ
كَالسَّلَامِ وَالْعِيَادَةِ وَالْبِشْرِ ، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ لَا يُخِلَّ
بِشَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهِ لِمَحَبَّتِهِ التَّرَفُّعَ عَلَيْهِ ، وَفَاعِلُ ذَلِكَ
أَجْهَلُ الْجَاهِلِينَ لِأَنَّهُ جَهِلَ مِقْدَارَ نَفْسِهِ وَرَبِّهِ ، وَخَطَرَ
الْخَاتِمَةِ ، وَعَكَسَ الْمَوْضُوعَ ، إذْ مِنْ شَأْنِ الْعِلْمِ أَنْ يُوجِبَ
مَزِيدَ الْخَوْفِ وَالتَّوَاضُعِ لِعِظَمِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَتَقْصِيرِهِ
فِي شُكْرِ نِعْمَتِهِ ، لَكِنْ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَهُ إمَّا يَرْجِعُ إلَى
الدُّنْيَا ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ فِيهِ فَخَاضَ فِيهِ عَلَى
غَيْرِ وَجْهِهِ فَأَنْتَجَ لَهُ تِلْكَ الْقَبَائِحَ ، وَكَذَلِكَ الْعُلَمَاءُ
الَّذِينَ ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ سِيمَا الصَّالِحِينَ يُسْرِعُ إلَيْهِمْ
الْكِبْرُ ، لَكِنَّ النَّاسَ يَتَرَدَّدُونَ إلَيْهِمْ
بِقَضَاءِ مَآرِبِهِمْ وَالْمُبَالَغَةِ فِي إكْرَامِهِمْ فَيَرَوْنَ حِينَئِذٍ
أَنَّهُمْ أَرْفَعُ وَأَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ النَّاسُ دُونَهُمْ لِعَدَمِ وُصُولِهِمْ
إلَى صُوَرِ أَعْمَالِهِمْ ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا
لِسَلْبِهِمْ .
كَمَا وَقَعَ أَنَّ خَلِيعًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ
جَلَسَ إلَى عَابِدٍ لِيَنْتَفِعَ بِهِ فَأَنِفَ مِنْ مُجَالَسَتِهِ وَطَرَدَهُ ،
فَأَوْحَى اللَّهُ - تَعَالَى - إلَى نَبِيِّهِمْ أَنَّهُ غَفَرَ لِلْخَلِيعِ
وَأَحْبَطَ عَمَلَ الْعَابِدِ .
فَالْجَاهِلُ الْعَامِّيُّ إذَا تَوَاضَعَ وَذُلَّ
هَيْبَةً لِلَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ فَقَدْ أَطَاعَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ أَطْوَعُ
مِنْ الْعَالِمِ الْمُتَكَبِّرِ وَالْعَابِدِ الْمُعْجَبِ .
وَقَدْ يَنْتَهِي الْحُمْقُ وَالْغَبَاوَةُ بِبَعْضِ
الْعِبَادِ إلَى أَنَّهُ إذَا أُوذِيَ يَتَوَعَّدُ مُؤْذِيَهُ وَيَقُولُ :
سَتَرَوْنَ مَا يَحِلُّ بِهِ ، وَإِذَا نُكِبَ مُؤْذِيهِ يَعُدُّ ذَلِكَ مِنْ
كَرَامَاتِهِ لِعِظَمِ قَدْرِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ وَاسْتِيلَاءِ الْجَهْلِ عَلَيْهِ
لِجَمْعِهِ بَيْنَ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالِاغْتِرَارِ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ قَتَلَ جَمَاعَةٌ الْأَنْبِيَاءَ وَمَاتُوا مِنْ
غَيْرِ أَنْ يُعَاجَلُوا بِعِقَابٍ فِي الدُّنْيَا فَمَا مَرْتَبَةُ هَذَا
الْجَاهِلِ ؟ ، وَإِذَا اتَّضَحَ لَك كِبْرُ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ
هُمَا فِي الظَّاهِرِ عَلَيْهِمَا مُعَوَّلُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا اتَّضَحَ لَك
كِبْرُ الْبَقِيَّةِ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ وَالْجَاهِ وَغَيْرِهِمْ ؛ فَالْمُتَكَبِّرُ
بِالنَّسَبِ قَدْ يَرَى مَنْ لَيْسَ كَنَسَبِهِ مِثْلَ عَبْدِهِ ، وَكَذَا
بِالْجَمَالِ ، وَأَكْثَرُ مَا يَجْرِي بَيْنَ النِّسَاءِ وَنَحْوِهِنَّ ، وَكَذَا
بِالْمَالِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ بَيْنَ أَرْبَابِ الدُّنْيَا مِنْ الْمَنَاصِبِ
وَالْمَتَاجِرِ وَغَيْرِهَا ، وَكَذَا بِالْأَتْبَاعِ وَالْجُنْدِ ، وَأَكْثَرُ
مَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُلُوكِ ؛ وَمِمَّا يُهَيِّجُ الْكِبْرَ وَيُسَعِّرُ
نَارَهُ الْعُجْبُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَالرِّيَاءُ ؛ إذْ التَّكَبُّرُ
خُلُقٌ بَاطِنِيٌّ لِأَنَّهُ اسْتِعْظَامُ النَّفْسِ وَرُؤْيَةُ قَدْرِهَا فَوْقَ قَدْرِ
الْغَيْرِ ، وَمُوجِبُهُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْعُجْبُ ،
وَحَدُّهُ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي فِي مَعْنَاهُ : مَنْ أُعْجِبَ بِشَيْءٍ
مِنْ عِلْمِهِ أَوْ عَمَلِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا مَرَّ اسْتَعْظَمَ نَفْسَهُ
وَتَكَبَّرَ وَتَمَرَّدَ وَتَجَبَّرَ
.
وَأَمَّا غَيْرُ الْعُجْبِ مِمَّا ذَكَرْنَا فَإِنَّمَا
هُوَ سَبَبٌ لِلتَّكَبُّرِ الظَّاهِرِ لِأَنَّ بَاعِثَهُ عَلَى التَّكَبُّرِ عَلَيْهِ
هُوَ الْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَعَلَى غَيْرِهِ هُوَ الرِّيَاءُ .
وَمِنْهَا
: يَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَرَادَ الْخَلَاصَ
مِنْ وَرْطَةِ الْكِبْرِ وَثَمَرَتِهِ الْقَبِيحَةِ - إذْ هُوَ مِنْ
الْمُهْلِكَاتِ وَلَا يَخْلُو أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ ،
وَإِزَالَتُهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَهِيَ لَا تُمْكِنُ بِمُجَرَّدِ التَّمَنِّي ، بَلْ بِالْمُعَالَجَةِ
بِاسْتِعْمَالِ أَدْوِيَتِهِ النَّافِعَةِ فِي إزَالَتِهِ مِنْ أَصْلِهِ - أَنْ
يَعْرِفَ نَفْسَهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ بِأَنْ يَتَأَمَّلَ مَا أَشَارَ إلَى
بِدَايَتِهِ مِنْ أَذَلِّ الْأَشْيَاءِ وَأَحْقَرِهَا وَأَقْذَرِهَا - وَهُوَ
التُّرَابُ ثُمَّ الْمَنِيُّ - ، وَوَسَطِهِ مِنْ
التَّأَهُّلِ لِاكْتِسَابِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ وَحِيَازَةِ الْمَنَاصِبِ
وَالْمَرَاتِبِ ، وَنِهَايَتِهِ مِنْ الزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ وَالْعَوْدِ إلَى
مِثْلِ بِدَايَتِهِ ثُمَّ إعَادَتِهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْأَكْبَرِ ثُمَّ
إلَى الْجَنَّةِ أَوْ إلَى النَّارِ ، وَمِنْ أَظْهَرِ مَا أَشَارَ لِكُلِّ ذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى : { قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ
أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ كَلًّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ
فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ إلَى طَعَامِهِ } إلَى آخِرِ السُّورَةِ .
وقَوْله تَعَالَى : { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ
حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } الْآيَاتِ
.
فَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ وَنَظَائِرَهُ وَمَا أَشَارَتْ
إلَيْهِ الْآيَاتُ عَلِمَ أَنَّهُ أَذَلُّ وَأَحْقَرُ مِنْ كُلِّ ذَلِيلٍ
وَحَقِيرٍ ، وَأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ إلَّا الذِّلَّةُ وَالتَّوَاضُعُ ، وَأَنْ
يَعْرِفَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَا تَلِيقُ الْعَظَمَةُ
وَالْكِبْرِيَاءُ إلَّا بِهِ - تَعَالَى - ، بِخِلَافِ
نَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ الْفَرَحُ لَحْظَةً وَاحِدَةً ، فَكَيْفَ الْبَطَرُ
وَالْخُيَلَاءُ بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ لَهُ مَبْدَأُ أَمْرِهِ وَوَسَطُهُ ، وَلَوْ
ظَهَرَ لَهُ آخِرُهُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ رُبَّمَا اخْتَارَ أَنْ يَكُونَ
بَهِيمَةً ، وَلَوْ كَلْبًا سِيَّمَا إنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ ، وَلَوْ رَأَى أَهْلُ الدُّنْيَا صُورَةً مِنْ صُوَرِ أَهْلِ النَّارِ
لَصُعِقُوا مِنْ قُبْحِهَا وَمَاتُوا مِنْ نَتْنِهَا ، فَمَنْ هَذَا عَاقِبَتُهُ -
إلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ عَلَى شَكٍّ فِي الْعَفْوِ - كَيْفَ
يَتَكَبَّرُ وَيَرَى نَفْسَهُ شَيْئًا ، وَأَيُّ عَبْدٍ لَمْ يُذْنِبْ ذَنْبًا
يَسْتَحِقُّ بِهِ عُقُوبَةَ اللَّهِ إلَّا أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ الْكَرِيمُ
بِفَضْلِهِ .
وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا ذَكَرْنَاهُ حَقِيقَةَ
التَّأَمُّلِ زَالَ عَنْهُ النَّظَرُ إلَى عِلْمِهِ وَعَمَلِهِ وَمَنْصِبِهِ
وَجَاهِهِ وَمَالِهِ ، وَفَرَّ إلَى اللَّهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَتَوَاضَعَ لَهُ
وَعَلِمَ أَنَّهُ أَحْقَرُ وَأَذَلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، كَيْفَ وَهُوَ يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ شَقِيًّا ؟
وَمِمَّا يُظْهِرُ التَّكَبُّرَ الْكَامِلَ فِي النَّفْسِ
وَيُعْلِمُ بِهِ مَنْ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّهَا مُتَنَزِّهَةٌ عَنْهُ أَنْ
يُنَاظِرَ فِي مَسْأَلَةٍ مَعَ بَعْضِ أَقْرَانِهِ وَيَظْهَرَ الْحَقُّ عَلَى يَدِ
صَاحِبِهِ ، فَإِنْ اطْمَأَنَّ لِقَبُولِهِ وَأَعْلَنَ بِشُكْرِهِ وَفَضْلِهِ
وَأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى يَدَيْهِ وَكَانَ كَذَلِكَ مَعَ كُلِّ
مُنَاظِرٍ ظَهَرَتْ الْقَرَائِنُ عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ الْكِبْرِ ، وَإِنْ
اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَامِنٌ فِيهِ فَعَلَيْهِ عِلَاجُهُ
بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا مَرَّ وَنَحْوِهِ إلَى أَنْ تَنْقَطِعَ عُرُوقُهُ مِنْ
نَفْسِهِ ، وَبِأَنْ يُقَدِّمَ أَقْرَانَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الْمَجَالِسِ وَنَحْوِهَا
لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُظَنُّ بِهِ فِيهِ أَنَّهُ أَظْهَرَ تَوَاضُعًا ، كَأَنْ
يَتْرُكَ صَفَّهُمْ وَيَجْلِسَ مُعَبِّسًا كَانَ ذَلِكَ عَيْنَ الْكِبْرِ ،
وَبِأَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ الْفَقِيرِ وَيُحَادِثَهُ وَيُجَالِسَهُ وَيَمُرَّ فِي
الْأَسْوَاقِ لِحَاجَتِهِ وَحَاجَاتِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُنْقَطِعِينَ ، وَبِأَنْ
يَحْمِلَ حَاجَتَهُ وَحَاجَةَ غَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَرَاءَةٌ مِنْ الْكِبْرِ
كَمَا فِي حَدِيثٍ ، وَيَسْتَوِي ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي الْخَلَاءِ وَبِحَضْرَةِ الْمَلَأِ
، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ أَوْ مُرَاءٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرَاضِ
الْقُلُوبِ وَعِلَلِهَا الْمُهْلِكَةِ لَهَا إنْ لَمْ يَتَدَارَكْ ، وَقَدْ
أَهْمَلَ النَّاسُ طِبَّهَا وَاشْتَغَلُوا بِطِبِّ الْأَجْسَادِ مَعَ أَنَّهُ لَا
سَلَامَةَ فِي الْآخِرَةِ إلَّا بِسَلَامَتِهَا { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أَيْ مِنْ الشِّرْكِ أَوْ مِمَّا سِوَى اللَّهِ .
وَمِنْهَا : مَرَّ فِي الْأَحَادِيثِ ذَمُّ الْعُجْبِ
وَأَنَّهُ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ ، وَمِنْ ثَمَّ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى
بِقَوْلِهِ : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئًا } .
وَبِقَوْلِهِ : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا } فَقَدْ يُعْجَبُ الْإِنْسَانُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ مُصِيبٌ
فِيهِ أَوْ مُخْطِئٌ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : الْهَلَاكُ فِي اثْنَتَيْنِ ،
الْقُنُوطِ وَالْعُجْبِ : أَيْ لِأَنَّ الْقَانِطَ آيِسٌ مِنْ
نَفْعِ الْأَعْمَالِ وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ تَرْكُهَا ،
وَالْمُعْجَبُ يَرَى أَنَّهُ سَعِدَ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ فَلَا يَحْتَاجُ
لِعَمَلٍ ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى } وَمِنْ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ اعْتِقَادُ أَنَّهَا بَارَّةٌ
وَهُوَ مَعْنَى الْعُجْبِ .
وَقَالَ مُطَرِّفٌ : لَأَنْ أَبِيتَ نَائِمًا وَأُصْبِحَ
نَادِمًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قَائِمًا وَأُصْبِحَ مُعْجَبًا .
وَلَقَدْ أَطَالَ بِشْرُ بْنُ مَنْصُورٍ الصَّلَاةَ
فَقَالَ بَعْدَ سَلَامِهِ لِمَنْ أَدْرَكَ أَنَّهُ فَطِنَ لَهُ : لَا يُعْجِبُك
مَا رَأَيْتَ مِنِّي فَإِنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ
مُدَّةً طَوِيلَةً ثُمَّ صَارَ إلَى مَا صَارَ إلَيْهِ .
وَمِنْهَا :
لِلْعُجْبِ آفَاتٌ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا تَوَلُّدُ
الْكِبْرِ عَنْهُ كَمَا مَرَّ فَتَكُونُ آفَاتُ الْكِبْرِ آفَاتِ الْعُجْبِ
لِأَنَّهُ الْأَصْلُ ، هَذَا مَعَ الْعِبَادِ ؛ وَأَمَّا مَعَ اللَّهِ فَهُوَ
يُنْسِي الذُّنُوبَ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِهَا فَلَا يَتَدَارَكُ وَرَطَاتِهَا
وَلَا يَتَنَصَّلُ مِنْ مَذَامِّهَا ، وَيُورِثُ اسْتِعْظَامَ عِبَادَتِهِ ،
وَيَمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ بِفِعْلِهَا فَيَعْمَى عَنْ تَفَقُّدِ آفَاتِهَا
فَيَضِيعُ كُلُّ سَعْيِهِ أَوْ أَكْثَرُهُ ، إذْ الْعَمَلُ مَا لَمْ يَتَنَقَّ
مِنْ الشَّوَائِبِ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا يَحْمِلُ عَلَى تَنْقِيَتِهِ مِنْهَا
الْخَوْفُ ، وَالْمُعْجَبُ غَرَّتْهُ نَفْسُهُ بِرَبِّهِ فَأَمِنَ مَكْرَهُ
وَعِقَابَهُ وَعَدَّ أَنَّ لَهُ عَلَى اللَّهِ حَقًّا بِعَمَلِهِ فَزَكَّى
نَفْسَهُ وَأُعْجِبَ بِرَأْيِهِ وَعَقْلِهِ وَعِلْمِهِ ، حَتَّى اسْتَبَدَّ
بِذَلِكَ وَلَمْ تَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ أَنْ يَرْجِعَ لِغَيْرِهِ فِي عِلْمٍ وَلَا
عَمَلٍ فَلَا يَسْمَعُ نُصْحًا وَلَا وَعْظًا لِنَظَرِهِ إلَى غَيْرِهِ بِعَيْنِ
الِاحْتِقَارِ ؛ فَعَلِمَ أَنَّ الْعُجْبَ إنَّمَا يَكُونُ بِوَصْفٍ هُوَ كَمَالٌ
فِي حَدِّ ذَاتِهِ ، لَكِنَّهُ مَا دَامَ خَائِفًا مِنْ سَلْبِهِ مِنْ أَصْلِهِ فَهُوَ
غَيْرُ مُعْجَبٍ بِهِ وَكَذَا لَوْ فَرِحَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ نِعْمَةٌ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا
فَرِحَ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَمَالٌ مُتَّصِفٌ بِهِ
مَعَ قَطْعِ نَظَرِهِ عَنْ نِسْبَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ هَذَا هُوَ
الْعُجْبُ فَهُوَ اسْتِعْظَامُ النِّعْمَةِ وَالرُّكُونُ إلَيْهَا مَعَ نِسْيَانِ
إضَافَتِهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنْ ضَمَّ لِذَلِكَ تَوَقُّعَهُ جَزَاءً
عَلَيْهَا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ حَقًّا وَأَنَّهُ مِنْهُ
بِمَكَانٍ سُمِّيَ مُدِلًّا ، فَالْإِدْلَالُ أَخَصُّ مِنْ الْعُجْبِ .
وَمِنْهَا : قَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ الْفَرْقُ بَيْنَ
الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ .
وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْكِبْرَ إمَّا بَاطِنٌ وَهُوَ
خُلُقٌ فِي النَّفْسِ وَاسْمُ الْكِبْرِ بِهَذَا أَحَقُّ ، وَإِمَّا ظَاهِرٌ
وَهُوَ أَعْمَالٌ تَصْدُرُ مِنْ الْجَوَارِحِ وَهِيَ ثَمَرَاتُ ذَلِكَ الْخُلُقِ
وَعِنْدَ ظُهُورِهَا يُقَالُ لَهُ تَكَبَّرَ ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا يُقَالُ فِي
نَفْسِهِ كِبْرٌ ، فَالْأَصْلُ هُوَ خُلُقُ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ
الِاسْتِرْوَاحُ وَالرُّكُونُ إلَى رُؤْيَةِ النَّفْسِ فَوْقَ الْمُتَكَبَّرِ
عَلَيْهِ فَهُوَ يَسْتَدْعِي مُتَكَبَّرًا عَلَيْهِ وَمُتَكَبَّرًا بِهِ ، وَبِهِ فَارَقَ
الْعُجْبَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي غَيْرَ الْمُعْجَبِ بِهِ حَتَّى لَوْ فُرِضَ
انْفِرَادُهُ دَائِمًا أَمْكَنَ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ الْعُجْبُ دُونَ الْكِبْرِ ،
وَمُجَرَّدُ اسْتِعْظَامِ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي التَّكَبُّرَ إلَّا إنْ كَانَ
ثَمَّ مَنْ يَرَى أَنَّهُ فَوْقَهُ .
وَمِنْهَا : يَتَعَيَّنُ عِلَاجُ الْعُجْبِ أَيْضًا ؛
وَعِلَاجُ كُلِّ عِلَّةٍ إنَّمَا يَكُونُ بِضِدِّهَا ؛ وَعِلَّةُ الْعُجْبِ
الْجَهْلُ الْمَحْضُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي حَدِّهِ ، وَشِفَاؤُهَا النَّظَرُ
إلَى مَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ
الْمُقَدِّرُ لَك عَلَى نَحْوِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَالْمُنْعِمُ عَلَيْك
بِالتَّوْفِيقِ إلَى حِيَازَتِهِ وَيَجْعَلُك ذَا نَسَبٍ أَوْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ ،
فَكَيْفَ يُعْجَبُ بِمَا لَيْسَ إلَيْهِ وَلَا مِنْهُ ، وَكَوْنُهُ مَحَلَّ ذَلِكَ
لَا يُجْدِيهِ شَيْئًا ، لِأَنَّ الْمَحَلَّ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْإِيجَادِ
وَالتَّحْصِيلِ ، وَكَوْنُهُ سَبَبًا فِيهِ نُزُولُ مُلَاحَظَتِهِ لَهُ إذَا
تَأَمَّلَ أَنَّ الْأَسْبَابَ لَا تَأْثِيرَ لَهَا
، وَإِنَّمَا
التَّأْثِيرُ لِمُوجِدِهَا وَالْمُنْعِمِ بِهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ
إعْجَابُهُ إلَّا بِمَا أَسَدَاهُ إلَيْهِ الْحَقُّ وَأَجْرَاهُ عَلَيْهِ
وَآثَرَهُ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَزَايَا جُودِهِ وَكَرَمِهِ مَعَ عَدَمِ
سَابِقَةِ اسْتِحْقَاقٍ مِنْهُ لِذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَ : لَوْلَا مَا عَلِمَ فِي مِنْ
صِفَةٍ مَحْمُودَةٍ بَاطِنَةٍ لَمَا آثَرَنِي بِذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : وَتِلْكَ الصِّفَاتُ أَيْضًا مِنْ خَلْقِهِ
وَإِنْعَامِهِ ؛ عَلَى أَنَّ مَنْ انْطَوَى عِلْمُ خَاتِمَتِهِ وَعَاقِبَتِهِ عَنْ
نَفْسِهِ ، كَيْفَ يَسُوغُ لَهُ عُجْبٌ بِأَيِّ نَوْعٍ فُرِضَ مِنْ أَنْوَاعِهِ فَإِنَّهُ
لَا أَعْبَدَ مِنْ إبْلِيسَ ، وَلَا أَعْلَمَ مِنْ بَلْعَمَ بْنِ بَاعُورَاءَ فِي
زَمَنِهِ ، وَلَا أَقْرَبَ وَلَا أَشْفَقَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ عَلَى نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا أَشْرَفَ مِنْ الْجَنَّةِ وَمَكَّةَ ،
وَقَدْ عَلِمْتَ مَا وَقَعَ لِأُولَئِكَ مِنْ سُوءِ الْخَاتِمَةِ - وَالْعِيَاذُ
بِاَللَّهِ - ، وَمَا وَقَعَ لِآدَمَ فِي الْجَنَّةِ وَلِكُفَّارِ مَكَّةَ فِيهَا
، فَاحْذَرْ أَنْ تُعْجَبَ وَتَغْتَرَّ بِنَسَبٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ مَحَلٍّ أَوْ
غَيْرِ ذَلِكَ ، هَذَا كُلُّهُ إنْ كُنْتَ مُعْجَبًا بِحَقٍّ ، فَكَيْفَ وَكَثِيرًا
مَا يَقَعُ الْإِعْجَابُ بِبَاطِلٍ ، قَالَ تَعَالَى : { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ
عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ } وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ هَذَا
يَغْلِبُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ ، إذْ جَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ
وَالضَّلَالِ إنَّمَا أَصَرُّوا عَلَيْهَا لِعُجْبِهِمْ بِآرَائِهِمْ الْفَاسِدَةِ
، وَبِذَلِكَ أُهْلِكَتْ الْأُمَمُ السَّابِقَةُ لَمَّا افْتَرَقُوا فِرَقًا
وَأُعْجِبَ كُلٌّ بِرَأْيِهِ : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } { فَذَرْهُمْ
فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَمَّا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ
مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ } أَيْ
إنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا كَانَ مَقْتًا وَاسْتِدْرَاجًا { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ
حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } .
قَدْ بَانَ لَك ذَمُّ الْكِبْرِ وَالِاخْتِيَالِ
وَالْعُجْبِ ، وَآفَاتُ ذَلِكَ وَقَبَائِحُهُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي ذِكْرَ
فَضَائِلِ التَّوَاضُعِ وَغَايَاتِهِ الرَّفِيعَةِ ، فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ إنَّمَا
تُعْرَفُ بِأَضْدَادِهَا .
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ : {
إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ
أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ } .
وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ
وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ
لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ
} .
وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا : { وَالتَّوَاضُعُ لَا
يَزِيدُ الْعَبْدَ إلَّا رِفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُمْ اللَّهُ ،
وَالْعَفْوُ لَا يَزِيدُ الْعَبْدَ إلَّا عِزًّا فَاعْفُوا يَعِزَّكُمْ اللَّهُ ،
وَالصَّدَقَةُ لَا تَزِيدُ الْمَالَ إلَّا كَثْرَةً فَتَصَدَّقُوا يَرْحَمْكُمْ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ حَسَنٍ : { طُوبَى لِمَنْ
تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَنْقَصَةٍ ، وَذَلَّ نَفْسَهُ فِي غَيْرِ مَسْأَلَةٍ ،
وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ
وَالْمَسْكَنَةِ ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ .
طُوبَى لِمَنْ طَابَ كَسْبُهُ ، وَصَلُحَتْ سَرِيرَتُهُ ،
وَكَرُمَتْ عَلَانِيَتُهُ ، وَعَزَلَ عَنْ النَّاسِ شَرَّهُ ، طُوبَى لِمَنْ
عَمِلَ بِعِلْمِهِ ، وَأَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ
مِنْ قَوْلِهِ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { إذَا تَوَاضَعَ الْعَبْدُ
رَفَعَهُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ
وَالْحَاكِمُ : { مَنْ يَتَوَاضَعُ لِلَّهِ دَرَجَةً يَرْفَعُهُ اللَّهُ دَرَجَةً
حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ : { فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ
، وَمَنْ يَتَكَبَّرُ عَلَى اللَّهِ دَرَجَةً يَضَعُهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ
فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ مَاجَهْ : { إنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَوْحَى إلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ تَوَاضَعَ لِأَخِيهِ
الْمُسْلِمِ
رَفَعَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ ارْتَفَعَ عَلَيْهِ وَضَعَهُ
اللَّهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ سَنَدُهَا صَحِيحٌ : { إيَّاكُمْ
وَالْكِبْرَ فَإِنَّ الْكِبْرَ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ ، وَإِنَّ عَلَيْهِ الْعَبَاءَةَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { إنَّ مِنْ
التَّوَاضُعِ لِلَّهِ الرِّضَا بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمَجَالِسِ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { تَوَاضَعُوا وَجَالِسُوا
الْمَسَاكِينَ تَكُونُوا مِنْ كِبَارِ عِبَادِ اللَّهِ وَتَخْرُجُوا مِنْ الْكِبْرِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { صَاحِبُ
الشَّيْءِ أَحَقُّ بِشَيْئِهِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا
يَعْجَزُ عَنْهُ فَيُعِينَهُ عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاضُعِ
فَإِنَّ التَّوَاضُعَ فِي الْقَلْبِ وَلَا يُؤْذِيَنَّ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا .
فَلَرُبَّ مُتَضَعِّفٍ فِي أَطْمَارٍ لَوْ أَقْسَمَ
عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَا اسْتَكْبَرَ
مَنْ أَكَلَ خَادِمُهُ مَعَهُ ، وَرَكِبَ الْحِمَارَ بِالْأَسْوَاقِ ، وَاعْتَقَلَ
الشَّاةَ فَحَلَبَهَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { مَا مِنْ آدَمِيٍّ
إلَّا وَفِي رَأْسِهِ حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ فَإِنْ تَوَاضَعَ قِيلَ لِلْمَلَكِ :
ارْفَعْ حَكَمَتَهُ ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ : ضَعْ حَكَمَتَهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ
اللَّهُ } .
وَابْنُ مَنْدَهْ : { الْبَسْ الْخَشِنَ الضَّيِّقَ
حَتَّى لَا يَجِدَ الْعِزُّ وَالْفَخْرُ فِيك مَسَاغًا } .
وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ : {
الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ
} : أَيْ تَرْكُ رَفِيعِ الثِّيَابِ ، وَإِيثَارُ
رَثِّهَا تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى
.
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ : { مَنْ تَرَكَ
اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ
حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا
} .
وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالضِّيَاءُ
: { التُّؤَدَةُ وَالِاقْتِصَادُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ
وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ
} .
وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ
وَالْبَيْهَقِيُّ : { التُّؤَدَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ
خَيْرٌ إلَّا فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ ،
وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ
} .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { يَا عَائِشَةُ تَوَاضَعِي فَإِنَّ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُحِبُّ الْمُتَوَاضِعِينَ وَيُبْغِضُ الْمُتَكَبِّرِينَ } .
وَابْنُ مَنْدَهْ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ تَوَاضَعَ
لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ } .
وَابْنُ النَّجَّارِ { مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ
اللَّهُ ، وَمَنْ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ ذَكَرَ اللَّهَ أَحَبَّهُ
اللَّهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ
اللَّهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ ضَعِيفٌ وَفِي أَنْفُسِ النَّاسِ عَظِيمٌ ، وَمَنْ
تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ وَفِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ
حَتَّى لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ
تَخَشُّعًا رَفَعَهُ اللَّهُ ، وَمَنْ تَطَاوَلَ تَعَظُّمًا وَضَعَهُ اللَّهُ
وَالنَّاسُ تَحْتَ كَنَفِ اللَّهِ يَعْمَلُونَ أَعْمَالَهُمْ ، فَإِذَا أَرَادَ -
عَزَّ وَجَلَّ - فَضِيحَةَ عَبْدٍ أَخْرَجَهُ مِنْ تَحْتِ كَنَفِهِ فَبَدَتْ
ذُنُوبُهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { التَّوَاضُعُ لَا يَزِيدُ
الْعَبْدَ إلَّا رِفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُمْ اللَّهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَانَ
لِخَلْقِي وَتَوَاضَعَ لِي وَلَمْ يَتَكَبَّرْ فِي أَرْضِي رَفَعْتُهُ حَتَّى
أَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ } .
وَابْنُ صَصْرَى : { مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا وَفِي رَأْسِهِ
حَكَمَةٌ مُوَكَّلٌ بِهَا مَلَكٌ ، فَإِنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللَّهُ ، وَإِنْ
ارْتَفَعَ قَمَعَهُ اللَّهُ ، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَاءُ اللَّهِ فَمَنْ نَازَعَ
اللَّهَ قَمَعَهُ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالدَّيْلَمِيُّ : { مَا مِنْ
آدَمِيٍّ إلَّا وَفِي رَأْسِهِ حَكَمَةٌ } أَيْ وَهِيَ بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ
وَالْكَافِ : مَا يُجْعَلُ فِي رَأْسِ الدَّابَّةِ كَاللِّجَامِ وَنَحْوِهِ {
بِيَدِ مَلَكٍ ، فَإِذَا تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا وَقَالَ : ارْتَفِعْ
رَفَعَك اللَّهُ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ جَذَبَهُ إلَى الْأَرْضِ وَقَالَ :
اخْفِضْ خَفَضَك اللَّهُ } .
وَابْنُ صَصْرَى : { مَا مِنْ عَبْدٍ إلَّا فِي رَأْسِهِ
حَكَمَةٌ بِيَدِ مَلَكٍ ، فَإِذَا تَوَاضَعَ رُفِعَ بِهَا وَقَالَ : ارْتَفِعْ
رَفَعَك اللَّهُ ، وَإِنْ رَفَعَ نَفْسَهُ جَذَبَهُ إلَى الْأَرْضِ وَقَالَ :
انْخَفِضْ خَفَضَك اللَّهُ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ
لَالٍ وَالدَّيْلَمِيُّ : { مَا مِنْ آدَمِيٍّ إلَّا وَفِي رَأْسِهِ سِلْسِلَتَانِ
، سِلْسِلَةٌ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَسِلْسِلَةٌ فِي الْأَرْضِ
السَّابِعَةِ ، فَإِنْ تَوَاضَعَ رَفَعَهُ اللَّهُ بِالسِّلْسِلَةِ إلَى
السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، وَإِذَا تَجَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ بِالسِّلْسِلَةِ
إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ }
.
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ فِي
الدُّنْيَا قَمَعَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ تَوَاضَعَ فِي
الدُّنْيَا بَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ مَلَكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَانْتَشَطَهُ
مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ فَقَالَ : أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ ، يَقُولُ اللَّهُ
- عَزَّ وَجَلَّ - : إلَيَّ فَإِنَّك مِمَّنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ كَانَ حَسَنَ الصُّورَةِ فِي حَسَبٍ
لَا يَشِينُهُ مُتَوَاضِعًا كَانَ مِنْ أَخَالِصِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالْخَطِيبُ لَكِنْ أَوْرَدَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي
الْمَوْضُوعَاتِ : { مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ يَشْرَبَ الرَّجُلُ مِنْ سُؤْرِ
أَخِيهِ ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْ سُؤْرِ أَخِيهِ رُفِعَتْ لَهُ سَبْعُونَ دَرَجَةً
وَمُحِيَتْ عَنْهُ سَبْعُونَ خَطِيئَةً وَكُتِبَتْ لَهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً } .
وَأَبُو عَلِيٍّ الذَّهَبِيُّ وَابْنُ النَّجَّارِ : {
مَنْ تَرَكَ زِينَةً لِلَّهِ وَآثَرَ ثِيَابًا خَشِنَةً تَوَاضُعًا لِلَّهِ
وَابْتِغَاءَ وَجْهِهِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ تُبَدَّلَ بِعَبْقَرِيِّ
الْجَنَّةِ } : وَالْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا .
عَنْ طَارِقٍ قَالَ : خَرَجَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
إلَى الشَّامِ وَمَعَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ
عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ
وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا مَا يَسُرُّنِي
أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوك ، فَقَالَ : أَوَّهْ لَوْ يَقُولُ هَذَا
غَيْرُك أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ، إنَّا كُنَّا
أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ ، فَمَهْمَا نَطْلُبْ
الْعِزَّ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ .
وَأَخْرَجَ الْبَغَوِيّ وَابْنُ قَانِعٍ
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَزَّارُ : { طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ
مَسْكَنَةٍ ، وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ ، وَرَحِمَ أَهْلَ
الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ } .
وَفِي حَدِيثٍ : { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِنْدَنَا بِقُبَاءَ وَكَانَ صَائِمًا فَأَتَيْنَاهُ عِنْدَ إفْطَارِهِ
بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ وَجَعَلْنَا فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَسَلٍ فَلَمَّا رَفَعَهُ
وَذَاقَهُ وَجَدَ حَلَاوَتَهُ فَقَالَ : مَا هَذَا ؟ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ
جَعَلْنَا فِيهِ شَيْئًا مِنْ عَسَلٍ ، فَوَضَعَهُ وَقَالَ : أَمَا إنِّي لَا
أُحَرِّمُهُ ، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ تَكَبَّرَ
وَضَعَهُ اللَّهُ وَمَنْ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ
اللَّهُ ، وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ اللَّهُ } .
رَوَاهُ الْبَزَّارُ دُونَ قَوْلِهِ { وَمَنْ أَكْثَرَ
ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ اللَّهُ } ، وَلَمْ يَقُلْ بِقُبَاءَ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ :
قَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الْمِيزَانِ : إنَّهُ خَبَرٌ مُنْكَرٌ .
وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ
عَائِشَةَ قَالَتْ : { أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَدَحٍ فِيهِ لَبَنٌ وَعَسَلٌ
} .
الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ : { أَمَا إنِّي لَا أَزْعُمُ أَنَّهُ
حَرَامٌ } الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ : { وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الْمَوْتِ أَحَبَّهُ
اللَّهُ } .
وَرَوَى الْمَرْفُوعَ مِنْهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى
مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ دُونَ قَوْلِهِ : { وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللَّهُ
} ، وَذَكَرَا فِيهِ قَوْلَهُ : { وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ
اللَّهُ } .
وَفِي آخَرَ : { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَيْتٍ
يَأْكُلُونَ فَقَامَ سَائِلٌ عَلَى الْبَابِ وَبِهِ زَمَانَةٌ يُكْرَهُ مِنْهَا
فَأُذِنَ لَهُ ، فَلَمَّا دَخَلَ أَجْلَسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى فَخِذِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ : اطْعَمْ فَكَأَنَّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ كَرِهَ
ذَلِكَ وَاشْمَأَزَّ مِنْهُ ، فَمَا مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ حَتَّى كَانَتْ بِهِ
زَمَانَةٌ } كَذَا فِي الْإِحْيَاءِ
.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الزَّيْنُ الْعِرَاقِيُّ :
لَمْ أَجِدْ لَهُ أَصْلًا .
وَالْمَوْجُودُ حَدِيثٌ أَكْمَلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَجْذُومٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ وَقَالَ : غَرِيبٌ .
وَفِي آخَرَ : { إذَا هَدَى اللَّهُ عَبْدًا
لِلْإِسْلَامِ وَحَسَّنَ صُورَتَهُ وَجَعَلَهُ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ شَائِنٍ لَهُ
وَرَزَقَهُ مَعَ ذَلِكَ تَوَاضُعًا فَذَلِكَ مِنْ صَفْوَةِ اللَّهِ } .
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ نَحْوَهُ مَوْقُوفًا عَلَى
ابْنِ مَسْعُودٍ وَفِيهِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
وَفِي آخَرَ : { أَرْبَعٌ لَا يُعْطِيهِنَّ اللَّهُ
إلَّا مَنْ يُحِبُّ : الصَّمْتُ وَهُوَ أَوَّلُ الْعِبَادَةِ ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَى
اللَّهِ ، وَالتَّوَاضُعُ ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا } رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ
وَالْحَاكِمُ بِلَفْظِ : { أَرْبَعٌ لَا يُصَبْنَ إلَّا بِعُجْبٍ : الصَّمْتُ ،
وَهُوَ أَوَّلُ الْعِبَادَةِ ، وَالتَّوَاضُعُ وَذِكْرُ اللَّهِ ، وَقِلَّةُ
الْمَشْيِ } .
وَقَالَ الْحَاكِمُ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ فِيهِ مَنْ قَالَ ابْنُ حِبَّانَ
فِي حَقِّهِ : إنَّهُ يَرْوِي الْمَوْضُوعَاتِ ، ثُمَّ رَوَى لَهُ هَذَا
الْحَدِيثَ .
وَفِي آخَرَ
: { كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَطْعَمُ
فَجَاءَ رَجُلٌ أَسْوَدُ بِهِ جُدَرِيٌّ قَدْ تَقَشَّرَ فَجَعَلَ لَا يَجْلِسُ
إلَى أَحَدٍ إلَّا قَامَ مِنْ جَنْبِهِ فَأَجْلَسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلَى جَنْبِهِ } كَذَا فِي الْإِحْيَاءِ .
وَاعْتُرِضَ بِنَحْوِ مَا مَرَّ آنِفًا .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ لَكِنَّهُ غَرِيبٌ : أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : { مَا لِي لَا أَرَى عَلَيْكُمْ
حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ ؟ قَالُوا : وَمَا حَلَاوَةُ الْعِبَادَةِ ؟ قَالَ :
التَّوَاضُعُ
} .
وَفِي آخَرَ غَرِيبٍ أَيْضًا : { إذَا رَأَيْتُمْ
الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْ أُمَّتِي فَتَوَاضَعُوا لَهُمْ ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ
الْمُتَكَبِّرِينَ فَتَكَبَّرُوا عَلَيْهِمْ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُمْ مَذَلَّةٌ
وَصَغَارٌ } .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّ الْعَبْدَ
إذَا تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَ اللَّهُ حَكَمَتَهُ وَقَالَ : انْتَعِشْ رَفَعَك
اللَّهُ ، وَإِذَا تَكَبَّرَ وَعَدَا طَوْرَهُ رَهَصَهُ اللَّهُ ، أَيْ رَمَاهُ
بِشِدَّةٍ إلَى الْأَرْضِ ، وَقَالَ : اخْسَأْ أَخْسَأَك اللَّهُ فَهُوَ فِي
نَفْسِهِ كَبِيرٌ وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ حَقِيرٌ حَتَّى إنَّهُ لَأَحْقَرُ عِنْدَهُمْ
مِنْ الْخِنْزِيرِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ
التَّوَاضُعُ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ : التَّوَاضُعُ أَنْ تَخْضَعَ
لِلْحَقِّ وَتَنْقَادَ لَهُ وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ قَبِلْتَهُ
مِنْهُ .
وَكَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد - صَلَّى اللَّهُ
وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ - إذَا أَصْبَحَ تَصَفَّحَ وُجُوهَ
النَّاسِ حَتَّى يَجِيءَ إلَى الْمَسَاكِينِ فَيَقُولَ : مِسْكِينٌ جَلَسَ مَعَ
مَسَاكِينَ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : التَّوَاضُعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ
مَنْزِلِك فَلَا تَلْقَى مُسْلِمًا إلَّا رَأَيْتَ لَهُ عَلَيْك فَضْلًا .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : اسْتَأْثَرَ اللَّهُ الْجُودِيَّ
بِالسَّفِينَةِ لِأَنَّهُ تَوَاضَعَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ أَيْ وَكَذَا حِرَاءٌ
اسْتَأْثَرَهُ اللَّهُ بِتَعَبُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ
لِمَزِيدِ تَوَاضُعِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَاخْتَصَّ اللَّهُ قَلْبَ نَبِيِّنَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْيِيزِهِ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ
فَاقَهُمْ فِي التَّوَاضُعِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : رَأَيْتُ عِنْدَ الصَّفَا
رَجُلًا رَاكِبًا بَغْلَةً وَبَيْنَ يَدَيْهِ غِلْمَانٌ يُعَنِّفُونَ النَّاسَ ،
ثُمَّ رَأَيْتُهُ بِبَغْدَادَ حَافِيًا حَاسِرًا طَوِيلَ الشَّعْرِ فَقُلْتُ لَهُ
: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِك ؟ قَالَ
: تَرَفَّعْتُ فِي مَوْضِعٍ يَتَوَاضَعُ النَّاسُ فِيهِ
فَوَضَعَنِي اللَّهُ حَيْثُ يَرْتَفِعُ النَّاسُ .
الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ : الْغِشُّ .
السَّادِسَةُ : النِّفَاقُ .
السَّابِعَةُ : الْبَغْيُ .
الثَّامِنَةُ : الْإِعْرَاضُ عَنْ الْخَلْقِ
اسْتِكْبَارًا وَاحْتِقَارًا لَهُمْ
.
التَّاسِعَةُ : الْخَوْضُ فِيمَا لَا يَعْنِي .
الْعَاشِرَةُ : الطَّمَعُ .
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : خَوْفُ الْفَقْرِ .
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : سَخَطُ الْمَقْدُورِ .
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : النَّظَرُ إلَى الْأَغْنِيَاءِ
وَتَعْظِيمُهُمْ لِغِنَاهُمْ .
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الِاسْتِهْزَاءُ بِالْفُقَرَاءِ
لِفَقْرِهِمْ .
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : الْحِرْصُ .
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : التَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا
وَالْمُبَاهَاةُ بِهَا .
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : التَّزَيُّنُ لِلْمَخْلُوقِينَ
بِمَا يَحْرُمُ التَّزَيُّنُ بِهِ
.
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : الْمُدَاهَنَةُ .
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : حُبُّ الْمَدْحِ بِمَا لَا يَفْعَلُهُ .
الْعِشْرُونَ : الِاشْتِغَالُ بِعُيُوبِ الْخَلْقِ عَنْ
عُيُوبِ النَّفْسِ .
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : نِسْيَانُ النِّعْمَةِ .
الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : الْحَمِيَّةُ لِغَيْرِ
دِينِ اللَّهِ .
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : تَرْكُ الشُّكْرِ .
الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : عَدَمُ الرِّضَا
بِالْقَضَاءِ .
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : هَوَانُ حُقُوقِ اللَّهِ
تَعَالَى وَأَوَامِرِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ .
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : سُخْرِيَتُهُ بِعِبَادِ
اللَّهِ - تَعَالَى - وَازْدِرَاؤُهُ لَهُمْ وَاحْتِقَارُهُ إيَّاهُمْ .
السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : اتِّبَاعُ الْهَوَى
وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْحَقِّ .
الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : الْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ .
التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : إرَادَةُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا .
الثَّلَاثُونَ : مُعَانَدَةُ الْحَقِّ .
الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : سُوءُ الظَّنِّ
بِالْمُسْلِمِ .
الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : عَدَمُ قَبُولِ الْحَقِّ
إذَا جَاءَ بِمَا لَا تَهْوَاهُ النَّفْسُ أَوْ جَاءَ عَلَى يَدِ مَنْ تَكْرَهُهُ
وَتُبْغِضُهُ .
الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : فَرَحُ الْعَبْدِ
بِالْمَعْصِيَةِ .
الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : الْإِصْرَارُ عَلَى
الْمَعْصِيَةِ .
الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَحَبَّةُ أَنْ يُحْمَدَ
بِمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الطَّاعَاتِ
.
السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : الرِّضَا بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَالطُّمَأْنِينَةُ إلَيْهَا .
السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : نِسْيَانُ اللَّهِ
تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ
.
الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : الْغَضَبُ لِلنَّفْسِ
وَالِانْتِصَارُ لَهَا بِالْبَاطِلِ
.
اعْلَمْ أَنَّ التَّصْرِيحَ يَكُونُ جَمِيعُ هَذِهِ
الْمَذْكُورَاتِ مِنْ الْخَامِسَةِ إلَى هُنَا مَعَ مَا فِيهَا مِنْ التَّدَاخُلِ
الْكَثِيرِ كَبَائِرَ بَاطِنَةً وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِ أَئِمَّتِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ
مِمَّنْ جَمَعَ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالْمَعْرِفَةِ ، وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ،
وَهِدَايَةِ السَّالِكِينَ وَتَرْبِيَةِ الْمُرِيدِينَ ، وَالْكَرَامَاتِ
الظَّاهِرَةِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ الْعَلِيَّةِ الْمُتَكَاثِرَةِ ،
وَقَالَ فِي أَوَّلِهَا : وَأَمَّا كَبَائِرُ الْبَاطِنِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ
مَعْرِفَتُهَا لِيُعَالِجَ زَوَالَهَا لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
مِنْهَا لَمْ يَلْقَ اللَّهَ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - بِقَلْبٍ سَلِيمٍ .
وَمِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَعْتَوِرُهُ وَتَعْتَرِيهِ
الْكُفْرُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - وَالنِّفَاقُ وَالْكِبْرُ وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلَاءُ
وَالْحَسَدُ وَالْغِلُّ وَالْحِقْدُ وَالْبَغْيُ وَالْغَضَبُ لِغَيْرِ اللَّهِ
وَالْغَيْظُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَالرِّيَاءُ وَالسُّمْعَةُ وَالْغِشُّ وَالْبُخْلُ
وَالْإِعْرَاضُ عَنْ الْحَقِّ إلَى آخِرِ مَا قَدَّمْته .
ثُمَّ قَالَ عَقِبَهُ : وَأَمْثَالُ هَذِهِ يُذَمُّ
الْعَبْدُ عَلَيْهَا أَعْظَمَ مِمَّا يُذَمُّ عَلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ
وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهَا مِنْ كَبَائِرِ الْبَدَنِ وَذَلِكَ لِعِظَمِ
مَفْسَدَتِهَا وَسُوءِ أَثَرِهَا وَدَوَامِهِ ، فَإِنَّ آثَارَ هَذِهِ
الْكَبَائِرِ وَنَحْوِهَا تَدُومُ بِحَيْثُ تَصِيرُ حَالًا وَهَيْئَةً رَاسِخَةً
فِي الْقَلْبِ بِخِلَافِ آثَارِ مَعَاصِي الْجَوَارِحِ فَإِنَّهَا سَرِيعَةُ
الزَّوَالِ ؛ تَزُولُ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْحَسَنَاتِ
الْمَاحِيَةِ وَالْمَصَائِبِ الْمُكَفِّرَةِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ فِي الْجَسَدِ
مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ
الْقَلْبُ
} ، وَالْقَلْبُ
مَلِكُ الْأَعْضَاءِ وَهِيَ جُنُودُهُ وَتَابِعَةٌ لَهُ ، فَإِذَا فَسَدَ
الْمَلِكُ فَسَدَتْ الْجُنُودُ كُلُّهَا ؛ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : الْقَلْبُ مَلِكٌ وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ ، فَإِذَا طَابَ
الْمَلِكُ طَابَتْ جُنُودُهُ ، وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ خَبُثَتْ جُنُودُهُ ،
فَمَنْ أُعْطِيَ قَلْبًا سَلِيمًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ
تَعَالَى ، وَمَنْ وَجَدَ فِي قَلْبِهِ مَرَضًا مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ وَجَبَ
عَلَيْهِ أَنْ يُعَالِجَهُ حَتَّى يَزُولَ ، فَإِنْ لَمْ يُعَالِجْهُ أَثِمَ ،
وَإِنَّمَا يَأْثَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ عَلَى مَا نَوَاهُ وَقَصَدَهُ بِقَلْبِهِ
دُونَ مَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ أَوْ سَبَقَ إلَيْهِ لِسَانُهُ وَوَهْمُهُ انْتَهَى .
وَتَسْمِيَةُ جَمِيعِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كَبَائِرَ
إنَّمَا يَلِيقُ بِطَرِيقَةِ أَهْلِ الْمَعَارِفِ وَالْأَخْلَاقِ وَالتَّصَوُّفِ
الَّذِينَ مِنْهُمْ هَذَا الْإِمَامُ الْفَقِيهُ ، فَلِذَا جَرَى عَلَى ذَلِكَ
مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّافِعِيَّةِ أَهْلِ مَذْهَبِهِ ، نَعَمْ
فِيهَا مَا هُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ
: كَالْحَسَدِ وَالْحِقْدِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَغَيْرِهَا مِمَّا مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ ، وَكَذَا
كَثِيرٌ مِنْهَا لَا يَبْعُدُ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ كَمَا سَتَعْلَمُهُ مِمَّا
أُورِدُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْوَعِيدِ
الشَّدِيدِ ، نَعَمْ الْبَغْيُ بِالْمَعْنَى الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ عِنْدَ
الْفُقَهَاءِ صَغِيرَةٌ لَا كَبِيرَةٌ كَمَا صَرَّحُوا بِهَا ، وَسَيَأْتِي
الْكَلَامُ عَلَى بَعْضٍ مِنْهَا فِي مَحَالِّهِ - كَالْبُخْلِ وَالشُّحِّ - فِي
الْكَلَامِ عَلَى تَرْكِ الزَّكَاةِ ، وَكَسُوءِ الظَّنِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى
الْغِيبَةِ .
وَمِمَّنْ صَرَّحَ مِنْ أَئِمَّتِنَا بِأَنَّ الْفَرَحَ
بِالدُّنْيَا حَرَامٌ الْبَغَوِيّ فِي تَهْذِيبِهِ ، فَلَعَلَّ ذَلِكَ الْإِمَامَ
أَخَذَ مَا مَرَّ عَنْهُ ثُمَّ زَادَ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى قَبَائِحَ
يَعْظُمُ ضَرَرُهَا وَيَضْطَرِمُ شَرَرُهَا ؛ إذْ مِنْ الْوَاضِحِ أَنَّ مَحَلَّ
حُرْمَةِ الْفَرَحِ بِهَا إنْ كَانَ مِنْ حَيْثُ
الْخُيَلَاءُ وَالْفَخْرُ وَالتَّكَبُّرُ
وَالِاسْتِطَالَةُ عَلَى الْأَقْرَانِ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمَفَاسِدِ
وَالْقَبَائِحِ .
أَمَّا الْفَرَحُ بِهَا لِيَسْتُرَ بِهَا عِرْضَهُ
وَيَصُونَ بِهَا مَاءَ وَجْهِهِ وَوَجْهِ عِيَالِهِ عَنْ التَّطَلُّعِ لِمَا فِي
أَيْدِي النَّاسِ أَوْ لِيُوَاسِيَ مِنْهَا الْمُحْتَاجَ ، فَهَذَا فَرَحٌ
مَحْمُودٌ { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } ثُمَّ أَصْلُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ كُلِّهَا سُوءُ الْخُلُقِ
وَفَسَادُ الْقَلْبِ ، فَلْنَبْدَأْ بِبَعْضِ مَا جَاءَ فِيهِ مِنْ الذَّمِّ ثُمَّ
بِبَعْضِ مَا جَاءَ فِيهَا أَوْ فِيمَا يَسْتَلْزِمُ بَعْضَهَا أَوْ يَقْرُبُ
مِنْهُ فَنَقُولُ : أَخْرَجَ الْحَارِثُ وَالْحَاكِمُ : { سُوءُ الْخُلُقِ
يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ } .
وَابْنُ مَنْدَهْ : { سُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ وَطَاعَةُ
النِّسَاءِ نَدَامَةٌ وَحُسْنُ الْمَلَكَةِ نَمَاءٌ } .
وَالْخَطِيبُ : { سُوءُ الْخُلُقِ شُؤْمٌ ، وَشِرَارُكُمْ
أَسْوَءُكُمْ خُلُقًا } .
وَأَحْمَدُ :
{ إذَا سَمِعْتُمْ بِجَبَلٍ زَالَ عَنْ مَكَانِهِ
فَصَدِّقُوا ، وَإِذَا سَمِعْتُمْ بِرَجُلٍ زَالَ عَنْ خُلُقِهِ فَلَا تُصَدِّقُوا
، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى مَا جُبِلَ عَلَيْهِ } .
وَالْخَطِيبُ : { إنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً إلَّا
صَاحِبَ سُوءِ الْخُلُقِ فَإِنَّهُ لَا يَتُوبُ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا وَقَعَ فِيمَا
هُوَ شَرٌّ مِنْهُ } .
وَالصَّابُونِيُّ .
{ مَا مِنْ ذَنْبٍ إلَّا وَلَهُ تَوْبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ
إلَّا سُوءَ الْخُلُقِ فَإِنَّهُ لَا يَتُوبُ } أَيْ صَاحِبُهُ { مِنْ ذَنْبٍ
إلَّا رَجَعَ إلَى مَا هُوَ شَرٌّ مِنْهُ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : {
الشُّؤْمُ سُوءُ الْخُلُقِ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { لَوْ كَانَ سُوءُ الْخُلُقِ رَجُلًا
يَمْشِي فِي النَّاسِ لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ
يَخْلُقْنِي فَحَّاشًا } .
وَالْحَارِثُ وَابْنُ السُّنِّيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : {
مَنْ سَاءَ خُلُقُهُ عَذَّبَ نَفْسَهُ ، وَمَنْ كَثُرَ هَمُّهُ سَقِمَ بَدَنُهُ ،
وَمَنْ لَاحَى الرِّجَالَ ذَهَبَتْ كَرَامَتُهُ وَسَقَطَتْ مُرُوءَتُهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ : { لَا يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ سَيِّئُ الْخُلُقِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { النَّاسُ مَعَادِنُ ، وَالْعِرْقُ
دَسَّاسٌ ، وَأَدَبُ السُّوءِ كَعِرْقِ السُّوءِ } .
وَالْعَسْكَرِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { إنَّ الْخُلُقَ
السَّيِّئَ يُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ } .
وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي افْتِتَاحِ صَلَاتِهِ : { اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِأَحْسَنِ
الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي
سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ } .
وَبَقِيَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي ذَلِكَ مِنْهَا : {
ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } ،
وَإِنَّهُ يُدْرِكُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ وَدَرَجَاتِ
الْآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ ، وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ
، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ مِنْ خُلُقِهِ أَسْفَلَ دَرْكِ جَهَنَّمَ ،
وَإِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ يُذِيبُ الْخَطِيئَةَ كَمَا تُذِيبُ الشَّمْسُ
الْجَلِيدَ ، وَإِنَّهُ يُمْنٌ ، وَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا ،
وَإِنَّ أَحْسَنَ الْخُلُقِ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، وَإِنَّ أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا ، وَإِنَّهُ
أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَثْقَلُ مَا وُضِعَ فِي الْمِيزَانِ .
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : { كَانَ خُلُقُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ : { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : هُوَ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَعْفُوَ
عَمَّنْ ظَلَمَك } وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَالدَّيْلَمِيُّ : { إنَّ إبْلِيسَ
يَقُولُ ابْغُوا مِنْ بَنِي آدَمَ الْبَغْيَ وَالْحَسَدَ فَإِنَّهُمَا يَعْدِلَانِ
عِنْدَ اللَّهِ الشِّرْكَ } ،
وَالْخَرَائِطِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْبَغْضَاءَ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ
وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ لَا تَذُمُّوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا
تَتَّبِعُوا
عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْ عَوْرَةَ أَخِيهِ
الْمُسْلِمِ هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ وَأَبْدَى عَوْرَتَهُ وَلَوْ كَانَ فِي
سِتْرِ بَيْتِهِ } .
وَأَبُو يَعْلَى وَالْبَيْهَقِيُّ : { يَا مَعْشَرَ مَنْ
آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَخْلُصْ الْإِيمَانُ إلَى قَلْبِهِ ، لَا تُؤْذُوا
الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ
عَوْرَةَ أَخِيهِ يَتَّبِعْ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ اللَّهُ فِي
بَطْنِ بَيْتِهِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ مُرْسَلًا : { يَا مَعْشَرَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ
، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَضُرُّوهُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا
عَثَرَاتِهِمْ ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَثْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ
اللَّهُ عَثْرَتَهُ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَفْضَحُهُ وَهُوَ فِي
قَعْرِ بَيْتِهِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتْرٌ ؟
قَالَ : سُتُورُ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، إنَّ
الْمُؤْمِنَ لَيَعْمَلُ بِالذُّنُوبِ فَيَهْتِكُ عَنْهُ سِتْرًا سِتْرًا حَتَّى
لَا يَبْقَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ :
اُسْتُرُوا عَلَى عَبْدِي مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يُعَيِّرُونَ وَلَا
يُغَيِّرُونَ ، فَتَحُفُّ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا يَسْتُرُونَهُ
، فَإِنْ تَتَابَعَ فِي الذُّنُوبِ قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ : يَا رَبَّنَا قَدْ
غَلَبَنَا وَأَقْذَرَنَا ، فَيَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ : تَخَلَّوْا عَنْهُ ،
فَلَوْ عَمِلَ ذَنْبًا فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فِي جُحْرٍ
أَبْدَى اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ عَوْرَتِهِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { حُبُّ الثَّنَاءِ مِنْ النَّاسِ
يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
وَتَمَّامٌ وَالْخَطِيبُ : { إذَا كَانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ دَعَا اللَّهُ بِعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ فَيَقِفُ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَيَسْأَلُهُ عَنْ جَاهِهِ كَمَا يَسْأَلُهُ عَنْ مَالِهِ } .
وَابْنُ النَّجَّارِ { مَنْ أَسَاءَ بِأَخِيهِ الظَّنَّ
فَقَدْ أَسَاءَ بِرَبِّهِ ، إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { اجْتَنِبُوا
كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ } } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { إذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا
تُحَقِّقُوا ، وَإِذَا حَسَدْتُمْ فَلَا تَبْغُوا ،
وَإِذَا تَطَيَّرْتُمْ فَامْضُوا وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا ، وَإِذَا
وَزَنْتُمْ فَأَرْجِحُوا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { أَعْرِضُوا عَنْ النَّاسِ أَلَمْ
تَرَ أَنَّك إنْ ابْتَغَيْتَ الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ
تُفْسِدُهُمْ } .
وَابْنُ قَانِعٍ وَابْنُ الْمُبَارَكِ : { الصَّفَا
الزِّلَالُ الَّذِي لَا تَثْبُتُ عَنْهُ أَقْدَامُ الْعُلَمَاءِ الطَّمَعُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ ثَلَاثٍ
: مِنْ طَمَعٍ حَيْثُ لَا مَطْمَعَ ، وَمِنْ مَطْمَعٍ يَرُدُّ إلَى طَبْعٍ ،
وَمِنْ طَبْعٍ يَرُدُّ إلَى مَطْمَعٍ ، تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ طَمَعٍ
يَهْوِي إلَى طَبْعٍ ، وَمِنْ طَبْعٍ يَهْوِي إلَى مَطْمَعٍ } .
وَأَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ : {
اسْتَعِيذُوا بِاَللَّهِ مِنْ مَطْمَعٍ يَهْوِي إلَى طَبْعٍ ، وَمِنْ طَمَعٍ
يَهْوِي إلَى غَيْرِ مَطْمَعٍ ، وَمِنْ مَطْمَعٍ حَيْثُ لَا مَطْمَعَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ
الْفَقْرُ الْحَاضِرُ ، وَإِيَّاكُمْ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ } .
وَالْحَاكِمُ : { عَلَيْك بِالْإِيَاسِ مِمَّا فِي
أَيْدِي النَّاسِ ، وَإِيَّاكَ وَالطَّمَعَ فَإِنَّهُ الْفَقْرُ الْحَاضِرُ ،
وَصَلِّ صَلَاتَك وَأَنْتَ مُوَدِّعٌ ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { قَلْبُ الشَّيْخِ شَابٌّ فِي
حُبِّ اثْنَتَيْنِ طُولِ الْأَمَلِ وَحُبِّ الْمَالِ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { أَلَا
تَعْجَبُونَ مِنْ أُسَامَةَ الْمُشْتَرِي إلَى شَهْرٍ إنَّ أُسَامَةَ لَطَوِيلُ
الْأَمَلِ ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا طَرَفَتْ عَيْنَايَ إلَّا ظَنَنْتُ
أَنَّ شُفْرَيَّ لَا يَلْتَقِيَانِ حَتَّى يَقْبِضَ اللَّهُ رُوحِي ، وَلَا
رَفَعْتُ طَرْفِي وَظَنَنْتُ أَنِّي وَاضِعُهُ حَتَّى أُقْبَضَ ، وَلَا لَقَمْت لُقْمَةً
إلَّا ظَنَنْت أَنِّي لَا أَسِيغُهَا حَتَّى أَغَصَّ بِهَا مِنْ الْمَوْتِ ، يَا
بَنِي آدَمَ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ فَعُدُّوا أَنْفُسَكُمْ فِي الْمَوْتَى ،
وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ
بِمُعْجِزِينَ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ : { أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى
أُمَّتِي الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ
} .
وَالْبُخَارِيُّ : { لَا يُزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا
فِي اثْنَتَيْنِ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَطُولِ الْأَمَلِ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : {
لَوْلَا أَنَّ الذَّنْبَ خَيْرٌ لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ مِنْ الْعُجْبِ مَا
خَلَّيْت بَيْنَ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ وَبَيْنَ الذَّنْبِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { لَوْلَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ
يُعْجَبُ بِعَمَلِهِ لَعُصِمَ مِنْ الذَّنْبِ حَتَّى لَا يَهُمَّ بِهِ ، وَلَكِنَّ
الذَّنْبَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْعُجْبِ
} .
وَالدَّارَقُطْنِيُّ : " لَيْسَ بِالْخَيْرِ أَنْ
يَقْضِيَ الْعَبْدُ الْقَوْلَ بِلِسَانِهِ وَالْعُجْبُ فِي قَلْبِهِ " .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { شِرَارُ أُمَّتِي الْمُعْجَبُ
بِدِينِهِ ، الْمُرَائِي بِعَمَلِهِ ، الْمُخَاصِمُ بِحُجَّتِهِ ، وَالرِّيَاءُ
شِرْكٌ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ حَمِدَ نَفْسَهُ عَلَى عَمَلٍ
صَالِحٍ فَقَدْ ضَلَّ شُكْرُهُ وَحَبِطَ عَمَلُهُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ
بِمَيْتٍ إنَّمَا الْمَيِّتُ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ وَالْحَاكِمُ : { يُنْصَبُ
لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ : { إنَّ
الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ : أَلَا هَذِهِ
غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ
} .
وَالطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ : { إنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ
لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ عِنْدَ اسْتِهِ } .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ عَنْ أَنَسٍ وَأَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { لِكُلِّ
غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَمُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ : { إذَا جَمَعَ اللَّهُ
الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ
لِوَاءٌ ، فَقِيلَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { أَلَّا إنَّهُ يُنْصَبُ لِكُلِّ
غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ } .
وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ : { لِكُلِّ غَادِرٍ
لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ ، أَلَا وَلَا
غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ } .
وَالْخَرَائِطِيُّ : { لِوَاءُ الْغَادِرِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ } .
وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ : { لِكُلِّ غَادِرٍ
لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد : { لَنْ يَهْلِكَ النَّاسُ
حَتَّى يُعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ
} .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي
النَّارِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ
وَالْخِيَانَةُ فِي النَّارِ }
.
وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَلْعُونٌ مَنْ ضَارَّ مُؤْمِنًا
أَوْ مَكَرَ بِهِ } .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ خَبَّبَ زَوْجَةَ امْرِئٍ أَوْ
مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا }
.
وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ
خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ غَشَّنَا
فَلَيْسَ مِنَّا ، وَالْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ } .
وَالرَّافِعِيُّ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ مُسْلِمًا
أَوْ ضَرَّهُ أَوْ مَاكَرَهُ }
.
وَالتِّرْمِذِيُّ : { لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ خِبٌّ -
أَيْ لَئِيمٌ - وَلَا بَخِيلٌ وَلَا مَنَّانٌ } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ غَشَّ مُسْلِمًا فِي أَهْلِهِ
وَضَارَّهُ فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَأَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ خَبَّبَ خَادِمًا
عَلَى أَهْلِهِ وَمَنْ أَفْسَدَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالشِّيرَازِيُّ : { مَنْ خَبَّبَ عَبْدًا عَلَى
مَوْلَاهُ فَلَيْسَ مِنَّا } .
وَالسِّجْزِيُّ : { إيَّاكُمْ وَالْهَوَى فَإِنَّ
الْهَوَى يُصِمُّ وَيُعْمِي } .
.
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَا تَحْتَ
ظِلِّ سَمَاءٍ مِنْ إلَهٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ
مِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ : { مَنْ اعْتَذَرَ إلَيْهِ أَخُوهُ
الْمُسْلِمُ مِنْ ذَنْبٍ قَدْ أَتَاهُ فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ لَمْ يَرِدْ عَلَى
الْحَوْضِ غَدًا } .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْعُذْرَ مِنْ
مُحِقٍّ أَوْ مُبْطِلٍ لَمْ يَرِدْ عَلَى الْحَوْضِ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { سِتَّةُ أَشْيَاءَ تُحْبِطُ
الْأَعْمَالَ : الِاشْتِغَالُ بِعُيُوبِ الْخَلْقِ وَقَسْوَةُ الْقَلْبِ وَحُبُّ
الدُّنْيَا وَقِلَّةُ الْحَيَاءِ وَطُولُ الْأَمَلِ وَظَالِمٌ لَا يَنْتَهِي } .
وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَسَاكِرَ مُرْسَلًا : {
ثَمَانِيَةٌ هُمْ
أَبْغَضُ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
السَّفَّارُونَ وَهُمْ الْكَذَّابُونَ ، وَالْمُخْتَالُونَ وَهُمْ
الْمُسْتَكْبِرُونَ ، وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الْبُغْضَ لِإِخْوَانِهِمْ فِي
صُدُورِهِمْ فَإِذَا أَتَوْهُمْ تَخَلَّقُوا لَهُمْ ، وَاَلَّذِينَ إذَا دُعُوا
إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ كَانُوا بِطَاءٍ ، وَإِذَا دُعُوا إلَى الشَّيْطَانِ وَأَمْرِهِ
كَانُوا سِرَاعًا .
وَاَلَّذِينَ لَا يُشْرِفُ لَهُمْ طَمَعٌ مِنْ
الدُّنْيَا إلَّا اسْتَحَلُّوهُ بِأَيْمَانِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ
ذَلِكَ بِحَقٍّ ، وَالْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ وَالْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ
الْأَحِبَّةِ ، وَالْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الدَّحَضَةِ أُولَئِكَ يُقْذِرُهُمْ
الرَّحْمَنُ - عَزَّ وَجَلَّ -
} .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرِّ
النَّاسِ ؟ مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ ، وَمَنَعَ رِفْدَهُ ، وَسَافَرَ وَحْدَهُ
وَضَرَبَ عَبْدَهُ ؛ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا ؟ مَنْ يُبْغِضُ
النَّاسَ وَيُبْغِضُونَهُ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا ؟ مَنْ
يُخْشَى شَرُّهُ وَلَا يُرْجَى خَيْرُهُ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هَذَا
؟ مَنْ بَاعَ آخِرَةً بِدُنْيَا غَيْرِهِ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ
هَذَا ؟ مَنْ أَكَلَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ } .
وَابْنُ عَدِيٍّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ
وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ وَابْنُ النَّجَّارِ : { ابْنَ آدَمَ عِنْدَك مَا
يَكْفِيك وَأَنْتَ تَطْلُبُ مَا يُطْغِيك ، ابْنَ آدَمَ لَا بِقَلِيلٍ تَقْنَعُ
وَلَا مِنْ كَثِيرٍ تَشْبَعُ ، ابْنَ آدَمَ إذَا أَصْبَحْتَ مُعَافًى فِي جَسَدِك
آمِنًا فِي سِرْبِك عِنْدَك قُوتُ يَوْمِك فَعَلَى الدُّنْيَا الْعَفَاءُ } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ
خَيْرًا أَرْضَاهُ بِمَا قَسَمَ لَهُ وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ } .
وَهَنَّادٌ وَالْبَيْهَقِيُّ : { إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ
إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْجِسْمِ ، فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ
هُوَ دُونَهُ فِي الْمَالِ وَالْجِسْمِ
} .
وَأَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ : { إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ
إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخُلُقِ ، فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ
هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَكِيمُ
وَالدَّيْلَمِيُّ : { إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ
خَيْرًا جَعَلَ غِنَاهُ فِي نَفْسِهِ وَتُقَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَإِذَا أَرَادَ
بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ } .
وَابْنُ لَالٍ : { إنَّمَا يَكْفِي أَحَدَكُمْ مَا
قَنِعَتْ بِهِ نَفْسُهُ ثُمَّ يَصِيرُ إلَى أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ فِي شِبْرٍ - أَيْ
الْقَبْرِ - ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى الْآخِرَةِ } .
وَأَحْمَدُ وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ أَحَبَّكُمْ إلَيَّ
وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَنْ لَقِيَنِي عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي فَارَقَنِي
عَلَيْهَا } .
وَالدَّيْلَمِيُّ : { خَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ الْقَانِعُ
، وَشَرُّهُمْ الطَّامِعُ } وَابْنُ شَاهِينَ وَقَالَ غَرِيبٌ وَابْنُ عَسَاكِرَ :
{ كَانَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ جَدْيٌ تُرْضِعُهُ أُمُّهُ فَتَرْوِيهِ فَأَفْلَتَ
فَارْتَضَعَ الْغَنَمَ ثُمَّ لَمْ يَشْبَعْ فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِمْ : إنَّ
مَثَلَ هَذَا كَمَثَلِ قَوْمٍ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُعْطَى الرَّجُلُ
مِنْهُمْ مَا يَكْفِي الْأُمَّةَ وَالْقَبِيلَةَ ثُمَّ لَا يَشْبَعُ } .
وَتَمَّامٌ
: { شِرَارُ أُمَّتِي أَوَّلُ مَنْ يُسَاقُ إلَى
النَّارِ الْأَقْمَاعُ مِنْ أُمَّتِي الَّذِينَ إذَا أَكَلُوا لَمْ يَشْبَعُوا ،
وَإِذَا جَمَعُوا لَمْ يَسْتَغْنُوا
} .
وَأَبُو نُعَيْمٍ : { مَنْ سَخِطَ رِزْقَهُ وَبَثَّ شَكْوَاهُ
وَلَمْ يَصْبِرْ لَمْ يَصْعَدْ لَهُ إلَى اللَّهِ عَمَلٌ وَلَقِيَ اللَّهَ
تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ
} .
وَأَبُو يَعْلَى وَالْخَطِيبُ وَابْنُ عَسَاكِرَ : {
مَنْ قَلَّ مَالُهُ وَكَثُرَ عِيَالُهُ وَحَسُنَتْ صَلَاتُهُ وَلَمْ يَغْتَبْ
الْمُسْلِمِينَ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مَعِي كَهَاتَيْنِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ وَالْحَاكِمُ
وَصَحَّحَهُ لَكِنْ تُعُقِّبَ : { يَا عَائِشَةُ إذَا أَرَدْتِ اللُّحُوقَ بِي
فَلْيَكْفِك مِنْ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ ، وَإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ
الْأَغْنِيَاءِ ، وَلَا تَسْتَخْلِقِي ثَوْبًا حَتَّى تُرَقِّعِيهِ } .
وَابْنُ عَسَاكِرَ : { إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -
يَقُولُ أَحَبُّ عِبَادَةِ عَبْدِي إلَيَّ النَّصِيحَةُ } .
وَأَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ
وَأَبُو عَوَانَةَ وَابْنَا خُزَيْمَةَ وَحِبَّانَ وَالْبَغَوِيُّ
وَاَلْبَارُودِيُّ وَابْنُ قَانِعٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ
وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
النَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَحْمَدُ ،
وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ثَوْبَانَ : { إنَّ
الدِّينَ النَّصِيحَةُ ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ ، إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ
، قَالُوا : لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ
وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ } .
وَابْنُ النَّجَّارِ : { مَنْ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
بِخَمْسٍ لَمْ يُصَدَّ وَجْهُهُ عَنْ الْجَنَّةِ : النُّصْحِ لِلَّهِ وَلِدِينِهِ
وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ } .
وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ وَالدَّيْلَمِيِّ : { لَا يَزَالُ
الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةِ مِنْ دِينِهِ مَا مَحَضَ أَخَاهُ النَّصِيحَةَ ، فَإِذَا
حَادَ عَنْ ذَلِكَ سُلِبَ التَّوْفِيقَ
} .
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ : { مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةِ
حَمِيَّةٍ يَنْصُرُ الْعَصَبِيَّةَ وَيَغْضَبُ لِلْعَصَبِيَّةِ فَقِتْلَتُهُ
جَاهِلِيَّةٌ } .
وَأَبُو دَاوُد : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إلَى
عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا
مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ }
.
وَالْبَيْهَقِيُّ : { مِنْ أَسْوَأِ النَّاسِ مَنْزِلَةً
مَنْ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : " أَنَّهُ أَشَرُّ النَّاسِ
نَدَامَةً " وَفِي أُخْرَى
: " أَنَّهُ أَشَرُّ النَّاسِ مَنْزِلَةً يَوْمَ
الْقِيَامَةِ " .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ
بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ
بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إلَى النَّاسِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا : { ثَلَاثُ خِلَالٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ
فِيهِ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ الْكَلْبُ خَيْرًا مِنْهُ : وَرَعٌ يَحْجِزُهُ
عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، أَوْ حِلْمٌ يَرُدُّ بِهِ جَهْلَ جَاهِلٍ ،
أَوْ حُسْنُ خُلُقٍ يَعِيشُ بِهِ فِي النَّاسِ } .
وَأَبُو الشَّيْخِ وَالطَّبَرَانِيُّ : { ثَلَاثٌ
لَازِمَاتٌ لِأُمَّتِي } : { سُوءُ الظَّنِّ وَالْحَسَدُ وَالطِّيَرَةُ ، فَإِذَا
ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ ، وَإِذَا حَسَدْتَ فَاسْتَغْفِرْ
اللَّهَ ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ
} .
وَفِي رِوَايَةٍ مُرْسَلَةٍ : { ثَلَاثٌ لَمْ تَسْلَمْ
مِنْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ : الْحَسَدُ وَالظَّنُّ وَالطِّيَرَةُ ، أَلَا
أُنَبِّئُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْهَا ؟ إذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّقْ ، وَإِذَا
حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ ، وَإِذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { ثَلَاثٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ
النَّاسِ فِيهِنَّ رُخْصَةٌ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ كَانَا أَوْ
كَافِرَيْنِ ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ لِمُسْلِمٍ كَانَ أَوْ كَافِرًا ، وَأَدَاءُ
الْأَمَانَةِ إلَى مُسْلِمٍ كَانَ أَوْ كَافِرًا } .
وَابْنُ مَاجَهْ : { ثَلَاثٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ : رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ
، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا
فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوفِهِ حَقَّهُ } .
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ .
تَنْبِيهَاتٌ ) : مِنْهَا قَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ
وَمِمَّا هُوَ مُقَرَّرٌ مَعْلُومٌ أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ عَدُوُّ الْإِنْسَانِ
الْمُبِينُ ، وَأَنَّ أَشْرَفَ مَا فِي الْإِنْسَانِ قَلْبُهُ فَهُوَ - أَعْنِي
الشَّيْطَانَ - لَا يَقْنَعُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِفَسَادِ ظَاهِرِهِ بَلْ لَا
مَقْصِدَ لَهُ بِطَرِيقِ الذَّاتِ إلَّا فَسَادُ ذَلِكَ الْأَشْرَفِ ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ
وُجُوبًا عَيْنِيًّا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حِمَايَةُ قَلْبِهِ عَنْ فَسَادِ
الشَّيْطَانِ ، لَكِنْ لَا يُتَوَصَّلُ لِذَلِكَ إلَّا بِمَعْرِفَةِ مَدَاخِلِهِ ،
وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ ، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ
مَعْرِفَةُ مَدَاخِلِهِ وَهِيَ صِفَاتُ الْعَبْدِ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ مِنْ
أَعْظَمِهَا : الْحَسَدُ وَالْحِرْصُ ، فَمَهْمَا كَانَ الْعَبْدُ حَرِيصًا عَلَى
شَيْءٍ أَعْمَاهُ حِرْصُهُ وَأَصَمَّهُ
.
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْخَبَرِ السَّابِقِ : { حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ } .
فَنُورُ الْبَصِيرَةِ هُوَ الَّذِي يُدْرِكُ تِلْكَ
الْمَدَاخِلَ ، فَإِذَا غَطَّاهُ الْحِرْصُ وَالْحَسَدُ لَمْ يُبْصِرْ ،
فَحِينَئِذٍ يَجِدُ الشَّيْطَانُ فُرْصَةً أَيَّ فُرْصَةٍ وَمَدْخَلًا أَيَّ
مَدْخَلٍ : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نُوحًا وَجَدَهُ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ فَقَالَ
: لِمَ دَخَلْتَ ؟ قَالَ : لِأُصِيبَ قُلُوبَ أَصْحَابِك حَتَّى يَكُونُوا مَعِي وَلَا
يَكُونَ مَعَك إلَّا أَبْدَانُهُمْ ، قَالَ : اُخْرُجْ مِنْهَا يَا عَدُوَّ
اللَّهِ فَإِنَّك رَجِيمٌ ، فَقَالَ إبْلِيسُ : خَمْسٌ أُهْلِكُ بِهِنَّ النَّاسَ
وَسَأُحَدِّثُك بِثَلَاثٍ مِنْهَا دُونَ اثْنَتَيْنِ .
فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى لِنُوحٍ - صَلَّى اللَّهُ
وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ - : مُرْهُ يُحَدِّثُك بِالِاثْنَتَيْنِ ،
وَلَا حَاجَةَ لَك فِي الثَّلَاثِ ، قَالَ لَهُ : مَا الِاثْنَتَانِ ؟ فَقَالَ :
هُمَا اللَّتَانِ لَا يَكْذِبَانِي هُمَا اللَّتَانِ لَا يُخْلِفَانِي بِهِمَا أُهْلِكُ
النَّاسَ : الْحِرْصُ وَالْحَسَدُ ، بِالْحَسَدِ لُعِنْتُ وَجُعِلْتُ شَيْطَانًا
رَجِيمًا ، وَبِالْحِرْصِ أَصَبْتُ حَاجَتِي مِنْ آدَمَ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ
الْجَنَّةُ كُلُّهَا إلَّا شَجَرَةً وَاحِدَةً فَلَمْ يَصْبِرْ عَنْهَا .
وَمِنْ
أَعْظَمِهَا أَيْضًا الْغَضَبُ وَالشَّهْوَةُ ،
فَبِالْغَضَبِ يَضْعُفُ الْعَقْلُ فَيَلْعَبُ الشَّيْطَانُ بِالْغَضْبَانِ كَمَا
يَلْعَبُ الصَّبِيُّ بِالْكُرَةِ
.
وَرُوِيَ أَنَّ إبْلِيسَ اسْتَشْفَعَ بِمُوسَى - صَلَّى
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى رَبِّهِ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْهِ فَشَفَعَ ، فَقَالَ : يَا مُوسَى إنْ سَجَدَ لِقَبْرِ آدَمَ .
فَأَعْلَمَهُ ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ الْغَضَبَ
: لَمْ أَسْجُدْ لَهُ حَيًّا فَكَيْفَ أَسْجُدُ لَهُ مَيِّتًا ، لَكِنْ لَك
عَلَيَّ حَقُّ شَفَاعَتِك ، اُذْكُرْنِي عِنْدَ ثَلَاثٍ لَا أُهْلِكُكَ فِيهِنَّ :
اُذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ فَإِنِّي أَجْرِي مِنْك مَجْرَى الدَّمِ ، وَحِينَ
تَلْقَى الزَّحْفَ فَإِنِّي أُذَكِّرُ ابْنَ آدَمَ حِينَئِذٍ وَلَدَهُ
وَزَوْجَتَهُ وَأَهْلَهُ حَتَّى يُوَلِّيَ ، وَحِينَ تُجَالِسُ امْرَأَةً
أَجْنَبِيَّةً فَإِنِّي رَسُولُهَا إلَيْك وَرَسُولُك إلَيْهَا .
وَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَنْبِيَاءِ : بِأَيِّ شَيْءٍ
تَغْلِبُ ابْنَ آدَمَ ؟ قَالَ : آخُذُهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَعِنْدَ الْهَوَى ،
وَقِيلَ لَهُ : أَيُّ أَخْلَاقِ بَنِي آدَمَ أَعْوَنُ لَك ؟ قَالَ : الْحِدَّةُ -
أَيْ الْمَذْمُومَةُ - حَتَّى لَا يُنَافِيَ مَا مَرَّ فِي مَدْحِهَا : إنَّ
الْعَبْدَ إذَا كَانَ حَدِيدًا قَلَّبْنَاهُ كَمَا تُقَلِّبُ الصِّبْيَانُ
الْكُرَةَ .
وَمِنْ أَعْظَمِهَا أَيْضًا : حُبُّ الْقَلْبِ زِينَةَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهَا فَيَبِيضُ الشَّيْطَانُ فِيهِ
حِينَئِذٍ ، وَيُفْرِخُ وَيَفْتَحُ لَهُ مِنْ الْمَلَاهِي وَالْقَوَاطِعِ عَنْ
اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ وَسُنَّتِهِ مَا يُزَيِّنُ لَهُ الْبَقَاءَ عَلَيْهِ
إلَى أَنْ يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ عَلَى نَقْصِهِ وَغَفْلَتِهِ ، وَإِنْفَاقِ
نَفَائِسِ أَوْقَاتِهِ فِي الْبَطَالَاتِ ، فَرُبَّمَا خَتَمَ اللَّهُ لَهُ
بِسُوءٍ ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى .
وَمِنْ أَعْظَمِهَا : مَحَبَّةُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إذْ
الشِّبَعُ - وَلَوْ مِنْ حَلَالٍ طَيِّبٍ - يُقَوِّي الشَّهَوَاتِ وَهِيَ
أَسْلِحَةُ الشَّيْطَانِ ، وَمِنْ ثَمَّ رَآهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا - صَلَّى
اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ مَعَالِيقُ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ : هِيَ الشَّهَوَاتُ الَّتِي بِهَا أُصِيبُ
ابْنَ آدَمَ ، فَقَالَ : هَلْ لِي فِيهَا شَيْءٌ ؟ فَقَالَ : رُبَّمَا شَبِعْتَ
فَثَقَّلْنَاك عَنْ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ ، قَالَ : هَلْ غَيْرُ ذَلِكَ ؟ قَالَ
: لَا ، قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَمْلَأَ بَطْنِي مِنْ طَعَامٍ أَبَدًا
، قَالَ إبْلِيسُ : وَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَنْصَحَ مُسْلِمًا أَبَدًا .
وَمِنْ أَعْظَمِهَا أَيْضًا : الطَّمَعُ .
فَإِنَّهُ إذَا غَلَبَ عَلَى قَلْبٍ لَمْ يَزَلْ
الشَّيْطَانُ يُحْسِنُ التَّزَيُّنَ وَالتَّصَنُّعَ ، وَلِلْمَطْمُوعِ فِيهِ
بِأَنْوَاعِ الرِّيَاءِ وَالتَّلْبِيسِ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ إلَهُهُ ، فَلَا
يَزَالُ يَتَفَكَّرُ فِي حَبْلِ التَّوَدُّدِ وَالتَّحَبُّبِ إلَيْهِ وَالتَّوَصُّلِ
إلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَا رَضِيَهُ ، وَإِنْ أَغْضَبَ اللَّهَ كَالْمُدَاهَنَةِ
لَهُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى فِعْلِ مُحَرَّمٍ .
وَمِنْهَا :
الْعَجَلَةُ ، وَتَرْكُ التَّثْبِيتِ فِي الْأُمُورِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا } وَفِي الْحَدِيثِ : { الْعَجَلَةُ
مِنْ الشَّيْطَانِ وَالتَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ } ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْعَجَلَةُ
مِنْ الشَّيْطَانِ لِأَنَّهُ عِنْدَهَا يَرُوجُ شَرُّهُ عَلَى الْإِنْسَانِ مِنْ
حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِخِلَافِ مَنْ تَمَهَّلَ وَتَرَوَّى عِنْدَ الْإِقْدَامِ
عَلَى عَمَلٍ يُرِيدُهُ فَإِنَّهُ تَحْصُلُ لَهُ بَصِيرَةٌ بِهِ ، وَمَتَى لَمْ
تَحْصُلْ تِلْكَ الْبَصِيرَةُ فَلَا يَنْبَغِي الِاسْتِعْجَالُ اللَّهُمَّ إلَّا
فِي وَاجِبٍ فَوْرِيٍّ ، فَهَذَا لَا مَسَاغَ لِلتَّمَهُّلِ فِيهِ ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا
الْمَالُ إذَا مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ وَالْقُوتِ فَهُوَ مُسْتَقَرُّ الشَّيْطَانِ
، فَإِنَّ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ ذَلِكَ الزَّائِدُ قَلْبُهُ فَارِغٌ ، فَلَوْ وَجَدَ
مِائَةَ دِينَارٍ بِطَرِيقٍ انْبَعَثَ مِنْ قَلْبِهِ عَشْرُ شَهَوَاتٍ ، كُلُّ
شَهْوَةٍ مِنْهَا تَحْتَاجُ إلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَيَحْتَاجُ إلَى تِسْعِمِائَةٍ
أُخْرَى ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ظَفَرِهِ بِالْمِائَةِ مُسْتَغْنِيًا ، فَلَمَّا
وَجَدَ الْمِائَةَ ظَنَّ أَنَّهُ اسْتَغْنَى وَقَدْ بَانَ لَهُ أَنَّهُ صَارَ
مُحْتَاجًا لِتِسْعِمِائَةٍ لِشِرَاءِ دَارٍ وَأَمَةٍ وَأَثَاثٍ ، وَكُلُّ شَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي شَيْئًا آخَرَ يَلِيقُ بِهِ وَذَلِكَ لَا آخِرَ لَهُ ، فَيَقَعُ
فِي هَاوِيَةٍ لَا آخِرَ لَهَا إلَّا قَعْرُ جَهَنَّمَ ، وَلَمَّا ضَجِرَتْ
شَيَاطِينُ إبْلِيسَ مِنْ عَدَمِ ظَفَرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ وَشَكَوْا إلَيْهِ قَالَ لَهُمْ : رُوَيْدًا عَسَى تُفْتَحُ
لَهُمْ الدُّنْيَا فَتُصِيبُوا حَاجَتَكُمْ مِنْهُمْ .
وَمِنْهَا : الْبُخْلُ وَخَوْفُ الْفَقْرِ ، فَإِنَّهُ
يَمْنَعُ مِنْ التَّصَدُّقِ وَالْإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ وَيَأْمُرُ
بِالْإِمْسَاكِ وَالتَّقْتِيرِ وَالْكَنْزِ ، وَعَذَابُ اللَّهِ الْأَلِيمُ هُوَ
الْمَوْعِدُ لِلْكَانِزِينَ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ .
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : لِلشَّيْطَانِ سِلَاحٌ مِثْلُ خَوْفِ
الْفَقْرِ ، فَإِذَا قَبِلَ مِنْهُ أَخَذَ فِي الْبَاطِلِ وَتَكَلَّمَ بِالْهَوَى
وَظَنَّ بِرَبِّهِ السُّوءَ .
وَمِنْ آفَاتِ الْبُخْلِ : الْحِرْصُ عَلَى مُلَازَمَةِ
الْأَسْوَاقِ لِجَمْعِ الْمَالِ وَهِيَ مُعَشَّشُ الشَّيْطَانِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : { لَمَّا نَزَلَ إبْلِيسُ إلَى
الْأَرْضِ قَالَ : يَا رَبِّ اجْعَلْ لِي بَيْتًا .
قَالَ : الْحَمَّامُ : قَالَ : اجْعَلْ لِي مَجْلِسًا .
قَالَ : الْأَسْوَاقُ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي مُؤَذِّنًا .
قَالَ : الْمَزَامِيرُ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي طَعَامًا .
قَالَ : مَا لَا يُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي قُرْآنًا .
قَالَ : الشِّعْرُ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي حَدِيثًا .
قَالَ : الْكَذِبُ .
قَالَ : اجْعَلْ لِي مَصَائِدَ .
قَالَ : النِّسَاءُ } .
وَمِنْهَا :
التَّعَصُّبُ لِلْمَذَاهِبِ وَالْأَهْوَاءِ ،
وَالْحِقْدُ عَلَى الْخُصُومِ ، وَالنَّظَرُ إلَيْهِمْ بِعَيْنِ الِازْدِرَاءِ وَالِاحْتِقَارِ
، وَذَلِكَ مِمَّا يُهْلِكُ الْعِبَادَ وَالْعُلَمَاءَ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ ،
فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالطَّعْنِ فِي النَّاسِ وَذِكْرِ نَقَائِصِهِمْ مِمَّا
جُبِلَ عَلَيْهِمْ الطَّبْعُ ، فَإِذَا خَيَّلَ الشَّيْطَانُ إلَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ
هُوَ الْحَقُّ زَادَ فِيهِ وَاسْتَكْثَرَ وَحَلَا لَهُ وَفَرِحَ بِهِ ظَنًّا
مِنْهُ أَنَّهُ يَسْعَى فِي الدِّينِ وَمَا هُوَ إلَّا سَاعٍ فِي اتِّبَاعِ
الشَّيْطَانِ دُونَ اتِّبَاعِ الْمُتَعَصَّبِ لَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْ مَنْ
بَعْدَهُمْ ، وَلَوْ اعْتَنَى بِصَلَاحِ نَفْسِهِ وَكَانَ عَلَى نَحْوِ أَخْلَاقِ
مَنْ تَعَصَّبَ لَهُ لَكَانَ ذَلِكَ هُوَ الْأَوْلَى لَهُ وَالْأَحْرَى بِهِ ، وَظَنُّ
أَنَّ التَّعَصُّبَ لَهُ بِنَقْصِ النَّاسِ وَاحْتِقَارِهِمْ بِحُبِّهِ إلَيْهِ
كَاذِبٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَتَعَصَّبْ لِنَفْسِهِ وَعَفَا
عَمَّنْ سَفِهَ عَلَيْهِ فَاتِّبَاعُهُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُ ، وَكُلُّ مَنْ
تَعَصَّبَ لِإِمَامٍ وَلَمْ يَسِرْ عَلَى سِيرَتِهِ فَذَلِكَ الْإِمَامُ هُوَ
خَصْمُهُ وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُوَبِّخِينَ لَهُ ، وَقَدْ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ وَهِيَ بَضْعَةٌ مِنْهُ : اعْمَلِي فَإِنِّي لَا
أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا
} .
فَعَلَيْكَ أَنْ تُصْلِحَ بَاطِنَك وَظَاهِرَك ، وَلَا
تَشْتَغِلْ بِغَيْرِك إلَّا حَيْثُ كَلَّفَك الشَّرْعُ بِذَلِكَ ، كَأَنْ تَأْمُرَ
بِمَعْرُوفٍ وَتَنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ بَعْدَ اسْتِيفَائِك لِشُرُوطِهِ
الشَّرْعِيَّةِ .
وَمِنْهَا : حَمْلُ الْعَوَامّ وَمَنْ لَمْ يُمَارِسْ
الْعُلُومَ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ ، وَفِي أُمُورٍ لَا
تَبْلُغُهَا عُقُولُهُمْ وَهَذَا مَضِلَّةٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمْ يَتَشَكَّكُونَ
بِهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ ، بَلْ رُبَّمَا تَخَيَّلُوا فِي اللَّهِ - تَعَالَى -
مَا هُوَ مُتَعَالٍ عَنْهُ فَيَصِيرُ بِهِ كَافِرًا أَوْ مُبْتَدِعًا وَهُوَ بِهِ
فَرِحٌ مَسْرُورٌ لِغَلَبَةِ حُمْقِهِ وَقِلَّةِ عَقْلِهِ ، وَأَشَدُّ النَّاسِ حَمَاقَةً
أَقْوَاهُمْ اعْتِقَادًا فِي نَفْسِهِ ، وَأَثْبَتُهُمْ عَقْلًا أَشَدُّهُمْ
اتِّهَامًا لِنَفْسِهِ وَظَنِّهِ وَأَحْرَصُهُمْ عَلَى السُّؤَالِ مِنْ
الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ .
وَمِنْهَا : سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ } وَمَنْ حَكَمَ بِشَرٍّ عَلَى
غَيْرِهِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ حَمَلَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى احْتِقَارِهِ وَعَدَمِ
الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِ وَالْتَوَانِي فِي إكْرَامِهِ ، وَإِطَالَةِ اللِّسَانِ
فِي عِرْضِهِ وَكُلُّ هَذِهِ مُهْلِكَاتٌ .
وَقَدْ { قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِمَنْ أَبْصَرَهُ يُكَلِّمُ زَوْجَتَهُ صَفِيَّةَ : إنَّهَا أُمُّكُمَا
فَتَطَوَّرَا لِذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ
مَجْرَى الدَّمِ ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا }
فَأَشْفَقَ عَلَيْهِمَا فَحَرَسَهُمَا وَعَلَى أُمَّتِهِ فَعَلَّمَهُمْ طَرِيقَ الِاحْتِرَازِ
مِنْ التُّهْمَةِ حَتَّى لَا يَتَسَاهَلَ الْعَالِمُ الْوَرِعُ فِي أَحْوَالِهِ
ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِهِ إلَّا الْخَيْرُ إعْجَابًا مِنْهُ
بِنَفْسِهِ ، وَهِيَ زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ ؛ إذْ أَوْرَعُ النَّاسِ وَأَتْقَاهُمْ
وَأَعْلَمُهُمْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُنْقِصٍ وَمُبْغِضٍ ، فَتَعَيَّنَ
الِاحْتِرَازُ عَنْ تُهْمَةِ الْأَعْدَاءِ وَالْأَشْرَارِ فَإِنَّهُمْ لَا
يَظُنُّونَ بِالنَّاسِ كُلِّهِمْ إلَّا الشَّرَّ ، وَكُلُّ مَنْ رَأَيْتَهُ
سَيِّئَ الظَّنِّ بِالنَّاسِ طَالِبًا لِإِظْهَارِ مَعَايِبِهِمْ .
فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ لِخُبْثِ بَاطِنِهِ وَسُوءِ
طَوِيَّتِهِ ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَطْلُبُ الْمَعَاذِيرَ لِسَلَامَةِ بَاطِنِهِ
، وَالْمُنَافِقُ يَطْلُبُ الْعُيُوبَ لِخُبْثِ بَاطِنِهِ ، فَهَذِهِ بَعْضُ
مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ إلَى الْقَلْبِ وَفِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى بَاقِيهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ : فَلَيْسَ فِي الْآدَمِيِّ صِفَةٌ
مَذْمُومَةٌ إلَّا وَهِيَ سِلَاحُ الشَّيْطَانِ ، وَبِهَا يَسْتَعِينُ عَلَى
إضْلَالِهِ ، وَإِغْوَائِهِ فَالْجَأْ إلَى اللَّهِ وَفِرَّ إلَيْهِ مِنْ
مَكَائِدِهِ لَعَلَّ أَنْ يُنْجِيَك مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ ، وَاِتَّخِذْ الذِّكْرَ
سَمِيرًا وَتَذَكَّرْ الْآخِرَةَ مُعِينًا وَظَهِيرًا ، وَدُمْ عَلَى ذَلِكَ تُحْفَظُ
- إنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ سَائِرِ تِلْكَ الْمَهَالِكِ .
وَمِنْهَا : إذَا تَأَمَّلْتَ مَا قَرَّرْنَا وَاتَّضَحَ
مِنْ جَمِيعِ
مَا ذَكَرْنَاهُ لَك عَظِيمَ ضَرَرِ أَكْثَرِ تِلْكَ
الْكَبَائِرِ الَّتِي سَرَدْنَاهَا عَنْ ذَلِكَ الْإِمَامِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ
لَيْسَ مِنْ تَفَرُّدِهِ بَلْ أَخَذَهُ مِنْ كَلِمَاتِ الْأَئِمَّةِ
وَالْعُلَمَاءِ الْأَعْلَامِ ، فَاحْذَرْ أَنْ يَكُونَ بِقَلْبِك أَوْ بِبَاطِنِك
شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهَا تُفْسِدُ مِنْك الْبَاطِنَ بَلْ وَالظَّاهِرَ .
وَمِنْهَا : أَنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الْكَبَائِرِ يَرْجِعُ
فِعْلُهَا إلَى سُوءِ الْخُلُقِ ، وَتَرْكُهَا إلَى حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَحُسْنُهُ
يَرْجِعُ إلَى اعْتِدَالِ قُوَّةِ الْعَقْلِ بِكَمَالِ الْحِكْمَةِ ، وَإِلَى
اعْتِدَالِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ وَالشَّهَوِيَّةِ ، وَإِطَاعَةِ كُلٍّ
مِنْهَا لِلْعَقْلِ مَعَ الشَّرْعِ ، ثُمَّ هَذَا الِاعْتِدَالُ إمَّا أَنْ
يَكُونَ بِجُودٍ إلَهِيٍّ وَكَمَالٍ فِطْرِيٍّ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
بِاكْتِسَابِ أَسْبَابِهِ مِنْ الْمُجَاهَدَةِ وَالرِّيَاضَةِ بِأَنْ يَحْمِلَ
نَفْسَهُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ يُوجِبُ حُسْنَ خُلُقِهَا وَيُضَادُّ سُوءَ
طَوِيَّتِهَا إذْ هِيَ لَا تَأْلَفُ رَبَّهَا وَلَا تَأْنَسُ بِذِكْرِهِ إلَّا
إذَا فُطِمَتْ عَنْ عَادَتِهَا وَحُفِظَتْ عَنْ شَهَوَاتِهَا بِالْخَلْوَةِ
وَالْعُزْلَةِ أَوَّلًا لِيُحْفَظَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ عَنْ الْمَأْلُوفَاتِ ،
ثُمَّ بِإِدْمَانِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ فِي تِلْكَ الْخَلْوَةِ إلَى أَنْ يَغْلِبَ
عَلَيْهِ الْأُنْسُ بِاَللَّهِ وَبِذِكْرِهِ ، فَحِينَئِذٍ يَتَنَعَّمُ بِهِ فِي
نِهَايَتِهِ ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ فِي بِدَايَتِهِ ، وَرُبَّمَا ظَنَّ مَنْ
جَاهَدَ نَفْسَهُ أَدْنَى مُجَاهَدَةٍ بِتَرْكِ فَوَاحِشِ الْمَعَاصِي أَنَّهُ
قَدْ هَذَّبَهَا وَحَسَّنَ خُلُقَهَا ، وَأَنَّى لَهُ بِذَلِكَ وَلَمْ تُوجَدْ
فِيهِ صِفَاتُ الْكَامِلِينَ وَلَا أَخْلَاقُ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ
قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا } إلَى
أَنْ قَالَ : { أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } وَقَالَ تَعَالَى : { قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } إلَى أَنْ قَالَ { أُولَئِكَ هُمْ
الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } وَقَالَ
تَعَالَى : { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ } إلَى { وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ }
وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْنًا } إلَى آخِرِ السُّورَةِ .
فَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ حَالُ نَفْسِهِ
فَلْيَعْرِضْهَا عَلَى هَذِهِ الْآيَاتِ وَنَظَائِرِهَا ، فَوُجُودُ جَمِيعِ
هَذِهِ الصِّفَاتِ عَلَامَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ ، وَفَقْدُ جَمِيعِهَا عَلَامَةُ
سُوءِ الْخُلُقِ وَوُجُودُ الْبَعْضِ يَدُلُّ عَلَى الْبَعْضِ .
وَقَدْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
مَجَامِعِ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ بِقَوْلِهِ : { الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا
يُحِبُّ لِنَفْسِهِ } وَيَأْمُرُهُ بِإِكْرَامِ الضَّيْفِ وَالْجَارِ ، وَبِأَنَّ
الْمُؤْمِنَ إمَّا أَنْ يَقُولَ خَيْرًا أَوْ يَصْمُتَ ، وَبِمَا جَاءَ : { إذَا
رَأَيْتُمْ الْمُؤْمِنَ صَمُوتًا وَقُورًا فَادْنُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ } .
{ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُشِيرَ إلَى أَخِيهِ
بِنَظَرٍ يُؤْذِيهِ } .
{ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا } .
{ إنَّمَا يَتَجَالَسُ الْمُتَجَالِسَانِ بِأَمَانَةِ
اللَّهِ فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُفْشِيَ عَلَى أَخِيهِ مَا يَكْرَهُ } .
وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخُلُقِ
فَقَالَ : أَنْ يَكُونَ كَثِيرَ الْحَيَاءِ ، قَلِيلَ الْأَذَى ، كَثِيرَ
الصَّلَاحِ ، صَدُوقَ اللِّسَانِ ، قَلِيلَ الْكَلَامِ ، كَثِيرَ الْعَمَلِ ،
قَلِيلَ الْفُضُولِ ، قَلِيلَ الزَّلَلِ ، وَهُوَ بَرٌّ وَصُولٌ وَقُورٌ صَبُورٌ
رَضِيٌّ شَكُورٌ حَلِيمٌ ، رَفِيقٌ عَفِيفٌ شَفِيقٌ لَا لَمَّازٌ وَلَا سَبَّابٌ
وَلَا نَمَّامٌ وَلَا مُغْتَابٌ وَلَا عَجُولٌ وَلَا حَقُودٌ وَلَا بَخِيلٌ وَلَا
حَسُودٌ ، هَشَّاشٌ بَشَّاشٌ ، يُحِبُّ فِي اللَّهِ وَيُبْغِضُ فِي اللَّهِ وَيَرْضَى
فِي اللَّهِ وَيَغْضَبُ فِي اللَّهِ ؛ فَهَذَا هُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ .
وَفَّقَنَا اللَّهُ تَعَالَى لِلتَّحَلِّي بِمَعَالِيهِ وَأَدَامَ
عَلَيْنَا سَوَابِغَ أَفْضَالِهِ وَمَوَانِحَ قُرَبِهِ وَالِانْدِرَاجَ فِي سِلْكِ
أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَمَوَالِيهِ آمِينَ .
الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ بِالِاسْتِرْسَالِ فِي الْمَعَاصِي
مَعَ الِاتِّكَالِ عَلَى الرَّحْمَةِ قَالَ تَعَالَى : { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ
اللَّهِ إلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَذَلِكُمْ
ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنْ
الْخَاسِرِينَ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { إذَا رَأَيْتُمْ اللَّهَ يُعْطِي
الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ .
فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِدْرَاجٌ .
ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إذَا فَرِحُوا
بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } } أَيْ آيِسُونَ
مِنْ النَّجَاةِ وَكُلِّ خَيْرٍ سَدِيدٍ ، وَلَهُمْ الْحَسْرَةُ وَالْحُزْنُ وَالْخِزْيُ
لِاغْتِرَارِهِمْ بِتَرَادُفِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ مَعَ مُقَابَلَتِهِمْ لَهَا
بِمَزِيدِ الْإِعْرَاضِ وَالْإِدْبَارِ
.
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْحَسَنُ : مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ
عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ مَكْرٌ بِهِ فَلَا عَقْلَ لَهُ ، وَقَالَ فِي قَوْمٍ
لَمْ يَشْكُرُوا : مُكِرَ بِهِمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ
أُخِذُوا .
وَفِي الْأَثَرِ { لَمَّا مُكِرَ بِإِبْلِيسَ بَكَى جِبْرِيلُ
وَمِيكَائِيلُ ، فَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمَا : وَمَا يُبْكِيكُمَا ؟ قَالَا :
رَبَّنَا مَا أَمِنَّا مِنْ مَكْرِك ، فَقَالَ تَعَالَى : هَكَذَا كُونَا لَا
تَأْمَنَا مَكْرِي } وَمِنْ ثَمَّ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : { يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك
} وَفِي رِوَايَةٍ
: { فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَخَافُ ؟
قَالَ : إنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ
يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ }
.
أَيْ بَيْنَ مَظْهَرَيْ إرَادَتِهِ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ
، فَهُوَ يَصْرِفُهَا أَسْرَعَ مِنْ مَمَرِّ الرِّيحِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي
الْقَبُولِ وَالرَّدِّ وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ .
وَفِي التَّنْزِيلِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ
بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } ، أَيْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَقْلِهِ حَتَّى لَا
يَدْرِيَ
مَا يَصْنَعُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْله
تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ } ، أَيْ عَقْلٌ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرَانِيُّ أَنَّ مَعْنَى تِلْكَ
الْإِحَالَةِ إعْلَامُ الْعِبَادِ بِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِقُلُوبِهِمْ مِنْهُمْ
وَأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا إذَا شَاءَ حَتَّى لَا يُدْرِكَ أَحَدٌ
شَيْئًا إلَّا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى
.
وَلَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ : { يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك ، قَالَتْ
لَهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّك تُكْثِرُ أَنْ
تَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ فَهَلْ تَخْشَى ؟ قَالَ : وَمَا يُؤَمِّنُنِي يَا عَائِشَةُ
وَقُلُوبُ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إذَا
أَرَادَ أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَ عَبْدِهِ قَلَّبَهُ } .
وَقَدْ أَثْنَى تَعَالَى عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي
الْعِلْمِ بِقَوْلِهِمْ : { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ
لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إنَّك أَنْتَ الْوَهَّابُ } .
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةً
ظَاهِرَةً وَحُجَّةً وَاضِحَةً لِرَدِّ مَا عَلَيْهِ الْمُعْتَزِلَةُ ،
وَالْحَقِيقَةُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ الزَّيْغَ
وَالْهِدَايَةَ بِخَلْقِ اللَّهِ ، وَإِرَادَتِهِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقَلْبَ
صَالِحٌ لِلْمَيْلِ إلَى الْخَيْرِ ، وَإِلَى الشَّرِّ ، وَإِلَى الْإِيمَانِ ،
وَإِلَى الْكُفْرِ ، وَمُحَالٌ أَنْ يَمِيلَ إلَى أَحَدِهِمَا بِدُونِ دَاعِيَةٍ ،
بَلْ لَا بُدَّ فِي مَيْلِهِ لِذَلِكَ مِنْ حُدُوثِ دَاعِيَةٍ ، وَإِرَادَةٍ
يُحْدِثُهَا اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِنْ كَانَ دَاعِيَةَ الْكُفْرِ فَهُوَ
الْخِذْلَانُ وَالْإِزَاغَةُ وَالصَّدُّ وَالْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالرَّيْنُ وَالْقَسْوَةُ
وَالْوَقْرُ وَالْكِنَانُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي
الْقُرْآنِ ، وَإِنْ كَانَ دَاعِيَةَ الْإِيمَانِ فَهُوَ التَّوْفِيقُ
وَالْإِرْشَادُ وَالْهِدَايَةُ وَالتَّسْدِيدُ وَالتَّثْبِيتُ وَالْعِصْمَةُ
وَغَيْرُهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ .
ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْأُصْبُعَيْنِ فِي الْحَدِيثِ
السَّابِقِ وَفِيمَا رُوِيَ : {
قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ
الرَّحْمَنِ إذَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُزِيغَهُ
أَزَاغَهُ } هُمَا الدَّاعِيَتَانِ الْمَذْكُورَتَانِ فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ .
وَمِمَّا يُحَذِّرُك أَيْضًا مِنْ أَمْنِ الْمَكْرِ
اسْتِحْضَارُك قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ : { إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا
يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ
فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا } .
وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ : { إنَّ الْعَبْدَ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ،
وَيَعْمَلُ الرَّجُلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ
النَّارِ ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالْخَوَاتِيمِ } .
وَلَا يُتَّكَلُ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمَّا قَالُوا عِنْدَ سَمَاعِ ذَلِكَ فَفِيمَ
الْعَمَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِ أَعْمَالِنَا ؟
قَالَ لَهُمْ : بَلَى اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ثُمَّ قَرَأَ
: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } وَتَأَمَّلْ أَيْضًا مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ
قِصَّةِ بَلْعَامٍ عَالِمِ بَنِي إسْرَائِيلَ حَيْثُ أَمِنَ الْمَكْرَ فَقَنِعَ
بِالْفَانِي مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا عَنْ الْبَاقِي مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ
فَأَطَاعَ هَوَاهُ ، وَقِيلَ : مَا بُذِلَ لَهُ عَلَى أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ
عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَدْلَعَ لِسَانَهُ عَلَى صَدْرِهِ
وَصَارَ يَلْهَثُ كَالْكَلْبِ وَسَلَبَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَالْعِلْمَ
وَالْمَعْرِفَةَ ، وَكَذَلِكَ بَرْصِيصَا الْعَابِدُ مَاتَ بَعْدَ عِبَادَتِهِ
الَّتِي لَا تُطَاقُ عَلَى الْكُفْرِ
.
وَكَانَ ابْنُ السَّقَّاءِ بِبَغْدَادَ مِنْ
مَشَاهِيرِهَا فَضْلًا وَذَكَاءً وَقَعَ لَهُ مَعَ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَدَعَا عَلَيْهِ فَانْتَقَلَ بِهِ الْحَالُ إلَى
الْقُسْطَنْطِينِيَّة ، فَهَوَى امْرَأَةً فَتَنَصَّرَ
لِأَجْلِهَا ثُمَّ مَرِضَ فَأُلْقِيَ عَلَى الطَّرِيقِ يَسْأَلُ ، فَمَرَّ بِهِ
بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَحَكَى لَهُ فِتْنَتَهُ ،
وَأَنَّهُ تَنَصَّرَ وَالْآنَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ
الْقُرْآنِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَمُرُّ بِخَاطِرِهِ ، قَالَ ذَلِكَ
الرَّائِي لَهُ : فَمَرَرْتُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَلِيلٍ فَرَأَيْتُهُ مُحْتَضَرًا ، وَوَجْهُهُ
إلَى الشَّرْقِ فَصِرْت كُلَّمَا أَدَرْت وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ الْتَفَتَ
لِلشَّرْقِ ، وَلَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتْ رُوحُهُ .
وَكَانَ بِمِصْرَ مُؤَذِّنٌ عَلَيْهِ سِيمَا الصَّلَاحِ فَرَأَى
نَصْرَانِيَّةً مِنْ الْمَنَارَةِ فَافْتُتِنَ بِهَا فَذَهَبَ إلَيْهَا
فَامْتَنَعَتْ أَنْ تُجِيبَهُ لِرِيبَةٍ ، فَقَالَ : النِّكَاحُ ، فَقَالَتْ : أَنْتَ
مُسْلِمٌ وَلَا يَرْضَى أَبِي ، فَقَالَ إنَّهُ يَتَنَصَّرُ ، فَقَالَتْ : الْآنَ
يُجِيبُك ، فَتَنَصَّرَ وَوَعَدُوهُ أَنْ يُدْخِلُوهُ عَلَيْهَا ، فَفِي أَثْنَاءِ
ذَلِكَ الْيَوْمِ رَقِيَ سَطْحًا لِحَاجَةٍ فَزَلَّتْ قَدَمُهُ ، فَوَقَعَ
مَيِّتًا ؛ فَلَا هُوَ بِدِينِهِ وَلَا هُوَ بِهَا .
فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَكْرِهِ ، وَنَعُوذُ بِهِ
مِنْهُ وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَبِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ .
وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إذَا كَانَتْ
الْهِدَايَةُ مَصْرُوفَةً ، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى مَشِيئَتِهِ مَوْقُوفَةً ،
وَالْعَاقِبَةُ مُغَيَّبَةً ، وَالْإِرَادَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا
مُغَالَبَةٍ ، فَلَا تُعْجَبْ بِإِيمَانِك ، وَصَلَاتِك وَجَمِيعِ قُرَبِكَ
فَإِنَّهَا مِنْ مَحْضِ فَضْلِ رَبِّك وُجُودِهِ فَرُبَّمَا سَلَبَهَا عَنْك فَوَقَعَتْ
فِي هُوَّةِ النَّدَمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ
لِمَا عَلِمْتَ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي فِيهِ ، بَلْ جَاءَ
تَسْمِيَتُهُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ
، وَالْبَزَّارُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ مَا الْكَبَائِرُ ؟ فَقَالَ : الشِّرْكُ
بِاَللَّهِ ، وَالْإِيَاسُ
مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ
وَهَذَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ
} .
قِيلَ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا ،
وَبِكَوْنِهِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ
.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَكْرِ مُسْتَحِيلَةٌ
عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَزَّ قَائِلًا : { وَمَكَرُوا
وَمَكَرَ اللَّهُ وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } فَهُوَ مِنْ بَابِ
الْمُقَابَلَةِ عَلَى حَدِّ { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } { تَعْلَمُ مَا فِي
نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك } قِيلَ : وَمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ - تَعَالَى - بِالْمَكْرِ إلَّا لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ
مَعَهُ مِنْ لَفْظٍ آخَرَ مُسْنَدٍ لِمَنْ يَلِيقُ بِهِ انْتَهَى .
وَرُدَّ بِأَنَّهُ جَاءَ وَصْفُهُ - تَعَالَى - بِهِ
مِنْ غَيْرِ مُقَابَلَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى : { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا
يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ } عَلَى أَنَّ الْمَكْرَ رُبَّمَا يَصِحُّ اتِّصَافُهُ -
تَعَالَى - بِهِ إذْ هُوَ - لُغَةً - السِّتْرُ يُقَالُ : مَكَرَ اللَّيْلُ : أَيْ سَتَرَ
بِظُلْمَتِهِ مَا هُوَ فِيهِ ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الِاحْتِيَالِ
وَالْخِدَاعِ وَالْخُبْثِ ؛ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ عَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ
اللُّغَوِيِّينَ بِأَنَّهُ السَّعْيُ بِالْفَسَادِ ، وَبَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ
صَرْفُ الْغَيْرِ عَمَّا يَقْصِدُ بِحِيلَةٍ ، وَهَذَا الْأَخِيرُ : إمَّا
مَحْمُودٌ بِأَنْ يَتَحَيَّلَ فِي أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى خَيْرٍ وَعَلَيْهِ
يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } ، وَإِمَّا مَذْمُومٌ
بِأَنْ يَتَحَيَّلَ بِهِ فِي أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى شَرٍّ وَمِنْهُ { وَلَا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلَّا بِأَهْلِهِ
} .
( الْكَبِيرَةُ الْأَرْبَعُونَ : الْيَأْسُ مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ ) قَالَ تَعَالَى
: { إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلَّا
الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وَقَالَ تَعَالَى : {
قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { إنْ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ ،
كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنْزَلَ
مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ ، فَبِهَا
يَتَعَاطَفُونَ ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الطَّيْرُ وَالْوُحُوشُ
عَلَى أَوْلَادِهَا ، وَأَخَّرَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا
عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
} .
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ .
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : يَا ابْنَ آدَمَ إنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَك
عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك
عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَك ، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتنِي
بِقُرَابَةِ الْأَرْضِ - بِضَمِّ الْقَافِ وَيَجُوزُ كَسْرُهَا أَيْ قَرِيبِ
مِلْئِهَا - خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ
بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً } .
وَعَنْ أَنَسٍ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { أَنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ :
كَيْفَ تَجِدُك ؟ قَالَ : أَرْجُو اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَإِنِّي أَخَافُ
ذُنُوبِي ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَجْتَمِعَانِ فِي
قَلْبِ عَبْدٍ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَأَمَّنَهُ
مِمَّا يَخَافُ } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إنْ شِئْتُمْ
أَنْبَأْتُكُمْ : مَا أَوَّلُ مَا يَقُولُ اللَّهُ -
عَزَّ وَجَلَّ - لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا أَوَّلُ مَا
يَقُولُونَ لَهُ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : إنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ
لِلْمُؤْمِنِينَ هَلْ أَحْبَبْتُمْ لِقَائِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ يَا رَبَّنَا .
فَيَقُولُ : لِمَ ؟ فَيَقُولُونَ رَجَوْنَا عَفْوَك
وَمَغْفِرَتَك ، فَيَقُولُ : قَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ مَغْفِرَتِي } .
وَالشَّيْخَانِ : { قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي } الْحَدِيثَ .
وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : {
حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ : { إنَّ حُسْنَ الظَّنِّ
بِاَللَّهِ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ
} .
وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ { سَمِعَ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ يَقُولُ : لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ
بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - }
.
وَأَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ
؛ { قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إنْ ظَنَّ
خَيْرًا فَلَهُ ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ } .
وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَمَرَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -
بِعَبْدٍ إلَى النَّارِ فَلَمَّا وَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا الْتَفَتَ فَقَالَ :
أَمَا وَاَللَّهِ يَا رَبِّ إنْ كَانَ ظَنِّي بِك لَحَسَنًا ، فَقَالَ اللَّهُ -
عَزَّ وَجَلَّ - رُدُّوهُ ، أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي } .
وَالْبَغَوِيُّ : { إنَّ أَفْضَلَ الْعِبَادَاتِ حُسْنُ
الظَّنِّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ
- ، يَقُولُ
اللَّهُ لِعِبَادِهِ أَنَا عِنْدَ ظَنِّك بِي } .
تَنْبِيهٌ
: عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ
وَهُوَ ظَاهِرٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي عَلِمْته مِمَّا
ذُكِرَ ، بَلْ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَرَّ آنِفًا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ
، بَلْ جَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ .
الْكَبِيرَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالثَّانِيَةُ
وَالْأَرْبَعُونَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَالْقُنُوطُ مِنْ
رَحْمَتِهِ أَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ سُوءُ
الظَّنِّ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ
- } .
وَقَالَ - عَزَّ قَائِلًا : { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ
} .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَيْنِ كَبِيرَتَيْنِ مُغَايِرَتَيْنِ
لِلْيَأْسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ هُوَ مَا وَقَعَ لِلْجَلَالِ الْبُلْقِينِيِّ
وَغَيْرِهِ وَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَنْظُرُوا إلَى مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ مِنْ التَّلَازُمِ
، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : فِي مَعْنَى الْإِيَاسِ الْقُنُوطُ ،
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَبْلَغُ مِنْهُ لِلتَّرَقِّي إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى :
{ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } انْتَهَى ، وَالظَّاهِرُ أَيْضًا
أَنَّ سُوءَ الظَّنِّ أَبْلَغُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ يَأْسٌ ، وَقُنُوطٌ ، وَزِيَادَةٌ
لِتَجْوِيزِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَشْيَاءَ لَا تَلِيقُ بِكَرَمِهِ وُجُودِهِ .
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عَلِيٍّ -
كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - قَالَ : أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ
، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، وَفِي
تَفْسِيرِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ .
فَإِنْ قُلْت : يُنَافِي هَذَا إطْبَاقُ أَئِمَّتِنَا
عَلَى أَنَّ تَحْسِينَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَنْدُوبٌ لِلْمَرِيضِ ،
وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّحِيحِ ، فَقِيلَ الْأَوْلَى لَهُ تَغْلِيبُ خَوْفِهِ عَلَى
رَجَائِهِ .
وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى
الْمُهَذَّبِ : الْأَوْلَى لَهُ اسْتِوَاؤُهُمَا .
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ : إنْ أَمِنَ دَاءَ الْقُنُوطِ
فَالرَّجَاءُ أَوْلَى ، أَوْ أَمِنَ الْمَكْرَ فَالْخَوْفُ أَوْلَى .
قُلْت :
الْكَلَامُ فِي مَقَامَيْنِ : أَحَدُهُمَا : شَخْصٌ
يَجُوزُ وُقُوعُ الرَّحْمَةِ لَهُ وَالْعَذَابُ ، فَهَذَا هُوَ الَّذِي تَعَرَّضَ
لَهُ الْفُقَهَاءُ ، فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا نُدِبَ لَهُ تَغْلِيبُ جَانِبِ الرَّجَاءِ
، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا اخْتَلَفُوا فِيهِ
كَمَا رَأَيْت .
ثَانِيهِمَا :
شَخْصٌ أَيِسَ مِنْ وُقُوعِ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ
الرَّحْمَةِ لَهُ مَعَ إسْلَامِهِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي كَلَامُنَا هُنَا فِيهِ
، فَهَذَا الْيَأْسُ كَبِيرَةٌ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَكْذِيبَ النُّصُوصِ
الْقَطْعِيَّةِ الَّتِي أَشَرْنَا إلَيْهَا ، ثُمَّ هَذَا الْيَأْسُ قَدْ
يَنْضَمُّ إلَيْهِ حَالَةٌ هِيَ أَشَدُّ مِنْهُ ، وَهِيَ التَّصْمِيمُ عَلَى
عَدَمِ وُقُوعِ الرَّحْمَةِ لَهُ ، وَهُوَ الْقُنُوطُ بِحَسَبِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ
سِيَاقُ ( فَهُوَ يَئُوسٌ قُنُوطٌ
) .
وَتَارَةً يَنْضَمُّ إلَيْهِ أَنَّهُ مَعَ عَدَمِ
وُقُوعِ رَحْمَتِهِ لَهُ يُشَدَّدُ عَذَابُهُ كَالْكُفَّارِ ، وَهَذَا هُوَ
الْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ هُنَا ، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ .
الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : تَعَلُّمُ
الْعِلْمِ لِلدُّنْيَا ) أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ فِي
صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ
وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَتَعَلَّمُهُ إلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ
الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَمَرَّ فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ حَدِيثُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ
، وَفِيهِ : { وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ
فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْت فِيهَا ؟
قَالَ : تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيك الْقُرْآنَ قَالَ :
كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّك تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ : عَالِمٌ وَقَرَأْتَ لِيُقَالَ :
قَارِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى
أُلْقِيَ فِي النَّارِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَابْنُ أَبِي
الدُّنْيَا وَالْحَاكِمُ شَاهِدًا وَالْبَيْهَقِيُّ : { مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ
لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ
بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ } .
وَابْنُ مَاجَهْ بِلَفْظِ : { مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ
لِيُمَارِيَ بِهِ أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ
النَّاسِ إلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ
} .
وَبِلَفْظِ : { مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ
بِهِ الْعُلَمَاءَ وَيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ
النَّاسِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ جَهَنَّمَ
} .
وَابْنَ مَاجَهْ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ
بِسَنَدٍ فِيهِ مَنْ احْتَجَّ بِهِ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا وَلَا الْتِفَاتَ
لِمَنْ شَذَّ فِيهِ : { لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ
وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ وَلَا تَحْبُرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ فَمَنْ فَعَلَ
ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ } .
وَصَحَّ بِسَنَدٍ فِيهِ انْقِطَاعٌ .
: { مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ أَوْ
أَرَادَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ
} .
وَابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ : { إنَّ
أُنَاسًا مِنْ أُمَّتِي سَيَتَفَقَّهُونَ فِي الدِّينِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ
وَيَقُولُونَ : نَأْتِي الْأُمَرَاءَ فَنُصِيبُ مِنْ دُنْيَاهُمْ
وَنَعْتَزِلُهُمْ بِدِينِنَا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا كَمَا لَا يُجْتَنَى
مِنْ الْقَتَادِ إلَّا الشَّوْكُ } كَذَلِكَ لَا يُجْتَنَى مِنْ قُرْبِهِمْ لَا كَمَا
قَالَ ابْنُ الصَّبَّاحِ كَأَنَّهُ يَعْنِي الْخَطَايَا .
وَأَبُو دَاوُد : { مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلَامِ
لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوْ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ مِنْهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَيُشْبِهُ أَنْ
يَكُونَ فِيهِ انْقِطَاعٌ .
وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَوْقُوفًا :
{ كَيْفَ بِكُمْ إذَا أَتَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو فِيهَا الصَّغِيرُ وَيَهْرَمُ
فِيهَا الْكَبِيرُ وَتُتَّخَذُ سُنَّةٌ فَإِنْ غُيِّرَتْ يَوْمًا قِيلَ هَذَا مُنْكَرٌ .
قَالُوا وَمَتَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : إذَا قَلَّتْ أُمَنَاؤُكُمْ
، وَكَثُرَتْ أُمَرَاؤُكُمْ ، وَقَلَّتْ فُقَهَاؤُكُمْ ، وَكَثُرَتْ قُرَّاؤُكُمْ
، وَتُفُقِّهَ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَالْتُمِسَتْ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ } .
وَرُوِيَ مَوْقُوفًا أَيْضًا : أَنَّ عَلِيًّا ذَكَرَ فِتَنًا
تَكُونُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَتَى ذَلِكَ يَا عَلِيُّ
؟ قَالَ : { إذَا تُفُقِّهَ لِغَيْرِ الدِّينِ ، وَتُعُلِّمَ الْعِلْمُ لِغَيْرِ
الْعَمَلِ وَالْتُمِسَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً غَيْرَ الرِّيَاءِ
السَّابِقِ هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ
وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى مَا فِي هَذَا مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الْخَاصِّ
فَأَفْرَدُوهُ لِذَلِكَ ، وَلَمْ يَنْظُرُوا إلَى أَنَّ تِلْكَ تَشْمَلُ هَذِهِ
وَغَيْرَهَا فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ .
( الْكَبِيرَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : كَتْمُ
الْعِلْمِ ) قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ
الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ
أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ : نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى ، وَقِيلَ فِي الْيَهُودِ لِكَتْمِهِمْ صِفَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ ، وَقِيلَ : إنَّهَا
عَامَّةٌ ، وَهُوَ الصَّوَابُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا
بِخُصُوصِ السَّبَبِ ، وَلِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ
الْمُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بِالْعِلِّيَّةِ ، وَكِتْمَانُ الدِّينِ يُنَاسِبُ
اسْتِحْقَاقَ اللَّعْنِ ؛ فَوَجَبَ عُمُومُ الْحُكْمِ عِنْدَ عُمُومِ الْوَصْفِ ،
وَقَدْ صَرَّحَ جَمْعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِالْعُمُومِ كَعَائِشَةَ فَإِنَّهَا اسْتَدَلَّتْ
بِالْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُمْ
شَيْئًا مِمَّا أُوحِيَ إلَيْهِ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُ احْتَجَّ
بِأَنَّهُ لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ وَنَحْوُهَا مَا كَثُرَ الْحَدِيثُ ،
وَالْكَتْمُ تَرْكُ إظْهَارِ الشَّيْءِ الْمُحْتَاجِ إلَى إظْهَارِهِ ، وَنَظِيرُهَا
{ إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ
بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إلَّا النَّارَ
وَلَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى
وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } وَنَظِيرُهَا
أَيْضًا : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ
لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ
ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } فَهَاتَانِ ، وَإِنْ كَانَتَا فِي
الْيَهُودِ أَيْضًا لِكَتْمِهِمْ صِفَتَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَغَيْرَهَا إلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَقَرَّرَ :
وَالْبَيِّنَاتِ : مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ
الْكُتُبِ وَالْوَحْيِ .
وَالْهُدَى :
الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ ، وَمِنْ
بَعْدِ : ظَرْفٌ لَيَكْتُمُونَ ، لَا لَأَنْزَلْنَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى .
قِيلَ
: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ
بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا
إلَيْهَا ثُمَّ تَرَكَهَا أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ الْحَاجَةِ
إلَيْهِ فَقَدْ لَحِقَهُ هَذَا الْوَعِيدُ انْتَهَى ؛ وَاللَّعْنَةُ لُغَةً
الْإِبْعَادُ ، وَشَرْعًا الْإِبْعَادُ مِنْ الرَّحْمَةِ ، اللَّاعِنُونَ :
دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا تَقُولُ : مُنِعْنَا الْقَطْرَ لِمَعَاصِي بَنِي
آدَمَ ، وَلِإِدْرَاكِهَا ذَلِكَ جُمِعَتْ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ جَمْعَ مَنْ
يَعْقِلُ نَحْوُ { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } { فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } {
أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْجِنَّ ، وَالْإِنْسَ الْمُؤْمِنِينَ
كُلَّهُمْ ، الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ ، أَقْوَالٌ .
وَصَوَّبَ الزَّجَّاجُ أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ
وَالْمُؤْمِنُونَ .
وَرُدَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَصٍّ
وَلَمْ يُوجَدْ ، وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ خَبَرٌ فِي ابْنِ
مَاجَهْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ اللَّاعِنُونَ
بِدَوَابِّ الْأَرْضِ ، وَقَالَ الْحَسَنُ : هُمْ جَمِيعُ عِبَادِ اللَّهِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى
أَنَّ هَذَا الْكِتْمَانَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ
فِيهِ اللَّعْنَ ، وَالنَّبْذَ وَرَاءَ الظَّهْرِ كِنَايَةً عَنْ الْإِعْرَاضِ
الشَّدِيدِ ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنْ سَفَلَتِهِمْ
بِرِئَاسَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ ، { فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } مَعْنَاهُ قَبُحَ
شِرَاؤُهُمْ وَخَسِرُوا فِيهِ .
وَجَاءَ فِي الْكَتْمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي
السُّنَّةِ .
أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
وَابْنَا مَاجَهْ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ
بِنَحْوِهِ ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ
فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ : { مَا مِنْ
رَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَيَكْتُمُهُ إلَّا أُتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا
بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } .
وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ : { مَنْ سُئِلَ عَنْ
عِلْمٍ فَكَتَمَهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ ،
وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ شَطْرُهُ الْأَوَّلُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ ؛ وَخَبَرُ { مَنْ
كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ } ،
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَجَابِرٍ
وَأَنَسٍ وَابْنَيْ عُمَرَ وَمَسْعُودٍ وَعَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ وَعَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ
وَغَيْرِهِمْ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ بِزِيَادَةِ { مِمَّا يَنْفَعُ
اللَّهُ بِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ فِي الدِّينِ } .
وَابْنُ مَاجَهْ وَفِيهِ انْقِطَاعٌ : { إذَا لَعَنَ
آخِرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَمَنْ كَتَمَ حَدِيثًا فَقَدْ كَتَمَ مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ابْنُ أَبِي
لَهِيعَةَ ، { مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ الْعِلْمَ ثُمَّ لَا يُحَدِّثُ بِهِ
كَمَثَلِ الَّذِي يَكْنِزُ الْكَنْزَ ثُمَّ لَا يُنْفِقُ مِنْهُ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ إلَّا
وَاحِدًا اُخْتُلِفَ فِيهِ : { نَاصِحُوا فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ خِيَانَةَ
أَحَدِكُمْ فِي عِلْمِهِ أَشَدُّ مِنْ خِيَانَتِهِ فِي مَالِهِ ، وَإِنَّ اللَّهَ
- عَزَّ وَجَلَّ - مُسَائِلُكُمْ
} .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ
مَعْرُوفٍ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى ،
عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { خَطَبَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خُطْبَةً فَأَثْنَى عَلَى
طَوَائِفَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ لَا
يُفَقِّهُونَ جِيرَانَهُمْ وَلَا يُعَلِّمُونَهُمْ وَلَا
يَأْمُرُونَهُمْ وَلَا يَنْهَوْنَهُمْ ، وَمَا بَالُ
أَقْوَامٍ لَا يَتَعَلَّمُونَ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَلَا يَتَفَقَّهُونَ وَلَا
يَتَّعِظُونَ ، وَاَللَّهِ لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ ،
وَيُفَقِّهُونَهُمْ ، وَيَعِظُونَهُمْ ، وَيَأْمُرُونَهُمْ ، وَلَيَتَعَلَّمَنَّ
قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ وَيَتَفَقَّهُونَ وَيَتَّعِظُونَ أَوْ
لَأُعَاجِلَنَّهُمْ الْعُقُوبَةَ ثُمَّ نَزَلَ } ، فَقَالَ قَوْمٌ : { مَنْ
تَرَوْنَ عَنَى بِهَؤُلَاءِ ؟ قَالُوا : الْأَشْعَرِيِّينَ هُمْ قَوْمٌ فُقَهَاءُ
وَلَهُمْ جِيرَانٌ جُفَاةٌ مِنْ أَهْلِ الْمِيَاهِ وَالْأَعْرَابِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ
الْأَشْعَرِيِّينَ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَكَرْتَ بِخَيْرٍ وَذَكَرْتَنَا بِشَرٍّ فَمَا
بَالُنَا ؟ فَقَالَ : لَيُعَلِّمَنَّ قَوْمٌ جِيرَانَهُمْ وَلِيُفَقِّهْنَهُمْ
وَلَيَعِظُنَّهُمْ ، وَلِيَأْمُرْنَهُمْ وَلِيَنْهَوْهُمْ وَلَيَتَعَلَّمُنَّ
قَوْمٌ مِنْ جِيرَانِهِمْ ، وَيَتَفَقَّهُونَ ، وَيَتَّعِظُونَ أَوْ
لَأُعَاجِلَنَّهُمْ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا ، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَنَعِظُ غَيْرَنَا ؟ فَأَعَادَ قَوْلَهُ عَلَيْهِمْ ، وَأَعَادُوا قَوْلَهُمْ :
أَنَعِظُ غَيْرَنَا ؟ فَقَالَ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَالُوا : أَمْهِلْنَا سَنَةً فَأَمْهَلَهُمْ
سَنَةً لِيُفَقِّهُوهُمْ وَيُعَلِّمُوهُمْ وَيَعِظُوهُمْ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُد وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } الْآيَةَ } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذِهِ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ
بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ ، وَكَأَنَّهُمْ نَظَرُوا إلَى مَا
ذَكَرْته مِنْ هَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِيهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى
إطْلَاقِهِ فَإِنَّ الْكَتْمَ قَدْ يَجِبُ وَالْإِظْهَارَ قَدْ يَجِبُ وَقَدْ
يُنْدَبُ ، فَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ عَقْلُ الطَّالِبِ ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ
مِنْ إعْلَامِهِ بِهِ فِتْنَةٌ يَجِبُ الْكَتْمُ عَنْهُ ، وَفِي غَيْرِهِ إنْ
وَقَعَ - وَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ فِي حُكْمِهِ - وَجَبَ الْإِعْلَامُ ،
وَإِلَّا نُدِبَ مَا لَمْ
يَكُنْ وَسِيلَةً لِمَحْظُورٍ .
وَالْحَاصِلُ : أَنَّ التَّعْلِيمَ وَسِيلَةٌ إلَى
الْعِلْمِ فَيَجِبُ فِي الْوَاجِبِ عَيْنًا فِي الْعَيْنِ وَكِفَايَةً فِيمَا هُوَ
عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَيُنْدَبُ فِي الْمَنْدُوبِ كَالْعَرُوضِ وَيَحْرُمُ فِي
الْحَرَامِ كَالسِّحْرِ وَالشَّعْبَذَةِ .
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ
الْكَافِرِ قُرْآنًا وَلَا عِلْمًا حَتَّى يُسْلِمَ ، وَلَا تَعْلِيمُ
الْمُبْتَدِعِ الْجَدَلَ وَالْحِجَاجَ لِيُحَاجَّ بِهِ أَهْلَ الْحَقِّ ، وَلَا
تَعْلِيمُ الْخَصْمِ عَلَى خَصْمِهِ حُجَّةً يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَهُ ، وَلَا
السُّلْطَانِ تَأْوِيلًا يَتَطَرَّقُ بِهِ إلَى إضْرَارِ الرَّعِيَّةِ ، وَلَا
نَشْرُ الرُّخَصِ فِي السُّفَهَاءِ يَتَّخِذُونَهَا طَرِيقًا لِارْتِكَابِ
الْمَحْظُورَاتِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَمْنَعُوا
الْحِكْمَةَ أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ وَلَا تَضَعُوهَا فِي غَيْرِ أَهْلِهَا
فَتَظْلِمُوهَا } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا
تُعَلِّقُوا الدُّرَّ فِي أَعْنَاقِ الْخَنَازِيرِ } يُرِيدُ تَعْلِيمَ الْفِقْهِ مَنْ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ انْتَهَى
.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى الْكَافِرِ
بَعِيدٌ مِنْ قَوَاعِدِنَا لِأَنَّ الْمَرْجُوَّ إسْلَامُهُ ؛ يَجُوزُ تَعْلِيمُهُ
الْقُرْآنَ عِنْدَنَا فَأَوْلَى الْعِلْمُ ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ
ذَكَرَهُمَا وَارِدَانِ ، وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُ : { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ
عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَوَاضِعُ الْعِلْمِ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ كَمُقَلِّدِ
الْخَنَازِيرِ الْجَوْهَرَ وَاللُّؤْلُؤَ وَالذَّهَبَ } .
( الْكَبِيرَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : عَدَمُ الْعَمَلِ
بِالْعِلْمِ ) أَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ : { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ عِلْمٍ لَا
يَنْفَعُ ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ، وَمِنْ
دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا
} .
وَالشَّيْخَانِ : { يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فَيَدُورُ بِهَا
كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ
فَيَقُولُونَ : يَا فُلَانُ مَا شَأْنُك ؟ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا
بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ ؟ فَيَقُولُ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ
وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الشَّرِّ وَآتِيهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَقَالَ غَرِيبٌ : {
الزَّبَانِيَةُ أَسْرَعُ إلَى فَسَقَةِ الْقُرَّاءِ مِنْهُمْ إلَى عَبَدَةِ
الْأَوْثَانِ فَيَقُولُونَ يُبْدَأُ بِنَا قَبْلَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ؟
فَيُقَالُ لَهُمْ لَيْسَ مَنْ يَعْلَمُ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ } .
قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ : وَلِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ غَرَابَتِهِ
شَاهِدٌ صَحِيحٌ وَهُوَ مَا فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ :
{ أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ جَمَعَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ
لَهُ قَارِئٌ } وَفِي آخِرِهِ : { أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ نَفَرٍ أَوَّلُ
خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمْ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ إسْنَادُهُ لَيْسَ
بِالْقَوِيِّ : { مَا آمَنَ بِالْقُرْآنِ مَنْ اسْتَحَلَّ مَحَارِمَهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ صَحِيحٌ : { لَا
تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ
أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ
اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ } .
وَالتِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ فِي الْمُتَابَعَاتِ :
{ لَا تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ
خَمْسٍ : عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ،
وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ
أَنْفَقَهُ ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ : { إنَّ أُنَاسًا
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَنْطَلِقُونَ إلَى أُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ
فَيَقُولُونَ بِمَ دَخَلْتُمْ النَّارَ فَوَاَللَّهِ مَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ
إلَّا بِمَا تَعَلَّمْنَا مِنْكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ إنَّا كُنَّا نَقُولُ وَلَا
نَفْعَلُ } وَابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ مُرْسَلًا بِإِسْنَادٍ
جَيِّدٍ عَنْ الْحَسَنِ : { مَا مِنْ عَبْدٍ يَخْطُبُ خُطْبَةً إلَّا اللَّهُ - عَزَّ
وَجَلَّ - سَائِلُهُ عَنْهَا - أَظُنُّهُ قَالَ مَا أَرَادَ بِهَا } .
قَالَ جَعْفَرٌ : كَانَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ إذَا
حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى حَتَّى يَنْقَطِعَ ثُمَّ يَقُولُ : تَحْسِبُونَ
أَنَّ عَيْنِي تَقَرُّ بِكَلَامِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ -
عَزَّ وَجَلَّ - سَائِلِي عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا أَرَدْتُ بِهِ .
وَالْبَزَّارُ وَهُوَ غَرِيبٌ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ
اغْفِرْ ، سَلْ عَنْ الْخَيْرِ وَلَا تَسَلْ عَنْ الشَّرِّ ، شِرَارُ النَّاسِ
شِرَارُ الْعُلَمَاءِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ : { مَثَلُ الَّذِي يُعَلِّمُ
النَّاسَ الْخَيْرَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَمَثَلِ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ
وَيُحْرِقُ نَفْسَهُ } الْحَدِيثَ ، وَفِي رِوَايَةٍ فِي سَنَدِهَا مَنْ تَكَلَّمَ
فِيهِ ابْنُ حِبَّانَ : { كُلُّ عِلْمٍ وَبَالٌ عَلَى صَاحِبِهِ إلَّا مَنْ عَمِلَ
بِهِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ : { أَشَدُّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِمٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ } .
وَالْبَزَّارُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ
يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حَيٍّ مِنْ قَيْسٍ أُعَلِّمُهُمْ شَرَائِعَ
الْإِسْلَامِ ، قَالَ : فَإِذَا هُمْ قَوْمٌ كَأَنَّهُمْ الْإِبِلُ الْوَحْشِيَّةُ
طَامِحَةٌ أَبْصَارُهُمْ لَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ إلَّا شَاةٌ أَوْ بَعِيرٌ ، فَانْصَرَفْتُ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا عَمَّارُ
مَا عَمِلْتَ ؟ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ قِصَّةَ الْقَوْمِ وَأَخْبَرْتُهُ
بِمَا فِيهِمْ مِنْ السَّهْوَةِ فَقَالَ : يَا عَمَّارُ
أَلَا أُخْبِرُك بِأَعْجَبَ مِنْهُمْ ؟ قَوْمٌ عَلِمُوا بِمَا جَهِلَ أُولَئِكَ
ثُمَّ سَهَوْا كَسَهْوِهِمْ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ الْأَعْوَرُ ،
وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ
: { إنِّي لَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِنًا
وَلَا مُشْرِكًا ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَحْجِزُهُ إيمَانُهُ وَأَمَّا
الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ كُفْرُهُ ، وَلَكِنْ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ مُنَافِقًا عَلِيمَ
اللِّسَانِ ، يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ ، وَيَعْمَلُ مَا تُنْكِرُونَ } وَصَحَّ : {
إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ } .
وَصَحَّ عَنْ ابْنٍ مَسْعُودٍ مِنْ قَوْلِهِ : { إنِّي
لَأَحْسِبُ الرَّجُلَ يَنْسَى الْعِلْمَ كَمَا تَعَلَّمَهُ لِلْخَطِيئَةِ
يَعْمَلُهَا } .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مَنْصُورِ
بْنِ زَاذَانَ قَالَ : { نُبِّئْت أَنَّ بَعْضَ مَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ
يَتَأَذَّى أَهْلُ النَّارِ بِرِيحِهِ فَيُقَالُ لَهُ وَيْلَكَ مَا كُنْتَ
تَعْمَلُ مَا يَكْفِينَا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الشَّرِّ حَتَّى اُبْتُلِينَا بِك
وَبِنَتْنِ رِيحِك ؟ فَيَقُولُ كُنْتُ عَالِمًا فَلَمْ أَنْتَفِعْ بِعِلْمِي } .
تَنْبِيهٌ : عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ .
فَإِنْ قُلْت : التَّغْلِيظُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ حَيْثُ
إنَّهُ تَرَكَ الْوَاجِبَاتِ أَوْ فَعَلَ الْمُحَرَّمَاتِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ
عَدَمِ الْعَمَلِ بِالْعِلْمِ ، وَلَوْ فِي الْمَنْدُوبَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ ، وَحِينَئِذٍ
فَلَوْ سُلِّمَ تَصْرِيحُهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ كَبِيرَةٌ لَمْ يَحْسُنْ عَدُّهُ
كَبِيرَةً مُغَايِرَةً لِنَحْوِ تَرْكِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا
مِمَّا يَأْتِي .
قُلْتُ : يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ عَدُّهُ ، وَإِنْ لَمْ
أَرَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ بِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ مَعَ الْعِلْمِ أَفْحَشُ مِنْهَا
مَعَ الْجَهْلِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَيْضًا تِلْكَ الْأَحَادِيثُ ، وَنَظِيرُ
ذَلِكَ مَا يَأْتِي فِي الْمَعْصِيَةِ بِحَرَمِ مَكَّةَ وَنَحْوِهِ مِنْ أَنَّ شَرَفَهُ
اقْتَضَى فُحْشَ الْمَعْصِيَةِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً ، فَكَذَلِكَ
الْعَالِمُ إذَا
أَفْحَشَ فِي فِعْلِ الصَّغَائِرِ فَلَا بُعْدَ أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ مِنْهُ كَبِيرَةً بِوَاسِطَةِ مَا أُوتِيَهُ مِنْ تِلْكَ
الْمَعَارِفِ الْمُقْتَضِيَةِ لِانْزِجَارِهِ عَنْ الْمَكْرُوهَاتِ فَضْلًا عَنْ
الْمُحَرَّمَاتِ .
الْكَبِيرَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ :
الدَّعْوَى فِي الْعِلْمِ أَوْ الْقُرْآنِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ زَهْوًا
وَافْتِخَارًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا ضَرُورَةٍ ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي
الْأَوْسَطِ وَالْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ عُمَرَ وَأَبُو
يَعْلَى ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { يَظْهَرُ الْإِسْلَامُ حَتَّى
تَخْتَلِفَ التُّجَّارُ فِي الْبَحْرِ وَحَتَّى تَخُوضَ الْخَيْلُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ، ثُمَّ يَظْهَرُ قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ يَقُولُونَ مَنْ أَقْرَأُ
مِنَّا ؟ مَنْ أَعْلَمُ مِنَّا ؟ مَنْ أَفْقَهُ مِنَّا ؟ ، ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ
هَلْ فِي أُولَئِكَ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ
: أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ قَالَ الْحَافِظُ
الْمُنْذِرِيُّ ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ - إنْ شَاءَ اللَّهُ - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا : { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ
بِمَكَّةَ مِنْ اللَّيْلِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ
فَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَكَانَ أَوَّاهًا .
فَقَالَ : اللَّهُمَّ نَعَمْ وَحَرَّضْتَ وَجَهَدْتَ
وَنَصَحْتَ .
فَقَالَ :
لَيَظْهَرَنَّ الْإِيمَانُ حَتَّى يَرُدَّ الْكُفْرَ
إلَى مَوَاطِنِهِ ، وَلَتُخَاضُ الْبِحَارُ بِالْإِسْلَامِ ، وَلَيَأْتِيَنَّ
عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَعَلَّمُونَ فِيهِ الْقُرْآنَ ؛ يَتَعَلَّمُونَهُ وَيَقْرَءُونَهُ
ثُمَّ يَقُولُونَ : قَدْ قَرَأْنَا وَعَلِمْنَا فَمَنْ ذَا الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
مِنَّا ؟ ، فَهَلْ فِي أُولَئِكَ مِنْ خَيْرٍ ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَمَنْ أُولَئِكَ ؟ قَالَ أُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ
جَاهِلٌ } .
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً بِالْقُيُودِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا
فِيهِ هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ قِيَاسِ
كَلَامِهِمْ لِأَنَّهُمْ إذَا عَدُّوا إسْبَالَ نَحْوِ الْإِزَارِ خُيَلَاءَ
كَبِيرَةً ،
فَأَوْلَى أَنْ يَعُدُّوا هَذَا لِأَنَّهُ أَقْبَحُ
وَأَفْحَشُ ، وَقِيَاسُ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ كَاَلَّذِي ذَكَرْتُهُ ظَاهِرٌ
أَيْضًا ، وَقَوْلِي : بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا ضَرُورَةٍ احْتَرَزْتُ بِهِ عَمَّا
لَوْ دَخَلَ بَلَدًا لَا يَعْرِفُونَ عِلْمَهُ وَطَاعَتَهُ ، فَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ
ذَلِكَ لَهُمْ قَصْدًا لَأَنْ يُقْبِلُوا عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُوا بِهِ وَمِنْهُ
نَحْوُ قَوْلِ يُوسُفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نَبِيِّنَا
وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ
إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } وَكَذَا لَوْ أَنْكَرَ عِلْمَهُ مُعَانِدٌ أَوْ جَاهِلٌ ،
فَلَهُ أَنْ يَذْكُرَ عِلْمَهُ وَيَسْتَدِلَّ عَلَيْهِ إرْغَامًا لِأَنْفِ ذَلِكَ
الْجَاهِلِ الْعَنِيدِ حَتَّى يُقْبِلَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَيَنْتَفِعُوا
بِعُلُومِهِ .
الْكَبِيرَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : إضَاعَةُ
نَحْوِ الْعُلَمَاءِ وَالِاسْتِخْفَافُ بِهِمْ ) أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ
حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { ثَلَاثَةٌ لَا
يَسْتَخِفُّ بِهِمْ إلَّا مُنَافِقٌ : ذُو الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَذُو
الْعِلْمِ ، وَإِمَامٌ مُقْسِطٌ
} .
وَأَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ : { لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي
مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا } .
وَالتِّرْمِذِيُّ : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ
صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا } .
وَالطَّبَرَانِيُّ : { تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا
لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَعَلَّمُونَ مِنْهُ } .
وَأَحْمَدُ بِسَنَدٍ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ : {
اللَّهُمَّ لَا يُدْرِكْنِي زَمَانٌ أَوْ لَا تُدْرِكُوا زَمَانًا لَا يُتْبَعُ
فِيهِ الْعَلِيمُ وَلَا يُسْتَحْيَا فِيهِ مِنْ الْحَلِيمِ ، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الْأَعَاجِمِ
، وَأَلْسِنَتُهُمْ أَلْسِنَةُ الْعَرَبِ } .
وَصَحَّ : { الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ } .
وَصَحَّ أَيْضًا : { لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ
الْكَبِيرَ وَيَرْحَمْ الصَّغِيرَ وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنْ
الْمُنْكَرِ } .
وَصَحَّ أَيْضًا .
{ لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا
وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا }
.
تَنْبِيهٌ :
عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً هُوَ ظَاهِرُ مَا فِي الْحَدِيثِ
الْأَوَّلِ وَمَا بَعْدَهُ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ قِيَاسًا ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهُ
، لِأَنَّهُمْ إذَا فَرَّقُوا بَيْنَ نَحْوِ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ فِي الْغِيبَةِ
عَلَى مَا يَأْتِي فَكَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فِي نَحْوِ الِاسْتِخْفَافِ ،
وَسَيَأْتِي قَرِيبًا فِي أَذِيَّةِ الْأَوْلِيَاءِ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي هَذَا ،
إذْ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ هُمْ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ .
خَاتِمَةٌ : فِي سَرْدِ أَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ أَوْ
حَسَنَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْعِلْمِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ .
إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ
خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي الدِّينِ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ .
أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ الْفِقْهُ ، وَأَفْضَلُ الدِّينِ
الْوَرَعُ } .
وَفِي حَدِيثٍ سَنَدُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْجُمْهُورُ
عَلَى قَبُولِهِ : .
{ فَضْلُ الْعِلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَضْلِ الْعِبَادَةِ ،
وَخَيْرُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا
سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ
أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ ، وَإِنَّ الْعَالِمَ
لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ حَتَّى
الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ .
وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ
الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ
الْأَنْبِيَاءِ ، إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا
، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ أَوْفَرَ }
وَوَقَعَ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ .
قَالَ صَفْوَانُ بْنُ عَسَّالٍ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ
جِئْت أَطْلُبُ الْعِلْمَ قَالَ : مَرْحَبًا بِطَالِبِ الْعِلْمِ ، إنَّ طَالِبَ
الْعِلْمِ لَتَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ مَحَبَّتِهِمْ لِمَا
يَطْلُبُ .
يَا أَبَا ذَرٍّ لَأَنْ تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ آيَةً مِنْ
كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ مِائَةَ رَكْعَةٍ ، وَلَأَنْ
تَغْدُوَ فَتَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ عُمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ
خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تُصَلِّيَ أَلْفَ رَكْعَةٍ .
الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا
ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا .
إنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ
وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ عِلْمًا نَشْرَهُ أَوْ وَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ
أَوْ مُصْحَفًا وَرَّثَهُ أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ
بَنَاهُ أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ
وَحَيَاتِهِ وَتَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ .
خَيْرُ مَا يَخْلُفُ الرَّجُلُ مِنْ بَعْدِهِ ثَلَاثٌ :
وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ
، وَصَدَقَةٌ
تَجْرِي يَبْلُغُهُ أَجْرُهَا ، وَعِلْمٌ يَعْمَلُ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ .
عُلَمَاءُ هَذِهِ الْأُمَّةِ رَجُلَانِ : رَجُلٌ آتَاهُ
اللَّهُ عِلْمًا فَبَذَلَهُ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَأْخُذْ عَلَيْهِ طَمَعًا وَلَمْ
يَشْتَرِ بِهِ ثَمَنًا فَذَلِكَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حِيتَانُ الْبَحْرِ وَدَوَابُّ
الْبَرِّ وَالطَّيْرُ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ، وَرَجُلٌ آتَاهُ عِلْمًا فَبَخِلَ
بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ طَمَعًا وَاشْتَرَى بِهِ ثَمَنًا فَذَلِكَ
يُلْجَمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ وَيُنَادِي مُنَادٍ : هَذَا
الَّذِي آتَاهُ عِلْمًا فَبَخِلَ بِهِ عَنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَخَذَ عَلَيْهِ
طَمَعًا وَاشْتَرَى بِهِ ثَمَنًا وَكَذَلِكَ حَتَّى يَفْرُغَ الْحِسَابُ .
فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى
أَدْنَاكُمْ .
إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ
وَأَهْلَ الْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ فِي
الْمَاءِ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ .
يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
إنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِلْمِي فِيكُمْ إلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ
أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ فِيكُمْ وَلَا أُبَالِي } .
وَإِضَافَةُ الْعِلْمِ وَالْحِلْمِ اللَّذَيْنِ فِيهِمْ
إلَيْهِ - تَعَالَى - صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا عَامِلِينَ مُخْلِصِينَ .
{ الْعِلْمُ عِلْمَانِ : عِلْمٌ فِي الْقَلْبِ فَذَلِكَ
الْعِلْمُ النَّافِعُ ، وَعِلْمٌ فِي اللِّسَانِ فَذَلِكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى
ابْنِ آدَمَ .
مَنْ غَدَا إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إلَّا أَنْ
يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يُعَلِّمَهُ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حَجُّهُ .
مَنْ خَرَجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ حَتَّى يَرْجِعَ .
مَنْ غَدَا يُرِيدُ الْعِلْمَ يَتَعَلَّمُهُ لِلَّهِ
فَتَحَ اللَّهُ لَهُ بَابًا إلَى الْجَنَّةِ وَفَرَشَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ
أَكْتَافَهَا وَصَلَّتْ عَلَيْهِ مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ وَحِيتَانُ الْبَحْرِ .
وَلِلْعَالِمِ مِنْ الْفَضْلِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ
الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى أَصْغَرِ كَوْكَبٍ فِي السَّمَاءِ .
وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق